الفتاوى الكبرى لابن تيمية

ابن تيمية

كتاب السنة والبدعة

[كِتَابُ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ]

مَسْأَلَةٌ: هَلْ الْقِيَامُ لِلْمُصْحَفِ وَتَقْبِيلُهُ، وَجَعْلُهُ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَوَقِيدُ قِنْدِيلٍ فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِ، مَكْرُوهٌ؟ وَهَلْ يُكْرَهُ أَيْضًا أَنْ يُفْتَحَ فِيهِ الْفَالُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْقِيَامُ لِلْمُصْحَفِ وَتَقْبِيلُهُ لَا نَعْلَمُ فِيهِ شَيْئًا مَأْثُورًا عَنْ السَّلَفِ وَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ تَقْبِيلِ الْمُصْحَفِ، فَقَالَ: مَا سَمِعْت فِيهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ أَنَّهُ كَانَ يَفْتَحُ الْمُصْحَفَ، وَيَضَعُ وَجْهَهُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ كَلَامُ رَبِّي كَلَامُ رَبِّي، وَلَكِنَّ السَّلَفَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِمْ الْقِيَامُ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِمْ قِيَامُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، اللَّهُمَّ إلَّا لِمِثْلِ الْقَادِمِ مِنْ غَيْبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ أَنَسٌ: لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانُوا إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ، وَالْأَفْضَلُ لِلنَّاسِ أَنْ يَتَّبِعُوا طَرِيقَ السَّلَفِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا يَقُومُونَ إلَّا حَيْثُ كَانُوا يَقُومُونَ. فَأَمَّا إذَا اعْتَادَ النَّاسُ قِيَامَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَقَدْ يُقَالُ: لَوْ تَرَكُوا الْقِيَامَ لِلْمُصْحَفِ مَعَ هَذِهِ الْعَادَةِ لَمْ يَكُونُوا مُحْسِنِينَ فِي ذَلِكَ وَلَا مَحْمُودِينَ، بَلْ هُمْ إلَى الذَّمِّ أَقْرَبُ، حَيْثُ يَقُومُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَلَا يَقُومُونَ لِلْمُصْحَفِ الَّذِي هُوَ أَحَقُّ بِالْقِيَامِ، حَيْثُ يَجِبُ مِنْ احْتِرَامِهِ وَتَعْظِيمِهِ مَا لَا يَجِبُ لِغَيْرِهِ، حَتَّى يُنْهَى أَنْ يَمَسَّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ، وَالنَّاسُ يَمَسُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مَعَ الْحَدَثِ، لَا سِيَّمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللَّهِ وَشَعَائِرِهِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ مَنْ ذَكَرَ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْكِبَارِ قِيَامَ النَّاسِ لِلْمُصْحَفِ ذِكْرَ مُقَرِّرٍ لَهُ، غَيْرِ مُنْكِرٍ لَهُ.

وَأَمَّا جَعْلُ الْمُصْحَفِ عِنْدَ الْقُبُورِ، وَإِيقَادُ الْقَنَادِيلِ هُنَاكَ فَهَذَا مَكْرُوهٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ قَدْ جُعِلَ لِلْقِرَاءَةِ فِيهِ هُنَالِكَ، فَكَيْفَ إذَا لَمْ يُقْرَأْ فِيهِ؟ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» . فَإِيقَادُ السُّرُجِ مِنْ قِنْدِيلٍ وَغَيْرِهِ عَلَى الْقُبُورِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ الْفِعْلَيْنِ الَّذِي لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يَفْعَلُهُمَا كَمَا قَالَ: «لَا يَخْرُجُ الرَّجُلَانِ يَضْرِبَانِ الْغَائِطَ كَاشِفَيْنِ عَنْ عَوْرَاتِهِمَا يَتَحَدَّثَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُنْهَى عَنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَحْدَهُ، وَعَنْ التَّحَدُّثِ وَحْدَهُ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 69] . فَتَوَعَّدَ عَلَى مَجْمُوعِ أَفْعَالٍ، وَكُلُّ فِعْلٍ مِنْهَا مُحَرَّمٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَرْتِيبَ الذَّمِّ عَلَى الْمَجْمُوعِ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الذَّمِّ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهَا مُبَاحًا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الذَّمِّ، وَالْحَرَامُ لَا يَتَوَكَّدُ بِانْضِمَامِ الْمُبَاحِ الْمُخَصِّصِ إلَيْهِ وَالْأَئِمَّةُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي الْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ، فَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي

أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَرَخَّصَ فِيهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ هُوَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَأَمَّا جَعْلُ الْمَصَاحِفِ عِنْدَ الْقُبُورِ لِمَنْ يَقْصِدُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ هُنَاكَ وَتِلَاوَتَهُ، فَبِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ، لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ، بَلْ هِيَ تَدْخُلُ فِي مَعْنَى اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ، وَقَدْ اسْتَفَاضَتْ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، وَلَكِنْ كُرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا، وَقَالَ «إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ؛ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي النَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَسَاجِدَ بَيْتُ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَإِذَا اُتُّخِذَ الْقَبْرُ لِبَعْضِ ذَلِكَ كَانَ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعَ كَوْنِهِمْ يَقْرَءُونَ فِيهَا، فَكَيْفَ إذَا جُعِلَتْ الْمَصَاحِفُ بِحَيْثُ لَا يُقْرَأُ فِيهَا وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا لَا حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ، فَإِنَّ هَذَا لَا نِزَاعَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ يَنْتَفِعُ بِمِثْلِ ذَلِكَ لَفَعَلَهُ السَّلَفُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَأَسْرَعَ إلَى فِعْلِ ذَلِكَ وَتَحَرِّيهِ. وَأَمَّا اسْتِفْتَاحُ الْفَالِ فِي الْمُصْحَفِ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ فِيهِ شَيْءٌ، وَقَدْ تَنَازَعَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِيهِ نِزَاعًا ذَكَرَ عَنْ ابْنِ بَطَّةَ أَنَّهُ فَعَلَهُ، وَذَكَرَ عَنْ غَيْرِهِ

أَنَّهُ كَرِهَهُ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ الْفَالَ الَّذِي يُحِبُّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ «كَانَ يُحِبُّ الْفَالَ وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ» ، وَالْفَالُ الَّذِي يُحِبُّهُ هُوَ أَنْ يَفْعَلَ أَمْرًا أَوْ يَعْزِمَ عَلَيْهِ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ، فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ الْحَسَنَةَ الَّتِي تَسُرُّهُ مِثْلُ أَنْ يَسْمَعَ: يَا نَجِيحُ، يَا مُفْلِحُ، يَا سَعِيدُ، يَا مَنْصُورُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، كَمَا «لَقِيَ فِي سَفَرِ الْهِجْرَةِ رَجُلًا فَقَالَ: مَا اسْمُك؟ قَالَ: يَزِيدُ، قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ يَزِيدُ أَمْرُنَا» . وَأَمَّا الطِّيَرَةُ، بِأَنْ يَكُونَ قَدْ فَعَلَ أَمْرًا مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ، أَوْ يَعْزِمَ عَلَيْهِ فَيَسْمَعَ كَلِمَةً مَكْرُوهَةً مِثْلُ: مَا يَتِمُّ، أَوْ مَا يُفْلِحُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَيَتَطَيَّرُ وَيَتْرُكُ الْأَمْرَ، فَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ «مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنَّا قَوْمٌ يَتَطَيَّرُونَ، قَالَ: ذَلِكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَصُدَّنَّكُمْ» . فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَصُدَّ الطِّيَرَةُ الْعَبْدَ عَمَّا أَرَادَ، فَهُوَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِلْفَالِ، وَكَرَاهَتِهِ لِلطِّيَرَةِ، إنَّمَا يَسْلُكُ مَسْلَكَ الِاسْتِخَارَةِ لِلَّهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا شُرِعَ لَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ، لَمْ يَجْعَلْ الْفَالَ آمِرًا لَهُ وَبَاعِثًا لَهُ عَلَى الْفِعْلِ، وَلَا الطِّيَرَةَ نَاهِيَةً لَهُ عَنْ الْفِعْلِ، وَإِنَّمَا يَأْتَمِرُ وَيَنْتَهِي عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ يَسْتَقْسِمُونَ بِالْأَزْلَامِ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الِاسْتِقْسَامَ بِالْأَزْلَامِ فِي آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ، وَكَانُوا إذَا أَرَادُوا أَمْرًا مِنْ الْأُمُورِ أَحَالُوا بِهِ قِدَاحًا مِثْلَ السِّهَامِ أَوْ الْحَصَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ عَلَّمُوا عَلَى هَذَا عَلَامَةَ الْخَيْرِ، وَعَلَى هَذَا عَلَامَةَ الشَّرِّ، وَآخَرُ غُفْلٌ، فَإِذَا خَرَجَ هَذَا فَعَلُوا، وَإِذَا خَرَجَ هَذَا تَرَكُوا، وَإِذَا خَرَجَ الْغُفْلُ أَعَادُوا الِاسْتِقْسَامَ. فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الَّتِي تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِثْلُ الضَّرْبِ بِالْحَصَى وَالشَّعِيرِ، وَاللَّوْحُ وَالْخَشَبُ وَالْوَرَقُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ حُرُوفُ أَبْجَدٍ، أَوْ أَبْيَاتٌ مِنْ الشِّعْرِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُطْلَبُ بِهِ الْخِيَرَةُ، فَمَا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ وَيَتْرُكُهُ يُنْهَى عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ، وَإِنَّمَا يُسَنُّ لَهُ اسْتِخَارَةُ الْخَالِقِ، وَاسْتِشَارَةُ الْمَخْلُوقِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تُبَيِّنُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَمَا يَكْرَهُهُ وَيَنْهَى عَنْهُ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ تَارَةً يُقْصَدُ بِهَا الِاسْتِدْلَال عَلَى مَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ، هَلْ هُوَ خَيْرٌ أَمْ شَرٌّ؟ وَتَارَةً الِاسْتِدْلَال عَلَى مَا يَكُونُ

مسألة فقراء يجتمعون يذكرون ويقرءون شيئا من القرآن

فِيهِ نَفْعٌ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَكُلًّا غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فُقَرَاء يَجْتَمِعُونَ يَذْكُرُونَ وَيَقْرَءُونَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ] 2 - مَسْأَلَةٌ: فِي فُقَرَاءَ يَجْتَمِعُونَ يَذْكُرُونَ وَيَقْرَءُونَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يَدْعُونَ وَيَكْشِفُونَ رُءُوسَهُمْ وَيَتَضَرَّعُونَ، وَلَيْسَ قَصْدُهُمْ بِذَلِكَ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، بَلْ يَفْعَلُونَهُ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ حَسَنٌ مُسْتَحَبٌّ إذْ لَمْ يُتَّخَذْ ذَلِكَ عَادَةً رَاتِبَةً، كَالِاجْتِمَاعَاتِ الْمَشْرُوعَةِ، وَلَا اقْتَرَنَ بِهِ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ. وَأَمَّا كَشْفُ الرَّأْسِ مَعَ ذَلِكَ فَمَكْرُوهٌ، لَا سِيَّمَا إذَا اُتُّخِذَ عَلَى أَنَّهُ عِبَادَةٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ مُنْكَرًا وَلَا يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ جُنْدِيّ قَلَعَ بَيَاضَ لِحْيَتِهِ] 3 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ جُنْدِيٍّ قَلَعَ بَيَاضَ لِحْيَتِهِ، فَهَلْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إثْمٌ؟ وَإِذَا دَعَا الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ عَقِيبَ صَلَاةِ الْفَرْضِ، جَائِزٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَتْفُ الشَّيْبِ مَكْرُوهٌ لِلْجُنْدِيِّ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ نَتْفِ الشَّيْبِ، وَقَالَ: إنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ» . وَأَمَّا دُعَاءُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ جَمِيعًا عَقِيبَ الصَّلَاةِ فَهُوَ بِدْعَةٌ، لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ إنَّمَا كَانَ دُعَاؤُهُ فِي صُلْبِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَإِذَا دَعَا حَالَ مُنَاجَاتِهِ لَهُ كَانَ مُنَاسِبًا، أَمَّا الدُّعَاءُ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ مُنَاجَاتِهِ وَخِطَابِهِ فَغَيْرُ مُنَاسِبٍ، وَإِنَّمَا الْمَسْنُونُ عَقِبَ الصَّلَاةِ هُوَ الذِّكْرُ الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ عَقِبَ الصَّلَاةِ «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت، وَلَا مُعْطِيَ

مسألة جمع القراءات السبعة هل هو سنة أم بدعة

لِمَا مَنَعْت، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ» . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ سَبَّحَ دُبُرَ الصَّلَاةِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ» . أَوْ كَمَا قَالَ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ هُوَ الْمَسْنُونُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ جَمْع الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَمْ بِدْعَةٌ] 4 - مَسْأَلَةٌ: فِي جَمْعِ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ، هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَمْ بِدْعَةٌ؟ وَهَلْ جُمِعَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ لَا؟ وَهَلْ لِجَامِعِهَا مَزِيَّةٌ ثَوَابٍ عَلَى مَنْ قَرَأَ بِرِوَايَةٍ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا نَفْسُ مَعْرِفَةِ الْقِرَاءَةِ وَحِفْظُهَا فَسُنَّةٌ، فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ يَأْخُذُهَا الْآخِرُ عَنْ الْأَوَّلِ، فَمَعْرِفَةُ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ بِهَا، أَوْ يُقِرُّهُمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِهَا، أَوْ يَأْذَنُ لَهُمْ وَقَدْ أَقْرَءُوا بِهَا سُنَّةٌ، وَالْعَارِفُ فِي الْقِرَاءَاتِ الْحَافِظُ لَهَا لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ، وَلَا يَعْرِفُ إلَّا قِرَاءَةً وَاحِدَةً. وَأَمَّا جَمْعُهَا فِي الصَّلَاةِ، أَوْ فِي التِّلَاوَةِ فَهُوَ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، وَأَمَّا جَمْعُهَا لِأَجْلِ

مسألة رجل قال في علي بن أبي طالب إنه ليس من أهل البيت

الْحِفْظِ وَالدَّرْسِ فَهُوَ مِنْ الِاجْتِهَادِ الَّذِي فَعَلَهُ طَوَائِفُ فِي الْقِرَاءَةِ، وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَلَمْ يَكُونُوا يَجْمَعُونَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُل قَالَ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ] 5 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَالَ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ؟ " الْجَوَابُ: أَمَّا كَوْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، فَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ، وَهُوَ أَظْهَرُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ، بَلْ هُوَ أَفْضَلُ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَأَفْضَلُ بَنِي هَاشِمٍ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أَدَارَ كَسَاهُ عَلَى عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَحَسَنٍ وَحُسَيْنٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ الرِّجْسَ عَنْهُمْ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا» . وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَيْهِ مُنْفَرِدًا فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّهُ، هَلْ يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وَجْهِ الِانْفِرَادِ مُنْفَرِدًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى عُمَرَ أَوْ عَلِيٍّ، وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْفَرِدًا، كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " لَا أَعْلَمُ الصَّلَاةَ تَنْبَغِي عَلَى أَحَدٍ إلَّا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "، وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ إلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، لِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ وَأَوْلَى، وَلَكِنَّ إفْرَادَ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْقَرَابَةِ كَعَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ مُضَاهَاةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَيْثُ يُجْعَلُ ذَلِكَ شِعَارًا مَعْرُوفًا بِاسْمِهِ، هَذَا هُوَ الْبِدْعَةُ.

مسألة فيمن يبوس الأرض دائما هل يأثم

[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ يَبُوسُ الْأَرْضَ دَائِمًا هَلْ يَأْثَمُ] مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ يَبُوسُ الْأَرْضَ دَائِمًا هَلْ يَأْثَمُ؟ وَفِيمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِسَبَبِ أَخْذِ رِزْقٍ وَهُوَ مُكْرَهٌ كَذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا تَقْبِيلُ الْأَرْضِ وَوَضْعُ الرَّأْسِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ السُّجُودُ، مِمَّا يُفْعَلُ قُدَّامَ بَعْضِ الشُّيُوخِ وَبَعْضِ الْمُلُوكِ فَلَا يَجُوزُ، بَلْ لَا يَجُوزُ الِانْحِنَاءُ كَالرُّكُوعِ أَيْضًا كَمَا «قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ: لَا» . «وَلَمَّا رَجَعَ مُعَاذٌ مِنْ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا هَذِهِ يَا مُعَاذُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتهمْ فِي الشَّامِ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ فَقَالَ: كَذَبُوا عَلَيْهِمْ، لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ أَجْلِ حَقِّهِ عَلَيْهَا، يَا مُعَاذُ إنَّهُ لَا يَنْبَغِي السُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ» . وَأَمَّا فِعْلُ ذَلِكَ تَدَيُّنًا وَتَقَرُّبًا فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ. وَمَنْ اعْتَقَدَ مِثْلَ هَذَا قُرْبَةً وَدِينًا فَهُوَ ضَالٌّ مُفْتَرٍ، بَلْ يُبَيَّنُ لَهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدِينٍ وَلَا قُرْبَةٍ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ لَأَفْضَى إلَى ضَرْبِهِ أَوْ حَبْسِهِ أَوْ أَخْذِ مَالِهِ أَوْ قَطْعِ رِزْقِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ يُبِيحُ الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكْرَهَهُ بِقَلْبِهِ، وَيَحْرِصَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ الصِّدْقَ أَعَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ يُعَافَى بِبَرَكَةِ صِدْقِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِذَلِكَ. وَذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُبِيحُ إلَّا الْأَقْوَالَ دُونَ الْأَفْعَالِ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ، قَالُوا: إنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ، وَأَمَّا فِعْلُ ذَلِكَ لِأَجْلِ فَضْلِ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ فَلَا، وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ وَنَوَى بِقَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الْخُضُوعَ لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ حَسَنًا مِثْلُ أَنْ يُكْرِهَهُ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَيَنْوِيَ مَعْنًى جَائِزًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة فيمن يعتقد أن الكواكب لها تأثير في الوجود

[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الْوُجُودِ] مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الْوُجُودِ أَوْ يَقُولُ إنَّ لَهُ نَجْمًا فِي السَّمَاءِ يَسْعَدُ بِسَعَادَتِهِ، وَيَشْقَى بِعَكْسِهِ، وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 5] . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75] ، وَيَقُولُ إنَّهَا صَنْعَةُ إدْرِيسَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَيَقُولُونَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ نَجْمَهُ كَانَ بِالْعَقْرَبِ وَالْمِرِّيخِ، فَهَلْ هَذَا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَمْ لَا؟ وَمَتَى يَكُنْ مِنْ الدِّينِ، فَمَاذَا يَجِبُ عَلَى قَائِلِهِ؟ وَالْمُنْكِرُونَ عَلَى هَؤُلَاءِ يَكُونُونَ مِنْ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، النُّجُومُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، الْمُسَبِّحَةُ لَهُ، السَّاجِدَةُ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18] . ثُمَّ قَالَ: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج: 18] . وَهَذَا التَّفْرِيقُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ السُّجُودَ لِمُجَرَّدِ مَا فِيهَا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ، إذْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ، فَجَمِيعُ النَّاسِ فِيهِمْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ وَهُوَ قَدْ فَرَّقَ، فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْرٌ زَائِدٌ مِنْ جِنْسِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُؤْمِنُ وَيَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ الْكَافِرِ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ ذَلِكَ قَدْ جَعَلَ فِيهَا مَنَافِعَ لِعِبَادِهِ وَسَخَّرَ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم: 33] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف: 54] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] ، وَمِنْ مَنَافِعِهَا الظَّاهِرَةِ مَا يَجْعَلُهُ سُبْحَانَهُ

بِالشَّمْسِ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَإِنْضَاجِ الثِّمَارِ، وَخَلْقِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ، وَكَذَلِكَ مَا يَجْعَلُهُ بِهَا مِنْ التَّرْطِيبِ وَالتَّيْبِيسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمَشْهُورَةِ، كَمَا جَعَلَ فِي النَّارِ الْإِشْرَاقَ وَالْإِحْرَاقَ، وَفِي الْمَاءِ التَّطْهِيرَ وَالسَّقْيَ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي يَذْكُرُهَا فِي كِتَابِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان: 49] . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، أَنَّهُ يَجْعَلُ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ بِبَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [الفرقان: 49] ، وَكَمَا قَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57] . وَكَمَا قَالَ: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164] . فَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأُمُورَ عِنْدَهَا لَا بِهَا، فَعِبَارَتُهُ مُخَالِفَةٌ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأُمُورِ الْمَشْهُورَةِ، كَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِالْفِعْلِ هُوَ شِرْكٌ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ. وَقَدْ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ مَنَافِعِ النُّجُومِ، أَنَّهُ يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهَا زِينَةُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تُرْجَمُ بِالنُّجُومِ، وَإِنْ كَانَتْ النُّجُومُ الَّتِي تُرْجَمُ بِهَا الشَّيَاطِينُ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ غَيْرِ النُّجُومِ الثَّابِتَةِ فِي السَّمَاءِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا، فَإِنَّ هَذِهِ لَا تَزُولُ عَنْ مَكَانِهَا بِخِلَافِ تِلْكَ، وَلِهَذِهِ حَقِيقَةٌ مُخَالِفَةٌ لِتِلْكَ، وَإِنْ كَانَ اسْمُ النَّجْمِ يَجْمَعُهَا، كَمَا يَجْمَعُ اسْمُ الدَّابَّةِ وَالْحَيَوَانِ لِلْمِلْكِ وَالْآدَمِيِّ، وَالْبَهَائِمِ وَالذُّبَابِ، وَالْبَعُوضِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ. وَقَالَ: «إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ» .

وَفِي رِوَايَةٍ: «آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ» . هَذَا قَالَهُ رَدًّا لِمَا قَالَهُ بَعْضُ جُهَّالِ النَّاسِ: إنَّ الشَّمْسَ كُسِفَتْ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ بْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهَا كَسَفَتْ يَوْمَ مَوْتِهِ، وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ لَمَّا كُسِفَتْ أَنَّ كُسُوفَهَا كَانَ لِأَجْلِ مَوْتِهِ، وَأَنَّ مَوْتَهُ هُوَ السَّبَبُ لِكُسُوفِهَا، كَمَا قَدْ يَحْدُثُ عَنْ مَوْتِ بَعْضِ الْأَكَابِرِ مَصَائِبُ فِي النَّاسِ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَكُونُ كُسُوفُهُمَا عَنْ مَوْتِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا عَنْ حَيَاتِهِ، وَنَهَى أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ أَثَرٌ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ يُخَوِّفُ عِبَادَهُ. فَذَكَرَ أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ تَخْوِيفَ الْعِبَادِ، كَمَا يَكُونُ تَخْوِيفُهُمْ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ، كَالرِّيَاحِ الشَّدِيدَةِ وَالزَّلَازِلِ، وَالْجَدْبِ، وَالْأَمْطَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي قَدْ تَكُونُ عَذَابًا، كَمَا عَذَّبَ اللَّهُ أُمَمًا بِالرِّيحِ وَالصَّيْحَةِ وَالطُّوفَانِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40] . وَقَدْ قَالَ: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] ، وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّ اللَّهَ يُخَوِّفُ عِبَادَهُ بِذَلِكَ، يُبَيِّنُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِعَذَابٍ يَنْزِلُ، كَالرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ الشَّدِيدَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَا يُنْزِلُهُ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: إنَّ لَهَا تَأْثِيرًا. مَا قَدْ عُلِمَ بِالْحِسِّ وَغَيْرِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَهَذَا حَقٌّ، وَلَكِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَ بِالْعِبَادَاتِ الَّتِي تَدْفَعُ عَنَّا مَا تُرْسَلُ بِهِ مِنْ الشَّرِّ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْخُسُوفِ بِالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْعِتْقِ، وَكَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ وَتَغَيَّرَ، وَأَمَرَ أَنْ يُقَالَ عِنْدَ هُبُوبِهَا: «اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُك مِنْ

خَيْرِ هَذِهِ الرِّيحِ وَخَيْرِ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ» . وَقَالَ: «إنَّ الرِّيحَ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَإِنَّهَا تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ، وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ فَلَا تَسُبُّوهَا وَلَكِنْ سَلُوا اللَّهَ مِنْ خَيْرِهَا، وَتَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهَا» . فَأَخْبَرَ أَنَّهَا تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ، وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ، وَأَمَرَ أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ مِنْ خَيْرِهَا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهَا. فَهَذِهِ السُّنَّةُ فِي أَسْبَابِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ أَنْ يَفْعَلَ الْعَبْدُ عِنْدَ أَسْبَابِ الْخَيْرِ الظَّاهِرَةِ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا يَجْلِبُ اللَّهُ بِهِ الْخَيْرَ، وَعِنْدَ أَسْبَابِ الشَّرِّ الظَّاهِرَةِ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ الشَّرَّ. فَأَمَّا مَا يَخْفَى مِنْ الْأَسْبَابِ فَلَيْسَ الْعَبْدُ مَأْمُورًا بِأَنْ يَتَكَلَّفَ مَعْرِفَتَهُ، بَلْ إذَا فَعَلَ مَا أُمِرَ، وَتَرَكَ مَا حُظِرَ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ الشَّرِّ، وَيَسَّرَ لَهُ أَسْبَابَ الْخَيْرِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيمَنْ يَتَعَاطَى السِّحْرَ لِجَلْبِ مَنَافِعِ الدُّنْيَا: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102] {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 103] .

فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ اعْتَاضَ بِذَلِكَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا يَرْجُو بِزَعْمِهِ نَفْعَهُ فِي الدُّنْيَا، كَمَا يَرْجُونَ بِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ السِّحْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْكَوَاكِبِ وَغَيْرِهَا مِثْلَ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ، ثُمَّ قَالَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 103] . فَبَيَّنَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ تَعَالَى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 63] {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 64] . وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56] {وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف: 57] . فَأَخْبَرَ أَنَّ أَجْرَ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ مِمَّا يُعْطَوْنَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْمُلْكِ وَالْمَالِ كَمَا أُعْطِيَ يُوسُفَ. وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِسُوءِ عَاقِبَةِ مَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى فِي غَيْرِ آيَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] . وَالْمُفْلِحُ الَّذِي يَنَالُ الْمَطْلُوبَ وَيَنْجُو مِنْ الْمَرْهُوبِ، فَالسَّاحِرُ لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ النُّجُومِ فَقَدْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ» . وَالسِّحْرُ مُحَرَّمٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ أَنَّ النُّجُومَ الَّتِي مِنْ السِّحْرِ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: عِلْمِيٌّ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِحَرَكَاتِ النُّجُومِ عَلَى الْحَوَادِثِ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ.

وَالثَّانِي: عَمَلِيٌّ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُونَ إنَّهُ الْقُوَى السَّمَاوِيَّةُ بِالْقُوَى الْمُنْفَعِلَةِ الْأَرْضِيَّةِ كَالطَّلَاسِمِ وَنَحْوِهَا، وَهَذَا مِنْ أَرْفَعِ أَنْوَاعِ السِّحْرِ، وَكُلُّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَضَرُّهُ أَعْظَمُ مِنْ نَفْعِهِ. فَالثَّانِي، وَإِنْ تَوَهَّمَ الْمُتَوَهِّمُ أَنَّ فِيهِ تَقْدِمَةً لِلْمَعْرِفَةِ بِالْحَوَادِثِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُ فَالْجَهْلُ فِي ذَلِكَ أَضْعَفُ، وَمَضَرَّةُ ذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ مَنْفَعَتِهِ، وَلِهَذَا قَدْ عَلِمَ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ بِالتَّجْرِبَةِ وَالتَّوَاتُرِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي يَحْكُمُ بِهَا الْمُنَجِّمُونَ يَكُونُ الْكَذِبُ فِيهَا أَضْعَافَ الصِّدْقِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ الْكُهَّانِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّ مِنَّا قَوْمًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ، فَقَالَ: إنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ فَيَكُونُ حَقًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَسْمَعُهَا الْجِنِّيُّ فَيُقِرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ» . وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى بِالْأَمْرِ ضَرَبَتْ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانَ حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الْحَقَّ، وَأَنَّ كُلَّ أَهْلِ سَمَاءٍ يُخْبِرُونَ أَهْلَ السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهِمْ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْخَبَرُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَهُنَاكَ مُسْتَرِقَةُ السَّمْعِ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، فَرُبَّمَا سَمِعَ الْكَلِمَةَ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ الشِّهَابُ، بَعْدَ أَنْ يُلْقِيَهَا، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَلَوْ أَتَوْا بِالْأَمْرِ عَلَى وَجْهِهِ وَلَكِنْ يَزِيدُونَ فِي الْكَلِمَةِ مِائَةَ كِذْبَةٍ» . وَهَكَذَا الْمُنَجِّمُونَ، حَتَّى أَنِّي لَمَّا خَاطَبْتُهُمْ بِدِمَشْقَ وَحَضَرَ عِنْدِي رُؤَسَاؤُهُمْ، وَبَيَّنْتُ فَسَادَ صِنَاعَتِهِمْ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يَعْتَرِفُونَ بِصِحَّتِهَا، قَالَ لِي رَئِيسٌ مِنْهُمْ: وَاَللَّهِ إنَّا نَكْذِبُ مِائَةَ كِذْبَةٍ حَتَّى نَصْدُقَ فِي كَلِمَةٍ. وَذَلِكَ أَنَّ مَبْنَى عِلْمِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحَرَكَاتِ الْعُلْوِيَّةِ هِيَ السَّبَبُ فِي الْحَوَادِثِ،

وَالْعِلْمُ بِالسَّبَبِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْمُسَبَّبِ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا عُلِمَ السَّبَبُ التَّامُّ الَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ حُكْمُهُ، وَهَؤُلَاءِ أَكْثَرُ مَا يَعْلَمُونَ إنْ عَلِمُوا جُزْءًا يَسِيرًا مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الْكَثِيرَةِ، وَلَا يَعْلَمُونَ بَقِيَّةَ الْأَسْبَابِ، وَلَا الشُّرُوطَ وَلَا الْمَوَانِعَ، مِثْلُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الشَّمْسَ فِي الصَّيْفِ تَعْلُو الرَّأْسَ حَتَّى يَشْتَدَّ الْحَرُّ، فَيُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ هَذَا مَثَلًا أَنَّهُ حِينَئِذٍ أَنَّ الْعِنَبَ الَّذِي فِي الْأَرْضِ الْفُلَانِيَّةِ يَصِيرُ زَبِيبًا، عَلَى أَنَّ هُنَالِكَ عِنَبًا، وَأَنَّهُ يَنْضَجُ، وَيَنْشُرُهُ صَاحِبُهُ فِي الشَّمْسِ وَقْتَ الْحَرِّ فَيَتَزَبَّبُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ يَقَعُ كَثِيرًا، لَكِنْ أَخْذُ هَذَا مِنْ مُجَرَّدِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ جَهْلٌ عَظِيمٌ، إذْ قَدْ يَكُونُ هُنَاكَ عِنَبٌ وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَقَدْ يُثْمِرُ ذَلِكَ الشَّجَرُ إنْ خُدِمَ وَقَدْ لَا يُثْمِرُ، وَقَدْ يُؤْكَلُ عِنَبًا وَقَدْ يُعْصَرُ، وَقَدْ يُسْرَقُ وَقَدْ يُزَبِّبُ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَالْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ وَتَحْرِيمِهَا كَثِيرَةٌ، لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا» . وَالْعَرَّافُ، قَدْ قِيلَ إنَّهُ اسْمٌ عَامٌّ لِلْكَاهِنِ وَالْمُنَجِّمِ وَالرَّمَّالِ وَنَحْوِهِمْ، مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي تَقْدِمَةِ الْمَعْرِفَةِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ، وَلَوْ قِيلَ: إنَّهُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِبَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، فَسَائِرُهَا يَدْخُلُ فِيهِ بِطَرِيقَةِ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ، كَمَا قِيلَ فِي اسْمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَنَحْوِهِمَا. وَأَمَّا إنْكَارُ بَعْضِ النَّاسِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَسْبَابِ فَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا غَيْرِهَا، بَلْ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَظَرَ إلَى الْقَمَرِ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، تَعَوَّذِي بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا فَهَذَا الْغَاسِقُ إذَا وَقَبَ» . كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْكُسُوفِ، حَيْثُ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ» ، أَيْ لَا

يَكُونُ الْكُسُوفُ مُعَلَّلًا بِالْمَوْتِ، فَهُوَ نَفْيُ الْعِلَّةِ الْفَاعِلَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ «رِجَالٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ: مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالُوا: كُنَّا نَقُولُ وُلِدَ اللَّيْلَةَ عَظِيمٌ أَوْ مَاتَ عَظِيمٌ، فَقَالَ: إنَّهُ لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى بِالْأَمْرِ تُسَبِّحُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ» ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي مُسْتَرِقَةِ السَّمْعِ، فَنَفَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكُونَ الرَّمْيُ بِهَا لِأَجْلِ أَنَّهُ قَدْ وُلِدَ عَظِيمٌ أَوْ مَاتَ عَظِيمٌ، بَلْ لِأَجْلِ الشَّيَاطِينِ الْمُسْتَرِقِينَ السَّمْعَ. فَفِي كِلَا الْحَدِيثَيْنِ، أَنَّ مَوْتَ بَعْضِ النَّاسِ وَحَيَاتَهُمْ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِكُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَلَا لِلرَّمْيِ بِالنُّجُومِ وَإِنْ كَانَ مَوْتُ بَعْضِ النَّاسِ قَدْ يَقْتَضِي حُدُوثَ أَمْرٍ فِي السَّمَاوَاتِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ: «أَنَّ الْعَرْشَ عَرْشَ الرَّحْمَنِ اهْتَزَّ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» . وَأَمَّا كَوْنُ الْكُسُوفِ وَغَيْرِهِ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِحَادِثٍ فِي الْأَرْضِ مِنْ عَذَابٍ يَقْتَضِي مَوْتًا أَوْ غَيْرَهُ، فَهَذَا قَدْ أَثْبَتَهُ الْحَدِيثُ نَفْسُهُ. وَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُنَافِي لِكَوْنِ الْكُسُوفِ لَهُ وَقْتٌ مَحْدُودٌ يَكُونُ فِيهِ، حَيْثُ لَا يَكُونُ كُسُوفُ الشَّمْسِ إلَّا فِي آخِرِ الشَّهْرِ لَيْلَةَ السِّرَارِ، وَلَا يَكُونُ خُسُوفُ الْقَمَرِ إلَّا فِي وَسَطِ الشَّهْرِ لَيَالِي الْإِبْدَارِ، وَمَنْ ادَّعَى خِلَافَ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ أَوْ الْعَامَّةِ فَلِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْحِسَابِ، وَلِهَذَا تُمْكِنُ الْمَعْرِفَةُ بِمَا مَضَى مِنْ الْكُسُوفِ وَمَا يُسْتَقْبَلُ، كَمَا تُمْكِنُ الْمَعْرِفَةُ بِمَا مَضَى مِنْ الْأَهِلَّةِ وَمَا يُسْتَقْبَلُ، إذْ كُلُّ ذَلِكَ بِحِسَابٍ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} [الأنعام: 96] . {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] . وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5] . قَالَ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] .

وَمِنْ هُنَا صَارَ بَعْضُ الْعَامَّةِ إذَا رَأَى الْمُنَجِّمَ قَدْ أَصَابَ فِي خَبَرِهِ عَنْ الْكُسُوفِ الْمُسْتَقْبَلِ يَظُنُّ أَنَّ خَبَرَهُ عَنْ الْحَوَادِثِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، فَإِنَّ هَذَا جَهْلٌ، إذْ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ بِمَنْزِلَةِ إخْبَارِهِ بِأَنَّ الْهِلَالَ يَطْلُعُ، إمَّا لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ، وَإِمَّا لَيْلَةَ إحْدَى وَثَلَاثِينَ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ أَجْرَى اللَّهُ بِهِ الْعَادَةَ، لَا يُخْرَمُ أَبَدًا، وَبِمَنْزِلَةِ خَبَرِهِ أَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ آخِرَ النَّهَارِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، فَمَنْ عَرَفَ مَنْزِلَةَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَجَارِيهِمَا عَلِمَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عِلْمًا قَلِيلَ الْمَنْفَعَةِ، فَإِذَا كَانَ الْكُسُوفُ لَهُ أَجَلٌ مُسَمًّى لَمْ يُنَافِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَجَلِهِ يَجْعَلُهُ اللَّهُ سَبَبًا لِمَا يَقْضِيهِ مِنْ عَذَابِ غَيْرِهِ لِمَنْ يُعَذِّبُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يُنَزِّلُ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ تَعْذِيبَ اللَّهِ لِمَنْ عَذَّبَهُ بِالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ، كَقَوْمِ عَادٍ، كَانَتْ فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ، وَهُوَ آخِرُ الشِّتَاءِ، كَمَا قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَقُصَّاصُ الْأَنْبِيَاءِ. وَكَانَ «النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَأَى مَخِيلَةً، وَهُوَ السَّحَابُ الَّذِي يُخَالُ فِيهِ الْمَطَرُ، أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا مَخِيلَةً اسْتَبْشَرُوا، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ وَمَا يُؤْمِنُنِي، قَدْ رَأَى قَوْمُ عَادٍ الْعَذَابَ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ، قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا» ، قَالَ اللَّهُ: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] . وَكَذَلِكَ الْأَوْقَاتُ الَّتِي يُنْزِلُ اللَّهُ فِيهِ الرَّحْمَةَ، كَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْأُولَى مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَجَوْفِ اللَّيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، هِيَ أَوْقَاتٌ مَحْدُودَةٌ لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ، وَيُنْزِلُ فِيهَا مِنْ الرَّحْمَةِ مَا لَا يُنْزِلُ فِي غَيْرِهَا، وَقَدْ جَاءَ بَعْضُ طُرُقِ أَحَادِيثِ الْكُسُوفِ، مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ إذَا تَجَلَّى لِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ خَشَعَ لَهُ» .

وَقَدْ طَعَنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَبُو حَامِدٍ وَنَحْوُهُ، وَرَدُّوا ذَلِكَ لَا مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُمْ قَلِيلُو الْمَعْرِفَةِ بِهِ، كَمَا كَانَ أَبُو حَامِدٍ يَقُولُ عَنْ نَفْسِهِ: أَنَا مُزْجَى الْبِضَاعَةِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِمْ اعْتَقَدُوا أَنَّ سَبَبَ الْكُسُوفِ إذَا كَانَ مَثَلًا كَوْنُ الْقَمَرِ إذَا حَاذَاهَا مَنَعَ نُورَهَا أَنْ يَصِلَ إلَى الْأَرْضِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَلَّلَ ذَلِكَ بِالتَّجَلِّي. وَالتَّجَلِّي الْمَذْكُورُ لَا يُنَافِي السَّبَبَ الْمَذْكُورَ، فَإِنَّ خُشُوعَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِلَّهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ إذَا حَصَلَ لِنُورِهِ مَا يَحْصُلُ مِنْ انْقِطَاعٍ يُرْفَعُ تَأْثِيرُهُ عَنْ الْأَرْضِ، وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحَلِّ سُلْطَانِهِ وَمَوْضِعِ انْتِشَارِهِ وَتَأْثِيرِهِ، فَإِنَّ الْمَلِكَ الْمُتَصَرِّفَ فِي مَكَان بَعِيدٍ لَوْ مُنِعَ ذَلِكَ لَذَلَّ لِذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 5] . فَالْمُدَبِّرَاتُ هِيَ الْمَلَائِكَةُ، وَأَمَّا إقْسَامُ اللَّهِ بِالنُّجُومِ، كَمَا أَقْسَمَ بِهَا فِي قَوْلِهِ: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير: 15] {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 16] . فَهُوَ كَإِقْسَامِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، كَمَا أَقْسَمَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَعْظِيمَ قَدْرِ الْمُقْسَمِ بِهِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْآيَاتِ وَالْعِبْرَةِ وَالْمَنْفَعَةِ لِلنَّاسِ، وَالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْقُلُوبُ بِهِ، أَوْ يُظَنَّ أَنَّهُ هُوَ الْمُسْعِدُ الْمُنْحِسُ، كَمَا لَا يُظَنُّ مِثْلُ ذَلِكَ فِي {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 2] . وَفِي {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات: 1] {فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا} [الذاريات: 2] ، وَفِي {وَالطُّورِ} [الطور: 1] {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 2] ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَاعْتِقَادُ الْمُعْتَقِدِ أَنَّ نَجْمًا مِنْ النُّجُومِ السَّبْعَةِ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِسَعْدِهِ وَنَحْسِهِ، اعْتِقَادٌ فَاسِدٌ، وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ هُوَ الْمُدَبِّرُ لَهُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَكَذَلِكَ إنْ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ دُعَاؤُهُ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ كَانَ كُفْرًا وَشِرْكًا مَحْضًا، وَغَايَةُ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ أَنْ يَبْنِيَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْوَلَدِ حِينَ وُلِدَ بِهَذَا الطَّالِعِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَحْدَهُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي أَحْوَالِ هَذَا الْمَوْلُودِ، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا يَسِيرًا مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يُوجِبُ مَا ذُكِرَ، بَلْ مَا عُلِمَ حَقِيقَةُ تَأْثِيرِهِ فِيهِ، مِثْلُ: حَالِ الْوَالِدَيْنِ، وَحَالُ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ مَحْسُوسٌ فِي أَحْوَالِ الْمَوْلُودِ، وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ هَذَا مُسْتَقِلًّا.

ثُمَّ إنَّ الْأَوَائِلَ هُمْ هَؤُلَاءِ الْمُنَجِّمِينَ الْمُشْرِكِينَ الصَّابِئِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ، قَدْ قِيلَ إنَّهُمْ كَانُوا إذَا وُلِدَ لَهُمْ الْمَوْلُودُ أَخَذُوا طَالِعَ الْمَوْلُودِ، وَسَمَّوْا الْمَوْلُودَ بِاسْمٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا كَبِرَ سُئِلَ عَنْ اسْمِهِ أَخَذَ السَّائِلُ حَالَ الطَّالِعِ، فَجَاءَ هَؤُلَاءِ الطَّرَقِيَّةُ يَسْأَلُونَ الرَّجُلَ عَنْ اسْمِهِ وَاسْمِ أُمِّهِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْ ذَلِكَ الدَّلَالَةَ عَلَى أَحْوَالِهِ، وَهَذِهِ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، مُنَافِيَةٌ لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ. وَأَمَّا اخْتِيَارَاتُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الطَّالِعَ لِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الْأَفْعَالِ، مِثْلُ: اخْتِيَارِهِمْ لِلسَّفَرِ أَنْ يَكُونَ الْقَمَرُ فِي مِثْلِ شُرُوقِهِ وَهُوَ السَّرَطَانُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ فِي هُبُوطِهِ وَهُوَ الْعَقْرَبُ، فَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ الْمَذْمُومِ. وَلَمَّا أَرَادَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُسَافِرَ لِقِتَالِ الْخَوَارِجِ عَرَضَ لَهُ مُنَجِّمٌ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تُسَافِرْ، فَإِنَّ الْقَمَرَ فِي الْعَقْرَبِ، فَإِنَّك إنْ سَافَرْت وَالْقَمَرُ فِي الْعَقْرَبِ هُزِمَ أَصْحَابُك، أَوْ كَمَا قَالَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: بَلْ نُسَافِرُ ثِقَةً بِاَللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ وَتَكْذِيبًا لَك، فَسَافَرَ فَبُورِكَ لَهُ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ حَتَّى قَتَلَ عَامَّةَ الْخَوَارِجِ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ مَا سُرَّ بِهِ، حَيْثُ كَانَ قِتَالُهُ لَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُسَافِرْ وَالْقَمَرُ فِي الْعَقْرَبِ» . فَكَذِبٌ مُخْتَلَقٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: " إنَّهَا صَنْعَةُ إدْرِيسَ ". فَيُقَالُ أَوَّلًا: هَذَا قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ، وَلَا سَبِيلَ لِهَذَا الْقَائِلِ إلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ فِي كُتُبِ هَؤُلَاءِ هُرْمُسُ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ هُوَ إدْرِيسُ، وَالْهِرْمِسُ عِنْدَهُمْ اسْمُ جِنْسٍ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ هُرْمُسُ الْهَرَامِسَةِ، هَذَا الْقَدْرُ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ عَنْ هِرْمِسِهِمْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ قَطْعًا أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ مَأْخُوذًا عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ. وَيُقَالُ ثَانِيًا: إنَّ هَذَا إنْ كَانَ مَأْخُوذًا عَنْ إدْرِيسَ، فَإِنَّهُ كَانَ مُعْجِزَةً لَهُ وَعِلْمًا أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ، فَيَكُونُ مِنْ الْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ، وَهَؤُلَاءِ مَا يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِالتَّجْرِبَةِ وَالْقِيَاسِ، لَا بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

وَيُقَالُ ثَالِثًا: إنْ كَانَ بَعْضُ هَذَا مَأْخُوذًا عَنْ نَبِيٍّ، فَمِنْ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ أَضْعَافَ مَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيِّ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الْكَذِبَ وَالْبَاطِلَ الَّذِي فِي ذَلِكَ أَضْعَافُ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ الَّذِي عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِيمَا يَأْثَرُونَهُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِذَا كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَدْ تَيَقَّنَّا قَطْعًا أَنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ مَأْخُوذٌ عَنْ الْمُرْسَلِينَ وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ كَمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ. وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ قَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَكَذَبُوا وَكَتَمُوا. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ حَالَ الْوَحْيِ الْمُحَقَّقِ، وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ يَقِينًا، مَعَ أَنَّهَا أَقْرَبُ إلَيْنَا عَهْدًا مِنْ إدْرِيسَ، وَمَعَ أَنَّ نَقَلَتَهَا أَعْظَمُ مِنْ نَقَلَةِ النُّجُومِ، وَأَبْعَدُ عَنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ، وَأَبْعَدُ عَنْ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ، فَمَا الظَّنُّ بِهَذَا الْقَدْرِ إنْ كَانَ فِيهِ مَا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ إدْرِيسَ؟ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ وَالتَّحْرِيفِ أَعْظَمَ مِمَّا فِي عُلُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» . فَإِذَا كُنَّا مَأْمُورِينَ فِيمَا يُحَدِّثُنَا بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ لَا نُصَدِّقَ إلَّا بِمَا نَعْلَمُ أَنَّهُ الْحَقُّ، كَمَا لَا نُكَذِّبُ إلَّا بِمَا نَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ تَصْدِيقُ هَؤُلَاءِ فِيمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْ إدْرِيسَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُمْ فِي ذَلِكَ أَبْعَدُ عَنْ عِلْمِ الصِّدْقِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَيُقَالُ رَابِعًا: لَا رَيْبَ أَنَّ النُّجُومَ نَوْعَانِ: حِسَابٌ وَأَحْكَامٌ، فَأَمَّا الْحِسَابُ وَهُوَ

مَعْرِفَةُ أَقْدَارِ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ وَصِفَاتِهَا وَمَقَادِيرِ حَرَكَاتِهَا، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، فَهَذَا فِي الْأَصْلِ عِلْمٌ صَحِيحٌ لَا رَيْبَ فِيهِ، كَمَعْرِفَةِ الْأَرْضِ وَصِفَتِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَكِنَّ جُمْهُورَ الدَّقِيقِ مِنْهُ كَثِيرُ التَّعَبِ، قَلِيلُ الْفَائِدَةِ، كَالْعَالِمِ مَثَلًا بِمَقَادِيرِ الدَّقَائِقِ وَالثَّوَانِي وَالثَّوَالِثِ فِي حَرَكَاتِ السَّبْعَةِ الْمُتَحَيِّرَةِ الْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ، فَإِنْ كَانَ أَصْلُ هَذَا مَأْخُوذًا عَنْ إدْرِيسَ، فَهَذَا مُمْكِنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ، كَمَا يَقُولُ نَاسٌ: إنَّ أَصْلَ الطِّبِّ مَأْخُوذٌ عَنْ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ. وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ السِّحْرِ: فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ سَاحِرًا، وَهُمْ يَذْكُرُونَ أَنْوَاعًا مِنْ السِّحْرِ، وَيَقُولُونَ هَذَا يَصْلُحُ لِعَمَلِ النَّوَامِيسِ أَيْ الشَّرَائِعِ وَالسُّنَنِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ دُعَاةُ الْكَوَاكِبِ وَعِبَادَةٌ لَهَا، وَأَنْوَاعٌ مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي يَعْلَمُ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ وَلَا عَلِمَهُ، وَإِضَافَةُ ذَلِكَ إلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ كَإِضَافَةِ مَنْ أَضَافَ ذَلِكَ إلَى سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالطَّيْرَ، فَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِأَنْوَاعٍ مِنْ السِّحْرِ، حَتَّى إنَّ طَوَائِفَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا يَجْعَلُونَهُ نَبِيًّا؛ بَلْ حَكِيمًا، فَنَزَّهَهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا الِاسْتِدْلَال عَلَى الْحَوَادِثِ بِمَا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ مِنْ الْحَرَكَاتِ الْعُلْوِيَّةِ، أَوْ الِاخْتِيَارَاتِ لِلْأَعْمَالِ. هَذَا كُلُّهُ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَأْمُرْ قَطُّ بِهَذَا، إذْ فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْعُقَلَاءُ الَّذِينَ هُمْ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ بِكَثِيرٍ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا قَالَ إمَامُ هَؤُلَاءِ وَمُعَلِّمُهُمْ الثَّانِي أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ، قَالَ مَا مَضْمُونُهُ: إنَّك لَوْ قَلَبْت أَوْضَاعَ الْمُنَجِّمِينَ فَجَعَلْت مَكَانَ السَّعْدِ نَحْسًا، وَمَكَانَ النَّحْسِ سَعْدًا، أَوْ مَكَانَ الْحَارِّ بَارِدًا، وَمَكَانَ الْبَارِدِ حَارًّا، أَوْ مَكَانَ الْمُذَكَّرِ مُؤَنَّثًا، وَمَكَانَ الْمُؤَنَّثِ مُذَكَّرًا، وَحَكَمْت، لَكَانَ حُكْمُك مِنْ جِنْسِ أَحْكَامِهِمْ، يُصِيبُ تَارَةً وَيُخْطِئُ أُخْرَى.

وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَهُمْ يُنَزِّهُونَ عَنْهُ، بُقْرَاطَ، وَأَفْلَاطُونَ، وَأَرِسْطُو، وَأَصْحَابَهُ الْفَلَاسِفَةَ الْمَشَّائِينَ الَّذِينَ يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ مِنْ الْبَاطِلِ وَالضَّلَالِ أَعْظَمُ مِمَّا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. فَإِذَا كَانُوا يُنَزِّهُونَ عَنْهُ هَؤُلَاءِ الصَّابِئِينَ وَأَنْبِيَاءَهُمْ الَّذِينَ هُمْ أَقَلُّ مَرْتَبَةً وَأَبْعَدُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَكَيْفَ يَجُوزُ نِسْبَتُهُ إلَى نَبِيٍّ كَرِيمٍ؟ وَنَحْنُ نَعْلَمُ مِنْ أَحْوَالِ أُمَّتِنَا أَنَّهُ قَدْ أُضِيفَ إلَى جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، وَلَيْسَ هُوَ بِنَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْأُمُورِ، مَا يَعْلَمُ كُلُّ عَالِمٍ بِحَالِ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْكَذِبَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْظَمِ الْكَذِبِ، حَتَّى يُنْسَبَ إلَيْهِ أَحْكَامُ الْحَرَكَاتِ السُّفْلِيَّةِ، كَاخْتِلَاجِ الْأَعْضَاءِ، وَجَوَاذِبِ الْجَوِّ مِنْ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ، وَالْهَالَةِ وَقَوْسِ اللَّهِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: قَوْسُ قُزَحٍ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، وَالْعُلَمَاءُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَكَذَلِكَ يُنْسَبُ إلَيْهِ الْجَدْوَلُ الَّذِي تَبْنِي عَلَيْهِ الضُّلَّالُ طَائِفَةٌ مِنْ الرَّافِضَةِ، وَهُوَ كَذِبٌ مُفْتَعَلٌ عَلَيْهِ افْتَعَلَهُ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ، أَحَدُ الْمَشْهُورِينَ بِالْكَذِبِ مَعَ رِيَاسَتِهِ وَعَظَمَتِهِ عِنْدَ أَتْبَاعِهِ، وَكَذَلِكَ أُضِيفَ إلَيْهِ كِتَابُ الْجَفْرِ، وَالْبِطَاقَةِ وَالْهَفْتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ، حَتَّى أُضِيفَ إلَيْهِ رَسَائِلُ إخْوَانِ الصَّفَا، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْجَهْلِ، فَإِنَّ هَذِهِ الرَّسَائِلَ إنَّمَا وُضِعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَهَذِهِ الرَّسَائِلُ وُضِعَتْ فِي دَوْلَةِ بَنِي بُوَيْهٍ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ فِي أَوَائِلِ دَوْلَةِ بَنِي عُبَيْدٍ الَّذِينَ بَنَوْا الْقَاهِرَةِ، وَضَعَهَا جَمَاعَةٌ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ جَمَعُوا بِهَا بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْفَلْسَفَةِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا. وَأَصْحَابُ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُ الْعِلْمَ، كَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَأَمْثَالُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ بَرَاءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَكَاذِيبِ. وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّا يَذْكُرُهُ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فِي كِتَابِ حَقَائِقِ التَّفْسِيرِ " عَنْ جَعْفَرٍ مِنْ الْكَذِبِ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِي كَذِبِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَحْكِيهَا عَنْهُ الرَّافِضَةُ، وَهِيَ مِنْ أَبْيَنِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُ كَذِبًا وَاخْتِلَافًا مِنْ الرَّافِضَةِ مِنْ حِينِ تَبِعُوا إلَى أَوَّلِ مَنْ ابْتَدَعَ الرَّفْضَ، وَكَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا يُقَالُ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَبَأً، فَأَرَادَ بِذَلِكَ فَسَادَ دِينِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا فَعَلَ بولص صَاحِبُ الرَّسَائِلِ الَّتِي بِأَيْدِي النَّصَارَى، حَيْثُ

ابْتَدَعَ لَهُمْ بِدَعًا أَفْسَدَ بِهَا دِينَهُمْ، وَكَانَ يَهُودِيًّا فَأَظْهَرَ النَّصْرَانِيَّةَ نِفَاقًا لِقَصْدِ إفْسَادِهَا، وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ سَبَأٍ يَهُودِيًّا فَفَسَدَ ذَلِكَ وَسَعَى فِي الْفِتْنَةِ، لِقَصْدِ إفْسَادِ الْمِلَّةِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ، لَكِنْ حَصَلَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ تَحْرِيشٌ وَفِتْنَةٌ قُتِلَ فِيهَا عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَجَرَى مَا جَرَى مِنْ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَجْمَعْ اللَّهُ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى ضَلَالَةٍ، بَلْ لَا تَزَالُ فِيهَا طَائِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْحَقِّ لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا، وَلَا مَنْ خَذَلَهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، كَمَا تَشْهَدُ بِذَلِكَ النُّصُوصُ الْمُسْتَفِيضَةُ فِي الصِّحَاحِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَمَّا أَحْدَثَتْ الْبِدَعَ الشِّيعَةُ فِي خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَدَّهَا، وَكَانَتْ ثَلَاثَةَ طَوَائِفَ غَالِيَةٌ وَسَبَّابَةٌ وَمُفَضِّلَةٌ، فَأَمَّا الْغَالِيَةُ فَإِنَّهُ حَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ، فَإِنَّهُ خَرَجَ ذَات يَوْمٍ مِنْ بَابِ كِنْدَةَ فَسَجَدَ لَهُ أَقْوَامٌ، فَقَالَ مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: أَنْتَ هُوَ اللَّهُ، فَاسْتَتَابَهُمْ ثَلَاثًا، فَلَمْ يَرْجِعُوا، فَأَمَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ بِأَخَادِيدَ، فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ فِيهَا النَّارَ، ثُمَّ قَذَفَهُمْ فِيهَا. وَقَالَ: لَمَّا رَأَيْتُ الْأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا ... أَجَّجْتُ نَارِي وَدَعَوْت قَنْبَرًا وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عَلِيًّا أَتَى بِزَنَادِقَتِهِمْ فَحَرَّقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَوْ كُنْت لَمْ أُحَرِّقْهُمْ «لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعَذَّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ» ، وَلَضَرَبْت أَعْنَاقَهُمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . وَأَمَّا السَّبَّابَةُ فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ سَبَأٍ يَسُبُّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، طَلَبَ قَتْلَهُ، فَهَرَبَ إلَى قُرَقْيِسَا وَكُلِّمَ فِيهِ، وَكَانَ عَلِيٌّ يُدَارِي أُمَرَاءَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا، وَلَمْ يَكُونُوا يُطِيعُونَهُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ. وَأَمَّا الْمُفَضِّلَةُ، فَقَالَ لَا أُوتَى بِأَحَدٍ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ ثَمَانِينَ وَجْهًا أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ ".

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ: يَا أَبَتِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ أَوَمَا تَعْرِفُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ ثُمَّ عُمَرُ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ، أَنَّ عَلِيًّا رَوَى هَذَا التَّفْضِيلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ قَدْ كُذِبَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ الَّتِي لَا يَجُوزُ نِسْبَتُهَا إلَى أَقَلِّ الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى أَضَافَتْ إلَيْهِ الْقَرَامِطَةُ، وَالْبَاطِنِيَّةُ، وَالْحَزْمِيَّةُ، وَالْمَزْدَكِيَّةُ، وَالْإِسْمَاعِيلِيَّة، وَالنُّصَيْرِيَّةُ مَذَاهِبَهَا الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْسَدِ مَذَاهِبِ الْعَالَمِينَ، وَادَّعَوْا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ الْمَوْرُوثَةِ عَنْهُ. وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا أَحْدَثَهُ الْمُنَافِقُونَ الزَّنَادِقَةُ الَّذِينَ قَصَدُوا إظْهَارَ مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَهُمْ يُبْطِنُونَ خِلَافَ ذَلِكَ، وَاسْتَتْبَعُوا الطَّوَائِفَ الْخَارِجَةَ عَنْ الشَّرَائِعِ، فَكَانَتْ لَهُمْ دُوَلٌ، وَجَرَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فِتَنٌ، حَتَّى قَالَ ابْنُ سِينَا: إنَّمَا اشْتَغَلْت فِي عُلُومِ الْفَلَاسِفَةِ؛ لِأَنَّ أَبِي كَانَ مِنْ أَهْلِ دَعْوَةِ الْمِصْرِيِّينَ، يَعْنِي مِنْ بَنِي عُبَيْدٍ الرَّافِضَةِ الْقَرَامِطَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَحِلُونَ هَذِهِ الْعُلُومَ الْفَلْسَفِيَّةَ، وَلِهَذَا تَجِدُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ الرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْبُعْدِ عَنْ مَعْرِفَةِ النُّبُوَّاتِ اتِّصَالًا وَانْضِمَامًا، يَجْمَعُهُمْ فِيهِ الْجَهْلُ الصَّمِيمُ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. فَإِذَا كَانَ فِي هَذَا الزَّمَانِ الْقَرِيبِ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ مِنْ سَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ قَدْ كُذِبَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ، وَأُضِيفَ إلَيْهِمْ مِنْ مَذَاهِبِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ مَا يَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ بَرَاءَتَهُمْ مِنْهُ، وَنَفَقَ ذَلِكَ عَلَى طَوَائِفَ كَثِيرَةٍ مُنْتَسِبَةٍ إلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ، مَعَ وُجُودِ مَنْ يُبَيِّنُ كَذِبَ هَؤُلَاءِ وَيَنْهَى عَنْ ذَلِكَ، وَيَذُبُّ عَنْ الْمِلَّةِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَاللِّسَانِ، فَكَيْفَ الظَّنُّ بِمَا يُضَافُ إلَى إدْرِيسَ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أُمُورِ النُّجُومِ وَالْفَلْسَفَةِ مَعَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ، وَتَنَوُّعِ الْحَدَثَانِ، وَاخْتِلَافِ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ، وَعَدَمِ مَنْ يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ مِنْ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ، وَاشْتِمَالِ ذَلِكَ عَلَى مَا لَا يُحْصَى مِنْ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ. وَكَذَلِكَ دَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّ نَجْمَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بِالْعَقْرَبِ وَالْمِرِّيخِ، وَأُمَّتِهِ

بِالزُّهَرَةِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ أَوْضَحِ الْهَذَيَانِ؛ لِمُبَايَنَةِ أَحْوَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتِهِ لِمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّ مِنْ أَوْضَحِ الْكَذِبِ قَوْلَهُمْ: إنَّ نَجْمَ الْمُسْلِمِينَ بِالزُّهَرَةِ، وَنَجْمَ النَّصَارَى بِالْمُشْتَرَيْ، مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ الْمُشْتَرِيَ يَقْتَضِي الْعِلْمَ وَالدِّينَ، وَالزُّهَرَةَ تَقْتَضِي اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ؛ وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ النَّصَارَى أَعْظَمُ الْمِلَلِ جَهْلًا وَضَلَالَةً، وَأَبْعَدُهَا عَنْ مَعْرِفَةِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، وَأَكْثَرُ اشْتِغَالًا بِالْمَلَاهِي وَتَعَبُّدًا بِهَا. وَالْفَلَاسِفَةُ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ مَا قَرَعَ الْعَالِمُ نَامُوسَ أَعْظَمَ مِنْ النَّامُوسِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتُهُ أَكْمَلُ عَقْلًا وَدِينًا وَعِلْمًا بِاتِّفَاقِ الْفَلَاسِفَةِ، حَتَّى فَلَاسِفَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَإِنَّهُمْ لَا يَرْتَابُونَ فِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ عَقْلًا وَدِينًا، وَإِنَّمَا يَمْكُثُ أَحَدُهُمْ عَلَى دِينِهِ، إمَّا اتِّبَاعًا لِهَوَاهُ وَرِعَايَةً لِمَصْلَحَةِ دُنْيَاهُ فِي زَعْمِهِ، وَإِمَّا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِأَيِّ مِلَّةٍ كَانَتْ، وَإِنَّ الْمِلَلَ شَبِيهَةٌ بِالْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ الْمُنَجِّمِينَ وَأَمْثَالِهِمْ يَقُولُونَ بِهَذَا، وَيَجْعَلُونَ الْمِلَلَ بِمَنْزِلَةِ الدُّوَلِ الصَّالِحَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ. وَأَمَّا الْكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَنَاطِقَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا سِوَى الْحَنِيفِيَّةِ، وَهِيَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ: عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْإِيمَانُ بِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62] . وَبِذَلِكَ أَخْبَرَنَا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأُمَمِهِمْ، قَالَ نُوحٌ: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72] . وَقَالَ فِي آلِ إبْرَاهِيمَ {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130] {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 131 - 132] . وَقَالَ: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84] . وَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44] ، وَقَالَتْ بِلْقِيسُ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] . وَقَالَ فِي الْحَوَارِيِّينَ: {أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] ، وَقَدْ قَالَ مُطْلَقًا: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران: 19] . وَقَالَ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] . {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] .

فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ بِاتِّفَاقِ كُلِّ ذِي عَقْلٍ أَوْلَى أَهْلِ الْمِلَلِ بِالْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْعَدْلِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا تُنَاسِبُ عِنْدَهُمْ آثَارَ الْمُشْتَرِي، وَالنَّصَارَى أَبْعَدُ عَنْ ذَلِكَ وَأَوْلَى بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَمَا يُنَاسِبُ عِنْدَهُمْ آثَارَ الزُّهْرَةِ، كَانَ مَا ذَكَرُوهُ ظَاهِرَ الْفَسَادِ. وَلِهَذَا لَا تَزَالُ أَحْكَامُهُمْ كَاذِبَةً مُتَهَافِتَةً، حَتَّى أَنَّ كَبِيرَ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ فَيْلَسُوفَ الْإِسْلَامِ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْكِنْدِيُّ عَمِلَ تَسْيِيرًا لِهَذِهِ الْمِلَّةِ، زَعَمَ أَنَّهَا تَنْقَضِي عَامَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْهُ مَنْ أَخْرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِخْرَاجِ مِنْ حُرُوفِ كَلَامٍ ظَهَرَ فِي الْكَشْفِ لِبَعْضِ مَنْ أَعَادَهُ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ بَقَاءَ هَذِهِ الْمِلَّةِ مِنْ حِسَابِ الْجُمَلِ الَّذِي لِلْحُرُوفِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَهِيَ مَعَ حَذْفِ التَّكْرِيرِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا، وَحِسَابُهَا فِي الْجُمَلِ الْكَبِيرِ سِتُّمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ. وَمِنْ هَذَا أَيْضًا مَا ذُكِرَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْزَلَ: {الم} [البقرة: 1] قَالَ بَعْضُ الْيَهُودِ:

مسألة في معنى حديث يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي

بَقَاءُ هَذِهِ الْمِلَّةِ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ، فَلَمَّا أَنْزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ: الر، وَ {الم} [آل عمران: 1] ، قَالُوا خُلِطَ عَلَيْنَا، فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي تُوجَدُ عَنْ ضَلَالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ، مُشْتَمِلَةٌ مِنْ هَذَا الْبَاطِلِ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَأَشْبَاهُهَا خَارِجَةٌ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، مُحَرَّمَةٌ فِيهِ، يَجِبُ إنْكَارُهَا، وَالنَّهْيُ عَنْهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، عَلَى كُلِّ قَادِرٍ بِالْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَهَؤُلَاءِ وَأَشْبَاهُهُمْ أَعْدَاءُ الرُّسُلِ وَسُوسُ الْمِلَلِ، وَلَا يُنْفَقُ الْبَاطِلُ فِي الْوُجُودِ إلَّا بِثَوْبٍ مِنْ الْحَقِّ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، فَبِسَبَبِ الْحَقِّ الْيَسِيرِ الَّذِي مَعَهُمْ، يُضِلُّونَ خَلْقًا كَثِيرًا عَنْ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، وَيَدْعُونَهُ إلَى الْبَاطِلِ الْكَثِيرِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَكَثِيرًا مَا يُعَارِضُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يُحْسِنُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلَا يُقِيمُ الْحُجَّةَ الَّتِي تَدْحَضُ بَاطِلَهُمْ، وَلَا يُبَيِّنُ حُجَّةَ اللَّهِ الَّتِي أَقَامَهَا بِرُسُلِهِ، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ فِتْنَةٌ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا الْبَابِ وَنَحْوِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَوَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ. [مَسْأَلَةٌ فِي مَعْنَى حَدِيثِ يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي] 8 - مَسْأَلَةٌ: فِي مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يُرْوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ عِنْدِي إلَّا كَمَا يُنْقِصُ

الْمِخْيَطُ إذَا دَخَلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ: أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. أَمَّا قَوْله تَعَالَى «يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي» . فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ كَبِيرَتَانِ، كُلٌّ مِنْهُمَا ذَاتُ شُعَبٍ وَفُرُوعٍ. إحْدَاهُمَا: فِي الظُّلْمِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَنَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ، بِقَوْلِهِ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} [هود: 101] ، وَقَوْلُهُ: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] ، وَقَوْلُهُ: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] . وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40] . وَقَوْلُهُ: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا} [النساء: 77] ، وَنَفَى إرَادَتَهُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108] . وَقَوْلُهُ: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31] . وَنَفَى خَوْفَ الْعِبَادِ لَهُ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه: 112] . فَإِنَّ النَّاسَ تَنَازَعُوا فِي مَعْنَى هَذَا الظُّلْمِ تَنَازُعًا صَارُوا فِيهِ بَيْنَ طَرَفَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ، وَوَسَطٌ بَيْنَهُمَا، وَخِيَارُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا، وَذَلِكَ بِسَبَبِ الْبَحْثِ فِي الْقَدَرِ وَمُجَامَعَتِهِ لِلشَّرْعِ، إذْ الْخَوْضُ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ تَامٍّ أَوْجَبَ ضَلَالَ عَامَّةِ الْأُمَمِ، وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ عَنْ التَّنَازُعِ فِيهِ، فَذَهَبَ الْمُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ

الْعِبَادِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَكُونَ إلَّا مَا أَمَرَ بِأَنْ يَكُونَ، وَغُلَاتُهُمْ الْمُكَذِّبُونَ بِتَقَدُّمِ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ بِمَا سَيَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، إلَّا أَنَّ الظُّلْمَ مِنْهُ هُوَ نَظِيرُ الظُّلْمِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَشَبَّهُوهُ وَمَثَّلُوهُ فِي الْأَفْعَالِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، حَتَّى كَانُوا هُمْ مُمَثِّلَةَ الْأَفْعَالِ، وَضَرَبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ، وَلَمْ يَجْعَلُوا لَهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى، بَلْ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ وَحَرَّمُوا مَا رَأَوْا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعِبَادِ وَيَحْرُمُ بِقِيَاسِهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ بِالرَّأْيِ، وَقَالُوا عَنْ هَذَا: إذَا أَمَرَ الْعَبْدَ، وَلَمْ يُعِنْهُ بِجَمِيعِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهِ الْإِعَانَةِ كَانَ ظَالِمًا لَهُ، وَالْتَزَمُوا أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَهْدِيَ ضَالًّا، كَمَا قَالُوا: إنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُضِلَّ مُهْتَدِيًا، وَقَالُوا عَنْ هَذَا: إذَا أَمَرَ اثْنَيْنِ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ، وَخَصَّ أَحَدَهُمَا بِإِعَانَتِهِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ كَانَ ظَالِمًا، إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، جَعَلُوا تَرْكَهُ لَهَا ظُلْمًا. وَكَذَلِكَ ظَنُّوا أَنَّ التَّعْذِيبَ لِمَنْ كَانَ فِعْلُهُ مُقَدَّرًا ظُلْمٌ لَهُ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ التَّعْذِيبِ لِمَنْ قَامَ بِهِ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يَقُمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ خَلْقَهُ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ. وَهَذَا الْمَوْضِعُ زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ، وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ، فَعَارَضَ هَؤُلَاءِ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ، فَقَالُوا: لَيْسَ لِلظُّلْمِ مِنْهُ حَقِيقَةٌ يُمْكِنُ وُجُودُهَا، بَلْ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُمْتَنِعَةِ لِذَاتِهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا، وَلَا يُقَالُ إنَّهُ هُوَ تَارِكٌ لَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَجَعْلِ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ فِي مَكَانَيْنِ، وَقَلْبِ الْقَدِيمِ مُحْدَثًا، وَالْمُحْدَثِ قَدِيمًا، وَإِلَّا فَمَهْمَا قُدِّرَ فِي الذِّهْنِ وَكَانَ وُجُودُهُ مُمْكِنًا وَاَللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِظُلْمٍ مِنْهُ، سَوَاءٌ فَعَلَهُ أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَتَلَقَّى هَذَا الْقَوْلَ عَنْ هَؤُلَاءِ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ. وَمِنْ شُرَّاحِ الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِمْ، وَفَسَّرُوا هَذَا الْحَدِيثَ بِمَا يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَرُبَّمَا تَعَلَّقُوا بِظَاهِرٍ مِنْ أَقْوَالٍ مَأْثُورَةٍ، كَمَا رَوَيْنَاهُ عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، أَنَّهُ قَالَ: مَا نَاظَرْت بِعَقْلِي كُلِّهِ أَحَدًا إلَّا الْقَدَرِيَّةَ، قُلْت لَهُمْ: مَا الظُّلْمُ؟ قَالُوا أَنْ تَأْخُذَ مَا لَيْسَ لَك، أَوْ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِيمَا لَيْسَ لَك، قُلْت: فَلِلَّهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ إيَاسٍ إلَّا لِيُبَيِّنَ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الْوَاقِعَةَ هِيَ فِي مُلْكِهِ، فَلَا يَكُونُ ظُلْمًا بِمُوجَبِ حَدِّهِمْ، وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ فِيهِ، فَإِنَّهُمْ

مُتَّفِقُونَ مَعَ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ هُوَ عَدْلٌ. وَفِي حَدِيثِ الْكَرْبِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَصَابَ عَبْدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُك ابْنُ عَبْدِك ابْنُ أَمَتِك، نَاصِيَتِي بِيَدِك، مَاضٍ فِي حُكْمُك. عَدْلٌ فِي قَضَاؤُك، أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَك، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِك، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِك، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي، إلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَعَلَّمُهُنَّ؟ قَالَ: بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ» . فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ كُلَّ قَضَائِهِ فِي عَبْدِهِ عَدْلٌ، وَلِهَذَا يُقَالُ: كُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ، وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ، وَيُقَالُ: أَطَعْتُك بِفَضْلِك وَالْمِنَّةُ لَك، وَعَصَيْتُك بِعِلْمِك أَوْ بِعَدْلِك وَالْحُجَّةُ لَك، فَأَسْأَلُك بِوُجُوبِ حُجَّتِك عَلَيَّ وَانْقِطَاعِ حُجَّتِي إلَّا مَا غَفَرْت لِي. وَهَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ مِنْ إيَاسٍ، كَمَا قَالَهُ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِغَيْلَانَ، حِينَ قَالَ لَهُ غَيْلَانُ نَشَدْتُك اللَّهَ، أَتَرَى اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُعْصَى؟ فَقَالَ: نَشَدْتُك اللَّهَ، أَتَرَى يُعْصَى قَسْرًا يَعْنِي قَهْرًا فَكَأَنَّمَا أَلْقَمَهُ حَجَرًا. فَإِنَّ قَوْلَهُ: يُحِبُّ أَنْ يُعْصَى، لَفْظٌ فِيهِ إجْمَالٌ، وَقَدْ لَا يَتَأَتَّى فِي الْمُنَاظَرَةِ تَفْسِيرُ الْمُجْمَلَاتِ خَوْفًا مِنْ لَدَدِ الْخَصْمِ، فَيُؤْتَى بِالْوَاضِحَاتِ، فَقَالَ: أَفَتَرَاهُ يُعْصَى قَسْرًا؟ فَإِنَّ هَذَا إلْزَامٌ لَهُ بِالْعَجْزِ الَّذِي لَازِمٌ لِلْقَدَرِيَّةِ وَلِمَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُمْ، مِنْ الدَّهْرِيَّةِ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ إيَاسٌ رَأَى أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ الْمُطَابِقَ لِحَدِّهِمْ خَاصِمٌ لَهُمْ، وَلَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ فِي التَّفْصِيلِ الَّذِي يَطُولُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه: 112] . قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ مِنْ السَّلَفِ: " لَا يَخَافُ أَنْ يُظْلَمَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُ غَيْرِهِ، وَلَا يُهْضَمُ فَيُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِ ". وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الظُّلْمُ هُوَ شَيْءٌ مُمْتَنِعُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ

لَا يَخَافُ مَا هُوَ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ، خَارِجٌ عَنْ الْمُمْكِنَاتِ وَالْمَقْدُورَاتِ، فَإِنَّ مَثَلَ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ مُمْكِنًا حَتَّى يَقُولُوا إنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ، وَلَوْ أَرَادَهُ، كَخَلْقِ الْمِثْلِ لَهُ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ وُجُودُهُ، فَضْلًا أَنْ يُتَصَوَّرَ خَوْفٌ حَتَّى يَنْفِيَ خَوْفَهُ، ثُمَّ أَيُّ فَائِدَةٍ فِي نَفْيِ خَوْفِ هَذَا، قَدْ عُلِمَ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّ هَذَا لِلْعَامِلِ الْمُحْسِنِ لَا يُجْزَى عَلَى إحْسَانِهِ بِالظُّلْمِ وَالْهَضْمِ، فَعُلِمَ أَنَّ الظُّلْمَ وَالْهَضْمَ الْمَنْفِيَّ يَتَعَلَّقُ بِالْجَزَاءِ، كَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُجْزِيهِ إلَّا بِعَمَلِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ فِي الْآخِرَةِ إلَّا مَنْ أَذْنَبَ، كَمَا قَالَ: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85] . فَلَوْ دَخَلَهَا أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ أَتْبَاعِهِ لَمْ تَمْتَلِئْ مِنْهُمْ. وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فِي حَدِيثِ: «تَحَاجِّ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ» ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ: «أَنَّ النَّارَ تَمْتَلِئُ مِمَّنْ كَانَ أُلْقِيَ فِيهَا حَتَّى يَنْزَوِيَ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ: قَطُّ قَطُّ بَعْدَ قَوْلِهَا: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَيَبْقَى فِيهَا فَضْلٌ عَمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَيُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ» ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ فِيمَنْ لَمْ يُكَلَّفْ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ وَنَحْوِهِمْ مَا صَحَّ بِهِ الْحَدِيثُ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ، فَلَا نَحْكُمُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَلَا لِكُلٍّ مِنْهُمْ بِالنَّارِ، بَلْ هُمْ يَنْقَسِمُونَ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْعِلْمِ، فَهُمْ إذَا كُلِّفُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعَرَصَاتِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] يَدُلُّ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَظْلِمُ مُحْسِنًا، فَيُنْقِصَهُ مِنْ إحْسَانِهِ، أَوْ يَجْعَلَهُ لِغَيْرِهِ، وَلَا يَظْلِمُ مُسِيئًا فَيَجْعَلَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتِ غَيْرِهِ، بَلْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} [النجم: 36] {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38] {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى

أَحَدٍ مِنْ وِزْرِ غَيْرِهِ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا مَا سَعَاهُ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَإِنْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ تَعْذِيبَ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ يُنَافِي الْأَوَّلَ، فَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ ذَلِكَ النَّائِحُ يُعَذَّبُ بِنَوْحِهِ، لَا يَحْمِلُ الْمَيِّتُ وِزْرَهُ، وَلَكِنَّ الْمَيِّتَ يَنَالُهُ أَلَمٌ مِنْ فِعْلِ هَذَا، كَمَا يَتَأَلَّمُ الْإِنْسَانُ مِنْ أُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنْ كَسْبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَزَاءُ الْكَسْبِ وَالْعَذَابِ أَعَمَّ مِنْ الْعِقَابِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ» . وَكَذَلِكَ ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ انْتِفَاعَ الْمَيِّتِ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ الْحَيِّ يُنَافِي قَوْلَهُ: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] . فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ انْتِفَاعَ الْمَيِّتِ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ الْحَيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآيَةِ كَانْتِفَاعِهِ بِالْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْآيَةَ تُخَالِفُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، فَقَوْلُهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، بَلْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآيَةِ كَانْتِفَاعِهِ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالشَّفَاعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا يُبَيِّنُ انْتِفَاعَ الْإِنْسَانِ بِسَعْيِ غَيْرِهِ، إذْ الْآيَةُ إنَّمَا نَفَتْ اسْتِحْقَاقَ السَّعْيِ وَمِلْكَهُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ الْإِنْسَانُ وَلَا يَمْلِكُهُ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْسِنَ إلَيْهِ مَالِكُهُ وَمُسْتَحِقُّهُ بِمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْهُ، فَهَذَا نَوْعٌ وَهَذَا نَوْعٌ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ كُلُّ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ لَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ جِهَتِهِ مَنْفَعَةٌ، فَإِنَّ هَذَا كَذِبٌ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَهَذِهِ النُّصُوصُ النَّافِيَةُ لِلظُّلْمِ تُثْبِتُ الْعَدْلَ فِي الْجَزَاءِ، وَأَنَّهُ لَا يُبْخَسُ عَامِلٌ عَمَلَهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِيمَنْ عَاقَبَهُمْ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [هود: 101] ، وَقَوْلُهُ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76] بَيَّنَ أَنَّ عِقَابَ الْمُجْرِمِينَ عَدْلٌ لِذُنُوبِهِمْ، لَا لِأَنَّا ظَلَمْنَاهُمْ فَعَاقَبْنَاهُمْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ: «لَوْ عَذَّبَ اللَّهُ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ

ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ» . يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَذَابَ لَوْ وَقَعَ لَكَانَ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ ذَلِكَ، لَا لِكَوْنِهِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مِنْ الظُّلْمِ الْمَنْفِيِّ عُقُوبَةَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر: 30] {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31] . يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْعِقَابَ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا لِاسْتِحْقَاقِهِمْ ذَلِكَ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُرِيدُ الظُّلْمَ. وَالْأَمْرُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُمْدَحَ الْمَمْدُوحُ بِعَدَمِ إرَادَتِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَدْحُ بِتَرْكِ الْأَفْعَالِ إذَا كَانَ الْمَمْدُوحُ قَادِرًا عَلَيْهَا، فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى مَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ مِنْ الظُّلْمِ، وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ. وَبِذَلِكَ يَصِحُّ قَوْلُهُ: «إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي» ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ هُوَ الْمَنْعُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي أَوْ مَنَعْت نَفْسِي مِنْ خَلْقِ مِثْلِي، أَوْ جَعَلَ الْمَخْلُوقَاتِ خَالِقَةً وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَالَاتِ. وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَا يَكُونُ مَعْنَاهُ: إنِّي أَخْبَرْت عَنْ نَفْسِي بِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ مَقْدُورًا لَا يَكُونُ مِنِّي، وَهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يَتَيَقَّنُ الْمُؤْمِنُ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادَ الرَّبِّ وَأَنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنْ إرَادَةِ مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَلِيقُ الْخِطَابُ بِمِثْلِهِ، إذْ هُوَ مَعَ كَوْنِهِ شِبْهَ التَّكْرِيرِ، وَإِيضَاحَ الْوَاضِحِ، لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا ثَنَاءٌ، وَلَا مَا يَسْتَفِيدُهُ الْمُسْتَمِعُ، فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ أَمْرٌ مَقْدُورٌ لَكِنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ؛ لِأَنَّهُ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِهِ، مُقَدَّسٌ عَنْهُ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مَا قَالَهُ النَّاسُ فِي حُدُودِ الظُّلْمِ يَتَنَاوَلُ هَذَا دُونَ ذَلِكَ، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، كَقَوْلِهِمْ: مَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ، أَيْ: فَمَا وُضِعَ الشَّبَهُ غَيْرَ مَوْضِعِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَكَمٌ عَدْلٌ، لَا يَضَعُ الْأَشْيَاءَ إلَّا مَوَاضِعَهَا، وَوَضْعُهَا غَيْرَ مَوَاضِعِهَا لَيْسَ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ، بَلْ هُوَ مُمْكِنٌ، لَكِنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ، بَلْ يَكْرَهُهُ وَيُبْغِضُهُ؛ إذْ قَدْ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ

وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: الظُّلْمُ إضْرَارٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: هُوَ نَقْصُ الْحَقِّ، وَذُكِرَ أَنَّ أَصْلَهُ النَّقْصُ، كَقَوْلِهِ: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33] . وَأَمَّا مَنْ قَالَ: هُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، فَهَذَا لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ وَلَا مُنْعَكِسٍ، فَقَدْ يَتَصَرَّفُ الْإِنْسَانُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِحَقٍّ وَلَا يَكُونُ ظَالِمًا، وَقَدْ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَكُونُ ظَالِمًا، وَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: فِعْلُ الْمَأْمُورِ خِلَافُ مَا أُمِرَ بِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، إنْ سُلِّمَ صِحَّةُ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ، فَهُوَ لَا يَفْعَلُ خِلَافَ مَا كَتَبَ، وَلَا يَفْعَلُ مَا حَرَّمَ. وَلَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي نَبَّهْنَا عَلَيْهَا فِيهِ، وَإِنَّمَا نُشِيرُ إلَى النُّكَتِ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ الْقَوْلُ الْمُتَوَسِّطُ: وَهُوَ أَنَّ الظُّلْمَ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ، مِثْلُ أَنْ يَتْرُكَ حَسَنَاتِ الْمُحْسِنِ فَلَا يُجْزِيهِ بِهَا، وَيُعَاقِبَ الْبَرِيءَ عَلَى مَا لَمْ يَفْعَلْ مِنْ السَّيِّئَاتِ، وَيُعَاقِبَ هَذَا بِذَنْبِ غَيْرِهِ، أَوْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِغَيْرِ الْقِسْطِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَتَنَزَّهُ الرَّبُّ عَنْهَا، لِقِسْطِهِ وَعَدْلِهِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الظُّلْمَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ، فَهُوَ أَيْضًا مُنَزَّهٌ عَنْ أَفْعَالِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ. وَعَلَى قَوْلِ الْفَرِيقِ الثَّانِي: مَا ثَمَّ فِعْلٌ يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْهُ أَصْلًا، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ مُتَكَلِّمُو الْإِثْبَاتِ لَمَّا نَاظَرُوا مُتَكَلِّمَةَ النَّفْيِ أَلْزَمُوهُمْ لَوَازِمَ لَمْ يَنْفَصِلُوا عَنْهَا إلَّا بِمُقَابَلَةِ الْبَاطِلِ بِالْبَاطِلِ. وَهَذَا مِمَّا عَابَهُ الْأَئِمَّةُ وَذَمُّوهُ، كَمَا عَابَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالزَّبِيدِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَغَيْرُهُمْ مُقَابَلَةَ الْقَدَرِيَّةِ بِالْغُلُوِّ فِي الْإِثْبَاتِ، وَأَمَرُوا بِالِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَمَا عَابُوا أَيْضًا عَلَى مَنْ قَابَلَ الْجَهْمِيَّةَ نُفَاةِ الصِّفَاتِ بِالْغُلُوِّ فِي الْإِثْبَاتِ،

حَتَّى دَخَلَ فِي تَمْثِيلِ الْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا وَهَذَا، وَذَكَرْنَا كَلَامَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَةِ تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ، فَمَنْ قَالَ: الْعَقْلُ يُعْلَمُ بِهِ حُسْنُ الْأَفْعَالِ وَقُبْحُهَا، فَإِنَّهُ يُنَزَّهُ الرَّبُّ عَنْ بَعْضِ الْأَفْعَالِ، وَمَنْ قَالَ: لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِالسَّمْعِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ جَمِيعُ الْأَفْعَالِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ النَّهْيِ فِي حَقِّهِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ بِنَاءُ هَذِهِ عَلَى تِلْكَ بِلَازِمٍ، وَبِتَقْدِيرِ لُزُومِهَا فَفِي تِلْكَ تَفْصِيلٌ وَتَحْقِيقٌ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَذَلِكَ أَنَّا فَرَضْنَا أَنَّا نَعْلَمُ بِالْعَقْلِ حُسْنَ بَعْضِ الْأَفْعَالِ وَقُبْحَهَا، لَكِنَّ الْعَقْلَ لَا يَقُولُ أَنَّ الْخَالِقَ كَالْمَخْلُوقِ حَتَّى يَكُونَ مَا جَعَلَهُ حَسَنًا لِهَذَا أَوْ قَبِيحًا لَهُ، جَعَلَهُ حَسَنًا لِلْآخَرِ أَوْ قَبِيحًا لَهُ، كَمَا يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ لِمَا بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ مِنْ الْفُرُوقِ الْكَثِيرَةِ، وَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّ حُسْنَ الْأَفْعَالِ وَقُبْحَهَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالشَّرْعِ، فَالشَّرْعُ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ أَفْعَالٍ وَأَحْكَامٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهَا، تَارَةً بِخَبَرِهِ مُثْنِيًا عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهَا، وَتَارَةً بِخَبَرِهِ أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ. فَنَقُولُ: النَّاسُ لَهُمْ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ بِاعْتِبَارِ مَا يَصْلُحُ مِنْهُ وَيَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: طَرَفَانِ وَوَسَطٌ. فَالطَّرَفُ الْوَاحِدُ: طَرَفُ الْقَدَرِيَّةِ، وَهُمْ الَّذِينَ حَجَرُوا عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ إلَّا مَا ظَنُّوا بِعَقْلِهِمْ أَنَّهُ الْجَائِزُ لَهُ، حَتَّى وَضَعُوا لَهُ شَرِيعَةَ التَّعْدِيلِ وَالتَّجْوِيزِ، فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ بِعَقْلِهِمْ أُمُورًا كَثِيرَةً، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِ بِعَقْلِهِمْ أُمُورًا كَثِيرَةً، لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْعَقْلَ آمِرٌ لَهُ وَنَاهٍ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْأَفْعَالَ مِمَّا عُلِمَ بِالْعَقْلِ وُجُوبُهَا وَتَحْرِيمُهَا، وَلَكِنْ أَدْخَلُوا فِي ذَلِكَ الْمُنْكَرَاتِ مَا بَنَوْهُ عَلَى بِدْعَتِهِمْ فِي التَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ. وَالطَّرَفُ الثَّانِي: طَرَفُ الْغُلَاةِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا: لَا يُنَزَّهُ الرَّبُّ عَنْ فِعْلٍ مِنْ فِعَالٍ، وَلَا نَعْلَمُ وَجْهَ امْتِنَاعِ الْفِعْلِ مِنْهُ إلَّا مِنْ جِهَةِ خَبَرِهِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ الْمُطَابِقُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ، وَهَؤُلَاءِ مَنَعُوا حَقِيقَةَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ كِتَابًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي» ، وَلَمْ يَعْلَمْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْخَبَرَ الْمُجَرَّدَ الْمُطَابِقَ لِلْعِلْمِ لَا يُبَيِّنُ وَجْهَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، إذْ الْعِلْمُ يُطَابِقُ الْمَعْلُومَ، فَعِلْمُهُ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ هَذَا، وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ هَذَا، لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ؛ لِأَنَّهُ كَتَبَ هَذَا عَلَى نَفْسِهِ، وَحَرَّمَ هَذَا عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ أَخْبَرَ عَنْ كَائِنٍ مَنْ كَانَ أَنَّهُ يَفْعَلُ كَذَا وَلَا يَفْعَلُ كَذَا، لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا بَيَانٌ لِكَوْنِهِ مَحْمُودًا مَمْدُوحًا عَلَى فِعْلِ هَذَا، وَتَرْكِ هَذَا، وَلَا فِي ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ قِيَامَ الْمُقْتَضِي لِهَذَا، وَالْمَانِعِ مِنْ هَذَا. فَإِنَّ الْخَبَرَ الْمَحْضَ كَاشِفٌ عَنْ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ مَا يَدْعُو إلَى الْفِعْلِ، وَلَا إلَى التَّرْكِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ، فَإِنَّ التَّحْرِيمَ مَانِعٌ مِنْ الْفِعْلِ، وَكِتَابَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ دَاعِيَةٌ إلَى الْفِعْلِ. وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ، إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مُجَرَّدَ كِتَابَتِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ، وَهُوَ كِتَابَةُ التَّقْدِيرِ، كَمَا قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، «أَنَّهُ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» . فَإِنَّهُ قَالَ: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12] ، وَلَوْ أُرِيدَ كِتَابَةُ التَّقْدِيرِ لَكَانَ قَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْغَضَبَ، كَمَا كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، إذْ كَانَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْخَبَرِ عَمَّا سَيَكُونُ، وَلَكَانَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ كُلَّ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْ الْإِحْسَانِ كَمَا حَرَّمَ الظُّلْمَ. وَكَمَا أَنَّ الْفَرْقَ ثَابِتٌ فِي حَقِّنَا بَيْنَ قَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] . وَبَيْنَ قَوْلِهِ {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52] . وَقَوْلِهِ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] .

وَقَوْلُهُ: «فَيُبْعَثُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُقَالُ لَهُ اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ» . فَهَذَا الْفَرْقُ أَيْضًا ثَابِتٌ فِي حَقِّ اللَّهِ، وَنَظِيرُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ كِتَابَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ قَوْله تَعَالَى {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] . وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ. قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ» ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ: " كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ كَذَا ". فَهَذَا الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ هُوَ أَحَقُّهُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ. وَنَظِيرُ تَحْرِيمِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ، مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ قَسَمِهِ لَيَفْعَلَنَّ وَكَلِمَتُهُ السَّابِقَةُ، كَقَوْلِهِ: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [طه: 129] ، وَقَوْلُهُ: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} [الأعراف: 18] وَ {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 13] . {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [آل عمران: 195] ، {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} [الأعراف: 6] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْقَسَمِ الْمُتَضَمِّنَةِ مَعْنَى الْإِيجَابِ، وَالْمَعْنَى بِخِلَافِ الْقَسَمِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْخَبَرِ الْمَحْضِ، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: الْيَمِينُ إمَّا أَنْ تُوجِبَ حَقًّا، أَوْ مَنْعًا، أَوْ تَصْدِيقًا، أَوْ تَكْذِيبًا.

وَإِذَا كَانَ مَعْقُولًا فِي الْإِنْسَانِ أَنَّهُ يَكُونُ آمِرًا مَأْمُورًا، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] . وَقَوْلِهِ: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] . مَعَ أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ آمِرٌ وَنَاهٍ فَوْقَهُ، وَالرَّبُّ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ، لَأَنْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْآمِرَ الْكَاتِبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَالنَّاهِيَ الْمُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَكِتَابَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ ذَلِكَ تَسْتَلْزِمُ إرَادَتَهُ لِذَلِكَ وَمَحَبَّتَهُ لَهُ وَرِضَاهُ بِذَلِكَ، وَتَحْرِيمُهُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ يَسْتَلْزِمُ بُغْضَهُ لِذَلِكَ وَكَرَاهَتَهُ لَهُ، وَإِرَادَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ لِلْفِعْلِ تُوجِبُ وُقُوعَهُ مِنْهُ، وَبُغْضُهُ لَهُ وَكَرَاهَتُهُ لَأَنْ يَفْعَلَهُ يَمْنَعُ وُقُوعَهُ مِنْهُ. فَأَمَّا مَا يُحِبُّهُ وَيُبْغِضُهُ مِنْ أَفْعَالِ عِبَادِهِ، فَذَلِكَ نَوْعٌ آخَرُ، فَفَرْقٌ بَيْنَ فِعْلِهِ هُوَ وَبَيْنَ مَا هُوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ لَهُ، وَلَيْسَ فِي مَخْلُوقِهِ مَا هُوَ ظُلْمٌ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى فَاعِلِهِ الَّذِي هُوَ الْإِنْسَانُ هُوَ ظُلْمٌ، كَمَا أَنَّ أَفْعَالَ الْإِنْسَانِ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ تَكُونُ سَرِقَةً وَزِنًا، وَصَلَاةً وَصَوْمًا، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - خَالِقُهَا بِمَشِيئَتِهِ، وَلَيْسَتْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَذَلِكَ، إذْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ هِيَ لِلْفَاعِلِ الَّذِي قَامَ بِهِ هَذَا الْفِعْلُ، كَمَا أَنَّ الصِّفَاتِ هِيَ صِفَاتٌ لِلْمَوْصُوفِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ، لَا لِلْخَالِقِ الَّذِي خَلَقَهَا وَجَعَلَهَا صِفَاتٍ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - خَلَقَ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ مَوْصُوفٍ وَصِفَتِهِ. ثُمَّ صِفَاتُ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَتْ صِفَاتٍ لَهُ، كَالْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ، وَالرَّوَائِحِ لِعَدَمِ قِيَامِ ذَلِكَ بِهِ، وَكَذَلِكَ حَرَكَاتُ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَتْ حَرَكَاتٍ لَهُ وَلَا أَفْعَالًا لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ لِكَوْنِهَا مَفْعُولَاتٍ هُوَ خَلَقَهَا، وَبِهَذَا الْفَرْقِ تَزُولُ شُبَهٌ كَثِيرَةٌ. وَالْأَمْرُ الَّذِي كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ، وَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنْ تَرْكِ هَذَا الَّذِي لَوْ تُرِكَ لَكَانَ تَرْكُهُ نَقْصًا، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ عَلَى تَرْكِهِ، وَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنْ فِعْلِهِ الَّذِي لَوْ كَانَ لَأَوْجَبَ نَقْصًا. وَهَذَا كُلُّهُ بَيِّنٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عِنْدَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ، وَهُوَ أَيْضًا مُسْتَقِرٌّ فِي قُلُوبِ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ الْقَدَرِيَّةُ شَبَّهُوا عَلَى النَّاسِ بِشُبَهِهِمْ فَقَابَلَهُمْ مَنْ قَابَلَهُمْ بِنَوْعٍ مِنْ الْبَاطِلِ، كَالْكَلَامِ الَّذِي كَانَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ يَذُمُّونَهُ.

وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ، قَالُوا: قَدْ حَصَلَ اتِّفَاقٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَالِمٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَالظَّالِمُ مِنْ الظُّلْمِ، كَمَا أَنَّ الْعَادِلَ مِنْ فِعْلِ الْعَدْلِ، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ سَمْعًا وَعَقْلًا، قَالُوا: وَلَوْ كَانَ اللَّهُ خَالِقًا لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ الَّتِي هِيَ الظُّلْمُ لَكَانَ ظَالِمًا، فَعَارَضَهُمْ هَؤُلَاءِ بِأَنْ قَالُوا: لَيْسَ الظَّالِمُ مِنْ فِعْلِ الظُّلْمِ، بَلْ الظَّالِمُ مَنْ قَامَ بِهِ الظُّلْمُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الظَّالِمُ مَنْ اكْتَسَبَ الظُّلْمَ وَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الظَّالِمُ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ أَوْ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ لِنَفْسِهِ. وَهَؤُلَاءِ يَعْنُونَ أَنْ يَكُونَ النَّاهِي لَهُ وَالْمُحَرِّمُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ، وَلِهَذَا كَانَ تَصَوُّرُ الظُّلْمِ مِنْهُ مُمْتَنِعًا عِنْدَهُمْ لِذَاتِهِ، كَامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ فَوْقَهُ آمِرٌ لَهُ وَنَاهٍ. وَيَمْتَنِعُ عِنْدَ الطَّائِفَتَيْنِ أَنْ يَعُودَ إلَى الرَّبِّ مِنْ أَفْعَالِهِ حُكْمٌ لِنَفْسِهِ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ نَازَعُوا أُولَئِكَ فِي أَنَّ الْعَادِلَ مَنْ فَعَلَ الْعَدْلَ، بَلْ سَلَّمُوا ذَلِكَ لَهُمْ وَإِنْ نَازَعَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ مُنَازَعَةً عِنَادِيَّةً. وَاَلَّذِي يَكْشِفُ تَلْبِيسَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: الظَّالِمُ وَالْعَادِلُ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ فَاعِلًا لِلظُّلْمِ وَالْعَدْلِ، فَذَلِكَ يَأْثَمُ بِهِ أَيْضًا، وَلَا يَعْرِفُ النَّاسُ مَنْ يُسَمَّى ظَالِمًا وَلَمْ يَقُمْ بِهِ الْفِعْلُ الَّذِي صَارَ ظَالِمًا، بَلْ لَا يَعْرِفُونَ ظَالِمًا إلَّا مَنْ قَامَ بِهِ الْفِعْلُ الَّذِي فَعَلَهُ وَبِهِ صَارَ ظَالِمًا، وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ مُتَعَلِّقًا بِغَيْرِهِ وَلَهُ مَفْعُولٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ، لَكِنْ لَا يَعْرِفُونَ الظَّالِمَ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ قَدْ قَامَ بِهِ ذَلِكَ، فَكَوْنُكُمْ أَخَذْتُمْ فِي حَدِّ الظَّالِمِ أَنَّهُ مَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ، وَعَيَّنْتُمْ بِذَلِكَ مَنْ فَعَلَهُ فِي غَيْرِهِ فَهَذَا تَلْبِيسٌ وَإِفْسَادُ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَاللُّغَةِ، كَمَا فَعَلْتُمْ فِي مُسَمَّى الْمُتَكَلِّمِ، حَيْثُ قُلْتُمْ: هُوَ مِنْ فِعْلِ الْكَلَامِ وَلَوْ فِي غَيْرِهِ، وَجَعَلْتُمْ مَنْ أَحْدَثَ كَلَامًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ قَائِمًا بِغَيْرِهِ مُتَكَلِّمًا وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ هُوَ كَلَامٌ أَصْلًا، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْبُهْتَانِ وَالْقَرْمَطَةِ وَالسَّفْسَطَةِ، وَلِهَذَا أَلْزَمَهُمْ السَّلَفُ أَنْ يَكُونَ مَا أَحْدَثَهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْجَمَادَاتِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَا خَلَقَهُ فِي الْحَيَوَانَاتِ، وَلَا يُفَرَّقُ حِينَئِذٍ بَيْنَ نُطْقٍ وَنُطْقٍ، وَإِنَّمَا قَالَتْ الْجُلُودُ: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] ، وَلَمْ تَقُلْ: نَطَقَ اللَّهُ بِذَلِكَ. وَلِهَذَا

قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ، كَسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْهَاشِمِيِّ، وَغَيْرِهِ مَا مَعْنَاهُ: إنَّهُ عَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ الَّذِي خُلِقَ فِي فِرْعَوْنَ حَتَّى قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] ، كَالْكَلَامِ الَّذِي خُلِقَ فِي الشَّجَرَةِ، حَتَّى قَالَتْ: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا} [طه: 14] . فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِرْعَوْنُ مُحِقًّا، أَوْ تَكُونُ الشَّجَرَةُ كَفِرْعَوْنَ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِنَحْوِ الِاتِّحَادِيَّةِ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَيُنْشِدُونَ: وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ ... سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَهَذَا يَسْتَوْعِبُ أَنْوَاعَ الْكُفْرِ. وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْأَمْرِ الْبَيِّنِ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ: الْمُتَكَلِّمُ لَا يَقُومُ بِهِ كَلَامٌ أَصْلًا، فَإِنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَكَلِّمٍ، إذْ لَيْسَ الْمُتَكَلِّمُ إلَّا هَذَا، وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُهُمْ يَقُولُونَ لَيْسَ بِمُتَكَلِّمٍ، ثُمَّ قَالُوا: هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَذَلِكَ لِمَا اسْتَقَرَّ فِي الْفِطَرِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِهِ كَلَامٌ، وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ فَاعِلًا لَهُ. كَمَا يَقُومُ بِهِ بِالْإِنْسَانِ كَلَامُهُ وَهُوَ كَاسِبٌ لَهُ، أَمَّا أَنْ يُجْعَلَ مُجَرَّدُ إحْدَاثِ الْكَلَامِ فِي غَيْرِهِ كَلَامًا لَهُ فَهَذَا هُوَ الْبَاطِلُ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الظُّلْمِ، فَهَبْ أَنَّ الظَّالِمَ مَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ، فَلَيْسَ هُوَ مِنْ فِعْلِهِ فِي غَيْرِهِ، وَلَمْ يَقُمْ بِهِ فِعْلٌ أَصْلًا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَامَ بِهِ فِعْلٌ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا إلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا جَوَابٌ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ الظُّلْمُ فِيهِ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ، فَهُوَ ظُلْمٌ مِنْ الظَّالِمِ بِمَعْنَى أَنَّهُ عُدْوَانٌ وَبَغْيٌ مِنْهُ، وَهُوَ ظُلْمٌ لِلْمَظْلُومِ بِمَعْنَى أَنَّهُ بَغَى وَاعْتَدَى عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَدًى عَلَيْهِ بِهِ، وَلَا هُوَ مِنْهُ عُدْوَانٌ عَلَى غَيْرِهِ، فَهُوَ فِي حَقِّهِ لَيْسَ بِظُلْمٍ، لَا مِنْهُ وَلَا لَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إذَا خَلَقَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ فَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ خَلْقِهِ لِصِفَاتِهِمْ فَهُمْ الْمَوْصُوفُونَ بِذَلِكَ. فَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا جَعَلَ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ أَسْوَدَ، وَبَعْضَهَا أَبْيَضَ، أَوْ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا أَوْ مُتَحَرِّكًا أَوْ سَاكِنًا، أَوْ عَالِمًا أَوْ جَاهِلًا، أَوْ قَادِرًا أَوْ عَاجِزًا أَوْ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، أَوْ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا، أَوْ سَعِيدًا أَوْ شَقِيًّا، أَوْ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، كَانَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْمَوْصُوفَ، بِأَنَّهُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ، وَالطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ، وَالْحَيُّ وَالْمَيِّتُ، وَالظَّالِمُ

فصل تحريم الله الظلم على العباد

وَالْمَظْلُومُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا إحْدَاثُهُ لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ ظُلْمٌ مِنْ شَخْصٍ وَظُلْمٌ لِآخَرَ بِمَنْزِلَةِ إحْدَاثِهِ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ الَّذِي هُوَ أَكْلٌ مِنْ شَخْصٍ وَأَكْلٌ لِآخَرَ، وَلَيْسَ هُوَ بِذَلِكَ آكِلًا وَلَا مَأْكُولًا، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَازِمِهَا أَوْ مُتَعَدٍّ بِهَا حِكَمٌ بَالِغَةٌ كَمَا لَهُ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فِي خَلْقِ صِفَاتِهِمْ وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَعَ تَفْصِيلِ ذَلِكَ، وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ تَدْلِيسُ الْقَدَرِيَّةِ. وَأَمَّا تِلْكَ الْحُدُودُ الَّتِي عُورِضُوا بِهَا فَهِيَ دَعَاوَى وَمُخَالِفَةٌ أَيْضًا لِلْمَعْلُومِ مِنْ الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ وَالْعَقْلِ، أَوْ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْإِجْمَالِ، فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: الظَّالِمُ مَنْ قَامَ بِهِ الظُّلْمُ، يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِهِ، لَكِنْ يُقَالُ لَهُ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا أَوْ آمِرًا لَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لَهُ مَعَ ذَلِكَ، فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ كَانَ اقْتِصَارُهُ عَلَى تَفْسِيرِ الظَّالِمِ بِمَنْ قَامَ بِهِ الظُّلْمُ، كَاقْتِصَارِ أُولَئِكَ عَلَى تَفْسِيرِ الظَّالِمِ فِي فِعْلِ الظُّلْمِ، وَاَلَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ عَامُّهُمْ وَخَاصُّهُمْ أَنَّ الظَّالِمَ فَاعِلٌ لِلظُّلْمِ، وَظُلْمُهُ فِعْلٌ قَائِمٌ بِهِ، وَكُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ جَحَدَ بَعْضَ الْحَقِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَالْإِطْلَاقُ صَحِيحٌ، لَكِنْ يُقَالُ قَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْهِ نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يُجْزِيَ الْمُطِيعِينَ، وَأَنَّهُ حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي حَرَّمَ بِنَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ، كَمَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَتَبَ بِنَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ؛ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مُحَرِّمًا عَلَيْهِ، أَوْ مُوجِبًا عَلَيْهِ. فَضْلًا عَنْ أَنْ يُعْلَمَ ذَلِكَ بِعَقْلٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الظُّلْمُ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، هُوَ ظُلْمٌ بِلَا رَيْبٍ. وَهُوَ أَمْرٌ مُمْكِنٌ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَتْرُكُهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ؛ لِأَنَّهُ عَادِلٌ لَيْسَ بِظَالِمٍ، كَمَا يَتْرُكُ عُقُوبَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَكَمَا يَتْرُكُ أَنْ يَحْمِلَ الْبَرِيءُ ذُنُوبَ الْمُعْتَدِينَ. [فَصَلِّ تَحْرِيمُ اللَّهِ الظُّلْمَ عَلَى الْعِبَادِ] فَصْلٌ قَوْلُهُ «وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا» ؛ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ شَرِيفُ الْقَدْرِ عَظِيمُ الْمَنْزِلَةِ. وَلِهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَقُولُ: هُوَ أَشْرَفُ حَدِيثٍ

لِأَهْلِ الشَّامِ. وَكَانَ أَبُو إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ إذَا حَدَّثَ بِهِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَرَاوِيهِ أَبُو ذَرٍّ الَّذِي مَا أَظَلَّتْ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتْ الْغَبْرَاءُ أَصْدَقَ لَهْجَةٍ مِنْهُ. وَهُوَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي رَوَاهَا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَبِّهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قُرْآنًا. وَقَدْ جَمَعَ فِي هَذَا الْبَابِ زَاهِرٌ السُّحَامِيُّ، وَعَبْدُ الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَقْدِسِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ تَضَمَّنَ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ الْعَظِيمَةِ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ: «حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي» تَتَضَمَّنُ جُلَّ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ إذَا أُعْطِيت حَقَّهَا مِنْ التَّفْسِيرِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا فِيهَا مَا لَا بُدَّ مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ مِنْ أَوَائِلِ النُّكَتِ الْجَامِعَةِ. وَأَمَّا هَذِهِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: «وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا» . فَإِنَّهَا تَجْمَعُ الدِّينَ كُلَّهُ، فَإِنَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ رَاجِعٌ إلَى الظُّلْمِ وَكُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ رَاجِعٌ إلَى الْعَدْلِ، وَلِهَذَا قَالَ - تَعَالَى -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد: 25] . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِأَجْلِ قِيَامِ النَّاسِ بِالْقِسْطِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ الَّذِي بِهِ يُنْصَرُ هَذَا الْحَقُّ، فَالْكِتَابُ يَهْدِي، وَالسَّيْفُ يَنْصُرُ، وَكَفَى بِرَبِّك هَادِيًا وَنَصِيرًا. وَلِهَذَا كَانَ قِوَامُ النَّاسِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَأَهْلِ الْحَدِيدِ. كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ صِنْفَانِ إذَا صَلَحُوا صَلُحَ النَّاسُ: الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ. وَقَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] . أَقْوَالًا تَجْمَعُ الْعُلَمَاءَ وَالْأُمَرَاءَ؛ وَلِهَذَا نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَلَى دُخُولِ الصِّنْفَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا تَجِبُ طَاعَتُهُ فِيمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَكَانَ نُوَّابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ كَعَلِيٍّ وَمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى وَعَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَأَمْثَالُهُمْ يَجْمَعُونَ

الصِّنْفَيْنِ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ، كَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَنُوَّابِهِمْ، وَلِهَذَا كَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ صَاحِبُ الْكِتَابِ، وَاَلَّذِي يَقُومُ بِالْجِهَادِ صَاحِبُ الْحَدِيدِ. إلَى أَنْ تَفَرَّقَ الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا تَفَرَّقَ صَارَ كُلُّ مَنْ قَامَ بِأَمْرِ الْحَرْبِ مِنْ جِهَادِ الْكُفَّارِ وَعُقُوبَاتِ الْفُجَّارِ يَجِبُ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَامَ بِجَمْعِ الْأَمْوَالِ وَقَسْمِهَا يَجِبُ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَامَ بِالْكِتَابِ بِتَبْلِيغِ أَخْبَارِهِ وَأَوَامِرِهِ وَبَيَانِهَا يَجِبُ أَنْ يُصَدَّقَ وَيُطَاعَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الصِّدْقِ فِي ذَلِكَ، وَفِيمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَيَأْمُرُونَ بِأَشْيَاءَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، أَنْزَلَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَالْأَعْرَافِ، وَغَيْرِهِمَا يَذُمُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَذَكَرَ مَا أَمَرَ بِهِ هُوَ وَمَا حَرَّمَهُ هُوَ فَقَالَ: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29] . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] . وَهَذِهِ الْآيَةُ تَجْمَعُ أَنْوَاعَ الْمُحَرَّمَاتِ، كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَتِلْكَ الْآيَةُ تَجْمَعُ أَنْوَاعَ الْوَاجِبَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهُ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: {أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29] . أَمَرَ مَعَ الْقِسْطِ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَهَذَا أَصْلُ الدِّينِ، وَضِدُّهُ هُوَ الذَّنْبُ الَّذِي لَا يُغْفَرُ، قَالَ - تَعَالَى -: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ جَمِيعَ الرُّسُلِ، وَأَرْسَلَهُمْ بِهِ إلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ، قَالَ - تَعَالَى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] . وَقَالَ - تَعَالَى -

{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] . وَقَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] . وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] . وَلِهَذَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (بَابُ مَا جَاءَ فِي أَنَّ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ) ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ جَمِيعُ النَّبِيِّينَ. قَالَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل: 91] . وَقَالَ - تَعَالَى - فِي قِصَّةِ إبْرَاهِيمَ {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 131 - 132] . وَقَالَ مُوسَى: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84] ، وَقَالَ تَعَالَى {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] ، وَقَالَ فِي قِصَّةِ بِلْقِيسَ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] ، وَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44] . وَهَذَا التَّوْحِيدُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّينِ هُوَ أَعْظَمُ الْعَدْلِ، وَضِدُّهُ وَهُوَ الشِّرْكُ أَعْظَمُ

الظُّلْمِ، كَمَا أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] » وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ «ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك، قُلْت: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك قُلْت: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] » الْآيَةَ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا: «الظُّلْمُ ثَلَاثَةُ دَوَاوِينَ: فَدِيوَانٌ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا. فَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا فَهُوَ الشِّرْكُ. فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا فَهُوَ ظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. فَإِنَّ اللَّهَ لَا بُدَّ أَنْ يُنْصِفَ الْمَظْلُومَ مِنْ الظَّالِمِ، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا فَهُوَ ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ» . أَيْ: مَغْفِرَةُ هَذَا الضَّرْبِ مُمْكِنَةٌ بِدُونِ رِضَى الْخَلْقِ، فَإِنْ

شَاءَ عَذَّبَ هَذَا الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ الشَّرِيفَةِ، وَالْأُصُولِ الْجَامِعَةِ فِي الْقَوَاعِدِ، وَبَيَّنَّا أَنْوَاعَ الظُّلْمِ، وَبَيَّنَّا كَيْفَ كَانَ الشِّرْكُ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ؟ وَمُسَمَّى الشِّرْكِ جَلِيلُهُ وَدَقِيقُهُ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ» . وَرُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الرِّيَاءِ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] ، وَكَانَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ يَقُولُ: يَا بَقَايَا الْعَرَبِ يَا بَقَايَا الْعَرَبِ إنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّيَاءَ وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ. قَالَ أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ صَاحِبُ السُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ: الْخَفِيَّةُ حُبُّ الرِّيَاسَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ حُبَّ الرِّيَاسَةِ هُوَ أَصْلُ الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ، كَمَا أَنَّ الرِّيَاءَ هُوَ مِنْ جِنْسِ الشِّرْكِ أَوْ مَبْدَأِ الشِّرْكِ. وَالشِّرْكُ أَعْظَمُ الْفَسَادِ، كَمَا أَنَّ التَّوْحِيدَ أَعْظَمُ الصَّلَاحِ، وَلِهَذَا قَالَ - تَعَالَى -: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] . إلَى أَنْ خَتَمَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص: 83] . وَقَالَ: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4] ، وَقَالَ: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] .

وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] . فَأَصْلُ الصَّلَاحِ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ، وَأَصْلُ الْفَسَادِ الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ، كَمَا قَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] . وَذَلِكَ أَنَّ صَلَاحَ كُلِّ شَيْءٍ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَحْصُلُ لَهُ وَبِهِ الْمَقْصُودُ الَّذِي يُرَادُ مِنْهُ، وَلِذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: الْعَقْدُ الصَّحِيحُ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَحَصَلَ بِهِ مَقْصُودُهُ، وَالْفَاسِدُ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ مَقْصُودُهُ، وَالصَّحِيحُ الْمُقَابِلُ لِلْفَاسِدِ فِي اصْطِلَاحِهِمْ هُوَ الصَّالِحُ: وَكَانَ يَكْثُرُ فِي كَلَامِ السَّلَفِ: هَذَا لَا يَصْلُحُ أَوْ يَصْلُحُ، كَمَا كَثُرَ فِي كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ يَصِحُّ وَلَا يَصِحُّ. وَاَللَّهُ - تَعَالَى - إنَّمَا خَلَقَ الْإِنْسَانَ لِعِبَادَتِهِ، وَبَدَنُهُ تَبَعٌ لِقَلْبِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَلَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلُحَتْ صَلُحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» . وَصَلَاحُ الْقَلْبِ فِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُ وَبِهِ الْمَقْصُودُ الَّذِي خُلِقَ لَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَفَسَادُهُ فِي ضِدِّ ذَلِكَ، فَلَا صَلَاحَ لِلْقُلُوبِ بِدُونِ ذَلِكَ قَطُّ. وَالْقَلْبُ لَهُ قُوَّتَانِ: الْعِلْمُ وَالْقَصْدُ، كَمَا أَنَّ لِلْبَدَنِ الْحِسَّ وَالْحَرَكَةَ الْإِرَادِيَّةَ، فَكَمَا أَنَّهُ مَتَى خَرَجَتْ قُوَى الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ عَنْ الْحَالِ الْفِطْرِيِّ الطَّبِيعِيِّ فَسَدَتْ. فَإِذَا خَرَجَ الْقَلْبُ عَنْ الْحَالِ الْفِطْرِيَّةِ الَّتِي يُولَدُ كُلُّ مَوْلُودٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا لِرَبِّهِ مُرِيدًا لَهُ فَيَكُونُ هُوَ مُنْتَهَى قَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ. وَذَلِكَ هِيَ الْعِبَادَةُ، إذْ الْعِبَادَةُ كَمَالُ الْحُبِّ بِكَمَالِ الذُّلِّ، فَمَتَى لَمْ تَكُنْ حَرَكَةُ الْقَلْبِ وَوَجْهُهُ وَإِرَادَتُهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - كَانَ فَاسِدًا، إمَّا بِأَنْ يَكُونَ

مُعْرِضًا عَنْ اللَّهِ وَعَنْ ذِكْرِهِ، غَافِلًا عَنْ ذَلِكَ مَعَ تَكْذِيبٍ، أَوْ بِدُونِ تَكْذِيبٍ، أَوْ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ ذِكْرٌ وَشُعُورٌ، وَلَكِنْ قَصْدُهُ وَإِرَادَتُهُ غَيْرُهُ، لِكَوْنِ الذِّكْرِ ضَعِيفًا لَمْ يَجْتَذِبْ الْقَلْبَ إلَى إرَادَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَإِلَّا فَمَتَى قَوِيَ عِلْمُ الْقَلْبِ وَذِكْرُهُ أَوْجَبَ قَصْدَهُ وَعِلْمَهُ، قَالَ - تَعَالَى -: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم: 29] {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 30] . فَأَمَرَ نَبِيَّهُ بِأَنْ يُعْرِضَ عَمَّنْ كَانَ مُعْرِضًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُرَادٌ إلَّا مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا. وَهَذِهِ حَالُ مَنْ فَسَدَ قَلْبُهُ وَلَمْ يَذْكُرْ رَبَّهُ وَلَمْ يَتُبْ إلَيْهِ فَيُرِيدُ وَجْهَهُ، وَيُخْلِصُ لَهُ الدِّينَ، ثُمَّ قَالَ وَذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ عِلْمٌ فَوْقَ مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا فَهِيَ أَكْبَرُ هَمِّهِمْ وَمَبْلَغُ عِلْمِهِمْ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَأَكْبَرُ هَمِّهِ هُوَ اللَّهُ، وَإِلَيْهِ انْتَهَى عِلْمُهُ وَذِكْرُهُ، وَهَذَا الْآنَ بَابٌ وَاسِعٌ عَظِيمٌ قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعِهِ. وَإِذَا كَانَ التَّوْحِيدُ أَصْلَ صَلَاحِ النَّاسِ، وَالْإِشْرَاكُ أَصْلَ فَسَادِهِمْ، وَالْقِسْطُ مَقْرُونٌ بِالتَّوْحِيدِ، إذْ التَّوْحِيدُ أَصْلُ الْعَدْلِ، وَإِرَادَةُ الْعُلُوِّ مَقْرُونَةٌ بِالْفَسَادِ، إذْ هُوَ أَصْلُ الظُّلْمِ، فَهَذَا مَعَ هَذَا، وَهَذَا مَعَ هَذَا كَالْمَلْزُوزِينَ فِي قَرْنٍ، فَالتَّوْحِيدُ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ هُوَ صَلَاحٌ وَعَدْلٌ، وَلِهَذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ هُوَ الْقَائِمُ بِالْوَاجِبَاتِ وَهُوَ الْبَرُّ وَهُوَ الْعَدْلُ، وَالذُّنُوبُ الَّتِي فِيهَا تَفْرِيطٌ أَوْ عُدْوَانٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَحُقُوقِ عِبَادِهِ وَهِيَ فَسَادٌ وَظُلْمٌ، وَلَهَا سُمِّيَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ مُفْسِدِينَ، وَكَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ حَقًّا لِلَّهِ - تَعَالَى - لِاجْتِمَاعِ الْوَصْفَيْنِ، وَاَلَّذِي يُرِيدُ الْعُلُوَّ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ هُوَ ظَالِمٌ لَهُ بَاغٍ، إذْ لَيْسَ كَوْنُك عَالِيًا عَلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ كَوْنِهِ عَالِيًا عَلَيْك، وَكِلَاكُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَالْقِسْطُ وَالْعَدْلُ أَنْ يَكُونُوا إخْوَةً، كَمَا وَصَفَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، وَالتَّوْحِيدُ وَإِنْ كَانَ أَصْلَ الصَّلَاحِ فَهُوَ أَعْظَمُ الْعَدْلِ، وَلِهَذَا قَالَ - تَعَالَى -: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] .

وَلِهَذَا كَانَ تَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ فِي، مِثْلِ قَوْلِهِ: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29] . لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْقِسْطِ، كَمَا أَنَّ ذِكْرَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بَعْدَ الْإِيمَانِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْإِيمَانِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] . {مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ} [الأحزاب: 7] . هَذَا إذَا قِيلَ إنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ يَتَنَاوَلُهُ سَوَاءٌ، قِيلَ إنَّهُ فِي مِثْلِ هَذَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْأَوَّلِ. فَيَكُونُ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ، أَوْ قِيلَ: بَلْ عَطْفُهُ عَلَيْهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِيهِ هُنَا، وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِيهِ مُنْفَرِدًا، كَمَا قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي لَفْظِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا تَتَنَوَّعُ دَلَالَتُهُ بِالْأَفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ. لَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ كُلَّ خَيْرٍ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْقِسْطِ وَالْعَدْلِ، وَكُلَّ شَرٍّ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الظُّلْمِ، وَإِذَا كَانَ الْعَدْلُ أَمْرًا وَاجِبًا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَالظُّلْمُ مُحَرَّمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلِكُلِّ أَحَدٍ، فَلَا يَحِلُّ ظُلْمُ أَحَدٍ أَصْلًا سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا أَوْ كَانَ ظَالِمًا، بَلْ الظُّلْمُ إنَّمَا يُبَاحُ أَوْ يَجِبُ فِيهِ الْعَدْلُ عَلَيْهِ أَيْضًا. قَالَ - تَعَالَى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ} [المائدة: 8] أَيْ: يَحْمِلَنَّكُمْ شَنَآنُ، أَيْ بُغْضُ قَوْمٍ وَهُمْ الْكُفَّارُ عَلَى عَدَمِ الْعَدْلِ: {قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] .

وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا» ، فَإِنَّ هَذَا خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْعِبَادِ أَنْ لَا يَظْلِمَ أَحَدٌ أَحَدًا، وَأَمْرُ الْعَالِمِ فِي الشَّرِيعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا وَهُوَ الْعَدْلُ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَنْسَابِ وَالْأَعْرَاضِ، وَلِهَذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِالْقِصَاصِ فِي ذَلِكَ، وَمُقَابَلَةُ الْعَادِي بِمِثْلِ فِعْلِهِ، لَكِنَّ الْمُمَاثَلَةَ قَدْ يَكُونُ عِلْمُهَا أَوْ عَمَلُهَا مُتَعَذِّرًا وَمُتَعَسِّرًا، وَلِهَذَا يَكُونُ الْوَاجِبُ مَا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَيْهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَيُقَالُ هَذَا أَمْثَلُ وَهَذَا أَشْبَهُ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى، لَمَّا كَانَ أَمْثَلَ بِمَا هُوَ الْعَدْلُ، وَالْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إذْ ذَاكَ مَحْجُوزٌ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ - تَعَالَى -: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152] . فَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا حِينَ أَمَرَ بِتَوْفِيَةِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ بِالْقِسْطِ؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ أَحَدُ الْمَكِيلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَلَوْ بِحَبَّةٍ أَوْ حَبَّاتٍ، وَكَذَلِكَ التَّفَاضُلُ فِي الْمِيزَانِ قَدْ يَحْصُلُ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَقَالَ - تَعَالَى -: {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152] . وَلِهَذَا كَانَ الْقِصَاصُ مَشْرُوعًا إذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ جَنَفٍ، كَالِاقْتِصَاصِ فِي الْجُرُوحِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَى عَظْمٍ، وَفِي الْأَعْضَاءِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَى مَفْصِلٍ، فَإِذَا كَانَ الْجَنَفُ وَاقِعًا فِي الِاسْتِيفَاءِ، عُدِلَ إلَى بَدَلِهِ، وَهُوَ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْعَدْلِ مِنْ إتْلَافِ زِيَادَةٍ فِي الْمُقْتَصِّ مِنْهُ، وَهَذِهِ حُجَّةُ مَنْ رَأَى مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ فِي الْعُنُقِ، قَالَ: لِأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ السَّيْفِ وَفِي غَيْرِ الْعُنُقِ لَا نَعْلَمُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ التَّحْرِيقُ وَالتَّغْرِيقُ وَالتَّوْسِيطُ وَنَحْوُ ذَلِكَ أَشَدَّ إيلَامًا، لَكِنَّ الَّذِينَ قَالُوا: يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ قَوْلُهُمْ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ، فَإِنَّهُ مَعَ تَحَرِّي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ يَكُونُ الْعَبْدُ قَدْ فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدْلِ، وَمَا حَصَلَ مِنْ تَفَاوُتِ الْأَلَمِ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِ. وَأَمَّا إذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ وَسَطَهُ، فَقُوبِلَ ذَلِكَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ بِالسَّيْفِ، أَوْ رَضَّ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَضَرَبَ بِالسَّيْفِ، فَهُنَا قَدْ تَيَقَّنَّا عَدَمَ الْمُعَادَلَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ، وَكُنَّا قَدْ فَعَلْنَا مَا تَيَقَّنَّا انْتِفَاءَ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، وَأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ وُجُودُهَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْمُمَاثَلَةَ قَدْ تَقَعُ، إذْ التَّفَاوُتُ فِيهِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ.

وَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ فِي الضَّرْبَةِ وَاللَّطْمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، عَدَلَ عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى التَّعْزِيرِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ، مَا جَاءَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَالْمُمَاثَلَةِ. فَإِنَّا إذَا تَحَرَّيْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِهِ مِنْ جِنْسِ فِعْلِهِ، وَنُقَرِّبَ الْقَدْرَ مِنْ الْقَدْرِ، كَانَ هَذَا أَمْثَلَ مِنْ أَنْ نَأْتِيَ بِجِنْسٍ مِنْ الْعُقُوبَةِ تُخَالِفُ عُقُوبَتَهُ جِنْسًا وَقَدْرًا وَصِفَةً. وَهَذَا النَّظَرُ أَيْضًا فِي ضَمَانِ الْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِمِثْلِهِ تَقْرِيبًا أَوْ بِالْقِيمَةِ، كَمَا نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِ ضَمَانِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ. وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ خَرَّبَ حَائِطَ غَيْرِهِ أَنَّهُ يَبْنِيهِ كَمَا كَانَ، وَبِهَذَا قَضَى سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حُكُومَةِ الْحَرْثِ الَّتِي حَكَمَ فِيهَا هُوَ وَأَبُوهُ، كَمَا قَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. فَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَبْوَابِ الْمَقْصُودُ لِلشَّرِيعَةِ فِيهَا تَحَرِّي الْعَدْلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَهُوَ مَقْصُودُ الْعُلَمَاءِ. لَكِنْ أَفْهَمُهُمْ مَنْ قَالَ بِمَا هُوَ أَشْبَهُ بِالْعَدْلِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ قَدْ أُوتِيَ عِلْمًا وَحُكْمًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ بِهِ الرُّسُلَ. وَضِدُّهُ الظُّلْمُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: «يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا» . وَلَمَّا كَانَ الْعَدْلُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ عِلْمٌ. إذْ مَنْ لَا يَعْلَمُ لَا يَدْرِي مَا الْعَدْلُ. وَالْإِنْسَانُ ظَالِمٌ جَاهِلٌ إلَّا مَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَصَارَ عَالِمًا عَادِلًا. صَارَ النَّاسُ مِنْ الْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: الْعَالِمُ الْعَادِلُ، وَالْجَاهِلُ وَالظَّالِمُ. فَهَذَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ. رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ» . فَهَذَانِ الْقِسْمَانِ، كَمَا قَالَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَخْطَأَ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» .

فصل إحسان الله إلى عباده مع غناه عنهم

وَكُلُّ مَنْ حَكَمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَهُوَ قَاضٍ، سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبَ حَرْبٍ أَوْ مُتَوَلِّيَ دِيوَانٍ أَوْ مُنْتَصِبًا لِلِاحْتِسَابِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، حَتَّى الَّذِي يَحْكُمُ بَيْنَ الصِّبْيَانِ فِي الْخُطُوطِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَعُدُّونَهُ مِنْ الْحُكَّامِ، وَلَمَّا كَانَ الْحُكَّامُ مَأْمُورِينَ بِالْعَدْلِ بِالْعِلْمِ، وَكَانَ الْمَفْرُوضُ إنَّمَا هُوَ بِمَا يَبْلُغُهُ جَهْدُ الرَّجُلِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» . [فَصْلٌ إحْسَانُ اللَّه إلَى عِبَادِهِ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُمْ] فَصْلٌ: فَلَمَّا ذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ مَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْعَدْلِ، وَحَرَّمَهُ مِنْ الظُّلْمِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى عِبَادِهِ، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ إحْسَانَهُ إلَى عِبَادِهِ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُمْ، وَفَقْرِهِمْ إلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا دَفْعِ مَضَرَّةٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُيَسِّرَ لِذَلِكَ، وَأَمَرَ الْعِبَادَ أَنْ يَسْأَلُوهُ ذَلِكَ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَفْعِهِ وَلَا ضَرِّهِ مَعَ عِظَمِ مَا يُوصِلُ إلَيْهِمْ مِنْ النَّعْمَاءِ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ الْبَلَاءَ. وَجَلْبُ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الدِّينِ أَوْ فِي الدُّنْيَا، فَصَارَتْ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: الْهِدَايَةُ وَالْمَغْفِرَةُ، وَهُمَا جَلْبُ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ فِي الدِّينِ، وَالطَّعَامُ وَالْكِسْوَةُ وَهُمَا جَلْبُ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ شِئْت قُلْت: الْهِدَايَةُ وَالْمَغْفِرَةُ يَتَعَلَّقَانِ بِالْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مَلِكُ الْبَدَنِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْأَعْمَالِ الْإِرَادِيَّةِ. وَالطَّعَامُ وَالْكِسْوَةُ يَتَعَلَّقَانِ بِالْبَدَنِ. الطَّعَامُ لِجَلْبِ مَنْفَعَتِهِ وَاللِّبَاسُ لِدَفْعِ مَضَرَّتِهِ، وَفَتْحُ الْأَمْرِ بِالْهِدَايَةِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ الْهِدَايَةُ النَّافِعَةُ هِيَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالدِّينِ، فَكُلُّ أَعْمَالِ النَّاسِ تَابِعَةٌ لِهَدْيِ اللَّهِ إيَّاهُمْ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: 2] {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3] . وَقَالَ مُوسَى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] : وَقَالَ: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3] .

وَلِهَذَا قِيلَ: الْهُدَى أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: الْهِدَايَةُ إلَى مَصَالِحِ الدُّنْيَا، فَهَذَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ وَالْأَعْجَمِ، وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَالثَّانِي: الْهُدَى بِمَعْنَى دُعَاءِ الْخَلْقِ إلَى مَا يَنْفَعُهُمْ وَأَمْرُهُمْ بِذَلِكَ، وَهُوَ نَصْبُ الْأَدِلَّةِ، وَإِرْسَالُ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ، فَهَذَا أَيْضًا يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ سَوَاءٌ آمَنُوا أَوْ كَفَرُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] . فَهَذَا مَعَ قَوْلِهِ: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] . يُبَيِّنُ أَنَّ الْهُدَى الَّذِي أَثْبَتَهُ هُوَ الْبَيَانُ وَالدُّعَاءُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالتَّعْلِيمُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، لَيْسَ هُوَ الْهُدَى الَّذِي نَفَاهُ، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْهُدَى الَّذِي هُوَ جَعْلُ الْهُدَى فِي الْقُلُوبِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ بَعْضُهُمْ بِالْإِلْهَامِ وَالْإِرْشَادِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِيمَانِ، كَالتَّوْفِيقِ عِنْدَهُمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ، فَمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ، جَعَلَ التَّوْفِيقَ وَالْهُدَى وَنَحْوَ ذَلِكَ خَلْقَ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ. أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهُمَا اسْتِطَاعَتَانِ: إحْدَاهُمَا: قَبْلَ الْفِعْلِ، وَهِيَ الِاسْتِطَاعَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي التَّعْكِيفِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» . وَهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ يَقْتَرِنُ بِهَا الْفِعْلُ تَارَةً، وَالتَّرْكُ أُخْرَى، وَهِيَ الِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي لَمْ تَعْرِفْ الْقَدَرِيَّةُ غَيْرَهَا، كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ لَمْ

يَعْرِفُوا إلَّا الْمُقَارِنَةَ. وَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ، وَالْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِثْبَاتُ النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا، كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ وَالْعَقْلِيَّةَ تُثْبِتُ النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا. وَالثَّانِيَةُ: الْمُقَارِنَةُ لِلْفِعْلِ، وَهِيَ الْمُوجِبَةُ لَهُ، وَهِيَ الْمَنْفِيَّةُ عَمَّنْ لَمْ يَفْعَلْ، فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20] . وَفِي قَوْلِهِ: {لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 101] . وَهَذَا الْهُدَى الَّذِي يَكْثُرُ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] . وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125] . وَفِي قَوْلِهِ: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17] . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تُنْكِرُ الْقَدَرِيَّةُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الْفَاعِلَ لَهُ. وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي يَهْدِي نَفْسَهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ وَأَمْثَالُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ حَيْثُ قَالَ: «يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ» . فَأَمَرَ الْعِبَادَ بِأَنْ يَسْأَلُوهُ الْهِدَايَةَ، كَمَا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] . وَعِنْدَ الْقَدَرِيَّةِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ مِنْ الْهُدَى إلَّا عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ، وَنَصْبِ الْأَدِلَّةِ، وَإِرَاحَةِ الْعِلَّةِ، وَلَا مَزِيَّةَ عِنْدَهُمْ لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ فِي هِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا نِعْمَةَ لَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَى الْكَافِرِ فِي بَابِ الْهُدَى. وَقَدْ بَيَّنَ الِاخْتِصَاصَ فِي هَذِهِ بَعْدَ عُمُومِ الدَّعْوَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] . فَقَدْ جَمَعَ الْحَدِيثُ تَنْزِيهَهُ عَنْ

الظُّلْمِ الَّذِي يُجَوِّزُهُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُثْبِتَةِ، وَبَيَانُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَهْدِي عِبَادَهُ رَدًّا عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، فَأَخْبَرَ هُنَاكَ بِعَدْلِهِ الَّذِي يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْمُثْبِتَةِ، وَأَخْبَرَ هُنَا بِإِحْسَانِهِ وَقُدْرَتِهِ الَّذِي تُنْكِرُهُ الْقَدَرِيَّةُ. وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَصْدُهُ تَعْظِيمًا لَا يَعْرِفُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: الْهُدَى فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24] . وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9] . فَقَوْلُهُ: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9] . كَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] . عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْآيَةِ. وَهَذَا الْهُدَى ثَوَابُ الِاهْتِدَاءِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ ضَلَالَ الْآخِرَةِ جَزَاءُ ضَلَالِ الدُّنْيَا، وَكَمَا أَنَّ قَصْدَ الشَّرِّ فِي الدُّنْيَا جَزَاؤُهُ الْهُدَى إلَى طَرِيقِ النَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ - مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 22 - 23] . وَقَالَ: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا} [الإسراء: 72] . وَقَالَ: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا} [الإسراء: 72] {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} [طه: 125] {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126] . وَقَالَ: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97] .

فَأَخْبَرَ أَنَّ الضَّالِّينَ فِي الدُّنْيَا يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا، فَإِنَّ الْجَزَاءَ أَبَدًا مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» . وَقَالَ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ لَهُ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» . وَقَالَ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] . وَقَالَ: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149] . وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَلِهَذَا أَيْضًا يُجْزَى الرَّجُلُ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ خَيْرِ الْهُدَى بِمَا يُفْتَحُ عَلَيْهِ مِنْ هُدًى آخَرَ. وَلِهَذَا قِيلَ: مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] ، إلَى قَوْلِهِ: {مُسْتَقِيمًا} [النساء: 68] . وَقَالَ: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة: 16] . وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الحديد: 28] . وَقَالَ: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] . فَسَّرُوهُ بِالنَّصْرِ وَالنَّجَاةِ، كَقَوْلِهِ: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال: 41]

وَقَدْ قِيلَ نُورٌ يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] . وَعَدَ الْمُتَّقِينَ بِالْمَخَارِجِ مِنْ الضِّيقِ وَبِرِزْقِ الْمَنَافِعِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] . وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] . وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا - لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 1 - 2] {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 3] . وَبِإِزَاءِ ذَلِكَ أَنَّ الضَّلَالَ وَالْمَعَاصِيَ تَكُونُ بِسَبَبِ الذُّنُوبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] . وَقَالَ: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155] . وَقَالَ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13] . وَقَالَ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] إلَى قَوْلِهِ: {لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109] ، إلَى قَوْلِهِ: {يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110] وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: إنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ بَعْدَهَا، وَإِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ بَعْدَهَا. وَقَدْ شَاعَ فِي لِسَانِ الْعَامَّةِ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] مِنْ الْبَابِ الْأَوَّلِ، حَيْثُ يَسْتَدِلُّونَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى سَبَبُ تَعْلِيمِ اللَّهِ، وَأَكْثَرُ الْفُضَلَاءِ يَطْعَنُونَ فِي هَذِهِ الدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْبِطْ الْفِعْلَ الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ رَبْطَ الْجَزَاءِ

فصل التوكل على الله في الرزق المتضمن جلب المنفعة

بِالشَّرْطِ، فَلَمْ يَقُلْ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمْكُمْ، وَلَا قَالَ: فَيُعَلِّمْكُمْ، وَإِنَّمَا أَتَى بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَلَيْسَ مِنْ الْعَطْفِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَوَّلَ سَبَبُ الثَّانِي. وَقَدْ يُقَالُ: الْعَطْفُ قَدْ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الِاقْتِرَانِ وَالتَّلَازُمِ، كَمَا يُقَالُ زُرْنِي وَأَزُورُك، وَسَلِّمْ عَلَيْنَا وَنُسَلِّمْ عَلَيْك، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي اقْتِرَانَ الْفِعْلَيْنِ، وَالتَّعَاوُضُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لِسَيِّدِهِ اعْتِقْنِي وَلَك عَلَيَّ أَلْفٌ، أَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: طَلِّقْنِي وَلَك أَلْفٌ. أَوْ: اخْلَعْنِي وَلَك أَلْفٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهَا: بِأَلْفٍ، أَوْ عَلَى أَلْفٍ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْك أَلْفٌ، أَوْ: أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْك أَلْفٌ، فَإِنَّهُ كَقَوْلِهِ: عَلَى أَلْفٍ، أَوْ: بِأَلْفٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قَوْلٌ شَاذٌّ، وَيَقُولُ أَحَدُ الْمُتَعَاوِضَيْنِ لِلْآخَرِ: أُعْطِيك هَذَا وَآخُذُ هَذَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ، فَيَقُولُ الْآخَرُ: نَعَمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا هُوَ السَّبَبَ لِلْآخَرِ دُونَ الْعَكْسِ. فَقَوْلُهُ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] ، قَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَكُلٌّ مِنْ تَعْلِيمِ الرَّبِّ، وَتَقْوَى الْعَبْدِ يُقَارِبُ الْآخَرَ وَيُلَازِمُهُ وَيَقْتَضِيهِ، فَمَتَى عَلَّمَهُ اللَّهُ الْعِلْمَ النَّافِعَ اقْتَرَنَ بِهِ التَّقْوَى بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَمَتَى اتَّقَاهُ زَادَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَهَلُمَّ جَرًّا. [فَصْلٌ التَّوَكُّل عَلَى اللَّهِ فِي الرِّزْقِ الْمُتَضَمِّن جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ] فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: «يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، وَكُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ» فَيَقْتَضِي أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ: أَحَدُهُمَا. وُجُوبُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي الرِّزْقِ الْمُتَضَمِّنِ جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ، كَالطَّعَامِ، وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ كَاللِّبَاسِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ غَيْرُ اللَّهِ عَلَى الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ قُدْرَةً مُطْلَقَةً. وَإِنَّمَا الْقُدْرَةُ الَّتِي تَحْصُلُ لِبَعْضِ الْعِبَادِ تَكُونُ عَلَى بَعْضِ أَسْبَابِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . وَقَالَ: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] . فَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْمَقْدُورُ لِلْعِبَادِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 14] {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 15] {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16]

وَقَوْلُهُ: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] . وَقَوْلُهُ: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] . وَقَالَ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47] . فَذَمَّ مَنْ يَتْرُكُ الْمَأْمُورَ بِهِ اكْتِفَاءً بِمَا يَجْرِي بِهِ الْقَدَرُ. وَمِنْ هُنَا يُعْرَفُ أَنَّ السَّبَبَ الْمَأْمُورَ بِهِ، أَوْ الْمُبَاحَ لَا يُنَافِي وُجُوبَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي وُجُودِ السَّبَبِ، بَلْ الْحَاجَةُ وَالْفَقْرُ إلَى اللَّهِ ثَابِتَةٌ مَعَ فِعْلِ السَّبَبِ. إذْ لَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ وَحْدَهُ سَبَبٌ تَامٌّ لِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ. وَلِهَذَا لَا يَجِبُ أَنْ تَقْتَرِنَ الْحَوَادِثُ بِمَا قَدْ يُجْعَلُ سَبَبًا إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. فَمَنْ ظَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ بِالسَّبَبِ عَنْ التَّوَكُّلِ فَقَدْ تَرَكَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ التَّوَكُّلِ، وَأَخَلَّ بِوَاجِبِ التَّوْحِيدِ، وَلِهَذَا يُخْذَلُ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ إذَا اعْتَمَدُوا عَلَى الْأَسْبَابِ، فَمَنْ رَجَا نَصْرًا أَوْ رِزْقًا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ خَذَلَهُ اللَّهُ، كَمَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ، وَلَا يَخَافَنَّ إلَّا ذَنْبَهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [يونس: 107] . وَقَالَ: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] . وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنْ أَخَذَ يَدْخُلُ فِي التَّوَكُّلِ تَارِكًا لِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ فَهُوَ أَيْضًا

جَاهِلٌ ظَالِمٌ عَاصٍ لِلَّهِ يَتْرُكُ مَا أَمَرَهُ، فَإِنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ عِبَادَةٌ لِلَّهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] . وَقَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . وَقَالَ: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30] . وَقَالَ شُعَيْبٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] . وَقَالَ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10] . وَقَالَ: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4] . فَلَيْسَ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا أُمِرَ بِهِ، وَتَرَكَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ التَّوَكُّلِ بِأَعْظَمَ ذَنْبًا مِمَّنْ فَعَلَ تَوَكُّلًا أُمِرَ بِهِ وَتَرَكَ فِعْلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ السَّبَبِ، إذْ كِلَاهُمَا مُخِلٌّ بِبَعْضِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَهُمَا مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي جِنْسِ الذَّنْبِ فَقَدْ يَكُونُ هَذَا أَلْوَمَ. وَقَدْ يَكُونُ الْآخَرُ، مَعَ أَنَّ التَّوَكُّلَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ: حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، لَكِنْ عَلَيْك بِالْكَيْسِ، فَإِنْ غَلَبَك أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، فَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ لَكَانَ كَذَا

وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» . فَفِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ» . أَمْرٌ بِالتَّسَبُّبِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ الْحِرْصُ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَأَمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِالتَّوَكُّلِ وَهُوَ الِاسْتِعَانَةُ بِاَللَّهِ، فَمَنْ اكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا فَقَدْ عَصَى أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، وَنَهَى عَنْ الْعَجْزِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْكَيْسِ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْك بِالْكَيْسِ» . وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الشَّامِيِّ: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ» . فَالْعَاجِزُ فِي الْحَدِيثِ مُقَابِلُ الْكَيِّسِ، وَمَنْ قَالَ: الْعَاجِزُ الَّذِي هُوَ مُقَابِلُ الْبَرِّ، فَقَدْ حَرَّفَ الْحَدِيثَ وَلَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ» . وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ، يَقُولُونَ نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ فَإِذَا قَدِمُوا سَأَلُوا النَّاسَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] . فَمَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ التَّزَوُّدِ فَاسْتَعَانَ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَأَحْسَنَ مِنْهُ إلَى مَنْ يَكُونُ مُحْتَاجًا، كَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، بِخِلَافِ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ مُلْتَفِتًا إلَى أَزْوَادِ الْحَجِيجِ كَلًّا عَلَى النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ هَذَا قَلْبُهُ غَيْرُ مُلْتَفِتٍ إلَى مُعِينٍ، فَهُوَ مُلْتَفِتٌ إلَى الْجُمْلَةِ، لَكِنْ إنْ كَانَ الْمُتَزَوِّدُ غَيْرَ قَائِمٍ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَمُوَاسَاةِ الْمُحْتَاجِ، فَقَدْ يَكُونُ فِي تَرْكِهِ لِمَا أُمِرَ بِهِ، مِنْ جِنْسِ هَذَا التَّارِكِ لِلتَّزَوُّدِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَفِي هَذِهِ النُّصُوصِ بَيَانُ غَلَطِ طَوَائِفَ: فَطَائِفَةٌ تُضَعِّفُ أَمْرَ السَّبَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَتَعُدُّهُ نَقْصًا، وَقَدْحًا فِي التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ، وَأَنَّ تَرْكَهُ مِنْ كَمَالِ التَّوَكُّلِ وَالتَّوْحِيدِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ مَلْبُوسٌ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ يَقْتَرِنُ بِالْغَلَطِ اتِّبَاعُ الْهَوَى فِي إخْلَادِ النَّفْسِ إلَى الْبَطَالَةِ، وَلِهَذَا تَجِدُ عَامَّةَ هَذَا الضَّرْبِ التَّارِكِينَ لِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ يَتَعَلَّقُونَ بِأَسْبَابٍ دُونَ

ذَلِكَ. فَإِمَّا أَنْ يُعَلِّقُوا قُلُوبَهُمْ بِالْخَلْقِ رَغْبَةً وَرَهْبَةً، وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكُوا لِأَجْلِ مَا تَبَتَّلُوا لَهُ مِنْ الْغُلُوِّ فِي التَّوَكُّلِ وَاجِبَاتٍ أَوْ مُسْتَحَبَّاتٍ أَنْفَعَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، كَمَنْ يَصْرِفُ هِمَّتَهُ فِي تَوَكُّلِهِ إلَى شِفَاءِ مَرَضِهِ بِلَا دَوَاءٍ، أَوْ نَيْلِ رِزْقِهِ بِلَا سَعْيٍ، فَقَدْ يَحْصُلُ ذَلِكَ، لَكِنْ كَانَ مُبَاشَرَةُ الدَّوَاءِ الْخَفِيفِ وَالسَّعْيِ الْيَسِيرِ، وَصَرْفُ تِلْكَ الْهِمَّةِ، وَالتَّوَجُّهُ فِي عِلْمٍ صَالِحٍ أَنْفَعَ لَهُ، بَلْ قَدْ يَكُونُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ مِنْ تَبَتُّلِهِ لِهَذَا الْأَمْرِ الْيَسِيرِ الَّذِي قَدْرُهُ دِرْهَمٌ، أَوْ نَحْوُهُ، وَفَوْقَ هَؤُلَاءِ مَنْ يَجْعَلُ التَّوَكُّلَ وَالدُّعَاءَ أَيْضًا نَقْصًا وَانْقِطَاعًا عَنْ الْخَاصَّةِ، ظَنًّا أَنَّ مُلَاحَظَةَ مَا فُرِّعَ مِنْهُ فِي الْقَدْرِ هُوَ حَالُ الْخَاصَّةِ. وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: «كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ» . وَقَالَ: «فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ» . وَفِي الطَّبَرَانِيِّ، أَوْ غَيْرِهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: «لِيَسْأَلَ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى شِسْعَ نَعْلِهِ إذَا انْقَطَعَ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ» . وَهَذَا قَدْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ أَيْضًا اسْتِهْدَاءَ اللَّهِ وَعَمَلَهُ بِطَاعَتِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُمْ يُوجِبُ دَفْعَ الْمَأْمُورِ بِهِ مُطْلَقًا، بَلْ دَفْعُ الْمَخْلُوقِ وَالْمَأْمُورِ. وَإِنَّمَا غَلِطُوا مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا سَبْقَ التَّقْدِيرِ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ بِالسَّبَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ، كَمَنْ يَتَزَنْدَقُ فَيَتْرُكُ الْأَعْمَالَ الْوَاجِبَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَدَرَ قَدْ سَبَقَ بِأَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَلَمْ يَعْلَمْ: أَنَّ الْقَدَرَ سَبَقَ بِالْأُمُورِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَمَنْ قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ كَانَ مِمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ يَتَيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ قَدَّرَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ كَانَ مِمَّا قَدَّرَهُ أَنَّهُ يُيَسِّرُهُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ، كَمَا قَدْ أَجَابَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فِي حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَسُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ وَغَيْرِهِمْ. وَمِنْهُ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي خُزَامَةَ، عَنْ أَبِيهِ، «قَالَ: سَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا، وَرُقًى نَسْتَرْقِي بِهَا، وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا، تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ . فَقَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ» . وَطَائِفَةٌ تَظُنُّ أَنَّ التَّوَكُّلَ إنَّمَا هُوَ مِنْ مَقَامَاتِ الْخَاصَّةِ الْمُتَقَرِّبِينَ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ،

فصل المغفرة العامة لجميع الذنوب نوعان

كَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَتَوَابِعِهَا كَالْحُبِّ، وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَالشُّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا ضَلَالٌ مُبِينٌ، بَلْ جَمِيعُ هَذِهِ الْأُمُورِ فُرُوضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمَنْ تَرَكَهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَهُوَ إمَّا كَافِرٌ وَإِمَّا مُنَافِقٌ، لَكِنَّ النَّاسَ هُمْ فِيهَا كَمَا هُمْ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ، وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ طَافِحَةٌ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ الْمُعْرِضُونَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عِلْمًا وَعَمَلًا بِأَقَلَّ لَوْمًا مِنْ التَّارِكِينَ لِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ أَعْمَالٍ ظَاهِرَةٍ مَعَ تَلَبُّسِهِمْ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، بَلْ اسْتِحْقَاقُ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ يَتَوَجَّهُ إلَى مَنْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ مِنْ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، إنْ كَانَتْ الْأُمُورُ الْبَاطِنَةُ مُبْتَدَأَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ وَأُصُولَهَا، وَالْأُمُورُ الظَّاهِرَةُ كَمَالَهَا وَفُرُوعَهَا الَّتِي لَا تَتِمُّ إلَّا بِهَا. [فَصْلٌ الْمَغْفِرَةُ الْعَامَّةُ لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ نَوْعَانِ] فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: «يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَلَا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ» . فَالْمَغْفِرَةُ الْعَامَّةُ لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمَغْفِرَةُ لِمَنْ تَابَ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] . إلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر: 54] . فَهَذَا السِّيَاقُ مَعَ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَيْأَسُ مُذْنِبٌ مِنْ مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ مَا كَانَتْ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ لِعَبْدِهِ التَّائِبِ، وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا الْعُمُومِ الشِّرْكُ وَغَيْرُهُ مِنْ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ ذَلِكَ لِمَنْ تَابَ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] إلَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] . وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] . وَقَالَ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73] ، إلَى قَوْلِهِ: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 74] .

وَهَذَا الْقَوْلُ الْجَامِعُ بِالْمَغْفِرَةِ لِكُلِّ ذَنْبٍ لِلتَّائِبِ مِنْهُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ، هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْتَثْنِي بَعْضَ الذُّنُوبِ، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إنَّ تَوْبَةَ الدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدَعِ لَا تُقْبَلُ بَاطِنًا لِلْحَدِيثِ الْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي فِيهِ: " فَكَيْفَ مَنْ أَضْلَلْت "، وَهَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَنَّهُ يَتُوبُ عَلَى أَئِمَّةِ الْكُفْرِ الَّذِينَ هُمْ أَعْظَمُ مِنْ أَئِمَّةِ الْبِدَعِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10] . قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: " اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الْكَرَمِ عَذَّبُوا أَوْلِيَاءَهُ وَفَتَنُوهُمْ ثُمَّ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى التَّوْبَةِ " وَكَذَلِكَ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ وَنَحْوِهِ. وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، فِي الَّذِي قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مَا يُنَافِي ذَلِكَ، وَلَا نُصُوصُ الْوَعِيدِ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ بِمُنَافِيَةٍ لِنُصُوصِ قَوْلِ التَّوْبَةِ، فَلَيْسَتْ آيَةُ الْفُرْقَانِ بِمَنْسُوخَةٍ بِآيَةِ النِّسَاءِ إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ يَقِينًا أَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ فِيهِ وَعِيدٌ، فَإِنَّ لُحُوقَ الْوَعِيدِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ، إذْ نُصُوصُ التَّوْبَةِ مُبَيِّنَةٌ لِتِلْكَ النُّصُوصِ، كَالْوَعِيدِ فِي الشِّرْكِ، وَأَكْلِ الرِّبَا وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَالسِّحْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الذُّنُوبِ. وَمَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ تَوْبَتُهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ الَّتِي تُلَائِمُ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ التَّوْبَةَ الْمُجَرَّدَةَ تُسْقِطُ حَقَّ اللَّهِ مِنْ الْعِقَابِ، وَأَمَّا حَقُّ الْمَظْلُومِ فَلَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ، وَهَذَا حَقٌّ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَسَائِرِ الظَّالِمِينَ. فَمَنْ تَابَ مِنْ ظُلْمٍ لَمْ يَسْقُطْ بِتَوْبَتِهِ حَقُّ الْمَظْلُومِ، لَكِنْ مِنْ تَمَامِ تَوْبَتِهِ أَنْ يُعَوِّضَهُ بِمِثْلِ مَظْلِمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَوِّضْهُ فِي الدُّنْيَا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْعِوَضِ فِي الْآخِرَةِ، فَيَنْبَغِي لِلظَّالِمِ التَّائِبِ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ الْحَسَنَاتِ حَتَّى إذَا اسْتَوْفَى الْمَظْلُومُونَ حُقُوقَهُمْ لَمْ يَبْقَ مُفْلِسًا. وَمَعَ هَذَا فَإِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُعَوِّضَ الْمَظْلُومَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ، كَمَا إذَا شَاءَ أَنْ يَغْفِرَ مَا دُونَ الشِّرْكِ لِمَنْ يَشَاءُ. وَلِهَذَا فِي حَدِيثِ الْقِصَاصِ الَّذِي رَكِبَ فِيهِ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ شَهْرًا حَتَّى شَافَهَهُ بِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ،

وَهُوَ مِنْ جِنْسِ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ. صِحَاحِهِ أَوْ حِسَانِهِ قَالَ فِيهِ: «إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الْخَلَائِقَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمْ الْبَصَرُ ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قِبَلَهُ مَظْلَمَةٌ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ» . فَبَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الْعَدْلَ وَالْقِصَاصَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: «أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إذَا عَبَرُوا الصِّرَاطَ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ. فَإِذَا هُذِّبُوا وَنَقَوْا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ» . وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12] ، وَالِاغْتِيَابُ مِنْ ظُلْمِ الْأَعْرَاضِ، قَالَ: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12] . فَقَدْ نَبَّهَهُمْ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ الِاغْتِيَابِ وَهُوَ مِنْ الظُّلْمِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ لِأَخِيهِ مَظْلَمَةٌ فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ فَلْيَأْتِهِ فَلْيَسْتَحِلَّ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَيْسَ فِيهِ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ إلَّا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فَإِنْ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ وَإِلَّا أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ يُلْقَى فِي النَّارِ» أَوْ كَمَا قَالَ. وَهَذَا فِيمَا عَلِمَهُ الْمَظْلُومُ مِنْ الْعِوَضِ، فَأَمَّا إذَا اغْتَابَهُ أَوْ قَذَفَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ، فَقَدْ قِيلَ: مِنْ شَرْطِ تَوْبَتِهِ إعْلَامُهُ، وَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. لَكِنَّ قَوْلَهُ مِثْلُ هَذَا أَنْ يَفْعَلَ مَعَ الْمَظْلُومِ حَسَنَاتٍ، كَالدُّعَاءِ لَهُ، وَالِاسْتِغْفَارِ وَعَمَلِ صَالِحٍ يَهْدِي إلَيْهِ يَقُومُ مَقَامَ اغْتِيَابِهِ وَقَذْفِهِ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: " كَفَّارَةُ الْغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْته ".

وَأَمَّا الذُّنُوبُ الَّتِي يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ فِيهَا نَفْيَ قَبُولِ التَّوْبَةِ، مِثْلُ قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ: لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ وَهُوَ الْمُنَافِقُ. وَقَوْلُهُمْ: إذَا تَابَ الْمُحَارِبُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ تَسْقُطُ عَنْهُ حُدُودُ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرِهِمْ فِي سَائِرِ الْجَرَائِمِ، كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَقَوْلُهُمْ فِي هَؤُلَاءِ إذَا تَابُوا بَعْدَ الرَّفْعِ إلَى الْإِمَامِ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ، فَهَذَا إنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ رَفْعَ الْعُقُوبَةِ الْمَشْرُوعَةِ عَنْهُمْ، أَيْ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ بِحَيْثُ يُخَلَّى بِلَا عُقُوبَةٍ، بَلْ يُعَاقَبُ، إمَّا لِأَنَّ تَوْبَتَهُ غَيْرُ مَعْلُومَةِ الصِّحَّةِ، بَلْ يُظَنُّ بِهِ الْكَذِبُ فِيهَا، وَإِمَّا لِأَنَّ رَفْعَ الْعُقُوبَةِ بِذَلِكَ يُفْضِي إلَى انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ وَسَدِّ بَابِ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْجَرَائِمِ، وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَابَ مِنْ هَؤُلَاءِ تَوْبَةً صَحِيحَةً فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ فِي الْبَاطِنِ، إذْ لَيْسَ هَذَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ. بَلْ هَذِهِ التَّوْبَةُ لَا تَمْنَعُ إلَّا إذَا عَايَنَ أَمْرَ الْآخِرَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17] {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18] الْآيَةَ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: سَأَلْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا لِي: " كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَكُلُّ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ ". وَأَمَّا مَنْ تَابَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَوْتِ، فَهَذَا كَفِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ: أَنَا اللَّهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ اللَّهُ: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] . وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ، بَيَّنَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ لَيْسَتْ هِيَ التَّوْبَةُ الْمَقْبُولَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا، فَإِنَّ اسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِ إمَّا بِمَعْنَى النَّفْيِ إذَا قَابَلَ الْإِخْبَارَ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الذَّمِّ وَالنَّهْيِ إذَا قَابَلَ الْإِنْشَاءَ، وَهَذَا مِنْ هَذَا، وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83] {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ - فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 84 - 85] ، الْآيَةَ. بَيَّنَ أَنَّ التَّوْبَةَ بَعْدَ

رُؤْيَةِ الْبَأْسِ لَا تَنْفَعُ، وَأَنَّ هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ كَفِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» ، وَرُوِيَ: «مَا لَمْ يُعَايِنْ» . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَضَ عَلَى عَمِّهِ التَّوْحِيدَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَقَدْ عَادَ يَهُودِيًّا كَانَ يَخْدُمُهُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ. فَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنْ النَّارِ ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: آوُوا أَخَاكُمْ» . وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ الْعَامَّةَ فِي الزُّمَرِ هِيَ لِلتَّائِبِينَ، أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . فَقَيَّدَ الْمَغْفِرَةَ بِمَا دُونَ الشِّرْكِ، وَعَلَّقَهَا عَلَى الْمَشِيئَةِ، وَهُنَاكَ أَطْلَقَ وَعَمَّمَ، فَدَلَّ هَذَا التَّقْيِيدُ وَالتَّعْلِيقُ عَلَى أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِ التَّائِبِ، وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ أَهْلُ السُّنَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الْمَغْفِرَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي الْجُمْلَةِ خِلَافًا لِمَنْ أَوْجَبَ نُفُوذَ الْوَعِيدِ بِهِمْ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُخَالِفُونَ لَهُمْ قَدْ أَسْرَفَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ الْمُرْجِئَةِ حَتَّى تَوَقَّفُوا فِي لُحُوقِ الْوَعِيدِ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، كَمَا يُذْكَرُ عَنْ غُلَاتِهِمْ أَنَّهُمْ نَفَوْهُ مُطْلَقًا، وَدِينُ اللَّهِ وَسَطٌ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ، وَالْجَافِي عَنْهُ، نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعَ اتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مُتَطَابِقَةٌ عَلَى أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ يُعَذَّبُ، وَأَنَّهُ لَا يَبْقَى فِي النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ الْمَغْفِرَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: «يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا» . الْمَغْفِرَةُ بِمَعْنَى تَخْفِيفِ الْعَذَابِ، أَوْ بِمَعْنَى تَأْخِيرِهِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَهَذَا عَامٌّ مُطْلَقًا، وَلِهَذَا شَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَبِي طَالِبٍ مَعَ مَوْتِهِ عَلَى الشِّرْكِ، فَنُقِلَ مِنْ غَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ حَتَّى جُعِلَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ فِي قَدَمَيْهِ نَعْلَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ. قَالَ: «وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ»

وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى دَلَّ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] ، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61] ، {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] . فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي» ، فَإِنَّهُ هُوَ بَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ فِيمَا يَحْسُنُ بِهِ إلَيْهِمْ مِنْ إجَابَةِ الدَّعَوَاتِ، وَغُفْرَانِ الزَّلَّاتِ، بِالْمُسْتَعِيضِ بِذَلِكَ مِنْهُمْ جَلْبَ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعَ مَضَرَّةٍ، كَمَا هِيَ عَادَةُ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يُعْطِي غَيْرَهُ نَفْعًا لِيُكَافِئَهُ عَلَيْهِ بِنَفْعٍ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ ضَرَرًا لِيَنْفِيَ بِذَلِكَ ضَرَرَهُ، فَقَالَ: «إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي» . فَلَسْت إذًا أَجُسُّكُمْ بِهِدَايَةِ الْمُسْتَهْدِي وَكِفَايَةِ الْمُسْتَكْفِي الْمُسْتَطْعِمِ وَالْمُسْتَكْسِي، بِاَلَّذِي أَطْلُبُ أَنْ تَنْفَعُونِي، وَلَا أَنَا إذَا غَفَرْت خَطَايَاكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَتَّقِي بِذَلِكَ أَنْ تَضُرُّونِي، فَإِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، إذْ هُمْ عَاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ، بَلْ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْفِعْلِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ إلَّا بِتَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ، فَكَيْفَ بِمَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ بِالْغَنِيِّ الصَّمَدِ الَّذِي يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَحِقَّ مِنْ غَيْرِهِ نَفْعًا أَوْ ضَرًّا. وَهَذَا الْكَلَامُ كَمَا بَيَّنَ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ بِهِمْ مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَبْلُغُوا أَنْ يَفْعَلُوا بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ أَنَّ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ الطَّاعَاتِ، وَمَا يَنْهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ اسْتِجْلَابَ نَفْعِهِمْ، كَمَا أَمَرَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ أَوْ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَالْأَمِيرِ لِرَعِيَّتِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَا دَفْعَ مَضَرَّتِهِمْ، كَنَهْيِ هَؤُلَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ لِبَعْضِ النَّاسِ عَنْ مَضَرَّتِهِمْ، فَإِنَّ الْمَخْلُوقِينَ يَبْلُغُ بَعْضُهُمْ نَفْعَ بَعْضٍ، وَمَضَرَّةَ بَعْضٍ، وَكَانُوا فِي أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ قَدْ يَكُونُونَ كَذَلِكَ، وَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ مُقَدَّسٌ عَنْ ذَلِكَ. فَبَيَّنَ تَنْزِيهَهُ عَنْ لُحُوقِ نَفْعِهِمْ وَضَرِّهِمْ فِي إحْسَانِهِ إلَيْهِمْ بِمَا يَكُونُ مِنْ أَفْعَالِهِ بِهِمْ وَأَوَامِرِهِ لَهُمْ، قَالَ قَتَادَةُ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ الْعِبَادَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِمْ، وَلَا نَهَاهُمْ

فصل بر الناس وفجورهم لا يزيد في ملك الله ولا ينقص

عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ بُخْلًا بِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أَمَرَهُمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ، وَنَهَاهُمْ عَمَّا فِيهِ فَسَادُهُمْ. [فَصْلٌ بِرُّ النَّاس وَفُجُورهُمْ لَا يَزِيدُ فِي مُلْكِ اللَّه وَلَا يُنْقِصُ] فَصْلٌ: وَلِهَذَا ذَكَرَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ بَعْدَ هَذَا، فَذَكَرَ أَنَّ بِرَّهُمْ وَفُجُورَهُمْ الَّذِي هُوَ طَاعَتُهُمْ وَمَعْصِيَتُهُمْ لَا يَزِيدُ فِي مُلْكِهِ وَلَا يُنْقِصُ، وَأَنَّ إعْطَاءَهُ إيَّاهُمْ غَايَةَ مَا يَسْأَلُونَهُ نِسْبَتُهُ إلَى مَا عِنْدَهُ أَدْنَى نِسْبَةً، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَزْدَادُ مُلْكُهُ بِطَاعَةِ الرَّعِيَّةِ، وَيَنْقُصُ مُلْكُهُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَإِذَا أَعْطَى النَّاسَ مَا يَسْأَلُونَهُ أَنْفَدَ مَا عِنْدَهُ وَلَمْ يُغْنِهِمْ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَبْلُغُونَ مَضَرَّتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ، وَهُوَ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ إحْسَانٍ وَعَفْوٍ وَأَمْرٍ وَنَهْيٍ، لِرَجَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَخَوْفِ الْمَضَرَّةِ. فَقَالَ: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا» . إذْ مُلْكُهُ وَهُوَ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّصَرُّفِ. فَلَا تَزْدَادُ بِطَاعَتِهِمْ وَلَا تَنْقُصُ بِمَعْصِيَتِهِمْ كَمَا تَزْدَادُ قُدْرَةُ الْمُلُوكِ بِكَثْرَةِ الْمُطِيعِينَ لَهُمْ، وَتَنْقُصُ بِقِلَّةِ الْمُطِيعِينَ لَهُمْ، فَإِنَّ مُلْكَهُ مُتَعَلِّقٌ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، وَهُوَ الَّذِي يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَالْمُلْكُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ، وَيُرَادُ بِهِ نَفْسُ التَّدْبِيرِ وَالتَّصَرُّفُ، وَيُرَادُ بِهِ الْمَمْلُوكُ نَفْسُهُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ التَّدْبِيرِ، وَيُرَادُ بِهِ ذَلِكَ كُلُّهُ. وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَيْسَ بِرُّ الْأَبْرَارِ وَفُجُورُ الْفُجَّارِ، مُوجِبًا لِزِيَادَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا نَقْصِهِ، بَلْ هُوَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، فَلَوْ شَاءَ أَنْ يَخْلُقَ مَعَ فُجُورِ الْفُجَّارِ مَا شَاءَ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ، كَمَا يَمْنَعُ الْمُلُوكَ فُجُورُ رَعَايَاهُمْ الَّتِي تُعَارِضُ أَوَامِرَهُمْ عَمَّا يَخْتَارُونَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ لَا يَخْلُقَ مَعَ بِرِّ الْأَبْرَارِ شَيْئًا مِمَّا خَلَقَهُ لَمْ يَكُنْ بِرُّهُمْ مُحْوِجًا لَهُ إلَى ذَلِكَ وَلَا مُعِينًا لَهُ، كَمَا يَحْتَاجُ الْمُلُوكُ وَيَسْتَعِينُونَ بِكَثْرَةِ الرَّعَايَا الْمُطِيعِينَ. [فَصْلٌ سُؤَال الْخَلَائِق جَمِيعهمْ لِلَّهِ فِي مَكَان وَزَمَان وَاحِد] فَصْلٌ: ثُمَّ ذَكَرَ حَالَهُمْ فِي النَّوْعَيْنِ سُؤَالُ بِرِّهِ وَطَاعَةِ أَمْرِهِ، الَّذِينَ ذَكَرَهُمَا فِي الْحَدِيثِ، حَيْثُ ذَكَرَ الِاسْتِهْدَاءَ وَالِاسْتِطْعَامَ وَالِاسْتِكْسَاءَ، وَذَكَرَ الْغُفْرَانَ وَالْبِرَّ وَالْفُجُورَ، فَقَالَ: «لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يُنْقِصُ

الْمِخْيَطُ إذَا دَخَلَ الْبَحْرَ» . وَالْخِيَاطُ وَالْمِخْيَطُ مَا يُخَاطُ بِهِ، إذْ الْفَعَّالُ وَالْمَفْعَلُ وَالْفِعَالُ مِنْ صِيَغِ الْآلَاتِ الَّتِي يُفْعَلُ بِهَا كَالْمِسْمَارِ وَالْخَلَّابِ وَالْمِنْشَارِ. فَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ إذَا سَأَلُوا وَهُمْ فِي مَكَان وَاحِدٍ، وَزَمَانٍ وَاحِدٍ، فَأَعْطَى كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ لَمْ يَنْقُصْهُ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدَهُ إلَّا كَمَا يُنْقِصُ الْخِيَاطُ، وَهِيَ الْإِبْرَةُ، إذَا غُمِسَ فِي الْبَحْرِ. وَقَوْلُهُ: «لَمْ يَنْقُصْ مِمَّا عِنْدِي» ، فِيهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ أُمُورًا مَوْجُودَةً يُعْطِيهِمْ مِنْهَا مَا سَأَلُوهُ إيَّاهُ، وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ لَفْظُ النَّقْصِ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ مِنْ الْكَثِيرِ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُنْقِصَهُ شَيْئًا مَا، وَمَنْ رَوَاهُ: «لَمْ يَنْقُصْ مِنْ مُلْكِي» ، يُحْمَلُ عَلَى مَا عِنْدَهُ كَمَا فِي هَذَا اللَّفْظِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: " مِمَّا عِنْدِي " فِيهِ تَخْصِيصٌ، لَيْسَ هُوَ فِي قَوْلِهِ: " مِنْ مُلْكِي ". وَقَدْ يُقَالُ: الْمُعْطَى إمَّا أَنْ يَكُونَ أَعْيَانًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا أَوْ صِفَاتٍ قَائِمَةً بِغَيْرِهَا، فَأَمَّا الْأَعْيَانُ فَقَدْ تُنْقَلُ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ فَيَظْهَرُ النَّقْصُ فِي الْمَحَلِّ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا الصِّفَاتُ فَلَا تُنْقَلُ مِنْ مَحَلِّهَا وَإِنْ وُجِدَ نَظِيرُهَا فِي مَحَلٍّ آخَرَ، كَمَا يُوجَدُ نَظِيرُ عِلْمِ الْمُعَلِّمِ فِي قَلْبِ الْمُتَعَلِّمِ مِنْ غَيْرِ زَوَالِ عِلْمِ الْمُعَلِّمِ، وَكَمَا يَتَكَلَّمُ الْمُتَكَلِّمُ بِكَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ قَبْلَهُ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالِ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي، وَعَلَى هَذَا فَالصِّفَاتُ لَا تَنْقُصُ مِمَّا عِنْدَهُ شَيْئًا، وَهِيَ مِنْ الْمَسْئُولِ كَالْهُدَى. وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ هُوَ مِنْ الْمُمْكِنِ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ أَنْ لَا يَثْبُتَ مِثْلُهَا فِي الْمَحَلِّ الثَّانِي حَتَّى تَزُولَ عَنْ الْأَوَّلِ كَاللَّوْنِ الَّذِي يَنْقُصُ، وَكَالرَّوَائِحِ الَّتِي تَعْبَقُ بِمَكَانٍ وَتَزُولُ، كَمَا دَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حُمَّى الْمَدِينَةِ أَنْ تُنْقَلَ إلَى مَهْيَعَةٍ وَهِيَ الْجُحْفَةُ، وَهَلْ مِثْلُ هَذَا الِانْتِقَالِ بِانْتِقَالِ عَيْنِ الْعَرَضِ الْأَوَّلِ، أَوْ بِوُجُودِ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالِ عَيْنِهِ؟ فِيهِ لِلنَّاسِ قَوْلَانِ: إذْ مِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُ انْتِقَالَ الْأَعْرَاضِ، بَلْ مَنْ يُجَوِّزُ أَنْ تُجْعَلَ الْأَعْرَاضُ أَعْيَانًا، كَمَا هُوَ قَوْلُ ضِرَارٍ وَالنَّجَّارِ وَأَصْحَابِهِمَا كَبُرْغُوثٍ وَحَفْصِ الْفَرْدِ. لَكِنْ إنْ قِيلَ: هُوَ بِوُجُودِ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ عَنْهُ، فَذَلِكَ يَكُونُ مَعَ اسْتِحَالَةِ الْعَرَضِ الْأَوَّلِ وَفَنَائِهِ، فَيُعْدَمُ عَنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَيُوجَدُ مِثْلُهُ فِي الْمَحَلِّ الثَّانِي.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ النَّقْصِ هُنَا كَلَفْظِ النَّقْصِ فِي حَدِيثِ مُوسَى وَالْخَضِرِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ «أَنَّ الْخَضِرَ قَالَ لِمُوسَى لَمَّا وَقَعَ عُصْفُورٌ عَلَى قَارِبِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ: يَا مُوسَى مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُك مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ» . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ نَفْسَ عِلْمِ اللَّهِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ لَا يَزُولُ مِنْهُ شَيْءٌ بِتَعَلُّمِ الْعِبَادِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ نِسْبَةَ عِلْمِي وَعِلْمَك إلَى عِلْمِ اللَّهِ كَنِسْبَةِ مَا عَلِقَ بِمِنْقَارِ الْعُصْفُورِ إلَى الْبَحْرِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ كَوْنُ الْعِلْمِ يُورَثُ، كَقَوْلِهِ: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» . وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل: 16] ، وَمِنْهُ تَوْرِيثُ الْكِتَابِ أَيْضًا، كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] . وَمِثْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ مِنْ النَّقْصِ وَنَحْوِهِ تُسْتَعْمَلُ فِي هَذَا، وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ الْأَوَّلُ ثَابِتًا، كَمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لِقَتَادَةَ، وَقَدْ أَقَامَ عِنْدَهُ أُسْبُوعًا سَأَلَهُ فِيهِ مَسَائِلَ عَظِيمَةً، حَتَّى عَجِبَ مِنْ حِفْظِهِ وَقَالَ: نَزَفْتَنِي يَا أَعْمَى، وَإِنْزَافُ الْقَلِيبِ وَنَحْوِهِ، هُوَ رَفْعُ مَا فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهِ شَيْءٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَتَادَةَ لَوْ تَعَلَّمَ جَمِيعَ عِلْمِ سَعِيدٍ لَمْ يَزُلْ عِلْمُهُ مِنْ قَلْبِهِ كَمَا يَزُولُ الْمَاءُ مِنْ الْقَلِيبِ. لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: التَّعْلِيمُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْكَلَامِ، وَالْكَلَامُ يَحْتَاجُ إلَى حَرَكَةٍ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَكُونُ بِالْمَحَلِّ وَيَزُولُ عَنْهُ، وَلِهَذَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا} [الكهف: 5] ، وَيُقَالُ: قَدْ أَخْرَجَ الْعَالِمُ هَذَا الْحَدِيثَ وَلَمْ يُخَرِّجْ هَذَا، فَإِذَا كَانَ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ بِالْكَلَامِ الْمُسْتَلْزِمِ زَوَالَ بَعْضِ مَا يَقُومُ بِالْمَحَلِّ، وَهَذَا نَزِيفٌ وَخُرُوجٌ، كَانَ كَلَامُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَلَى حَقِيقَتِهِ.

وَمَضْمُونُهُ أَنَّهُ فِي تِلْكَ السَّبْعِ اللَّيَالِي مِنْ كَثْرَةِ مَا أَجَابَهُ وَكَلَّمَهُ فَفَارَقَهُ أُمُورٌ قَامَتْ بِهِ مِنْ حَرَكَاتٍ وَأَصْوَاتٍ، بَلْ وَمِنْ صِفَاتٍ قَائِمَةٍ بِالنَّفْسِ، كَانَ ذَلِكَ نَزِيفًا، وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ. وَإِنْ كَانَ عِلْمُهُ فِي نَفْسِهِ، فَلَيْسَ هُوَ أَمْرًا لَازِمًا لِلنَّفْسِ لُزُومَ الْأَلْوَانِ لِلْمُتَلَوِّنَاتِ، بَلْ قَدْ يَذْهَلُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ وَيَغْفُلُ، وَقَدْ يَنْسَاهُ ثُمَّ يَذْكُرُهُ، فَهُوَ شَيْءٌ يَحْضُرُ تَارَةً وَيَغِيبُ أُخْرَى، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِهِ الْإِنْسَانُ وَعَلِمَهُ فَقَدْ تَكِلُّ النَّفْسُ وَتَعْيَا، حَتَّى لَا يَقْوَى عَلَى اسْتِحْضَارِهِ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ، فَتَكُونُ فِي تِلْكَ الْحَالِ خَالِيَةً عَنْ كَمَالِ تَحَقُّقِهِ وَاسْتِحْضَارِهِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْعَالِمُ عَالِمًا بِالْفِعْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَفْسُ مَا زَالَ، هُوَ بِعَيْنِهِ الْقَائِمُ فِي نَفْسِ السَّائِلِ وَالْمُسْتَمِعِ، وَمَنْ قَالَ هَذَا يَقُولُ كَوْنُ التَّعْلِيمِ يُرَسِّخُ الْعِلْمَ مِنْ وَجْهٍ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا النَّقْصِ وَالنَّزِيفِ مَعْقُولًا فِي عِلْمِ الْعِبَادِ، كَانَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ النَّقْصِ فِي عِلْمِ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى اللُّغَةِ الْمُعْتَادِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ هُوَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهًا عَنْ اتِّصَافِهِ بِضِدِّ الْعِلْمِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، أَوْ عَلَى زَوَالِ عِلْمِهِ عَنْهُ، لَكِنْ فِي قِيَامِ أَفْعَالٍ بِهِ وَحَرَكَاتٍ نِزَاعٌ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُرَادَ مَا أَخَذَ عِلْمِي وَعِلْمُك مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، وَمَا نَالَ عِلْمِي وَعِلْمُك مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، وَمَا أَحَاطَ عِلْمِي وَعِلْمُك مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] . إلَّا كَمَا نَقَصَ أَوْ أَخَذَ أَوْ نَالَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ، أَيْ نِسْبَةُ هَذَا إلَى هَذَا كَنِسْبَةِ هَذَا إلَى هَذَا، وَإِنْ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ جِسْمًا يَنْتَقِلُ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ، وَيَزُولُ عَنْ الْمَحَلِّ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ الْمُشَبَّهُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا الْفَرْقَ هُوَ فَرْقٌ ظَاهِرٌ يَعْلَمُهُ الْمُسْتَمِعُ مِنْ غَيْرِ الْتِبَاسٍ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» . فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالْمَرْئِيِّ فِي الرُّؤْيَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَالرُّؤْيَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، لَكِنْ قَدْ عَلِمَ الْمُسْتَمِعُونَ أَنَّ الْمَرْئِيَّ لَيْسَ مِثْلَ الْمَرْئِيِّ، فَكَذَلِكَ هُنَا شَبَّهَ النَّقْصَ بِالنَّقْصِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ النَّاقِصِ وَالْمَنْقُوصِ

وَالْمَنْقُوصِ مِنْهُ الْمُشَبَّهَ، لَيْسَ مِثْلَ النَّاقِصِ وَالْمَنْقُوصِ وَالْمَنْقُوصِ مِنْهُ الْمُشَبَّهَ بِهِ، وَلِهَذَا كُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُعَلِّمَ لَا يَزُولُ عِلْمُهُ بِالتَّعْلِيمِ، بَلْ يُشَبِّهُونَهُ بِضَوْءِ السِّرَاجِ الَّذِي يَحْدُثُ يَقْتَبِسُ مِنْهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَيَأْخُذُونَ مَا شَاءُوا مِنْ الشُّهُبِ، وَهُوَ بَاقٍ بِحَالِهِ. وَهَذَا تَمْثِيلٌ مُطَابِقٌ، فَإِنَّ الْمُسْتَوْقِدَ مِنْ السِّرَاجِ يُحْدِثُ اللَّهُ فِي فَتِيلَتِهِ أَوْ وُقُودِهِ نَارًا مِنْ جِنْسِ تِلْكَ النَّارِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُقَالُ: إنَّهَا تَسْتَحِيلُ عَنْ ذَلِكَ الْهَوَاءِ، مَعَ أَنَّ النَّارَ الْأُولَى بَاقِيَةٌ، كَذَلِكَ الْمُتَعَلِّمُ يُجْعَلُ فِي قَلْبِهِ مِثْلُ عِلْمِ الْمُعَلِّمِ، مَعَ بَقَاءِ عِلْمِ الْمُعَلِّمِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْعَمَلِ، أَوْ قَالَ: عَلَى التَّعْلِيمِ، وَالْمَالُ يَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ. وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: إنَّ قَوْلَهُ: " مِمَّا عِنْدِي "، وَقَوْلُهُ: " مِنْ مُلْكِي "، هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَحِينَئِذٍ فَلَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا أَعْطَاهُمْ خَارِجًا عَنْ مُسَمَّى مُلْكِهِ وَمُسَمَّى مَا عِنْدَهُ، كَمَا أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ نَفْسُ عِلْمِ مُوسَى وَالْخَضِرِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: بَلْ لَفْظُ الْمُلْكِ وَمَا عِنْدَهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَمَا أَعْطَاهُمْ فَهُوَ جُزْءٌ مِنْ مُلْكِهِ وَمِمَّا عِنْدَهُ، وَلَكِنْ نُسِبَتْ إلَى الْجُمْلَةِ هَذِهِ النِّسْبَةُ الْحَقِيرَةُ. وَمِمَّا يُحَقِّقُ هَذَا الْقَوْلَ الثَّانِيَ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا فِيهِ: «لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمْ سَأَلُونِي حَتَّى تَنْتَهِيَ مَسْأَلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُونِي مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي كَمُغْرِزِ إبْرَةٍ لَوْ غَمَسَهَا أَحَدُكُمْ فِي الْبَحْرِ، وَذَلِكَ أَنِّي جَوَادٌ مَاجِدٌ وَاجِدٌ، عَطَائِي كَلَامٌ، وَعَذَابِي كَلَامٌ، إنَّمَا أَمْرِي لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْتُهُ أَنْ أَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» . فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ عَطَاءَهُ كَلَامٌ، وَعَذَابَهُ كَلَامٌ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: " مِنْ مُلْكِي "، " وَمِمَّا عِنْدِي "، أَيْ مِنْ مَقْدُورِي، فَيَكُونُ هَذَا فِي الْقُدْرَةِ كَحَدِيثِ الْخَضِرِ فِي الْعِلْمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ الَّذِي فِي نُسْخَةِ أَبِي مُسْهِرٍ: «لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا إلَّا كَمَا نَقَصَ الْبَحْرُ» . وَهَذَا قَدْ يُقَالُ فِيهِ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَمْ يَنْقُصْ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا لَكِنْ يَكُونُ حَالُهُ حَالَ هَذِهِ النِّسْبَةِ، وَقَدْ يُقَالُ بَلْ هُوَ تَامٌّ وَالْمَعْنَى عَلَى مَا سَبَقَ.

فصل عدل الله وإحسانه في الجزاء على الأعمال

[فَصْلٌ عَدْل اللَّه وَإِحْسَانه فِي الْجَزَاء عَلَى الْأَعْمَال] فَصْلٌ: ثُمَّ خَتَمَهُ بِتَحْقِيقِ مَا بَيَّنَهُ فِيهِ مِنْ عَدْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَقَالَ: «يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» . فَبَيَّنَ أَنَّهُ مُحْسِنٌ إلَى عِبَادِهِ فِي الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ إحْسَانًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْحَمْدَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ بِالْأَمْرِ بِهَا وَأَشَادَ إلَيْهَا، وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهَا، ثُمَّ إحْصَائِهَا، ثُمَّ تَوْفِيَةِ جَزَائِهَا، فَكُلُّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْهُ وَإِحْسَانٌ، إذْ كُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ، وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ قَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْهِ نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَلَيْسَ وُجُوبُ ذَلِكَ كَوُجُوبِ حُقُوقِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، الَّذِي يَكُونُ عَدْلًا لَا فَضْلًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ لِكَوْنِ بَعْضِ النَّاسِ أَحْسَنَ إلَى الْبَعْضِ، فَاسْتَحَقَّ الْمُعَاوَضَةَ، وَكَانَ إحْسَانُهُ إلَيْهِ بِقُدْرَةِ الْمُحْسِنِ دُونَ الْمُحْسَنِ إلَيْهِ. وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الْمُتَعَاوِضَانِ لِيَخُصَّ أَحَدَهُمَا بِالتَّفَضُّلِ عَلَى الْآخَرِ لِتَكَافُئِهِمَا، وَهُوَ قَدْ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْعِبَادَ لَنْ يَبْلُغُوا ضَرَّهُ فَيَضُرُّوهُ، وَلَنْ يَبْلُغُوا نَفْعَهُ فَيَنْفَعُوهُ، فَامْتَنَعَ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَقٌّ، بَلْ هُوَ الَّذِي أَحَقَّ الْحَقَّ عَلَى نَفْسِهِ بِكَلِمَاتِهِ، فَهُوَ الْمُحْسِنُ بِالْإِحْسَانِ، وَبِإِحْقَاقِهِ وَكِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ فِي كِتَابَةِ الرَّحْمَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِحْقَاقِهِ نَصْرَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مُحْسِنٌ إحْسَانًا مَعَ إحْسَانٍ. فَلْيَتَدَبَّرْ اللَّبِيبُ هَذِهِ التَّفَاصِيلَ الَّتِي يَتَبَيَّنُ بِهَا فَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي عَظُمَ فِيهَا الِاضْطِرَابُ. فَمِنْ بَيْنِ مُوجِبٍ عَلَى رَبِّهِ بِالْمَنْعِ أَنْ يَكُونَ مُحْسِنًا مُتَفَضِّلًا، وَمِنْ بَيْنِ مُسَوٍّ بَيْنَ عَدْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَمَا تَنَزَّهَ عَنْهُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ. وَجَاعِلِ الْجَمِيعِ نَوْعًا وَاحِدًا، وَكُلُّ ذَلِكَ حَيْدٌ عَنْ سُنَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. وَكَمَا بَيَّنَ أَنَّهُ مُحْسِنٌ فِي الْحَسَنَاتِ، مُتِمٌّ إحْسَانَهُ بِإِحْصَائِهَا وَالْجَزَاءِ عَلَيْهَا، بَيَّنَ أَنَّهُ عَادِلٌ فِي الْجَزَاءِ عَلَى السَّيِّئَاتِ فَقَالَ: «وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» . كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مِثْلِ قَوْلُهُ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101] . وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ اسْتَقَرَّتْ الشَّرِيعَةُ الْمُوَافِقَةُ لِفِطْرَةِ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ

قَالَ: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ. خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ» . فَفِي قَوْلِهِ: «أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ» . اعْتِرَافٌ بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِ فِي الْحَسَنَاتِ وَغَيْرِهَا. وَقَوْلُهُ: «وَأَبُوءُ بِذَنْبِي» ، اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ مُذْنِبٌ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَهَذَا يُصَيِّرُ الْعَبْدَ شَكُورًا لِرَبِّهِ مُسْتَغْفِرًا لِذَنْبِهِ، فَيَسْتَوْجِبُ مَزِيدَ الْخَيْرِ، وَغُفْرَانَ الشَّرِّ، مِنْ الشَّكُورِ الْغَفُورِ الَّذِي يَشْكُرُ الْيَسِيرَ مِنْ الْعَمَلِ وَيَغْفِرُ الْكَثِيرَ مِنْ الزَّلَلِ. وَهُنَا انْقَسَمَ النَّاسُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ فِي إضَافَةِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ الَّتِي هِيَ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي إلَى رَبِّهِمْ وَإِلَى نُفُوسِهِمْ، فَشَرُّهُمْ الَّذِي إذَا أَسَاءَ أَضَافَ ذَلِكَ إلَى الْقَدَرِ، وَاعْتَذَرَ بِأَنَّ الْقَدَرَ سَبَقَ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا خُرُوجَ لَهُ عَنْ الْقَدَرِ، فَرَكِبَ الْحُجَّةَ عَلَى رَبِّهِ فِي ظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ أَحْسَنَ أَضَافَ ذَلِكَ إلَى نَفْسِهِ وَنَسِيَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي تَيْسِيرِهِ لِلْيُسْرَى، وَهَذَا لَيْسَ مَذْهَبَ طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَلَكِنَّهُ حَالُ شِرَارِ الْجَاهِلِينَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ لَا حَفِظُوا حُدُودَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلَا شَهِدُوا حَقِيقَةَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، كَمَا قَالَ فِيهِمْ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ، وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْتَ بِهِ. وَخَيْرُ الْأَقْسَامِ وَهُوَ الْقِسْمُ الْمَشْرُوعُ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ أَنَّهُ إذَا أَحْسَنَ شَكَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَحَمِدَهُ إذَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِأَنْ جَعَلَهُ مُحْسِنًا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُسِيئًا فَإِنَّهُ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَجَمِيعُ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ إلَى رَبِّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ، فَلَوْ لَمْ يَهْدِهِ لَمْ يَهْتَدِ، كَمَا قَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 43] . وَإِذَا أَسَاءَ اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ وَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَتَابَ مِنْهُ، وَكَانَ كَأَبِيهِ آدَمَ الَّذِي قَالَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] ، وَلَمْ يَكُنْ كَإِبْلِيسِ الَّذِي قَالَ: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40]

وَلَمْ يَحْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ، وَلَا فِعْلِ مَحْظُورٍ، مَعَ إيمَانِهِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ أَطَاعُوا اللَّهَ فِي قَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» . وَلَكِنْ بَسْطُ ذَلِكَ، وَتَحْقِيقُ نِسْبَةِ الذَّنْبِ إلَى النَّفْسِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، فِيهِ أَسْرَارٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهَا، وَمَعَ هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى؛ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] . لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الطَّاعَةَ وَالْمَعَاصِيَ، كَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ حَتَّى يُحَرِّفَ بَعْضُهُمْ الْقُرْآنَ وَيَقْرَأَ فَمِنْ نَفْسِك. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يُنَاقِضُ الْقِرَاءَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، وَحَتَّى يُضْمِرَ بَعْضُهُمْ الْقَوْلَ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ الْحَقُّ فَيَجْعَلُ قَوْلَ اللَّهِ الصِّدْقَ الَّذِي يُحْمَدُ وَيُرْضَى، قَوْلًا لِلْكُفَّارِ يُكَذَّبُ بِهِ وَيُذَمُّ وَيَسْخَطُ بِالْإِضْمَارِ الْبَطِلِ الَّذِي يَدَّعِيهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي السِّيَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. ثُمَّ إنَّ مِنْ جَهْلِ هَؤُلَاءِ ظَنَّهُمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّةً لِلْقَدَرِيَّةِ، وَاحْتِجَاجُ بَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَنَّ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِيَ سَوَاءٌ مِنْ جِهَةِ الْقَدَرِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْمُوجِدُ لِفِعْلِهِ دُونَ اللَّهِ أَوْ هُوَ الْخَالِقُ لِفِعْلِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ، فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ. وَمَنْ أَثْبَتَ خَلْقَ الْأَفْعَالِ وَأَثْبَتَ الْجَبْرَ أَوْ نَفَاهُ أَوْ أَمْسَكَ عَنْ نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ مُطْلَقًا، وَفَصَّلَ الْمَعْنَى أَوْ لَمْ يُفَصِّلْهُ، فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ.

فَتَبَيَّنَ أَنَّ إدْخَالَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقَدَرِ فِي غَايَةِ الْجَهَالَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فِي الْآيَةِ الْمُرَادُ بِهَا الْمَسَار وَالْمَضَارُّ دُونَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168] . وَهُوَ الشَّرُّ وَالْخَيْرُ فِي قَوْلِهِ: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120] . وقَوْله تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} [هود: 10] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ - ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 94 - 95] . وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131] . فَهَذِهِ حَالُ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ مَعَ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، كَحَالِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالظَّالِمِينَ مَعَ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، إذَا أَصَابَهُمْ نِعْمَةٌ وَخَيْرٌ قَالُوا: لَنَا هَذِهِ، أَوْ قَالُوا: هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَإِنْ أَصَابَهُمْ عَذَابٌ وَشَرٌّ تَطَيَّرُوا بِالنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ وَقَالُوا: هَذِهِ بِذُنُوبِهِمْ، وَإِنَّمَا هِيَ بِذُنُوبِ أَنْفُسِهِمْ لَا بِذُنُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي هَذَا فِي بَيَانِ حَالِ النَّاكِلِينَ عَنْ الْجِهَادِ الَّذِينَ يَلُومُونَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْجِهَادِ، فَإِذَا أَصَابَهُمْ نَصْرٌ وَنَحْوُهُ قَالُوا هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ أَصَابَتْهُمْ مِحْنَةٌ قَالُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ الَّذِي جَاءَنَا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْجِهَادِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72] إلَى قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} [النساء: 77] إلَى قَوْلِهِ: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} [النساء: 78]

أَيْ: هَؤُلَاءِ الْمَذْمُومِينَ: {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء: 78] . أَيْ سَبَبُ أَمْرِك وَنَهْيِك، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} [النساء: 79] . أَيْ: مِنْ نِعْمَةٍ. {فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] ، أَيْ: فَبِذَنْبِك، كَمَا قَالَ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] ، وَقَالَ: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الروم: 36] . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي هَذَا الْبَابِ: فَهُمْ قَوْمٌ لَبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَهُمْ بَيْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ أَهْلِ الْخَيْرِ وَبَيْنَ شِرَارِ النَّاسِ، وَهُمْ الْخَائِضُونَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَاطِلِ، فَقَوْمٌ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يَهْدُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُضِلُّونَهَا وَيُوجِبُونَ لَهَا فِعْلَ الطَّاعَةِ، وَفِعْلَ الْمَعْصِيَةِ بِغَيْرِ إعَانَةٍ مِنْهُ وَتَوْفِيقٍ لِلطَّاعَةِ، وَلَا خِذْلَانَ مِنْهُ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَقَوْمٌ لَا يُثْبِتُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فِعْلًا وَلَا قُدْرَةً وَلَا أَمْرًا. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَنْحَلُّ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَيَكُونُ أَكْفَرَ الْخَلْقِ، وَهُمْ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِالْقَدَرِ مُتَنَاقِضُونَ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلٍ يُحِبُّونَهُ وَفِعْلٍ يُبْغِضُونَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ وَلِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِأَفْعَالِ الْمُعْتَدِينَ، فَإِذَا جَعَلُوا الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ سَوَاسِيَةً لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَذُمُّوا أَحَدًا، وَلَا يَدْفَعُوا ظَالِمًا، وَلَا يُقَابِلُوا مُسِيئًا، وَأَنْ يُبِيحُوا لِلنَّاسِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ كُلَّ مَا يَشْتَهِيهِ مُشْتَهٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَعِيشُ عَلَيْهَا بَنُو آدَمَ، إذْ هُمْ مُضْطَرُّونَ إلَى شَرْعٍ فِيهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، أَعْظَمُ مِنْ اضْطِرَارِهِمْ إلَى الْأَكْلِ وَاللِّبَاسِ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لِشَرْحِهِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ الْكَلِمَاتِ الْجَامِعَةِ وَالْقَوَاعِدِ النَّافِعَةِ، بِنُكَتٍ مُخْتَصَرَةٍ تُنَبِّهُ الْفَاضِلَ عَلَى مَا فِي الْحَقَائِقِ،

مسألة خوض الناس في أصول الدين مما لم ينقل عن النبي

مِنْ الْجَوَامِعِ وَالْفَوَارِقِ. الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي هَذِهِ الْمَضَايِقِ، بِحَسَبِ مَا احْتَمَلَتْهُ أَوْرَاقُ السَّائِلِ. وَاَللَّهُ يَنْفَعُنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُؤْمِنِينَ بِمَا عَلِمْنَاهُ، وَيُعَلِّمُنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَيَزِيدُنَا عِلْمًا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، وَلَا مَلْجَأَ مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلِجَمِيعِ إخْوَانِنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. [مَسْأَلَةٌ خَوْضُ النَّاس فِي أُصُولِ الدِّينِ مِمَّا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيّ] 9 - مَسْأَلَةٌ: إنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلْ يَجُوزُ الْخَوْضُ فِيمَا تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ مَسَائِلَ فِي أُصُولِ الدِّينِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا كَلَامٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قِيلَ: بِالْجَوَازِ فَمَا وَجْهُهُ؟ وَقَدْ فَهِمْنَا مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - النَّهْيَ عَنْ الْكَلَامِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ. وَإِذَا قِيلَ: بِالْجَوَازِ، فَهَلْ يَجِبُ ذَلِكَ؟ وَهَلْ نُقِلَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا يَقْتَضِي وُجُوبَهُ؟ وَهَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ مَا يَصِلُ إلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ مِنْ غَلَبَةِ الظَّنِّ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْقَطْعِ؟ وَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى الْقَطْعِ فَهَلْ يُعْذَرُ فِي ذَلِكَ أَوْ يَكُونُ مُكَلَّفًا بِهِ؟ وَهَلْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - أَمْ لَا؟ وَإِذَا قِيلَ بِالْوُجُوبِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ مِنْ الشَّارِعِ نَصٌّ يَعْصِمُ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْمَهَالِكِ وَقَدْ كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَرِيصًا عَلَى هَدْيِ أُمَّتِهِ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى، فَقَوْلُ السَّائِلِ: هَلْ يَجُوزُ الْخَوْضُ فِيمَا تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ مَسَائِلَ فِي أُصُولِ الدِّينِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا كَلَامٌ أَمْ لَا؟ سُؤَالٌ وَرَدَ بِحَسَبِ مَا عُهِدَ مِنْ الْأَوْضَاعِ الْمُبْتَدَعَةِ الْبَاطِلَةِ، فَإِنَّ الْمَسَائِلَ الَّتِي هِيَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ تُسَمَّى أُصُولَ الدِّينِ، أَعْنِي الدِّينَ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا

كَلَامٌ، بَلْ هَذَا كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ، إذْ كَوْنُهَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَهَمِّ الدِّينِ، وَأَنَّهَا مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ. ثُمَّ نَفْيُ نَقْلِ الْكَلَامِ فِيهَا عَنْ الرَّسُولِ يُوجِبُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ، إمَّا أَنَّ الرَّسُولَ أَهْمَلَ الْأُمُورَ الْمُهِمَّةَ الَّتِي يَحْتَاجُ الدِّينُ إلَيْهَا فَلَمْ يُبَيِّنْهَا، أَوْ أَنَّهُ بَيَّنَهَا فَلَمْ يَنْقُلْهَا الْأُمَّةُ، وَكِلَا هَذَيْنِ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَطَاعِنِ الْمُنَافِقِينَ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا يَظُنُّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ مَنْ هُوَ جَاهِلٌ بِحَقَائِقِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، أَوْ جَاهِلٌ بِمَا يَعْقِلُهُ النَّاسُ بِقُلُوبِهِمْ، أَوْ جَاهِلٌ بِهِمَا جَمِيعًا، فَإِنَّ جَهْلَهُ بِالْأَوَّلِ يُوجِبُ عَدَمَ عِلْمِهِ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، وَجَهْلَهُ بِالثَّانِي يُوجِبُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْحَقَائِقِ الْمَعْقُولَةِ مَا يُسَمِّيهِ هُوَ وَأَشْكَالُهُ عَقْلِيَّاتٍ، وَإِنَّمَا هِيَ جَهْلِيَّاتٌ. وَجَهْلَهُ بِالْأَمْرَيْنِ يُوجِبُ أَنْ يَظُنَّ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهَا مِنْ الْمَسَائِلِ وَالْوَسَائِلِ الْبَاطِلَةِ، وَأَنْ يَظُنَّ عَدَمَ بَيَانِ الرَّسُولِ لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ لِطَوَائِفَ مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ حُذَّاقِهِمْ فَضْلًا عَنْ عَامَّتِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ أُصُولَ الدِّينِ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَسَائِلَ يَجِبُ اعْتِقَادُهَا قَوْلًا، أَوْ قَوْلًا وَعَمَلًا، كَمَسَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَالصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ، وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، أَوْ دَلَائِلَ هَذِهِ الْمَسَائِلُ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَكُلُّ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَاعْتِقَادِهِ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، فَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيَانًا شَافِيًا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ؛ إذْ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ، وَبَيَّنَهُ لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَا أَقَامَ اللَّهُ الْحُجَّةَ عَلَى عِبَادِهِ فِيهِ بِالرُّسُلِ الَّذِينَ بَيَّنُوهُ وَبَلَّغُوهُ، وَكِتَابُ اللَّهِ الَّذِي نَقَلَ الصَّحَابَةُ ثُمَّ التَّابِعُونَ عَنْ الرَّسُولِ لَفْظَهُ وَمَعَانِيَهُ، وَالْحِكْمَةُ الَّتِي هِيَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي نَقَلُوهَا أَيْضًا عَنْ الرَّسُولِ، مُشْتَمِلَةٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى غَايَةِ الْمُرَادِ، وَتَمَامِ الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَعَثَ إلَيْنَا رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِنَا يَتْلُو عَلَيْنَا آيَاتِهِ وَيُزَكِّينَا وَيُعَلِّمُنَا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، الَّذِي أَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَيْنَا النِّعْمَةَ، وَرَضِيَ لَنَا الْإِسْلَامَ دِينًا، الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] .

وَإِنَّمَا يَظُنُّ عَدَمَ اشْتِمَالِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ عَلَى بَيَانِ ذَلِكَ مَنْ كَانَ نَاقِصًا فِي عَقْلِهِ وَسَمْعِهِ، وَمَنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ، وَجُهَّالِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ دَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَظُنُّ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُتَفَلْسِفَةِ أَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا يَدُلُّ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ الصَّادِقِ، فَدَلَالَتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ، وَيَجْعَلُونَ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ صِدْقُ الْمُخْبِرِ مَعْقُولَاتٍ مَحْضَةً، فَقَدْ غَلِطُوا فِي ذَلِكَ غَلَطًا عَظِيمًا، بَلْ ضَلُّوا ضَلَالًا مُبِينًا فِي ظَنِّهِمْ أَنَّ دَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنَّمَا هِيَ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ الْمُجَرَّدِ، بَلْ الْأَمْرُ مَا عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ مَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْرَهُ، وَنِهَايَةُ مَا يَذْكُرُونَهُ جَاءَ الْقُرْآنُ بِخُلَاصَتِهِ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ، وَذَلِكَ كَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ الَّتِي يَذْكُرُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الَّتِي قَالَ فِيهَا: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الروم: 58] . فَإِنَّ الْأَمْثَالَ الْمَضْرُوبَةَ وَهِيَ الْأَقْيِسَةُ الْعَقْلِيَّةُ، سَوَاءٌ كَانَتْ قِيَاسَ شُمُولٍ، أَوْ قِيَاسَ تَمْثِيلٍ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا يُسَمُّونَهُ بَرَاهِينَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الشُّمُولِيُّ الْمُؤَلَّفُ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ الْيَقِينِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْبُرْهَانِ فِي اللُّغَةِ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا سَمَّى اللَّهُ آيَتَيْ مُوسَى بُرْهَانَيْنِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ الْعِلْمَ الْإِلَهِيَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ فِيهِ بِقِيَاسِ تَمْثِيلٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ، وَلَا بِقِيَاسٍ شُمُولِيٍّ تَسْتَوِي أَفْرَادُهُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَثَّلَ بِغَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ هُوَ وَغَيْرُهُ تَحْتَ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ تَسْتَوِي أَفْرَادُهَا، وَلِهَذَا لَمَّا سَلَكَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ مِثْلَ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ فِي الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ، لَمْ يَصِلُوا بِهَا إلَى يَقِينٍ، بَلْ تَنَاقَصَتْ أَدَاتُهُمْ، وَغَلَبَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ التَّنَاهِي الْحِيرَةُ وَالِاضْطِرَابُ لِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ فَسَادِ أَدِلَّتِهِمْ أَوْ تَكَافُئِهَا، وَلَكِنْ يُسْتَعْمَلُ فِي

ذَلِكَ قِيَاسُ الْأَوْلَى، سَوَاءٌ كَانَ تَمْثِيلًا أَوْ شُمُولًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل: 60] ، مِثْلُ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِلْمُمْكِنِ أَوْ الْمُحْدَثِ فَالْوَاجِبُ الْقَدِيمُ أَوْلَى بِهِ، وَكُلُّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقِ الْمَرْبُوبِ الْمَعْلُولِ الْمُدَبَّرِ، فَإِنَّمَا اسْتَفَادَهُ مِنْ خَالِقِهِ وَرَبِّهِ وَمُدَبِّرِهِ: فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ، وَأَنَّ كُلَّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ وَجَبَ نَفْيُهُ عَنْ شَيْءٍ مَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْمُحْدَثَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَأَنَّهُ أَحَقُّ بِالْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ مِنْ كُلِّ مَوْجُودٍ وَالْأُمُورُ الْعَدَمِيَّةُ الْمُمْكِنُ بِهَا أَحَقُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمِثْلُ هَذِهِ الطُّرُقِ هِيَ الَّتِي كَانَ يَسْتَعْمِلُهَا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ، كَمَا اسْتَعْمَلَ نَحْوَهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَبِمِثْلِ ذَلِكَ جَاءَ الْقُرْآنُ فِي تَقْرِيرِ أُصُولِ الدِّينِ مِنْ مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَخْبَرَ بِالْمَعَادِ، وَالْعِلْمُ بِهِ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ بِإِمْكَانِهِ، فَإِنَّ الْمُمْتَنِعَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ إمْكَانَهُ أَتَمَّ بَيَانٍ، وَلَمْ يَسْلُكْ فِي ذَلِكَ مَا يَسْلُكُهُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، حَيْثُ يُثْبِتُونَ الْإِمْكَانَ الْخَارِجِيَّ بِمُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ الذِّهْنِيِّ، فَيَقُولُونَ هَذَا مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ وُجُودُهُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ تَقْدِيرِ وُجُودِهِ مُحَالٌ، فَإِنَّ الشَّأْنَ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ، فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَقْدِيرِ وُجُودِهِ مُحَالٌ، وَالْمَجَالُ هُنَا أَعَمُّ مِنْ الْمُحَالِ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَالْإِمْكَانُ الذِّهْنِيُّ حَقِيقَتُهُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالِامْتِنَاعِ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ بِالِامْتِنَاعِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِالْإِمْكَانِ الْخَارِجِيِّ بَلْ يَبْقَى الشَّيْءُ فِي الذِّهْنِ غَيْرَ مَعْلُومِ الِامْتِنَاعِ، وَلَا مَعْلُومَ الْإِمْكَانِ الْخَارِجِيِّ، وَهَذَا هُوَ الْإِمْكَانُ الذِّهْنِيُّ. فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَكْتَفِ فِي بَيَانِ إمْكَانِ الْمَعَادِ بِهَذَا، إذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُمْتَنِعًا وَلَوْ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الذِّهْنُ امْتِنَاعَهُ، بِخِلَافِ الْإِمْكَانِ الْخَارِجِيِّ، فَإِنَّهُ إذَا عُلِمَ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا، وَالْإِنْسَانُ يَعْلَمُ الْإِمْكَانَ الْخَارِجِيَّ، تَارَةً بِعِلْمِهِ بِوُجُودِ الشَّيْءِ، وَتَارَةً بِعِلْمِهِ بِوُجُودِ نَظِيرِهِ، وَتَارَةً بِعِلْمِهِ بِوُجُودِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ، فَإِنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا هُوَ دُونَهُ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ مِنْهُ.

ثُمَّ إنَّهُ إذَا بَيَّنَ كَوْنَ الشَّيْءِ مُمْكِنًا، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ قُدْرَةِ الرَّبِّ عَلَيْهِ، وَإِلَّا مُجَرَّدُ الْعِلْمِ بِإِمْكَانِهِ لَا يَكْفِي فِي إمْكَانِهِ وُقُوعُهُ إنْ لَمْ تُعْلَمْ قُدْرَةُ الرَّبِّ عَلَى ذَلِكَ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ هَذَا كُلَّهُ، بِمِثْلِ قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا} [الإسراء: 99] . وَقَوْلِهِ: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81] . وَقَوْلُهُ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33] . وَقَوْلُهُ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57] . فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِبَدَاهَةِ الْقَوْلِ أَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ أَمْثَالِ بَنِي آدَمَ وَالْقُدْرَةَ عَلَيْهِ أَبْلَغُ، وَأَنَّ هَذَا الْأَيْسَرَ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ وَالْقُدْرَةِ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ اسْتِدْلَالُهُ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّشْأَةِ الْأُولَى فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم: 27] . وَقَالَ: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج: 5] الْآيَةَ. وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] الْآيَاتِ. فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] ، قِيَاسٌ حُذِفَتْ إحْدَى مُقَدِّمَتَيْهِ لِظُهُورِهَا، وَالْأُخْرَى سَالِبَةٌ كُلِّيَّةٌ قَرَنَ مَعَهَا دَلِيلَهَا، وَهُوَ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]

، وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ مُتَضَمِّنٌ لِلنَّفْيِ، أَيْ لَا أَحَدَ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، فَإِنَّ كَوْنَهَا رَمِيمًا يَمْنَعُ عِنْدَهُ إحْيَاءَهَا لِمَصِيرِهَا إلَى حَالِ الْيُبْسِ وَالْبُرُودَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلْحَيَاةِ الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى الْحَرَارَةِ وَالرُّطُوبَةِ، وَلِتَفَرُّقِ أَجْزَائِهَا وَاخْتِلَاطِهَا بِغَيْرِهَا وَلِنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الشُّبُهَاتِ. وَالتَّقْدِيرُ: هَذِهِ الْعِظَامُ رَمِيمٌ، وَلَا أَحَدَ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، فَلَا أَحَدَ يُحْيِيهَا، وَلَكِنَّ هَذِهِ السَّالِبَةَ كَاذِبَةٌ وَمَضْمُونَهَا امْتِنَاعُ الْإِحْيَاءِ، وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ إمْكَانَهُ مِنْ وُجُوهٍ بِبَيَانِ إمْكَانِ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] وَقَدْ أَنْشَأَهَا مِنْ التُّرَابِ، ثُمَّ قَالَ: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79] ؛ لِيُبَيِّنَ عِلْمَهُ بِمَا تَفَرَّقَ مِنْ الْأَجْزَاءِ وَاسْتَحَالَ. ثُمَّ قَالَ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} [يس: 80] ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْرَجَ النَّارَ الْحَارَّةَ الْيَابِسَةَ مِنْ الْبَارِدِ الرَّطْبِ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْمُنَافَاةِ؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْحَرَارَةِ وَالرُّطُوبَةِ أَيْسَرُ مِنْ اجْتِمَاعِ الْحَرَارَةِ وَالْيُبُوسَةِ، فَالرُّطُوبَةُ تَقْبَلُ مِنْ الِانْفِعَالِ مَا لَا تَقْبَلُهُ الْيُبُوسَةُ، ثُمَّ قَالَ: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81] ، وَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ مَعْلُومَةٌ بِالْبَدِيهَةِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِيهَا بِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَقِرٌّ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] . ثُمَّ بَيَّنَ قُدْرَتَهُ الْعَامَّةَ، بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] . وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ الْأَسْرَارِ، وَبَيَانِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى الْمَطَالِبِ الدِّينِيَّةِ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ. وَكَذَلِكَ مَا اسْتَعْمَلَهُ سُبْحَانَهُ فِي تَنْزِيهِهِ وَتَقْدِيسِهِ عَمَّا أَضَافُوهُ إلَيْهِ مِنْ الْوِلَادَةِ

سَوَاءٌ سَمَّوْهَا حِسِّيَّةً أَوْ عَقْلِيَّةً، كَمَا تَزْعُمُهُ الْفَلَاسِفَةُ الصَّابِئُونَ مِنْ تَوَلُّدِ الْعُقُولِ الْعَشَرَةِ وَالنُّفُوسِ الْفَلَكِيَّةِ التِّسْعَةِ الَّتِي هُمْ مُضْطَرِبُونَ فِيهَا، هَلْ هِيَ جَوَاهِرُ أَوْ أَعْرَاضٌ؟ وَقَدْ يَجْعَلُونَ الْعُقُولَ بِمَنْزِلَةِ الذُّكُورِ، وَالنُّفُوسَ بِمَنْزِلَةِ الْإِنَاثِ، وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ آبَاءَهُمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَآلِهَتَهُمْ وَأَرْبَابَهُمْ الْقَرِيبَةَ، وَعِلْمُهُمْ بِالنُّفُوسِ أَظْهَرُ لِوُجُودِ الْحَرَكَةِ الدَّوْرِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى النَّفْسِ الْمُحَرِّكَةِ، وَذَلِكَ شَبِيهٌ بِقَوْلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ جَعَلُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100] . وَقَالَ تَعَالَى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ - وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات: 151 - 152] . وَكَانُوا يَقُولُونَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، كَمَا يَزْعُمُ هَؤُلَاءِ أَنَّ النُّفُوسَ هِيَ الْمَلَائِكَةُ، وَهِيَ مُتَوَلِّدَةٌ عَنْ اللَّهِ، فَقَالَ تَعَالَى {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57] {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل: 58] {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 59] {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل: 60] إلَى قَوْلِهِ {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} [النحل: 62] . وَقَالَ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ - وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف: 16 - 17] {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18] {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19] . وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] ، إلَى قَوْلِهِ: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى} [النجم: 21] {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 22] أَيْ: جَائِرَةٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ.

فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ أَوْلَى بِأَنْ يُنَزَّهَ عَنْ الْأُمُورِ النَّاقِصَةِ مِنْكُمْ، فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ لَهُ مَا تَكْرَهُونَ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ، وَتَسْتَخْفُونَ مِنْ إضَافَتِهِ إلَيْكُمْ، مَعَ أَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَا تَنْزِعُونَهُ عَنْ ذَلِكَ وَتَنْفُونَهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَحَقُّ بِنَفْيِ الْمَكْرُوهَاتِ الْمُنْقَصَاتِ مِنْكُمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي التَّوْحِيدِ: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الروم: 28] ، أَيْ: كَخِيفَةِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] ، وَفِي قَوْلِهِ: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12] وَفِي قَوْلِهِ: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] . وَفِي قَوْلِهِ: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] ، وَفِي قَوْلِهِ: {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة: 84] ، فَإِنَّ الْمُرَادَ فِي هَذَا كُلِّهِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ. فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَكُونُ مَمْلُوكُهُ شَرِيكَهُ فِيمَا لَهُ حَتَّى يَخَافَ مَمْلُوكَهُ، كَمَا يَخَافُ نَظِيرَهُ، بَلْ تَمْتَنِعُونَ أَنْ يَكُونَ الْمَمْلُوكُ لَكُمْ نَظِيرًا، فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ لِي أَنْ تَجْعَلُوا مَا هُوَ مَخْلُوقِي وَمَمْلُوكِي شَرِيكًا لِي، يُدْعَى وَيُعْبَدُ كَمَا أُدْعَى وَأُعْبَدُ، كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك، إلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ عَظِيمٌ جِدًّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةِ النَّبَوِيَّةِ عَامَّةَ أُصُولِ الدِّينِ مِنْ الْمَسَائِلِ وَالدَّلَائِلِ الَّتِي تُسْتَحَقُّ أَنْ تَكُونَ أُصُولَ الدِّينِ. وَأَمَّا مَا يُدْخِلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الْمُسَمَّى مِنْ الْبَاطِلِ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَإِنْ أَدْخَلَهُ فِيهِ، مِثْلُ الْمَسَائِلِ وَالدَّلَائِلِ الْفَاسِدَةِ، مِثْلُ نَفْيِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ

وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ، وَمِثْلُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بِحُدُوثِ الْأَعْرَاضِ الَّتِي هِيَ صِفَاتُ الْأَجْسَامِ الْقَائِمَةِ بِهَا، إمَّا الْأَكْوَانُ، وَإِمَّا غَيْرُهَا، وَتَقْرِيرُ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا هَذَا الدَّلِيلُ مِنْ إثْبَاتِ الْأَعْرَاضِ الَّتِي هِيَ الصِّفَاتُ أَوَّلًا، أَوْ إثْبَاتُ بَعْضِهَا، كَالْأَكْوَانِ الَّتِي هِيَ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَالِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ، وَإِثْبَاتُ حُدُوثِهَا ثَانِيًا بِإِبْطَالِ ظُهُورِهَا بَعْدَ الْكُمُونِ، وَإِبْطَالُ انْتِقَالِهَا مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ، ثُمَّ إثْبَاتُ امْتِنَاعِ خُلُوِّ الْجِسْمِ ثَالِثًا، إمَّا عَنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَعْرَاضِ بِإِثْبَاتِ أَنَّ الْجِسْمَ قَابِلٌ لَهَا، وَأَنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ، وَإِمَّا عَنْ الْأَكْوَانِ، وَإِثْبَاتِ امْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. رَابِعًا: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا: أَنَّ الْجِسْمَ لَا يَخْلُو عَنْ الْأَعْرَاضِ الَّتِي هِيَ الصِّفَاتُ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَعْرَاضُ فَهُوَ مُحْدَثٌ؛ لِأَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَعْرَاضُ لَا تَكُونُ إلَّا مُحْدَثَةً، وَقَدْ يَفْرِضُونَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَعْرَاضُ كَالْأَكْوَانِ، وَمَا لَا يَخْلُو عَنْ جِنْسِ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا تَتَنَاهَى. فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ قَدْ اعْتَرَفَ حُذَّاقُ أَهْلِ الْكَلَامِ كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ، بِأَنَّهَا لَيْسَتْ طَرِيقَةَ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَلَا سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، وَذَكَرُوا أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عِنْدَهُمْ، بَلْ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهَا طَرِيقَةٌ بَاطِلَةٌ، وَأَنَّ مُقَدِّمَاتِهَا فِيهَا تَفْصِيلٌ وَتَقْسِيمٌ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمُدَّعَى بِهَا مُطْلَقًا، وَلِهَذَا تَجِدُ مَنْ اعْتَمَدَ عَلَيْهَا فِي أُصُولِ دِينِهِ فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَهُ لَازِمٌ: إمَّا أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى ضَعْفِهَا وَيُقَابِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، فَتَتَكَافَأَ عِنْدَهُ الْأَدِلَّةُ، أَوْ يُرَجِّحُ هَذَا تَارَةً، وَهَذَا تَارَةً، كَمَا هُوَ حَالُ طَوَائِفَ مِنْهُمْ. وَإِمَّا أَنْ يَلْتَزِمَ لِأَجْلِهَا لَوَازِمَ مَعْلُومَةَ الْفَسَادِ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ، كَمَا الْتَزَمَ جَهْمٌ لِأَجْلِهَا فَنَاءَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالْتَزَمَ أَبُو الْهُذَيْلِ لِأَجْلِهَا انْقِطَاعَ حَرَكَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالْتَزَمَ قَوْمٌ لِأَجْلِهَا أَنَّ الْمَاءَ وَالْهَوَاءَ وَالنَّارَ لَهُ طَعْمٌ وَلَوْنٌ وَرِيحٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَالْتَزَمَ قَوْمٌ لِأَجْلِهَا وَأَجْلِ غَيْرِهَا أَنَّ جَمِيعَ الْأَعْرَاضِ كَالطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَغَيْرِهِمَا لَا يَجُوزُ بَقَاؤُهَا بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُمْ احْتَاجُوا إلَى جَوَابِ النَّقْضِ الْوَارِدِ عَلَيْهِمْ لَمَّا أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ لِلَّهِ مَعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ بِصِفَاتِهَا، فَقَالُوا: صِفَاتُ الْأَجْسَامِ أَعْرَاضٌ، أَيْ: أَنَّهَا تَعْرِضُ

وَتَزُولُ، فَلَا تَبْقَى بِحَالٍ، بِخِلَافِ صِفَاتِ اللَّهِ فَإِنَّهَا بَاقِيَةٌ. وَأَمَّا جُمْهُورُ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ فَقَالُوا: هَذِهِ مُخَالَفَةٌ لِلْمَعْلُومِ بِالْحِسِّ، وَالْتَزَمَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ لِأَجْلِهَا نَفْيَ صِفَاتِ الرَّبِّ مُطْلَقًا، أَوْ نَفْيَ بَعْضِهَا؛ لِأَنَّ الدَّالَّ عِنْدَهُمْ عَلَى حُدُوثِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ هُوَ قِيَامُ الصِّفَاتِ بِهَا، وَالدَّلِيلُ بِحَسَبِ طَرْدِهِ، وَالْتَزَمُوا حُدُوثَ كُلِّ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ قَائِمَةٍ بِهِ، وَهُوَ أَيْضًا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالضَّلَالِ، وَلِهَذَا الْتَزَمُوا الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَإِنْكَارِ رُؤْيَةِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَعُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ، إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ اللَّوَازِمِ الَّتِي الْتَزَمَهَا مَنْ طَرَدَ مُقَدِّمَاتِ هَذِهِ الْحُجَّةِ الَّتِي جَعَلَهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ أَصْلَ دِينِهِمْ. فَهَذِهِ دَاخِلَةٌ فِيمَا سَمَّاهُ هَؤُلَاءِ أُصُولَ الدِّينِ، وَلَكِنْ لَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ، وَأَمَّا الدِّينُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] . فَذَاكَ لَهُ أُصُولٌ وَفُرُوعٌ بِحَسَبِهِ. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ مُسَمَّى أُصُولِ الدِّينِ فِي عُرْفِ النَّاطِقِينَ بِهَذَا الِاسْمِ فِيهِ إجْمَالٌ وَإِبْهَامٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاشْتِرَاكِ بِحَسَبِ الْأَوْضَاعِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ، تَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي هُوَ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أُصُولُ الدِّينِ فِيهِ مَوْرُوثٌ عَنْ الرَّسُولِ، وَأَمَّا مَنْ شَرَعَ دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ أُصُولَهُ الْمُسْتَلْزِمَةَ لَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْقُولَةً عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ هُوَ بَاطِلٌ، وَمَلْزُومُ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ، كَمَا أَنَّ لَازِمَ الْحَقِّ حَقٌّ. وَهَذَا التَّقْسِيمُ يُنَبِّهُ أَيْضًا عَلَى مُرَادِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ بِذَمِّ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ، إذْ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ لِمَنْ اسْتَدَلَّ بِالْأَدِلَّةِ الْفَاسِدَةِ، أَوْ اسْتَدَلَّ عَلَى الْمَقَالَاتِ الْبَاطِلَةِ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ الْحَقَّ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ حُكْمًا وَدَلِيلًا فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ، وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. وَأَمَّا مُخَاطَبَةُ أَهْلِ اصْطِلَاحٍ بِاصْطِلَاحِهِمْ وَلُغَتِهِمْ، فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ إذَا اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ، وَكَانَتْ الْمَعَانِي صَحِيحَةً كَمُخَاطَبَةِ الْعَجَمِ مِنْ الرُّومِ وَالْفُرْسِ وَالتُّرْكِ بِلُغَتِهِمْ وَعُرْفِهِمْ، فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ حَسَنٌ لِلْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا كَرِهَهُ الْأَئِمَّةُ إذَا لَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ، وَلِهَذَا

قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَكَانَتْ صَغِيرَةً وُلِدَتْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ؛ لِأَنَّ أَبَاهَا كَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهَا، فَقَالَ لَهَا: «يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا» وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْحَسَنُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ. وَكَذَلِكَ يُتَرْجَمُ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى تَفْهِيمِهِ إيَّاهُ بِالتَّرْجَمَةِ، وَلِذَلِكَ يَقْرَأُ الْمُسْلِمُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ كُتُبِ الْأُمَمِ، وَكَلَامِهِمْ بِلُغَتِهِمْ، وَيُتَرْجِمُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَزِيدَ بْنَ ثَابِتٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ لِيَقْرَأَ لَهُ وَيَكْتُبَ لَهُ ذَلِكَ، حَيْثُ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ الْيَهُودِ عَلَيْهِ. فَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ لَمْ يَكْرَهُوا الْكَلَامَ لِمُجَرَّدِ مَا فِيهِ مِنْ الِاصْطِلَاحَاتِ الْمُوَلَّدَةِ، كَلَفْظِ الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ وَالْجِسْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ بَلْ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ فِيهَا مِنْ الْبَاطِلِ الْمَذْمُومِ فِي الْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ مَا يَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ، لِاشْتِمَالِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَعَانِي مُجْمَلَةٍ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي وَصْفِهِ لِأَهْلِ الْبِدَعِ، فَقَالَ: هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ، مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ، مُتَّفِقُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ، يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ، وَيُلَبِّسُونَ عَلَى جُهَّالِ النَّاسِ بِمَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ. إذَا عُرِفَتْ الْمَعَانِي الَّتِي يَقْصِدُونَهَا بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ، وَوُزِنَتْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بِحَيْثُ يَثْبُتُ الْحَقُّ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَيُنْفَى الْبَاطِلُ الَّذِي نَفَاهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْحَقَّ، بِخِلَافِ مَا سَلَكَهُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ مِنْ التَّكَلُّمِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فِي الْوَسَائِلِ وَالْمَسَائِلِ، مِنْ غَيْرِ بَيَانِ التَّفْصِيلِ وَالتَّقْسِيمِ الَّذِي هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهَذَا مِنْ مُثَارَاتِ الشُّبْهَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَا أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ، أَنَّهُ عَلَّقَ بِمُسَمَّى لَفْظِ الْجَوْهَرِ وَالْجِسْمِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْعَرَضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، لَا الدَّلَائِلِ وَلَا الْمَسَائِلِ. وَالْمُتَكَلِّمُونَ بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ يَخْتَلِفُ مُرَادُهُمْ بِهَا، تَارَةً لِاخْتِلَافِ الْوَضْعِ، وَتَارَةً لِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ، كَمَنْ يَقُولُ الْجِسْمُ هُوَ الْمُؤَلَّفُ، ثُمَّ يَتَنَازَعُونَ هَلْ هُوَ الْجَوْهَرُ الْوَاحِدُ بِشَرْطِ تَأْلِيفِهِ، أَوْ الْجَوْهَرَانِ فَصَاعِدًا، أَوْ السِّتَّةُ أَوْ

الثَّمَانِيَةُ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَمَنْ يَقُولُ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ فَرْضُ الْأَبْعَادِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ، وَأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ، وَمَنْ يَقُولُ هُوَ الْمَوْجُودُ، أَوْ الْمَوْجُودُ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ، وَأَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ. وَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ الَّذِينَ ذَمُّوا وَبَدَّعُوا الْكَلَامَ فِي الْجَوْهَرِ وَالْجِسْمِ وَالْعَرَضِ، تَضَمَّنَ كَلَامُهُمْ ذَمَّ مَنْ يُدْخِلُ الْمَعَانِيَ الَّتِي قَصَدَهَا هَؤُلَاءِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي أُصُولِ الدِّينِ فِي دَلَائِلِهِ، وَفِي مَسَائِلِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَأَمَّا إذَا عَرَفَ الْمَعَانِيَ الصَّحِيحَةَ الثَّابِتَةَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَغَيَّرَ عَنْهَا لِمَنْ يَفْهَمُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ؛ لِيَتَبَيَّنَ مَا وَافَقَ الْحَقَّ مِنْ مَعَانِي هَؤُلَاءِ وَمَا خَالَفَهُ، فَهَذَا عَظِيمُ الْمَنْفَعَةِ، وَهُوَ مِنْ الْحُكْمِ بِالْكِتَابِ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] ، وَهُوَ مِثْلُ الْحُكْمِ بَيْنَ سَائِرِ الْأُمَمِ بِالْكِتَابِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِوَضْعِهِمْ وَعُرْفِهِمْ، وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَعْرِفَةِ مَعَانِي هَؤُلَاءِ بِأَلْفَاظِهِمْ، ثُمَّ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْمَعَانِي بِهَذِهِ الْمَعَانِي لِيَظْهَرَ الْمُوَافِقُ وَالْمُخَالِفُ. وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: فَإِنْ قِيلَ بِالْجَوَازِ فَمَا وَجْهُهُ، وَقَدْ فَهِمْنَا مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - النَّهْيَ عَنْ الْكَلَامِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ؟ فَيُقَالُ: قَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِفْسَارُ وَالتَّفْصِيلُ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ، وَأَنَّ مَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أُصُولُ الدِّينِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ اللَّهُ رَسُولَهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْهَى عَنْهَا بِحَالٍ، بِخِلَافِ مَا سُمِّيَ أُصُولَ الدِّينِ وَلَيْسَ هُوَ أُصُولًا فِي الْحَقِيقَةِ، لَا دَلَائِلَ وَلَا مَسَائِلَ، أَوْ هُوَ أُصُولُ الدِّينِ لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ، بَلْ شَرَعَهُ مَنْ شَرَعَ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ مِنْ نَهْيِهِ، فَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ النَّهْيُ عَنْ أُمُورٍ، مِنْهَا الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، كَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] ، وَقَوْلِهِ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ، وَمِنْهَا أَنْ

يُقَالَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} [الأعراف: 169] ، وَقَوْلِهِ {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} [النساء: 171] . وَمِنْهَا الْجَدَلُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، كَقَوْلِهِ: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66] ، وَمِنْهَا الْجَدَلُ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ، كَقَوْلِهِ: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6] ، وَمِنْهَا الْجَدَلُ فِي الْبَاطِلِ، كَقَوْلِهِ: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: 5] ، وَمِنْهَا الْجَدَلُ فِي آيَاتِهِ، كَقَوْلِهِ: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4] ، وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 35] ، وَقَوْلِهِ: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56] ، وَقَوْلِهِ: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [الشورى: 35] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 16] وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13] ، وَقَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج: 8] . وَمِنْ الْأُمُورِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا فِي كِتَابِهِ الْفُرْقَةُ وَالِاخْتِلَافُ، كَقَوْلِهِ {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] ، إلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105] {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]

، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] إلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم: 31 - 32] . وَقَدْ ذَمَّ أَهْلَ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ، فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4] ، وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] {إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119] . وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176] . وَكَذَلِكَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ، كَالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ، الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ بَعْضُهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَسَائِرُهُ مَعْرُوفٌ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَتَنَاظَرُونَ فِي الْقَدَرِ؛ وَرَجُلٌ يَقُولُ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا، وَرَجُلٌ يَقُولُ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا، فَكَأَنَّمَا فُقِأَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ فَقَالَ: أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ، إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا نَزَلَ كِتَابُ اللَّهِ لِيُصَدِّقَ بَعْضُهُ بَعْضًا لَا لِيُكَذِّبَ بَعْضُهُ بَعْضًا، اُنْظُرُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَافْعَلُوهُ، وَمَا نُهِيتُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ»

هَذَا الْحَدِيثُ أَوْ نَحْوُهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ «الْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ» ، وَكَذَلِكَ مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ قَوْلَهُ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] إلَى قَوْلِهِ {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ أَوْ السُّنَّةُ نَهَى عَنْ مَعْرِفَةِ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَدْخُلُ فِيمَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أُصُولِ دِينِ اللَّهِ، فَهَذَا لَا يَكُونُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ نُنْهَى عَنْ بَعْضِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، مِثْلُ مُخَاطَبَةِ شَخْصٍ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ فَهْمُهُ فَيَضِلُّ، كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: مَا مِنْ رَجُلٍ يُحَدِّثُ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ، وَكَقَوْلِ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ مِثْلُ قَوْلِ حَقٍّ يَسْتَلْزِمُ فَسَادًا أَعْظَمَ مِنْ تَرْكِهِ، فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: إذَا قِيلَ بِالْجَوَازِ، فَهَلْ يَجِبُ؟ وَهَلْ نُقِلَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا يَقْتَضِي وُجُوبَهُ؟ فَيُقَالُ: لَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إيمَانًا عَامًّا مُجْمَلًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَى التَّفْصِيلِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي تَبْلِيغِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَدَاخِلٌ فِي تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَعَقْلِهِ وَفَهْمِهِ، وَعِلْمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَحَظِّ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ إلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ

الْمُنْكَرِ، وَالدُّعَاءِ إلَى سَبِيلِ الرَّبِّ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَالْمُجَادَلَةِ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مِنْهُمْ. وَأَمَّا مَا يَجِبُ عَلَى أَعْيَانِهِمْ، فَهَذَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ قَدْرِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ، وَمَا أُمِرَ بِهِ أَعْيَانُهُمْ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْ سَمَاعِ بَعْضِ الْعِلْمِ، أَوْ عَنْ فَهْمِ دَقِيقِهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى ذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النُّصُوصَ وَفَهِمَهَا مِنْ عِلْمِ التَّفْصِيلِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، وَيَجِبُ عَلَى الْمُفْتِي وَالْمُحَدِّثِ وَالْمُجَادِلِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ مَا يَصِلُ إلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ مِنْ غَلَبَةِ الظَّنِّ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْقَطْعِ؟ فَيُقَالُ: الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ التَّفْصِيلُ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَسَائِلَ الْخَبَرِيَّةَ الَّتِي قَدْ يُسَمُّونَهَا مَسَائِلَ الْأُصُولِ يَجِبُ الْقَطْعُ فِيهَا جَمِيعِهَا، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال فِيهَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ يُفِيدُ الْيَقِينَ، وَقَدْ يُوجِبُونَ الْقَطْعَ فِيهَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا. ثُمَّ هُمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَمَّا أَوْجَبُوهُ، فَإِنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يَحْتَجُّونَ فِيهَا بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي يَزْعُمُونَهَا قَطْعِيَّاتٍ، وَتَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ الْأُغْلُوطَاتِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ الظَّنِّيَّاتِ، حَتَّى أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَثِيرًا مَا يَقْطَعُ بِصِحَّةِ حُجَّةٍ فِي مَوْضِعٍ، وَيَقْطَعُ بِبُطْلَانِهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ غَايَةُ كَلَامِهِ كَذَلِكَ، وَحَتَّى قَدْ يَدَّعِي كُلٌّ مِنْ الْمُتَنَاظِرَيْنِ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِنَقِيضِ مَا ادَّعَاهُ الْآخَرُ. وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ فِيهِ الْعِلْمَ وَالْيَقِينَ وَجَبَ فِيهِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98] ، وَقَوْلِهِ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19] ، وَلِذَلِكَ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ الْإِيمَانَ بِهِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْوُجُوبَ مُعَلَّقٌ بِاسْتِطَاعَةِ الْعَبْدِ، كَقَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]

، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَإِذَا كَانَ كَثِيرٌ مِمَّا تَنَازَعْت فِيهِ الْأُمَّةُ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الدَّقِيقَةِ قَدْ يَكُونُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مُشْتَبِهًا لَا يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى دَلِيلٍ يُفِيدُهُ الْيَقِينَ لَا شَرْعِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ، لَمْ يَجِبْ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي ذَلِكَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ اعْتِقَادٍ قَوِيٍّ غَالِبٍ عَلَى ظَنِّهِ؛ لِعَجْزِهِ عَنْ تَمَامِ الْيَقِينِ، بَلْ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مُطَابِقًا لِلْحَقِّ، فَالِاعْتِقَادُ الْمُطَابِقُ لِلْحَقِّ يَنْفَعُ صَاحِبَهُ وَيُثَابُ عَلَيْهِ، وَيَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ. لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ عَامَّةَ مَنْ ضَلَّ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْ عَجَزَ فِيهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، فَإِنَّمَا هُوَ لِتَفْرِيطِهِ فِي اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَتَرْكِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ الْمُوصِلِ إلَى مَعْرِفَتِهِ، فَلَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ ضَلُّوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِبَنِي آدَمَ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه: 123] {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَنْ لَا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ: سَتَكُونُ فِتْنَةٌ، قُلْت: فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إذْ سَمِعَتْهُ أَنْ قَالُوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1] {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن: 2]

، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إلَيْهِ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» . قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] ، وَقَالَ تَعَالَى: {المص - كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} [الأعراف: 1 - 2] إلَى قَوْلِهِ: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ - أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام: 155 - 156] {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 157] . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ إنَّهُ سَيَجْزِي الصَّادِفَ عَنْ آيَاتِهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ مُكَذِّبًا أَوْ لَمْ يَكُنْ {سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 157] ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَهُوَ كَافِرٌ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَ كَذِبَهُ، أَوْ اسْتَكْبَرَ عَنْ الْإِيمَانِ بِهِ أَوْ أَعْرَضَ عَنْهُ اتِّبَاعًا لِمَا يَهْوَاهُ، أَوْ ارْتَابَ فِيمَا جَاءَ بِهِ، فَكُلُّ مُكَذِّبٍ بِمَا جَاءَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَقَدْ يَكُونُ كَافِرًا مَنْ لَا يُكَذِّبُهُ إذَا لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، وَلِهَذَا أَخْبَرَ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ بِالضَّلَالِ وَالْعَذَابِ لِمَنْ تَرَكَ اتِّبَاعَ مَا أَنْزَلَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نَظَرٌ وَجَدَلٌ وَاجْتِهَادٌ فِي عَقْلِيَّاتٍ وَأُمُورٍ غَيْرِ ذَلِكَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ نُعُوتِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83] {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ - فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 84 - 85] . وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 35] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [غافر: 56] . وَالسُّلْطَانُ هُوَ الْحُجَّةُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35] . وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ - فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات: 156 - 157] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] ، وَقَدْ طَالَبَ سُبْحَانَهُ لِمَنْ اتَّخَذَ دِينًا بِقَوْلِهِ: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4] . فَالْكِتَابُ الْكِتَابُ، وَالْأَثَارَةُ، كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: هِيَ الرِّوَايَةُ وَالْإِسْنَادُ، وَقَالُوا: هِيَ الْخَطُّ أَيْضًا، إذْ الرِّوَايَةُ وَالْإِسْنَادُ يُكْتَبُ بِالْخَطِّ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَثَارَةَ مِنْ الْأَثَرِ فَالْعِلْمُ الَّذِي يَقُولُهُ مَنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ يُؤْثَرُ بِالْإِسْنَادِ، وَيُقَيَّدُ بِالْخَطِّ، فَيَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ آثَارِهِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي نَعْتِ الْمُنَافِقِينَ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 60 - 61] {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62] {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا} [النساء: 63]

وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنْوَاعٌ مِنْ الْعِبَرِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى ضَلَالِ مَنْ يَتَحَاكَمُ إلَى غَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَعَلَى نِفَاقِهِ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّوْفِيقَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَبَيْنَ مَا يُسَمِّيهِ هُوَ عَقْلِيَّاتٍ مِنْ الْأُمُورِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ بَعْضِ الطَّوَاغِيتِ، مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الِاعْتِبَارِ. فَمَنْ كَانَ خَطَؤُهُ لِتَفْرِيطِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ مَثَلًا، أَوْ لِتَعَدِّيهِ حُدُودَ اللَّهِ بِسُلُوكِ السُّبُلِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا، أَوْ لِاتِّبَاعِ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ، فَهُوَ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ، بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، الَّذِي يَطْلُبُ الْحَقَّ بِاجْتِهَادِهِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهَذَا مَغْفُورٌ لَهُ خَطَؤُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] ، إلَى قَوْلِهِ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِيهِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْرَأْ بِحَرْفٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَمِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ إلَّا أُعْطِيَ ذَلِكَ، فَهَذَا يُبَيِّنُ اسْتِجَابَةَ هَذَا الدُّعَاءِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُهُمْ إنْ نَسَوْا أَوْ أَخْطَئُوا. وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: هَلْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَالْحَالُ هَذِهِ. فَيُقَالُ: هَذِهِ الْعِبَارَةُ وَإِنْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْخِلَافَ الْمُحَقَّقَ فِيهَا نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى جَوَازِهِ وَوُقُوعِهِ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي إطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يُطَاقُ. وَالثَّانِي: مَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُطَاقُ، لَكِنْ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الْأَمْرِ بِهِ، وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي عَدَمِ وُقُوعِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرٌ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُطَاقُ، وَتَنَازَعُوا فِي وُقُوعِ الْأَمْرِ بِهِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ.

فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ: كَتَنَازُعِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ مُثْبِتَةِ الْقَدَرِ وَنُفَاتِهِ فِي اسْتِطَاعَةِ الْعَبْدِ، وَهِيَ قُدْرَتُهُ وَطَاقَتُهُ، هَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ، أَوْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْفِعْلِ؟ فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ عَبْدٍ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ قَدْ كُلِّفَ مَا لَا يُطِيقُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ قُدْرَةٌ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ مُحَقِّقُو الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَهْلُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَغَيْرِهِمْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهِيَ الْمُصَحِّحَةُ لِلْفِعْلِ، لَا يَجِبُ أَنْ تُقَارِنَ الْفِعْلَ. وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ مَعَهَا وُجُودُ الْفِعْلِ فَهِيَ مُقَارِنَةٌ لَهُ. فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] . وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِمْرَانِ بْنِ الْحُصَيْنِ: «صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَجَّ وَالصَّلَاةَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ سَوَاءٌ فَعَلَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ. وَالثَّانِيَةُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف: 100] {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 101] ، وَهَذِهِ حَالُ مَنْ صَدَّهُ هَوَاهُ، وَرَأْيُهُ الْفَاسِدُ، عَنْ اسْتِمَاعِ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ وَاتِّبَاعِهَا، فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ هِيَ الْمُقَارِنَةُ لِلْفِعْلِ الْمُوجِبَةُ لَهُ. وَأَمَّا الْأُولَى: فَلَوْلَا وُجُودُهَا لَمْ يَثْبُتْ التَّكْلِيفُ، بِقَوْلِهِ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [الأعراف: 42] ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، فَهَؤُلَاءِ الْمُفَرِّطُونَ وَالْمُعْتَدُونَ فِي أُصُولِ الدِّينِ إذَا لَمْ يَسْتَطِيعُوا سَمْعَ مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ فَهُمْ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ.

وَكَذَلِكَ أَيْضًا تَنَازُعُهُمْ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ، أَوْ أَخْبَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ هَذَا غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ غَالِيَةَ الْقَدَرِيَّةِ يَمْنَعُونَ أَنْ يَتَقَدَّمَ عِلْمُ اللَّهِ وَخَبَرُهُ وَكِتَابُهُ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ، وَذَلِكَ لِاتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى أَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ لَا يَكُونُ مُمْكِنًا وَلَا مَقْدُورًا عَلَيْهِ، وَقَدْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ النَّاسِ، وَقَالُوا: هَذَا مَنْقُوضٌ عَلَيْهِمْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَيَعْلَمُهُ مُمْكِنًا مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ، غَيْرَ وَاقِعٍ وَلَا كَائِنٍ لِعَدَمِ إرَادَةِ الْعَبْدِ لَهُ أَوْ لِبُغْضِهِ إيَّاهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَا لِعَجْزِهِ عَنْهُ، وَهَذَا النِّزَاعُ يَزُولُ بِتَنْوِيعِ الْقُدْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ الْقُدْرَةِ الْمُقَارِنَةِ لِلْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ مَقْدُورًا الْقُدْرَةَ الْمُصَحِّحَةَ لِلْفِعْلِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَكَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ الْفِعْلِ لَا يُطِيقُهُ، كَمَا لَا يُطِيقُ الْأَعْمَى وَالْأَقْطَعُ وَالزَّمِنُ نَقْطَ الْمُصْحَفِ وَكِتَابَتَهُ وَالطَّيَرَانَ، فَمِثْلُ هَذَا النَّوْعِ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الْأَمْرِ بِهِ عَقْلًا، حَتَّى نَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي الْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَالنَّقِيضَيْنِ، هَلْ يَجُوزُ الْأَمْرُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرِيعَةِ؟ . وَمَنْ غَالَى فَزَعَمَ وُقُوعَ هَذَا الضَّرْبِ فِي الشَّرِيعَةِ، كَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ أَبَا لَهَبٍ كُلِّفَ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، فَهُوَ مُبْطِلٌ فِي ذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ، بَلْ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ أُخْبِرَ بِصَلْيِهِ النَّارَ الْمُسْتَلْزِمِ لِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ، وَأَنَّهُ أُسْمِعَ هَذَا الْخِطَابَ، فَفِي هَذَا الْحَالِ انْقَطَعَ تَكْلِيفُهُ، وَلَمْ يَنْفَعْهُ الْإِيمَانُ حِينَئِذٍ كَإِيمَانِ مَنْ يُؤْمِنُ بَعْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ، قَالَ تَعَالَى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85] ، وَقَالَ تَعَالَى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] . وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ النِّزَاعَ فِي هَذَا الْأَصْلِ يَتَنَوَّعُ تَارَةً إلَى الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَتَارَةً إلَى جَوَازِ الْأَمْرِ، وَمِنْ هُنَا شَبَّهَ مَنْ شَبَّهَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى النَّاسِ حَيْثُ جَعَلَ الْقِسْمَيْنِ قِسْمًا وَاحِدًا، وَادَّعَى تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ مُطْلَقًا لِوُقُوعِ بَعْضِ

الْأَقْسَامِ الَّتِي لَا يَجْعَلُهَا عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَابِ مَا لَا يُطَاقُ، وَالنِّزَاعُ فِيهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِمَسَائِلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَسَائِلِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. ثُمَّ إنَّهُ جَعَلَ جَوَازَ هَذَا الْقِسْمِ مُسْتَلْزِمًا لِجَوَازِ الْقِسْمِ الَّذِي اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، وَقَاسَ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ بِالْآخَرِ، وَذَلِكَ مِنْ الْأَقْيِسَةِ الَّتِي اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ، بَلْ وَسَائِرُ أَهْلِ الْمِلَلِ، بَلْ وَسَائِرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى بُطْلَانِهَا، فَإِنَّ مَنْ قَاسَ الصَّحِيحَ الْمَأْمُورَ بِالْأَفْعَالِ لِقَوْلِهِ إنَّ الْقُدْرَةَ مَعَ الْفِعْلِ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ عَلَى الْعَاجِزِ الَّذِي لَوْ أَرَادَ الْفِعْلَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ مَا عُلِمَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالِاضْطِرَارِ عَقْلًا وَدِينًا، وَذَلِكَ مِنْ مِثْلِ الْأَهْوَاءِ بَيْنَ الْقَدَرِيَّةِ وَإِخْوَانِهِمْ الْجَبْرِيَّةِ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ مِنْ الْبِدَعِ الْحَادِثَةِ فِي الْإِسْلَامِ، كَإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّاسَ مَجْبُورُونَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، وَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ وَذَمِّ مَنْ يُطْلِقُهُ، وَإِنْ قُصِدَ بِهِ الرَّدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ لَا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَلَا بِأَنَّهُ شَاءَ الْكَائِنَاتِ، وَقَالُوا: هَذَا رَدُّ بِدْعَةٍ بِبِدْعَةٍ، وَقَابَلَ الْفَاسِدَ وَالْبَاطِلَ بِالْبَاطِلِ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَحْتَمِلُ الْبَسْطَ لَذَكَرْت مِنْ نُصُوصِ أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ رَدَّهُمْ لِذَلِكَ. وَأَمَّا إذَا فَصَّلَ مَقْصُودَ الْقَائِلِ وَبَيَّنَ بِالْعِبَارَةِ الَّتِي لَا يُشْتَبَهُ فِيهَا الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ مَا هُوَ الْحَقُّ، وَمَيَّزَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، كَانَ هَذَا مِنْ الْفُرْقَانِ، وَخَرَجَ الْمُبَيِّنُ حِينَئِذٍ مِمَّا ذُمَّ بِهِ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَتْهُمْ الْأَئِمَّةُ بِأَنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مُخَالِفُونَ لِكِتَابِ اللَّهِ، مُتَّفِقُونَ عَلَى تَرْكِ كِتَابِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ، وَيُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ. وَلِهَذَا كَانَ يَدْخُلُ عِنْدَهُمْ الْمُجَبِّرَةُ فِي مُسَمَّى الْقَدَرِيَّةِ الْمَذْمُومِينَ لِخَوْضِهِمْ فِي الْقَدَرِ بِالْبَاطِلِ، إذْ هَذَا جِمَاعُ الْمَعْنَى الَّذِي ذُمَّتْ بِهِ الْقَدَرِيَّةُ، وَلِهَذَا تَرْجَمَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ فَقَالَ: الرَّدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، وَقَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ أَجْبَرَ الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي، ثُمَّ رَوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ، قَالَ: سَأَلْت الزُّبَيْدِيَّ وَالْأَوْزَاعِيَّ عَنْ الْجَبْرِ، فَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ: أَمْرُ اللَّهِ أَعْظَمُ، وَقُدْرَتُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُجْبَرَ أَوْ يُعْضَلَ، وَلَكِنْ يَقْضِي وَيُقَدِّرُ، وَيَخْلُقُ وَيَجْبُلُ عَبْدَهُ عَلَى مَا أَحَبَّ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: مَا أَعْرِفُ لِلْجَبْرِ أَصْلًا فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، فَأَهَابُ أَنْ أَقُولَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ

وَالْخَلْقُ وَالْجَبْلُ، فَهَذَا يُعْرَفُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا وَضَعْت هَذَا مَخَافَةَ أَنْ يَرْتَابَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ وَالتَّصْدِيقِ. فَهَذَانِ الْجَوَابَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا هَذَانِ الْإِمَامَانِ فِي عَصْرِ تَابِعِي التَّابِعِينَ مِنْ أَحْسَنِ الْأَجْوِبَةِ. أَمَّا الزُّبَيْدِيُّ فَمُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ صَاحِبُ الزُّهْرِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: أَمْرُ اللَّهِ أَعْظَمُ وَقُدْرَتُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُجْبَرَ أَوْ يُعْضَلَ، فَنَفَى الْجَبْرَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَبْرَ الْمَعْرُوفَ فِي اللُّغَةِ هُوَ: إلْزَامُ الْإِنْسَانِ بِخِلَافِ رِضَاهُ، كَمَا تَقُولُ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ النِّكَاحِ: هَلْ تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى النِّكَاحِ أَوْ لَا تُجْبَرُ؟ وَإِذَا عَضَلَهَا الْوَلِيُّ مَاذَا تَصْنَعُ، فَيَعْنُونَ بِجَبْرِهَا إنْكَاحَهَا بِدُونِ رِضَاهَا وَاخْتِيَارِهَا، وَيَعْنُونَ بِعَضْلِهَا مَنْعَهَا مِمَّا تَرْضَاهُ وَتَخْتَارُهُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُجْبَرَ أَوْ يُعْضَلَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدَ مُحِبًّا رَاضِيًا لِمَا يَفْعَلُهُ، وَمُبْغِضًا وَكَارِهًا لِمَا يَتْرُكُهُ، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ، فَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ مَجْبُورًا عَلَى مَا يَخْتَارُهُ وَيَرْضَاهُ وَيُرِيدُهُ، وَهِيَ أَفْعَالُهُ الِاخْتِيَارِيَّةُ، وَلَا يَكُونُ مَعْضُولًا عَمَّا يَتْرُكُهُ فَيُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ وَلَا يُرِيدُهُ، وَهِيَ تُرُوكُهُ الِاخْتِيَارِيَّةُ. وَأَمَّا الْأَوْزَاعِيُّ، فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْ إطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ، وَإِنْ عَنَى بِهِ هَذَا الْمَعْنَى، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَيُفْضِي إلَى إطْلَاقِ لَفْظٍ مُبْتَدَعٍ ظَاهِرٍ فِي إرَادَةِ الْبَاطِلِ وَذَلِكَ لَا يُسَوَّغُ، وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى صَحِيحٌ. قَالَ الْخَلَّالُ: أَنْبَأَنَا الْمَرْوَزِيِّ، قَالَ: سَمِعْت بَعْضَ الْمَشْيَخَةِ يَقُولُ: سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ يَقُولُ: أَنْكَرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْجَبْرَ وَقَالَ: اللَّهُ تَعَالَى جَبَلَ الْعِبَادَ. قَالَ الْمَرْوَزِيِّ: أَظُنُّهُ أَرَادَ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ، يَعْنِي: قَوْلُهُ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «إنَّ فِيك لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمَ وَالْأَنَاةَ. فَقَالَ أَخُلُقَيْنِ تَخَلَّقْتُ بِهِمَا أَمْ خُلُقَيْنِ جُبِلْتُ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ: بَلْ خُلُقَيْنِ جُبِلْت عَلَيْهِمَا، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ تَعَالَى» . وَلِهَذَا احْتَجَّ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى خَلْقِ الْأَفْعَالِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19] {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} [المعارج: 20] {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 21] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ.

وَجَوَابُ الْأَوْزَاعِيِّ أَقْوَمُ مِنْ جَوَابِ الزُّبَيْدِيِّ؛ لِأَنَّ الزُّبَيْدِيَّ نَفَى الْجَبْرَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ مَنَعَ إطْلَاقَهُ إذْ هَذَا اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ مَعْنًى صَحِيحًا، فَنَفْيُهُ قَدْ يَقْتَضِي نَفْيَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، كَمَا ذَكَرَ الْخَلَّالُ مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ، فَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارَ، ثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا سُمِّيَ الْجَبَّارَ، لِأَنَّهُ يُجْبِرُ الْخَلْقَ عَلَى مَا أَرَادَ. فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ إطْلَاقِ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ الْمُشْتَبَهِ زَالَ الْمَحْذُورُ، وَكَانَ أَحْسَنَ مِنْ نَفْيِهِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي الْمَعْنَى الْفَاسِدِ خَشْيَةَ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ يَنْفِي الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا. وَهَكَذَا يُقَالُ فِي نَفْيِ الطَّاقَةِ عَلَى الْمَأْمُورِ، فَإِنَّ إثْبَاتَ الْجَبْرِ فِي الْمَحْظُورِ نَظِيرُ سَلْبِ الطَّاقَةِ فِي الْمَأْمُورِ. وَهَكَذَا كَانَ يَقُولُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، قَالَ الْخَلَّالُ: أَنْبَأَنَا الْمَيْمُونُ قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يُنَاظِرُ خَالِدَ بْنَ خِدَاشٍ، يَعْنِي فِي الْقَدَرِ، فَذَكَرُوا رَجُلًا، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إنَّمَا أَكْرَهُ مِنْ هَذَا أَنْ يَقُولَ أَجْبَرَ اللَّهُ. وَقَالَ: أَنْبَأَنَا الْمَرْوَزِيِّ، قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ أَجْبَرَ الْعِبَادَ، فَقَالَ: هَكَذَا لَا تَقُلْ، وَأَنْكَرَ هَذَا، وَقَالَ: يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. وَقَالَ: أَنْبَأَنَا الْمَرْوَزِيِّ، قَالَ: كُتِبَ إلَى عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي أَمْرِ حَسَنِ بْنِ خَلَفٍ الْعُكْبَرِيِّ، وَقَالَ إنَّهُ تَنَزَّهَ عَنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ، فَقَالَ رَجُلٌ قَدَرِيٌّ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُجْبِرْ الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي، فَرَدَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ رَجَاءٍ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ جَبَرَ الْعِبَادَ عَلَى مَا أَرَادَ. أَرَادَ بِذَلِكَ إثْبَاتَ الْقَدَرِ، فَوَضَعَ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ كِتَابًا يَحْتَجُّ فِيهِ فَأَدْخَلْته عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَأَخْبَرْته بِالْقِصَّةِ، فَقَالَ: وَيَضَعُ كِتَابًا وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا: عَلَى ابْنِ رَجَاءٍ حِينَ قَالَ جَبَرَ الْعِبَادَ، وَعَلَى الْقَدَرِيِّ الَّذِي قَالَ لَمْ يُجْبِرْ، وَأَنْكَرَ عَلَى أَحْمَدَ فِي وَضْعِهِ الْكِتَابَ وَاحْتِجَاجِهِ وَأَمَرَ بِهِجْرَانِهِ لِوَضْعِهِ الْكِتَابَ، وَقَالَ لِي: يَجِبُ عَلَى ابْنِ رَجَاءَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ رَبَّهُ لَمَّا قَالَ جَبَرَ الْعِبَادَ، فَقُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَمَا الْجَوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ قَالَ: يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. قَالَ الْمَرْوَزِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَى الَّذِي قَالَ لَمْ يُجْبِرْ، وَعَلَى مَنْ رَدَّ عَلَيْهِ جَبَرَ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: كُلَّمَا ابْتَدَعَ رَجُلٌ بِدْعَةً اتَّسَعُوا فِي

مسألة فيمن يقول النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة

جَوَابِهَا، وَقَالَ: يَسْتَغْفِرُ رَبَّهُ الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِمْ بِمُحْدَثِهِ، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ رَدَّ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا إمَامٌ مُقَدَّمٌ، قَالَ الْمَرْوَزِيِّ: فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ قَدِمَ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ مِنْ عَكْبَرَا وَمَعَهُ شَيْخُهُ وَكِتَابٌ مِنْ أَهْلِ عَكْبَرَا فَأَدْخَلْت أَحْمَدَ بْنَ عَلِيٍّ، عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ذَا الْكِتَابِ أَدْفَعُهُ إلَى أَبِي بَكْرٍ حَتَّى يَقْطَعَهُ، وَأَنَا أَقُومُ عَلَى مِنْبَرِ عَكْبَرَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِي: يَنْبَغِي أَنْ تَقْبَلُوا مِنْهُ فَرَجَعُوا إلَيْهِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَقَامِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى الْأَصْلِ الْفَاسِدِ الَّذِي ظَنَّهُ الْمُتَفَرِّقُونَ مِنْ إثْبَاتِ الْمَعْنَى الْحَقِّ الَّذِي يُسَمُّونَهُ جَبْرًا يُنَافِي الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، حَتَّى جَعَلَهُ الْقَدَرِيَّةُ مُنَافِيًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُطْلَقًا، وَجَعَلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْجَبْرِيَّةِ مُنَافِيًا لِحُسْنِ الْفِعْلِ وَقُبْحِهِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِمَّا اعْتَمَدُوهُ فِي نَفْيِ حُسْنِ الْفِعْلِ وَقُبْحِهِ الْقَائِمِ بِهِ، الْمَعْلُومِ بِالْعَقْلِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ إلَّا كَمَا يُنَافِيهِ بِمَعْنَى كَوْنِ الْفِعْلِ مُلَائِمًا لِلْفَاعِلِ وَنَافِعًا لَهُ، وَكَوْنُهُ مُنَافِرًا لِلْفَاعِلِ وَضَارًّا لَهُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ يَقُولُ النُّصُوصُ لَا تَفِي بِعُشْرِ مِعْشَارِ الشَّرِيعَةِ] 10 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ يَقُولُ إنَّ النُّصُوصَ لَا تَفِي بِعُشْرِ مِعْشَارِ الشَّرِيعَةِ، هَلْ قَوْلُهُ صَوَابٌ؟ وَهَلْ أَرَادَ النَّصَّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، أَوْ الْأَلْفَاظَ الْوَارِدَةَ الْمُحْتَمِلَةَ؟ وَمَنْ نَفَى الْقِيَاسَ وَأَبْطَلَهُ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ، هَلْ قَوْلُهُ صَوَابٌ؟ ، وَمَا حُجَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ؟ وَمَا عَنَى قَوْلُهُ " النَّصَّ ". الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. هَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَغَيْرِهِ، وَهُوَ خَطَأٌ، بَلْ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ النُّصُوصَ وَافِيَةٌ بِجُمْهُورِ أَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا وَافِيَةٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مَعَانِيَ النُّصُوصِ الْعَامَّةَ الَّتِي هِيَ أَقْوَالُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَشُمُولَهَا لِأَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ الْجَامِعَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ وَقَاعِدَةٌ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً وَتِلْكَ الْأَنْوَاعُ تَتَنَاوَلُ أَعْيَانًا لَا تُحْصَى، فَبِهَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ النُّصُوصُ مُحِيطَةً بِأَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ

مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ، فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ لَفْظَ الْخَمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا عَصِيرَ الْعِنَبِ خَاصَّةً، ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ لَمْ يُحَرِّمْ إلَّا ذَلِكَ، أَوْ حَرَّمَ مَعَهُ بَعْضَ الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُحَرِّمُ عَصِيرَ الْعِنَبِ الْمُشْتَدِّ الزَّبَدِ، وَهَذَا الْخَمْرُ عِنْدَهُ، وَيُحَرِّمُ الْمَطْبُوخَ مِنْهُ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ، فَإِذَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ لَمْ يُحَرِّمْهُ، وَيُحَرِّمُ النِّيءَ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ، فَإِنْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخٍ حَلَّ عِنْدَهُ، وَهَذِهِ الْمُسْكِرَاتُ الثَّلَاثَةُ لَيْسَتْ خَمْرًا عِنْدَهُ مَعَ أَنَّهَا حَرَامٌ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَنْبِذَةِ فَإِنَّمَا يُحَرِّمُ مِنْهُ مَا يُسْكِرُ. وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَوَافَقَ الْجُمْهُورَ فِي تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَبِهِ أَفْتَى الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَرَّمَ كُلَّ مُسْكِرٍ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ إمَّا فِي الِاسْمِ وَإِمَّا فِي الْحُكْمِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ سَلَكَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، يَظُنُّونَ أَنَّ تَحْرِيمَ كُلِّ مُسْكِرٍ إنَّمَا كَانَ بِالْقِيَاسِ فِي الْأَسْمَاءِ أَوْ الْقِيَاسِ فِي الْحُكْمِ. وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْكِبَارُ أَنَّ الْخَمْرَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ تَنَاوَلَتْ كُلَّ مُسْكِرٍ، فَصَارَ تَحْرِيمُ كُلِّ مُسْكِرٍ بِالنَّصِّ الْعَامِّ وَالْكَلِمَةِ الْجَامِعَةِ، لَا بِالْقِيَاسِ وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ دَلِيلًا آخَرَ يُوَافِقُ النَّصَّ، وَثَبَتَ أَيْضًا نُصُوصٌ صَحِيحَةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ، فَقِيلَ لَهُ: عِنْدَنَا شَرَابٌ مِنْ الْعَسَلِ يُقَالُ لَهُ الْبِتْعُ، وَشَرَابٌ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ؟ قَالَ - وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ - فَقَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» إلَى أَحَادِيثَ أُخَرَ يَطُولُ وَصْفُهَا.

وَعَلَى هَذَا فَتَحْرِيمُ مَا يُسْكِرُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَالْأَطْعِمَةِ، كَالْحَشِيشَةِ الْمُسْكِرَةِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَكَانَ هَذَا النَّصُّ مُتَنَاوِلًا لِشُرْبِ الْأَنْوَاعِ الْمُسْكِرَةِ مِنْ أَيِّ مَادَّةٍ كَانَتْ مِنْ الْحُبُوبِ، أَوْ الثِّمَارِ أَوْ مِنْ لَبَنِ الْخَيْلِ أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ خَمْرَ الْعِنَبِ قَالَ إنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ هَذِهِ الْمُسْكِرَاتِ الَّتِي هِيَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ، وَهَؤُلَاءِ غَلِطُوا فِي فَهْمِ النَّصِّ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ أَنَّ الْخَمْرَ لَمَّا حُرِّمَتْ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ شَيْءٌ، فَإِنَّ الْمَدِينَةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَجَرُ الْعِنَبِ، وَإِنَّمَا كَانَ عِنْدَهُمْ النَّخْلُ، فَكَانَ خَمْرُهُمْ مِنْ التَّمْرِ، وَلَمَّا حُرِّمَتْ الْخَمْرُ أَرَاقُوا تِلْكَ الْأَشْرِبَةَ الَّتِي كَانَتْ مِنْ التَّمْرِ، وَعَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ الشَّرَابَ هُوَ خَمْرٌ مُحَرَّمٌ. فَعُلِمَ أَنَّ لَفْظَ الْخَمْرِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مَخْصُوصًا بِعَصِيرِ الْعِنَبِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي لُغَتِهِمْ فَتَنَاوَلَ، أَوْ كَانُوا عَرَفُوا التَّعْمِيمَ بِلُغَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ الْمُبَيِّنُ عَنْ اللَّهِ مُرَادَهُ، فَإِنَّ الشَّارِعَ يَتَصَرَّفُ فِي اللُّغَةِ تَصَرُّفَ أَهْلِ الْعُرْفِ، يَسْتَعْمِلُ اللَّفْظَ تَارَةً فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ، وَتَارَةً فِيمَا هُوَ أَخَصُّ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمَيْسِرِ هُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ يَتَنَاوَلُ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ، وَيَتَنَاوَلُ بُيُوعَ الْغَرَرِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ فِيهَا مَعْنَى الْقِمَارِ الَّذِي هُوَ مَيْسِرٌ، إذْ الْقِمَارُ مَعْنَاهُ أَنْ يُؤْخَذَ مَالُ الْإِنْسَانِ وَهُوَ عَلَى مُخَاطَرَةٍ، هَلْ يَحْصُلُ لَهُ عِوَضُهُ أَوْ لَا يَحْصُلُ، كَاَلَّذِي يَشْتَرِي الْعَبْدَ الْآبِقَ، وَالْبَعِيرَ الشَّارِدَ، وَحَبَلَ الْحَبَلَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَحْصُلُ لَهُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ لَهُ. وَعَلَى هَذَا فَلَفْظُ الْمَيْسِرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ، وَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا فِيهِ مُخَاطَرَةٌ،

كَبَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَبَيْعِ الْأَجِنَّةِ فِي الْبُطُونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ الرِّبَا، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ رِبَا النَّسَاءِ وَرِبَا الْفَضْلِ وَالْقَرْضِ الَّذِي يَجُرُّ مَنْفَعَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَالنَّصُّ مُتَنَاوِلٌ لِهَذَا كُلِّهِ، لَكِنْ يُحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ دُخُولِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَعْيَانِ فِي النَّصِّ إلَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا الَّذِي يُسَمَّى تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . وَقَوْلُهُ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ يَعُمُّ بِلَفْظِهِ كُلَّ مُطَلَّقَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ طَلَاقٍ فَهُوَ رَجْعِيٌّ، وَلِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَرْأَةَ ثَلَاثًا، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إلَّا رَجْعِيًّا، وَإِنَّ مَا كَانَ بَائِنًا فَلَيْسَ مِنْ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ فَلَا يَكُونُ الْخُلْعُ مِنْ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، لَكِنْ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ، هَلْ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَخْلُوَ الْخُلْعُ عَنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَنِيَّتِهِ، أَوْ بِالْخُلُوِّ عَنْ لَفْظِهِ فَقَطْ، أَوْ لَا يُشْتَرَطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] ، وَذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ هُوَ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ يَمِينٍ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ. فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: كُلُّ يَمِينٍ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهَا كَفَّارَةٌ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَتَنَاوَلُ النَّصُّ إلَّا الْحَلِفَ بِاسْمِ اللَّهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا تَنْعَقِدُ وَلَا شَيْءَ فِيهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هِيَ أَيْمَانٌ يَلْزَمُ الْحَلِفُ بِهَا مَا الْتَزَمَهُ وَلَا تَدْخُلُ فِي النَّصِّ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَمَنْ قَالَ إنَّ النَّصَّ لَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ جَمِيعِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ، كَانَ هَذَا رَأْيًا مِنْهُ، لَمْ يَكُنْ هَذَا مَدْلُولَ النَّصِّ. وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي عَامَّةِ مَسَائِلِ النِّزَاعِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إذَا طُلِبَ مَا يَفْصِلُ النِّزَاعَ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُجِدَ ذَلِكَ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ النُّصُوصَ شَامِلَةٌ لِعَامَّةِ أَحْكَامِ الْأَفْعَالِ.

وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَقُولُ: إنَّهُ مَا مِنْ مَسْأَلَةٍ يُسْأَلُ عَنْهَا إلَّا وَقَدْ تَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ فِيهَا أَوْ فِي نَظِيرِهَا، وَالصَّحَابَةُ كَانُوا يَحْتَجُّونَ فِي عَامَّةِ مَسَائِلِهِمْ بِالنُّصُوصِ، كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُمْ، وَكَانُوا يَجْتَهِدُونَ رَأْيَهُمْ، وَيَتَكَلَّمُونَ بِالرَّأْيِ، وَيَحْتَجُّونَ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ أَيْضًا. وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا فَارِقَ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ إلَّا فَرْقًا غَيْرَ مُوَثِّرٍ فِي الشَّرْعِ، كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ؟ فَقَالَ: «أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ» ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِتِلْكَ الْفَأْرَةِ وَذَلِكَ السَّمْنِ. فَلِهَذَا قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ أَيَّ نَجَاسَةٍ وَقَعَتْ فِي دُهْنٍ مِنْ الْأَدْهَانِ كَالْفَأْرَةِ الَّتِي تَقَعُ فِي الزَّيْتِ، وَكَالْهِرِّ الَّذِي يَقَعُ فِي السَّمْنِ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ تِلْكَ الْفَأْرَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي السَّمْنِ. وَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ: إنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ، فَقَدْ أَخْطَأَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَخُصَّ الْحُكْمَ بِتِلْكَ الصُّورَةِ، لَكِنْ لَمَّا اُسْتُفْتِيَ عَنْهَا أَفْتَى فِيهَا، وَالِاسْتِفْتَاءُ إذَا وَقَعَ عَنْ قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ عَنْ نَوْعٍ، فَأَجَابَ الْمُفْتِي عَنْ ذَلِكَ خَصَّهُ لِكَوْنِهِ سُئِلَ عَنْهُ، لَا لِاخْتِصَاصِهِ بِالْحُكْمِ. وَمِثْلُ هَذَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مُضَمَّخَةٌ بِخَلُوقٍ؟ فَقَالَ: «انْزِعْ عَنْك الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ عَنْك الْخَلُوقَ وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا كُنْت تَصْنَعُ فِي حَجِّك» . فَأَجَابَهُ عَنْ الْجُبَّةِ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ نَحْوُهُ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ.

وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْقِيَاسِ: أَنْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمٍ لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَوْجُودًا فِي غَيْرِهِ، فَإِذَا قَامَ دَلِيلٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ سَوَّى بَيْنَهُمَا، وَكَانَ هَذَا قِيَاسًا صَحِيحًا. فَهَذَانِ النَّوْعَانِ كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ يَسْتَعْمِلُونَهُمَا ا، وَهُمَا مِنْ بَابِ فَهْمِ مُرَادِ الشَّارِعِ، فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِكَلَامِ الشَّارِعِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يُعْرَفُ ثُبُوتُ اللَّفْظِ عَنْهُ، وَعَلَى أَنْ يُعْرَفُ مُرَادُهُ بِاللَّفْظِ، وَإِذَا عَرَفْنَا مُرَادَهُ فَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ حُكْمٌ لِلْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ لَا لِمَعْنًى يَخُصُّ الْأَصْلَ، أَثْبَتْنَا الْحُكْمَ حَيْثُ وُجِدَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ، وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ قَصَدَ تَخْصِيصَ الْحُكْمِ بِمَوْرِدِ النَّصِّ مَنَعْنَا الْقِيَاسَ، كَمَا أَنَّهُ عَلِمْنَا أَنَّ الْحَجَّ خُصَّ بِهِ الْكَعْبَةُ، وَأَنَّ الصِّيَامَ الْفَرْضَ خُصَّ بِهِ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ خُصَّ بِهِ جِهَةُ الْكَعْبَةِ، وَأَنَّ الْمَفْرُوضَ مِنْ الصَّلَوَاتِ خُصَّ بِهِ الْخَمْسُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ هُنَا أَنْ نَقِيسَ عَلَى الْمَنْصُوصِ غَيْرَهُ. وَإِذَا عَيَّنَ الشَّارِعُ مَكَانًا أَوْ زَمَانًا لِلْعِبَادَةِ كَتَعْيِينِ الْكَعْبَةِ وَشَهْرِ رَمَضَانَ، أَوْ عَيَّنَ بَعْضَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، كَتَعْيِينِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، بَلْ وَتَعْيِينُ التَّكْبِيرِ وَأُمِّ الْقُرْآنِ، فَإِلْحَاقُ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِهِ يُشْبِهُ حَالَ أَهْلِ الْيَمَنِ الَّذِينَ أَسْقَطُوا تَعَيُّنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَقَالُوا: الْمَقْصُودُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ السَّنَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37] . وَقِيَاسُ الْحَلَالِ بِالنَّصِّ عَلَى الْحَرَامِ بِالنَّصِّ، مِنْ جِنْسِ قِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] . وَكَذَلِكَ قِيَاسُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَاسُوا الْمَيْتَةَ بِالْمُذَكَّى، وَقَالُوا أَتَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] .

فَهَذِهِ الْأَقْيِسَةُ الْفَاسِدَةُ وَكُلُّ قِيَاسٍ دَلَّ النَّصُّ عَلَى فَسَادِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَكُلُّ مَنْ أَلْحَقَ مَنْصُوصًا بِمَنْصُوصٍ يُخَالِفُ حُكْمَهُ فَقِيَاسُهُ فَاسِدٌ، وَكُلُّ مَنْ سَوَّى بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ فَرَّقَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ بِغَيْرِ الْأَوْصَافِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقِيَاسُهُ فَاسِدٌ، لَكِنْ مِنْ الْقِيَاسِ مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ، وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ، وَمِنْهُ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَمْرُهُ. فَمَنْ أَبْطَلَ الْقِيَاسَ مُطْلَقًا فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ، وَمَنْ اسْتَدَلَّ بِالْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ، وَمَنْ اسْتَدَلَّ بِقِيَاسٍ لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِمَا لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ اسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ رَجُلٍ مَجْهُولٍ لَا يَعْلَمُ عَدَالَتَهُ. فَالْحُجَجُ الْأَثَرِيَّةُ وَالنَّظَرِيَّةُ تَنْقَسِمُ إلَى مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ، وَإِلَى مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ، وَإِلَى مَا هُوَ مَوْقُوفٌ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى أَحَدِهِمَا. وَلَفْظُ النَّصِّ يُرَادُ بِهِ تَارَةً أَلْفَاظُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةٌ أَوْ ظَاهِرَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: النُّصُوصُ تَتَنَاوَلُ أَحْكَامَ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَيُرَادُ بِالنَّصِّ مَا دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةٌ لَا تَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، كَقَوْلِهِ: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ - اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: 196 - 17] ، فَالْكِتَابُ هُوَ النَّصُّ، وَالْمِيزَانُ هُوَ الْعَدْلُ، وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مِنْ بَابِ الْعَدْلِ، فَإِنَّهُ تَسْوِيَةٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَتَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَدَلَالَةُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ تُوَافِقُ دَلَالَةَ النَّصِّ، فَكُلُّ قِيَاسٍ خَالَفَ دَلَالَةَ النَّصِّ فَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ، وَلَا يُوجَدُ نَصٌّ يُخَالِفُ قِيَاسًا صَحِيحًا، كَمَا لَا يُوجَدُ مَعْقُولٌ صَرِيحٌ يُخَالِفُ الْمَنْقُولَ الصَّحِيحَ. وَمَنْ كَانَ مُتَبَحِّرًا فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى غَالِبِ الْأَحْكَامِ بِالْمَنْصُوصِ وَبِالْأَقْيِسَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ دَلَّ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَمْثِلَةِ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ، كَمَا يَدُلُّ النَّصُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ؛ لِأَنَّهَا تُوقِعُ بَيْنَنَا الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَتَصُدُّنَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، كَمَا دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ شَرَابٍ وَشَرَابٍ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَنْوَاعِ الْمُشْتَرِكَةِ مِنْ هَذَا

مسألة قبور الأنبياء هل هي التي تزورها الناس اليوم

الْجِنْسِ تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَخُرُوجٌ عَنْ مُوجِبِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، كَمَا هُوَ خُرُوجٌ عَنْ مُوجِبِ النُّصُوصِ، وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ خِلَافُ الْقِيَاسِ، لَكِنْ يَقُولُونَ: مَعَنَا آثَارٌ تُوَافِقُ اتَّبَعْنَاهَا، وَيَقُولُونَ: إنَّ اسْمَ الْخَمْرِ لَمْ يَتَنَاوَلْ كُلَّ مُسْكِرٍ، وَغَلِطُوا فِي فَهْمِ النَّصِّ، وَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ مُثَابِينَ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ، وَمَعْرِفَةُ عُمُومِ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي النَّصِّ وَخُصُوصِهَا مِنْ مَعْرِفَةِ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] . وَالْكَلَامُ فِي تَرْجِيحِ نُفَاةِ الْقِيَاسِ وَمُثْبِتِيهِ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ، لَا تَحْتَمِلُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ بَسْطَهُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قُبُور الْأَنْبِيَاءِ هَلْ هِيَ الَّتِي تَزُورُهَا النَّاسُ الْيَوْمَ] 11 - مَسْأَلَةٌ: فِي قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، هَلْ هِيَ هَذِهِ الْقُبُورُ الَّتِي تَزُورُهَا النَّاسُ الْيَوْمَ؟ مِثْلُ: قَبْرِ نُوحٍ، وَقَبْرِ الْخَلِيلِ، وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَيُوسُفَ، وَيُونُسَ وَإِلْيَاسَ وَاَلْيَسَع، وَشُعَيْبٍ وَمُوسَى وَزَكَرِيَّا، وَهُوَ بِمَسْجِدِ دِمَشْقَ؟ وَأَيْنَ قَبْرُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؟ فَهَلْ يَصِحُّ مِنْ تِلْكَ الْقُبُورِ شَيْءٌ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، الْقَبْرُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ هُوَ قَبْرُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَبْرُ الْخَلِيلِ فِيهِ نِزَاعٌ؛ لَكِنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ قَبْرُهُ، وَأَمَّا يُونُسُ وَإِلْيَاسُ وَشُعَيْبٌ وَزَكَرِيَّا فَهُوَ يُعْرَفُ، وَقَبْرُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ الَّذِي بِالْكُوفَةِ، وَقَبْرُ مُعَاوِيَةَ هُوَ الْقَبْرُ الَّذِي تَقُولُ الْعَامَّةُ إنَّهُ قَبْرُ هُودٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ جَمَاعَة يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ أَكَلَ ذَبِيحَة يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ] 12 - مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ عَلَى مَنْ أَكَلَ مِنْ ذَبِيحَةِ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ مُطْلَقًا، وَلَا يَدْرِي مَا حَالُهُمْ، هَلْ دَخَلُوا فِي دِينِهِمْ قَبْلَ نَسْخِهِ وَتَحْرِيفِهِ وَقَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ يَتَنَاكَحُونَ، وَتُقَرُّ مُنَاكَحَتُهُمْ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ، وَهُمْ أَهْلُ ذِمَّةٍ يُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ، وَلَا يُعْرَفُ مَنْ وَلَّاهُمْ مِنْ

آبَائِهِمْ، فَهَلْ لِلْمُنْكِرِينَ عَلَيْهِمْ مَنْعُهُمْ مِنْ الذَّبْحِ لِلْمُسْلِمِينَ، أَمْ لَهُمْ الْأَكْلُ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ كَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ؟ أَجَابَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى أَحَدٍ أَكَلَ مِنْ ذَبِيحَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَلَا يَحْرُمُ ذَبْحُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَهُوَ جَاهِلٌ مُخْطِئٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ لَا يُسَوَّغُ فِيهَا الْإِنْكَارُ إلَّا بِبَيَانِ الْحُجَّةِ، وَإِيضَاحِ الْمَحَجَّةِ، لَا الْإِنْكَارُ الْمُجَرَّدُ الْمُسْتَنِدُ إلَى مَحْضِ التَّقْلِيدِ. فَإِنَّ هَذَا فِعْلُ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْأَهْوَاءِ، كَيْفَ وَالْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَقَبْلَهُ قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا مُخَالِفٌ لِمَا عُلِمَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِمَا عُلِمَ مِنْ حَالِ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ لِهَذَا لَا يَخْرُجُ عَنْ قَوْلَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُحَرِّمُ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ مُطْلَقًا، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الرَّافِضَةِ، وَهَؤُلَاءِ يُحَرِّمُونَ نِكَاحَ نِسَائِهِمْ وَأَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ أَقْوَالِ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْفُتْيَا، وَلَا مِنْ أَقْوَالِ أَتْبَاعِهِمْ، وَهُوَ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] . فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُعَارَضَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] . قِيلَ: الْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الشِّرْكَ الْمُطْلَقَ فِي الْقُرْآنِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُونَ فِي الشِّرْكِ الْمُقَيَّدِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1] . فَجَعَلَ الْمُشْرِكِينَ قِسْمًا غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج: 17]

فَجَعَلَهُمْ قِسْمًا غَيْرَهُمْ، فَأَمَّا دُخُولُهُمْ فِي الْمُقَيَّدِ، فَفِي قَوْله تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] . فَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ. وَسَبَبُ هَذَا: أَنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ بِهِ الرُّسُلَ لَيْسَ فِيهِ شِرْكٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] . وَقَالَ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] ، وَلَكِنَّهُمْ بَدَّلُوا وَغَيَّرُوا، فَابْتَدَعُوا مِنْ الشِّرْكِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ اللَّهُ سُلْطَانًا، فَصَارَ فِيهِمْ شِرْكٌ بِاعْتِبَارِ مَا ابْتَدَعُوا، لَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الدِّينِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] هُوَ تَعْرِيفٌ لِلْكَوَافِرِ الْمَعْرُوفَاتِ اللَّاتِي كُنَّ فِي عِصَمِ الْمُسْلِمِينَ، وَأُولَئِكَ كُنَّ مُشْرِكَاتٍ لَا كِتَابِيَّاتٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَنَحْوِهَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: إذَا قُدِّرَ أَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكَاتِ وَالْكَوَافِرِ يَعُمُّ الْكِتَابِيَّاتِ، فَآيَةُ الْمَائِدَةِ خَاصَّةٌ، وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْمُمْتَحِنَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ «الْمَائِدَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا» وَالْخَاصُّ الْمُتَأَخِّرُ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ إنَّهُ مُفَسِّرٌ لَهُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ صُورَةَ التَّخْصِيصِ لَمْ تَرِدْ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ، وَطَائِفَةٌ يَقُولُونَ إنَّ ذَلِكَ نُسِخَ بَعْدَ أَنْ شُرِعَ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إذَا فَرَضْنَا النَّصَّيْنِ خَاصَّيْنِ، فَأَحَدُ النَّصَّيْنِ حَرَّمَ ذَبَائِحَهُمْ وَنِكَاحَهُمْ، وَالْآخَرُ أَحَلَّهُمَا، فَالنَّصُّ الْمُحَلِّلُ لَهُمَا هُنَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ هِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، فَتَكُونُ نَاسِخَةً لِلنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَا يُقَالُ إنَّ هَذَا نَسْخٌ لِلْحُكْمِ مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ لَمْ يَكُنْ بِخِطَابٍ شَرْعِيٍّ حَلَّلَ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ لِعَدَمِ التَّحْرِيمِ، بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالتَّحْرِيمُ الْمُبْتَدَأُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِاسْتِصْحَابِ حُكْمِ الْفِعْلِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ نَاسِخًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الْآيَةَ؛ مِنْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُحَرِّمْ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ إلَّا هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَفَتْ تَحْرِيمَ مَا سِوَى الثَّلَاثَة إلَى حِينِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ تَحْلِيلُ مَا سِوَى ذَلِكَ، بَلْ كَانَ مَا سِوَى ذَلِكَ عَفْوًا لَا تَحْلِيلَ فِيهِ وَلَا تَحْرِيمَ، كَفِعْلِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ: «الْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ» . وَهَذَا مَحْفُوظٌ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، أَوْ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحَلَّهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ مَدَنِيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَسُورَةُ الْأَنْعَامِ مَكِّيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَعُلِمَ أَنَّ تَحْلِيلَ الطَّيِّبَاتِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ لَا بِمَكَّةَ، وقَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] إلَى قَوْلِهِ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] ، إلَى آخِرِهَا. فَثَبَتَ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ كَانَ إمَّا عَفْوًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِمَّا مُحَرَّمًا ثُمَّ نُسِخَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ حِلُّ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَالْكَلَامُ فِي نِسَائِهِمْ كَالْكَلَامِ فِي ذَبَائِحِهِمْ، فَإِذَا ثَبَتَ حِلُّ أَحَدِهِمَا، ثَبَتَ حِلُّ الْآخَرِ، وَحِلُّ أَطْعِمَتِهِمْ لَيْسَ لَهُ مُعَارِضٌ أَصْلًا. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ، مَحْمُولٌ عَلَى الْفَوَاكِهِ وَالْحُبُوبِ. قِيلَ: هَذَا خَطَأٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ مُبَاحَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوس، فَلَيْسَ فِي تَخْصِيصِهَا بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَائِدَةٌ. الثَّانِي: أَنَّ إضَافَةَ الطَّعَامِ إلَيْهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ صَارَ طَعَامًا بِفِعْلِهِمْ، وَهَذَا إنَّمَا يُسْتَحَقُّ فِي الذَّبَائِحِ الَّتِي صَارَتْ لَحْمًا بِذَكَاتِهِمْ، فَأَمَّا الْفَوَاكِهُ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا مَطْعُومَةً لَمْ تَصِرْ طَعَامًا بِفِعْلِ آدَمِيٍّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَرَنَ حِلَّ الطَّعَامِ بِحِلِّ النِّسَاءِ، وَأَبَاحَ طَعَامَنَا لَهُمْ، كَمَا أَبَاحَ طَعَامَهُمْ لَنَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَ النِّسَاءِ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا أَبَاحَ طَعَامَهُمْ لَنَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَ النِّسَاءِ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الطَّعَامِ وَالْفَاكِهَةِ، وَالْحَبِّ لَا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ. الرَّابِعُ: أَنَّ لَفْظَ الطَّعَامِ عَامٌّ، وَتَنَاوَلَهُ اللَّحْمَ وَنَحْوَهُ أَقْوَى مِنْ تَنَاوُلِهِ لِلْفَاكِهَةِ، فَيَجِبُ إقْرَارُ اللَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَرَنَ بِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] ، وَنَحْنُ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُطْعِمَهُمْ كُلَّ أَنْوَاعِ طَعَامِنَا، فَكَذَلِكَ يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَأْكُلَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ طَعَامِهِمْ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ، بَلْ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْدَتْ لَهُ

الْيَهُودِيَّةُ عَامَ خَيْبَرَ شَاةً مَشْوِيَّةً، فَأَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً، ثُمَّ قَالَ: «إنَّ هَذِهِ تُخْبِرُنِي أَنَّ فِيهَا سُمًّا» ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ حَلَالٌ لَمَا تَنَاوَلَ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ لَمَّا غَزَوْا خَيْبَرَ، أَخَذَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ جِرَابًا فِيهِ شَحْمٌ، قَالَ: قُلْت لَا أُطْعِمُ الْيَوْمَ مِنْ هَذَا أَحَدًا، فَالْتَفَتَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضْحَكُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ طَعَامِ أَهْلِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. وَأَيْضًا «فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَابَ دَعْوَةَ يَهُودِيٍّ إلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ» ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْإِهَالَةُ مِنْ الْوَدَكِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ الذَّبِيحَةِ وَمِنْ السَّمْنِ وَنَحْوِهِ، الَّذِي يَكُونُ فِي أَوْعِيَتِهِمْ الَّتِي يَطْبُخُونَ فِيهَا فِي الْعَادَةِ، وَلَوْ كَانَتْ ذَبَائِحُهُمْ مُحَرَّمَةً لَكَانَتْ أَوَانِيهِمْ كَأَوَانِي الْمَجُوسِ وَنَحْوِهِمْ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْأَكْلِ فِي أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى رَخَّصَ أَنْ يُغْسَلَ. وَأَيْضًا فَقَدْ اسْتَفَاضَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَتَحُوا الشَّامَ وَالْعِرَاقَ وَمِصْرَ كَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ: الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَإِنَّمَا امْتَنَعُوا مِنْ ذَبَائِحِ الْمَجُوسِ، وَوَقَعَ فِي جُبْنِ الْمَجُوسِ مِنْ النِّزَاعِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْجُبْنَ يَحْتَاجُ إلَى الْإِنْفَحَةِ، وَفِي إِنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ بِطَهَارَتِهَا، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولَانِ بِنَجَاسَتِهَا، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ. فَصْلٌ: الْمَأْخَذُ الثَّانِي: الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ هُوَ كَوْنُ هَؤُلَاءِ

الْمَوْجُودِينَ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَهُوَ الْمَأْخَذُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ السَّائِلِ، وَهُوَ الْمَأْخَذُ الَّذِي تَنَازَعَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] . هَلْ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ هُوَ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ مُتَدَيِّنٌ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ؟ أَوْ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ آبَاؤُهُ قَدْ دَخَلُوا فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ: فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، بَلْ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ صَرِيحًا. وَالثَّانِي: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ. وَأَصْلُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ عَلِيًّا، وَابْنَ عَبَّاسٍ تَنَازَعَا فِي ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا تُبَاحُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا نِسَاؤُهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَرُوِيَ عَنْهُ. تَغُرُّوهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُومُوا بِالشُّرُوطِ الَّتِي شَرَطَهَا عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ، فَإِنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلْ تُبَاحُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] . وَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يُحَرِّمُوا ذَبَائِحَهُمْ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ عَلِيٍّ وَحْدَهُ، وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَصَحَّحَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، بَلْ هِيَ آخِرُ قَوْلَيْهِ، بَلْ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ: مَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهَهُ إلَّا عَلِيًّا، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ، وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَالرَّأْيِ، كَالْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَدَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ: كَانَ آخِرُ قَوْلِ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَى بِذَبَائِحِهِمْ بَأْسًا. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ عَلِيٍّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَأَحْمَدُ إنَّمَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ فِي بَنِي تَغْلِبَ، وَهُمْ الَّذِينَ تَنَازَعَ فِيهِمْ الصَّحَابَةُ، فَأَمَّا سَائِرُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ الْعَرَبِ، مِثْلُ تَنُوخَ وَبَهْرَاءَ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْيَهُودِ فَلَا أَعْرِفُ عَنْ أَحْمَدَ فِي حِلِّ ذَبَائِحِهِمْ نِزَاعًا، وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا عَنْ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ السَّلَفِ، وَإِنَّمَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ فِي بَنِي تَغْلِبَ خَاصَّةً، وَلَكِنْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ مَنْ جَعَلَ فِيهِمْ رِوَايَتَيْنِ كَبَنِي تَغْلِبَ، وَالْحِلُّ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَمَا أَعْلَمُ لِقَوْلِ الْآخَرِ قُدْوَةً مِنْ السَّلَفِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ [قَالُوا] بِأَنَّهُ: مَنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ غَيْرَ كِتَابِيٍّ، بَلْ مَجُوسِيًّا لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ وَمُنَاكَحَةُ نِسَائِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَبُ مَجُوسِيًّا، وَأَمَّا الْأُمُّ فَلَهُ فِيهَا قَوْلَانِ، فَإِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ مَجُوسِيَّيْنِ حَرُمَتْ ذَبِيحَتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَغَالِبُ ظَنِّي أَنَّ هَذَا غَلَطٌ عَلَى مَالِكٍ فَإِنِّي لَمْ أَجِدْهُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ. وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُخَرَّجَةِ عَنْ أَحْمَدَ فِي سَائِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ الْعَرَبِ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا هَؤُلَاءِ، فَأَمَّا إذَا جَعَلَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي بَنِي تَغْلِبَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعَرَبِ، أَوْ قِيلَ إنَّ النِّزَاعَ عَامٌّ، وَفَرَّعْنَا عَلَى الْقَوْلِ بِحِلِّ ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ وَنِسَائِهِمْ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، فَإِنَّهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا عِبْرَةَ بِالنَّسَبِ، بَلْ لَوْ كَانَ الْأَبَوَانِ جَمِيعًا مَجُوسِيَّيْنِ أَوْ وَثَنِيَّيْنِ وَالْوَلَدُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِلَا رَيْبٍ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ.

وَمَنْ ظَنَّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ تَحْرِيمَ نِكَاحِ مَنْ أَبَوَيْهِ مَجُوسِيَّانِ أَوْ أَحَدُهُمَا مَجُوسِيٌّ قَوْلٌ وَاحِدٌ فِي مَذْهَبِهِ، فَهُوَ مُخْطِئٌ خَطَأً لَا رَيْبَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ أَصْلُ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَنَاقَضُ فَيُجَوِّزُ أَنْ يُقَرَّ بِالْجِزْيَةِ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَيَقُولُ مَعَ هَذَا بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ نَصْرَانِيِّ الْعَرَبِ مُطْلَقًا، وَمَنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ غَيْرَ كِتَابِيٍّ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ. وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ فَقَدْ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ آخِرُ كُتُبِهِ، فَذَكَرَ فِيمَنْ انْتَقَلَ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، كَالرُّومِ، وَقَبَائِلَ مِنْ الْعَرَبِ، وَهُمْ تَنُوخُ، وَبَهْرَاءُ، وَمِنْ بَنِي تَغْلِبَ هَلْ تَجُوزُ مُنَاكَحَتُهُمْ وَأَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِنِكَاحِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، وَأَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى مُخَرَّجَةٌ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي ذَبَائِحِهِمْ، وَاخْتَارَ أَنَّ الْمُنْتَقِلَ إلَى دِينِهِمْ حُكْمُهُ حُكْمُهُمْ سَوَاءٌ كَانَ انْتِقَالُهُ بَعْدَ مَجِيءِ شَرِيعَتِنَا أَوْ قَبْلَهَا، وَسَوَاءٌ انْتَقَلَ إلَى دِينِ الْمُبَدِّلِينَ أَوْ دِينٍ لَمْ يُبَدَّلْ، وَيَجُوزُ مُنَاكَحَتُهُ وَأَكْلُ ذَبِيحَتِهِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَنْ أَبَوَاهُ مُشْرِكَانِ مِنْ الْعَرَبِ وَالرُّومِ، فَمَنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُشْرِكًا فَهُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ، هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ كَمَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَإِنَّهُ يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ، قَالَ أَصْحَابُهُ: وَإِذَا أَقْرَرْنَاهُ بِالْجِزْيَةِ، حَلَّتْ ذَبَائِحُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا. وَأَصْلُ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرْته مِنْ نِزَاعِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي بَنِي تَغْلِبَ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَالْجُمْهُورُ أَحَلُّوهَا وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ. ثُمَّ الَّذِينَ كَرِهُوا ذَبَائِحَ بَنِي تَغْلِبَ تَنَازَعُوا فِي مَأْخَذِ عَلِيٍّ، فَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ عَلِيًّا إنَّمَا حَرَّمَ ذَبَائِحَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ آبَاءَهُمْ دَخَلُوا فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ

النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَبَنَوْا عَلَى هَذَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ بِالنَّسَبِ لَا بِنَفْسِ الرَّجُلِ، وَأَنَّ مَنْ شَكَكْنَا فِي أَجْدَادِهِ، هَلْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَمْ لَا، أَخَذْنَا بِالِاحْتِيَاطِ فَحَقَنَّا دَمَهُ بِالْجِزْيَةِ احْتِيَاطًا، وَحَرَّمْنَا ذَبِيحَتَهُ وَنِسَاءَهُ احْتِيَاطًا، وَهَذَا مَأْخَذُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَلِيٌّ لَمْ يَكْرَهْ ذَبَائِحَ بَنِي تَغْلِبَ إلَّا لِكَوْنِهِمْ مَا تَدَيَّنُوا بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي وَاجِبَاتِهِ وَمَحْظُورَاتِهِ، بَلْ أَخَذُوا مِنْهُ حِلَّ الْمُحَرَّمَاتِ فَقَطْ، وَلِهَذَا قَالَ: إنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَهَذَا الْمَأْخَذُ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الصَّوَابُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ هُمْ مَنْ كَانَ دَخَلَ جَدُّهُ فِي ذَلِكَ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَادَ ذَلِكَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، بَلْ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ كَوْنَ الرَّجُلِ كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ هُوَ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ لَا بِنَسَبِهِ، وَكُلُّ مَنْ تَدَيَّنَ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ مِنْهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَسَوَاءٌ كَانَ دُخُولُهُ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ نِزَاعًا. وَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ قَدِيمٌ، وَاحْتَجَّ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَنْ لَا يُقَرُّ الرَّجُلُ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ كَمَنْ هُوَ فِي زَمَانِنَا إذَا انْتَقَلَ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ، وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُ، وَهَذَا يُبَيِّنُ خَطَأَ مَنْ يُنَاقِضُ مِنْهُمْ. وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، يَقُولُونَ: مَنْ دَخَلَ هُوَ، أَوْ أَبَوَاهُ، أَوْ جَدُّهُ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ أُقِرَّ بِالْجِزْيَةِ، سَوَاءٌ دَخَلَ فِي زَمَانِنَا هَذَا، أَوْ قَبْلَهُ. وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُونَ: مَتَى عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ إلَّا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ مَعَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالصَّوَابُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْصَارِ جَمَاعَةٌ تَهَوَّدُوا قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَلِيلٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ مِقْلَاتًا، وَالْمِقْلَاتُ الَّتِي لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، كَثِيرَةُ الْقَلَتِ، وَالْقَلَتُ: الْمَوْتُ وَالْهَلَاكُ، كَمَا يُقَالُ: امْرَأَةٌ مِذْكَارٌ مِئْنَاثٌ إذَا كَانَتْ كَثِيرَةَ الْوِلَادَةِ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَالسُّمَّا الْكَثِيرَةُ الْمَوْتِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَنْذُرُ إنْ عَاشَ لَهَا وَلَدَانِ تَجْعَلُ أَحَدَهُمَا يَهُودِيًّا لِكَوْنِ الْيَهُودِ كَانُوا أَهْلَ عِلْمٍ وَكِتَابٍ، وَالْعَرَبُ كَانُوا أَهْلَ شِرْكٍ وَأَوْثَانٍ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْصَارِ تَهَوَّدُوا، فَطَلَبَ آبَاؤُهُمْ أَنْ يُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] الْآيَةَ. فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانَ آبَاؤُهُمْ مَوْجُودِينَ تَهَوَّدُوا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا دُخُولٌ بِأَنْفُسِهِمْ فِي الْيَهُودِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَ مَبْعَثِ الْمَسِيحِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه، وَهَذَا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَمَعَ هَذَا نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ إكْرَاهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَهَوَّدُوا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَقَرَّهُمْ بِالْجِزْيَةِ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي جَوَازِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لِمَنْ دَخَلَ بِنَفْسِهِ فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ. فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّوَابُ دُونَ الْآخَرِ. وَمَتَى ثَبَتَ أَنَّهُ يُعْقَدُ لَهُ الذِّمَّةُ ثَبَتَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِنَفْسِهِ لَا بِنَسَبِهِ، وَأَنَّهُ تُبَاحُ ذَبِيحَتُهُ وَطَعَامُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْمَانِعَ لِذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْهُ إلَّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الصِّنْفَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَا يَدْخُلُونَ، فَإِذَا ثَبَتَ بِنَصِّ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ دَخَلُوا فِي الْخِطَابِ بِلَا نِزَاعٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ وَحَوْلَهَا كَانُوا عَرَبًا وَدَخَلُوا فِي دِينِ الْيَهُودِ، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُفَصِّلْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَكْلِ طَعَامِهِمْ، وَحِلِّ نِسَائِهِمْ، وَإِقْرَارِهِمْ بِالذِّمَّةِ بَيْنَ مَنْ دَخَلَ أَبَوَاهُ بَعْدَ مَبْعَثِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمَنْ دَخَلَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَا بَيْنَ الْمَشْكُوكِ فِي نَفْسِهِ، بَلْ حَكَمَ فِي الْجَمِيعِ حُكْمًا وَاحِدًا عَامًّا. فَعُلِمَ أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ طَائِفَةٍ وَطَائِفَةٍ، وَجَعْلَ طَائِفَةٍ لَا تُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ. وَطَائِفَةٍ تُقَرُّ وَلَا

تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ، وَطَائِفَةٍ يُقَرُّونَ وَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ، تَفْرِيقٌ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتَةِ عَنْهُ. وَقَدْ عُلِمَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ الْمُسْتَفِيضِ، أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانَ فِيهِمْ يَهُودٌ كَثِيرٌ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَحِمْيَرَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعَرَبِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ: «إنَّك تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ» ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا وَعَدْلَهُ مَعَافِرَ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ دَخَلَ أَبُوهُ قَبْلَ النَّسْخِ أَوْ بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ وَفْدُ نَجْرَانَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ النَّصَارَى الَّذِينَ كَانَ فِيهِمْ عَرَبٌ كَثِيرُونَ أَقَرَّهُمْ بِالْجِزْيَةِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ لَمْ يُفَرِّقْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ، وَأَصْحَابِهِ بَيْنَ بَعْضِهِمْ وَبَعْضٍ، بَلْ قَبِلُوا مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ، وَأَبَاحُوا ذَبَائِحَهُمْ، وَنِسَاءَهُمْ، وَكَذَلِكَ نَصَارَى الرُّومِ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ صِنْفٍ وَصِنْفٍ، وَمَنْ تَدَبَّرَ السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ عَلِمَ كُلَّ هَذَا بِالضَّرُورَةِ، وَعَلِمَ أَنَّ التَّفْرِيقَ قَوْلٌ مُحْدَثٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ كَوْنَ الرَّجُلِ مُسْلِمًا أَوْ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ الدِّينِ هُوَ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ لَا بِاعْتِقَادِهِ وَإِرَادَتِهِ وَقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ، لَا يَلْحَقُهُ هَذَا الِاسْمُ بِمُجَرَّدِ اتِّصَافِ آبَائِهِ بِذَلِكَ، لَكِنَّ الصَّغِيرَ حُكْمُهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا حُكْمُ أَبَوَيْهِ، لِكَوْنِهِ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا بَلَغَ وَتَكَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِالْكُفْرِ كَانَ حُكْمُهُ مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ كَانَ أَبَوَاهُ يَهُودًا أَوْ نَصَارَى، فَأَسْلَمَ كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ فَكَفَرَ كَانَ كَافِرًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَفَرَ بِرِدَّةٍ لَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُرْتَدًّا لِأَجْلِ آبَائِهِ. وَكُلُّ حُكْمٍ عُلِّقَ بِأَسْمَاءِ الدِّينِ مِنْ إسْلَامٍ وَإِيمَانٍ، وَكُفْرٍ وَنِفَاقٍ، وَرِدَّةٍ وَتَهَوُّدٍ، وَتَنَصُّرٍ إنَّمَا يَثْبُتُ لِمَنْ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ، وَكَوْنُ الرَّجُلِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَوْ أَهْلِ الْكِتَابِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَمَنْ كَانَ بِنَفْسِهِ مُشْرِكًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُ غَيْرَ مُشْرِكَيْنِ، وَمَنْ كَانَ أَبَوَاهُ مُشْرِكَيْنِ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ لَا حُكْمُ الْمُشْرِكِينَ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا وَآبَاؤُهُ مُشْرِكِينَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. أَمَّا إذَا تَعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُشْرِكِينَ مَعَ كَوْنِهِ

مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِأَجْلِ كَوْنِ آبَائِهِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ كَانُوا مُشْرِكِينَ فَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ قَوْله تَعَالَى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1] ، وَقَوْلُهُ: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} [آل عمران: 20] ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ خِطَابٌ لِهَؤُلَاءِ الْمَوْجُودِينَ وَإِخْبَارٌ عَنْهُمْ، الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ، الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ مِنْ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ مَا جَرَى، لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ مُتَمَسِّكًا بِهِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا، وَلَا هُمْ مِمَّنْ خُوطِبُوا بِشَرَائِعِ الْقُرْآنِ، وَلَا قِيلَ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ مَاتُوا قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَنْ تَدَيَّنَ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمَوْجُودِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمْ كُفَّارٌ تَمَسَّكُوا بِكِتَابٍ مُبَدَّلٍ مَنْسُوخٍ، وَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ كَمَا يُخَلَّدُ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْكُفَّارِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مَعَ ذَلِكَ سَوَّغَ إقْرَارَهُمْ بِالْجِزْيَةِ، وَأَحَلَّ طَعَامَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يُقَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْقُرْآنِ هُمْ كُفَّارٌ، وَإِنْ كَانَ أَجْدَادُهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ عَذَابُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِأَخَفَّ مِنْ عَذَابِ مَنْ كَانَ أَبُوهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، بَلْ وُجُودُ النَّسَبِ الْفَاضِلِ هُوَ إلَى تَغْلِيظِ كُفْرِهِمْ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى تَخْفِيفِ كُفْرِهِمْ، فَمَنْ كَانَ أَبُوهُ مُسْلِمًا وَارْتَدَّ كَانَ كُفْرُهُ أَغْلَظَ مِنْ كُفْرِ مَنْ أَسْلَمَ هُوَ ثُمَّ ارْتَدَّ. وَلِهَذَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَنْ وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ إذَا ارْتَدَّ، ثُمَّ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ، هَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ كَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ عِيسَى وَمُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا كَفَرَ بِهِمَا وَبِمَا جَاءَا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاتَّبَعَ الْكِتَابَ الْمُبَدَّلَ الْمَنْسُوخَ كَانَ كُفْرُهُ مِنْ أَغْلَظِ الْكُفْرِ، وَلَمْ يَكُنْ كُفْرُهُ أَخَفَّ مِنْ كُفْرِ مَنْ دَخَلَ بِنَفْسِهِ فِي هَذَا الدِّينِ الْمُبَدَّلِ، وَلَا لَهُ بِمُجَرَّدِ نِسْبَةِ حُرْمَةٍ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا عِنْدَ رَسُولِهِ، وَلَا يَنْفَعُهُ دِينُ آبَائِهِ إذَا كَانَ هُوَ مُخَالِفًا لَهُمْ،

فَإِنَّ آبَاءَهُ كَانُوا إذْ ذَاكَ مُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِكُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَهُوَ مُسْلِمٌ، وَمَنْ كَفَرَ بِشَيْءٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ فَلَيْسَ مُسْلِمًا فِي أَيِّ زَمَانٍ كَانَ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَوْلَادِ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا كَفَرُوا مَزِيَّةٌ عَلَى أَمْثَالِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ الَّذِينَ مَاثَلُوهُمْ فِي اتِّبَاعِ الدِّينِ الْمُبَدَّلِ الْمَنْسُوخِ، عُلِمَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَإِكْرَامُ هَؤُلَاءِ بِإِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ، وَحِلِّ ذَبَائِحِهِمْ، وَنِسَائِهِمْ دُونَ هَؤُلَاءِ، وَأَنَّهُ فَرْقٌ مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْفَرْقُ بِالْعَكْسِ كَانَ أَوْلَى، وَلِهَذَا يُوَبِّخُ اللَّهُ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَا يُوَبِّخُهُ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلَى أَجْدَادِهِمْ نِعَمًا عَظِيمَةً فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَكَفَرُوا نِعْمَتَهُ، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَبَدَّلُوا كِتَابَهُ، وَغَيَّرُوا دِينَهُ، فَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ، وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ؛ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. فَهُمْ مَعَ شَرَفِ آبَائِهِمْ وَحَقِّ دِينِ أَجْدَادِهِمْ مِنْ أَسْوَأِ الْكُفَّارِ عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ أَشَدُّ غَضَبًا عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ فِي كُفْرِهِمْ مِنْ الِاسْتِكْبَارِ وَالْحَسَدِ وَالْمُعَانَدَةِ وَالْقَسْوَةِ وَكِتْمَانِ الْعِلْمِ، وَتَحْرِيفِ الْكِتَابِ، وَتَبْدِيلِ النَّصِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا لَيْسَ فِي كُفْرِ هَؤُلَاءِ، فَكَيْفَ يَجْعَلُ لِهَؤُلَاءِ الْأَرْجَاسِ الْأَنْجَاسِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَبْغَضِ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ مَزِيَّةً عَلَى سَائِرِ إخْوَانِهِمْ الْكُفَّارِ، مَعَ أَنَّ كُفْرَهُمْ إمَّا مُمَاثِلٌ لِكُفْرِ إخْوَانِهِمْ الْكُفَّارِ، وَإِمَّا أَغْلَظُ مِنْهُ إذْ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ كُفْرَ الدَّاخِلِينَ أَغْلَظُ مِنْ كُفْرِ هَؤُلَاءِ مَعَ تَمَاثُلِهِمَا فِي الدِّينِ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمَوْجُودِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ تَعْلِيقَ الشَّرَفِ فِي الدِّينِ بِمُجَرَّدِ النَّسَبِ؛ هُوَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ، الَّذِينَ اتَّبَعَتْهُمْ عَلَيْهِ الرَّافِضَةُ وَأَشْبَاهُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ إلَّا

بِالتَّقْوَى النَّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» ، وَلِهَذَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ يَمْدَحُ فِيهَا أَحَدًا بِنَسَبِهِ، وَلَا يَذُمُّ أَحَدًا بِنَسَبِهِ، وَإِنَّمَا يَمْدَحُ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى وَيَذُمُّ بِالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ، أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أُمَّتِي لَنْ يَدْعُوهُنَّ، الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ» . فَجَعَلَ الْفَخْرَ بِالْأَحْسَابِ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ لَا فَخْرَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِكَوْنِ أَجْدَادِهِ لَهُمْ حَسَبٌ شَرِيفٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ لِكَافِرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَخْرٌ عَلَى كَافِرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِكَوْنِ أَجْدَادِهِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ؟ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَعَ التَّمَاثُلِ فِي الدِّينِ فَضِيلَةٌ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِينَ فِي الدِّينِ لِأَجْلِ النَّسَبِ، عُلِمَ أَنَّهُ لَا فَضْلَ لِمَنْ كَانَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى آبَاؤُهُ مُؤْمِنِينَ مُتَمَسِّكِينَ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، عَلَى مَنْ كَانَ أَبُوهُ دَاخِلًا فِيهِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَإِذَا تَمَاثَلَ دِينُهُمَا تَمَاثَلَ حُكْمُهُمَا فِي الدِّينِ. وَالشَّرِيعَةُ إنَّمَا عَلَّقَتْ بِالنَّسَبِ أَحْكَامًا، مِثْلُ كَوْنِ الْخِلَافَةِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَوْنِ ذَوِي الْقُرْبَى لَهُمْ الْخُمُسُ، وَتَحْرِيمُ الصَّدَقَةِ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ الْفَاضِلَ مَظِنَّةُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُهُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إذَا فَقِهُوا» . وَالْمَظِنَّةُ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِمَا إذَا خَفِيَتْ الْحَقِيقَةُ أَوْ انْتَشَرَتْ، فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ دِينُ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ وَعُرِفَ نَوْعُ دِينِهِ وَقَدْرُهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِنَسَبِهِ الْأَحْكَامُ الدِّينِيَّةُ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِأَبِي لَهَبٍ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ، لَمَّا عُرِفَ كُفْرُهُ كَانَ أَحَقَّ بِالذَّمِّ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا جَعَلَ لِمَنْ يَأْتِي بِفَاحِشَةٍ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ، كَمَا جَعَلَ لِمَنْ يَقْنُتْ مِنْهُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَجْرَيْنِ مِنْ الثَّوَابِ.

فَذَوِي الْأَنْسَابِ الْفَاضِلَةِ إذَا أَسَاءُوا كَانَتْ إسَاءَتُهُمْ أَغْلَظَ مِنْ إسَاءَةِ غَيْرِهِمْ، وَعُقُوبَتُهُمْ أَشَدَّ عُقُوبَةً مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكُفْرُ مَنْ كَفَرَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ إنْ لَمْ يَكُنْ أَشَدَّ مِنْ كُفْرِ غَيْرِهِمْ وَعُقُوبَتُهُمْ أَشَدُّ عُقُوبَةً مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَا أَقَلَّ مِنْ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ مَنْ كَفَرَ وَفَسَقَ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ تُخَفَّفُ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ إمَّا أَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُمْ أَشَدَّ عُقُوبَةً مِنْ غَيْرِهِمْ فِي أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُمْ أَغْلَظَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَكْرَمَهُ بِنِعْمَتِهِ وَرَفَعَ قَدْرَهُ إذَا قَابَلَ حُقُوقَهُ بِالْمَعَاصِي وَقَابَلَ نِعَمَهُ بِالْكُفْرِ، كَانَ أَحَقَّ بِالْعُقُوبَةِ مِمَّنْ لَمْ يُنْعِمْ عَلَيْهِ كَمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَتَحُوا الشَّامَ وَالْعِرَاقَ وَمِصْرَ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرَهُمْ، وَكَانُوا يَأْكُلُونَ ذَبَائِحَهُمْ، لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ طَائِفَةٍ وَطَائِفَةٍ، وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ بِالْأَنْسَابِ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي بَنِي تَغْلِبَ خَاصَّةً لِأَمْرٍ يَخْتَصُّ بِهِمْ، كَمَا أَنَّ عُمَرَ ضَعَّفَ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةَ، وَجَعَلَ جِزْيَتَهُمْ مُخَالِفَةً لِجِزْيَةِ غَيْرِهِمْ، وَلَمْ يُلْحِقْ بِهِمْ سَائِرَ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا أَلْحَقَ بِهِمْ مَنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِمْ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنْ يُقَالَ هَذَا الْقَوْلُ مُسْتَلْزِمٌ أَنْ لَا يَحِلَّ لَنَا طَعَامُ جُمْهُورٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ نَسَبَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ وَلَا نَعْلَمُ قَبْلَ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ أَنَّ أَجْدَادَهُ كَانُوا يَهُودًا أَوْ نَصَارَى قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ حِلَّ ذَبَائِحِهِمْ وَنِسَائِهِمْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مُسْتَلْزِمًا رَفْعَ مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عُلِمَ أَنَّهُ بَاطِلٌ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنْ يُقَالَ مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ يَأْكُلُونَ ذَبَائِحَهُمْ، فَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا لِبَيَانِ رُجْحَانِ الْقَوْلِ بِالتَّحْلِيلِ، وَأَنَّهُ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، فَأَمَّا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَوْ نَحْوَهَا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، يَجُوزُ لِمَنْ تَمَسَّكَ فِيهَا بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْآخَرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَدَلِيلٍ، فَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي جُبْنِ الْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَلَيْسَ لِمَنْ رَجَّحَ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى صَاحِبِ الْقَوْلِ الْآخَرِ إلَّا بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ، وَفِي ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ إذَا سَمَّوْا عَلَيْهَا غَيْرَ اللَّهِ، وَفِي شَحْمِ الثَّرْبِ، وَالْكُلْيَتَيْنِ، وَذَبْحِهِمْ لِذَوَاتِ الظُّفُرِ كَالْإِبِلِ وَالْبَطِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَتَنَازَعُوا فِي ذَبْحِ الْكِتَابِيِّ لِلضَّحَايَا

مسألة زيارة القدس وقبر الخليل

وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ، وَقَدْ قَالَ بِكُلِّ قَوْلٍ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمَشْهُورِينَ. فَمَنْ صَارَ إلَى قَوْلٍ مُقَلِّدًا لِقَائِلِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى مَنْ صَارَ إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ مُقَلِّدًا لِقَائِلِهِ، لَكِنْ إنْ كَانَ مَعَ أَحَدِهِمَا حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَجَبَ الِانْقِيَادُ لِلْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا ظَهَرَتْ. وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُرَجِّحَ قَوْلًا عَلَى قَوْلٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَا يَتَعَصَّبُ لِقَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ وَلَا لِقَائِلٍ عَلَى قَائِلٍ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، بَلْ مَنْ كَانَ مُقَلِّدًا لَزِمَ حِلُّ التَّقْلِيدِ، فَلَمْ يُرَجِّحْ وَلَمْ يُزَيِّفْ وَلَمْ يُصَوِّبْ وَلَمْ يُخَطِّئْ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ مَا يَقُولُهُ سُمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَقُبِلَ مَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَقٌّ، وَرُدَّ مَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَوُقِفَ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ فَاوَتَ بَيْنَ النَّاسِ فِي قُوَى الْأَذْهَانِ، كَمَا فَاوَتَ بَيْنَهُمْ فِي قُوَى الْأَبْدَانِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَنَحْوُهَا فِيهَا مِنْ أَغْوَارِ الْفِقْهِ وَحَقَائِقِهِ مَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ عَرَفَ أَقَاوِيلَ الْعُلَمَاءِ وَمَآخِذَهُمْ فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ إلَّا قَوْلَ عَالِمٍ وَاحِدٍ وَحُجَّتَهُ دُونَ قَوْلِ الْعَالِمِ الْآخَرِ وَحُجَّتِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ الْعَوَامّ الْمُقَلِّدِينَ لَا مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُرَجِّحُونَ وَيُزَيِّفُونَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَهْدِينَا وَإِخْوَانَنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ زِيَارَة الْقُدْسِ وَقَبْرِ الْخَلِيلِ] 13 - مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ زِيَارَةِ الْقُدْسِ وَقَبْرِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؟ وَمَا فِي أَكْلِ الْخُبْزِ وَالْعَدَسِ مِنْ الْبَرَكَةِ وَنَقْلِهِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ لِلْبَرَكَةِ؟ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا السَّفَرُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ وَالِاعْتِكَافِ، أَوْ الْقِرَاءَةِ، أَوْ الذِّكْرِ، أَوْ الدُّعَاءِ فَمَشْرُوعٌ مُسْتَحَبٌّ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ، الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا» . وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامِ وَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ مِنْهُ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ

أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» . وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى مُجَرَّدِ زِيَارَةِ قَبْرِ الْخَلِيلِ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مَقَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَمَشَاهِدِهِمْ، وَآثَارِهِمْ، فَلَمْ يَسْتَحِبَّهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، لَا الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ، بَلْ لَوْ نَذَرَ ذَلِكَ نَاذِرٌ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَذَا النَّذْرِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ. بِخِلَافِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُ إذَا نَذَرَ السَّفَرَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ لَزِمَهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَإِذَا نَذَرَ السَّفَرَ إلَى الْمَسْجِدَيْنِ الْآخَرَيْنِ لَزِمَهُ السَّفَرُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ، كَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَإِنَّمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِ كُلِّ مَا كَانَ طَاعَةً مِثْلُ مَنْ نَذَرَ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ اعْتِكَافًا أَوْ صَدَقَةً لِلَّهِ أَوْ حَجًّا. وَلِهَذَا لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ السَّفَرُ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَاعَةٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» . فَمُنِعَ مِنْ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدٍ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، فَغَيْرُ الْمَسَاجِدِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِي الْمَسَاجِدِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ الْبُيُوتِ بِلَا رَيْبٍ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ الْمَسَاجِدُ» مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» ، يَتَنَاوَلُ الْمَنْعَ مِنْ السَّفَرِ إلَى كُلِّ بُقْعَةٍ مَقْصُودَةٍ. بِخِلَافِ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ السَّفَرَ لِطَلَبِ تِلْكَ الْحَاجَةِ حَيْثُ كَانَتْ، وَكَذَلِكَ السَّفَرُ لِزِيَارَةِ الْأَخِ فِي اللَّهِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ حَيْثُ كَانَ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالسَّفَرِ إلَى الْمَشَاهِدِ وَاحْتَجُّوا

«بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْتِي قُبَاءَ كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ قُبَاءَ لَيْسَتْ مَشْهَدًا، بَلْ مَسْجِدٌ، وَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْ السَّفَرِ إلَيْهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسَفَرٍ مَشْرُوعٍ، بَلْ لَوْ سَافَرَ إلَى قُبَاءَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ لَمْ يَجُزْ، وَلَكِنْ لَوْ سَافَرَ إلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ ثُمَّ ذَهَبَ مِنْهُ إلَى قُبَاءَ، فَهَذَا يُسْتَحَبُّ، كَمَا يُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ قُبُورِ أَهْلِ الْبَقِيعِ، وَشُهَدَاءِ أُحُدٍ. وَأَمَّا أَكْلُ الْخُبْزِ وَالْعَدَسِ الْمَصْنُوعِ عِنْدَ قَبْرِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَهَذَا لَمْ يَسْتَحِبَّهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَا الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَا كَانَ هَذَا مَصْنُوعًا لَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَلَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ الْبَعْثَةِ، حَتَّى أَخَذَ النَّصَارَى تِلْكَ الْبِلَادَ، وَلَمْ تَكُنْ الْقُبَّةُ الَّتِي عَلَى قَبْرِهِ مَفْتُوحَةً، بَلْ كَانَتْ مَسْدُودَةً، وَلَا كَانَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُسَافِرُونَ إلَى قَبْرِهِ وَلَا قَبْرِ غَيْرِهِ، لَكِنْ لَمَّا أَخَذَ النَّصَارَى تِلْكَ الْبِلَادَ فَسَوَّوْا حُجْرَتَهُ وَاِتَّخَذُوهَا كَنِيسَةً، فَلَمَّا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ الْبِلَادَ بَعْدَ ذَلِكَ اتَّخَذَ ذَلِكَ مَنْ اتَّخَذَهُ مَسْجِدًا، وَذَلِكَ بِدْعَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» ، يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسٍ: «إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» . ثُمَّ وَقَفَ بَعْضُ النَّاسِ وَقْفًا لِلْعَدَسِ وَالْخُبْزِ، وَلَيْسَ هَذَا وَقْفًا مِنْ الْخَلِيلِ، وَلَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَلَا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مِنْ خُلَفَائِهِ. بَلْ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَطْلَقَ تِلْكَ الْقَرْيَةَ لِلدَّارِسِينَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يُطْعِمُوا عِنْدَ مَشْهَدِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا خُبْزًا وَلَا عَدَسًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ. فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْأَكْلَ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ وَالْعَدَسِ مُسْتَحَبٌّ شَرَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ، بَلْ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْعَدَسَ مُطْلَقًا فِيهِ فَضِيلَةٌ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي

مسألة اتباع الرسول بصحيح المعقول

يُرْوَى: " كُلُوا الْعَدَسَ فَإِنَّهُ يُرِقُّ الْقَلْبَ وَقَدْ قَدَّسَ فِيهِ سَبْعُونَ نَبِيًّا "، حَدِيثٌ مَكْذُوبٌ مُخْتَلَقٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَكِنَّ الْعَدَسَ هُوَ مِمَّا اشْتَهَاهُ الْيَهُودُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61] ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَقَرَّبُ إلَى الْجِنِّ بِالْعَدَسِ، فَيَطْبُخُونَ عَدَسًا وَيَضَعُونَهُ فِي الْمَرَاحِيضِ، أَوْ يُرْسِلُونَهُ وَيَطْلُبُونَ مِنْ الشَّيَاطِينِ بَعْضَ مَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ، كَمَا يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْحَمَّامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ الْإِيمَانِ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ. وَجِمَاعُ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيَعْبُدُهُ بِمَا شَرَعَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ، فَمَنْ تَعَبَّدَ بِعِبَادَةٍ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً فَهُوَ ضَالٌّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ اتِّبَاع الرَّسُولِ بِصَحِيحِ الْمَعْقُولِ] 14 - مَسْأَلَةٌ: فِي اتِّبَاعِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَحِيحِ الْمَعْقُولِ؟ . قَالَ الشَّيْخُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أَمَّا بَعْدُ، اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ بَالِغٍ عَاقِلٍ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا، أَرْسَلَهُ إلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، إنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ، وَعَرَبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، وَفُرْسِهِمْ وَهِنْدِهِمْ، وَبَرْبَرِهِمْ وَرُومِهِمْ، وَسَائِرِ أَصْنَافِ الْعَجَمِ أَسْوَدِهِمْ وَأَبْيَضِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْعَجَمِ مَنْ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ عَلَى اخْتِلَافِ أَلْسِنَتِهِمْ، فَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُرْسِلَ إلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، كِتَابِيِّهِمْ وَغَيْرِ كِتَابِيِّهِمْ، فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِدِينِهِ، مِنْ

الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، فِي عَقَائِدِهِ وَحَقَائِقِهِ وَطَرَائِقِهِ وَشَرَائِعِهِ، فَلَا عَقِيدَةَ إلَّا عَقِيدَتُهُ، وَلَا حَقِيقَةَ إلَّا حَقِيقَتُهُ، وَلَا طَرِيقَةَ إلَّا طَرِيقَتُهُ، وَلَا شَرِيعَةَ إلَّا شَرِيعَتُهُ، وَلَا يَصِلُ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى رِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ وَوِلَايَتِهِ، إلَّا بِمُتَابَعَتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ، وَالظَّاهِرَةِ فِي أَقْوَالِ الْقَلْبِ وَعَقَائِدِهِ، وَأَحْوَالِ الْقَلْبِ وَحَقَائِقِهِ، وَأَقْوَالِ اللِّسَانِ وَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَلَيْسَ لِلَّهِ وَلِيٌّ إلَّا مَنْ اتَّبَعَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، فَصَدَّقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْغُيُوبِ، وَالْتَزَمَ طَاعَتَهُ فِيمَا فَرَضَ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ. فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُصَدِّقًا فِيمَا أَخْبَرَ، مُلْتَزِمًا لِطَاعَتِهِ فِيمَا أَوْجَبَ وَأَمَرَ فِي الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ، وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي عَلَى الْأَبْدَانِ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لِلَّهِ، وَلَوْ حَصَلَ لَهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ مَاذَا عَسَى أَنْ يَحْصُلَ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَعَ تَرْكِهِ لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ، مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ مِنْ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا بِطَهَارَتِهَا وَوَاجِبَاتِهَا، إلَّا مِنْ أَهْلِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ الْمُبْعِدَةِ لِصَاحِبِهَا عَنْ اللَّهِ، الْمُقَرِّبَةِ إلَى سَخَطِهِ وَعَذَابِهِ، لَكِنْ مَنْ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ مِنْ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ، قَدْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُمْ، فَلَا يُعَاقَبُونَ، وَلَيْسَ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَتَقْوَاهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مَا يَكُونُونَ بِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ، لَكِنْ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] . وَهُمْ مَعَ عَدَمِ الْعَقْلِ، لَا يَكُونُونَ مِمَّنْ فِي قُلُوبِهِمْ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ، وَمَعَارِفُ أَهْلِ وِلَايَةِ اللَّهِ، وَأَحْوَالُ خَوَاصِّ اللَّهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كُلَّهَا مَشْرُوطَةٌ بِالْعَقْلِ، فَالْجُنُونُ مُضَادُّ الْعَقْلِ وَالتَّصْدِيقِ، وَالْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ، وَالْهُدَى وَالثَّنَاءِ، وَإِنَّمَا يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ. فَالْمَجْنُونُ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ لَا يُعَاقِبُهُ، وَيَرْحَمُهُ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ، الَّذِينَ يَرْفَعُ اللَّهُ دَرَجَاتِهِمْ، وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ

فصل أحب الأعمال إلى الله وأعظم الفرائض عنده

الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَ الْوَاجِبَاتِ وَلَا يَتْرُكُونَ الْمُحَرَّمَاتِ، سَوَاءٌ كَانَ عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مُولِهًا أَوْ مُتَوَلِّهًا، فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ، وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ، وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ، الَّذِينَ يَرْفَعُ اللَّهُ دَرَجَاتِهِمْ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، مَعَ كَوْنِهِ لَا يُؤَدِّي الْوَاجِبَاتِ، وَلَا يَتْرُكُ الْمُحَرَّمَاتِ، كَانَ الْمُعْتَقِدُ لِوِلَايَةِ مِثْلِ هَذَا كَافِرًا مُرْتَدًّا عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ؛ غَيْرِ شَاهِدٍ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ هُوَ مُكَذِّبٌ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا شَهِدَ بِهِ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا أَخْبَرَ عَنْ اللَّهِ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ الْمُتَّقُونَ الْمُؤْمِنُونَ. قَالَ تَعَالَى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 63] ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وَالتَّقْوَى أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ، يَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ، وَأَنْ يَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ، يَخَافُ عَذَابَ اللَّهِ، وَلَا يَتَقَرَّبُ وَلِيُّ اللَّهِ إلَّا بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ ثُمَّ بِأَدَاءِ نَوَافِلِهِ. قَالَ تَعَالَى: «مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» . كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. [فَصْلٌ أَحَبّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ وَأَعْظَم الْفَرَائِضِ عِنْدَهُ] فَصْلٌ: وَمِنْ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ وَأَعْظَمِ الْفَرَائِضِ عِنْدَهُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي مَوَاقِيتِهَا، وَهِيَ أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، لَمْ يَجْعَلْ فِيهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَاسِطَةً، وَهِيَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ، الَّذِي لَا يَقُومُ إلَّا بِهِ، وَهِيَ أَهَمُّ أَمْرِ الدِّينِ، كَمَا كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَكْتُبُ إلَى عُمَّالِهِ: «إنَّ أَهَمَّ أَمْرِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ وَمَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ لِمَا سِوَاهَا مِنْ عَمَلِهِ أَشَدَّ إضَاعَةً» . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» ، وَقَالَ: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ

كَفَرَ» . فَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَهَا عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ بَالِغٍ إلَّا الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا عَمَلٌ صَالِحٌ، وَأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهَا وَيُثِيبُ عَلَيْهَا، وَصَلَّى مَعَ ذَلِكَ وَقَامَ اللَّيْلَ وَصَامَ النَّهَارَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا عَلَى كُلِّ بَالِغٍ، فَهُوَ أَيْضًا كَافِرٌ مُرْتَدٌّ، حَتَّى يَعْتَقِدَ أَنَّهَا فَرْضٌ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ بَالِغٍ عَاقِلٍ. وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا تَسْقُطُ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ الْعَارِفِينَ وَالْمُكَاشِفِينَ وَالْوَاصِلِينَ، أَوْ أَنَّ لِلَّهِ خَوَّاصًا لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ، بَلْ قَدْ سَقَطَتْ عَنْهُمْ لِوُصُولِهِمْ إلَى حَضْرَةِ الْقُدْسِ، أَوْ لِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْهَا بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا أَوْ أَوْلَى، أَوْ أَنَّ الْمَقْصُودَ حُضُورُ الْقَلْبِ مَعَ الرَّبِّ، أَوْ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا تَفْرِقَةٌ، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ فِي جَمْعِيَّتِهِ مَعَ اللَّهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الصَّلَاةِ، بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْ الصَّلَاةِ هِيَ الْمَعْرِفَةُ، فَإِذَا حَصَلَتْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَحْصُلَ لَك خَرْقُ عَادَةٍ، كَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ، وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ أَوْ مَلْءِ الْأَوْعِيَةِ مَاءً مِنْ الْهَوَاءِ، أَوْ تَغْوِيرِ الْمِيَاهِ وَاسْتِخْرَاجِ مَا تَحْتَهَا مِنْ الْكُنُوزِ، وَقَتْلِ مَنْ يُبْغِضُهُ بِالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ، فَمَتَى حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ اسْتَغْنَى عَنْ الصَّلَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّ لِلَّهِ رِجَالًا خَوَّاصًا لَا يَحْتَاجُونَ إلَى مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ كَمَا اسْتَغْنَى الْخَضِرُ عَنْ مُوسَى، أَوْ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَاشَفَ وَطَارَ فِي الْهَوَاءِ، أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ فَهُوَ وَلِيٌّ سَوَاءٌ صَلَّى، أَوْ لَمْ يُصَلِّ، أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ، أَوْ أَنَّ الْمُوَلِّهِينَ وَالْمُتَوَلَّهِينَ وَالْمَجَانِينَ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي الْمَقَابِرِ وَالْمَزَابِلِ وَالطِّهَارَاتِ وَالْخَانَاتِ وَالْقَمَّامِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبِقَاعِ، وَهُمْ لَا يَتَوَضَّئُونَ وَلَا يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ. فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَوْلِيَاءُ، فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ عَنْ الْإِسْلَامِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ كَانَ فِي نَفْسِهِ زَاهِدًا عَابِدًا، فَالرُّهْبَانُ أَزْهَدُ وَأَعْبَدُ، وَقَدْ آمَنُوا بِكَثِيرٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَجُمْهُورُهُمْ يُعَظِّمُونَ الرَّسُولَ وَيُعَظِّمُونَ أَتْبَاعَهُ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ، بَلْ آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ فَصَارُوا بِذَلِكَ كَافِرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} [النساء: 150] {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 151] {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 152] .

وَمَنْ كَانَ مَسْلُوبَ الْعَقْلِ أَوْ مَجْنُونًا فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْقَلَمُ قَدْ رُفِعَ عَنْهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ عِقَابٌ، وَلَا يَصِحُّ إيمَانُهُ وَلَا صَلَاتُهُ وَلَا صِيَامُهُ، وَلَا شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا لَا تُقْبَلُ إلَّا مَعَ الْعَقْلِ، فَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ عِبَادَتِهِ، لَا فَرَائِضِهِ وَلَا نَوَافِلِهِ، وَمَنْ لَا فَرِيضَةَ لَهُ وَلَا نَافِلَةَ لَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى} [طه: 54] ، أَيْ الْعُقُولِ. وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 5] ، أَيْ لِذِي عَقْلٍ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197] ، وَقَالَ: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22] ، وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2] ، فَإِنَّمَا مَدَحَ اللَّهُ، وَأَثْنَى عَلَى مَنْ كَانَ لَهُ عَقْلٌ، فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْقِلُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْمَدْهُ، وَلَمْ يُثْنِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ بِخَيْرٍ قَطُّ، بَلْ قَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النَّارِ {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] . وَقَالَ: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا} [الفرقان: 44] .

فَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يَصِحُّ إيمَانُهُ وَلَا فَرْضُهُ وَلَا نَفْلُهُ، وَمَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا ثُمَّ جُنَّ وَأَسْلَمَ بَعْدَ جُنُونِهِ لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ، لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا، وَمَنْ كَانَ قَدْ آمَنَ ثُمَّ كَفَرَ وَجُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكُفَّارِ، وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ جُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ أُثِيبَ عَلَى إيمَانِهِ الَّذِي كَانَ فِي حَالِ عَقْلِهِ، وَمَنْ وُلِدَ مَجْنُونًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ جُنُونُهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إيمَانٌ وَلَا كُفْرٌ. وَحُكْمُ الْمَجْنُونِ حُكْمُ الطِّفْلِ إذَا كَانَ أَبُوهُ مُسْلِمًا كَانَ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ أُمُّهُ مُسْلِمَةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَكَذَلِكَ مَنْ جُنَّ بَعْدَ إسْلَامِهِ يَثْبُتُ لَهُمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ الَّذِي وُلِدَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يُحْكَمُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ ظَاهِرًا تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ أَوْ لِأَهْلِ الدَّارِ، كَمَا يُحْكَمُ بِذَلِكَ لِلْأَطْفَالِ لَا لِأَجْلِ إيمَانٍ قَامَ بِهِ فَأَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ وَمَجَانِينُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَبَعٌ لِآبَائِهِمْ، وَهَذَا الْإِسْلَامُ لَا يُوجِبُ مَزِيَّةً عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا أَنْ يَصِيرَ بِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ إلَيْهِ بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] . فَنَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ إذَا كَانُوا سُكَارَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا يَقُولُونَ وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ قَبْلَ أَنْ تَحْرُمَ بِالْآيَةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ، فَخَلَطَ فَغَلِطَ فِي الْقِرَاءَة فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَإِذَا كَانَ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الصَّلَاةَ مَعَ السُّكْرِ وَالشُّرْبِ الَّذِي لَمْ يَحْرُمْ حَتَّى يَعْلَمُوا مَا يَقُولُونَ، عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ أَحَدٌ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقُولُ. فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ الصَّلَاةُ، وَإِنْ كَانَ عَقْلُهُ قَدْ زَالَ بِسَبَبٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِأَيِّ سَبَبٍ زَالَ، فَكَيْفَ بِالْمَجْنُونِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ يَرْوِي عَنْ الضَّحَّاكِ: لَا تَقْرَبُوهَا وَأَنْتُمْ سُكَارَى مِنْ النَّوْمِ، وَهَذَا إذَا قِيلَ إنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ، أَوْ شُمُولِ مَعْنَى اللَّفْظِ الْعَامِّ، وَإِلَّا فَلَا رَيْبَ أَنَّ سَبَبَ الْآيَةِ كَانَ

السُّكْرَ مِنْ الْخَمْرِ، وَاللَّفْظُ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى الْآخَرُ صَحِيحٌ أَيْضًا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فَاسْتَعْجَمَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ فَلْيَرْقُدْ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ» . وَفِي لَفْظٍ: «إذَا قَامَ يُصَلِّي فَنَعَسَ فَلْيَرْقُدْ» . فَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ مَعَ النُّعَاسِ الَّذِي يَغْلَطُ مَعَهُ النَّاعِسُ، وَقَدْ احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذَا عَلَى أَنَّ النُّعَاسَ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، إذْ لَوْ نَقَضَ بِذَلِكَ لَبَطَلَتْ الصَّلَاةُ، أَوْ لَوَجَبَ الْخُرُوجُ مِنْهَا لِتَجْدِيدِ الطَّهَارَةِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ» ، فَعُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ النَّهْيَ عَنْ الصَّلَاةِ لِمَنْ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ النُّعَاسِ وَطَرْدِ ذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ وَلَا بِحَضْرَةِ طَعَامٍ» ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ شَغْلِ الْقَلْبِ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يَبْدَأَ بِحَاجَتِهِ فَيَقْضِيَهَا، ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى صَلَاتِهِ وَقَلْبُهُ فَارِغٌ، فَإِذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ مُحَرَّمَةً مَعَ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ وَلَوْ كَانَ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ، حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقُولُ، كَانَتْ صَلَاةُ الْمَجْنُونِ وَمَنْ يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْمَجْنُونِ وَإِنْ سُمِّيَ مُولِهًا أَوْ مُتَوَلِّهًا أَوْ وَلِيًّا أَنْ لَا تَجُوزَ صَلَاتُهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: «قُلْت لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا، قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ. قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ اسْتَزَدْته لَزَادَنِي» .

وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ: «جَعَلَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ إيمَانٌ بِاَللَّهِ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ ثُمَّ الْحَجُّ الْمَبْرُورُ» ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الصَّلَاةَ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ، كَمَا دَخَلَتْ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] ، قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ: أَيْ صَلَاتَكُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ كَالْإِيمَانِ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ بِحَالٍ، فَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ الْفَرْضَ لَا لِعُذْرٍ وَلَا لِغَيْرِ عُذْرٍ، كَمَا لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ عَنْهُ وَلَا تَسْقُطُ بِحَالٍ، كَمَا لَا يَسْقُطُ الْإِيمَانُ بَلْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ مَا دَامَ عَقْلُهُ حَاضِرًا وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ فِعْلِ بَعْضِ أَفْعَالِهَا. فَإِذَا عَجَزَ عَنْ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَقْوَالِ، فَهَلْ يُصَلِّي بِتَحْرِيكِ طَرَفِهِ وَيَسْتَحْضِرُ الْأَفْعَالَ بِقَلْبِهِ، فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ، فَقَدْ حَرُمَ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ مِنْ فَرْضٍ وَنَفْلٍ، وَالْوِلَايَةُ هِيَ الْإِيمَانُ، وَالتَّقْوَى الْمُتَضَمِّنَةُ لِلتَّقَرُّبِ بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، فَقَدْ حَرَّمَ مَا بِهِ يَتَقَرَّبُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ إلَيْهِ، لَكِنَّهُ مَعَ جُنُونِهِ قَدْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ، فَلَا يُعَاقَبُ، كَمَا لَا يُعَاقَبُ الْأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ، إذْ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ، ثُمَّ إنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَبْلَ حُدُوثِ الْجُنُونِ بِهِ، وَلَهُ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ، وَكَانَ يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ قَبْلَ زَوَالِ عَقْلِهِ، كَانَ لَهُ مِنْ ثَوَابِ ذَلِكَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ لَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَسَبِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، كَمَا لَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ بِخِلَافِ مَا لَوْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ، وَلَيْسَ مِنْ السَّيِّئَاتِ مَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ إلَّا الرِّدَّةُ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْحَسَنَاتِ مَا يُحْبِطُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ إلَّا التَّوْبَةُ، فَلَا يُكْتَبُ لِلْمَجْنُونِ حَالَ جُنُونِهِ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ، كَمَا لَا يَكُونُ مِثْلُ ذَلِكَ لِسَيِّئَاتِهِ فِي زَوَالِ عَقْلِهِ فَالْأَعْمَالُ الْمُسْكِرَةُ وَالنَّوْمُ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ. وَلَكِنْ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ» . وَفِي الصَّحِيحِ

عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ» . فَهَؤُلَاءِ كَانُوا قَاصِدِينَ لِلْعَمَلِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ رَاغِبِينَ فِيهِ، لَكِنْ عَجَزُوا فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ بِخِلَافِ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ وَلَا عِبَادَةٌ أَصْلًا، بِخِلَافِ أُولَئِكَ فَإِنَّ لَهُمْ قَصْدًا صَحِيحًا يُكْتَبُ لَهُمْ بِهِ الثَّوَابُ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ قَبْلَ جُنُونِهِ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ مُذْنِبًا، لَمْ يَكُنْ حُدُوثُ الْجُنُونِ بِهِ مُزِيلًا لِمَا ثَبَتَ مِنْ كُفْرِهِ وَفِسْقِهِ، وَلِهَذَا كَانَ مَنْ جُنَّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْدَ تَهَوُّدِهِ وَتَنَصُّرِهِ مَحْشُورًا مَعَهُمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ جُنَّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ مَحْشُورًا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْمُتَّقِينَ، وَزَوَالُ الْعَقْلِ بِجُنُونٍ أَوْ غَيْرِهِ، سَوَاءٌ سُمِّيَ صَاحِبُهُ مُولِهًا أَوْ مُتَوَلِّهًا لَا يُوجِبُ مَزِيدَ حَالِ صَاحِبِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى. وَلَا يَكُونُ زَوَالُ عَقْلِهِ سَبَبًا لِمَزِيدِ خَيْرِهِ وَلَا صَلَاحِهِ وَلَا ذَنْبِهِ، وَلَكِنَّ الْجُنُونَ يُوجِبُ زَوَالَ الْعَمَلِ، فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، لَا أَنَّهُ يَزِيدُهُ وَلَا يَنْقُصُهُ، لَكِنَّ جُنُونَهُ يُحْرِمُهُ الزِّيَادَةَ مِنْ الْخَيْرِ، كَمَا أَنَّهُ يَمْنَعُ عُقُوبَتَهُ عَلَى الشَّرِّ. وَأَمَّا إنْ كَانَ زَوَالُ عَقْلِهِ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ كَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَكْلِ الْحَشِيشَةِ، أَوْ كَانَ يَحْضُرُ السَّمَاعَ الْمُلَحَّنَ فَيَسْتَمِعَ حَتَّى يَغِيبَ عَقْلُهُ، أَوْ الَّذِي يَتَعَبَّدُ بِعِبَادَاتٍ بِدْعِيَّةٍ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ بَعْضُ الشَّيَاطِينِ، فَيُغَيِّرُوا عَقْلَهُ أَوْ يَأْكُلَ بَنْجًا يُزِيلُ عَقْلَهُ، فَهَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ عَلَى مَا أَزَالُوا بِهِ الْعُقُولَ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَسْتَجْلِبُ الْحَالَ الشَّيْطَانِيَّ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا يُحِبُّهُ. فَيَرْقُصَ رَقْصًا عَظِيمًا حَتَّى يَغِيبَ عَقْلُهُ، أَوْ يَغُطَّ وَيَخُورَ حَتَّى يَجِيئَهُ الْحَالُ الشَّيْطَانِيُّ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقْصِدُ التَّوَلُّهَ حَتَّى يَصِيرَ مُولِهًا، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُمْ مُكَلَّفُونَ فِي حَالِ زَوَالِ عَقْلِهِمْ، وَالْأَصْلُ مَسْأَلَةُ السَّكْرَانِ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ مُكَلَّفٌ حَالَ زَوَالِ عَقْلِهِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ مُكَلَّفًا، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ لَا يَقَعُ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ.

وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَالَ عَقْلُهُمْ بِمِثْلِ هَذَا يَكُونُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُوَحِّدِينَ الْمُقَرَّبِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ، وَمَنْ ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ عُقَلَاءِ الْمَجَانِينِ الَّذِينَ ذَكَرُوهُمْ بِخَيْرٍ فَهُوَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِينَ كَانَ فِيهِمْ خَيْرٌ ثُمَّ زَالَتْ عُقُولُهُمْ. وَمِنْ عَلَامَةِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ إذَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ جُنُونِهِمْ نَوْعٌ مِنْ الصَّحْوِ تَكَلَّمُوا بِمَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ، لَا بِالْكُفْرِ وَالْبُهْتَانِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ إذَا حَصَلَ لَهُ نَوْعُ إفَاقَةٍ بِالْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَيَهْذِي فِي زَوَالِ عَقْلِهِ بِالْكُفْرِ، فَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ كَافِرًا لَا مُسْلِمًا. وَمَنْ كَانَ يَهْذِي بِكَلَامٍ لَا يُعْقَلُ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ التُّرْكِيَّةِ أَوْ الْبَرْبَرِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ لِبَعْضِ مَنْ يَحْضُرُ السَّمَاعَ، وَيَحْصُلُ لَهُ وَجْدٌ يُغَيِّبُ عَقْلَهُ حَتَّى يَهْذِيَ بِكَلَامٍ لَا يُعْقَلُ، أَوْ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، فَهَؤُلَاءِ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ الشَّيْطَانُ، كَمَا يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ. وَمَنْ قَالَ إنَّ هَؤُلَاءِ أَعْطَاهُمْ اللَّهُ عُقُولًا وَأَحْوَالًا، فَأَبْقَى أَحْوَالَهُمْ، وَأَذْهَبَ عُقُولَهُمْ، وَأَسْقَطَ مَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ بِمَا سَلَبَ، قِيلَ: قَوْلُك وَهَبَ اللَّهُ لَهُمْ أَحْوَالًا كَلَامٌ مُجْمَلٌ، فَإِنَّ الْأَحْوَالَ تَنْقَسِمُ إلَى: حَالٍ رَحْمَانِيٍّ، وَحَالٍ شَيْطَانٍ، وَمَا يَكُونُ لِهَؤُلَاءِ مِنْ خَرْقِ عَادَةٍ بِمُكَاشَفَةٍ وَتَصَرُّفٍ عَجِيبٍ، فَتَارَةً يَكُونُ مِنْ جِنْسِ مَا يَكُونُ لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ، وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ الرَّحْمَنِ مِنْ جِنْسِ مَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى وَالْإِيمَانِ، فَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ فِي حَالِ عُقُولِهِمْ كَانَتْ لَهُمْ مَوَاهِبُ إيمَانِيَّةٌ، وَكَانُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إذَا زَالَتْ عُقُولُهُمْ سَقَطَتْ عَنْهُمْ الْفَرَائِضُ بِمَا سُلِبَ مِنْ الْعُقُولِ، وَإِنْ كَانَ مَا أُعْطُوهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ كَمَا يُعْطَاهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابُ وَالْمُنَافِقُونَ، فَهَؤُلَاءِ إذَا زَالَتْ عُقُولُهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا بِذَلِكَ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ، كَمَا لَمْ يَخْرُجْ الْأَوَّلُونَ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى. كَمَا أَنَّ نَوْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ وَمَوْتَهُ وَإِغْمَاءَهُ لَا يُزِيلُ حُكْمَ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ زَوَالِ عَقْلِهِ مِنْ إيمَانِهِ وَطَاعَتِهِ أَوْ كُفْرِهِ وَفِسْقِهِ بِزَوَالِ الْعَقْلِ غَايَتُهُ أَنْ يَسْقُطَ التَّكْلِيفُ، وَرَفْعُ الْقَلَمِ لَا يُوجِبُ حَمْدًا وَلَا مَدْحًا وَلَا ثَوَابًا، وَلَا يَحْصُلُ لِصَاحِبِهِ بِسَبَبِ زَوَالِ عَقْلِهِ مَوْهِبَةٌ مِنْ مَوَاهِبِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَلَا كَرَامَةٌ مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ، بَلْ قَدْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ

كَمَا قَدْ يُرْفَعُ الْقَلَمُ عَنْ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَيِّتِ، وَلَا مَدْحَ فِي ذَلِكَ وَلَا ذَمَّ، بَلْ النَّائِمُ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ هَؤُلَاءِ. وَلِهَذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - يَنَامُونَ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَجْنُونٌ وَلَا مُوَلَّهٌ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّوْمُ وَالْإِغْمَاءُ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْجُنُونُ، وَكَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ. وَأَمَّا الْجُنُونُ فَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ أَنْبِيَاءَهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ نَقَائِصِ الْإِنْسَانِ، إذْ كَمَالُ الْإِنْسَانِ بِالْعَقْلِ، وَلِهَذَا حَرَّمَ اللَّهُ إزَالَةَ الْعَقْلِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَحَرَّمَ مَا يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى إزَالَةِ الْعَقْلِ، كَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَحَرَّمَ الْقَطْرَةَ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ تُزِلْ الْعَقْلَ؛ لِأَنَّهَا ذَرِيعَةٌ إلَى شُرْبِ الْكَثِيرِ، الَّذِي يُزِيلُ الْعَقْلَ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَعَ هَذَا زَوَالُ الْعَقْلِ سَبَبًا أَوْ شَرْطًا أَوْ مُقَرِّبًا إلَى وِلَايَةِ اللَّهِ، كَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ فِي هَؤُلَاءِ: هُمْ مَعْشَرٌ حَلُّوا النِّظَامَ وَخَرَّفُوا السِّيَاجَ ... فَلَا فَرْضَ لَدَيْهِمْ وَلَا نَفْلُ مَجَانِينُ إلَّا أَنَّ سِرَّ جُنُونِهِمْ ... عَزِيزٌ عَلَى أَبْوَابِهِ يَسْجُدُ الْعَقْلُ فَهَذَا كَلَامُ ضَالٍّ بَلْ كَافِرٍ وَيَظُنُّ أَنَّ لِلْمَجْنُونِ سِرًّا يَسْجُدُ الْعَقْلُ عَلَى بَابِهِ، وَذَاكَ لِمَا رَآهُ مِنْ بَعْضِ الْمَجَانِينِ مِنْ نَوْعِ مُكَاشَفَةٍ أَوْ تَصَرُّفٍ عَجِيبٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِسَبَبِ مَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ الشَّيَاطِينِ، كَمَا يَكُونُ لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ فَيَظُنُّ هَذَا الضَّالُّ، أَنَّ كُلَّ مَنْ كَاشَفَ أَوْ خَرَقَ عَادَةً كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ، وَمَنْ اعْتَقَدَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ، فَضْلًا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَكُونُ لَهُمْ مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ وَخَرْقِ الْعَادَاتِ بِسَبَبِ شَيَاطِينِهِمْ أَضْعَافُ مَا لِهَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَضَلَّ وَأَكْفَرَ كَانَ الشَّيْطَانُ إلَيْهِ أَقْرَبَ، لَكِنْ لَا بُدَّ فِي جَمِيعِ مُكَاشَفَةِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ، وَلَا بُدَّ فِي أَعْمَالِهِمْ مِنْ فُجُورٍ وَطُغْيَانٍ، كَمَا يَكُونُ لِإِخْوَانِهِمْ مِنْ السَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ - تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221 - 222] ، فَكُلُّ مَنْ تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ، لَا بُدَّ

أَنْ يَكُونَ فِيهِ كَذِبٌ وَفُجُورٌ مِنْ أَيِّ قِسْمٍ كَانَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ بِالْفَرَائِضِ وَحِزْبُهُ الْمُفْلِحُونَ وَجُنْدُهُ الْغَالِبُونَ وَعِبَادُهُ الصَّالِحُونَ. فَمَنْ اعْتَقَدَ فِيمَنْ لَا يَفْعَلُ الْفَرَائِضَ وَلَا النَّوَافِلَ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ، إمَّا لِعَدَمِ عَقْلِهِ أَوْ جَهْلِهِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَمَنْ اعْتَقَدَ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ، وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ فَهُوَ كَافِرٌ، مُرْتَدٌّ عَنْ دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِذَا قَالَ: أَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون: 2] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ» . فَإِذَا كَانَ طُبِعَ عَلَى قَلْبِ مَنْ تَرَكَ الْجُمَعَ - وَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ - فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يُصَلِّي ظُهْرًا وَلَا جُمُعَةً وَلَا فَرِيضَةً وَلَا نَافِلَةً، وَلَا يَتَطَهَّرُ لِلصَّلَاةِ الطَّهَارَةَ الْكُبْرَى وَلَا الصُّغْرَى، فَهَذَا لَوْ كَانَ قَبْلُ مُؤْمِنًا، وَكَانَ قَدْ طُبِعَ عَلَى قَلْبِهِ كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا بِمَا تَرَكَهُ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَهُ مِنْ هَذِهِ الْفَرَائِضِ. وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا، فَكَيْفَ يُعْتَقَدُ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} [المجادلة: 19] ، أَيْ اسْتَوْلَى يُقَالُ: حَاذَ الْإِبِلَ حَوْذًا إذَا اسْتَقَاهَا، فَاَلَّذِينَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَسَاقَهُمْ إلَى خِلَافِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83] ، أَيْ تُزْعِجُهُمْ إزْعَاجًا، فَهَؤُلَاءِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19] .

وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ لَا يُؤَذَّنُ وَلَا يُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ إلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ» ، فَأَيُّ ثَلَاثَةٍ كَانُوا مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يُؤَذَّنُ وَلَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ كَانُوا مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ، اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ إلَّا مِنْ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ أَكْرَمَهُمْ. فَإِنْ كَانُوا عُبَّادًا زُهَّادًا وَلَهُمْ جُوعٌ وَسَهَرٌ وَصَمْتٌ وَخَلْوَةٌ، كَرُهْبَانِ الدِّيَارَاتِ وَالْمُقِيمِينَ فِي الْكُهُوفِ وَالْمَغَارَاتِ، كَأَهْلِ جَبَلِ لُبْنَانَ، وَأَهْلِ جَبَلِ الْفَتْحِ، الَّذِي بِأُسْوَانَ، وَجَبَلِ لَيْسُونٍ، وَمَغَارَةِ الدَّمِ بِجَبَلِ قَاسِيُونَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِنْ الْجِبَالِ وَالْبِقَاعِ الَّتِي قَصَدَهَا كَثِيرٌ مِنْ الْعِبَادِ الْجُهَّالِ الضُّلَّالِ، وَيَفْعَلُونَ فِيهَا خَلَوَاتٍ وَرِيَاضِيَّاتٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَذَّنَ وَتُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ الْخَمْسُ، بَلْ يَتَعَبَّدُونَ بِعِبَادَاتٍ لَمْ يَشْرَعْهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، بَلْ يَعْبُدُونَهُ بِأَذْوَاقِهِمْ وَمَوَاجِيدِهِمْ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ لِأَحْوَالِهِمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا قَصْدِ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ، الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] الْآيَةَ. فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ، لَا مِنْ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ، فَمَنْ شَهِدَ بِوِلَايَةِ اللَّهِ فَهُوَ شَاهِدُ زُورٍ كَاذِبٌ، وَعَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ نَاكِبٌ، ثُمَّ إنْ كَانَ قَدْ عَرَفَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ لِلرَّسُولِ، وَشَهِدَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، فَهُوَ مُرْتَدٌّ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. إمَّا مُكَذِّبٌ لِلرَّسُولِ، وَإِمَّا شَاكٌّ فِيمَا جَاءَ بِهِ مُرْتَابٌ، وَإِمَّا غَيْرُ مُنْقَادٍ لَهُ، بَلْ مُخَالِفٌ لَهُ جُحُودًا وَعِنَادًا وَإِتْبَاعًا لِهَوَاهُ، وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ كَافِرٌ. وَأَمَّا إنْ كَانَ جَاهِلًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَهُوَ مُعْتَقِدٌ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى اللَّهِ إلَّا بِمُتَابَعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ ظَنَّ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةَ، وَالْحَقَائِقَ الشَّيْطَانِيَّةَ هِيَ مِمَّا جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا مِنْ الشَّيْطَانِ لِجَهْلِهِ بِسُنَّتِهِ وَشَرِيعَتِهِ وَمِنْهَاجِهِ وَطَرِيقَتِهِ وَحَقِيقَتِهِ، لَا لِقَصْدِ مُخَالَفَتِهِ، وَلَا يَرْجُو الْهُدَى فِي غَيْرِ مُتَابَعَتِهِ، فَهَذَا يُبَيَّنُ لَهُ الصَّوَابُ، وَيُعَرَّفُ مَا بِهِ مِنْ السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ، فَإِنْ تَابَ وَأَنَابَ وَإِلَّا لَحِقَ بِالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَكَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا وَلَا تُنْجِيهِ عِبَادَتُهُ وَلَا زَهَادَتُهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، كَمَا لَمْ يَنْجُ مِنْ ذَلِكَ الرُّهْبَانُ، وَعُبَّادُ الصُّلْبَانِ، وَعُبَّادُ النِّيرَانِ،

وَعُبَّادُ الْأَوْثَانِ، مَعَ كَثْرَةِ مَنْ فِيهِمْ مِمَّنْ لَهُ خَوَارِقُ شَيْطَانِيَّةٌ، وَمُكَاشَفَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا} [الكهف: 103] {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] ، قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ: نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا الْحَرُورِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ - تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221 - 222] ، فَالْأَفَّاكُ هُوَ الْكَذَّابُ، وَالْأَثِيمُ الْفَاجِرُ، كَمَا قَالَ: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [العلق: 15] {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق: 16] ، وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ كَانَ كَاذِبًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَتْ لَهُ سُبَيْعَةُ الْأَسْلَمِيَّةُ وَقَدْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ، فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَكَانَتْ حَامِلًا فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ قَلَائِلَ، فَقَالَ لَهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكَ: مَا أَنْتِ بِنَاكِحَةٍ حَتَّى يَمْضِيَ عَلَيْك آخِرُ الْأَجَلَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ بَلْ حَلَلْت فَانْكِحِي» . وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ عَامِرًا قَتَلَ نَفْسَهُ، وَحَبَطَ عَمَلُهُ، فَقَالَ: " كَذَبَ مَنْ قَالَهَا، إنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ "، وَكَانَ قَائِلُ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْكَذِبَ، فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ أُسَيْدَ بْنُ الْحُضَيْرِ، لَكِنَّهُ لَمَّا تَكَلَّمَ بِلَا عِلْمٍ، كَذَّبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ، فِيمَا يُفْتُونَ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِمْ: " إنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَهُوَ مِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ ". فَإِذَا كَانَ خَطَأُ الْمُجْتَهِدِ الْمَغْفُورُ لَهُ هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَكَيْفَ بِمَنْ تَكَلَّمَ بِلَا اجْتِهَادٍ يُبِيحُ لَهُ الْكَلَامَ فِي الدِّينِ؟ فَهَذَا خَطَؤُهُ أَيْضًا مِنْ الشَّيْطَانِ، مَعَ أَنَّهُ

يُعَاقَبُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَتُبْ، وَالْمُجْتَهِدُ خَطَؤُهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَهُوَ مَغْفُورٌ لَهُ. كَمَا أَنَّ الِاحْتِلَامَ وَالنِّسْيَانَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَهُوَ مَغْفُورٌ بِخِلَافِ مَنْ تَكَلَّمَ بِلَا اجْتِهَادٍ يُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ، فَهَذَا كَذِبٌ آثِمٌ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِلُ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ، وَيُوحِي بِحَسَبِ مُوَافَقَتِهِ لَهُ، وَيُطْرَدُ بِحَسَبِ إخْلَاصِهِ لِلَّهِ وَطَاعَتِهِ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: 65] ، وَعِبَادُهُ هُمْ الَّذِينَ عَبَدُوهُ بِمَا أَمَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ، مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ، وَأَمَّا مَنْ عَبَدَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِنْ عِبَادِ الشَّيْطَانِ، لَا مِنْ عِبَادِ الرَّحْمَنِ. قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ - وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60 - 61] {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 62] ، وَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ، وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ، بَلْ قَدْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ أَوْ الصَّالِحِينَ. كَاَلَّذِينَ يَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ وَيَسْجُدُونَ لَهُمْ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا عَبَدُوا الشَّيْطَانَ، وَإِنْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَتَوَسَّلُونَ وَيَسْتَشْفِعُونَ بِعِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ - قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40 - 41] . وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ غُرُوبِهَا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُقَارِنُهَا حِينَئِذٍ حَتَّى يَكُونَ سُجُودُ عُبَّادِ الشَّمْسِ لَهُ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ، وَسُجُودُهُمْ لِلشَّيْطَانِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ دَعَوَاتِ الْكَوَاكِبِ الَّذِينَ يَدْعُونَ كَوْكَبًا مِنْ الْكَوَاكِبِ وَيَسْجُدُونَ لَهُ وَيُنَاجُونَهُ، وَيَدْعُونَهُ، وَيَضَعُونَ لَهُ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالْبَخُورِ وَالتَّسْبِيحَاتِ مَا يُنَاسِبُهُ، كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ السِّرِّ الْمَكْتُومِ الْمَشْرِقِيُّ، وَصَاحِبُ الشُّعْلَةِ النُّورَانِيَّةِ الْبَوْنِيُّ الْمَغْرِبِيُّ وَغَيْرُهُمَا. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ أَرْوَاحٌ تُخَاطِبُهُمْ وَتُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ الْأُمُورِ، وَتَقْضِي لَهُمْ بَعْضَ الْحَوَائِجِ، وَيُسَمَّوْنَ ذَلِكَ رُوحَانِيَّةَ الْكَوَاكِبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهَا مَلَائِكَةٌ، وَإِنَّمَا

هِيَ شَيَاطِينُ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] . وَذِكْرُ الرَّحْمَنِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ، وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ اللَّذَانِ قَالَ اللَّهُ فِيهِمَا: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231] ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164] ، وَهُوَ الذِّكْرُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَذَا الذِّكْرِ، وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قُيِّضَ لَهُ قَرِينٌ مِنْ الشَّيَاطِينِ، فَصَارَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ بِحَسَبِ مَا تَابَعَهُ، وَإِنْ كَانَ مُوَالِيًا لِلرَّحْمَنِ تَارَةً وَلِلشَّيْطَانِ أُخْرَى، كَانَ فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَوِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ مَا وَالَى فِيهِ الرَّحْمَنَ، وَكَانَ فِيهِ مِنْ عَدَاوَةِ اللَّهِ وَالنِّفَاقِ، بِحَسَبِ مَا وَالَى فِيهِ الشَّيْطَانَ، كَمَا قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ: " الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: قَلْبُ أَجْرَدُ فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، وَقَلْبُ أَغْلَفُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ، وَالْأَغْلَفُ قَلْبٌ يُلَفُّ عَلَيْهِ غِلَافٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْيَهُودِ: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 88] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ» ، وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ، وَقَلْبٌ فِيهِ مَادَّتَانِ مَادَّةُ تَمُدُّهُ لِلْإِيمَانِ، وَمَادَّةٌ تَمُدُّهُ لِلنِّفَاقِ، فَأَيُّهُمَا غَلَبَ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ "، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَرْفُوعًا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ

مسألة ما يفعله الناس في يوم عاشوراء من الكحل والاغتسال

فَجَرَ» . فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْقَلْبَ يَكُونُ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ وَشُعْبَةُ إيمَانٍ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ، كَانَ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ وِلَايَتِهِ، وَشُعْبَةٌ مِنْ عَدَاوَتِهِ، وَلِهَذَا يَكُونُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ خَوَارِقُ مِنْ جِهَةِ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ، وَتَقْوَاهُ تَكُونُ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَخَوَارِقُ مِنْ جِهَةِ نِفَاقِهِ وَعَدَاوَتِهِ تَكُونُ مِنْ أَحْوَالِ الشَّيَاطِينِ، وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] . وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ هُمْ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَعْمَلُونَ بِخِلَافِهِ، وَالضَّالُّونَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَمَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَذَوْقَهُ وَوَجْدَهُ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ مِنْ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ فَذَلِكَ مِنْ الضَّالِّينَ. نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. [مَسْأَلَةٌ مَا يَفْعَلهُ النَّاس فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْ الْكُحْلِ وَالِاغْتِسَالِ] 15 - مَسْأَلَةٌ: وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، عَمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْ الْكُحْلِ، وَالِاغْتِسَالِ، وَالْحِنَّاءِ وَالْمُصَافَحَةِ، وَطَبْخِ الْحُبُوبِ وَإِظْهَارِ السُّرُورِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ إلَى الشَّارِعِ: فَهَلْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ صَحِيحٌ؟ أَمْ لَا؟ وَإِذَا لَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهَلْ يَكُونُ فِعْلُ ذَلِكَ بِدْعَةً أَمْ لَا؟ وَمَا تَفْعَلُهُ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مِنْ الْمَأْتَمِ وَالْحُزْنِ وَالْعَطَشِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ، وَقِرَاءَةِ الْمَصْرُوعِ، وَشَقِّ الْجُيُوبِ. هَلْ لِذَلِكَ أَصْلٌ؟ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ

عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا غَيْرِهِمْ. وَلَا رَوَى أَهْلُ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، لَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا الصَّحَابَةِ، وَلَا التَّابِعِينَ، لَا صَحِيحًا وَلَا ضَعِيفًا، لَا فِي كُتُبِ الصَّحِيحِ، وَلَا فِي السُّنَنِ، وَلَا الْمَسَانِيدِ، وَلَا يُعْرَفُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى عَهْدِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ. وَلَكِنْ رَوَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ مِثْلَ مَا رَوَوْا أَنَّ مَنْ اكْتَحَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَرْمَدْ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ، وَمَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَمْرَضْ ذَلِكَ الْعَامِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَرَوَوْا فَضَائِلَ فِي صَلَاةِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَرَوَوْا أَنَّ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ تَوْبَةَ آدَمَ، وَاسْتِوَاءَ السَّفِينَةِ عَلَى الْجُودِيِّ، وَرَدَّ يُوسُفَ عَلَى يَعْقُوبَ، وَإِنْجَاءَ إبْرَاهِيمَ مِنْ النَّارِ، وَفِدَاءَ الذَّبِيحِ بِالْكَبْشِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَرَوَوْا فِي حَدِيثٍ مَوْضُوعٍ مَكْذُوبٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ السَّنَةِ» . وَرِوَايَةُ هَذَا كُلِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذِبٌ، وَلَكِنَّهُ مَعْرُوفٌ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: «بَلَغَنَا أَنَّهُ مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ سَنَتِهِ» وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ كَانَ فِيهِ طَائِفَتَانِ. طَائِفَةٌ رَافِضَةٌ يُظْهِرُونَ مُوَالَاةَ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ إمَّا مَلَاحِدَةٌ زَنَادِقَةٌ، وَإِمَّا جُهَّالٌ، وَأَصْحَابُ هَوًى. وَطَائِفَةٌ نَاضِبَةٌ تَبْغُضُ عَلِيًّا، وَأَصْحَابَهُ، لِمَا جَرَى مِنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ مَا جَرَى. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «سَيَكُونُ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ» . فَكَانَ الْكَذَّابُ هُوَ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيَّ، وَكَانَ يُظْهِرُ مُوَالَاةَ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَالِانْتِصَارَ لَهُمْ، وَقَتَلَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ أَمِيرَ الْعِرَاقِ الَّذِي جَهَّزَ السَّرِيَّةَ الَّتِي قَتَلَتْ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثُمَّ إنَّهُ أَظْهَرَ الْكَذِبَ، وَادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَأَنَّ جِبْرِيلَ

- عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَنْزِلُ عَلَيْهِ، حَتَّى قَالُوا لِابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. قَالُوا لِأَحَدِهِمَا: إنَّ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ، فَقَالَ صَدَقَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ - تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221 - 222] . وَقَالُوا لِلْآخَرِ: إنَّ الْمُخْتَارَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ فَقَالَ صَدَقَ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] . وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَهُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ، وَكَانَ: مُنْحَرِفًا عَنْ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ، فَكَانَ هَذَا مِنْ النَّوَاصِبِ، وَالْأَوَّلُ مِنْ الرَّوَافِضِ، وَهَذَا الرَّافِضِيُّ كَانَ: أَعْظَمَ كَذِبًا وَافْتِرَاءً، وَإِلْحَادًا فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ ادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَذَاكَ كَانَ أَعْظَمَ عُقُوبَةً لِمَنْ خَرَجَ عَلَى سُلْطَانِهِ، وَانْتِقَامًا لِمَنْ اتَّهَمَهُ بِمَعْصِيَةِ أَمِيرِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَكَانَ فِي الْكُوفَةِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِتَنٌ وَقِتَالٌ فَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَوْمَ عَاشُورَاءَ قَتَلَتْهُ الطَّائِفَةُ الظَّالِمَةُ الْبَاغِيَةُ، وَأَكْرَمَ اللَّهُ الْحُسَيْنَ بِالشَّهَادَةِ، كَمَا أَكْرَمَ بِهَا مَنْ أَكْرَمَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ. أَكْرَمَ بِهَا حَمْزَةَ وَجَعْفَرَ، وَأَبَاهُ عَلِيًّا، وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ مِمَّا رَفَعَ اللَّهُ بِهَا مَنْزِلَتَهُ، وَأَعْلَى دَرَجَتَهُ، فَإِنَّهُ هُوَ وَأَخُوهُ الْحَسَنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالْمَنَازِلُ الْعَالِيَةُ لَا تُنَالُ إلَّا بِالْبَلَاءِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً فَقَالَ: الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ، وَلَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. فَكَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ قَدْ سَبَقَ لَهُمَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مَا سَبَقَ، مِنْ الْمَنْزِلَةِ الْعَالِيَةِ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ حَصَلَ لَهُمَا مِنْ الْبَلَاءِ مَا حَصَلَ لِسَلَفِهِمَا الطَّيِّبِ، فَإِنَّهُمَا وُلِدَا فِي عِزِّ الْإِسْلَامِ، وَتَرَبَّيَا فِي عِزٍّ وَكَرَامَةٍ، وَالْمُسْلِمُونَ يُعَظِّمُونَهُمَا وَيُكْرِمُونَهُمَا، وَمَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

وَلَمْ يَسْتَكْمِلَا مِنْ التَّمْيِيزِ، فَكَانَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا أَنْ ابْتَلَاهُمَا بِمَا يُلْحِقُهُمَا بِأَهْلِ بَيْتِهِمَا، كَمَا اُبْتُلِيَ مَنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُمَا، فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَفْضَلُ مِنْهُمَا، وَقَدْ قُتِلَ شَهِيدًا وَكَانَ مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ مِمَّا ثَارَتْ بِهِ الْفِتَنُ بَيْنَ النَّاسِ. كَمَا كَانَ مَقْتَلُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَوْجَبَتْ الْفِتَنَ بَيْنَ النَّاسِ، وَبِسَبَبِهِ تَفَرَّقَتْ الْأُمَّةُ إلَيَّ الْيَوْمِ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «ثَلَاثٌ مَنْ نَجَا مِنْهُنَّ فَقَدْ نَجَا: مَوْتِي، وَقَتْلُ خَلِيفَةٍ مُصْطَبِرٍ وَالدَّجَّالُ» . فَكَانَ مَوْتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي اُفْتُتِنَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، وَارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ، فَأَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَتَّى ثَبَّتَ اللَّهُ بِهِ الْإِيمَانَ، وَأَعَادَ بِهِ الْأَمْرَ إلَى مَا كَانَ، فَأَدْخَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ فِي الْبَابِ الَّذِي مِنْهُ خَرَجُوا، وَأَقَرَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ عَلَى الدِّينِ الَّذِي وَلَجُوا فِيهِ وَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْقُوَّةِ وَالْجِهَادِ وَالشِّدَّةِ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَاللِّينِ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَا اسْتَحَقَّ بِهِ وَبِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ فَقَهَرَ الْكُفَّارَ مِنْ الْمَجُوسِ، وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَعَزَّ الْإِسْلَامَ، وَمَصَّرَ الْأَمْصَارَ، وَفَرَضَ الْعَطَاءَ، وَوَضَعَ الدِّيوَانَ، وَنَشَرَ الْعَدْلَ، وَأَقَامَ السُّنَّةَ، وَظَهَرَ الْإِسْلَامَ فِي أَيَّامِهِ ظُهُورًا بَانَ بِهِ تَصْدِيقُ قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28] . وقَوْله تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55] . وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ. وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .

فَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ الَّذِي أَنْفَقَ كُنُوزَهُمَا فَعُلِمَ أَنَّهُ أَنْفَقَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ كَانَ خَلِيفَةً رَاشِدًا مَهْدِيًّا، ثُمَّ جَعَلَ الْأَمْرَ شُورَى فِي سِتَّةٍ، فَاتَّفَقَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِنْ غَيْرِ رَغْبَةٍ بَذَلَهَا لَهُمْ، وَلَا رَهْبَةٍ أَخَافَهُمْ بِهَا وَبَايَعُوهُ بِأَجْمَعِهِمْ طَائِعِينَ غَيْرَ كَارِهِينَ، وَجَرَى فِي آخِرِ أَيَّامِهِ أَسْبَابٌ ظَهَرَ بِالشَّرِّ فِيهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْعُدْوَانِ، وَمَا زَالُوا يَسْعَوْنَ فِي الْفِتَنِ حَتَّى قُتِلَ الْخَلِيفَةُ مَظْلُومًا شَهِيدًا بِغَيْرِ سَبَبٍ يُبِيحُ قَتْلَهُ، وَهُوَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، لَمْ يُقَاتِلْ مُسْلِمًا. فَلَمَّا قُتِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَفَرَّقَتْ الْقُلُوبُ، وَعَظُمَتْ الْكُرُوبُ، وَظَهَرَتْ الْأَشْرَارُ، وَذُلَّ الْأَخْيَارُ، وَسَعَى فِي الْفِتْنَةِ مَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهَا، وَعَجَزَ عَنْ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ مَنْ كَانَ يُحِبُّ إقَامَتَهُ، فَبَايَعُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِالْخِلَافَةِ حِينَئِذٍ، وَأَفْضَلُ مَنْ بَقِيَ، لَكِنْ كَانَتْ الْقُلُوبُ مُتَفَرِّقَةً، وَنَارُ الْفِتْنَةِ مُتَوَقِّدَةً، فَلَمْ تَتَّفِقْ الْكَلِمَةُ، وَلَمْ تَنْتَظِمْ الْجَمَاعَةُ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ الْخَلِيفَةُ وَخِيَارُ الْأُمَّةِ مِنْ كُلِّ مَا يُرِيدُونَهُ مِنْ الْخَيْرِ، وَدَخَلَ فِي الْفُرْقَةِ وَالْفِتْنَةِ أَقْوَامٌ. وَكَانَ مَا كَانَ، إلَى أَنْ ظَهَرَتْ الْحَرُورِيَّةُ الْمَارِقَةُ، مَعَ كَثْرَةِ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتِهِمْ، فَقَاتَلُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا وَمَنْ مَعَهُ، فَقَتَلَهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، طَاعَةً لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: «يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَقَوْلُهُ: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، يَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَكَانَتْ هَذِهِ الْحَرُورِيَّةُ هِيَ الْمَارِقَةُ، وَكَانَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فُرْقَةٌ، وَالْقِتَالُ بَيْنَ

الْمُؤْمِنِينَ لَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ الِاقْتِتَالِ وَبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ، وَأَمَرَ بِإِصْلَاحٍ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ قُوتِلَتْ الْبَاغِيَةُ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالِاقْتِتَالِ ابْتِدَاءً. وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمَارِقَةَ يَقْتُلُهَا أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ، فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ مَعَهُ هُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوهُمْ. فَدَلَّ كَلَامُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّهُمْ أَدْنَى إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ مَعَهُ مَعَ إيمَانِ الطَّائِفَتَيْنِ. ثُمَّ إنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ مُلْجِمٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَارِقِينَ، قَتَلَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا فَصَارَ إلَى كَرَامَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ شَهِيدًا، وَبَايَعَ الصَّحَابَةُ لِلْحَسَنِ ابْنِهِ، فَظَهَرَتْ فَضِيلَتُهُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَيْثُ قَالَ: «إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» فَنَزَلَ عَنْ الْوِلَايَةِ وَأَصْلَحَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَكَانَ هَذَا مِمَّا مَدَحَهُ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمَا مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَحْمَدُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. ثُمَّ إنَّهُ مَاتَ وَصَارَ إلَى كَرَامَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ، وَقَامَتْ طَوَائِفُ كَاتَبُوا الْحُسَيْنَ وَوَعَدُوهُ بِالنَّصْرِ وَالْمُعَاوَنَةِ إذَا قَامَ بِالْأَمْرِ، وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ، بَلْ لَمَّا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ ابْنَ عَمِّهِ أَخْلَفُوا وَعْدَهُ، وَنَقَضُوا عَهْدَهُ، وَأَعَانُوا عَلَيْهِ مَنْ وَعَدُوهُ أَنْ يَدْفَعُوهُ عَنْهُ، وَيُقَاتِلُوهُ مَعَهُ. وَكَانَ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالْمَحَبَّةِ لِلْحُسَيْنِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا أَشَارُوا عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَذْهَبَ إلَيْهِمْ، وَلَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ، وَرَأَوْا أَنَّ خُرُوجَهُ إلَيْهِمْ لَيْسَ بِمَصْلَحَةٍ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا يَسُرُّ، وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا.

فَلَمَّا خَرَجَ الْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرَأَى أَنَّ الْأُمُورَ قَدْ تَغَيَّرَتْ، طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَدْعُوهُ يَرْجِعُ، أَوْ يَلْحَقَ بِبَعْضِ الثُّغُورِ، أَوْ يَلْحَقَ بِابْنِ عَمِّهِ يَزِيدَ، فَمَنَعُوهُ هَذَا وَهَذَا. حَتَّى يَسْتَأْسِرَ، وَقَاتَلُوهُ فَقَاتَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ. وَطَائِفَةٌ مِمَّنْ مَعَهُ، مَظْلُومًا شَهِيدًا شَهَادَةً أَكْرَمُهُ اللَّهُ بِهَا وَأَلْحَقَهُ بِأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ. وَأَهَانَ بِهَا مَنْ ظَلَمَهُ وَاعْتَدَى عَلَيْهِ، وَأَوْجَبَ ذَلِكَ شَرًّا بَيْنَ النَّاسِ. فَصَارَتْ طَائِفَةٌ جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ: إمَّا مُلْحِدَةٌ مُنَافِقَةٌ، وَإِمَّا ضَالَّةٌ غَاوِيَةٌ، تُظْهِرُ مُوَالَاتَهُ، وَمُوَالَاةَ أَهْلِ بَيْتِهِ تَتَّخِذُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ مَأْتَمٍ وَحُزْنٍ وَنِيَاحَةٍ، وَتُظْهِرُ فِيهِ شِعَارَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ لَطْمِ الْخُدُودِ، وَشَقِّ الْجُيُوبِ، وَالتَّعَزِّي بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَاَلَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فِي الْمُصِيبَةِ - إذَا كَانَتْ جَدِيدَةً - إنَّمَا هُوَ الصَّبْرُ وَالِاحْتِسَابُ وَالِاسْتِرْجَاعُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157] . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مِنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» . وَقَالَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ الصَّالِقَةِ، وَالْحَالِقَةِ، وَالشَّاقَّةِ» . وَقَالَ: «النَّائِحَةُ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ» . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهَا الْحُسَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ، فَيَذْكُرُ مُصِيبَتَهُ وَإِنْ قَدِمَتْ، فَيُحْدِثُ لَهَا اسْتِرْجَاعًا إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلَ أَجْرِهِ يَوْمَ أُصِيبَ بِهَا» .

وَهَذَا مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ مُصِيبَةَ الْحُسَيْنِ وَغَيْرِهِ إذَا ذُكِرَتْ بَعْدَ طُولِ الْعَهْدِ، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَسْتَرْجِعَ فِيهَا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لِيُعْطَى مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أَجْرِ الْمُصَابِ يَوْمَ أُصِيبَ بِهَا. وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابِ عِنْدَ حَدَثَانِ الْعَهْدِ بِالْمُصِيبَةِ، فَكَيْفَ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ، فَكَانَ مَا زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ لِأَهْلِ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ مِنْ اتِّخَاذِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَأْتَمًا، وَمَا يَصْنَعُونَ فِيهِ مِنْ النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ، وَإِنْشَادِ قَصَائِدِ الْحُزْنِ، وَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا كَذِبٌ كَثِيرٌ وَالصِّدْقُ فِيهَا لَيْسَ فِيهِ إلَّا تَجْدِيدُ الْحُزْنِ، وَالتَّعَصُّبُ، وَإِثَارَةُ الشَّحْنَاءِ وَالْحَرْبِ، وَإِلْقَاءُ الْفِتَنِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَالتَّوَسُّلُ بِذَلِكَ إلَى سَبِّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَكَثْرَةُ الْكَذِبِ وَالْفِتَنِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَعْرِفْ طَوَائِفُ الْإِسْلَامِ أَكْثَرَ كَذِبًا وَفِتَنًا وَمُعَاوَنَةً لِلْكُفَّارِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الضَّالَّةِ الْغَاوِيَةِ، فَإِنَّهُمْ شَرٌّ مِنْ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ. وَأُولَئِكَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ» . وَهَؤُلَاءِ يُعَاوِنُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا أَعَانُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ التُّرْكِ وَالتَّتَارِ عَلَى مَا فَعَلُوهُ بِبَغْدَادَ، وَغَيْرِهَا، بِأَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وَمَعْدِنِ الرِّسَالَةِ وَلَدِ الْعَبَّاسِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالْمُؤْمِنِينَ، مِنْ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَخَرَابِ الدِّيَارِ. وَشَرُّ هَؤُلَاءِ وَضَرَرُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، لَا يُحْصِيهِ الرَّجُلُ الْفَصِيحُ فِي الْكَلَامِ. فَعَارَضَ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ إمَّا مِنْ النَّوَاصِبِ الْمُتَعَصِّبِينَ عَلَى الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَإِمَّا مِنْ الْجُهَّالِ الَّذِينَ قَابَلُوا الْفَاسِدَ بِالْفَاسِدِ، وَالْكَذِبَ بِالْكَذِبِ، وَالشَّرَّ بِالشَّرِّ، وَالْبِدْعَةَ بِالْبِدْعَةِ، فَوَضَعُوا الْآثَارَ فِي شَعَائِرِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ كَالِاكْتِحَالِ وَالِاخْتِضَابِ، وَتَوْسِيعِ النَّفَقَاتِ عَلَى الْعِيَالِ، وَطَبْخِ الْأَطْعِمَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْعَادَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ فِي الْأَعْيَادِ وَالْمَوَاسِمِ، فَصَارَ هَؤُلَاءِ يَتَّخِذُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مَوْسِمًا كَمَوَاسِمِ الْأَعْيَادِ وَالْأَفْرَاحِ. وَأُولَئِكَ يَتَّخِذُونَهُ مَأْتَمًا يُقِيمُونَ فِيهِ الْأَحْزَانَ وَالْأَتْرَاحَ وَكِلَا

الطَّائِفَتَيْنِ مُخْطِئَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ أُولَئِكَ أَسْوَأَ قَصْدًا وَأَعْظَمَ جَهْلًا، وَأَظْهَرَ ظُلْمًا، لَكِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحَدِّثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . وَلَمْ يَسُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، لَا شَعَائِرَ الْحُزْنِ وَالتَّرَحِ، وَلَا شَعَائِرَ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ، «وَلَكِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى مِنْ الْغَرَقِ فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ. فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ» وَكَانَتْ قُرَيْشٌ أَيْضًا تُعَظِّمُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَالْيَوْمُ الَّذِي أَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ كَانَ يَوْمًا وَاحِدًا، فَإِنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ثُمَّ فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ ذَلِكَ الْعَامِ، فَنَسَخَ صَوْمَ عَاشُورَاءَ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ كَانَ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَاجِبًا؟ أَوْ مُسْتَحَبًّا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا، ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ يَصُومُهُ مَنْ يَصُومُهُ اسْتِحْبَابًا، وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَامَّةَ بِصِيَامِهِ، بَلْ كَانَ يَقُولُ: «هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَأَنَا صَائِمٌ فِيهِ فَمَنْ شَاءَ صَامَ» . وَقَالَ: «صَوْمُ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً، وَصَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ» . «وَلَمَّا كَانَ آخِرُ عُمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَلَغَهُ أَنَّ الْيَهُودَ يَتَّخِذُونَهُ عِيدًا، قَالَ: لَئِنْ عِشْتُ إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» .

لِيُخَالِفَ الْيَهُودَ، وَلَا يُشَابِهَهُمْ فِي اتِّخَاذِهِ عِيدًا، وَكَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يَصُومُهُ، وَلَا يَسْتَحِبُّ صَوْمَهُ، بَلْ يَكْرَهُ إفْرَادَهُ بِالصَّوْمِ، كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْكُوفِيِّينَ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ صَوْمَهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَامَهُ أَنْ يَصُومَ مَعَهُ التَّاسِعَ؛ لِأَنَّ هَذَا آخِرُ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ: «لَئِنْ عِشْتُ إلَى قَابِلٍ، لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ مَعَ الْعَاشِرِ» كَمَا جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، فَهَذَا الَّذِي سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا سَائِرُ الْأُمُورِ: مِثْلُ اتِّخَاذِ طَعَامٍ خَارِجٍ عَنْ الْعَادَةِ، إمَّا حُبُوبٌ وَإِمَّا غَيْرُ حُبُوبٍ، أَوْ تَجْدِيدُ لِبَاسٍ وَتَوْسِيعُ نَفَقَةٍ، أَوْ اشْتِرَاءُ حَوَائِجِ الْعَامِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَوْ فِعْلُ عِبَادَةٍ مُخْتَصَّةٍ. كَصَلَاةٍ مُخْتَصَّةٍ بِهِ، أَوْ قَصْدُ الذَّبْحِ، أَوْ ادِّخَارُ لُحُومِ الْأَضَاحِيّ لِيَطْبُخَ بِهَا الْحُبُوبَ، أَوْ الِاكْتِحَالُ وَالِاخْتِضَابُ، أَوْ الِاغْتِسَالُ أَوْ التَّصَافُحُ، أَوْ التَّزَاوُرُ أَوْ زِيَارَةُ الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ، الَّتِي لَمْ يَسُنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ، وَلَا اسْتَحَبَّهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا مَالِكٌ وَلَا الثَّوْرِيُّ، وَلَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَلَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَا الْأَوْزَاعِيُّ، وَلَا الشَّافِعِيُّ، وَلَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَلَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَلَا أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ قَدْ كَانُوا يَأْمُرُونَ بِبَعْضِ ذَلِكَ. وَيَرْوُونَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ وَآثَارًا، وَيَقُولُونَ: " إنَّ بَعْضَ ذَلِكَ صَحِيحٌ. فَهُمْ مُخْطِئُونَ غَالَطُونِ بِلَا رَيْبٍ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ. وَقَدْ قَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ فِي مَسَائِلِهِ: سُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ: «مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ» فَلَمْ يَرَهُ شَيْئًا. وَأَعْلَى مَا عِنْدَهُمْ أَثَرٌ يُرْوَى عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنَا «أَنَّهُ مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ سَنَتِهِ» قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ جَرَّبْنَاهُ مُنْذُ سِتِّينَ عَامًا فَوَجَدْنَاهُ صَحِيحًا. وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ،

وَلَمْ يَذْكُرْ مِمَّنْ سَمِعَ هَذَا وَلَا عَمَّنْ بَلَغَهُ، فَلَعَلَّ الَّذِي قَالَ هَذَا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُقَابِلُوا الرَّافِضَةَ بِالْكَذِبِ: مُقَابِلَةَ الْفَاسِدِ بِالْفَاسِدِ وَالْبِدْعَةِ بِالْبِدْعَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُيَيْنَةَ. فَإِنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِرِزْقِهِ، وَلَيْسَ فِي إنْعَامِ اللَّهِ بِذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ كَانَ التَّوْسِيعُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى مَنْ هُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَلَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ أَنْ يُوَسِّعُوا عَلَى أَهْلَيْهِمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ بِخُصُوصِهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يُنْذِرُونَ نَذْرًا لِحَاجَةٍ يَطْلُبُهَا، فَيَقْضِي اللَّهُ حَاجَتَهُ، فَيَظُنُّ أَنَّ النَّذْرَ كَانَ السَّبَبَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ، وَقَالَ: إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ» . فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ حَاجَتَهُ إنَّمَا قُضِيَتْ بِالنَّذْرِ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالنَّاسُ مَأْمُورُونَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاتِّبَاعِ دِينِهِ وَسَبِيلِهِ، وَاقْتِفَاءِ هُدَاهُ وَدَلِيلِهِ، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى مَا عَظُمَتْ بِهِ النِّعْمَةُ، حَيْثُ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ، أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ، لَمْ يُتَّبَعْ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ رَأَى مِنْ رَجُلٍ مُكَاشَفَةً أَوْ تَأْثِيرًا فَاتَّبَعَهُ فِي خِلَافِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ مِنْ جِنْسِ أَتْبَاعِ الدَّجَّالِ، فَإِنَّ الدَّجَّالَ يَقُولُ لِلسَّمَاءِ: أَمْطِرِي فَتُمْطِرُ، وَيَقُولُ لِلْأَرْضِ، أَنَبْتِي فَتُنْبِتُ، وَيَقُولُ لِلْخَرِبَةِ أَخْرِجِي كُنُوزَك فَتَخْرُجُ مَعَهُ كُنُوزُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَيَقْتُلُ رَجُلًا ثُمَّ يَأْمُرُهُ أَنْ يَقُومَ فَيَقُومَ، وَهُوَ مَعَ هَذَا كَافِرٌ مَلْعُونٌ عَدُوٌّ لِلَّهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا قَدْ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ: وَأَنَا أُنْذِرُكُمُوهُ إنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ

مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ - ك ف ر - يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ قَارِئٍ وَغَيْرِ قَارِئٍ، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ» . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ» . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ كَذَّابُونَ دَجَّالُونَ، يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ» . هَؤُلَاءِ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ وَتُوحِي إلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ - تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ - يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء: 221 - 223] . وَمِنْ أَوَّلِ مَنْ ظَهَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ. وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ: كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَوَّى بَيْنَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ وَبَيْنَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، فَإِنَّ مُسَيْلِمَةَ كَانَ لَهُ شَيْطَانٌ يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَيُوحِي إلَيْهِ. وَمِنْ عَلَامَاتِ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأَحْوَالَ إذَا تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمْ وَقْتَ سَمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصَدِّيَةِ أَزْبَدُوا وَأَرْعَدُوا - كَالْمَصْرُوعِ - وَتَكَلَّمُوا بِكَلَامٍ لَا يُفْقَهُ مَعْنَاهُ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَتَكَلَّمُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، كَمَا تَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ.

وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنْ يَعْلَمَ الرَّجُلُ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ الَّذِينَ نَعَتَهُمْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ. حَيْثُ قَالَ: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 63] . فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا كَانَ لِلَّهِ وَلِيًّا. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا. فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ» . وَدِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ، عَلَى أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ، وَأَنْ نَعْبُدَهُ بِمَا شَرَعَ، لَا نَعْبُدُهُ بِالْبِدَعِ. قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] . فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَهُوَ الْمَشْرُوعُ الْمَسْنُونُ، وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ فِي دُعَائِهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا، وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا. وَلِهَذَا كَانَتْ أُصُولُ الْإِسْلَامِ تَدُورُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ: قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . وَقَوْلِهِ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» . وَقَوْلِهِ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» .

مسألة التزام مذهب شخص معين

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. [مَسْأَلَةٌ الْتِزَامُ مَذْهَبِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ] 16 - مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ: الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ فِي رَجُلٍ سُئِلَ: إيشِ مَذْهَبُك؟ فَقَالَ: مُحَمَّدِيٌّ، أَتَّبِعُ كِتَابَ اللَّهِ، وَسُنَّةَ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقِيلَ: لَهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَتَّبِعَ مَذْهَبًا، وَمَنْ لَا مَذْهَبَ لَهُ فَهُوَ شَيْطَانٌ، فَقَالَ: إيشِ كَانَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؟ فَقِيلَ لَهُ: لَا يَنْبَغِي لَك إلَّا أَنْ تَتَّبِعَ مَذْهَبًا مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ فَأَيُّهُمْ الْمُصِيبُ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهَؤُلَاءِ أُولُو الْأَمْرِ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَتِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] . إنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ تَبَعًا لِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَا اسْتِقْلَالًا، ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] . وَإِذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِ نَازِلَةٌ فَإِنَّهُ يَسْتَفْتِي مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يُفْتِيهِ بِشَرْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ أَيِّ مَذْهَبٍ كَانَ، وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْلِيدُ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْتِزَامُ مَذْهَبِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ مَا يُوجِبُهُ وَيُخْبِرُ بِهِ، بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَاتِّبَاعُ الشَّخْصِ لِمَذْهَبِ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ إنَّمَا هُوَ مِمَّا يَسُوغُ لَهُ، لَيْسَ هُوَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إذَا أَمْكَنَهُ مَعْرِفَةُ الشَّرْعِ بِغَيْرِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ، بَلْ كُلُّ أَحَدٍ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ وَيَطْلُبَ عِلْمَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَيَفْعَلُ الْمَأْمُورَ، وَيَتْرُكُ الْمَحْظُورَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

كتاب الطهارة

[كِتَابُ الطَّهَارَةِ] [مَسْأَلَةٌ حَدِيث نِيَّة الْمَرْءِ أَبْلَغُ مِنْ عَمَلِهِ] (كِتَابُ الطَّهَارَةِ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، قُدْوَةُ الْأَنَامِ، عَلَمُ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، خَاتِمَةُ الْحُفَّاظِ وَالْمُجْتَهِدِينَ: تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّةَ الْحَرَّانِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ، نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ آمِينَ. 17 - 1 مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نِيَّةُ الْمَرْءِ أَبْلَغُ مِنْ عَمَلِهِ» الْجَوَابُ: هَذَا الْكَلَامُ قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَبَعْضُهُمْ يَذْكُرُهُ مَرْفُوعًا، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ النِّيَّةَ الْمُجَرَّدَةَ مِنْ الْعَمَلِ يُثَابُ عَلَيْهَا، وَالْعَمَلُ الْمُجَرَّدُ عَنْ النِّيَّةِ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ: أَنَّ مَنْ عَمِلَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ بِغَيْرِ إخْلَاصٍ لِلَّهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً» .

الثَّانِي: أَنَّ مَنْ نَوَى الْخَيْرَ وَعَمِلَ مِنْهُ مَقْدُورَهُ، وَعَجَزَ عَنْ إكْمَالِهِ: كَانَ لَهُ أَجْرُ عَامِلٍ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ. قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ» . وَقَدْ صَحَّحَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ، «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ ذَكَرَ أَرْبَعَةَ رِجَالٍ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا وَهُوَ يَعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا، فَقَالَ: لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانٍ لَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ فُلَانٌ، قَالَ: فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا فَهُوَ يَعْمَلُ فِيهِ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا. فَقَالَ: لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانٍ لَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ فُلَانٌ، قَالَ: فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ» وَشَوَاهِدُ هَذَا كَثِيرَةٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَلْبَ مَلِكُ الْبَدَنِ، وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ، فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ

مسألة النية في الدخول في العبادات

جُنُودُهُ، وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ، وَالنِّيَّةُ عَمَلُ الْمَلِكِ بِخِلَافِ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّهَا عَمَلُ الْجُنُودِ. الرَّابِعُ: أَنَّ تَوْبَةَ الْعَاجِزِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ تَصِحُّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ: كَتَوْبَةِ الْمَجْبُوبِ عَنْ الزِّنَا، وَكَتَوْبَةِ الْمَقْطُوعِ اللِّسَانِ عَنْ الْقَذْفِ، وَغَيْرِهِ. وَأَصْلُ التَّوْبَةِ: عَزْمُ الْقَلْبِ، وَهَذَا حَاصِلٌ مَعَ الْعَجْزِ. الْخَامِسُ: أَنَّ النِّيَّةَ لَا يَدْخُلُهَا فَسَادٌ بِخِلَافِ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، فَإِنَّ النِّيَّةَ أَصْلُهَا حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِرَادَةُ وَجْهِهِ، وَهَذَا هُوَ بِنَفْسِهِ مَحْبُوبٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، مَرَضِيٌّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ تَدْخُلُهَا آفَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَمَا لَمْ تَسْلَمْ مِنْهَا لَمْ تَكُنْ مَقْبُولَةً، وَلِهَذَا كَانَتْ أَعْمَالُ الْقَلْبِ الْمُجَرَّدَةُ أَفْضَلَ مِنْ أَعْمَالِ الْبَدَنِ الْمُجَرَّدَةِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: قُوَّةُ الْمُؤْمِنِ فِي قَلْبِهِ، وَضَعْفُهُ فِي جِسْمِهِ، وَقُوَّةُ الْمُنَافِقِ فِي جِسْمِهِ وَضَعْفُهُ فِي قَلْبِهِ ". وَتَفْصِيلُ هَذَا يَطُولُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ النِّيَّة فِي الدُّخُولِ فِي الْعِبَادَاتِ] 18 - 2 مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ النِّيَّةِ فِي الدُّخُولِ فِي الْعِبَادَاتِ مِنْ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، هَلْ تَفْتَقِرُ إلَى نُطْقِ اللِّسَانِ؟ مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ: نَوَيْت أُصَلِّي، وَنَوَيْت أَصُومُ؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، نِيَّةُ الطَّهَارَةِ مِنْ وُضُوءٍ، أَوْ غُسْلٍ أَوْ تَيَمُّمٍ، وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ؛ لَا تَفْتَقِرُ إلَى نُطْقِ اللِّسَانِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، بَلْ النِّيَّةُ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ بِاتِّفَاقِهِمْ، فَلَوْ لَفَظَ بِلِسَانِهِ غَلَطًا خِلَافَ مَا فِي قَلْبِهِ فَالِاعْتِبَارُ بِمَا يَنْوِي لَا بِمَا لَفَظَ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ خِلَافًا، إلَّا أَنَّ بَعْضَ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ خَرَّجَ

مسألة الماء الكثير إذا تغير لونه بمكثه

وَجْهًا فِي ذَلِكَ، وَغَلَّطَهُ فِيهِ أَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ، وَلَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُسْتَحَبُّ اللَّفْظُ بِالنِّيَّةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ: يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِهَا لِكَوْنِهِ أَوْكَدَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمَا: لَا يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَصْحَابِهِ وَلَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدًا مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَلْفِظَ بِالنِّيَّةِ وَلَا عَلَّمَ ذَلِكَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَمْ يُهْمِلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ، مَعَ أَنَّ الْأُمَّةَ مُبْتَلَاةٌ بِهِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ، بَلْ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ: أَمَّا فِي الدِّينِ فَلِأَنَّهُ بِدْعَةٌ، وَأَمَّا فِي الْعَقْلِ فَلِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُرِيدُ أَكْلَ الطَّعَامِ فَقَالَ: أَنْوِي بِوَضْعِ يَدِي فِي هَذَا الْإِنَاءِ أَنِّي آخُذُ مِنْهُ لُقْمَةً، فَأَضَعُهَا فِي فَمِي فَأَمْضُغُهَا، ثُمَّ أَبْلَعُهَا لِأَشْبَعَ فَهَذَا حُمْقٌ وَجَهْلٌ. وَذَلِكَ أَنَّ النِّيَّةَ تَتْبَعُ الْعِلْمَ، فَمَتَى عَلِمَ الْعَبْدُ مَا يَفْعَلُ كَانَ قَدْ نَوَاهُ ضَرُورَةً، فَلَا يُتَصَوَّرُ مَعَ وُجُودِ الْعِلْمِ بِهِ أَنْ لَا تَحْصُلَ نِيَّةٌ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الْجَهْرَ بِالنِّيَّةِ وَتَكْرِيرَهَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، بَلْ مَنْ اعْتَادَهُ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُؤَدَّبَ تَأْدِيبًا يَمْنَعُهُ عَنْ التَّعَبُّدِ بِالْبِدَعِ، وَإِيذَاءِ النَّاسِ بِرَفْعِ صَوْتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْمَاء الْكَثِير إذَا تَغَيَّرَ لَوْنُهُ بِمُكْثِهِ] 19 - 3 - مَسْأَلَةٌ: فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ إذَا تَغَيَّرَ لَوْنُهُ بِمُكْثِهِ، أَوْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَطَعْمُهُ لَا الرَّائِحَةُ، فَهَلْ يَكُونُ طَهُورًا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا مَا تَغَيَّرَ بِمُكْثِهِ وَمَقَرِّهِ: فَهُوَ بَاقٍ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا النَّهْرُ الْجَارِي: فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ بِنَجَاسَةٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَجِسًا، فَإِنْ خَالَطَهُ مَا يُغَيِّرُهُ مِنْ طَاهِرٍ وَنَجِسٍ، وَشَكَّ فِي التَّغَيُّرِ هَلْ بِطَاهِرٍ أَوْ نَجِسٍ، لَمْ يَحْكُمْ بِنَجَاسَتِهِ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ، وَالْأَغْلَبُ أَنَّ هَذِهِ الْأَنْهَارَ الْكِبَارَ لَا تَتَغَيَّرُ بِهَذِهِ الْقَنَى الَّتِي عَلَيْهَا، لَكِنْ إذَا

مسألة سؤر الهرة إذا أكلت نجاسة ثم شربت من دون القلتين

تَبَيَّنَ تَغَيُّرُهُ بِالنَّجَاسَةِ فَهُوَ نَجَسٌ، وَإِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا بِغَيْرِ نَجَسٍ فَفِي طَهُورِيَّتِهِ الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ سُؤْرُ الْهِرَّةِ إذَا أَكَلَتْ نَجَاسَةً ثُمَّ شَرِبَتْ مِنْ دُونِ الْقُلَّتَيْنِ] 20 - 4 - مَسْأَلَةٌ: فِي الْقُلَّتَيْنِ هَلْ حَدِيثُهُ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ قُلَّةُ الْجَبَلِ؟ وَفِي سُؤْرِ الْهِرَّةِ إذَا أَكَلَتْ نَجَاسَةً، ثُمَّ شَرِبَتْ مِنْ دُونِ الْقُلَّتَيْنِ، هَلْ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّك تَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحَيْضُ، وَلُحُومُ الْكِلَابِ، وَالنَّتْنُ، فَقَالَ: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . وَبِئْرُ بُضَاعَةَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا هِيَ: بِئْرٌ لَيْسَتْ جَارِيَةً، وَمَا يُذْكَرُ عَنْ الْوَاقِدِيِّ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ أَمْرٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْوَاقِدِيَّ لَا يُحْتَجُّ بِهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاءٌ جَارٍ، وَعَيْنُ الزَّرْقَاءِ وَعُيُونُ حَمْزَةَ مُحْدَثَةٌ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِئْرُ بُضَاعَةَ بَاقِيَةٌ إلَى الْيَوْمِ فِي شَرْقِيِّ الْمَدِينَةِ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ: فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ أَجَابُوا عَنْ كَلَامِ مَنْ طَعَنَ فِيهِ، وَصَنَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَقْدِسِيُّ جُزْءًا رَدَّ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ

وَأَمَّا لَفْظُ الْقُلَّةِ: فَإِنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ الْجَرَّةُ الْكَبِيرَةُ: كَالْحَبِّ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُمَثِّلُ بِهِمَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ قَالَ فِي سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى: وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ» . وَهِيَ قِلَالٌ مَعْرُوفَةُ الصِّفَةِ وَالْمِقْدَارِ، فَإِنَّ التَّمْثِيلَ لَا يَكُونُ بِمُخْتَلِفٍ مُتَفَاوِتٍ، وَهَذَا مِمَّا يُبْطِلُ كَوْنَ الْمُرَادِ قُلَّةَ الْجَبَلِ؛ لِأَنَّ قِلَالَ الْجِبَالِ فِيهَا الْكِبَارُ وَالصِّغَارُ، وَفِيهَا الْمُرْتَفِعُ كَثِيرًا وَفِيهَا مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ مَاءٌ يَصِلُ إلَى قِلَالِ الْجَبَلِ إلَّا مَاءُ الطُّوفَانِ، فَحَمْلُ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مِثْلِ هَذَا يُشْبِهُ الِاسْتِهْزَاءَ بِكَلَامِهِ. وَمِنْ عَادَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يُقَدِّرُ الْمُقَدَّرَاتِ بِأَوْعِيَتِهَا كَمَا قَالَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» . وَالْوَسْقُ: حِمْلُ الْجَمَلِ، وَكَمَا كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ، وَذَلِكَ مِنْ أَوْعِيَةِ الْمَاءِ، وَهَكَذَا تَقْدِيرُ الْمَاءِ بِالْقِلَالِ مُنَاسِبٌ، فَإِنَّ الْقُلَّةَ وِعَاءُ الْمَاءِ. وَأَمَّا الْهِرَّةُ: فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» .

مسألة قام من نوم الليل فغمس يده في الماء قبل أن يغسلها

وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا أَكَلَتْ فَأْرَةً وَنَحْوَهَا، ثُمَّ وَلَغَتْ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ، عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ. قِيلَ: إنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: نَجِسٌ مُطْلَقًا حَتَّى تُعْلَمَ طَهَارَةُ فَمِهَا. وَقِيلَ: إنْ غَابَتْ غَيْبَةً يُمْكِنُ فِيهَا وُرُودُهَا مَا يُطَهِّرُ فَمَهَا كَانَ طَاهِرًا وَإِلَّا فَلَا. وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمَا. وَقِيلَ: إنْ طَالَ الْفَصْلُ كَانَ طَاهِرًا، جَعْلًا لِرِيقِهَا مُطَهِّرًا لِفَمِهَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ. وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَهُوَ أَقْوَى الْأَقْوَالِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قَامَ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ فَغَمَسَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا] 21 - 5 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ غَمَسَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا مِنْ قِيَامِهِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ، فَهَلْ هَذَا الْمَاءُ يَكُونُ طَهُورًا؟ وَمَا الْحِكْمَةُ فِي غَسْلِ الْيَدِ إذَا بَاتَتْ طَاهِرَةً؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا مَصِيرُهُ مُسْتَعْمَلًا لَا يُتَوَضَّأُ بِهِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، اخْتَارَ كُلَّ وَاحِدَةٍ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. فَالْمَنْعُ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَاضِي، وَأَكْثَرِ أَتْبَاعِهِ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَغَيْرِهِ، وَالثَّانِيَةُ: لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا وَهِيَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ، وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فِي غَسْلِ الْيَدِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ خَوْفُ نَجَاسَةٍ تَكُونُ عَلَى الْيَدِ، مِثْلُ مُرُورِ يَدِهِ عَلَى مَوْضِعِ الِاسْتِجْمَارِ مَعَ الْعَرَقِ، أَوْ عَلَى زَبْلَةٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: إنَّهُ تَعَبُّدٌ وَلَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ. وَالثَّالِثُ: إنَّهُ مِنْ مَبِيتِ يَدِهِ مُلَامِسَةً لِلشَّيْطَانِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ:

مسألة الكلب إذا وقع في بئر كثير الماء ومات فيه

«إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنْ الْمَاءِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ» . فَأَمَرَ بِالْغَسْلِ مُعَلِّلًا بِمَبِيتِ الشَّيْطَانِ عَلَى خَيْشُومِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلْغَسْلِ عَنْ النَّجَاسَةِ، وَالْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ. وَقَوْلُهُ: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» : يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذَلِكَ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْعِلَّةُ مِنْ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ الَّتِي شَهِدَ لَهَا النَّصُّ بِالِاعْتِبَارِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْكَلْب إذَا وَقَعَ فِي بِئْر كَثِير الْمَاء وَمَاتَ فِيهِ] 22 - 6 - مَسْأَلَةٌ: فِي بِئْرٍ كَثِيرِ الْمَاءِ وَقَعَ فِيهِ كَلْبٌ، وَمَاتَ وَبَقِيَ فِيهِ حَتَّى انْهَرَى جِلْدُهُ وَشَعْرُهُ، وَلَمْ يُغَيَّرُ مِنْ الْمَاءِ وَصْفٌ قَطُّ: لَا طَعْمٌ، وَلَا لَوْنٌ، وَلَا رَائِحَةٌ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، هُوَ طَاهِرٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ: إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ، وَهُمَا نَحْوَ الْقِرْبَتَيْنِ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؟ وَشَعْرُ الْكَلْبِ فِي طَهَارَتِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّهُ طَاهِرٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَنَجَسٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ فِي الدَّلْوِ الصَّاعِدِ شَيْئًا مِنْ شَعْرِهِ لَمْ يَحْكُمْ بِنَجَاسَتِهِ بِلَا رَيْبٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّك تَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَهِيَ بِئْرٌ تُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ، وَلُحُومُ الْكِلَابِ، وَعَذِرُ النَّاسِ. فَقَالَ الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . وَبِئْرُ بُضَاعَةَ وَاقِعَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِالْمَدِينَةِ، فِي شَرْقِيِّ الْمَدِينَةِ بَاقِيَةٌ إلَى الْيَوْمِ، وَمَنْ قَالَ إنَّهَا كَانَتْ جَارِيَةً فَقَدْ أَخْطَأَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ عَيْنٌ جَارِيَةٌ، بَلْ الزَّرْقَاءُ، وَعُيُونُ حَمْزَةَ حَدَّثَتَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة مريض طبخ له دواء فوجد فيه زبل الفار

[مَسْأَلَةٌ مَرِيض طُبِخَ لَهُ دَوَاءٌ فَوَجَدَ فِيهِ زِبْلَ الْفَارِ] مَسْأَلَةٌ: فِي مَرِيضٍ طُبِخَ لَهُ دَوَاءٌ، فَوَجَدَ فِيهِ زِبْلَ الْفَارِ. الْجَوَابُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، هَلْ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ بَعْرِ الْفَارِ؟ فَفِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ: أَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِمَا: أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ فَيُؤْكَلُ مَا ذُكِرَ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فَرَّان يَحْمِي بِالزِّبْلِ وَيَخْبِزُ] 24 - 8 - مَسْأَلَةٌ: فِي: فَرَّانٍ يَحْمِي بِالزِّبْلِ، وَيَخْبِزُ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا كَانَ الزِّبْلُ طَاهِرًا، مِثْلَ: زِبْلِ الْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَالْإِبِلِ، وَزِبْلِ الْخَيْلِ، فَهَذَا لَا يُنَجِّسُ الْخُبْزَ. وَإِنْ كَانَ نَجِسًا: كَزِبْلِ الْبِغَالِ، وَالْحُمْرِ، وَزِبْلِ سَائِرِ الْبَهَائِمِ، فَعِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ إنْ كَانَ يَابِسًا فَقَدْ يَبِسَ الْفُرْنُ مِنْهُ لَمْ يُنَجِّسْ الْخُبْزَ، وَإِنْ عَلَقَ بَعْضُهُ بِالْخُبْزِ قُلِعَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ، وَلَمْ يُنَجِّسْ الْبَاقِيَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي فِي أَرْضِ الْحَمَّامِ مِنْ اغْتِسَالِ النَّاسِ] 25 - 9 - مَسْأَلَةٌ: فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْبُرُونَ إلَى الْحَمَّامِ، فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَغْتَسِلُوا مِنْ الْجَنَابَةِ وَقَفَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى الطَّهُورِ وَحْدَهُ، وَلَا يَغْتَسِلُ أَحَدٌ مَعَهُ حَتَّى يَفْرُغَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، فَهَلْ إذَا اغْتَسَلَ مَعَهُ غَيْرُهُ لَا يَطْهُرُ؟ وَإِنْ تَطَهَّرَ مِنْ بَقِيَّةِ أَحْوَاضِ الْحَمَّامِ، فَهَلْ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ بَائِتًا فِيهَا؟ وَهَلْ الْمَاءُ الَّذِي يَتَقَاطَرُ مِنْ عَلَى بَدَنِ الْجُنُبِ مِنْ الْجِمَاعِ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ؟ وَهَلْ مَاءُ الْحَمَّامِ عِنْدَ كَوْنِهِ مُسَخَّنًا بِالنَّجَاسَةِ نَجِسٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ الزُّنْبُورُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْحَمَّامِ أَيَّامَ الشِّتَاءِ هُوَ مِنْ دُخَانِ النَّجَاسَةِ يَتَنَجَّسُ بِهِ الرَّجُلُ إذَا اغْتَسَلَ وَجَسَدُهُ مَبْلُولٌ أَمْ لَا؟ وَالْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي فِي أَرْضِ الْحَمَّامِ مِنْ اغْتِسَالِ النَّاسِ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ؟ أَفْتُونَا لِيَزُولَ الْوَسْوَاسُ

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ يَغْتَرِفَانِ جَمِيعًا» . وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: دَعْ لِي وَيَقُولُ هُوَ: دَعِي لِي مِنْ قِلَّةِ الْمَاءِ» . وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَغَيْرُ عَائِشَةَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ» ، مِثْلُ: مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَأُمِّ سَلَمَةَ. وَثَبَتَ «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ قَدْرَ الْفَرَقِ» . وَالْفَرَقُ بِالرَّطْلِ الْعِرَاقِيِّ الْقَدِيمِ سِتَّةَ عَشَرَ رَطْلًا، وَبِالرِّطْلِ الْمِصْرِيِّ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ رَطْلًا. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ» . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّئُونَ مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ» . وَهَذِهِ السُّنَنُ الثَّابِتَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا بِمَدِينَتِهِ عَلَى عَهْدِهِ دَلَّتْ عَلَى أُمُورٍ

أَحَدُهَا: هُوَ اشْتِرَاكُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الِاغْتِسَالِ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَغْتَسِلُ بِسُؤْرِ الْآخَرِ، وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَهُمْ: أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ، أَوْ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، إذَا تَوَضَّؤُا وَاغْتَسَلُوا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ جَازَ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالسُّنَنِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ، وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا انْفَرَدَتْ الْمَرْأَةُ بِالِاغْتِسَالِ، أَوْ خَلَتْ بِهِ، هَلْ يُنْهَى الرَّجُلُ عَنْ التَّطَهُّرِ بِسُؤْرِهَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ. أَحَدُهَا: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ مُطْلَقًا. وَالثَّانِي: يُكْرَهُ مُطْلَقًا، وَالثَّالِثُ: يُنْهَى عَنْهُ إذَا خَلَتْ بِهِ دُونَ مَا انْفَرَدَتْ بِهِ وَلَمْ تَخْلُ بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ فِي السُّنَنِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَأَمَّا اغْتِسَالُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يَتَنَازَعْ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِهِ، وَإِذَا جَازَ اغْتِسَالُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا، فَاغْتِسَالُ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ جَمِيعًا، أَوْ النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ جَمِيعًا أَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ، فَمَنْ كَرِهَ أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَهُ غَيْرُهُ، أَوْ رَأَى أَنَّ طُهْرَهُ لَا يَتِمُّ حَتَّى يَغْتَسِلَ وَحْدَهُ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَفَارَقَ جَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْآنِيَةَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَزْوَاجُهُ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَغْتَسِلُونَ مِنْهَا كَانَتْ آنِيَةً صَغِيرَةً، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَادَّةٌ لَا أُنْبُوبٌ وَلَا غَيْرُهُ، وَلَمْ يَكُنْ يَفِيضُ، فَإِذَا كَانَ تَطَهُّرُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا مِنْ تِلْكَ الْآنِيَةِ جَائِزًا، فَكَيْفَ بِهَذِهِ الْحِيَاضِ الَّتِي فِي الْحَمَّامَاتِ وَغَيْرِ الْحَمَّامَاتِ الَّتِي يَكُونُ الْحَوْضُ أَكْبَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ، فَإِنَّ الْقُلَّتَيْنِ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ أَنَّهُمَا خَمْسُمِائَةِ رَطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ الْقَدِيمِ، فَيَكُونُ هَذَا بِالرَّطْلِ الْمِصْرِيِّ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِعَشَرَاتٍ مِنْ الْأَرْطَالِ، فَإِنَّ الرَّطْلَ الْعِرَاقِيَّ الْقَدِيمَ: مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، وَهَذَا الرَّطْلُ الْمِصْرِيُّ: مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَثَلَاثَةِ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أُوقِيَّةٍ وَرُبُعٍ مِصْرِيَّةً. فَالْخَمْسُمِائَةِ رَطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ: أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ وَثَمَانُونَ دِرْهَمًا، وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ بِالرَّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ الَّذِي هُوَ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ

مِائَةٌ وَسَبْعَةُ أَرْطَالٍ وَسُبُعُ رَطْلٍ، وَهَذَا الرَّطْلُ الْمِصْرِيُّ أَرْبَعُمِائَةِ رَطْلٍ، وَسِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ رَطْلًا وَكَسْرُ أُوقِيَّةٍ. وَمِسَاحَةُ الْقُلَّتَيْنِ ذِرَاعٌ وَرُبْعٌ فِي ذِرَاعٍ وَرُبْعٍ طُولًا وَعَرْضًا وَعُمْقًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَالِبَ هَذِهِ الْحِيَاضِ الَّتِي فِي الْحَمَّامَاتِ الْمِصْرِيَّةِ وَغَيْرِ الْحَمَّامَاتِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْمِقْدَارِ بِكَثِيرٍ، فَإِنَّ الْقُلَّةَ نَحْوٌ مِنْ هَذِهِ الْقِرَبِ الْكَائِنَةِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ بِالشَّامِ وَمِصْرَ، فَالْقُلَّتَانِ قِرْبَتَانِ بِهَذِهِ الْقِرَبِ. وَهَذَا كُلُّهُ تَقْرِيبٌ بِلَا رَيْبٍ فَإِنَّ تَحْدِيدَ الْقُلَّتَيْنِ إنَّمَا هُوَ بِالتَّقْرِيبِ عَلَى أَصْوَبِ الْقَوْلَيْنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْحِيَاضَ فِيهَا أَضْعَافُ ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَطَهَّرُ هُوَ وَأَزْوَاجُهُ مِنْ تِلْكَ الْآنِيَةِ، فَكَيْفَ بِالتَّطَهُّرِ مِنْ هَذِهِ الْحِيَاضِ؟ الْأَمْرُ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَهُّرُ مِنْ هَذِهِ الْحِيَاضِ سَوَاءٌ كَانَتْ فَائِضَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْأُنْبُوبُ تَصُبُّ فِيهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَاءُ بَائِتًا فِيهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ. فَإِنَّهَا طَاهِرَةٌ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ طَهَارَتِهَا وَهِيَ بِكُلِّ حَالٍ أَكْثَرُ مَاءً مِنْ تِلْكَ الْآنِيَةِ الصِّغَارِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ يَتَطَهَّرُونَ مِنْهَا وَلَمْ تَكُنْ فَائِضَةً، وَلَا كَانَ بِهَا مَادَّةٌ مِنْ أُنْبُوبٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَمَنْ انْتَظَرَ الْحَوْضَ حَتَّى يَفِيضَ، وَلَمْ يَغْتَسِلْ إلَّا وَحْدَهُ، وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ دِينًا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ، مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ، مُسْتَحِقٌّ لِلتَّعْزِيرِ الَّذِي يُرْدِعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ أَنْ يُشَرِّعُوا فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَيَعْبُدُونَ اللَّهَ بِاعْتِقَادَاتٍ فَاسِدَةٍ، وَأَعْمَالٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ وَلَا مُسْتَحَبَّةٍ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: الِاقْتِصَادُ فِي صَبِّ الْمَاءِ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ» . وَالصَّاعُ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَمَّا أَهْلُ الْحِجَازِ وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ فَعِنْدَهُمْ: أَنَّهُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ

وَحِكَايَةُ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ، لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ مِقْدَارِ الصَّاعِ وَالْمُدِّ، فَأَمَرَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَنْ يَأْتُوهُ بِصِيعَانِهِمْ حَتَّى اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا حَضَرَ أَبُو يُوسُفَ قَالَ مَالِكٌ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ: مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا الصَّاعُ؟ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يُؤَدِّي بِهِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ الْآخَرُ: حَدَّثَتْنِي أُمِّي عَنْ أُمِّهَا أَنَّهَا كَانَتْ تُؤَدِّي بِهِ - يَعْنِي صَدَقَةَ حَدِيقَتِهَا - إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ الْآخَرُ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْآخَرُ نَحْوَ ذَلِكَ. فَقَالَ مَالِكٌ لِأَبِي يُوسُفَ: أَتَرَى هَؤُلَاءِ يَكْذِبُونَ؟ قَالَ: لَا، وَاَللَّهِ مَا يَكْذِبُ هَؤُلَاءِ. قَالَ مَالِكٌ: فَأَنَا حَرَّرْت هَذَا بِرِطْلِكُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ فَوَجَدْته خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا. فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لِمَالِكٍ: قَدْ رَجَعْت إلَى قَوْلِك يَا أَبَا عَبْدَ اللَّهِ، وَلَوْ رَأَى صَاحِبِي مَا رَأَيْت لَرَجَعَ كَمَا رَجَعْت. فَهَذَا النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِمِقْدَارِ الصَّاعِ وَالْمُدِّ. وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: كَابْنِ قُتَيْبَةَ، وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي تَعْلِيقِهِ، وَجَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ إلَى: أَنَّ صَاعَ الطَّعَامِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ، وَصَاعَ الْمَاءِ ثَمَانِيَةٌ، وَاحْتَجُّوا بِحُجَجٍ، مِنْهَا: خَبَرُ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْفَرَقِ، وَالْفَرَقُ سِتَّةَ عَشَرَ رَطْلًا بِالْعِرَاقِيِّ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الصَّاعَ وَالْمُدَّ فِي الطَّعَامِ وَالْمَاءِ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَظْهَرُ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مِقْدَارَ طَهُورِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْغُسْلِ مَا بَيْنَ ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ عِرَاقِيَّةٍ إلَى خَمْسَةٍ وَثُلُثٍ، وَالْوُضُوءُ رُبُعُ ذَلِكَ، وَهَذَا بِالرَّطْلِ الْمِصْرِيِّ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاَلَّذِي يُكْثِرُ صَبَّ الْمَاءِ حَتَّى يَغْتَسِلَ بِقِنْطَارِ مَاءٍ، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ: مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، وَمَنْ تَدَيَّنَ عُوقِبَ عُقُوبَةً تَزْجُرُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ ذَلِكَ، كَسَائِرِ الْمُتَدَيِّنِينَ بِالْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ بَيِّنٌ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَفْعَلُ نَحْوَ هَذَا لِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ يَكُونُ نَجِسًا أَوْ مُسْتَعْمَلًا، بِأَنْ تَكُونَ الْآنِيَةُ مِثْلَ: الطَّاسَةِ اللَّاصِقَةِ بِالْأَرْضِ، قَدْ تَنَجَّسَتْ بِمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ النَّجَاسَةِ، ثُمَّ غَرَفَ بِهَا مِنْهُ، أَوْ بِأَنَّ الْجُنُبَ غَمَسَ يَدَهُ فِيهِ فَصَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا، أَوْ قَطَرَ عَلَيْهِ مِنْ عَرَقِ سَقْفِ الْحَمَّامِ النَّجِسِ، أَوْ الْمُحْتَمِلِ النَّجَاسَةَ، أَوْ غَمَسَ بَعْضُ الدَّاخِلِينَ أَعْضَاءَهُ فِيهِ وَهِيَ نَجِسَةٌ فَنَجَّسَتْهُ، فَلِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ نَجَسًا، أَوْ مُسْتَعْمَلًا احْتَطْنَا لِدِينِنَا، وَعَدَلْنَا إلَى الْمَاءِ الطَّهُورِ بِيَقِينٍ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» . وَلِقَوْلِهِ: «مَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِعَرْضِهِ وَدِينِهِ» . قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: إنَّ الِاحْتِيَاطَ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ فِي أُمُورِ الْمِيَاهِ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا وَلَا مَشْرُوعًا، بَلْ وَلَا يُسْتَحَبُّ السُّؤَالُ عَنْ ذَلِكَ. بَلْ الْمَشْرُوعُ أَنْ يُبْنَى الْأَمْرُ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى النَّجَاسَةِ نَجَّسْنَاهُ، وَإِلَّا فَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْتَنِبَ اسْتِعْمَالَهُ بِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ النَّجَاسَةِ، وَأَمَّا إذَا قَامَتْ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ فَذَاكَ مَقَامٌ آخَرُ. وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ: أَنَّهُ مَا زَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ، وَالتَّابِعُونَ يَتَوَضَّئُونَ وَيَغْتَسِلُونَ وَيَشْرَبُونَ مِنْ الْمِيَاهِ الَّتِي فِي الْآنِيَةِ، وَالدِّلَاءِ الصِّغَارِ، وَالْحِيَاضِ، وَغَيْرِهَا، مَعَ وُجُودِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، بَلْ كُلُّ احْتِمَالٍ لَا يُسْنَدُ إلَى أَمَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نَوْعَانِ: مُحَرَّمٌ لِوَصْفِهِ، وَمُحَرَّمٌ لِكَسْبِهِ. فَالْمُحَرَّمُ لِكَسْبِهِ: كَالظُّلْمِ، وَالرِّبَا، وَالْمَيْسِرِ. وَالْمُحَرَّمُ لِوَصْفِهِ: كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ

وَالْأَوَّلُ أَشَدُّ تَحْرِيمًا، وَالتَّوَرُّعُ فِيهِ مَشْهُورٌ، وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَحْتَرِزُونَ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَالثِّيَابِ مِنْ الشُّبُهَاتِ النَّاشِئَةِ مِنْ الْمَكَاسِبِ الْخَبِيثَةِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّمَا حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ وَصْفِ الْخَبَثِ. وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ لَنَا طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ، مَعَ إمْكَانِ أَنْ لَا يُذَكُّوهُ التَّذْكِيَةَ الشَّرْعِيَّةَ، أَوْ يُسَمُّوا عَلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ، وَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُمْ سَمُّوا عَلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ حَرُمَ ذَلِكَ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ قَوْمٍ يُأْتَوْنَ بِاللَّحْمِ وَلَا يُدْرَى أَسَمَّوْا عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: سَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا» . وَأَمَّا الْمَاءُ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ طَهُورٌ، وَلَكِنْ إذَا خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ وَظَهَرَتْ فِيهِ صَارَ اسْتِعْمَالُهُ اسْتِعْمَالًا لِذَلِكَ الْخَبِيثِ، فَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ لِمَا خَالَطَهُ مِنْ الْخَبِيثِ؛ لَا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ خَبِيثٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَا أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى مُخَالَطَةِ الْخَبِيثِ لَهُ، كَانَ هَذَا التَّقْدِيرُ وَالِاحْتِيَالُ مَعَ طَيِّبِ الْمَاءِ وَعَدَمِ التَّغْيِيرِ فِيهِ مِنْ بَابِ الْحَرَجِ الَّذِي نَفَاهُ اللَّهُ عَنْ شَرِيعَتِنَا، وَمِنْ بَابِ الْآصَارِ، وَالْأَغْلَالِ الْمَرْفُوعَةِ عَنَّا. وَقَدْ ثَبَتَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَوَضَّأَ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ مَعَ قِيَامِ هَذَا الِاحْتِمَالِ. وَمَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَصَاحِبٌ لَهُ بِمِيزَابٍ، فَقَالَ صَاحِبُهُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ مِلْؤُك طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ لَا تُخْبِرُهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْأَئِمَّةُ: كَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ، نَصُّوا عَلَى: أَنَّهُ إذَا سَقَطَ عَلَيْهِ مَاءٌ مِنْ مِيزَابٍ وَنَحْوِهِ، وَلَا أَمَارَةَ تَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ لَمْ يَلْزَمْ السُّؤَالُ عَنْهُ، بَلْ يُكْرَهُ وَإِنْ سَأَلَ فَهَلْ يَلْزَمُ رَدُّ الْجَوَابِ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَقَدْ اسْتَحَبَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ السُّؤَالَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ هُنَا مُنْتَفِيَةٌ، أَوْ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، فَلَا

يُلْتَفَتُ إلَيْهَا، وَالِالْتِفَاتُ إلَيْهَا حَرَجٌ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ. وَوَسْوَسَةٌ يَأْتِي بِهَا الشَّيْطَانُ، وَذَلِكَ أَنَّ الطَّاسَاتِ وَغَيْرَهَا مِنْ الْآنِيَةِ الَّتِي يَدْخُلُ بِهَا النَّاسُ الْحَمَّامَاتِ طَاهِرَةٌ فِي الْأَصْلِ، وَاحْتِمَالُ نَجَاسَتِهَا أَضْعَفُ مِنْ احْتِمَالِ نَجَاسَةِ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي فِي حَوَانِيتِ الْبَاعَةِ، فَإِذَا كَانَتْ آنِيَةُ الْأَدْهَانِ وَالْأَلْبَانِ، وَالْخُلُولِ وَالْعَجِينِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَائِعَاتِ، وَالْجَامِدَاتِ، وَالرَّطْبَةِ مَحْكُومًا بِطَهَارَتِهَا، غَيْرَ مُلْتَفَتٍ فِيهَا إلَى هَذَا الْوَسْوَاسِ، فَكَيْفَ بِطَاسَاتِ النَّاسِ؟ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّهَا تَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ: فَنَعَمْ، وَمَا عِنْدَ الْحِيَاضِ مِنْ الْأَرْضِ طَاهِرٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الطَّهَارَةُ وَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِنْ الْمِيَاهِ، وَالسَّدْرِ، وَالْخِطْمِيِّ، وَالْأُشْنَانِ، وَالصَّابُونِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ طَاهِرٌ. وَأَبْدَانُ الْجُنُبِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ طَاهِرَةٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقِيَهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ. قَالَ: فَانْتَجَشْتُ مِنْهُ فَاغْتَسَلْت ثُمَّ أَتَيْته فَقَالَ: أَيْنَ كُنْتَ فَقُلْت: إنِّي كُنْت جُنُبًا فَكَرِهْت أَنْ أُجَالِسَك وَأَنَا جُنُبٌ، فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ» . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ بَدَنَ الْجُنُبِ طَاهِرٌ، وَعَرَقُهُ طَاهِرٌ، وَالثَّوْبُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ عَرَقُهُ طَاهِرٌ، وَلَوْ سَقَطَ الْجُنُبُ فِي دُهْنٍ أَوْ مَائِعٍ لَمْ يُنَجِّسْهُ، بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، بَلْ وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ عَرَقُهَا طَاهِرٌ، وَثَوْبُهَا الَّذِي يَكُونُ فِيهِ عَرَقُهَا طَاهِرٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أَذِنَ لِلْحَائِضِ أَنْ تُصَلِّيَ فِي ثَوْبِهَا الَّذِي تَحِيضُ فِيهِ، وَأَنَّهَا إذَا رَأَتْ فِيهِ دَمًا أَزَالَتْهُ وَصَلَّتْ فِيهِ»

فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِنْ أَيْنَ يَنْجُسُ ذَلِكَ الْبَلَاطُ؟ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ أَنَّهُ قَدْ يَبُولُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُغْتَسِلِينَ، أَوْ يَبْقَى عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ عَلَى بَدَنِ بَعْضِ الْمُغْتَسِلِينَ نَجَاسَةٌ يَطَأُ بِهَا الْأَرْضَ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَجَوَابُ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا قَلِيلٌ نَادِرٌ، وَلَيْسَ هَذَا الْمُتَيَقَّنُ مِنْ كُلِّ بُقْعَةٍ. الثَّانِي: أَنَّ غَالِبَ مِنْ تَقَعُ مِنْهُ نَجَاسَةٌ يَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ الَّذِي يُزِيلُهَا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا أَصَابَ ذَلِكَ الْبَلَاطَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فَإِنَّ الْمَاءَ الَّذِي يَفِيضُ مِنْ الْحَوْضِ، وَاَلَّذِي يَصُبُّهُ النَّاسُ، يُطَهِّرُ تِلْكَ الْبُقْعَةَ وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ تَطْهِيرُهَا، فَإِنَّ الْقَصْدَ مِنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَكِنْ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، ذَكَرُوا وَجْهًا ضَعِيفًا فِي ذَلِكَ لِيَطْرُدُوا قِيَاسَهُمْ فِي مُنَاظَرَةِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ، كَمَا أَنَّ زُفَرَ نَفَى وُجُوبَ النِّيَّةِ فِي التَّيَمُّمِ طَرْدًا لِقِيَاسِهِ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُطْرَحٌ. وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَاءَ الْمَطَرِ يُطَهِّرُ الْأَرْضَ الَّتِي يُصِيبُهَا، وَغَالِبُ الْمَاءِ الَّذِي يُصَبُّ عَلَى الْأَرْضِ لَيْسَ بِمُسْتَعْمَلٍ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمَاءِ الَّذِي يَصُبُّهُ النَّاسُ لَا يَكُونُ عَنْ جَنَابَةٍ، وَلَا يَكُونُ مُتَغَيِّرًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّ الْحَوْضَ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ مُحَقَّقَةٌ، أَوْ انْغَمَسَ فِيهِ جُنُبٌ، فَهَذَا مَاءٌ كَثِيرٌ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّك تَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحَيْضُ، وَلُحُومُ الْكِلَابِ، وَالنَّتْنُ فَقَالَ: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . قَالَ الْإِمَامُ: حَدِيثُ بِئْرِ بُضَاعَةَ صَحِيحٌ. وَفِي السُّنَنِ: عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِأَرْضِ الْفَلَاةِ، وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ. فَقَالَ:

إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ. وَفِي لَفْظٍ لَمْ يَحْمِلَ الْخَبَثَ» . وَبِئْرُ بُضَاعَةَ بِئْرٌ كَسَائِرِ الْآبَارِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ إلَى الْآنِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ النَّاحِيَةِ الشَّرْقِيَّةِ، وَمَنْ قَالَ إنَّهَا كَانَتْ عَيْنًا جَارِيَةً فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا بَيِّنًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ عَيْنٌ جَارِيَةٌ أَصْلًا، وَلَمْ يَكُنْ بِهَا إلَّا الْآبَارُ، مِنْهَا يَتَوَضَّئُونَ وَيَغْتَسِلُونَ، وَيَشْرَبُونَ مِثْلُ: بِئْرِ أَرِيسٍ الَّتِي بِقُبَاءَ، أَوْ الْبِئْرِ الَّتِي بِبَيْرُحَاءَ حَدِيقَةِ أَبِي طَلْحَةَ، وَالْبِئْرُ الَّتِي اشْتَرَاهَا عُثْمَانُ وَحَبَسَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَغَيْرُ هَذِهِ الْآبَارِ، وَكَانَ سَقْيُهُمْ لِلنَّخْلِ، وَالزَّرْعِ مِنْ الْآبَارِ، بِالنَّوَاضِحِ وَالسَّوَانِي، وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَمَا يَأْتِي مِنْ السُّيُولِ، فَأَمَّا عَيْنٌ جَارِيَةٌ فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ. وَهَذِهِ الْعُيُونُ الَّتِي تُسَمَّى عُيُونَ حَمْزَةَ إنَّمَا أَحْدَثَهَا مُعَاوِيَةُ فِي خِلَافَتِهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِنَقْلِ الشُّهَدَاءِ مِنْ مَوْضِعِهَا، فَصَارُوا يَنْبِشُونَهُمْ وَهُمْ رِطَابٌ لَمْ يَنْتُنُوا حَتَّى أَصَابَتْ الْمِسْحَاةُ رِجْلَ أَحَدِهِمْ، فَانْبَعَثَتْ دَمًا، وَكَذَلِكَ عَيْنُ الزَّرْقَاءِ مُحْدَثَةٌ، لَكِنْ لَا أَدْرِي مَتَى أُحْدِثَتْ؟ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْعَالِمِينَ بِالْمَدِينَةِ وَأَحْوَالِهِمَا، وَإِنَّمَا يُنَازِعُ فِي مِثْلِ هَذَا بَعْضُ أَتْبَاعِ عُلَمَاءِ الْعِرَاقِ، الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ خِبْرَةٌ بِأَحْوَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَدِينَتِهِ، وَسِيرَتِهِ. وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ مِنْ تِلْكَ الْبِئْرِ الَّتِي يُلْقَى فِيهَا الْحَيْضُ، وَلُحُومُ الْكِلَابِ، وَالنَّتْنُ، فَكَيْفَ يَشْرَعُ لَنَا أَنْ نَتَنَزَّهَ عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ يَتَنَزَّهُ عَمَّا يَفْعَلُهُ، وَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ أَشْيَاءَ أَتَرَخَّصُ فِيهَا؟ وَاَللَّهِ إنِّي لِأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ»

وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: نَتَنَزَّهُ عَنْ هَذَا لِأَجْلِ الْخِلَافِ فِيهِ، فَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَنْ يَقُولُ الْمَاءُ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ نَجَّسَتْهُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا تَبْلُغُهُ النَّجَاسَةُ، وَيُقَدِّرُونَهُ بِمَا لَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحَرُّكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ. وَهَلْ الْعِبْرَةُ بِحَرَكَةِ الْمُتَوَضِّئِ أَوْ بِحَرَكَةِ الْمُغْتَسِلِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ، وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ» . ثُمَّ يَقُولُونَ إذَا تَنَجَّسَتْ الْبِئْرُ فَإِنَّهُ يُنْزَحُ مِنْهَا دِلَاءٌ مُقَدَّرَةٌ فِي بَعْضِ النَّجَاسَاتِ، وَفِي بَعْضِهَا تُنْزَحُ الْبِئْرُ كُلُّهَا، وَذَهَبَ بَعْضُ مُتَكَلِّمِيهِمْ إلَى أَنَّ الْبِئْرَ تُطَمُّ، فَهَذَا الِاخْتِلَافُ يُورِثُ شُبْهَةً فِي الْمَاءِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ. قِيلَ لِهَذَا الْقَائِلِ: الِاخْتِلَافُ إنَّمَا يُورِثُ شُبْهَةً إذَا لَمْ تَتَبَيَّنْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَّا إذَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْخَصَ فِي شَيْءٍ، وَقَدْ كَرِهَ أَنْ نَتَنَزَّهَ عَمَّا تَرَخَّصَ فِيهِ، وَقَالَ لَنَا: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ: فَإِنْ تَنَزَّهْنَا عَنْهُ عَصَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ نُرْضِيَهُ. وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُغْضِبَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِشُبْهَةٍ وَقَعَتْ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ كَمَا كَانَ عَامُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَوْ فَتَحْنَا هَذَا الْبَابَ لَكُنَّا نَكْرَهُ لِمَنْ أَرْسَلَ هَدْيًا أَنْ يَسْتَبِيحَ مَا يَسْتَبِيحُهُ الْحَلَالُ لِخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَكِنَّا نَسْتَحِبُّ لِلْجُنُبِ إذَا صَامَ أَنْ يَغْتَسِلَ لِخِلَافِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَلَكِنَّا نَكْرَهُ تَطَيُّبَ الْمُحْرِمِ قَبْلَ الطَّوَافِ لِخِلَافِ عُمَرَ، وَابْنِهِ، وَمَالِكٍ، وَلَكِنَّا

نَكْرَهُ لَهُ أَنْ يُلَبِّيَ إلَى أَنْ يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ بَعْدَ التَّعْرِيفِ لِخِلَافِ مَالِكٍ، وَغَيْرِهِ. وَمِثْلُ هَذَا وَاسِعٌ لَا يَنْضَبِطُ. وَأَمَّا مَنْ خَالَفَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: فَهُمْ مُجْتَهِدُونَ قَالُوا بِمَبْلَغِ عِلْمِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ، وَهُمْ إذَا أَصَابُوا فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَإِذَا أَخْطَئُوا فَلَهُمْ أَجْرٌ، وَالْخَطَأُ مَحْطُوطٌ عَنْهُمْ، فَهُمْ مَعْذُورُونَ لِاجْتِهَادِهِمْ؛ وَلِأَنَّ السُّنَّةَ الْبَيِّنَةَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ، وَمِنْ انْتَهَى إلَى مَا عُلِمَ فَقَدْ أَحْسَنَ. فَأَمَّا مِنْ تَبْلُغُهُ السُّنَّةُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَتَبَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةُ الْحَالِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ عُذْرٌ فِي أَنْ يَتَنَزَّهَ عَمَّا تَرَخَّصَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَرْغَبُ عَنْ سُنَّتِهِ لِأَجْلِ اجْتِهَادِ غَيْرِهِ. فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَقْوَامًا يَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ لَا أُفْطِرُ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: فَأَنَا أَقُومُ، وَلَا أَنَامُ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ. فَقَالَ بَلْ أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَنَامُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَآكُلُ اللَّحْمَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ، يَرَوْنَ أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ، وَصِيَامِ النَّهَارِ، وَتَرْكِ النِّكَاحِ، وَغَيْرِهِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ، أَفْضَلُ مِنْ هَذَا، وَهُمْ فِي هَذَا إذَا كَانُوا مُجْتَهِدِينَ مَعْذُورِينَ. وَمَنْ عَلِمَ السُّنَّةَ فَرَغِبَ عَنْهَا، لِأَجْلِ اعْتِقَادِ أَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ إلَى هَذَا أَفْضَلُ، وَأَنَّ هَذَا الْهَدْيَ أَفْضَلُ مِنْ هَدْيِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا، بَلْ هُوَ تَحْتَ الْوَعِيدِ النَّبَوِيِّ بِقَوْلِهِ: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . وَفِي الْجُمْلَةِ: بَابُ الِاجْتِهَادِ وَالتَّأْوِيلِ بَابٌ وَاسِعٌ يَئُولُ بِصَاحِبِهِ إلَى أَنْ يَعْتَقِدَ الْحَرَامَ حَلَالًا، كَمَنْ تَأَوَّلَ فِي رِبَا الْفَضْلِ، وَالْأَنْبِذَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا، وَحُشُوشِ النِّسَاءِ،

وَإِلَى أَنْ يَعْتَقِدَ الْحَلَالَ حَرَامًا: مِثْلُ بَعْضِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ صُوَرِ النِّزَاعِ مِثْلُ الضَّبِّ وَغَيْرِهِ، بَلْ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ قَتْلِ الْمَعْصُومِ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَأَصْحَابُ الِاجْتِهَادِ وَإِنْ عُذِرُوا، وَعُرِفَتْ مَرَاتِبُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا تَبَيَّنَ مِنْ السُّنَّةِ وَالْهَدْيِ لِأَجْلِ تَأْوِيلِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ قَدْ يَغْمِسُ يَدَهُ فِيهِ، أَوْ يَنْغَمِسُ فِيهِ الْجُنُبُ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ أَنَّ هَذَا لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ النَّجَاسَةُ: فَكَيْفَ تُؤَثِّرُ فِيهِ الْجَنَابَةُ؟ وَقَدْ أَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ: " أَنْ يَبُولَ الرَّجُلُ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ " بِأَجْوِبَةٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الِاغْتِسَالِ، وَعَنْ الْبَوْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُفْضِي إلَى الْإِكْثَارِ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَتَغَيَّرَ الْمَاءُ، وَإِذَا بَالَ، ثُمَّ اغْتَسَلَ فَقَدْ يُصِيبُهُ الْبَوْلُ قَبْلَ اسْتِحَالَتِهِ. وَهَذَا جَوَابُ مَنْ يَقُولُ: الْمَاءُ لَا يُنَجَّسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ اخْتَارَهَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ صَاحِبُ التَّعْلِيقَةِ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. وَهَذَا جَوَابُ الشَّافِعِيِّ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ. الثَّالِثُ: أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْبَوْلِ، وَالْبَوْلُ أَغْلَظُ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ، وَصِيَانَةُ الْمَاءِ مِنْهُ مُمْكِنَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ، فَلِمَا غَلُظَ وَصِيَانَةُ الْمَاءِ عَنْهُ مُمْكِنَةٌ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَعْسُرُ صِيَانَةُ الْمَاءِ عَنْهُ وَهُوَ دُونَهُ، وَهَذَا جَوَابُ أَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَاخْتِيَارُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ. الْجَوَابُ الرَّابِعُ: أَنَّا نَفْرِضُ أَنَّ الْمَاءَ قَلِيلٌ، وَأَنَّ الْمُغْتَسِلِينَ غَمَسُوا فِيهِ أَيْدِيَهُمْ، فَهَذَا بِعَيْنِهِ صُورَةُ النُّصُوصِ الَّتِي وَرَدَتْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَزْوَاجِهِ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَنَّ الْمَاءَ الْمُتَطَهِّرَ بِهِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إذَا غَمَسَ

الْجُنُبُ يَدَهُ فِيهِ، هَلْ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ، وَهُوَ نَظِيرُ غَمْسِ الْمُتَوَضِّئِ يَدَهُ بَعْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُ التَّرْتِيبَ: كَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ الْغُسْلَ أَوْ لَا يَنْوِيَهُ، فَإِنْ نَوَى مُجَرَّدَ الْغُسْلِ صَارَ مُسْتَعْمَلًا، وَإِنْ نَوَى مُجَرَّدَ الِاغْتِرَافِ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا. وَإِنْ أَطْلَقَ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ اغْتَرَفَ مِنْ الْإِنَاءِ بَعْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ» كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ اغْتَرَفَ مِنْهُ فِي الْجَنَابَةِ وَلَمْ يُحَرِّجْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. بَلْ قَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّ: أَكْثَرَ تَوَضُّؤَ الْمُسْلِمِينَ وَاغْتِسَالِهِمْ عَلَى عَهْدِهِ كَانَ مِنْ الْآنِيَةِ الصِّغَارِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَغْمِسُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ جَمِيعًا، فَمَنْ جَعَلَ الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا بِذَلِكَ فَقَدْ ضَيَّقَ مَا وَسَّعَهُ اللَّهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَنَحْنُ نَحْتَرِزُ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ قَوْلِ مَنْ يُنَجِّسُ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ. قِيلَ: هَذَا أَبْعَدُ عَنْ السُّنَّةِ، فَإِنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ نَجَاسَةٌ حِسِّيَّةٌ: كَنَجَاسَةِ الدَّمِ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ كَانَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا. مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ، وَالْأَدِلَّةِ الْجَلِيَّةِ. وَلَيْسَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَوَارِدِ الظُّنُونِ، بَلْ هِيَ قَطْعِيَّةٌ بِلَا رَيْبٍ. فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَصَبَّ وَضُوءَهُ عَلَى جَابِرٍ» ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، كَمَا يَأْخُذُونَ نُخَامَتَهُ، وَكَمَا اقْتَسَمُوا شَعْرَهُ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. فَمَنْ نَجَّسَ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نَجَّسَ شُعُورَ الْآدَمِيِّينَ، بَلْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نَجَّسَ الْبُصَاقَ كَمَا يُرْوَى عَنْ سَلْمَانَ. وَأَيْضًا فَبَدَنُ الْجُنُبِ طَاهِرٌ بِالنَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْمَاءُ الطَّاهِرُ إذَا لَاقَى مَحَلًّا طَاهِرًا لَمْ يُنَجَّسْ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِتَسْمِيَةِ ذَلِكَ طَهَارَةً، وَأَنَّهَا ضِدُّ النَّجَاسَةِ فَضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ أَنَّ كُلَّ طَهَارَةٍ فَضِدُّهَا النَّجَاسَةُ، فَإِنَّ الطَّهَارَةَ تَنْقَسِمُ إلَى طَهَارَةِ خَبَثٍ وَحَدَثٍ، طَهَارَةٍ عَيْنِيَّةٍ وَحُكْمِيَّةٍ. الثَّانِي: أَنَّا نُسَلِّمُ ذَلِكَ وَنَقُولُ النَّجَاسَةُ أَنْوَاعٌ: كَالطَّهَارَةِ، فَيُرَادُ بِالطَّهَارَةِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ، كَمَا يُرَادُ بِالنَّجَاسَةِ ضِدُّ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] . وَهَذِهِ النَّجَاسَةُ لَا تُفْسِدُ الْمَاءَ، بِدَلِيلِ أَنَّ سُؤْرَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ طَاهِرٌ، وَآنِيَتُهُمْ الَّتِي يَصْنَعُونَ فِيهَا الْمَائِعَاتِ، وَيَغْمِسُونَ فِيهَا أَيْدِيَهُمْ طَاهِرَةٌ. «وَقَدْ أَهْدَى الْيَهُودِيُّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاةً مَشْوِيَّةً، وَأَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ بَاشَرُوهَا» . «وَقَدْ أَجَابَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَهُودِيًّا إلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ» . وَالثَّانِي: يُرَادُ بِالطَّهَارَةِ: الطَّهَارَةُ مِنْ الْحَدَثِ، وَضِدُّ هَذِهِ نَجَاسَةُ الْحَدَثِ، كَمَا قَالَ أَحْمَدُ فِي بَعْضِ أَجْوِبَتِهِ لَمَّا سُئِلَ عَنْ نَحْوِ ذَلِكَ أَنَّهُ أَنْجَسَ الْمَاءَ، فَظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ أَرَادَ نَجَاسَةَ الْجُنُبِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَحْمَدُ نَجَاسَةَ الْحَدَثِ وَأَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يُخَالِفُ سُنَّةً ظَاهِرَةً مَعْلُومَةً لَهُ قَطُّ، وَالسُّنَّةُ فِي ذَلِكَ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ تَخْفَى عَلَى أَقَلِّ أَتْبَاعِهِ، لَكِنْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: اغْسِلْ بَدَنَك مِنْهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ، فَإِنَّ غَسْلَ الْبَدَنِ مِنْ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ لَا يَجِبُ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَكِنْ ذَكَرُوا عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي اسْتِحْبَابِ غَسْلِ الْبَدَنِ مِنْهُ رِوَايَتَيْنِ، الرِّوَايَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ وَلَا يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّ هَذَا عَمَلٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُونُوا يَغْسِلُونَ ثِيَابَهُمْ بِمَا يُصِيبُهُمْ مِنْ الْوُضُوءِ. الثَّالِثُ: يُرَادُ بِالطَّهَارَةِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْأَعْيَانِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي هِيَ نَجِسَةٌ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ النَّجَاسَةِ بِالْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ الْخَبِيثَةِ: كَالدَّمِ،

وَالْمَاءِ الْمُنَجَّسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّتْ النُّصُوصُ، وَالْإِجْمَاعُ الْقَدِيمُ، وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ عَلَى بُطْلَانِهِ. وَعَلَى هَذَا فَجَمِيعُ هَذِهِ الْمِيَاهِ الَّتِي فِي الْحِيَاضِ، وَالْبِرَكِ الَّتِي فِي الْحَمَّامَاتِ، وَالطُّرُقَاتِ، وَعَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، وَفِي الْمَدَارِسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ: لَا يُكْرَهُ التَّطَهُّرُ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَإِنْ سَقَطَ فِيهَا الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ، وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْ أَمْرٍ ثَبَتَتْ فِيهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرُّخْصَةِ، لِأَجْلِ شُبْهَةٍ وَقَعَتْ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ جَوَابُ السَّائِلِ عَنْ: الْمَاءِ الَّذِي يَقْطُرُ مِنْ بَدَنِ الْجُنُبِ بِجِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ، وَأَنَّ التَّنَزُّهَ عَنْهُ، أَوْ عَنْ مُلَامَسَتِهِ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي فِي ذَلِكَ بِدْعَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ، وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْجُنُبَ لَوْ مَسَّ مُغْتَسِلًا لَمْ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ غُسْلِهِ. وَأَمَّا الْمُسَخَّنُ بِالنَّجَاسَةِ فَلَيْسَ يَنْجُسُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ إذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا يُنَجِّسُهُ، وَأَمَّا كَرَاهَتُهُ فَفِيهَا نِزَاعٌ، لَا كَرَاهَةَ فِيهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُمَا. وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ لَهَا مَأْخَذَانِ. أَحَدُهُمَا: احْتِمَالُ وُصُولِ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ إلَى الْمَاءِ فَيَبْقَى مَشْكُوكًا فِي طَهَارَتِهِ شَكًّا مُسْتَنِدًا إلَى أَمَارَةٍ ظَاهِرَةٍ، فَعَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ مَتَى كَانَ بَيْنَ الْوُقُودِ وَالْمَاءِ حَاجِزٌ حَصِينٌ كَمِيَاهِ الْحَمَّامَاتِ لَمْ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَيَقَّنَ أَنَّ الْمَاءَ لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ النَّجَاسَةُ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: كَالشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَابْنِ عَقِيلٍ، وَغَيْرِهِمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ سَبَبَ الْكَرَاهَةِ كَوْنُهُ سُخِّنَ بِإِيقَادِ النَّجَاسَةِ، وَاسْتِعْمَالُ النَّجَاسَةِ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمْ؛ وَالْحَاصِلُ بِالْمَكْرُوهِ مَكْرُوهٌ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ. فَعَلَى هَذَا إنَّمَا الْكَرَاهَةُ إذَا كَانَ التَّسْخِينُ حَصَلَ بِالنَّجَاسَةِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ غَالِبُ الْوُقُودِ طَاهِرًا، أَوْ شَكَّ فِيهِ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ

وَأَمَّا دُخَانُ النَّجَاسَةِ: فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ: أَنَّ الْعَيْنَ النَّجِسَةَ الْخَبِيثَةَ إذَا اسْتَحَالَتْ حَتَّى صَارَتْ طَيِّبَةً كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْيَانِ الطَّيِّبَةِ، مِثْلَ: أَنْ يَصِيرَ مَا يَقَعُ فِي الْمَلَّاحَةِ مِنْ دَمٍ وَمَيْتَةٍ وَخِنْزِيرٍ، مِلْحًا طَيِّبًا كَغَيْرِهَا مِنْ الْمِلْحِ، أَوْ يَصِيرَ الْوُقُودُ رَمَادًا، وَخُرْسَفًا، وقصرملا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَطْهُرُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَمَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّهَا تَطْهُرُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَمْ تَتَنَاوَلُهَا نُصُوصُ التَّحْرِيمِ لَا لَفْظًا، وَلَا مَعْنًى، فَلَيْسَتْ مُحَرَّمَةً وَلَا فِي مَعْنَى الْمُحَرَّمِ، فَلَا وَجْهَ لِتَحْرِيمِهَا، بَلْ تَتَنَاوَلُهَا نُصُوصُ الْحِلِّ، فَإِنَّهَا مِنْ الطَّيِّبَاتِ، وَهِيَ أَيْضًا فِي مَعْنَى مَا اُتُّفِقَ عَلَى حِلِّهِ، فَالنَّصُّ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي تَحْلِيلَهَا. وَأَيْضًا فَقَدْ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى الْخَمْرِ إذَا صَارَتْ خَلًّا بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، صَارَتْ حَلَالًا طَيِّبًا، وَاسْتِحَالَةُ هَذِهِ الْأَعْيَانِ أَعْظَمُ مِنْ اسْتِحَالَةِ الْخَمْرِ، وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا قَالُوا: الْخَمْرُ نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَطَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ. بِخِلَافِ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ. وَهَذَا الْفَرْقُ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ نَجُسَتْ أَيْضًا بِالِاسْتِحَالَةِ، فَإِنَّ الدَّمَ مُسْتَحِيلٌ عَنْ أَعْيَانٍ طَاهِرَةٍ، وَكَذَلِكَ الْعَذِرَةُ وَالْبَوْلُ، وَالْحَيَوَانُ النَّجَسُ، مُسْتَحِيلٌ عَنْ مَادَّةٍ طَاهِرَةٍ مَخْلُوقَةٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَبَائِثَ لِمَا قَامَ بِهَا مِنْ وَصْفِ الْخَبَثِ، كَمَا أَنَّهُ أَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ لِمَا قَامَ بِهَا مِنْ وَصْفِ الطَّيِّبِ، وَهَذِهِ الْأَعْيَانُ الْمُتَنَازَعُ فِيهَا لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ وَصْفِ الْخَبَثِ، وَإِنَّمَا فِيهَا وَصْفُ الطَّيِّبِ. فَإِذَا عُرِفَ هَذَا: فَعَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ: فَالدُّخَانُ، وَالْبُخَارُ الْمُسْتَحِيلُ عَنْ النَّجَاسَةِ: طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ أَجْزَاءٌ هَوَائِيَّةٌ وَنَارِيَّةٌ وَمَائِيَّةٌ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ وَصْفِ الْخَبَثِ

وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْفَى مِنْ ذَلِكَ عَمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، كَمَا يُعْفَى عَمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَمَنْ حَكَمَ بِنَجَاسَةِ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْفُ عَمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَقَوْلُهُ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ، هَذَا إذَا كَانَ الْوُقُودُ نَجِسًا. فَأَمَّا الطَّاهِرُ: كَالْخَشَبِ وَالْقَصَبِ، وَالشَّوْكِ فَلَا يُؤَثِّرُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ أَرْوَاثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ فَإِنَّهَا طَاهِرَةٌ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ مِمَّا يَفِيضُ وَيَنْزِلُ مِنْ أَبْدَانِ الْمُغْتَسِلِينَ غُسْلَ النَّظَافَةِ وَغُسْلَ الْجَنَابَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِنْ الْغُسْلِ كَالسِّدْرِ وَالْخِطْمِيِّ وَالْأُشْنَانِ مَا فِيهِ إلَّا إذَا عُلِمَ فِي بَعْضِهِ بَوْلٌ أَوْ قَيْءٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النَّجَاسَاتِ، فَذَلِكَ الْمَاءُ الَّذِي خَالَطَتْهُ هَذِهِ النَّجَاسَاتُ لَهُ حُكْمُهُ، وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُهُ بِلَا نِزَاعٍ، لَا سِيَّمَا وَهَذِهِ الْمِيَاهُ جَارِيَةٌ بِلَا رَيْبٍ، بَلْ مَاءُ الْحَمَّامِ الَّذِي هُوَ فِيهِ إذَا كَانَ الْحَوْضُ فَائِضًا فَإِنَّهُ جَارٍ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَكُونُ فِي الْأَنْهَارِ مِنْ حُفْرَةٍ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ هَذَا الْمَاءَ وَإِنْ كَانَ الْجَرَيَانُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَخْلِفُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَيَذْهَبُ وَيَأْتِي مَا بَعْدَهُ لَكِنْ يُبْطِئُ ذَهَابُهُ بِخِلَافِ الَّذِي يَجْرِي جَمِيعُهُ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَاءِ الْجَارِي عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ تَشْدِيدِهِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَنَصُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتِيَارُ مُحَقِّقِي أَصْحَابِهِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَالدَّائِمِ، فَتُعْتَبَرُ الْجِرْيَةُ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ بَيْنَ الدَّائِمِ وَالْجَارِي فِي نَهْيِهِ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ وَالْبَوْلِ فِيهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا؛ وَلِأَنَّ الْجَارِيَ إذَا لَمْ تُغَيِّرْهُ النَّجَاسَةُ فَلَا وَجْهَ لِنَجَاسَتِهِ. وَقَوْلُهُ «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» . إنَّمَا دَلَّ عَلَى مَا دُونَهُمَا

بِالْمَفْهُومِ، وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يَحْمِلُ الْخَبَثَ، بَلْ إذَا فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ دَائِمٍ وَجَارٍ؛ أَوْ إذَا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ يَحْمِلُ الْخَبَثَ كَانَ الْحَدَثُ مَعْمُولًا بِهِ. فَإِذَا كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ، وَلَيْسَ فِي نَجَاسَتِهِ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ، وَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى طَهَارَتِهِ مَعَ بَقَاءِ صِفَاتِهِ، وَإِذَا كَانَ حَوْضُ الْحَمَّامِ الْفَائِضِ إذَا كَانَ قَلِيلًا وَوَقَعَ فِيهِ بَوْلٌ، أَوْ دَمٌ أَوْ عَذِرَةٌ، وَلَمْ تُغَيِّرْهُ، لَمْ يُنَجِّسْهُ عَلَى الصَّحِيحِ، فَكَيْفَ بِالْمَاءِ الَّذِي جَمِيعُهُ يَجْرِي عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ، فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ، لَمْ يَنْجُسْ، وَهَذَا يَتَّضِحُ بِمَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ الْأَرْضَ، وَإِنْ كَانَتْ تُرَابًا، أَوْ غَيْرَ تُرَابٍ، إذَا وَقَعَتْ عَلَيْهَا نَجَاسَةٌ مِنْ بَوْلٍ، أَوْ عَذِرَةٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا؛ فَإِنَّهُ إذَا صُبَّ الْمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى زَالَتْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ فَالْمَاءُ وَالْأَرْضُ طَاهِرَانِ، وَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلْ الْمَاءُ فِي مَذْهَبِ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، فَكَيْفَ بِالْبَلَاطِ؟ وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ السَّطْحَ إذَا كَانَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ، وَأَصَابَهُ مَاءُ الْمَطَرِ، حَتَّى أَزَالَ عَيْنَهَا، كَانَ مَا يَنْزِلُ مِنْ الْمَيَازِيبِ طَاهِرًا، فَكَيْفَ بِأَرْضِ الْحَمَّامِ؟ فَإِذَا كَانَ بِهَا بَوْلٌ، أَوْ قَيْءٌ فَصُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ حَتَّى ذَهَبَتْ عَيْنُهُ كَانَ الْمَاءُ وَالْأَرْضُ طَاهِرَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ الْمَاءُ؛ فَكَيْفَ إذَا جَرَى وَزَالَ عَنْ مَكَانِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَكَرْنَا بِضْعَةَ عَشَرَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا عَلَى طَهَارَةِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمَهُ وَرَوْثِهِ، فَإِذَا كَانَتْ طَاهِرَةً فَكَيْفَ بِالْمُسْتَحِيلِ مِنْهَا أَيْضًا، وَطَهَارَةُ هَذِهِ الْأَرْوَاثِ بَيِّنَةٌ فِي السُّنَّةِ فَلَا يُجْعَلُ الْخِلَافُ فِيهَا شُبْهَةً يُسْتَحَبُّ لِأَجْلِهِ اتِّقَاءُ مَا خَالَطَتْهُ، إذْ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُلَابِسُونَهَا. وَأَمَّا رَوْثُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ: كَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ، فَهَذِهِ نَجِسَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى طَهَارَتِهَا، وَأَنَّهُ لَا يَنْجُسُ مِنْ الْأَرْوَاثِ، وَالْأَبْوَالِ إلَّا بَوْلُ الْآدَمِيِّ وَعَذِرَتُهُ، لَكِنْ عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ إذَا شَكَّ فِي الرَّوْثَةِ: هَلْ هِيَ مِنْ رَوْثِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ مِنْ رَوْثِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَفِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، هُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ

أَحَدُهُمَا: يَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَرْوَاثِ النَّجَاسَةُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ. وَدَعْوَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَرْوَاثِ النَّجَاسَةُ مَمْنُوعٌ، فَلَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ لَا نَصٌّ، وَلَا إجْمَاعٌ، وَمَنْ ادَّعَى أَصْلًا بِلَا نَصٍّ، وَلَا إجْمَاعٍ فَقَدْ أَبْطَلَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا الْقِيَاسُ فَرَوْثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ، فَكَيْفَ يَدَّعِي أَنَّ الْأَصْلَ نَجَاسَةُ الْأَرْوَاثِ؟ إذَا عَرَفَ ذَلِكَ، فَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّ الْوُقُودَ نَجِسٌ، فَالدُّخَانُ مِنْ مَسَائِلِ الِاسْتِحَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا إذَا تَيَقَّنَ طَهَارَتَهُ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنْ شَكَّ هَلْ فِيهِ نَجَسٌ فَالْأَصْلُ الطَّهَارَةُ، وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّ فِيهِ رَوْثًا، وَشَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ فَالصَّحِيحُ الْحُكْمُ بِطَهَارَتِهِ. وَإِنْ عَلِمَ اشْتِمَالَهُ عَلَى طَاهِرٍ وَنَجِسٍ، وَقُلْنَا بِنَجَاسَةِ الْمُسْتَحِيلِ عَنْهُ كَانَ لَهُ حُكْمُهُ فِيمَا يُصِيبُ بَدَنَ الْمُغْتَسِلِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الطَّاهِرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ النَّجِسِ، فَلَا يَنْجُسُ بِالشَّكِّ، كَمَا لَوْ أَصَابَهُ بَعْضُ رَمَادِ مِثْلِ هَذَا الْوُقُودِ، فَإِنَّا لَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَةِ الْبَدَنِ بِذَلِكَ، وَإِنْ تَيَقَّنَّا أَنَّ فِي الْوُقُودِ نَجَسًا، لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الرَّمَادُ غَيْرَ نَجَسٍ، وَالْبَدَنُ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ فَلَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَخْتَلِطْ الرَّمَادُ النَّجِسُ بِالطَّاهِرِ، أَوْ الْبُخَارُ النَّجِسُ بِالطَّاهِرِ. فَأَمَّا إذَا اخْتَلَطَا بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ، فَمَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ يَكُونُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَلَكِنْ الْوُقُودُ فِي مَقَرِّهِ لَا يَكُونُ مُخْتَلِطًا، بَلْ رَمَادُ كُلِّ نَجَاسَةٍ يَبْقَى فِي حَيِّزِهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ اشْتَبَهَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ: كَاشْتِبَاهِ أُخْتِهِ بِأَجْنَبِيَّةٍ، أَوْ الْمَيْتَةِ بِالْمُذَكَّى، اجْتَنَبَهُمَا جَمِيعًا. وَلَوْ اشْتَبَهَ الْمَاءُ الطَّاهِرُ بِالنَّجَسِ: فَقِيلَ: يَتَحَرَّى لِلطَّهَارَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ النَّجَسُ نَجَسَ الْأَصْلِ بِأَنْ يَكُونَ بَوْلًا كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ: وَقِيلَ: لَا يَتَحَرَّى بَلْ يَجْتَنِبُهُمَا كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَوْلًا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَقِيلَ: يَتَحَرَّى إذَا كَانَتْ الْآنِيَةُ أَكْبَرَ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَطَائِفَةٍ مِنْ

أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَفِي تَقْدِيرِ الْكَبِيرِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ، فَهُنَا أَيْضًا اشْتَبَهَتْ الْأَعْيَانُ النَّجِسَةُ بِالطَّاهِرَةِ، فَاشْتَبَهَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ. قِيلَ: هَذَا صَحِيحٌ، وَلَكِنْ مَسْأَلَتُنَا لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّهُ إذَا اشْتَبَهَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ اجْتَنَبَهُمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَعْمَلَهُمَا لَزِمَ اسْتِعْمَالُ الْحَرَامِ قَطْعًا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَاطِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ: كَالنَّجَاسَةِ إذَا ظَهَرَتْ فِي الْمَاءِ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَ أَحَدَهُمَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ كَانَ تَرْجِيحًا بِلَا مُرَجِّحٍ، وَهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الْحُكْمِ، فَلَيْسَ اسْتِعْمَالُ هَذَا بِأَوْلَى مِنْ هَذَا، فَيُجْتَنَبَانِ جَمِيعًا. وَأَمَّا اشْتِبَاهُ الْمَاءِ الطَّاهِرِ بِالنَّجِسِ، فَإِنَّمَا نَشَأَ فِيهِ النِّزَاعُ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ بِالطَّهُورِ وَاجِبَةٌ، وَبِالنَّجَسِ حَرَامٌ، فَقَدْ اشْتَبَهَ وَاجِبٌ بِحَرَامٍ. وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا التَّحَرِّيَ قَالُوا: اسْتِعْمَالُ النَّجِسِ حَرَامٌ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الطَّهُورِ فَإِنَّمَا يَجِبُ مَعَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَذَلِكَ مُنْتَفٍ هُنَا. وَلِهَذَا تَنَازَعُوا: هَلْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَعْدَمَ الطَّهُورَ بِخَلْطٍ أَوْ إرَاقَةٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ كَالْعَجْزِ. وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا جَوَّزَ التَّحَرِّيَ إذَا كَانَ الْأَصْلُ فِيهِمَا الطَّهَارَةَ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ قَدْ اسْتَعْمَلَ مَا أَصْلُهُ طَاهِرٌ وَقَدْ شَكَّ فِي تَنَجُّسِهِ فَيَبْقَى الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ. وَاَلَّذِينَ نَازَعُوهُ قَالُوا: مَا صَارَ نَجِسًا بِالتَّغَيُّرِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ نَجِسِ الْأَصْلِ قَدْ زَالَ الِاسْتِصْحَابُ بِيَقِينِ النَّجَاسَةِ كَمَا لَوْ حُرِّمَتْ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ بِرَضَاعٍ، أَوْ طَلَاقٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَكُونُ مُحَرَّمَةَ الْأَصْلِ عِنْدَهُ، وَمَسْأَلَةُ اشْتِبَاهِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ ذَاتُ فُرُوعٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَأَمَّا إذَا اشْتَبَهَ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ، وَقُلْنَا يَتَحَرَّى أَوْ لَا يَتَحَرَّى، فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ عَلَى بَدَنِ الْإِنْسَانِ، أَوْ ثَوْبِهِ، أَوْ طَعَامِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحَدِهِمَا: لَا يُنَجِّسُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ

الطَّهَارَةُ، وَمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مَشْكُوكٌ فِي نَجَاسَتِهِ، وَنَحْنُ مَنَعْنَا مِنْ اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ بِلَا مُرَجِّحٍ. فَأَمَّا تَنَجُّسُ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ، نَعَمْ لَوْ أَصَابَا ثَوْبَيْنِ حُكِمَ بِنَجَاسَةِ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ أَصَابَا بَدَنَيْنِ فَهَلْ يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ أَحَدِهِمَا، هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا إذَا تَيَقَّنَ الرَّجُلَانِ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَحْدَثَ أَوْ أَنَّ أَحَدَهُمَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَهَارَةٌ وَلَا طَلَاقٌ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ فِي رَجُلَيْنِ لَا فِي وَاحِدٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ حُكْمَ الْأَصْلِ فِي نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَهُوَ أَقْوَى؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِيجَابِ أَوْ التَّحْرِيمِ يَثْبُتُ قَطْعًا فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا، فَلَا وَجْهَ لِرَفْعِهِ عَنْهُمَا جَمِيعًا. وَسِرُّ مَا ذَكَرْنَاهُ إذَا اشْتَبَهَ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ، فَاجْتِنَابُهُمَا جَمِيعًا وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ لِفِعْلِ الْمُحَرَّمِ، وَاجْتِنَابُ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ تَحْلِيلَهُ دُونَ الْآخَرِ تَحَكُّمٌ، وَلِهَذَا لَمَّا رَخَّصَ مَنْ رَخَّصَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ عَضَّدَهُ بِالتَّحَرِّي، أَوْ بِهِ وَاسْتِصْحَابِهِ الْحَلَالَ. فَأَمَّا مَا كَانَ حَلَالًا بِيَقِينٍ، وَلَمْ يُخَالِطْهُ مَا حُكِمَ بِأَنَّهُ نَجِسٌ، فَكَيْفَ يَنْجُسُ؟ وَلِهَذَا لَوْ تَيَقَّنَ أَنَّ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ بُقْعَةً نَجِسَةً، وَلَمْ يَعْلَمْ عَيْنَهَا، وَصَلَّى فِي مَكَان مِنْهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ الْمُتَنَجِّسُ صَحَّتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ نَجِسٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ طِينِ الشَّوَارِعِ لَمْ يَحْكُمْ بِنَجَاسَتِهِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَ طِينِ الشَّوَارِعِ نَجِسٌ. وَلَا يُفَرَّقُ فِي هَذَا بَيْنَ الْعَدَدِ الْمُنْحَصِرِ وَغَيْرِ الْمُنْحَصِرِ، وَبَيْنَ الْقُلَّتَيْنِ وَالْكَثِيرِ، كَمَا قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي اشْتِبَاهِ الْأُخْتِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ اشْتَبَهَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ، وَهُنَا شَكَّ فِي طَرَيَان التَّحْرِيمِ عَلَى الْحَلَالِ. وَإِذَا شَكَّ فِي النَّجَاسَةِ، هَلْ أَصَابَتْ الثَّوْبَ أَوْ الْبَدَنَ؟ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَأْمُرُ

مسألة الكلب إذا ولغ في اللبن

بِنَضْحِهِ، وَيَجْعَلُ حُكْمَ الْمَشْكُوكِ فِيهِ النَّضْحُ كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ، فَإِذَا احْتَاطَ وَنَضَحَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ كَانَ حَسَنًا، كَمَا رُوِيَ فِي نَضْحِ أَنَسٍ لِلْحَصِيرِ الَّذِي اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لَبِثَ، وَنَضْحِ عُمَرَ ثَوْبَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْكَلْبُ إذَا وَلَغَ فِي اللَّبَنِ] 26 - 10 - مَسْأَلَةٌ: إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي اللَّبَنِ، وَمَخَضَ اللَّبَنُ وَظَهَرَ فِيهِ زُبْدَةٌ، فَهَلْ يَحِلُّ تَطْهِيرُ الزُّبْدَةِ. أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. الْجَوَابُ: اللَّبَنُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ هَلْ يَتَنَجَّسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ، أَوْ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَاءِ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. وَكَذَلِكَ مَالِكٌ لَهُ فِي النَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الطَّعَامِ الْكَثِيرِ هَلْ تُنَجِّسُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. وَأَمَّا وُلُوغُ الْكَلْبِ فِي الطَّعَامِ فَلَا يُنَجِّسُهُ عِنْدَ مَالِكٍ، فَهَذَا عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ: لَمْ يَنْجُسْ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ: يَنْجُسُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَصْحَابِهِ، لَكِنْ عِنْدَ هَؤُلَاءِ هَلْ يَطْهُرُ الدُّهْنُ بِالْغُسْلِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَيْضًا. فَمَنْ قَالَ إنَّ الْأَدْهَانَ تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، قَالَ بِطَهَارَتِهِ بِالْغَسْلِ، وَإِلَّا فَلَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أُنَاس فِي مَفَازَةٍ وَمَعَهُمْ قَلِيلُ مَاءٍ فَوَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ] 27 - 11 - مَسْأَلَةٌ: فِي أُنَاسٍ فِي مَفَازَةٍ، وَمَعَهُمْ قَلِيلُ مَاءٍ فَوَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ، وَهُمْ فِي مَفَازَةٍ مُعَطِّشَةٍ. الْجَوَابُ: يَجُوزُ لَهُمْ حَبْسُهُ لِأَجْلِ شُرْبِهِ إذَا عَطِشُوا وَلَمْ يَجِدُوا مَاءً طَيِّبًا، فَإِنَّ الْخَبَائِثَ جَمِيعًا تُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ، وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَلَهُ أَنْ يَشْرَبَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كُلَّ مَا يَرْوِيهِ: كَالْمِيَاهِ النَّجِسَةِ، وَالْأَبْوَالِ الَّتِي تَرْوِيهِ

مسألة الزيت إذا وقعت فيه النجاسة وماتت فيه

وَإِنَّ مَا مَنَعَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ شُرْبَ الْخَمْرِ، قَالُوا: لِأَنَّهَا تَزِيدُهُ عَطَشًا. وَأَمَّا التَّوَضُّؤُ بِمَاءِ الْوُلُوغِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، بَلْ يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى التَّيَمُّمِ. وَيَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ مَا يُقِيمُ بِهِ نَفْسَهُ، فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ، أَوْ الْمَاءِ النَّجِسِ، فَلَمْ يَشْرَبْ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، وَلَوْ وَجَدَ غَيْرَهُ مُضْطَرًّا إلَى مَا مَعَهُ مِنْ الْمَاءِ الطَّيِّبِ، أَوْ النَّجِسِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْقِيَهُ إيَّاهُ وَيَعْدِلَ إلَى التَّيَمُّمِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ أَوْ حَدَثٌ صَغِيرٌ. وَمَنْ اغْتَسَلَ وَتَوَضَّأَ وَهُنَاكَ مُضْطَرٌّ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ، أَوْ الذِّمَّةِ، أَوْ دَوَابِّهِمْ الْمَعْصُومَةِ، فَلَمْ يَسْقِهِ كَانَ آثِمًا عَاصِيًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الزَّيْت إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ وَمَاتَتْ فِيهِ] 28 - 12 - مَسْأَلَةٌ: فِي الزَّيْتِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ مِثْلُ الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا وَمَاتَتْ فِيهِ، هَلْ يَنْجُسُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قِيلَ يَنْجُسُ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُكَاثَرَ بِغَيْرِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قُلَّتَيْنِ أَمْ لَا؟ . وَإِذَا قِيلَ تَجُوزُ الْمُكَاثَرَةُ، هَلْ يَجُوزُ إلْقَاءُ الطَّاهِرِ عَلَى النَّجِسِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ لَا فَرْقَ؟ وَإِذَا لَمْ تَجُزْ الْمُكَاثَرَةُ، وَقِيلَ بِنَجَاسَتِهِ، هَلْ لَهُمْ طَرِيقٌ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ مِثْلُ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ، أَوْ غَسْلِهِ إذَا قِيلَ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَتْ الْمِيَاهُ النَّجِسَةُ الْيَسِيرَةُ تَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ، هَلْ تَطْهُرُ سَائِرُ الْمَائِعَاتِ بِالْمُكَاثَرَةِ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَائِعَاتِ إذَا وَقَعَتْ فِيهَا نَجَاسَةٌ فَهَلْ تَنْجُسُ؟ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ، أَوْ تَكُونُ كَالْمَاءِ فَلَا تَنْجُسُ مُطْلَقًا إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، أَوْ لَا يَنْجُسُ الْكَثِيرُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ كَمَا إذَا بَلَغَتْ قُلَّتَيْنِ؟

فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهُنَّ: أَنَّهَا تَنْجُسُ وَلَوْ مَعَ الْكَثْرَةِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهَا كَالْمَاءِ سَوَاءً، كَانَتْ مَائِيَّةً، أَوْ غَيْرَ مَائِيَّةٍ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: كَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، نَقَلَهُ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، وَحُكِيَ ذَلِكَ لِأَحْمَدَ فَقَالَ: إنَّ أَبَا ثَوْرٍ شَبَّهَهُ بِالْمَاءِ، ذَكَرَ ذَلِكَ الْخَلَّالُ فِي جَامِعِهِ عَنْ الْمَرْوَزِيِّ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُكْمَ الْمَائِعَاتِ عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْمَاءِ، وَمَذْهَبُهُمْ فِي الْمَائِعَاتِ مَعْرُوفٌ: فَإِذَا كَانَتْ مُنْبَسِطَةً بِحَيْثُ لَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهَا بِتَحَرُّكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ لَمْ تَنْجُسْ كَالْمَاءِ عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ بِالْعَكْسِ: بِالْقُلَّتَيْنِ كَالشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ أَنَّهَا كَالْمَاءِ يُذْكَرُ قَوْلًا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ فِي يَسِيرِ النَّجَاسَةِ إذَا وَقَعَتْ فِي الطَّعَامِ الْكَثِيرِ رِوَايَتَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي نَافِعٍ، مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، فِي الْجِبَابِ الَّتِي بِالشَّامِ لِلزَّيْتِ تَمُوتُ فِيهِ الْفَأْرَةُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ الزَّيْتَ، قَالَ: وَلَيْسَ الزَّيْتُ كَالْمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي الزَّيْتِ وَغَيْرِهِ تَقَعُ فِيهِ الْمَيْتَةُ وَلَمْ تُغَيِّرْ أَوْصَافَهُ وَكَانَ كَثِيرًا؛ لَمْ يَنْجُسْ بِخِلَافِ مَوْتِهَا فِيهِ، فَفَرَّقَ بَيْنَ مَوْتِهَا فِيهِ، وَوُقُوعِهَا فِيهِ. وَمَذْهَبُ ابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ: أَنَّ الْمَائِعَاتِ لَا تَنْجُسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ، إلَّا السَّمْنَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ، كَمَا يَقُولُونَ إنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ، إلَّا إذَا بَالَ فِيهِ بَائِلٌ. وَالثَّالِثَةُ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَائِعِ الْمَائِيِّ: كَخَلِّ الْخَمْرِ، وَغَيْرِ الْمَائِيِّ: كَخَلِّ الْعِنَبِ، فَيُلْحَقُ الْأَوَّلُ بِالْمَاءِ دُونَ الثَّانِي. وَفِي الْجُمْلَةِ: لِلْعُلَمَاءِ فِي الْمَائِعَاتِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهَا كَالْمَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنَجُّسِ مِنْ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهَا طَعَامٌ وَإِدَامٌ فَإِتْلَافُهَا فِيهِ

فَسَادٌ؛ وَلِأَنَّهَا أَشَدُّ إحَالَةً لِلنَّجَاسَةِ مِنْ الْمَاءِ؛ أَوْ مُبَايِنَةٌ لَهَا مِنْ الْمَاءِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَاءَ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنَجُّسِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ طَهُورٌ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَكَرْنَا حُجَّةَ مَنْ قَالَ بِالتَّنْجِيسِ، وَأَنَّهُمْ احْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا، فَلَا تَقْرَبُوهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ، وَبَيَّنَّا ضَعْفَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَطَعْنَ الْبُخَارِيِّ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَغَيْرِهِمْ فِيهِ، وَأَنَّهُمْ بَيَّنُوا أَنَّهُ غَلِطَ فِيهِ مَعْمَرٌ عَلَى الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: (بَابٌ فِي الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ) . حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ: «أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا» . وَقَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَاللَّفْظُ لِلْحُسَيْنِ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ، فَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» . قَالَ الْحَسَنُ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: رُبَّمَا حَدَّثَ بِهِ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ،

عَنْ مَيْمُونَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِثْلِ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ) حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو عَمَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، «عَنْ مَيْمُونَةَ: أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ، فَسُئِلَ عَنْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ» . قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ - وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عَنْ مَيْمُونَةَ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ أَصَحُّ. وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوَهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. قَالَ: سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ يَقُولُ: حَدِيثُ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا خَطَأٌ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ. قُلْت: وَحَدِيثُ مَعْمَرٍ هَذَا الَّذِي خَطَّأَهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ إنَّهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، هُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ: «إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» . كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مُسْنَدِهِ، وَغَيْرُهُ.

وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ مَعْمَرًا كَانَ يَرْوِيهِ أَحْيَانًا مِنْ الْوَجْهِ الْآخَرِ، وَكَانَ يَضْطَرِبُ فِي إسْنَادِهِ، كَمَا اضْطَرَبَ فِي مَتْنِهِ، وَخَالَفَ فِيهِ الْحُفَّاظَ الثِّقَاتِ الَّذِينَ رَوَوْهُ بِغَيْرِ اللَّفْظِ الَّذِي رَوَاهُ مَعْمَرٌ، وَمَعْمَرٌ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْغَلَطِ، وَأَمَّا الزُّهْرِيُّ فَلَا يُعْرَفُ مِنْهُ غَلَطٌ. فَلِهَذَا بَيَّنَ الْبُخَارِيُّ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ مَا دَلَّ عَلَى خَطَأِ مَعْمَرٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: (بَابُ إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ أَوْ الذَّائِبِ) ثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، ثَنَا سُفْيَانُ، ثَنَا الزُّهْرِيُّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ «عَنْ مَيْمُونَةَ: أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ» . قِيلَ لِسُفْيَانَ: فَإِنَّ مَعْمَرًا يُحَدِّثُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: مَا سَمِعْت الزُّهْرِيَّ يَقُولُهُ إلَّا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَقَدْ سَمِعْت مِنْهُ مِرَارًا. ثَنَا عَبْدَانُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ - عَنْ يُونُسَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ الدَّابَّةِ تَمُوتُ فِي الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَهُوَ جَامِدٌ، أَوْ غَيْرُ جَامِدٍ، الْفَأْرَةُ أَوْ غَيْرُهَا. قَالَ: بَلَغَنَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِفَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ، فَأَمَرَ بِمَا قَرُبَ مِنْهَا فَطُرِحَ، ثُمَّ أُكِلَ» ، مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ كَمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ النَّاسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ بِسَنَدِهِ وَلَفْظِهِ، وَأَمَّا مَعْمَرٌ فَاضْطَرَبَ فِيهِ فِي سَنَدِهِ وَلَفْظِهِ، فَرَوَاهُ تَارَةً عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ فِيهِ: «وَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» . وَقِيلَ عَنْهُ «وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَاسْتَصْبِحُوا بِهِ» وَاضْطَرَبَ عَنْ مَعْمَرٍ فِيهِ.

وَظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ حَدِيثَ مَعْمَرٍ مَحْفُوظٌ فَعَمِلُوا بِهِ، وَمِمَّنْ ثَبَتَهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ فِيمَا جَمَعَهُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ. كَذَلِكَ احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ لَمَّا أَفْتَى بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْجَامِدِ وَالْمَائِعِ، وَكَانَ أَحْمَدُ يَحْتَجُّ أَحْيَانًا بِأَحَادِيثَ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهَا مَعْلُولَةٌ كَاحْتِجَاجِهِ بِقَوْلِهِ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ مَعْلُولٌ، فَاسْتَدَلَّ بِغَيْرِهِ. وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا فَعَلَّلُوا حَدِيثَ مَعْمَرٍ، وَبَيَّنُوا غَلَطَهُ، وَالصَّوَابُ مَعَهُمْ. فَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هُنَا عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْته مِنْ الزُّهْرِيِّ مِرَارًا لَا يَرْوِيهِ إلَّا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ إلَّا قَوْلُهُ: «أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا» رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ، وَذَكَرَ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ، أَنَّ الزُّهْرِيَّ سُئِلَ عَنْ الدَّابَّةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ وَغَيْرِهِ، فَأَفْتَى «بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِفَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ، فَأَمَرَ بِمَا قَرُبَ مِنْهَا فَطُرِحَ» . فَهَذِهِ فُتْيَا الزُّهْرِيِّ فِي الْجَامِدِ وَغَيْرِ الْجَامِدِ، فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ رَوَى فِي الْحَدِيثِ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ يَحْتَجُّ عَلَى اسْتِوَاءِ حُكْمِ النَّوْعَيْنِ بِالْحَدِيثِ، وَرَوَاهُ بِالْمَعْنَى. وَالزُّهْرِيُّ أَحْفَظُ أَهْلِ زَمَانِهِ، حَتَّى يُقَالَ إنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ غَلَطٌ فِي حَدِيثٍ وَلَا نِسْيَانٌ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ أَكْثَرُ حَدِيثًا مِنْهُ، وَيُقَالُ إنَّهُ حَفِظَ عَلَى الْأُمَّةِ تِسْعِينَ سُنَّةً لَمْ يَأْتِ بِهَا غَيْرُهُ، وَقَدْ كَتَبَ عَنْهُ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ كِتَابًا مِنْ حِفْظِهِ ثُمَّ اسْتَعَادَهُ مِنْهُ بَعْدَ عَامٍ، فَلَمْ يُخْطِئْ مِنْهُ حَرْفًا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَدِيثِ إلَّا نِسْيَانُ الزُّهْرِيِّ، أَوْ مَعْمَرٍ، لَكَانَ نِسْبَةُ النِّسْيَانِ إلَى مَعْمَرٍ أَوْلَى بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالرِّجَالِ، مَعَ كَثْرَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى نِسْيَانِ مَعْمَرٍ، وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ مَعْمَرًا كَثِيرُ الْغَلَطِ عَلَى الزُّهْرِيِّ.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فِيمَا حَدَّثَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ ثَمَانِ نِسْوَةٍ» ، فَقَالَ أَحْمَدُ: هَكَذَا حَدَّثَ بِهِ مَعْمَرٌ بِالْبَصْرَةِ، وَحَدَّثَهُمْ بِالْبَصْرَةِ مِنْ حِفْظِهِ، وَحَدَّثَ بِهِ بِالْيَمَنِ، عَنْ الزُّهْرِيِّ بِالِاسْتِقَامَةِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: مَا حَدَّثَ بِهِ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ بِالْبَصْرَةِ فَفِيهِ أَغَالِيطُ، وَهُوَ صَالِحُ الْحَدِيثِ، وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ الَّذِينَ رَوَوْا هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: هُمْ الْبَصْرِيُّونَ: كَعَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، وَعَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى السَّامِيِّ. وَالِاضْطِرَابُ فِي الْمَتْنِ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ هَذَا يَقُولُ: إنْ كَانَ ذَائِبًا أَوْ مَائِعًا لَمْ يُؤْكَلْ، وَهَذَا يَقُولُ: وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَنْتَفِعُوا بِهِ، وَاسْتَصْبِحُوا بِهِ، وَهَذَا يَقُولُ: فَلَا تَقْرَبُوهُ، وَهَذَا يَقُولُ: فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤْخَذَ وَمَا حَوْلَهَا فَيُطْرَحُ. فَأَطْلَقَ الْجَوَابَ، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّفْصِيلَ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَرَوْهُ مِنْ كِتَابٍ بِلَفْظٍ مَضْبُوطٍ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ بِحَسَبِ مَا ظَنَّهُ مِنْ الْمَعْنَى فَغَلِطَ. وَبِتَقْدِيرِ صِحَّةِ هَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ الْقَلِيلِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ: كَالسَّمْنِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ السَّائِلِ سَمْنٌ فَوْقَ قُلَّتَيْنِ يَقَعُ فِيهِ فَأْرَةٌ حَتَّى يُقَالَ فِيهِ: تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي حِكَايَةِ الْحَالِ، مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ، يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ. بَلْ السَّمْنُ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي أَوْعِيَتِهِمْ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ قَلِيلًا، فَلَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ لَمْ يَدُلَّ إلَّا عَلَى نَجَاسَةِ الْقَلِيلِ، فَإِنَّ الْمَائِعَاتِ الْكَثِيرَةَ إذَا وَقَعَتْ فِيهَا نَجَاسَةٌ فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهَا: لَا نَصٌّ صَحِيحٌ، وَلَا ضَعِيفٌ، وَلَا إجْمَاعٌ، وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ. وَعُمْدَةُ مَنْ يُنَجِّسُهُ يَظُنُّ أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ، سَرَتْ فِيهِ كُلِّهِ فَنَجَّسَتْهُ، وَقَدْ عُرِفَ فَسَادُ هَذَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِطَرْدِهِ، فَإِنَّ طَرْدَهُ يُوجِبُ نَجَاسَةَ الْبَحْرِ، بَلْ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْأَصْلَ الْفَاسِدَ

مِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنَى مَا لَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحَرُّكِ الْآخَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنَى فِي بَعْضِ النَّجَاسَاتِ مَا لَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنِي مَا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ، وَعَلَّلَ بَعْضُهُمْ الْمُسْتَثْنَى بِمَشَقَّةِ التَّنْجِيسِ، وَبِعَدَمِ وُصُولِ النَّجَاسَةِ إلَى الْكَثِيرِ، وَبَعْضُهُمْ بِتَعَذُّرِ التَّطْهِيرِ. وَهَذِهِ الْعِلَلُ مَوْجُودَةٌ فِي الْكَثِيرِ مِنْ الْأَدْهَانِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْحَبِّ الْعَظِيمِ قَنَاطِيرُ مُقَنْطَرَةٌ مِنْ الزَّيْتِ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ صِيَانَتُهُ عَنْ الْوَاقِعِ، وَالدُّورُ وَالْحَوَانِيتُ مَمْلُوءَةٌ مِمَّا لَا يُمْكِنُ صِيَانَتُهُ كَالسُّكَّرِ وَغَيْرِهِ، فَالْعُسْرُ وَالْحَرَجُ بِتَنْجِيسِ هَذَا عَظِيمٌ جِدًّا، وَلِهَذَا لَمْ يَرِدْ بِتَنْجِيسِ الْكَثِيرِ أَثَرٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ، وَاخْتَلَفَ كَلَامُ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَنْجِيسِ الْكَثِيرِ. وَأَمَّا الْقَلِيلُ فَإِنَّهُ ظَنَّ صِحَّةَ حَدِيثِ مَعْمَرٍ فَأَخَذَ بِهِ، وَقَدْ اطَّلَعَ غَيْرُهُ عَلَى الْعِلَّةِ الْقَادِحَةِ فِيهِ، وَلَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهَا لَمْ يَقُلْ بِهِ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ، كَأَنْ يَأْخُذَ بِحَدِيثٍ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ ضَعْفُهُ، فَيَتْرُكُ الْأَخْذَ بِهِ، وَقَدْ يَتْرُكُ الْأَخْذَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَتَبَيَّنَ صِحَّتُهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ صِحَّتُهُ أَخَذَ بِهِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلِظَنِّهِ صِحَّتَهُ، عَدَلَ إلَيْهِ عَمَّا رَمَاهُ مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ، وَرَوَى صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ فِي مَسَائِلِهِ، عَنْ أَبِيهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، ثَنَا أَبِي، ثَنَا إسْمَاعِيلُ، ثَنَا عُمَارَةُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ، قَالَ: تُؤْخَذُ الْفَأْرَةُ وَمَا حَوْلَهَا. قُلْت: يَا مَوْلَانَا فَإِنَّ أَثَرَهَا فِي السَّمْنِ كُلِّهِ. قَالَ: عَضِضْت بِهِنَّ أَبِيك إنَّمَا كَانَ أَثَرُهَا بِالسَّمْنِ، وَهِيَ حَيَّةٌ وَإِنَّمَا مَاتَتْ حَيْثُ وُجِدَتْ. ثَنَا أَبِي، ثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا النَّضْرُ بْنُ عَرَبِيٍّ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ عَنْ جَرٍّ فِيهِ زَيْتٌ وَقَعَ فِيهِ جُرَذٌ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خُذْهُ وَمَا حَوْلَهُ فَأَلْقِهِ، وَكُلْهُ. قُلْت: أَلَيْسَ جَالَ فِي الْجَرِّ كُلِّهِ؟ قَالَ: إنَّهُ جَالَ وَفِيهِ الرُّوحُ فَاسْتَقَرَّ حَيْثُ مَاتَ. وَرَوَى الْخَلَّالُ، عَنْ صَالِحٍ قَالَ: ثَنَا أَبِي، ثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ؟ فَقَالَ: إنَّمَا حَرُمَ مِنْ الْمَيْتَةِ لَحْمُهَا وَدَمُهَا.

قُلْت: فَهَذِهِ فَتَاوَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالزُّهْرِيِّ، مَعَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ هُوَ رَاوِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ، ثُمَّ إنَّ قَوْلَ مَعْمَرٍ فِي الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ " فَلَا تَقْرَبُوهُ " مَتْرُوكٌ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ، فَإِنَّ جُمْهُورَهُمْ يُجَوِّزُوا الِاسْتِصْبَاحَ بِهِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُجَوِّزُ بَيْعَهُ أَوْ تَطْهِيرَهُ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ " فَلَا تَقْرَبُوهُ "، وَمَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ يَقُولُ: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» احْتِرَازٌ عَنْ الثَّوْبِ، وَالْبَدَنِ وَالْإِنَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَنَجَّسُ، وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا لَيْسَ بِمَاءٍ يَتَنَجَّسُ، فَإِنَّ الْهَوَاءَ وَنَحْوَهُ لَا تَتَنَجَّسُ، وَلَيْسَ بِمَاءٍ. كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: «إنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ» احْتِرَازٌ عَنْ الْبَدَنِ، فَإِنَّهُ يُجْنِبُ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا لَيْسَ بِمَاءٍ يُجْنِبُ، وَلَكِنْ خَصَّ الْمَاءَ بِالذِّكْرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْحَاجَةِ إلَى بَيَانِ حُكْمِهِ، «فَإِنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ اغْتَسَلَتْ، فَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَتَوَضَّأَ بِسُؤْرِهَا، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ جُنُبًا فَقَالَ: إنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ» مَعَ أَنَّ الثَّوْبَ لَا يُجْنِبُ، وَالْأَرْضُ لَا تُجْنِبُ، وَتَخْصِيصُ الْمَاءِ بِالذِّكْرِ لِمُفَارَقَةِ الْبَدَنِ لَا لِمُفَارَقَةِ كُلِّ شَيْءٍ. وَكَذَلِكَ «قَالُوا لَهُ: أَتَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ؟ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحُيَّضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ، فَقَالَ: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . فَنَفَى عَنْهُ النَّجَاسَةَ لِلْحَاجَةِ إلَى بَيَانِ ذَلِكَ، كَمَا نَفَى عَنْهُ الْجَنَابَةَ لِلْحَاجَةِ إلَى بَيَانِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ، وَالنَّجَاسَاتُ مِنْ الْخَبَائِثِ، فَالْمَاءُ إذَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ لِلْخَبِيثِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ فَهَلْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ يُنَجِّسُهُ لِاخْتِلَاطِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ إلَى حَيْثُ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى تَطْهِيرِهِ، أَوْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ طَهَارَتُهُ إلَى أَنْ تَظْهَرَ فِيهِ النَّجَاسَةُ الْخَبِيثَةُ الَّتِي يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا؟ لِلْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْأَصْلُ النَّجَاسَةُ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ

وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اخْتِلَاطَ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ يُوجِبُ تَحْرِيمَهُمَا جَمِيعًا. ثُمَّ إنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ طَرَدُوا ذَلِكَ فِيمَا إذْ كَانَ الْمَاءُ يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحَرُّكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ. قَالُوا: لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَبْلُغُهُ إذَا بَلَغَتْهُ الْحَرَكَةُ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ طَرْدُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا لَزِمَ تَنْجِيسُ الْبَحْرِ، وَالْبَحْرُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ بِالنَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ يَطْرُدُوا ذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَاءُ عَمِيقًا وَمِسَاحَتُهُ قَلِيلَةً، ثُمَّ إذَا تَنَجَّسَ الْمَاءُ فَالْقِيَاسُ عِنْدَهُمْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَطْهُرَ بِنَزْحٍ، فَيَجِبُ طَمُّ الْآبَارِ الْمُتَنَجِّسَةِ، وَطَرَدَ هَذَا الْقِيَاسَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَقَالُوا بِالتَّطْهِيرِ بِالنَّزْحِ اسْتِحْسَانًا، إمَّا بِنَزْحِ الْبِئْرِ كُلِّهَا إذَا كَبِرَ الْحَيَوَانُ أَوْ نَضَخَ، وَإِمَّا بِنَزْحِ بَعْضِهَا إذَا صَغُرَ بِدِلَاءٍ ذَكَرُوا عَدَدَهَا، فَمَا أَمْكَنَ طَرْدُ ذَلِكَ الْقِيَاسِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ قَالُوا بِطَهَارَةِ مَا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْفَلَوَاتِ وَالْغُدْرَانِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ صِيَانَتُهَا عَنْ النَّجَاسَةِ، فَجَعَلُوا طَهَارَةَ ذَلِكَ رُخْصَةً، لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: إنَّ الْبَوْلَ، وَالْعَذِرَةَ الرَّطْبَةَ، لَا يَنْجُسُ بِهِمَا، إلَّا مَا أَمْكَنَ نَزْحُهُ، تَرَكَ طَرْدَ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ مَا يَتَعَذَّرُ نَزْحُهُ يَتَعَذَّرُ تَطْهِيرُهُ، فَجَعَلَ تَعَذُّرَ التَّطْهِيرِ مَانِعًا مِنْ التَّنَجُّسِ. فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَغَيْرُهَا مِنْ مَقَالَاتِ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْأَصْلِ تُبَيِّنُ: أَنَّهُ لَمْ يَطْرُدْهُ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَأَنَّ كُلَّهُمْ خَالَفُوا فِيهِ الْقِيَاسَ رُخْصَةً، وَأَبَاحُوا مَا تُخَالِطُهُ النَّجَاسَاتُ مِنْ الْمِيَاهِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ الْخَاصَّةِ وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: فَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَنْجُسَ الْمَاءُ حَتَّى يَتَغَيَّرَ، كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ، وَالْعِرَاقِ، وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، وَغَيْرِهِمْ: كَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْقَاضِي أَبِي حَازِمٍ، مَعَ قَوْلِهِ إنَّ الْقَلِيلَ يَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ، وَأَمَّا ابْنُ عَقِيلٍ، وَابْنُ الْمُنَى، وَابْنُ الْمُظَفَّرِ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَأَبُو نَصْرٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: فَنَصَرُوا هَذَا - أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ - كَالرِّوَايَةِ الْمُوَافِقَةِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ،

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْمَحَاسِنِ الرُّويَانِيِّ، وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَدِدْت أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فِي الْمِيَاهِ كَانَ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ مُوَافِقٌ لِهَذَا الْقَوْلِ، فَإِنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، فَغَيَّرَتْ طَعْمَهُ، أَوْ لَوْنَهُ بِأَيِّ شَيْءٍ يَنْجُسُ. وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ، أَوْ طَعْمَهُ، أَوْ رِيحَهُ» ضَعِيفٌ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، فَإِذَا ظَهَرَ فِي الْمَاءِ الدَّمُ، أَوْ طَعْمُ الْمَيْتَةِ أَوْ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ، كَانَ الْمُسْتَعْمِلُ لِذَلِكَ مُسْتَعْمِلًا لِهَذِهِ الْخَبَائِثِ. وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُ التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا لَمْ يَخُصَّ صُورَةَ التَّغَيُّرِ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ. وَفِي الْجُمْلَةِ: فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَبَائِثَ الَّتِي هِيَ الدَّمُ وَالْمَيْتَةُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِذَا وَقَعَتْ هَذِهِ فِي الْمَاءِ، أَوْ غَيْرِهِ، وَاسْتُهْلِكَتْ، لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ دَمٌ، وَلَا مَيْتَةٌ، وَلَا لَحْمُ خِنْزِيرٍ أَصْلًا كَمَا أَنَّ الْخَمْرَ إذَا اُسْتُهْلِكَتْ فِي الْمَائِعِ لَمْ يَكُنْ الشَّارِبُ لَهَا شَارِبًا لِلْخَمْرِ، وَالْخَمْرَةُ إذَا اسْتَحَالَتْ بِنَفْسِهَا وَصَارَتْ خَلًّا، كَانَتْ طَاهِرَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ النَّجَاسَةَ إذَا اسْتَحَالَتْ طَهُرَتْ أَقْوَى كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، فَإِنَّ انْقِلَابَ النَّجَاسَةِ مِلْحًا، وَرَمَادًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ: هُوَ كَانْقِلَابِهَا مَاءً، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَسْتَحِيلَ رَمَادًا، أَوْ مِلْحًا، أَوْ تُرَابًا، أَوْ مَاءً، أَوْ هَوَاءً، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ، وَهَذِهِ الْأَدْهَانُ، وَالْأَلْبَانُ، وَالْأَشْرِبَةُ: الْحُلْوَةُ، وَالْحَامِضَةُ، وَغَيْرُهَا مِنْ الطَّيِّبَاتِ، وَالْخَبِيثَةُ، قَدْ اُسْتُهْلِكَتْ، وَاسْتَحَالَتْ فِيهَا، فَكَيْفَ يَحْرُمُ الطَّيِّبُ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى؟ وَمَنْ الَّذِي قَالَ إنَّهُ إذَا خَالَطَهُ الْخَبِيثُ، وَاسْتُهْلِكَ فِيهِ، وَاسْتَحَالَ قَدْ حَرُمَ، وَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ، لَا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا مِنْ سُنَّةٍ، وَلَا إجْمَاعٍ، وَلَا قِيَاسٍ.

فصل سائر النجاسات يجوز التعمد لإفسادها

وَلِهَذَا «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ بِئْرِ بُضَاعَةَ، لَمَّا ذُكِرَ لَهُ أَنَّهَا يُلْقَى فِيهَا الْحَيْضُ، وَلُحُومُ الْكِلَابِ، وَالنَّتْنُ، فَقَالَ: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» وَقَالَ فِي حَدِيثٍ الْقُلَّتَيْنِ «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» وَفِي اللَّفْظِ الْآخَرِ «لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ. فَقَوْلُهُ «لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» : بَيَّنَ أَنَّ تَنْجِيسَهُ بِأَنْ يَحْمِلَ الْخَبَثَ، أَيْ بِأَنْ يَكُونَ الْخَبَثُ فِيهِ مَحْمُولًا، وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ مَعَ اسْتِحَالَةِ الْخَبَثِ لَا يَنْجُسُ الْمَاءُ. [فَصْلٌ سَائِرُ النَّجَاسَاتِ يَجُوزُ التَّعَمُّدُ لِإِفْسَادِهَا] فَصْلٌ وَإِذَا عُرِفَ أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَالْحُكْمُ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا، كَالْخَمْرِ لَمَّا كَانَ الْمُوجِبُ لِتَحْرِيمِهَا وَنَجَاسَتِهَا هِيَ الشِّدَّةَ، فَإِذَا زَالَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ طَهُرَتْ، بِخِلَافِ مَا إذَا زَالَتْ بِقَصْدِ الْآدَمِيِّ عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تَأْكُلُوا خَلَّ خَمْرٍ، إلَّا خَمْرًا بَدَأَ اللَّهُ بِفَسَادِهَا، وَلَا جُنَاحَ عَلَى مُسْلِمٍ أَنْ يَشْتَرِيَ خَلًّا مِنْ خَمْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا فَسَادَهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اقْتِنَاءَ الْخَمْرِ مُحَرَّمٌ، فَمَنْ قَصَدَ بِاقْتِنَائِهَا التَّخْلِيلَ كَانَ قَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا، وَالْفِعْلُ الْمُحَرَّمُ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْحِلِّ وَالْإِبَاحَةِ، وَأَمَّا إذَا اقْتَنَاهَا لِشُرْبِهَا، وَاسْتِعْمَالِهَا خَمْرًا فَهُوَ لَا يُرِيدُ تَخْلِيلَهَا، وَإِذَا جَعَلَهَا اللَّهُ خَلًّا كَانَ مُعَاقَبَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، فَلَا يَكُونُ فِي حِلِّهَا وَطَهَارَتِهَا مَفْسَدَةٌ. وَأَمَّا سَائِرُ النَّجَاسَاتِ: فَيَجُوزُ التَّعَمُّدُ لِإِفْسَادِهَا، لِأَنَّ إفْسَادَهَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، كَمَا لَا يُحَدُّ شَارِبُهَا؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ لَا يُخَافُ عَلَيْهَا بِمُقَارَبَتِهَا الْمَحْظُورَ كَمَا يُخَافُ مِنْ مُقَارَبَةِ الْخَمْرِ، وَلِهَذَا جَوَّزَ الْجُمْهُورُ أَنْ تُدْبَغَ جُلُودُ الْمَيْتَةِ، وَجَوَّزُوا أَيْضًا إحَالَةَ النَّجَاسَةِ بِالنَّارِ وَغَيْرِهَا. وَالْمَاءُ لِنَجَاسَتِهِ سَبَبَانِ. أَحَدُهُمَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْآخَرُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.

فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: التَّغَيُّرُ بِالنَّجَاسَةِ، فَمَتَى كَانَ الْمُوجِبُ لِنَجَاسَتِهِ التَّغَيُّرَ، فَزَالَ التَّغَيُّرُ، كَانَ طَاهِرًا: كَالثَّوْبِ الْمُضَمَّخِ بِالدَّمِ، إذَا غُسِلَ عَادَ طَاهِرًا. وَالثَّانِي: الْقِلَّةُ: فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا، وَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، فَفِي نَجَاسَتِهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ: أَنَّهُ يَنْجُسُ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ يَسْتَثْنِي الْبَوْلَ، وَالْعَذِرَةَ الْمَائِعَةَ، فَيَجْعَلُ مَا أَمْكَنَ نَزْحُهُ نَجَسًا بِوُقُوعِ ذَلِكَ فِيهِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: يَنْجُسُ مَا وَصَلَتْ إلَيْهِ الْحَرَكَةُ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ: أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ وَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ نَصَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، كَمَا نَصَرَ الْأُولَى طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، لَكِنْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ قَالُوا: إنَّ قَلِيلَ الْمَاءِ يَنْجُسُ بِقَلِيلِ النَّجَاسَةِ، وَلَمْ يَحُدُّوا ذَلِكَ بِقُلَّتَيْنِ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ، فَهَؤُلَاءِ لَا يُنَجِّسُونَ شَيْئًا إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، وَمَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ: كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ: فِي الْمَائِعَاتِ كَذَلِكَ، كَمَا قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ. فَهَؤُلَاءِ لَا يُنَجِّسُونَ شَيْئًا مِنْ الْمَائِعَاتِ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، لَكِنْ عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَدَ اعْتِبَارُ الْقُلَّتَيْنِ فِي الْمَاءِ. وَكَذَلِكَ فِي الْمَائِعَاتِ إذَا سُوِّيَتْ بِهِ فَنَقُولُ: إذَا وَقَعَ فِي الْمَائِعِ الْقَلِيلِ نَجَاسَةٌ، فَصُبَّ عَلَيْهِ مَائِعٌ كَثِيرٌ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ طَاهِرًا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَغَيِّرًا، وَإِنْ صُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ قَلِيلٌ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، فَصَارَ الْجَمِيعُ كَثِيرًا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ، فَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَاءِ أَنَّ الْجَمِيعَ طَاهِرٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَكُونُ طَاهِرًا حَتَّى يَكُونَ الْمُضَافُ كَثِيرًا. وَالْمُكَاثَرَةُ الْمُعْتَبَرَةُ: أَنْ يُصَبَّ الطَّاهِرُ عَلَى النَّجَسِ، وَلَوْ صُبَّ النَّجَسُ عَلَى الطَّاهِرِ الْكَثِيرِ، كَانَ كَمَا لَوْ صُبَّ الْمَاءُ النَّجَسُ عَلَى مَاءِ كَثِيرٍ طَاهِرٍ أَيْضًا، وَذَلِكَ مُطَهِّرٌ لَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَغَيِّرًا، وَإِنْ صُبَّ الْقَلِيلُ الَّذِي لَاقَتْهُ النَّجَاسَةُ عَلَى قَلِيلٍ لَمْ تُلَاقِهِ النَّجَاسَةُ، وَكَانَ الْجَمِيعُ كَثِيرًا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ كَانَ كَالْمَاءِ الْقَلِيلِ إذَا ضُمَّ إلَى الْقَلِيلِ، وَفِي ذَلِكَ الْوَجْهَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ.

وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ، أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنْجِيسِ مِنْ الْمَاءِ هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، بَلْ لَوْ نَجِسَ الْقَلِيلُ مِنْ الْمَاءِ لَمْ يَلْزَمْ تَنْجِيسُ الْأَشْرِبَةِ وَالْأَطْعِمَةِ، وَلِهَذَا أَمَرَ مَالِكٌ بِإِرَاقَةِ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ مِنْ الْمَاءِ الْقَلِيلِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِإِرَاقَةِ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ، وَاسْتَعْظَمَ إرَاقَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يُمَنُّ لَهُ فِي الْعَادَةِ بِخِلَافِ أَشْرِبَةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَطْعِمَتِهِمْ، فَإِنَّ فِي نَجَاسَتِهَا مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ وَالضِّيقِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ جَمِيعَ الْفُقَهَاءِ يَعْتَبِرُونَ رَفْعَ الْحَرَجِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِذَا لَمْ يُنَجِّسُوا الْمَاءَ الْكَثِيرَ رَفْعًا لِلْحَرَجِ فَكَيْفَ يُنَجِّسُونَ نَظِيرَهُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ، وَالْحَرَجُ فِي هَذَا أَشَقُّ، وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْمَائِعَاتِ الْكَثِيرَةِ لَا تَكَادُ تَخْلُو عَنْ نَجَاسَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَاءُ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ غَيْرِهِ، فَعَنْ نَفْسِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى؛ بِخِلَافِ الْمَائِعَاتِ. قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: إنَّ الْمَاءَ إنَّمَا دَفَعَهَا عَنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُهَا عَنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَتَنْتَقِلُ مَعَهُ، فَلَا يَبْقَى عَلَى الْمَحَلِّ نَجَاسَةٌ وَأَمَّا إذَا وَقَعَتْ فِيهِ، فَإِنَّمَا كَانَ طَاهِرًا لِاسْتِحَالَتِهَا فِيهِ لَا لِكَوْنِهِ أَزَالَهَا عَنْ نَفْسِهِ. وَلِهَذَا يَقُولُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّ الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ فِي الْإِزَالَةِ، وَهِيَ كَالْمَاءِ فِي التَّنْجِيسِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِ الْمَاءِ يُزِيلُهَا إذَا زَالَتْ مَعَهُ أَنْ يُزِيلَهَا إذَا كَانَتْ فِيهِ، وَنَظِيرُ الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَةُ: الْغُسَالَةُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْ الْمَحَلِّ، وَتِلْكَ نَجِسَةٌ قَبْلَ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ، وَفِيهَا بَعْدَ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: هَلْ هِيَ طَاهِرَةٌ، أَوْ مُطَهَّرَةٌ، أَوْ نَجِسَةٌ؟ وَأَبُو حَنِيفَةَ نَظَرَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: الْمَاءُ يَنْجُسُ بِوُقُوعِهَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ يُزِيلُهَا عَنْ غَيْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا. فَإِذَا كَانَتْ النُّصُوصُ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَنْجُسُ بِمُجَرَّدِ الْوُقُوعِ مَعَ الْكَثْرَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»

وَقَوْلُهُ: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» . فَإِنَّهُ إذَا كَانَ طَهُورًا يَطْهُرُ بِهِ غَيْرُهُ، عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ، إذْ لَوْ نَجِسَ بِهَا لَكَانَ إذَا صُبَّ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاتِهَا، فَحِينَئِذٍ لَا يَنْجُسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، لَكِنْ إنْ بَقِيَتْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ حَرُمَتْ، وَإِنْ اسْتَحَالَتْ زَالَتْ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اسْتِحَالَةَ النَّجَاسَةِ مَعَ مُلَاقَاتِهَا فِيهِ لَا تُنَجِّسُهُ، إنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ زَالَتْ كَمَا زَالَتْ عَنْ الْمَحَلِّ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: يَدْفَعُهَا عَنْ نَفْسِهِ كَمَا يُزِيلُهَا عَنْ غَيْرِهِ فَقَدْ خَالَفَ الْمُشَاهَدَةَ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي سَائِرِ الْمَائِعَاتِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَغَيْرِهَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: غَايَةُ هَذَا أَنْ يَقْتَضِيَ أَنَّهُ يُمْكِنُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِالْمَائِعِ، وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَمَالِكٍ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِ. وَأَحْمَدُ جَعَلَهُ لَازِمًا فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمَائِعَ لَا يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ، وَقَالَ: يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ تُزَالَ بِهِ النَّجَاسَةُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا دَفَعَهَا عَنْ نَفْسِهِ دَفَعَهَا عَنْ غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْمَاءِ، فَيَلْزَمُ جَوَازُ إزَالَتِهِ بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ مُزِيلٍ لِلْعَيْنِ، قَلَّاعٍ لِلْأَثَرِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، فَنَقُولُ بِهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُ مِنْ دَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ دَفْعُهَا عَنْ غَيْرِهِ، لِكَوْنِ الْإِحَالَةِ أَقْوَى مِنْ الْإِزَالَةِ، فَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ إنَّهُ يَجُوزُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ أَنْ تَكُونَ الْمَائِعَاتُ كَالْمَاءِ، فَإِذَا كَانَ الصَّحِيحُ فِي الْمَاءِ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا مَعَ الْكَثْرَةِ، فَكَذَلِكَ الصَّوَابُ فِي الْمَائِعَاتِ، وَفِي الْجُمْلَةِ: التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَاءِ، وَالْمَائِعَاتِ مُمْكِنٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، وَهَذَا مُقْتَضَى النَّصِّ وَالْقِيَاسِ فِي مَسْأَلَةِ إزَالَةِ النَّجَاسَاتِ، وَفِي مَسْأَلَةِ مُلَاقَاتِهَا لِلْمَائِعَاتِ الْمَاءِ وَغَيْرِ الْمَاءِ. وَمَنْ تَدَبَّرَ الْأُصُولَ الْمَنْصُوصَةَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا، وَالْمَعَانِيَ الشَّرْعِيَّةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا هُوَ أَصْوَبُ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ بِدُونِ التَّغَيُّرِ بَعِيدٌ عَنْ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَالْأَقْيِسَةِ، وَكَوْنُ حُكْمِ النَّجَاسَةِ تَبْقَى فِي

مَوَارِدِهَا بَعْدَ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِمَائِعٍ، أَوْ غَيْرِ مَائِعٍ بَعِيدٌ عَنْ الْأُصُولِ وَمُوجَبِ الْقِيَاسِ، وَمَنْ كَانَ فَقِيهًا خَبِيرًا بِمَأْخَذِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَزَالَ عَنْهُ الْهَوَى، تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ إذَا كَانَ فِي اسْتِعْمَالِهَا فَسَادٌ، فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، كَمَا يُنْهَى عَنْ ذَبْحِ الْخَيْلِ الَّتِي يُجَاهَدُ عَلَيْهَا، وَالْإِبِلِ الَّتِي يُحَجُّ عَلَيْهَا، وَالْبَقَرِ الَّتِي يُحْرَثُ عَلَيْهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، لَا لِأَجْلِ الْخَبَثِ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَنَفِدَتْ أَزْوَادُهُمْ، فَاسْتَأْذَنُوهُ فِي نَحْرِ الظَّهْرِ، فَأَذِنَ لَهُمْ، ثُمَّ أَتَى عُمَرُ، فَسَأَلَهُ أَنْ يَجْمَعَ الْأَزْوَادَ، فَيَدْعُو اللَّهَ بِالْبَرَكَةِ فِيهَا وَيُبْقِي الظَّهْرَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ» . فَنَهْيُهُ لَهُمْ عَنْ نَحْرِ الظَّهْرِ كَانَ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ لِلرُّكُوبِ، لَا؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ مُحَرَّمَةٌ. فَهَكَذَا يُنْهَى فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ، وَالْأَشْرِبَةِ عَنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِهَا، كَمَا يُنْهَى عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِمَا لَهُ حُرْمَةٌ مِنْ طَعَامِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَعَلَفِ دَوَابِّ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِكَوْنِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهَا، بَلْ لِحُرْمَتِهَا، فَالْقَوْلُ فِي الْمَائِعَاتِ كَالْقَوْلِ فِي الْجَامِدَاتِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ إحَالَةُ الْمَائِعَاتِ لِلنَّجَاسَةِ إلَى طَبْعِهَا أَقْوَى مِنْ إحَالَةِ الْمَاءِ، وَتَغَيُّرِ الْمَاءِ بِالنَّجَاسَاتِ أَسْرَعُ مِنْ تَغَيُّرِ الْمَائِعَاتِ، فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ بِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ النَّجَاسَةِ لِاسْتِحَالَتِهَا إلَى طَبِيعَتِهِ فَالْمَائِعَاتُ أَوْلَى وَأَحْرَى. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الْمَاءِ وَالْمَائِعِ طَعْمٌ، وَلَا لَوْنٌ، وَلَا رِيحٌ، لَا نُسَلِّمُ أَنْ يُقَالَ بِنَجَاسَتِهِ أَصْلًا، كَمَا فِي الْخَمْرِ الْمُسْلَبَةِ أَوْ أَبْلَغَ، وَطُرِدَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الِاسْتِحَالَةِ، فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحِيلَاتِ مِنْ النَّجَاسَةِ طَاهِرَةٌ، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ دَفْعَ الْعَيْنِ لِلنَّجَاسَةِ عَنْ نَفْسِهَا كَدَفْعِ الْمَاءِ، لَا يَخْتَصُّ بِالْمَاءِ، بَلْ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي التُّرَابِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي النَّجَاسَةِ إذَا

أَصَابَتْ الْأَرْضَ، وَذَهَبَتْ بِالشَّمْسِ، أَوْ الرِّيحِ، أَوْ الِاسْتِحَالَةِ هَلْ تَطْهُرُ الْأَرْضُ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: تَطْهُرُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الدَّلِيلِ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ «عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ الْكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ» ، وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فِي نَعْلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَذًى فَلْيَدْلُكْهُمَا فِي التُّرَابِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ» . وَكَانَ الصَّحَابَةُ: كَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَغَيْرِهِ، يَخُوضُونَ فِي الْوَحْلِ، ثُمَّ يَدْخُلُونَ يُصَلُّونَ بِالنَّاسِ، وَلَا يَغْسِلُونَ أَقْدَامَهُمْ، وَأَوْكَدُ مِنْ هَذَا «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذُيُولِ النِّسَاءِ إذَا أَصَابَتْ أَرْضًا طَاهِرَةً بَعْدَ أَرْضٍ خَبِيثَةٍ: تِلْكَ بِتِلْكَ» وَقَوْلُهُ: «يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ» . وَهَذَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيِّ الَّتِي شَرَحَهَا إبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ، وَهِيَ مِنْ أَجَلِّ الْمَسَائِلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الذُّيُولَ يَتَكَرَّرُ مُلَاقَاتُهَا لِلنَّجَاسَةِ، فَصَارَتْ كَأَسْفَلِ الْخُفِّ وَمَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ. فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ جَعَلَ الْجَامِدَاتِ تُزِيلُ النَّجَاسَةَ عَنْ غَيْرِهَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، كَمَا فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ، وَجَعَلَ الْجَامِدَ طَهُورًا؛ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَاءِ. وَإِذَا كَانَتْ الْجَامِدَاتُ لَا تَنْجُسُ بِمَا اسْتَحَالَ مِنْ النَّجَاسَةِ؛ فَالْمَائِعَاتُ أَوْلَى وَأَحْرَى؛ لِأَنَّ إحَالَتَهَا أَشَدُّ وَأَسْرَعُ.

مسألة فيمن وقع على ثيابه ماء من طاقة ما يدري ما هو

وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَوَاضِعُ غَيْرُ هَذَا، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ الدُّهْنَ يَتَنَجَّسُ بِمَا يَقَعُ فِيهِ، فِي جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، أَظْهَرُهُمَا: جَوَازُ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ، كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَفِي طَهَارَتِهِ بِالْغَسْلِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ: أَحَدُهُمَا: يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ كَمَا اخْتَارَهُ ابْنُ شُرَيْحٍ، وَأَبُو الْخَطَّابِ، وَابْنُ شَعْبَانَ، وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِ، وَالثَّانِي: لَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُهُمْ، وَهَذَا النِّزَاعُ يَجْرِي فِي الدُّهْنِ الْمُتَغَيِّرِ بِالنَّجَاسَةِ، فَإِنَّهُ نَجِسٌ بِلَا رَيْبٍ، فَفِي جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ هَذَا النِّزَاعُ؛ وَكَذَلِكَ فِي غَسْلِهِ هَذَا النِّزَاعُ. وَأَمَّا بَيْعُهُ: فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، لَا مِنْ مُسْلِمٍ وَلَا كَافِرٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعَهُ مِنْ كَافِرٍ، إذَا عَلِمَ بِنَجَاسَتِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ. وَقَدْ خُرِّجَ قَوْلٌ لَهُ بِجَوَازِ بَيْعِهِ مِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ، كَمَا فَعَلَ أَبُو الْخَطَّابِ، وَغَيْرُهُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَ جَوَازَ بَيْعِهِ عَلَى جَوَازِ تَطْهِيرِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ تَطْهِيرُهُ صَارَ كَالثَّوْبِ النَّجَسِ، وَالْإِنَاءِ النَّجَسِ، وَذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وِفَاقًا، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لَهُمْ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ إذَا قَالُوا بِجَوَازِ تَطْهِيرِهِ وَجْهَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُطْلَقًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ وَقَعَ عَلَى ثِيَابِهِ مَاءٌ مِنْ طَاقَةٍ مَا يَدْرِي مَا هُوَ] 29 - 13 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ وَقَعَ عَلَى ثِيَابِهِ مَاءٌ مِنْ طَاقَةٍ مَا يَدْرِي مَا هُوَ، فَهَلْ يَجِبُ غَسْلُهُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: لَا يَجِبُ غَسْلُهُ، بَلْ وَلَا يُسْتَحَبُّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَذَلِكَ لَا يُسْتَحَبُّ السُّؤَالُ عَنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ، فَقَدْ مَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ رَفِيقٍ لَهُ، فَقُطِرَ عَلَى رَفِيقَهْ مَاءٌ مِنْ مِيزَابٍ فَقَالَ صَاحِبُهُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ مَاؤُك طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ؟

مسألة كلب طلع من ماء فانتفض على شيء

فَقَالَ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ لَا تُخْبِرُهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ كَلْب طَلَعَ مِنْ مَاءٍ فَانْتَفَضَ عَلَى شَيْءٍ] 30 - 14 - مَسْأَلَةٌ: فِي كَلْبٍ طَلَعَ مِنْ مَاءٍ فَانْتَفَضَ عَلَى شَيْءٍ، فَهَلْ يَجِبُ تَسْبِيعُهُ؟ الْجَوَابُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: يَجِبُ تَسْبِيعُهُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لَا يَجِبُ تَسْبِيعُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْفَخَّار الَّذِي يُشْوَى بِالنَّجَاسَةِ] 31 - 15 - مَسْأَلَةٌ: فِي الْفَخَّارِ فَإِنَّهُ يُشْوَى بِالنَّجَاسَةِ فَمَا حُكْمُهُ، وَالْأَفْرَانِ الَّتِي تُسَخَّنُ بِالزِّبْلِ فَمَا حُكْمُهَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: السِّرْقِينُ النَّجِسُ، وَنَحْوُهُ فِي الْوُقُودِ لِيُسَخِّنَ الْمَاءَ أَوْ الطَّعَامَ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ: إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مُلَابَسَةَ النَّجَاسَةِ وَمُبَاشَرَتَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ النَّجَاسَةِ لَا يَحْرُمُ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَظِنَّةُ التَّلَوُّثِ بِهَا، وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ الِاسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ النَّجَسِ، فَإِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَهُ بِالْإِتْلَافِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ، وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ عَنْهُ، وَعَنْ غَيْرِهِ: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ التَّلَوُّثِ بِهِ، وَلِكَرَاهَةِ دُخَانِ النَّجَاسَةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَبَائِثَ مِنْ الدَّمِ، وَالْمَيْتَةِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا حَرُمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا» .

ثُمَّ إنَّهُ حَرَّمَ لُبْسَهَا قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ: «كُنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» . فَإِنَّ الرُّخْصَةَ مُتَقَدِّمَةٌ كَانَتْ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْجُلُودِ بِلَا دِبَاغٍ، كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ، فَرُفِعَ النَّهْيُ عَمَّا أَرْخَصَ، فَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ فَلَمْ يُنْهِ عَنْهُ قَطُّ، وَلِهَذَا كَانَ آخَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ: إنَّ الدِّبَاغَ مُطَهِّرٌ لِجُلُودِ الْمَيْتَةِ، لَكِنْ هَلْ يَقُومُ مَقَامَ الذَّكَاةِ، أَوْ مَقَامَ الْحَيَاةِ فَيَطْهُرُ جِلْدُ الْمَأْكُولِ، أَوْ جِلْدُ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ دُونَ مَا سِوَى ذَلِكَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ، فَيَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ مَا تُطَهِّرُهُ الذَّكَاةُ، لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثٍ عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ الْخَمْرِ فِي إطْفَاءِ الْحَرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، سَلَّمَهُ الْمُنَازَعُونَ، مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ بِمُجَانَبَةِ الْخَمْرِ أَعْظَمُ، فَإِذَا جَازَ إتْلَافُ الْخَمْرِ بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ، فَإِتْلَافُ النَّجَاسَاتِ بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُمْ سَلَّمُوا جَوَازَ طَعَامِ الْمَيْتَةِ لِلْبُزَاةِ وَالصُّقُورِ فَاسْتِعْمَالُهَا فِي النَّارِ أَوْلَى، وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: هَذَا مَظِنَّةُ مُلَابَسَتِهَا، فَيُقَالُ: مُلَابَسَةُ النَّجَاسَةِ لِلْحَاجَةِ جَائِزٌ إذَا طَهُرَ بَدَنُهُ وَثِيَابُهُ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، كَمَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ مَعَ مُبَاشَرَةِ النَّجَاسَةِ، وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ يُكْرَهُ ذَلِكَ بَلْ يَسْتَعْمِلُ الْحَجَرَ، أَوْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْمَاءِ أَفْضَلُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُبَاشَرَتُهَا.

وَفِي اسْتِعْمَالِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا لَمْ يَقُلْ بِطَهَارَتِهَا فِي الْيَابِسَاتِ رِوَايَتَانِ: أَصَحُّهُمَا جَوَازُ ذَاكَ، وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ يُكْرَهُ فَالْكَرَاهَةُ تَزُولُ بِالْحَاجَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَذَا يُفْضِي إلَى التَّلَوُّثِ بِدُخَانِ النَّجَاسَةِ، فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ النَّجَاسَةَ فِي الْمَلَّاحَةِ إذَا صَارَتْ مِلْحًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهَلْ هِيَ نَجِسَةٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْخِنْزِيرِ الْمَشْوِيِّ فِي التَّنُّورِ، هَلْ تُطَهِّرُ النَّارُ مَا لَصِقَ بِهِ، أَمْ يَحْتَاجُ إلَى غَسْلِ مَا أَصَابَهُ مِنْهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: هِيَ نَجِسَةٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَا يَطْهُرُ مِنْ النَّجَاسَةِ بِالِاسْتِحَالَةِ إلَّا الْخَمْرَةُ الْمُنْتَقِلَةُ بِنَفْسِهَا، وَالْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ إذَا قِيلَ إنَّ الدَّبْغَ إحَالَةٌ لَا إزَالَةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الْمَالِكِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ: إنَّهَا لَا تَبْقَى نَجِسَةٌ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا نَصُّ التَّحْرِيمِ، لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى؛ وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَى النُّصُوصِ؛ بَلْ هِيَ أَعْيَانٌ طَيِّبَةٌ فَيَتَنَاوَلُهَا نَصُّ التَّحْلِيلِ، وَهِيَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ الْخَمْرِ الْمُنْقَلِبَةِ بِنَفْسِهَا. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْفَرْقِ بِأَنَّ الْخَمْرَ نُجِّسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَتَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ، بَاطِلٌ، فَإِنَّ جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ إنَّمَا نُجِّسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ كَالدَّمِ، فَإِنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَنْ الْغِذَاءِ الطَّاهِرِ، وَكَذَلِكَ الْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ، حَتَّى الْحَيَوَانُ النَّجَسُ مُسْتَحِيلٌ عَنْ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الطَّاهِرَاتِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ طَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ. فَإِنَّ نَفْسَ النَّجَسِ لَمْ يَطْهُرْ، لَكِنْ اسْتَحَالَ، وَهَذَا الطَّاهِرُ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ النَّجَسُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِيلًا مِنْهُ، وَالْمَادَّةُ وَاحِدَةٌ، كَمَا أَنَّ الْمَاءَ لَيْسَ هُوَ الزَّرْعُ، وَالْهَوَاءُ، وَالْحَبُّ، وَتُرَابُ الْمَقْبَرَةِ لَيْسَ هُوَ الْمَيِّتُ، وَالْإِنْسَانُ لَيْسَ هُوَ الْمَنِيُّ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ أَجْسَامَ الْعَالَمِ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَيُحِيلُ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ، وَهِيَ تُبَدَّلُ مِنْ الْحَقَائِقِ، لَيْسَ هَذَا هَذَا، فَكَيْفَ يَكُونُ الرَّمَادُ هُوَ الْعَظْمَ الْمَيِّتَ،

مسألة الكلب هل هو طاهر أم نجس

وَاللَّحْمَ، وَالدَّمَ نَفْسَهُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْعَظْمِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ هُوَ هُوَ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَالْمَادَّةِ، فَهَذَا لَا يَضُرُّ، فَإِنَّ التَّحْرِيمَ يَتْبَعُ الِاسْمَ وَالْمَعْنَى الَّذِي هُوَ الْخَبَثُ، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ. وَعَلَى هَذَا فَدُخَانُ النَّارِ الْمُوقَدَةِ بِالنَّجَاسَةِ طَاهِرٌ، وَبُخَارُ الْمَاءِ النَّجَسِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِي السَّقْفِ طَاهِرٌ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهَذَا الْفَخَّارُ طَاهِرٌ، إذْ لَيْسَ فِيهِ مِنْ النَّجَاسَةِ شَيْءٌ، وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ خَالَطَهُ مِنْ دُخَانِهَا، خَرَجَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ طَاهِرٌ. وَأَمَّا نَفْسُ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَالنِّزَاعُ فِي الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ بِالنَّجَاسَةِ، فَإِنَّهُ طَاهِرٌ. لَكِنْ هَلْ يُكْرَهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: إحْدَاهُمَا لَا يُكْرَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: يُكْرَهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَلِلْكَرَاهَةِ مَأْخَذَانِ. أَحَدُهُمَا: خَشْيَةُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَصَلَ إلَى الْمَاءِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ، فَيُكْرَهُ لِاحْتِمَالِ تَنَجُّسِهِ، فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ بَيْنَ الْمُوقَدِ وَبَيْنَ النَّارِ حَاجِزٌ حَصِينٌ لَمْ يُكْرَهُ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَابْنِ عَقِيلٍ، وَغَيْرِهِمَا. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ سَبَبَ الْكَرَاهَةِ كَوْنُ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ مَكْرُوهًا؛ وَإِنَّ السُّخُونَةَ حَصَلَتْ بِفِعْلٍ مَكْرُوهٍ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَمِثْلُ هَذَا طَبْخُ الطَّعَامِ بِالْوَقُودِ النَّجَسِ؛ فَإِنْ نَضِجَ الطَّعَامُ كَسُخُونَةِ الْمَاءِ؛ وَالْكَرَاهَةُ فِي طَبْخِ الْفَخَّارِ بِالْوَقُودِ النَّجَسِ تُشْبِهُ تَسْخِينَ الْمَاءِ الَّذِي لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ حَاجِزٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْكَلْب هَلْ هُوَ طَاهِرٌ أَمْ نَجَسٌ] 32 - 16 - مَسْأَلَةٌ: فِي الْكَلْبِ هَلْ هُوَ طَاهِرٌ أَمْ نَجَسٌ؟ وَمَا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا الْكَلْبُ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ.

أَحَدُهُمَا: إنَّهُ نَجَسٌ كُلُّهُ حَتَّى شَعْرُهُ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَالثَّانِي: إنَّهُ طَاهِرٌ حَتَّى رِيقُهُ، كَقَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَالثَّالِثُ: إنَّ رِيقَهُ نَجَسٌ وَإِنَّ شَعْرَهُ طَاهِرٌ؛ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ؛ وَلَهُ فِي الشُّعُورِ النَّابِتَةِ عَلَى مَحَلٍّ نَجَسٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهَا: إنَّ جَمِيعَهَا طَاهِرٌ حَتَّى شَعْرُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ؛ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالثَّانِيَةُ: إنَّ جَمِيعَهَا نَجَسٌ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَالثَّالِثَةُ: أَنَّ شَعْرَ الْمَيْتَةِ إنْ كَانَتْ طَاهِرَةً فِي الْحَيَاةِ طَاهِرَةٌ كَالشَّاةِ وَالْفَأْرَةِ، وَشَعْرُ مَا هُوَ نَجَسٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ نَجَسٌ كَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَهِيَ الْمَنْصُورَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ. وَالْقَوْلُ الرَّاجِحُ هُوَ: طَهَارَةُ الشُّعُورِ كُلِّهَا: الْكَلْبُ، وَالْخِنْزِيرُ، وَغَيْرُهُمَا بِخِلَافِ الرِّيقِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ شَعْرُ الْكَلْبِ رَطْبًا، وَأَصَابَ ثَوْبَ الْإِنْسَانِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ؛ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ، فَلَا يَجُوزُ تَنْجِيسُ شَيْءٍ وَلَا تَحْرِيمُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» .

وَفِي السُّنَنِ: عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ مَرْفُوعًا؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا: أَنَّهُ قَالَ: «الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ» . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعًا أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ» . فَأَحَادِيثُهُ كُلُّهَا لَيْسَ فِيهَا إلَّا ذِكْرُ الْوُلُوغِ؛ لَمْ يَذْكُرْ سَائِرَ الْأَجْزَاءِ، فَتَنْجِيسُهَا إنَّمَا هُوَ بِالْقِيَاسِ. فَإِذَا قِيلَ: إنَّ الْبَوْلَ أَعْظَمُ مِنْ الرِّيقِ، كَانَ هَذَا مُتَوَجِّهًا. وَأَمَّا إلْحَاقُ الشَّعْرِ بِالرِّيقِ فَلَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ الرِّيقَ مُتَحَلِّلٌ مِنْ بَاطِنِ الْكَلْبِ، بِخِلَافِ الشَّعْرِ، فَإِنَّهُ نَابِتٌ عَلَى ظَهْرِهِ، وَالْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا؛ فَإِنَّ جُمْهُورَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ شَعْرَ الْمَيْتَةِ طَاهِرٌ بِخِلَافِ رِيقِهَا، وَالشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الزَّرْعَ النَّابِتَ فِي الْأَرْضِ النَّجِسَةِ طَاهِرٌ، فَغَايَةُ شَعْرِ الْكَلْبِ أَنْ يَكُونَ نَابِتًا فِي مَنْبَتٍ نَجَسٍ: كَالزَّرْعِ النَّابِتِ فِي الْأَرْضِ النَّجِسَةِ، فَإِذَا كَانَ الزَّرْعُ طَاهِرًا، فَالشَّعْرُ أَوْلَى بِالطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ فِيهِ أَثَرُ النَّجَاسَةِ، بِخِلَافِ الشَّعْرِ فَإِنَّ فِيهِ مِنْ الْيُبُوسَةِ وَالْجُمُودِ مَا يَمْنَعُ ظُهُورَ ذَلِكَ. فَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: كَابْنِ عَقِيلٍ، وَغَيْرِهِ: إنَّ الزَّرْعَ طَاهِرٌ، فَالشَّعْرُ أَوْلَى، وَمَنْ قَالَ: إنَّ الزَّرْعَ نَجَسٌ، فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرَهُ. فَإِنَّ الزَّرْعَ يُلْحَقُ بِالْجَلَّالَةِ الَّتِي تَأْكُلُ النَّجَاسَةَ فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا، فَإِذَا حُبِسَتْ

مسألة عظم الميتة وقرنها وظفرها وريشها

حَتَّى تَطِيبَ كَانَتْ حَلَالًا: بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ ذَلِكَ يَظْهَرُ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فِي لَبَنِهَا، وَبِيضِهَا، وَعِرْقِهَا، فَيَظْهَرُ نَتْنُ النَّجَاسَةِ وَخَبَثُهَا، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ عَادَتْ طَاهِرَةً، فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا، وَالشَّعْرُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ النَّجَاسَةِ أَصْلًا، فَلَمْ يَكُنْ لِتَنْجِيسِهِ مَعْنًى، وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْكَلَامِ فِي شُعُورِ الْمَيْتَةِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكُلُّ حَيَوَانٍ قِيلَ بِنَجَاسَتِهِ، فَالْكَلَامُ فِي شَعْرِهِ وَرِيشِهِ كَالْكَلَامِ فِي شَعْرِ الْكَلْبِ، فَإِذَا قِيلَ بِنَجَاسَةِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ، إلَّا الْهِرَّ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ: عُلَمَاءُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي رِيشِ ذَلِكَ وَشَعْرِهِ فِيهِ هَذَا النِّزَاعُ، هَلْ هُوَ نَجَسٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. إحْدَاهُمَا: إنَّهُ طَاهِرٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: إنَّهُ نَجَسٌ، كَمَا هُوَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَالْقَوْلُ بِطَهَارَةِ ذَلِكَ هُوَ الصَّوَابُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَيْضًا «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ فِي اقْتِنَاءِ كَلْبِ الصَّيْدِ، وَالْمَاشِيَةِ، وَالْحَرْثِ» ، وَلَا بُدَّ لِمَنْ اقْتَنَاهَا أَنْ يُصِيبَهُ رُطُوبَةُ شُعُورِهَا، كَمَا يُصِيبُهُمْ رُطُوبَةُ الْبَغْلِ، وَالْحِمَارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ بِنَجَاسَةِ شُعُورِهَا، وَالْحَالُ هَذِهِ مِنْ الْحَرَجِ الْمَرْفُوعِ عَنْ الْأُمَّةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ لُعَابَ الْكَلْبِ إذَا أَصَابَ الصَّيْدَ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِغَسْلِ ذَلِكَ، فَقَدْ عَفَا عَنْ الْكَلْبِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ، وَأَمَرَ بِغَسْلِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَاجَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ رَاعَى مَصْلَحَةَ الْخَلْقِ وَحَاجَتَهُمْ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ عَظْم الْمَيْتَةِ وَقَرْنهَا وَظُفُرهَا وَرِيشهَا] 33 - 17 - مَسْأَلَةٌ: فِي عَظْمِ الْمَيْتَةِ، وَقَرْنِهَا وَظُفُرِهَا، وَرِيشِهَا: هَلْ هُوَ طَاهِرٌ، أَمْ نَجَسٌ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟

الْجَوَابُ: أَمَّا عَظْمُ الْمَيْتَةِ، وَقَرْنُهَا وَظُفُرُهَا، وَمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ: كَالْحَافِرِ، وَنَحْوِهِ، وَشَعْرُهَا، وَرِيشُهَا وَوَبَرُهَا: فَفِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: نَجَاسَةُ الْجَمِيعِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَشْهُورِ، وَذَلِكَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَالثَّانِي: إنَّ الْعِظَامَ وَنَحْوَهَا نَجِسَةٌ، وَالشُّعُورَ وَنَحْوَهَا طَاهِرَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ. وَالثَّالِثُ: إنَّ الْجَمِيعَ طَاهِرٌ: كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الطَّهَارَةُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى النَّجَاسَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ هِيَ مِنْ الطَّيِّبَاتِ، لَيْسَتْ مِنْ الْخَبَائِثِ، فَتَدْخُلُ فِي آيَةِ التَّحْلِيلِ؛ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ الْخَبَائِثِ لَا لَفْظًا، وَلَا مَعْنًى أَمَّا اللَّفْظُ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] لَا يَدْخُلُ فِيهَا الشُّعُورُ وَمَا أَشْبَهَهَا؛ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ ضِدُّ الْحَيِّ، وَالْحَيَاةُ نَوْعَانِ: حَيَاةُ الْحَيَوَانِ وَحَيَاةُ النَّبَاتِ، فَحَيَاةُ الْحَيَوَانِ خَاصَّتُهَا الْحِسُّ، وَالْحَرَكَةُ الْإِرَادِيَّةُ، وَحَيَاةُ النَّبَاتِ النُّمُوُّ وَالِاغْتِذَاءُ. وَقَوْلُهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] إنَّمَا هُوَ بِمَا فَارَقَتْهُ الْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ، دُونَ النَّبَاتِيَّةِ، فَإِنَّ الزَّرْعَ وَالشَّجَرَ إذَا يَبُسَ لَمْ يَنْجُسْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ تَمُوتُ الْأَرْضُ وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ نَجَاسَتَهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا الْمَيْتَةُ الْمُحَرَّمَةُ: مَا كَانَ فِيهَا الْحِسُّ وَالْحَرَكَةُ الْإِرَادِيَّةُ، وَأَمَّا الشَّعْرُ فَإِنَّهُ يَنْمُو، وَيَغْتَذِي، وَيَطُولُ كَالزَّرْعِ، وَالزَّرْعُ لَيْسَ فِيهِ حِسٌّ وَلَا يَتَحَرَّكُ بِإِرَادَةٍ، وَلَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ حَتَّى يَمُوتَ بِمُفَارَقَتِهَا، وَلَا وَجْهَ لِتَنْجِيسِهِ. وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَ الشَّعْرُ جُزْءًا مِنْ الْحَيَوَانِ، لَمَا أُبِيحَ أَخْذُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ قَوْمٍ يَجُبُّونَ أَسْنِمَةَ الْإِبِلِ، وَأَلْيَاتِ الْغَنَمِ فَقَالَ:

مَا أُبِينَ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَلَوْ كَانَ حُكْمُ الشَّعْرِ حُكْمَ السَّنَامِ وَالْأَلْيَةِ، لَمَا جَازَ قَطْعُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ وَالصُّوفَ إذَا جُزَّ مِنْ الْحَيَوَانِ كَانَ حَلَالًا طَاهِرًا عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَ اللَّحْمِ. وَأَيْضًا: فَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى شَعْرَهُ لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَنْجِي وَيَسْتَجْمِرُ» ، فَمَنْ سَوَّى بَيْنَ الشَّعْرِ، وَالْبَوْلِ، وَالْعَذِرَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً مُبِينًا، وَأَمَّا الْعِظَامُ وَنَحْوُهَا: فَإِذَا قِيلَ: إنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّهَا تَنْجُسُ، قِيلَ لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ: أَنْتُمْ لَمْ تَأْخُذُوا بِعُمُومِ اللَّفْظِ، فَإِنَّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ كَالذُّبَابِ، وَالْعَقْرَبِ، وَالْخُنْفُسَاءِ لَا يَنْجُسُ عِنْدَكُمْ وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، مَعَ أَنَّهَا مَيْتَةٌ مَوْتًا حَيَوَانِيًّا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءٌ، وَفِي الْآخَرُ شِفَاءٌ» ، وَمَنْ نَجَّسَ هَذَا قَالَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: إنَّهُ لَا يُنَجِّسُ الْمَائِعَاتِ الْوَاقِعَةَ فِيهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ عِلَّةَ نَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ إنَّمَا هُوَ احْتِبَاسُ الدَّمِ فِيهَا، فَمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ لَيْسَ فِيهِ دَمٌ سَائِلٌ، فَإِذَا مَاتَ لَمْ يَحْتَبِسْ فِيهِ الدَّمُ فَلَا يَنْجُسُ، فَالْعَظْمُ وَنَحْوُهُ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنْجِيسِ مِنْ هَذَا، فَإِنَّ الْعَظْمَ لَيْسَ فِيهِ دَمٌ سَائِلٌ، وَلَا كَانَ مُتَحَرِّكًا بِالْإِرَادَةِ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ. فَإِذَا كَانَ الْحَيَوَانُ الْكَامِلُ الْحَسَّاسُ الْمُتَحَرِّكُ بِالْإِرَادَةِ لَا يَنْجُسُ، لِكَوْنِهِ لَيْسَ فِيهِ دَمٌ سَائِلٌ، فَكَيْفَ يَنْجُسُ الْعَظْمُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ دَمٌ سَائِلٌ

وَمِمَّا يُبَيِّنُ صِحَّةَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الدَّمَ الْمَسْفُوحَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] . فَإِذَا عَفَى عَنْ الدَّمِ غَيْرِ الْمَسْفُوحِ، مَعَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الدَّمِ، حَيْثُ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَّقَ بَيْنَ الدَّمِ الَّذِي يَسِيلُ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَلِهَذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَصْنَعُونَ اللَّحْمَ فِي الْمَرَقِ، وَخُيُوطُ الدَّمِ فِي الْقِدْرِ تَبِينُ، وَيَأْكُلُونَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَلَوْلَا هَذَا لَاسْتَخْرَجُوا الدَّمَ مِنْ الْعُرُوقِ كَمَا يَفْعَلُ الْيَهُودُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، أَوْ لِسَبَبٍ غَيْرِ جَارِحٍ مُحَدَّدٍ: كَالْمَوْقُوذَةِ، وَالْمُتَرَدِّيَةِ، وَالنَّطِيحَةِ، «وَحَرَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا صِيدَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْمِعْرَاضِ، وَقَالَ: إنَّهُ وَقِيذٌ» . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إنَّمَا هُوَ سَفْحُ الدَّمِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ التَّنْجِيسِ هُوَ: احْتِقَانُ الدَّمِ وَاحْتِبَاسُهُ، وَإِذَا سُفِحَ بِوَجْهٍ خَبِيثٍ: بِأَنْ يَذْكُرَ عَلَيْهِ غَيْرَ اسْمِ اللَّهِ، كَانَ الْخُبْثُ هُنَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَإِنَّ التَّحْرِيمَ تَارَةً لِوُجُودِ الدَّمِ، وَتَارَةً لِفَسَادِ التَّذْكِيَةِ: كَذَكَاةِ الْمَجُوسِيِّ، وَالْمُرْتَدِّ، وَالذَّكَاةِ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْعَظْمُ وَالظُّفُرُ، وَالْقَرْنُ وَالظِّلْفُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، لَيْسَ فِيهِ دَمٌ مَسْفُوحٌ، فَلَا وَجْهَ لِتَنْجِيسِهِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ خِيَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَتَمَشَّطُونَ بِأَمْشَاطٍ مِنْ عِظَامِ الْفِيلِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الْعَاجِ حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ، لَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ، فَإِنَّا لَا نَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ.

وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ: هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ. قَالُوا: إنَّهَا مَيْتَةٌ. قَالَ: إنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا» . وَلَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ ذِكْرُ الدِّبَاغِ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَامَّةُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ، وَلَكِنْ ذَكَرَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَقَدْ طَعَنَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ذَلِكَ، وَأَشَارَ إلَى غَلَطِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِيهِ، وَذَكَرَ أَنَّ الزُّهْرِيَّ وَغَيْرَهُ كَانُوا يُبِيحُونَ الِانْتِفَاعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ بِلَا دِبَاغٍ، لِأَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَحِينَئِذٍ فَهَذَا النَّصُّ يَقْتَضِي جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ الدَّبْغِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، لَكِنْ إذَا قِيلَ: إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ الِانْتِفَاعَ بِالْجُلُودِ حَتَّى تُدْبَغَ، أَوْ قِيلَ: إنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، لَمْ يَلْزَمْ تَحْرِيمُ الْعِظَامِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ جُزْءٌ مِنْ الْمَيْتَةِ فِيهِ الدَّمُ كَمَا فِي سَائِرِ أَجْزَائِهِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ ذَكَاتَهُ دِبَاغَهُ؛ لِأَنَّ الدَّبْغَ يُنَشِّفُ رُطُوبَاتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ التَّنْجِيسِ هُوَ الرُّطُوبَاتُ، وَالْعَظْمُ لَيْسَ فِيهِ نَفْسٌ سَائِلَةٌ، وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْهَا فَإِنَّهُ يَجِفُّ وَيَيْبَسُ، وَهِيَ تَبْقَى وَتُحْفَظُ أَكْثَرَ مِنْ الْجِلْدِ، فَهِيَ أَوْلَى بِالطَّهَارَةِ مِنْ الْجِلْدِ، وَالْعُلَمَاءُ تَنَازَعُوا فِي الدِّبَاغِ هَلْ يُطَهِّرُ؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا: أَنَّهُ لَا يُطَهِّرُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْجُمْهُورِ: أَنَّهُ يُطَهِّرُ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ رَجَعَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ عَنْدَ التِّرْمِذِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُكَيْمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَاهُمْ أَنْ يَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ، بَعْدَ أَنْ كَانَ أَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، لَكِنْ هَذَا قَدْ يَكُونُ قَبْلَ الدِّبَاغِ، فَيَكُونُ قَدْ رَخَّصَ، فَإِنَّ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ بَيَّنَ أَنَّهُ قَدْ رَخَّصَ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، فَيَكُونُ قَدْ رَخَّصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ثُمَّ لَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا قَبْلَ الدِّبَاغِ نَهَاهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ

فصل لبن الميتة وإنفحتها

ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ إنَّ الْإِهَابَ اسْمٌ كَمَا لَا يُدْبَغُ، وَلِهَذَا قَرَنَ مَعَهُ الْعَصَبَ، وَالْعَصَبُ لَا يُدْبَغُ. [فَصْلٌ لَبَنُ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتهَا] فَصْلٌ وَأَمَّا لَبَنُ الْمَيْتَةِ، وَإِنْفَحَتهَا، فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ طَاهِرٌ: كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَالثَّانِي: إنَّهُ نَجَسٌ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ. وَعَلَى هَذَا النِّزَاعِ انْبَنَى نِزَاعُهُمْ فِي جُبْنِ الْمَجُوسِ، فَإِنَّ ذَبَائِحَ الْمَجُوسِ حَرَامٌ عِنْدَ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، فَإِذَا صَنَعُوا جُبْنًا، وَالْجُبْنُ يُصْنَعُ بِالْإِنْفَحَةِ، كَانَ فِيهِ هَذَانِ الْقَوْلَانِ. وَالْأَظْهَرُ: أَنَّ إنْفَحَةَ الْمَيْتَةِ وَلَبَنَهَا طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا فَتَحُوا بِلَادَ الْعِرَاقِ أَكَلُوا مِنْ جُبْنِ الْمَجُوسِ، وَكَانَ هَذَا ظَاهِرًا سَائِغًا بَيْنَهُمْ، وَمَا يُنْقَلُ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ كَرَاهَةِ ذَلِكَ فَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ مِنْ نَقْلِ بَعْضِ الْحِجَازِيِّينَ وَفِيهِ نَظَرٌ - وَأَهْلُ الْعِرَاقِ كَانُوا أَعْلَمَ بِهَذَا، فَإِنَّ الْمَجُوسَ كَانُوا بِبِلَادِهِمْ، وَلَمْ يَكُونُوا بِأَرْضِ الْحِجَازِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ كَانَ نَائِبَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى الْمَدَائِنِ، وَكَانَ يَدْعُو الْفُرْسَ إلَى الْإِسْلَامِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ السَّمْنِ، وَالْجُبْنِ، وَالْفِرَاءِ، فَقَالَ: «الْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ» . وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ السُّؤَالُ عَنْ جُبْنِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ بَيِّنٌ. وَإِنَّمَا كَانَ السُّؤَالُ عَنْ جُبْنِ الْمَجُوسِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَلْمَانَ كَانَ يُفْتِي بِحِلِّهَا، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْقَطَعَ النِّزَاعُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

مسألة في السواك وتسريح اللحية في المسجد

وَأَيْضًا فَاللَّبَنُ، وَالْإِنْفَحَةُ لَمْ يَمُوتَا، وَإِنَّمَا نَجَّسَهَا مَنْ نَجَّسَهَا لِكَوْنِهَا فِي وِعَاءٍ نَجَسٍ، فَتَكُونُ مَائِعًا فِي وِعَاءٍ نَجَسٍ، فَالنَّجَسُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدَّمَتَيْنِ: عَلَى أَنَّ الْمَائِعَ لَاقَى وِعَاءً نَجِسًا، وَعَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ نَجِسًا، فَيُقَالُ أَوَّلًا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَائِعَ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السُّنَّةَ دَلَّتْ عَلَى طَهَارَتِهِ لَا عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَيُقَالُ ثَانِيًا: الْمُلَاقَاةُ فِي الْبَاطِنِ لَا حُكْمَ لَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] . وَلِهَذَا يَجُوزُ حَمْلُ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ مَا فِي بَاطِنِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي السِّوَاكِ وَتَسْرِيحِ اللِّحْيَةِ فِي الْمَسْجِدِ] 34 - 18 - مَسْأَلَةٌ: فِي السِّوَاكِ، وَتَسْرِيحِ اللِّحْيَةِ فِي الْمَسْجِدِ، هَلْ هُوَ جَائِزٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: أَمَّا السِّوَاكُ فِي الْمَسْجِدِ، فَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ كَرِهَهُ، بَلْ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَسْتَاكُونَ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَبْصُقَ الرَّجُلُ فِي ثِيَابِهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَمْتَخِطَ فِي ثِيَابِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتَةِ عَنْهُ، بَلْ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ فِي الْمَسْجِدِ بِلَا كَرَاهَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: فَإِذَا جَازَ الْوُضُوءُ فِيهِ، مَعَ أَنَّ الْوُضُوءَ يَكُونُ فِيهِ السِّوَاكُ وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ، وَالصَّلَاةُ يَسْتَاكُ عِنْدَهَا، فَكَيْفَ يُكْرَهُ السِّوَاكُ؟ وَإِذَا جَازَ الْبُصَاقُ وَالِامْتِخَاطُ فِيهِ، فَكَيْفَ يُكْرَهُ السِّوَاكُ؟ وَأَمَّا التَّسْرِيحُ فَإِنَّمَا كَرِهَهُ بَعْضُ النَّاسِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَعْرَ الْإِنْسَانِ الْمُنْفَصِلَ نَجِسٌ، وَيُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ شَيْءٌ نَجِسٌ، أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَالْقَذَاةِ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ شَعْرَ الْإِنْسَانِ الْمُنْفَصِلَ عَنْهُ طَاهِرٌ: كَمَذْهَبِ مَالِكٍ،

مسألة المرأة هل تختن أم لا

وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ رَأْسَهُ وَأَعْطَى نِصْفَهُ لِأَبِي طَلْحَةَ، وَنِصْفَهُ قَسَمَهُ بَيْنَ النَّاسِ» ، وَبَابُ الطَّهَارَةِ، وَالنَّجَاسَةِ يُشَارِكُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ أُمَّتَهُ، بَلْ الْأَصْلُ أَنَّهُ أُسْوَةٌ لَهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، إلَّا مَا قَامَ فِيهِ دَلِيلٌ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ بِهِ. وَأَيْضًا الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّ شُعُورَ الْمَيْتَةِ طَاهِرَةٌ، بَلْ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ جَمِيعَ الشُّعُورِ طَاهِرَةٌ حَتَّى شَعْرُ الْخِنْزِيرِ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ إذَا سَرَّحَ شَعْرَهُ وَجَمَعَ الشَّعْرَ فَلَمْ يَتْرُكْ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَأَمَّا تَرْكُ شَعْرِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَهَذَا يُكْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَجِسًا، فَإِنَّ الْمَسْجِدَ يُصَانُ حَتَّى عَنْ الْقَذَاةِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْعَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَة هَلْ تُخْتَنُ أَمْ لَا] 35 - 19 - مَسْأَلَةٌ: فِي الْمَرْأَةِ هَلْ تُخْتَنُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَعَمْ تُخْتَنُ، وَخِتَانُهَا: أَنْ تُقْطَعَ أَعْلَى الْجِلْدَةِ الَّتِي كَعُرْفِ الدِّيكِ. «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِلْخَافِضَةِ - وَهِيَ الْخَاتِنَةُ: أَشِمِّي وَلَا تُنْهِكِي فَإِنَّهُ أَبْهَى لِلْوَجْهِ وَأَحْظَى لَهَا عِنْدَ الزَّوْجِ» يَعْنِي: لَا تُبَالِغِي فِي الْقَطْعِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِخِتَانِ الرَّجُلِ تَطْهِيرُهُ مِنْ النَّجَاسَةِ الْمُحْتَقِنَةِ فِي الْقُلْفَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ خِتَانِ الْمَرْأَةِ تَعْدِيلُ شَهْوَتِهَا، فَإِنَّهَا إذَا كَانَتْ قَلْفَاءَ كَانَتْ مُغْتَلِمَةً شَدِيدَةَ الشَّهْوَةِ. وَلِهَذَا يُقَالُ فِي الْمُشَاتَمَةِ: يَا ابْنَ الْقَلْفَاءِ، فَإِنَّ الْقَلْفَاءَ تَتَطَلَّعُ إلَى الرِّجَالِ أَكْثَرَ، وَلِهَذَا مِنْ الْفَوَاحِشِ فِي نِسَاءِ التَّتَرِ، وَنِسَاءِ الْإِفْرِنْجِ، مَا لَا يُوجَدُ فِي نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ،

مسألة بالغ عاقل يصوم ويصلي وهو غير مختون ولا مطهرا

وَإِذَا حَصَلَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْخِتَانِ ضَعُفَتْ الشَّهْوَةُ، فَلَا يَكْمُلُ مَقْصُودُ الرَّجُلِ، فَإِذَا قُطِعَ مِنْ غَيْرِ مُبَالَغَةٍ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِاعْتِدَالٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ بَالِغٌ عَاقِلٌ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَهُوَ غَيْرُ مَخْتُونٍ وَلَا مُطَهَّرًا] 36 - 20 - مَسْأَلَةٌ: مُسْلِمٌ بَالِغٌ، عَاقِلٌ، يَصُومُ وَيُصَلِّ وَهُوَ غَيْرُ مَخْتُونٍ، وَلَيْسَ مُطَهَّرًا، هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَمَنْ تَرَكَ الْخِتَانَ كَيْفَ حُكْمُهُ؟ الْجَوَابُ: إذَا لَمْ يَخَفْ عَلَيْهِ ضَرَرَ الْخِتَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَتِنَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ مُؤَكَّدٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَقَدْ اخْتَتَنَ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ ثَمَانِينَ مِنْ عُمُرِهِ، وَيَرْجِعُ فِي الضَّرَرِ إلَى الْأَطِبَّاءِ الثِّقَاتِ، وَإِذَا كَانَ يَضُرُّهُ فِي الصَّيْفِ أَخَّرَهُ إلَى زَمَانِ الْخَرِيفِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْخِتَان مَتَى يَكُونُ] 37 - 21 - مَسْأَلَةٌ: فِي الْخِتَانِ مَتَى يَكُونُ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا الْخِتَانُ فَمَتَى شَاءَ اخْتَتَنَ، لَكِنْ إذَا رَاهَقَ الْبُلُوغَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُخْتَنَ كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُ، لِئَلَّا يَبْلُغَ إلَّا وَهُوَ مَخْتُونٌ، وَأَمَّا الْخِتَانُ فِي السَّابِعِ فَفِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: قِيلَ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ خَتَنَ إِسْحَاقَ فِي السَّابِعِ. وَقِيلَ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ الْيَهُودِ فَيُكْرَهُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ كَمْ مِقْدَارُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ حَتَّى يَحْلِقَ عَانَتَهُ] 38 - 22 - مَسْأَلَةٌ: كَمْ مِقْدَارُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ حَتَّى يَحْلِقَ عَانَتَهُ الْجَوَابُ: عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَقَّتَ لَهُمْ فِي حَلْقِ

مسألة كان جنبا وقص ظفره أو شاربه أو مشط رأسه

الْعَانَةِ، وَنَتْفِ الْإِبْطِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ أَنْ لَا يُتْرَكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ جُنُبًا وَقَصَّ ظُفُرَهُ أَوْ شَارِبَهُ أَوْ مَشَّطَ رَأْسَهُ] 39 - 23 - مَسْأَلَةٌ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ جُنُبًا، وَقَصَّ ظُفُرَهُ، أَوْ شَارِبَهُ، أَوْ مَشَّطَ رَأْسَهُ، هَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ؟ فَقَدْ أَشَارَ بَعْضُهُمْ إلَى هَذَا، وَقَالَ: إذَا قَصَّ الْجُنُبُ شَعْرَهُ، أَوْ ظُفُرَهُ فَإِنَّهُ تَعُودُ إلَيْهِ أَجْزَاؤُهُ فِي الْآخِرَةِ، فَيَقُومُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ قِسْطٌ مِنْ الْجَنَابَةِ بِحَسَبِ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَى كُلِّ شَعْرَةٍ قِسْطٌ مِنْ الْجَنَابَةِ، فَهَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ لَهُ الْجُنُبُ، فَقَالَ: «إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ» . وَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ: «حَيًّا وَلَا مَيِّتًا» . وَمَا أَعْلَمُ عَلَى كَرَاهِيَةِ إزَالَةِ شَعْرِ الْجُنُبِ وَظُفُرِهِ دَلِيلًا شَرْعِيًّا، بَلْ قَدْ «قَالَ النَّبِيُّ لِلَّذِي أَسْلَمَ: أَلْقِ عَنْك شَعْرَ الْكُفْرِ وَاخْتَتِنْ» . فَأَمَرَ الَّذِي أَسْلَمَ أَنْ يَغْتَسِلَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِتَأْخِيرِ الِاخْتِتَانِ، وَإِزَالَةِ الشَّعْرِ عَنْ الِاغْتِسَالِ، فَإِطْلَاقُ كَلَامِهِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْأَمْرَيْنِ، وَكَذَلِكَ تُؤْمَرُ الْحَائِضُ بِالِامْتِشَاطِ فِي غُسْلِهَا مَعَ أَنَّ الِامْتِشَاطَ يَذْهَبُ بِبَعْضِ الشَّعْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة مسح الرأس في الوضوء

[مَسْأَلَةٌ مَسْح الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ] مَسْأَلَةٌ: فِي مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ. مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَوْجَبَ جَمِيعَ الرَّأْسِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ رُبُعَ الرَّأْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَعْضُ شَعْرِهِ يُجْزِئُ، فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ؟ بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَالْحَسَنَةِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ الَّذِينَ نَقَلُوا وُضُوءَهُ لَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ بَعْضِ رَأْسِهِ، وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: كَالْقُدُورِيِّ فِي أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ، وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ، إنَّمَا هُوَ بَعْضُ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ: مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ عَامَ تَبُوكَ، وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ» . وَلِهَذَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى جَوَازِ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى وُجُوبِ مَسْحِ جَمِيعِهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] . نَظِيرُ قَوْلِهِ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة: 6] . لَفْظُ الْمَسْحِ فِي الْآيَتَيْنِ، وَحَرْفُ الْبَاءِ فِي الْآيَتَيْنِ، فَإِذَا كَانَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ لَا تَدُلُّ عَلَى مَسْحِ الْبَعْضِ، مَعَ أَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ، وَهُوَ مَسْحٌ بِالتُّرَابِ، لَا يُشْرَعُ فِيهِ تَكْرَارٌ،

فَكَيْفَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ آيَةُ الْوُضُوءِ مَعَ كَوْنِ الْوُضُوءِ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْمَسْحُ فِيهِ بِالْمَاءِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ التَّكْرَارُ؟ هَذَا لَا يَقُولُهُ مَنْ يَعْقِلُ مَا يَقُولُ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ مَنْ قَالَ بِإِجْزَاءِ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلتَّبْعِيضِ، أَوْ دَالَّةٌ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فَهُوَ خَطَأٌ أَخْطَأَهُ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَعَلَى اللُّغَةِ. وَعَلَى دَلَالَةِ الْقُرْآنِ، وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ، وَهِيَ لَا تَدْخُلُ إلَّا لِفَائِدَةٍ، فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ أَفَادَتْ قَدْرًا زَائِدًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] . فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: يَشْرَبُ مِنْهَا، لَمْ تَدُلَّ عَلَى الرَّيِّ، فَضَمَّنَ يَشْرَبُ، مَعْنَى يُرْوَى. فَقِيلَ: يَشْرَبُ بِهَا، فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّهُ شُرْبٌ يَحْصُلُ مَعَهُ الرَّيُّ، وَبَابُ تَضْمِينِ الْفِعْلِ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ حَتَّى يَتَعَدَّى بِتَعَدِّيَتِهِ كَقَوْلِهِ: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24] . وَقَوْلِهِ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنبياء: 77] . وَقَوْلِهِ: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ يُغْنِي عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ النُّحَاةِ عَمَّا يَتَكَلَّفُونَهُ الْكُوفِيُّونَ مِنْ دَعْوَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُرُوفِ، وَكَذَلِكَ الْمَسْحُ فِي الْوُضُوءِ، وَالتَّيَمُّمِ، لَوْ قَالَ: فَامْسَحُوا رُءُوسَكُمْ أَوْ وُجُوهَكُمْ، لَمْ تَدُلَّ عَلَى مَا يَلْتَصِقُ بِالْمَسْحِ، فَإِنَّك تَقُولُ: مَسَحْت رَأْسَ فُلَانٍ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِك بَلَلٌ. فَإِذَا قِيلَ: فَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَبِوُجُوهِكُمْ، ضَمَّنَ الْمَسْحَ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ، فَأَفَادَ أَنَّكُمْ تُلْصِقُونَ بِرُءُوسِكُمْ وَبِوُجُوهِكُمْ شَيْئًا بِهَذَا الْمَسْحِ. وَهَذَا يُفِيدُ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَلْتَصِقَ الصَّعِيدُ بِالْوَجْهِ وَالْيَدِ، وَلِهَذَا قَالَ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ مِنْهُ.

وَإِنَّمَا مَأْخَذُ مَنْ جَوَّزَ الْبَعْضَ: الْحَدِيثُ، ثُمَّ تَنَازَعُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُجْزِئُ قَدْرَ النَّاصِيَةِ، كَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلِ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَمِنْهُمْ يُجْزِئُ الْأَكْثَرُ كَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلِ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ، يُجْزِئُ الرُّبُعُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ. وَهُمَا قَوْلَانِ لِلْحَنَفِيَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ أَوْ بَعْضَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: شَعْرَةً أَوْ بَعْضَهَا، وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ. وَأَمَّا الَّذِينَ أَوْجَبُوا الِاسْتِيعَابَ: كَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِمَا، فَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَإِذَا سَلَّمَ لَهُمْ مُنَازَعُوهُمْ وُجُوبَ الِاسْتِيعَابِ فِي مَسْحِ التَّيَمُّمِ، كَانَ فِي مَسْحِ الْوُضُوءِ أَوْلَى وَأَحْرَى لَفْظًا وَمَعْنًى، وَلَا يُقَالُ التَّيَمُّمُ وَجَبَ فِيهِ الِاسْتِيعَابُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ غَسْلِ الْوَجْهِ، وَاسْتِيعَابُهُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ إنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ فِي حُكْمِهِ لَا فِي وَصْفِهِ، وَلِهَذَا الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَدَلٌ عَنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَلَا يَجِبُ فِيهِ الِاسْتِيعَابُ مَعَ وُجُوبِهِ فِي الرِّجْلَيْنِ، وَأَيْضًا السُّنَّةُ الْمُسْتَفِيضَةُ مِنْ عَمَلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، فَعِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ: يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ، لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتَةِ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا مَسَحَ عِنْدَهُ بِنَاصِيَتِهِ وَكَمَّلَ الْبَاقِيَ بِعِمَامَتِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِلَا رَيْبٍ، وَأَمَّا مَالِكٌ: فَلَا جَوَابَ لَهُ عَنْ الْحَدِيثِ إلَّا أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْذُورًا لَا يُمْكِنُهُ كَشْفُ الرَّأْسِ، فَتَيَمَّمَ عَلَى الْعِمَامَةِ لِلْعُذْرِ، وَمَنْ فَعَلَ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ الْمَسْحِ بِنَاصِيَتِهِ وَعِمَامَتِهِ أَجْزَأَهُ مَعَ الْعُذْرِ بِلَا نِزَاعٍ، وَأَجْزَأَهُ بِدُونِ الْعُذْرِ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ. وَمَسْحُ الرَّأْسِ مَرَّةً مَرَّةً يَكْفِي بِالِاتِّفَاقِ، كَمَا يَكْفِي تَطْهِيرُ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ مَرَّةً، وَتَنَازَعُوا فِي مَسْحِهِ ثَلَاثًا هَلْ يُسْتَحَبُّ؟ فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ، كَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: يُسْتَحَبُّ، لِمَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ «تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا» ، وَهَذَا عَامٌّ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد: «أَنَّهُ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا» وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، فَسُنَّ فِيهِ الثَّلَاثُ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ.

وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُبَيِّنُ «أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً» ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ: أَحَادِيثُ عُثْمَانَ الصِّحَاحُ تَدُلُّ عَلَى «أَنَّهُ مَسَحَ مَرَّةً وَاحِدَةً» ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا رَوَاهُ مِنْ مَسْحِهِ ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً، وَهَذَا الْمُفَصَّلُ يَقْضِي عَلَى الْمُجْمَلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: «إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ» . كَانَ هَذَا مُجْمَلًا، وَفَسَّرَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ يَقُولُ عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ» فَإِنَّ الْخَاصَّ الْمُفَسِّرَ، يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ الْمُجْمَلِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا مَسْحٌ، وَالْمَسْحُ لَا يُسَنُّ فِيهِ التَّكْرَارُ: كَمَسْحِ الْخُفِّ، وَالْمَسْحِ فِي التَّيَمُّمِ، وَمَسْحِ الْجَبِيرَةِ، وَإِلْحَاقُ الْمَسْحِ بِالْمَسْحِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْغُسْلِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ إذَا كُرِّرَ كَانَ كَالْغُسْلِ. وَمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ مِنْ أَنَّهُ يَمْسَحُ بَعْضَ رَأْسِهِ، بَلْ بَعْضَ شَعْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ مَسْحِهِ بَعْضَ رَأْسِهِ، فَإِنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَمِنْ جِهَةِ تَكْرَارِهِ، فَإِنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَمَنْ يَسْتَحِبُّ التَّكْرَارَ: كَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي قَوْلٍ، لَا يَقُولُونَ امْسَحْ الْبَعْضَ وَكَرِّرْهُ، بَلْ يَقُولُونَ امْسَحْ الْجَمِيعَ وَكَرِّرْ الْمَسْحَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْلَى مِنْ مَسْحِ بَعْضِهِ ثَلَاثًا، بَلْ إذَا قِيلَ إنَّ مَسْحَ الْبَعْضِ يُجْزِئُ وَأَخَذَ رَجُلٌ بِالرُّخْصَةِ، كَيْفَ يُكَرِّرُ الْمَسْحَ؟ ثُمَّ الْمُسْلِمُونَ مُتَنَازِعُونَ فِي جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْبَعْضِ، وَفِي اسْتِحْبَابِ تَكْرَارِ الْمَسْحِ، فَكَيْفَ يُعْدَلُ إلَى فِعْلٍ لَا يُجْزِئُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ، وَلَا يُسْتَحَبُّ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ، وَيُتْرَكُ فِعْلٌ يُجْزِئُ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، وَهُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة هل صح عن النبي أنه مسح على عنقه

[مَسْأَلَةٌ هَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى عُنُقِهِ] 41 - 25 مَسْأَلَةٌ: هَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى عُنُقِهِ، أَوْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؟ الْجَوَابُ: لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى عُنُقِهِ فِي الْوُضُوءِ، بَلْ وَلَا رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ، بَلْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي فِيهَا صِفَةُ وُضُوءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَمْسَحُ عَلَى عُنُقِهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَحِبَّ ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِمَا، وَمَنْ اسْتَحَبَّهُ فَاعْتَمَدَ عَلَى أَثَرٍ يُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَوْ حَدِيثٍ يَضْعُفُ نَقْلُهُ «أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ حَتَّى بَلَغَ الْقَذَالَ» ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ عُمْدَةٌ، وَلَا يُعَارِضُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ، وَمَنْ تَرَكَ مَسْحَ الْعُنُقِ فَوُضُوءُهُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ] 42 - 26 مَسْأَلَةٌ: هَلْ يَجُوزُ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ: أَنَّهُ لَا يَمَسُّ إلَّا طَاهِرٌ، كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «إنَّهُ لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ» . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا شَكَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَهُ لَهُ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَغَيْرِهِمَا، وَلَا يُعْلَمُ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ لَمْسُ كُلّ ذَكَر يَنْقُضُ الْوُضُوءَ] 43 - 27 مَسْأَلَةٌ: هَلْ لَمْسُ كُلِّ ذَكَرٍ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْحَيَوَانِ؟ وَهَلْ بَاطِنُ الْكَفِّ هُوَ مَا دُونَ بَاطِنِ الْأَصَابِعِ؟ الْجَوَابُ: لَمْسُ فَرْجِ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْإِنْسَانِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَجْهَيْنِ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي

مسألة توضأ وقام يصلي فأحس بالنقطة في صلاته

مَسِّ فَرْجِ الْإِنْسَانِ خَاصَّةً، وَبَطْنُ الْكَفِّ يَتَنَاوَلُ الْبَاطِنَ كُلَّهُ، بَطْنَ الرَّاحَةَ وَالْأَصَابِعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يَنْقُضُ بِحَالٍ: كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ. [مَسْأَلَةٌ تَوَضَّأَ وَقَامَ يُصَلِّي فَأَحَسَّ بِالنُّقْطَةِ فِي صَلَاتِهِ] 44 - 28 مَسْأَلَةٌ: إذَا تَوَضَّأَ وَقَامَ يُصَلِّي أَحَسَّ بِالنُّقْطَةِ فِي صَلَاتِهِ، فَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ إذَا أَصَابَ النُّقْطَةَ يَغْسِلُ الثَّوْبَ؟ الْجَوَابُ: مُجَرَّدُ الْإِحْسَاسِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا» ، وَأَمَّا إذَا تَيَقَّنَ خُرُوجَ الْبَوْلِ إلَى ظَاهِرِ الذَّكَرَ، فَقَدْ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ وَعَلَيْهِ الِاسْتِنْجَاءُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ، فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ إذَا فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَسّ يَد الصَّبِيّ الْأَمْرَدِ] 45 - 29 مَسْأَلَةٌ: إذَا مَسَّ يَدَ الصَّبِيّ الْأَمْرَدِ، فَهَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ النِّسَاءِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ، وَمَا جَاءَ فِي تَحْرِيمِ النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ الْحَسَنِ؟ وَهَلْ هَذَا الَّذِي يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ لِلشَّرِيعَةِ إنَّ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الصَّبِيِّ الْأَمْرَدِ عِبَادَةٌ، وَإِذَا قَالَ لَهُمْ أَحَدٌ: هَذَا النَّظَرُ حَرَامٌ يَقُولُ: أَنَا إذَا نَظَرْت إلَى هَذَا أَقُولُ سُبْحَانَ الَّذِي خَلْقَهُ، لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَمَسِّ النِّسَاءِ لِشَهْوَةٍ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، فَإِنَّ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ يُفْسِدُ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَفْسُدُ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ: كَالصِّيَامِ، وَالْإِحْرَامِ، وَالِاعْتِكَافِ، وَيُوجِبُ الْغُسْلَ كَمَا يُوجِبُهُ هَذَا، فَتَكُونُ مُقَدِّمَاتُ هَذَا فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ كَمُقَدِّمَاتِ هَذَا، فَلَوْ مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَعَلَيْهِ دَمٌ كَمَا لَوْ مَسَّ أَجْنَبِيَّةً لِشَهْوَةٍ، وَكَذَلِكَ إذَا مَسَّهُ لِشَهْوَةٍ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ مَسَّ الْمَرْأَةَ لِشَهْوَةٍ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ. وَاَلَّذِي لَمْ يَنْقُضْ الْوُضُوءَ بِمَسِّهِ يَقُولُ: إنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ مَحَلًّا لِذَلِكَ، فَيُقَالُ لَهُ: لَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ لِذَلِكَ، وَإِنَّ الْفَاحِشَةَ اللُّوطِيَّةَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ، لَكِنْ هَذَا الْقَدْرُ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي بَابِ الْوَطْءِ، فَإِنْ وَطِئَ فِي الدُّبُرِ تَعَلَّقَ بِهِ مَا ذَكَرَ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَإِنْ كَانَ الدُّبُرُ لَمْ يُخْلَقْ مَحَلًّا لِلْوَطْءِ، مَعَ أَنَّ نَفْرَةَ الطِّبَاعِ عَنْ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ أَعْظَمُ مِنْ نَفْرَتِهَا عَنْ الْمُلَامَسَةِ، وَنَقْضُ الْوُضُوءِ بِالْمَسِّ يُرَاعَى فِيهِ حَقِيقَةُ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَسُّ لِشَهْوَةٍ، عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: كَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمَا، كَمَا يُرَاعَى مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَحَيْثُ وُجِدَ اللَّمْسُ لِشَهْوَةٍ تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ، حَتَّى لَوْ مَسَّ أُمَّهُ، وَأُخْتَه، وَبِنْتَهُ لِشَهْوَةٍ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، فَكَذَلِكَ الْأَمْرَدُ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ فَتُعْتَبَرُ الْمَظِنَّةُ، وَهُوَ أَنَّ النِّسَاءَ مَظِنَّةُ الشَّهْوَةِ، فَيُنْقَضُ الْوُضُوءُ، سَوَاءٌ بِشَهْوَةٍ أَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، وَلِهَذَا لَا يَنْقُضُ لَمْسُ الْمَحَارِمِ، لَكِنْ لَوْ لَمَسَ ذَوَاتَ مَحَارِمِهِ لِشَهْوَةٍ فَقَدْ وُجِدَتْ حَقِيقَةُ الْحِكْمَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةٍ. وَالتَّلَذُّذُ بِمَسِّ الْأَمْرَدِ: كَمُصَافَحَتِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ: حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا يَحْرُمُ التَّلَذُّذُ بِمَسِّ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ وَالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، بَلْ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ التَّلَذُّذِ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، كَمَا أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ اللُّوطِيِّ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ الزِّنَا بِالْأَجْنَبِيَّةِ، فَيَجِبُ قَتْلُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ. سَوَاءٌ كَانَ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا

أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَسَوَاءٌ كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا لِلْآخَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَمِلَ بِهِ أَصْحَابُهُ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ، وَقَتْلُهُ بِالرَّجْمِ كَمَا قَتَلَ اللَّهُ قَوْمَ لُوطٍ بِالرَّجْمِ، وَبِذَلِكَ جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ فِي قَتْلِ الزَّانِي أَنَّهُ يُرْجَمُ، «فَرَجَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ، وَالْغَامِدِيَّةَ وَالْيَهُودِيِّينَ، وَالْمَرْأَةَ الَّتِي أَرْسَلَ إلَيْهَا أُنَيْسًا، وَقَالَ: اذْهَبْ إلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا» . وَالنَّظَرُ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ لِشَهْوَةٍ كَالنَّظَرِ إلَى وَجْهِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِالشَّهْوَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الشَّهْوَةُ شَهْوَةَ الْوَطْءِ، أَوْ شَهْوَةَ التَّلَذُّذِ بِالنَّظَرِ، فَلَوْ نَظَرَ إلَى أُمِّهِ، وَأُخْتِهِ، وَابْنَتِهِ يَتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا كَمَا يَتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ كَانَ مَعْلُومًا لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّ هَذَا حَرَامٌ، فَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ عِبَادَةٌ كَقَوْلِهِ: إنَّ النَّظَرَ إلَى وُجُوهِ النِّسَاءِ، أَوْ النَّظَرَ إلَى وُجُوهِ مَحَارِمِ الرَّجُلِ، كَبِنْتِ الرَّجُلِ، وَأُمِّهِ وَأُخْتِهِ عِبَادَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ جَعَلَ هَذَا النَّظَرَ الْمُحَرَّمَ عِبَادَةً كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ الْفَوَاحِشَ عِبَادَةً. قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي صُوَرِ النِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَذَوِي الْمَحَارِمِ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْخَالِقِ مِنْ جِنْسِ مَا فِي صُورَةِ الْمُرْدِ، فَهَلْ يَقُولُ مُسْلِمٌ إنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَنْظُرَ بِهَذَا الْوَجْهِ إلَى صُوَرِ نِسَاءِ الْعَالَمِ، وَصُوَرِ مَحَارِمِهِ، وَيَقُولُ إنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ؟ بَلْ مَنْ جَعَلَ مِثْلَ هَذَا النَّظَرِ عِبَادَةً فَإِنَّهُ كَافِرٌ، مُرْتَدٌّ، يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ إعَانَةَ طَالِبِ الْفَوَاحِشِ عِبَادَةً، أَوْ جَعَلَ تَنَاوُلَ يَسِيرِ الْخَمْرِ عِبَادَةً أَوْ جَعَلَ السُّكْرَ بِالْحَشِيشَةِ عِبَادَةً، فَمَنْ جَعَلَ الْمُعَاوَنَةَ عَلَى الْفَاحِشَةِ بِقِيَادَةٍ أَوْ غَيْرِهَا عِبَادَةً، أَوْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يُعْلَمُ تَحْرِيمُهَا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ عِبَادَةً، فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَهُوَ مُضَاهٍ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] .

وَفَاحِشَةُ أُولَئِكَ إنَّمَا كَانَتْ طَوَافُهُمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، وَكَانُوا يَقُولُونَ لَا نَطُوفُ فِي الثِّيَابِ الَّتِي عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا، فَهَؤُلَاءِ إنَّمَا كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً عَلَى وَجْهِ اجْتِنَابِ ثِيَابِ الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ عَنْهُمْ مَا ذَكَرَ. فَكَيْفَ بِمَنْ يَجْعَلُ جِنْسَ الْفَاحِشَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشَّهْوَةِ عِبَادَةً. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَ فِي كِتَابِهِ بِغَضِّ الْبَصَرِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: غَضُّ الْبَصَرِ عَنْ الْعَوْرَةِ، وَغَضُّهَا عَنْ مَحَلِّ الشَّهْوَةِ. فَالْأَوَّلُ: كَغَضِّ الرَّجُلِ بَصَرَهُ عَنْ عَوْرَةِ غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلَا تَنْظُرُ الْمَرْأَةُ إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ» ، وَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ: «احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجَتِك أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك» . قُلْت: فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا مَعَ قَوْمِهِ؟ قَالَ: «إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا» . قُلْت: فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَالَ: «فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْهُ النَّاسُ» وَيَجُوزُ أَنْ يَكْشِفَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ كَمَا يَكْشِفُ عِنْدَ التَّخَلِّي، وَكَذَلِكَ إذَا اغْتَسَلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ بِجَنْبِ مَا يَسْتُرُهُ، فَلَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ عُرْيَانًا كَمَا اغْتَسَلَ مُوسَى عُرْيَانًا، وَأَيُّوبُ، وَكَمَا فِي اغْتِسَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْفَتْحِ، وَاغْتِسَالِهِ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ، وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ النَّظَرِ: كَالنَّظَرِ إلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَهَذَا

أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ، كَمَا أَنَّ الْخَمْرَ أَشَدُّ مِنْ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَعَلَى صَاحِبِهَا الْحَدُّ. تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتُ إذَا تَنَاوَلَهَا غَيْرُ مُسْتَحِلٍّ لَهَا كَانَ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ لَا تَشْتَهِيهَا النُّفُوسُ كَمَا تَشْتَهِي الْخَمْرَ، وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ لَا يَشْتَهِي كَمَا يَشْتَهِي النَّظَرَ إلَى النِّسَاءِ وَنَحْوِهِنَّ، وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى الْأَمْرَدِ بِشَهْوَةٍ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ لِشَهْوَةٍ. وَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ يُسَبَّحُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَخْلُوقَاتِهِ كُلِّهَا، وَلَيْسَ خَلْقُ الْأَمْرَدِ بِأَعْجَبَ فِي قُدْرَتِهِ مِنْ خَلْقِ ذِي اللِّحْيَةِ، وَلَا خَلْقُ النِّسَاءِ بِأَعْجَبَ فِي قَدْرِ مَنْ خَلَقَ الرِّجَالَ، بَلْ تَخْصِيصُ الْإِنْسَانِ التَّسْبِيحَ بِحَالِ نَظَرِهِ إلَى الْأَمْرَدِ دُونَ غَيْرِهِ؛ كَتَخْصِيصِهِ التَّسْبِيحَ بِنَظَرِهِ إلَى الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ دَلَّ عَلَى عَظَمَةِ الْخَالِقِ عِنْدَهُ، وَلَكِنْ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ يُغَيِّرُ قَلْبَهُ وَعَقْلَهُ، وَقَدْ يُذْهِلُهُ مَا رَآهُ فَيَكُونُ تَسْبِيحُهُ بِمَا يَحْصُلُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْهَوَى، كَمَا أَنَّ النِّسْوَةَ لَمَّا رَأَيْنَ يُوسُفَ {أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ لَا يَنْظُرُ إلَى الصُّوَرِ وَالْأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ، فَكَيْفَ يَفْضُلُ الشَّخْصُ بِمَا لَمْ يُفَضِّلْهُ اللَّهُ بِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [طه: 131] . وَقَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] .

فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تُعْجِبُ النَّاظِرَ أَجْسَامُهُمْ، لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْبَهَاءِ، وَالرُّوَاءِ، وَالزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ، وَلَيْسُوا مِمَّنْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِشَهْوَةٍ قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا ذَكَرَ، فَكَيْفَ بِمَنْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِشَهْوَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَنْظُرُ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَهُنَا الِاعْتِبَارُ بِقَلْبِهِ وَعَمَلِهِ لَا بِصُورَتِهِ، وَقَدْ يَنْظُرُ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الصُّورَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُصَوِّرِ، فَهَذَا حَسَنٌ، وَقَدْ يَنْظُرُ مِنْ جِهَةِ اسْتِحْسَانِ خَلْقِهِ، كَمَا يَنْظُرُ إلَى الْجَبَلِ وَالْبَهَائِمِ، وَكَمَا يَنْظُرُ إلَى الْأَشْجَارِ، فَهَذَا أَيْضًا إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ اسْتِحْسَانِ الدُّنْيَا وَالرِّيَاسَةِ، وَالْمَالِ، فَهُوَ مَذْمُومٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه: 131] ، وَأَمَّا إنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُنْقِصُ الدِّينَ، وَإِنَّمَا فِيهِ رَاحَةُ النَّفْسِ فَقَطْ كَالنَّظَرِ إلَى الْأَزْهَارِ، فَهَذَا مِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْحَقِّ، وَكُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَتَى كَانَ مَعَهُ شَهْوَةٌ كَانَ حَرَامًا بِلَا رَيْبٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ شَهْوَةَ تَمَتُّعٍ بِنَظَرِ الشَّهْوَةِ، أَوْ كَانَ نَظَرًا بِشَهْوَةِ الْوَطْءِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ عِنْدَ نَظَرِهِ الْأَشْجَارَ وَالْأَزْهَارَ، وَمَا يَجِدُهُ عِنْدَ نَظَرِهِ النِّسْوَانَ وَالْمُرْدَ، فَلِهَذَا الْفُرْقَانِ افْتَرَقَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ. فَصَارَ النَّظَرُ إلَى الْمُرْدِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: مَا يَقْرُنُ بِهِ الشَّهْوَةَ فَهُوَ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَالثَّانِي: مَا يَجْزِمُ أَنَّهُ لَا شَهْوَةَ مَعَهُ، كَنَظَرِ الرَّجُلِ الْوَرِعِ إلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ، وَابْنَتِهِ الْحَسَنَةِ، وَأُمِّهِ، فَهَذَا لَا يَقْرُنُ بِهِ شَهْوَةً، إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مِنْ أَفْجَرِ النَّاسِ، وَمَتَى اُقْتُرِنَتْ بِهِ الشَّهْوَةُ حَرُمَ.

وَعَلَى هَذَا مَنْ لَا يَمِيلُ قَلْبُهُ إلَى الْمُرْدِ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ، وَكَالْأُمَمِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ الْفَاحِشَةَ، فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَبَيْنَ نَظَرِهِ إلَى ابْنِهِ، وَابْنِ جَارِهِ، وَصَبِيٍّ أَجْنَبِيٍّ، وَلَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ الشَّهْوَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَدَّ ذَلِكَ وَهُوَ سَلِيمُ الْقَلْبِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَتْ الْإِمَاءُ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ يَمْشِينَ فِي الطُّرُقَاتِ وَهُنَّ مُتَكَشِّفَاتِ الرُّءُوسِ، وَتَخْدُمُ الرِّجَالَ مَعَ سَلَامَةِ الْقُلُوبِ، فَلَوْ أَرَادَ الرِّجَالُ أَنْ يَتْرُكَ الْإِمَاءَ التُّرْكِيَّاتِ الْحِسَانَ يَمْشِينَ بَيْنَ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ وَالْأَوْقَاتِ، كَمَا كَانَ أُولَئِكَ الْإِمَاءُ يَمْشِينَ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الْفَسَادِ، وَكَذَلِكَ الْمُرْدُ الْحِسَانُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَخْرُجُوا فِي الْأَمْكِنَةِ، وَالْأَزْمِنَةِ، الَّتِي يُخَافُ فِيهَا الْفِتْنَةُ بِهِمْ، إلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، فَلَا يُمَكَّنُ الْأَمْرَدُ الْحَسَنُ مِنْ التَّبَرُّجِ، وَلَا مِنْ الْجُلُوسِ فِي الْحَمَّامِ بَيْنَ الْأَجَانِبِ، وَلَا مِنْ رَقْصَةٍ بَيْنَ الرِّجَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ فِتْنَةٌ لِلنَّاسِ، وَالنَّظَرُ إلَيْهِ كَذَلِكَ. وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ النَّظَرِ؛ وَهُوَ: النَّظَرُ إلَيْهِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، لَكِنْ مَعَ خَوْفِ ثَوَرَانِهَا، فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، أَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالثَّانِي يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ثَوَرَانِهَا، فَلَا يَحْرُمُ بِالشَّكِّ بَلْ قَدْ يُكْرَهُ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ، كَمَا أَنَّ الرَّاجِحَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ: أَنَّ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَتْ الشَّهْوَةُ مُنْتَفِيَةً، لَكِنْ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ ثَوَرَانِهَا. وَلِهَذَا حُرِّمَتْ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ سَبَبًا لِلْفِتْنَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَإِنَّ الذَّرِيعَةَ إلَى الْفَسَادِ يَجِبُ سَدُّهَا إذَا لَمْ يُعَارِضْهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ، وَلِهَذَا كَانَ النَّظَرُ الَّذِي يُفْضِي إلَى الْفِتْنَةِ مُحَرَّمًا إلَّا إذَا كَانَ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ، مِثْلُ نَظَرِ الْخَاطِبِ، وَالطَّبِيبِ، وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ لِلْحَاجَةِ، لَكِنْ مَعَ عَدَمِ الشَّهْوَةِ، وَأَمَّا النَّظَرُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ إلَى مَحَلِّ الْفِتْنَةِ فَلَا يَجُوزُ، وَمَنْ كَرَّرَ النَّظَرَ إلَى الْأَمْرَدِ وَنَحْوِهِ، أَوْ أَدَامَهُ، وَقَالَ: إنِّي لَا أَنْظُرُ لِشَهْوَةٍ كَذَبَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ دَاعٍ يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى النَّظَرِ لَمْ يَكُنْ النَّظَرُ إلَّا لِمَا يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ مِنْ اللَّذَّةِ بِذَلِكَ. وَأَمَّا نَظْرَةُ الْفَجْأَةِ فَهِيَ عَفْوٌ إذَا صَرَفَ بَصَرَهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي

الصَّحِيحِ: «عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ، فَقَالَ: اصْرِفْ بَصَرَك» . وَفِي السُّنَنِ: أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّمَا لَك الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الثَّانِيَةُ» . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ، وَغَيْرِهِ: «النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ» ، وَفِيهِ: «مَنْ نَظَرَ إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ، ثُمَّ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْهَا، أَوْرَثَ اللَّهُ قَلْبَهُ حَلَاوَةَ عِبَادَةٍ يَجِدُهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» أَوْ كَمَا قَالَ. وَلِهَذَا يُقَالُ: إنَّ غَضَّ الْبَصَرِ عَنْ الصُّورَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْ النَّظَرِ إلَيْهَا كَالْمَرْأَةِ، وَالْأَمْرَدِ الْحَسَنِ يُورِثُ ذَلِكَ ثَلَاثَ فَوَائِدَ جَلِيلَةِ الْقَدْرِ: إحْدَاهَا: حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ وَلَذَّتُهُ الَّتِي هِيَ أَحْلَى وَأَطْيَبُ مِمَّا تَرَكَهُ اللَّهُ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ، وَالنَّفْسُ تُحِبُّ النَّظَرَ إلَى هَذِهِ الصُّوَرِ لَا سِيَّمَا نُفُوسِ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ وَالصَّفَا، فَإِنَّهُ يَبْقَى فِيهَا رِقَّةٌ تَجْتَذِبُ بِسَبَبِهَا إلَى الصُّوَرِ، حَتَّى تَبْقَى تَجْذِبُ أَحَدَهُمْ وَتَصْرَعُهُ كَمَا يَصْرَعُهُ السَّبُعُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: مَا أَنَا عَلَى الشَّابِّ التَّائِبِ مِنْ سَبُعٍ يَجْلِسُ إلَيْهِ بِأَخْوَفَ عَلَيْهِ مِنْ حَدَثٍ جَمِيلٍ يَجْلِسُ إلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّقُوا النَّظَرَ إلَى أَوْلَادِ الْمُلُوكِ فَإِنَّ لَهُمْ فِتْنَةً كَفِتْنَةِ الْعَذَارَى. وَمَا زَالَ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ: كَشُيُوخِ الْهُدَى، وَشُيُوخِ الطَّرِيقِ، يُوصُونَ بِتَرْكِ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ

حَتَّى يُرْوَى عَنْ فَتْحٍ الْمَوْصِلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: صَحِبْت ثَلَاثِينَ مِنْ الْأَبْدَالِ، كُلَّهُمْ يُوصِينِي عِنْدَ فِرَاقِهِ بِتَرْكِ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا سَقَطَ عَبْدٌ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ إلَّا بِصُحْبَةِ هَؤُلَاءِ الْأَنْتَانِ. ثُمَّ النَّظَرُ يُؤَكِّدُ الْمَحَبَّةَ، فَيَكُونُ عَلَاقَةً لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ، ثُمَّ صَبَابَةً لِانْصِبَابِ الْقَلْبِ إلَيْهِ، ثُمَّ غَرَامًا لِلُزُومِهِ لِلْقَلْبِ كَالْغَرِيمِ الْمُلَازِمِ لِغَرِيمِهِ، ثُمَّ عِشْقًا إلَى أَنْ يَصِيرَ تَتَيُّمًا، وَالْمُتَيَّمُ الْمُعَبَّدُ، وَتَيَّمَ اللَّهُ عَبَدَ اللَّهِ، فَيَبْقَى الْقَلْبُ عَبْدًا لِمَنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أَخًا، بَلْ وَلَا خَادِمًا، وَهَذَا إنَّمَا يُبْتَلَى بِهِ أَهْلُ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يُوسُفَ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] . فَامْرَأَةُ الْعَزِيزِ كَانَتْ مُشْرِكَةً فَوَقَعَتْ مَعَ تَزَوُّجِهَا فِيمَا وَقَعَتْ فِيهِ مِنْ السُّوءِ، وَيُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ عُزُوبَتِهِ وَمُرَاوِدَتِهَا لَهُ، وَاسْتِعَانَتِهَا عَلَيْهِ بِالنِّسْوَةِ، وَعُقُوبَتِهَا لَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى الْعِفَّةِ، عَصَمَهُ اللَّهُ بِإِخْلَاصِهِ لِلَّهِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ: {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40] . قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] . وَالْغَيُّ هُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَهَذَا الْبَابُ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ اتِّبَاعِ الْهَوَى. وَمَنْ أَمَرَ بِعِشْقِ الصُّوَرِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ: كَابْنِ سِينَا، وَذَوِيهِ، أَوْ مِنْ الْفُرْسِ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِهِمْ، أَوْ مِنْ جُهَّالِ الْمُتَصَوِّفَةِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ ضَلَالٍ وَغَيٍّ، فَهُمْ مَعَ مُشَارَكَةِ الْيَهُودِ فِي الْغَيِّ، وَالنَّصَارَى فِي الضَّلَالِ، زَادُوا عَلَى الْأُمَّتَيْنِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا وَإِنْ ظُنَّ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْعَاشِقِ: كَتَطْلِيقِ نَفْسِهِ، وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِ، وَلِلْمَعْشُوقِ مِنْ الشِّفَاءِ فِي

مَصَالِحِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَتَأْدِيبِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَمَضَرَّةُ ذَلِكَ أَضْعَافُ مَنْفَعَتِهِ، وَأَيْنَ إثْمُ ذَلِكَ مِنْ مَنْفَعَتِهِ، وَإِنَّمَا هَذَا كَمَا يُقَالُ: إنَّ فِي الزِّنَا مَنْفَعَةً لِكُلٍّ مِنْهُمَا، بِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّلَذُّذِ وَالسُّرُورِ، وَيَحْصُلُ لَهَا مِنْ الْجُعَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَمَا يُقَالُ إنَّ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ مَنَافِعَ بَدَنِيَّةً وَنَفْسِيَّةً، وَقَدْ قَالَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] . وَهَذَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ دَعْ مَا قَالَهُ عِنْدَ التَّحْرِيمِ وَبَعْدَهُ. وَبَابُ التَّعَلُّقِ بِالصُّوَرِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْفَوَاحِشِ، وَبَاطِنُهُ مِنْ بَاطِنِ الْفَوَاحِشِ، وَهُوَ مِنْ بَاطِنِ الْإِثْمِ. قَالَ تَعَالَى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] ، وَقَدْ قَالَ: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] . وَلَيْسَ بَيْنَ أَئِمَّةِ الدِّينِ نِزَاعٌ فِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَمَنْ جَعَلَهُ مَمْدُوحًا، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقَدْ خَرَجَ مِنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، بَلْ وَعَمَّا عَلَيْهِ عَقْلُ بَنِي آدَمَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَهُوَ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ. {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50] .

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] . وَأَمَّا مَنْ نَظَرَ إلَى الْمُرْدِ ظَانًّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى الْجَمَالِ الْإِلَهِيِّ، وَجَعَلَ هَذَا طَرِيقًا لَهُ إلَى اللَّهِ، كَمَا يَفْعَلُهُ طَوَائِفُ مِنْ الْمُدَّعِينَ لِلْمَعْرِفَةِ، فَقَوْلُهُ هَذَا أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ قَوْلِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ، وَمِنْ كُفْرِ قَوْمِ لُوطٍ، فَهَؤُلَاءِ مِنْ شَرِّ الزَّنَادِقَةِ الْمُرْتَدِّينَ، الَّذِينَ يَجِبُ قَتْلُهُمْ بِإِجْمَاعِ كُلِّ الْأُمَّةِ، فَإِنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ قَالُوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] . وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ اللَّهَ مَوْجُودًا فِي نَفْسِ الْأَصْنَامِ وَحَالًّا فِيهَا فَإِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ بِظُهُورِهِ وَتَجَلِّيهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَيْهِ وَآيَاتٌ لَهُمْ، بَلْ يُرِيدُونَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ ظَهَرَ فِيهَا، وَتَجَلَّى فِيهَا، وَيُشَبِّهُونَ ذَلِكَ بِظُهُورِ الْمَاءِ فِي الزُّجَاجَةِ، وَالزُّبْدِ فِي اللَّبَنِ، وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ، وَالدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي حُلُولَ نَفْسِ ذَاتِهِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ أَوْ اتِّحَادِهِ بِهَا فِي جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ نَظِيرُ مَا قَالَتْهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ خَاصَّةً، يَجْعَلُونَ الْمُرْدَ مَظَاهِرَ الْجَمَالِ، فَيُقِرُّونَ هَذَا الشِّرْكَ الْأَعْظَمَ طَرِيقًا إلَى اسْتِحْلَالِ الْفَوَاحِشِ، بَلْ إلَى اسْتِحْلَالِ كُلِّ مُحَرَّمٍ. كَمَا قِيلَ لِأَفْضَلِ مُتَأَخِّرِيهِمْ التِّلِمْسَانِيِّ: إذَا كَانَ قَوْلُكُمْ بِأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ هُوَ الْحَقُّ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ أُمِّي وَأُخْتِي، وَابْنَتِي؟ تَكُونُ هَذِهِ حَلَالًا، وَهَذِهِ حَرَامًا؟ فَقَالَ: الْجَمِيعُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ، لَكِنْ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا: حَرَامٌ فَقُلْنَا: حَرَامٌ عَلَيْكُمْ. وَمَنْ هَؤُلَاءِ الْحُلُولِيَّةِ، وَالِاتِّحَادِيَّةِ مَنْ يَخُصُّ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ بِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ، إمَّا بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ كَالْمَسِيحِ أَوْ بِبَعْضِ الصَّحَابَةِ، كَقَوْلِ الْغَالِيَةِ فِي عَلِيٍّ؛ أَوْ بِبَعْضِ

الشُّيُوخِ كَالْحَلَّاجِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ؛ أَوْ بِبَعْضِ الْمُلُوكِ؛ أَوْ بِبَعْضِ الصُّوَرِ كَصُوَرِ الْمُرْدِ، وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَنَا أَنْظُرُ إلَى صِفَاتِ خَالِقِي، وَأَشْهَدُهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَالْكُفْرُ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَوْ قَالَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فِي بَنِي كَرِيمٍ لَكَانَ كَافِرًا، فَكَيْفَ إذَا قَالَهُ فِي صَبِيٍّ أَمْرَدَ. فَقَبَّحَ اللَّهُ طَائِفَةً يَكُونُ مَعْبُودُهَا مِنْ جِنْسِ مَوْطُوئِهَا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 80] . فَإِذَا كَانَ مَنْ اتَّخَذَ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا، مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلَّهِ كُفَّارًا، فَكَيْفَ بِمَنْ اتَّخَذَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ أَرْبَابًا مَعَ قَوْلِهِ: إنَّ اللَّهَ فِيهَا، أَوْ مُتَّحِدٌ بِهَا، فَوُجُودُهَا وُجُودُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ. وَأَمَّا الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ فِي غَضِّ الْبَصَرِ فَهُوَ: أَنَّهُ يُورِثُ نُورَ الْقَلْبِ، وَالْفِرَاسَةَ. قَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ لُوطٍ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] . فَالتَّعَلُّقُ فِي الصُّوَرِ يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْلِ، وَعَمَى الْبَصِيرَةِ، وَسُكْرَ الْقَلْبِ بَلْ جُنُونَهُ كَمَا قِيلَ: سَكْرَانِ سُكْرُ هَوًى وَسُكْرُ مُدَامَةٍ ... فَمَتَى إفَاقَةُ مَنْ بِهِ سَكْرَانِ ؟ وَقِيلَ: قَالُوا جُنِنْت بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْت لَهُمْ ... الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرُ صَاحِبَهُ ... وَإِنَّمَا يَصْرَعُ الْمَجْنُونَ فِي الْحِينِ وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ آيَةَ النُّورِ عَقِيبَ آيَاتِ غَضِّ الْبَصَرِ فَقَالَ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور: 35] . وَكَانَ شَاهْ بْنُ شُجَاعٍ الْكَرْمَانِيُّ لَا تُخْطِئُ لَهُ فِرَاسَةٌ، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ عَمَّرَ ظَاهِرَهُ

بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَبَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ، وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ، وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَذَكَرَ خَصْلَةً خَامِسَةً إنَّمَا هُوَ أَكْلُ الْحَلَالِ وَلَمْ تُخْطِئْ لَهُ فِرَاسَةٌ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجْزِي الْعَبْدَ عَلَى عَمَلِهِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ، فَغَضُّ بَصَرِهِ عَمَّا حَرَّمَ يُعَوِّضُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِهِ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ. فَيُطْلِقُ نُورَ بَصِيرَتِهِ، وَيَفْتَحُ عَلَيْهِ بَابَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْكُشُوفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَنَالُ بَصِيرَةَ الْقَلْبِ. وَالْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: قُوَّةُ الْقَلْبِ، وَثَبَاتُهُ، وَشَجَاعَتُهُ، فَيَجْعَلُ اللَّهُ سُلْطَانَ النُّصْرَةِ مَعَ سُلْطَانِ الْحُجَّةِ، وَفِي الْأَثَرِ: الَّذِي يُخَالِفُ هَوَاهُ يَفْرُقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ، وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي الْمُتَّبِعِ لِهَوَاهُ مِنْ الذُّلِّ، ذُلِّ النَّفْسِ وَضَعْفِهَا وَمُهَانَتِهَا، مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِمَنْ عَصَاهُ، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْعِزَّةَ لِمَنْ أَطَاعَهُ، وَالذِّلَّةَ لِمَنْ عَصَاهُ. قَالَ تَعَالَى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] وَلِهَذَا كَانَ فِي كَلَامِ الشُّيُوخِ: النَّاسُ يَطْلُبُونَ الْعِزَّ مِنْ أَبْوَابِ الْمُلُوكِ، وَلَا يَجِدُونَهُ إلَّا فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ: وَإِنْ هَمْلَجَتْ بِهِمْ الْبَرَاذِينُ، وَطَقْطَقَتْ بِهِمْ الْبِغَالُ، فَإِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ فِي رِقَابِهِمْ، يَأْبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ، وَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ وَالَاهُ فِيمَا أَطَاعَهُ فِيهِ، وَمَنْ عَصَاهُ فَفِيهِ قِسْطٌ مِنْ فِعْلِ مَنْ عَادَاهُ بِمَعَاصِيهِ. وَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ: «إنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ» .

مسألة قبل زوجته أو ضمها فأمذى

وَالصُّوفِيَّةُ الْمَشْهُورُونَ عِنْدَ الْأُمَّةِ الَّذِينَ لَهُمْ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَحِبُّونَ مِثْلَ هَذَا بَلْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ، وَلَهُمْ فِي الْكَلَامِ فِي ذَمِّ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ وَفِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْحُلُولِ، وَبَيَانِ مُبَايَنَةِ الْخَالِقِ لِلْمَخْلُوقِ، مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَهُ مَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ مِمَّنْ هُوَ عَاصٍ أَوْ فَاسِقٌ، أَوْ كَافِرٌ، فَتَظَاهَرَ بِدَعْوَى الْوِلَايَةِ لِلَّهِ، وَتَحْقِيقِ الْإِيمَانِ وَالْعِرْفَانِ، وَهُوَ مِنْ شَرِّ أَهْلِ الْعَدَاوَةِ لِلَّهِ، وَأَهْلِ النِّفَاقِ، وَالْبُهْتَانِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجْمَعُ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَجْعَلُ لِأَعْدَائِهِ الصَّفْقَةَ الْخَاسِرَةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قَبَّلَ زَوْجَتَهُ أَوْ ضَمَّهَا فَأَمْذَى] 46 - 30 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ إذَا قَبَّلَ زَوْجَتَهُ أَوْ ضَمَّهَا فَأَمْذَى، هَلْ يُفْسِدُ ذَلِكَ صَوْمَهُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا أَمَذَى فَهَلْ يَلْزَمُهُ وُضُوءٌ أَمْ لَا؟ وَإِذَا صَبَرَ الرَّجُلُ عَلَى زَوْجَتِهِ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ لَا يَطَؤُهَا فَهَلْ عَلَيْهِ إثْمٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُطَالَبُ الزَّوْجُ بِذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا الْوُضُوءُ فَيُنْتَقَضُ بِذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْوُضُوءُ، لَكِنْ يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ. وَيَفْسُدُ الصَّوْمُ بِذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَطَأَ زَوْجَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ مِنْ أَوْكَدِ حَقِّهَا عَلَيْهِ أَعْظَمَ مِنْ إطْعَامِهَا. وَالْوَطْءُ الْوَاجِبُ قِيلَ: إنَّهُ وَاجِبٌ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَرَّةً. وَقِيلَ: بِقَدْرِ حَاجَتِهَا وَقُدْرَتِهِ، كَمَا يُطْعِمُهَا بِقَدْرِ حَاجَتِهَا وَقُدْرَتِهِ، وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْقَيْء يَنْقُضُ الْوُضُوءَ] 47 - 31 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ يَرْوِي أَنَّ الْقَيْءَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاءَ مَرَّةً وَتَوَضَّأَ. وَرَوَى حَدِيثًا آخَرَ أَنَّهُ قَاءَ مَرَّةً فَغَسَلَ فَمَهُ. وَقَالَ: هَكَذَا الْوُضُوءُ مِنْ الْقَيْءِ، فَهَلْ يُعْمَلُ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، أَمْ الثَّانِي؟

مسألة أكل لحم الإبل هل ينقض الوضوء

الْجَوَابُ: أَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي: فَمَا سَمِعْت بِهِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ فِي السُّنَنِ لَكِنْ لَفْظُهُ: «أَنَّهُ قَاءَ فَأَفْطَرَ فَتَوَضَّأَ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِثَوْبَانَ فَقَالَ: صَدَقَ أَنَا أَصْبَبْت لَهُ وُضُوءَهُ» . وَلَفْظُ الْوُضُوءِ لَمْ يَجِئْ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا وَالْمُرَادُ بِهِ الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ، وَلَمْ يَرِدْ لَفْظُ الْوُضُوءِ بِمَعْنَى غَسْلِ الْيَدِ وَالْفَمِ إلَّا فِي لُغَةِ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ «سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءَ قَبْلَهُ فَقَالَ: مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ، وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أَكْل لَحْمِ الْإِبِلِ هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ] 48 - 32 مَسْأَلَةٌ: فِي أَكْلِ لَحْمِ الْإِبِلِ هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا، وَهَلْ حَدِيثُهُ مَنْسُوخٌ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: إنْ شِئْت فَتَوَضَّأْ وَإِنْ شِئْت فَلَا تَتَوَضَّأْ. قَالَ: أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: نَعَمْ تَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ قَالَ: أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: لَا» ، وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ. قَالَ أَحْمَدُ: فِيهِ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ، حَدِيثُ الْبَرَاءِ، وَحَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ.

وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ، وَصَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ» . وَرُوِيَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ أَصَحُّ وَأَبْعَدُ عَنْ الْمُعَارِضِ مِنْ أَحَادِيثِ مَسِّ الذَّكَرِ، وَأَحَادِيثِ الْقَهْقَهَةِ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِ جَابِرٍ «كَانَ آخَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» ، لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ لَحْمِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، إذْ كِلَاهُمَا فِي مَسِّ النَّارِ سَوَاءٌ، فَلَمَّا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَأَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ هَذَا، وَخَيَّرَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ الْآخَرِ، عُلِمَ بُطْلَانُ هَذَا التَّعْلِيلِ. وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ مَسَّ النَّارِ فَنَسْخُ التَّوَضُّؤِ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ، لَا يُوجِبُ نَسْخَ التَّوَضُّؤِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، بَلْ يُقَالُ: كَانَتْ لُحُومُ الْإِبِلِ أَوَّلًا يُتَوَضَّأُ مِنْهَا كَمَا يُتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْأَمْرُ الْعَامُّ الْمُشْتَرَكُ. فَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ لَحْمُ الْإِبِلِ، فَلَوْ كَانَ قَبْلَ النَّسْخِ لَمْ يَكُنْ مَنْسُوخًا، فَكَيْفَ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ؟ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ " الْوَجْهُ الثَّانِي " وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ كَانَ بَعْدَ نَسْخِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ، فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ، وَقَدْ أَمَرَ فِيهِ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ بَعْدَ النَّسْخِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْوُضُوءِ وَفِي الصَّلَاةِ فِي الْمَعَاطِنِ أَيْضًا، وَهَذَا التَّفْرِيقُ ثَابِتٌ مُحْكَمٌ لَمْ يَأْتِ عَنْهُ نَصٌّ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، فَدَعْوَى النَّسْخِ بَاطِلٌ، بَلْ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّلَاةِ يُوجِبُ الْعَمَلَ فِيهِ بِالْوُضُوءِ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. الرَّابِعُ: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْوُضُوءَ مِنْهُ نِيًّا وَمَطْبُوخًا، وَذَلِكَ يَمْنَعُ كَوْنَهُ مَنْسُوخًا.

الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ أَتَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصٌّ عَامٌّ بِقَوْلِهِ: «لَا وُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» ، لَمْ يَجُزْ جَعْلُهُ نَاسِخًا لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَبْلَهُ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ، وَلَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ، فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَنْسَخُهُ، بَلْ إمَّا أَنْ يُقَالَ الْخَاصُّ هُوَ الْمُقَدَّمُ، كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَإِمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ، بَلْ لَوْ عَلِمَ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ الْخَاصِّ لَكَانَ الْخَاصُّ مُقَدَّمًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْخَاصَّ بَعْدَ الْعَامِّ، فَإِنْ كَانَ نَسْخٌ كَانَ الْخَاصُّ نَاسِخًا، وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَاصَّ الْمُتَأَخِّرَ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ، فَعُلِمَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ مِثْلِ هَذَا الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لَوْ كَانَ هُنَا لَفْظٌ عَامٌّ، كَيْفَ وَلَمْ يَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ عَامٌّ يَنْسَخُ الْوُضُوءَ مِنْ كُلِّ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ. وَإِنَّمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّهُ أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَكَذَلِكَ أَتَى بِالسَّوِيقِ فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ لَمْ يَتَوَضَّأْ» ، وَهَذَا فِعْلٌ لَا عُمُومَ لَهُ، فَإِنَّ التَّوَضُّؤَ مِنْ لَحْمِ الْغَنَمِ لَا يَجِبُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ، وَالْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ دَلِيلُ ذَلِكَ، وَأَمَّا جَابِرٌ فَإِنَّمَا نَقَلَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» ، وَهَذَا نَقْلٌ لِفِعْلِهِ لَا لِقَوْلِهِ. فَإِذَا شَاهَدُوهُ قَدْ أَكَلَ لَحْمَ غَنَمٍ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ، صَحَّ أَنْ يُقَالَ: التَّرْكُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ، وَالتَّرْكُ الْعَامُّ لَا يُحَاطُ بِهِ إلَّا بِدَوَامِ مُعَاشَرَتِهِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ الْمَنْقُولُ عَنْهُ التَّرْكُ فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ. ثُمَّ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ لَا يُوجِبُ تَرْكَهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَلَحْمُ الْإِبِلِ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْهُ لِأَجْلِ مَسِّ النَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ، بَلْ الْمَعْنَى يَخْتَصُّ بِهِ وَيَتَنَاوَلُهُ نِيًّا وَمَطْبُوخًا، فَبَيْنَ الْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ وَالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، هَذَا أَعَمُّ مِنْ وَجْهٍ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ. وَقَدْ يَتَّفِقُ الْوَجْهَانِ، فَيَكُونُ لِلْحُكْمِ عِلَّتَانِ، وَقَدْ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ التَّوَضُّؤِ مِنْ خُرُوجِ النَّجَاسَةِ مَعَ الْوُضُوءِ مِنْ الْقُبْلَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُقَبِّلُ

فَيُمْذِي، وَقَدْ يُقَبِّلُ فَلَا يُمْذِي، وَقَدْ يُمْذِي مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ. فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ مِنْ مَسِّ النِّسَاءِ لَمْ يُنْفَ الْوُضُوءُ مِنْ الْمَذْيِ. وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، وَهَذَا بَيِّنٌ. وَأَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْوُضُوءُ اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ غَسْلُ الْيَدِ، أَوْ الْيَدِ وَالْفَمِ، فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْوُضُوءَ فِي كَلَامِ رَسُولِنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرِدْ بِهِ قَطُّ إلَّا وُضُوءُ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى فِي لُغَةِ الْيَهُودِ، كَمَا رُوِيَ «أَنَّ سَلْمَانَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ: مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ. فَقَالَ: مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ» . فَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ تُنُوزِعَ فِي صِحَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ صَحِيحًا فَقَدْ أَجَابَ سَلْمَانَ بِاللُّغَةِ الَّتِي خَاطَبَهُ بِهَا لُغَةَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ، وَأَمَّا اللُّغَةُ الَّتِي خَاطَبَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، فَلَمْ يَرِدْ فِيهَا الْوُضُوءُ إلَّا فِي الْوُضُوءِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ اللَّحْمَيْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَسْلَ الْيَدِ، وَالْفَمِ مِنْ الْغَمْرِ مَشْرُوعٌ مُطْلَقًا، بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ «أَنَّهُ تَمَضْمَضَ مِنْ لَبَنٍ ثُمَّ شَرِبَهُ. وَقَالَ: إنَّ لَهُ دَسَمًا» . وَقَالَ: «مَنْ بَاتَ وَبِيَدِهِ غَمَرٌ، فَأَصَابَهُ شَيْءٌ، فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» . فَإِذَا كَانَ قَدْ شَرَعَ ذَلِكَ مِنْ اللَّبَنِ وَالْغَمَرِ، فَكَيْفَ لَا يَشْرَعُهُ مِنْ لَحْمِ الْغَنَمِ؟ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ، إنْ كَانَ أَمْرَ إيجَابٍ امْتَنَعَ حَمْلُهُ عَلَى غَسْلِ الْيَدِ وَالْفَمِ، وَإِنْ كَانَ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ امْتَنَعَ رَفْعُ الِاسْتِحْبَابِ عَنْ لَحْمِ الْغَنَمِ،

مسألة المرأة إذا اغتسلت من جنابة أو حيض

وَالْحَدِيثُ فِيهِ أَنَّهُ رَفَعَ عَنْ لَحْمِ الْغَنَمِ مَا أَثْبَتَهُ لِلَحْمِ الْإِبِلِ، وَهَذَا يُبْطِلُ كَوْنَهُ غَسَلَ الْيَدَ، سَوَاءٌ كَانَ حُكْمُ الْحَدِيثِ إيجَابًا أَوْ اسْتِحْبَابًا. الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ قَرَنَهُ بِالصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِهَا مُفَرِّقًا بَيْنَ ذَلِكَ وَهَذَا مِمَّا يُفْهَمُ مِنْهُ وُضُوءُ الصَّلَاةِ قَطْعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَة إذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ جَنَابَة أَوْ حَيْض] 49 - 33 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ قِيلَ لَهَا إذَا كَانَ عَلَيْك نَجَاسَةٌ مِنْ عُذْرِ النِّسَاءِ، أَوْ مِنْ جَنَابَةٍ، لَا تَتَوَضَّئِي إلَّا تَمْسَحِي بِالْمَاءِ مِنْ دَاخِلِ الْفَرْجِ، فَهَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ جَنَابَةٍ أَوْ حَيْضٍ، غَسْلُ دَاخِلِ الْفَرْجِ، فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. 50 - 34 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَتَيْنِ تَبَاحَثَتَا فَقَالَتْ إحْدَاهُمَا: يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَدُسَّ أُصْبُعَهَا وَتَغْسِلَ الرَّحِمَ مِنْ دَاخِلٍ، وَقَالَتْ الْأُخْرَى: لَا يَجِبُ إلَّا غَسْلُ الْفَرْجِ مِنْ ظَاهِرٍ، فَأَيُّهُمَا عَلَى الصَّوَابِ؟ الْجَوَابُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ وَإِنْ فَعَلَتْ جَازَ. [مَسْأَلَةٌ مِنْ تَضَعُ دَوَاءً لِتَمْنَع نُفُوذَ الْمَنِيِّ فِي مَجَارِي الْحَبَلِ] 51 - 35 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ تَضَعُ مَعَهَا دَوَاءً وَقْتَ الْمُجَامَعَةِ تَمْنَعُ بِذَلِكَ نُفُوذَ الْمَنِيِّ فِي مَجَارِي الْحَبَلِ، فَهَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ حَلَالٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ إذَا بَقِيَ ذَلِكَ الدَّوَاءُ مَعَهَا بَعْدَ الْجِمَاعِ، وَلَمْ يَخْرُجْ، يَجُوزُ لَهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ بَعْدَ الْغُسْلِ أَمْ لَا الْجَوَابُ: أَمَّا صَوْمُهَا وَصَلَاتُهَا فَصَحِيحَةٌ إنْ كَانَ ذَلِكَ الدَّوَاءُ فِي جَوْفِهَا، وَأَمَّا جَوَازُ ذَلِكَ فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَحْوَطُ أَنَّهُ لَا يُفْعَلُ،

مسألة آداب الحمام

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ آدَاب الْحَمَّامِ] 52 - 36 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الْخَلْوَةِ؟ وَمَا هُوَ الَّذِي يَفْعَلُهُ مِنْ آدَابِ الْحَمَّامِ؟ الْجَوَابُ: لَا يَلْزَمُ الْمُتَطَهِّرَ كَشْفُ عَوْرَتِهِ لَا فِي الْخَلْوَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا، إذَا طَهُرَ جَمِيعُ بَدَنِهِ. لَكِنْ إنْ كَشَفَهَا فِي الْخَلْوَةِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ كَالتَّطَهُّرِ وَالتَّخَلِّي جَازَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اغْتَسَلَ عُرْيَانًا، وَأَنَّ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اغْتَسَلَ عُرْيَانًا. وَفِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ تَسْتُرُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ بِثَوْبٍ وَهُوَ يَغْتَسِلُ ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الضُّحَى، وَيُقَالُ إنَّهَا صَلَاةُ الْفَتْحِ» . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: «أَنَّ مَيْمُونَةَ سَتَرَتْهُ فَاغْتَسَلَ» . وَعَلَى دَاخِلِ الْحَمَّامِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، فَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنْ نَظَرِهَا، وَلَا لَمْسِهَا، سَوَاءٌ كَانَ الْقَيِّمُ الَّذِي يَغْسِلُهُ أَوْ غَيْرُهُ، وَلَا يَنْظُرُ إلَى عَوْرَةِ أَحَدٍ وَلَا يَلْمَسُهَا إذَا لَمْ يَحْتَجْ لِذَلِكَ لِأَجْلِ مُدَاوَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَذَاكَ شَيْءٌ آخَرُ. وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» . فَيَأْمُرُ بِتَغْطِيَةِ الْعَوْرَاتِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَكُونَ حَيْثُ لَا يَشْهَدُ مُنْكَرًا فَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ، إذْ شُهُودُ الْمُنْكَرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَلَا إكْرَاهٍ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.

وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْرِفَ فِي صَبِّ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُطْلَقًا. وَهُوَ فِي الْحَمَّامِ يُنْهِي عَنْهُ لِحَقِّ الْحَمَّامِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِيهَا مَالٌ مِنْ أَمْوَالِهِ لَهُ قِيمَةٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَلْزَمَ السُّنَّةَ فِي طَهَارَتِهِ، فَلَا يَجْفُو جَفَاءَ النَّصَارَى، وَلَا يَغْلُو غُلُوَّ الْيَهُودِ، كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْوَسْوَسَةِ، بَلْ حِيَاضُ الْحَمَّامِ طَاهِرَةٌ مَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ فَائِضَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْأُنْبُوبُ تَصُبُّ فِيهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَسَوَاءٌ بَاتَ الْمَاءُ أَوْ لَمْ يَبِتْ، وَسَوَاءٌ تَطَهَّرَ مِنْهَا النَّاسُ أَوْ لَمْ يَتَطَهَّرُوا، فَإِذَا اغْتَسَلَ مِنْهَا جَمَاعَةٌ جَازَ ذَلِكَ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَامْرَأَتُهُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ، قَدْرَ الْفَرَقِ» . فَهَذَا إنَاءٌ صَغِيرٌ لَا يُفِيضُ، وَلَا أُنْبُوبَ فِيهِ، وَهُمَا يَغْتَسِلَانِ مِنْهُ جَمِيعًا. وَفِي لَفْظٍ: «فَأَقُولُ دَعْ لِي، وَيَقُولُ دَعْ لِي» وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: عَنْ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ» . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا: «أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ» . وَالصَّاعُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ يَكُونُ بِالرَّطْلِ الْمِصْرِيِّ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَرْطَالٍ، نَحْوُ خَمْسَةٍ إلَّا رُبُعًا، وَالْمُدُّ رُبُعُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: هُوَ نَحْوٌ مِنْ سَبْعَةِ أَرْطَالٍ بِالْمِصْرِيِّ. وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقُولَ الطَّامَّةُ إذَا وَقَعَتْ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ تَنَجَّسَتْ، فَإِنَّ أَرْضَ الْحَمَّامِ الْأَصْلُ فِيهَا الطَّهَارَةُ، وَمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ نَجَاسَةٍ: كَبَوْلٍ، فَهُوَ يَصُبُّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَاءِ مَا يُزِيلُهُ، وَهُوَ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ الطُّرُقَاتِ بِكَثِيرٍ، وَالْأَصْلُ فِيهَا الطَّهَارَةُ، بَلْ كَمَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ عَلَى أَرْضِهَا نَجَاسَةً، فَكَذَلِكَ يَتَيَقَّنُ أَنَّ الْمَاءَ يَعُمُّ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَلَا يَجْزِمُ عَلَى بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا أَنَّهَا نَجِسَةٌ إنْ لَمْ يَعْلَمْ حُصُولَ النَّجَاسَةِ فِيهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة عبور الحمام

[مَسْأَلَةٌ عُبُور الْحَمَّامِ] مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ عَامِّيٍّ، سُئِلَ عَنْ عُبُورِ الْحَمَّامِ، فَأَجَابَ عَنْ عُبُورِهَا حَرَامٌ، وَنَقَلَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَسْنَدَ الْحَدِيثَ إلَى كِتَابِ مُسْلِمٍ، فَهَلْ صَحَّ هَذَا أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ لِأَحَدٍ، لَا فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ، وَلَا غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ حَرَّمَ الْحَمَّامَ، بَلْ الَّذِي فِي السُّنَنِ: أَنَّهُ قَالَ: «سَتَفْتَحُونَ أَرْضَ الْعَجَمِ وَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا يُقَالُ لَهَا الْحَمَّامَاتِ فَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ ذُكُورِ أُمَّتِي فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرٍ؛ وَمَنْ كَانَتْ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ إنَاثِ أُمَّتِي فَلَا تَدْخُلُ الْحَمَّامَ إلَّا مَرِيضَةً، أَوْ نُفَسَاءَ» وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَالْحَمَّامُ مَنْ دَخَلَهَا مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ، وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى عَوْرَةِ أَحَدٍ، وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا يَمَسُّ عَوْرَتَهُ؛ وَلَمْ يَفْعَلْ فِيهَا مُحَرَّمًا؛ وَأَنْصَفَ الْحَمَّامِيَّ، فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَدْخُلُهَا لِلضَّرُورَةِ مَسْتُورَةَ الْعَوْرَةِ، وَهَلْ تَدْخُلُهَا إذَا تَعَوَّدَتْهَا وَشَقَّ عَلَيْهَا تَرْكُ الْعَادَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. أَحَدُهُمَا: لَهَا أَنْ تَدْخُلُهَا، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ. وَالثَّانِي: لَا تَدْخُلُهَا، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ يَهِيجُ عَلَيْهِ بَدَنُهُ فَيَسْتَمْنِي بِيَدِهِ] 54 - 38 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ يَهِيجُ عَلَيْهِ بَدَنُهُ فَيَسْتَمْنِي بِيَدِهِ، وَبَعْضُ الْأَوْقَاتِ يُلْصِقُ وَرِكَيْهِ عَلَى ذَكَرِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ إزَالَةَ هَذَا بِالصَّوْمِ لَكِنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ: أَمَّا مَا نَزَلَ مِنْ الْمَاءِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ، لَكِنْ عَلَيْهِ الْغُسْلُ إذَا نَزَلَ الْمَاءُ الدَّافِقُ. وَأَمَّا إنْزَالُهُ بِاخْتِيَارِهِ بِأَنْ يَسْتَمْنِيَ بِيَدِهِ فَهَذَا حَرَامٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ؛ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ بَلْ أَظْهَرُهُمَا. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ لَكِنْ إنْ اضْطَرَّ إلَيْهِ

مسألة من بها مرض في عينيها وليس لها قدرة على الحمام

مِثْلُ أَنْ يَخَافَ الزِّنَا إنْ لَمْ يَسْتَمْنِ، أَوْ يَخَافَ الْمَرَضَ، فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَقَدْ رَخَّصَ فِي هَذِهِ الْحَالِ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَنَهَى عَنْهُ آخَرُونَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مِنْ بِهَا مَرَضٌ فِي عَيْنَيْهَا وَلَيْسَ لَهَا قُدْرَةٌ عَلَى الْحَمَّامِ] 55 - 39 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ بِهَا مَرَضٌ فِي عَيْنَيْهَا، وَثِقَلٌ فِي جِسْمِهَا مِنْ الشَّحْمِ، وَلَيْسَ لَهَا قُدْرَةٌ عَلَى الْحَمَّامِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَزَوْجُهَا لَمْ يَدَعْهَا تَطْهُرُ، وَهِيَ تَطْلُبُ الصَّلَاةَ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَغْسِلَ جِسْمَهَا الصَّحِيحَ وَتَتَيَمَّمَ عَنْ رَأْسِهَا؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ إذَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الِاغْتِسَالِ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ وَلَا الْحَارِّ، فَعَلَيْهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، لَكِنْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ أَنَّهَا تَغْسِلُ مَا يُمْكِنُ وَتَتَيَمَّمُ لِلْبَاقِي، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، إنْ غَسَلَتْ الْأَكْثَرَ لَمْ تَتَيَمَّمْ، إنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا غَسْلُ الْأَقَلِّ تَيَمَّمَتْ، وَلَا غُسْلَ عَلَيْهَا. [مَسْأَلَةٌ جُنُب فِي بَيْتٍ مُبَلَّطٍ مُغْلَق عَلَيْهِ لَا يَعْلَم مَتَى يَخْرَج مِنْهُ] 56 - 40 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ جُنُبٍ؛ وَهُوَ فِي بَيْتٍ مُبَلَّطٍ، عَادِمٌ فِيهِ التُّرَابَ، مَغْلُوقٌ عَلَيْهِ الْبَابَ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَتَى يَكُونُ الْخُرُوجُ مِنْهُ، فَهَلْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ إلَى وُجُودِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَلَا عَلَى التَّمَسُّحِ بِالصَّعِيدِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِلَا مَاءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ، وَهَلْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . وَلَمْ يَأْمَرْ الْعَبْدَ بِصَلَاتَيْنِ، وَإِذَا صَلَّى قَرَأَ الْقِرَاءَةَ الْوَاجِبَةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة أيصلي بوضوء محتقنا أم يحدث ثم يتيمم لعدم الماء

[مَسْأَلَةٌ أَيُصَلِّي بِوُضُوءٍ مُحْتَقِنًا أَمْ يُحْدِثُ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِعَدَمِ الْمَاءِ] مَسْأَلَةٌ: فِي الْحَاقِنِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ: يُصَلِّي بِوُضُوءٍ مُحْتَقِنًا أَوْ أَنْ يُحْدِثَ ثُمَّ يَتَيَمَّمَ لِعَدَمِ الْمَاءِ الْجَوَابُ: صَلَاتُهُ بِالتَّيَمُّمِ بِلَا احْتِقَانٍ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ بِالْوُضُوءِ مَعَ الِاحْتِقَانِ، فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَعَ الِاحْتِقَانِ مَكْرُوهَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَفِي صِحَّتِهَا رِوَايَتَانِ، وَأَمَّا صَلَاةُ التَّيَمُّمِ فَصَحِيحَةٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ] 58 - 42 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أَصَابَهُ جَنَابَةٌ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ، أَوْ الْخَوْفِ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، فَهَلْ إذَا تَيَمَّمَ وَصَلَّى، وَقَرَأَ، وَمَسَّ الْمُصْحَفَ، وَتَهَجَّدَ بِاللَّيْلِ إمَامًا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُعِيدُ الصَّلَاةَ أَمْ لَا؟ وَإِلَى كَمْ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَ خَائِفًا مِنْ الْبَرْدِ إنْ اغْتَسَلَ بِالْمَاءِ يَمْرَضُ، أَوْ كَانَ خَائِفًا إنْ اغْتَسَلَ أَنْ يُرْمَى بِمَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ وَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، أَوْ كَانَ خَائِفًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ عَدُوٌّ، أَوْ سَبُعٌ يَخَافُ ضَرَرَهُ إنْ قَصَدَ الْمَاءَ، فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي مِنْ الْجَنَابَةِ، وَالْحَدَثِ الْأَصْغَرِ. وَأَمَّا الْإِعَادَةُ فَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّيَمُّمِ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ هَلْ يُعِيدُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، أَوْ لَا يُعِيدُ فِيهِمَا، أَوْ يُعِيدُ فِي الْحَضَرِ فَقَطْ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: وَالْأَشْبَهُ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ بِحَالٍ. وَمَنْ جَازَتْ لَهُ الصَّلَاةُ جَازَ لَهُ الْقِرَاءَةُ، وَمَسُّ الْمُصْحَفِ، وَالْمُتَيَمِّمُ يَؤُمُّ الْمُغْتَسِلَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ نَامَ جُنُبًا فَاسْتَيْقَظَ قَرَّبَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَخَشِيَ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِد] 59 - 43 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ نَامَ وَهُوَ جُنُبٌ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ إلَّا قَرِيبَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَخَشِيَ مِنْ الْغُسْلِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فِي وَقْتِ الْبَرْدِ، وَإِنْ سَخَّنَ الْمَاءَ خَرَجَ الْوَقْتُ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفَوِّتَ الصَّلَاةَ إلَى حَيْثُ يَغْتَسِلُ، أَوْ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّ؟ .

مسألة سافر مع رفقة هو إمامهم فاحتلم في يوم شديد البرد

الْجَوَابُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: فَأَكْثَرُهُمْ كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ يَأْمُرُونَهُ بِطَلَبِ الْمَاءِ، وَإِنْ صَلَّى بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَمَالِكٌ يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ لِلْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ إنْ اسْتَيْقَظَ أَوَّلَ الْوَقْتِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ الْمَاءَ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ فِي الْوَقْتِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُصَلِّي بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِالْغُسْلِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَنَظَائِرِهَا، وَبَيْنَ صُورَةِ السُّؤَالِ بِأَنَّهُ قَالَ إنَّمَا خُوطِبَ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» . وَإِذَا كَانَ إنَّمَا أُمِرَ بِهَا بَعْدَ الِانْتِبَاهِ فَعَلَيْهِ بِفِعْلِهَا بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُ مِنْ الِاغْتِسَالِ الْمُعْتَادِ، فَيَكُونُ فِعْلُهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِعْلًا فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِالصَّلَاةِ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ سَافَرَ مَعَ رُفْقَةٍ هُوَ إمَامُهُمْ فَاحْتَلَمَ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْبَرْدِ] 60 - 44 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ سَافَرَ مَعَ رُفْقَةٍ وَهُوَ إمَامُهُمْ، ثُمَّ احْتَلَمَ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْبَرْدِ، وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَقْتُلَهُ الْبَرْدُ، تَيَمَّمَ وَصَلَّى بِهِمْ، يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةٌ، وَعَلَى مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ ثَلَاثُ مَسَائِلَ. الْأُولَى: أَنَّ تَيَمُّمَهُ جَائِزٌ، وَصَلَاتَهُ جَائِزَةٌ، وَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ وَالْحَالُ هَذِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ فِي السُّنَنِ: «عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ بِالتَّيَمُّمِ فِي السَّفَرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَكَذَلِكَ هَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.

مسألة المرأة إذا انقطع حيضها ألزوجها وطؤها قبل أن تغتسل

الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ هَلْ يَؤُمُّ الْمُتَوَضِّئِينَ؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَؤُمُّهُمْ كَمَا أَمَّهُمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَذْهَبُ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ لَا يَؤُمُّهُمْ. الثَّالِثَةُ: فِي الْإِعَادَةِ، فَالْمَأْمُومُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ مَعَ صِحَّةِ صَلَاتِهِ، وَأَمَّا الْإِمَامُ أَوْ غَيْرُهُ إذَا صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ، فَقِيلَ: يُعِيدُ مُطْلَقًا، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: يُعِيدُ فِي الْحَضَرِ فَقَطْ دُونَ السَّفَرِ، كَقَوْلٍ لَهُ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ، وَقِيلَ: لَا يُعِيدُ مُطْلَقًا، كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بِإِعَادَةٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَعْذَارِ الْمُعْتَادَةِ وَغَيْرِ الْمُعْتَادَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَة إذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا أَلِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا قَبْل أَنْ تَغْتَسِلَ] 61 - 45 - مَسْأَلَةٌ: فِي الْمَرْأَةِ إذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا، هَلْ يَجُوزُ لِزَوْجِهَا أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا الْمَرْأَةُ الْحَائِضُ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا، فَلَا يَطَؤُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ إنْ كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى الِاغْتِسَالِ، وَإِلَّا تَيَمَّمَتْ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَهَذَا مَعْنَى مَا يُرْوَى عَنْ الصَّحَابَةِ، حَيْثُ رُوِيَ عَنْ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ الْخُلَفَاءُ: أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْمُعْتَدَّةِ: هُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] . قَالَ مُجَاهِدٌ: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] حَتَّى يَنْقَطِعَ الدَّمُ، فَإِذَا تَطَهَّرْنَ اغْتَسَلْنَ بِالْمَاءِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ غَايَتَيْنِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] غَايَةُ التَّحْرِيمِ الْحَاصِلِ بِالْحَيْضِ، وَهُوَ تَحْرِيمٌ لَا يَزُولُ بِالِاغْتِسَالِ وَلَا غَيْرِهِ، فَهَذَا التَّحْرِيمُ يَزُولُ بِانْقِطَاعٍ، ثُمَّ يَبْقَى الْوَطْءُ بَعْدَ ذَلِكَ جَائِزًا بِشَرْطِ الِاغْتِسَالِ لَا يَبْقَى مُحَرَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ وَلِهَذَا قَالَ:

مسألة الخمر إذا انقلبت خلا

{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] . وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . فَنِكَاحُ الزَّوْجِ الثَّانِي غَايَةُ التَّحْرِيمِ الْحَاصِلِ بِالثَّلَاثِ. فَإِذَا نَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ، يَعْنِي ثَانِيًا زَالَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ لَكِنْ صَارَتْ فِي عِصْمَةِ الثَّانِي، فَحُرِّمَتْ لِأَجْلِ حَقِّهِ، لَا لِأَجْلِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، فَإِذَا طَلَّقَهَا جَازَ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] أَيْ غَسَلْنَ فُرُوجَهُنَّ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] فَالتَّطْهِيرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ هُوَ الِاغْتِسَالُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] فَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُغْتَسِلُ، وَالْمُتَوَضِّئُ، وَالْمُسْتَنْجِي، لَكِنْ التَّطَهُّرُ الْمَعْرُوفُ بِالْحَيْضِ كَالتَّطَهُّرِ الْمَعْرُوفِ بِالْجَنَابَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الِاغْتِسَالُ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إذَا اغْتَسَلَتْ أَوْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ، أَوْ انْقَطَعَ الدَّمُ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالصَّوَابُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْخَمْر إذَا انْقَلَبَتْ خَلًّا] 62 - 46 - مَسْأَلَةٌ: فِي الْخَمْرَةِ إذَا انْقَلَبَتْ خَلًّا، وَلَمْ يَعْلَمْ بِقَلْبِهَا، هَلْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهَا، أَوْ يَبِيعَهَا، أَوْ إذَا عَلِمَ أَنَّهَا انْقَلَبَتْ، هَلْ يَأْكُلُ مِنْهَا أَوْ يَبِيعُهَا؟ الْجَوَابُ: أَمَّا التَّخْلِيلُ فَفِيهِ نِزَاعٌ، قِيلَ: يَجُوزُ تَخْلِيلُهَا كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ لَكِنْ إذَا خُلِّلَتْ طَهُرَتْ كَمَا يُحْكَى عَنْ مَالِكٍ، وَقِيلَ: يَجُوزُ بِنَقْلِهَا مِنْ الشَّمْسِ إلَى الظِّلِّ، وَكَشْفِ الْغِطَاءِ عَنْهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ دُونَ أَنْ يُلْقَى فِيهَا شَيْءٌ، كَمَا هُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، كَمَا يَقُولُهُ

مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ خَمْرٍ لِيَتَامَى، فَأَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُمْ فُقَرَاءُ، فَقَالَ: سَيُغْنِيهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» . فَلَمَّا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا وَنَهَى عَنْ تَخْلِيلِهَا وَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، فَيَجِبُ أَنْ تُرَاقَ الْخَمْرَةُ وَلَا تُخَلَّلُ، هَذَا مَعَ كَوْنِهِمْ كَانُوا يَتَامَى، وَمَعَ كَوْنِ تِلْكَ الْخَمْرَةِ كَانَتْ مُتَّخَذَةً قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَلَمْ يَكُونُوا عُصَاةً. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، فَأُمِرُوا بِذَلِكَ كَمَا أُمِرُوا بِكَسْرِ الْآنِيَةِ، وَشَقِّ الظُّرُوفِ لِيَمْتَنِعُوا عَنْهَا. قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَمَرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُنْسَخُ إلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَمْ يَرِدْ بَعْدَ هَذَا نَصٌّ يَنْسَخُهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ بَعْدَ مَوْتِهِ عَمِلُوا بِهَذَا، كَمَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَأْكُلُوا خَلَّ خَمْرٍ إلَّا خَمْرًا بَدَأَ اللَّهُ بِفَسَادِهَا، وَلَا جُنَاحَ عَلَى مُسْلِمٍ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ خَلِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ. فَهَذَا عُمَرُ يَنْهَى عَنْ خَلِّ الْخَمْرِ الَّتِي قُصِدَ إفْسَادُهَا، وَيَأْذَنُ فِيمَا بَدَأَ اللَّهُ بِإِفْسَادِهَا، وَيُرَخِّصُ فِي اشْتِرَاءِ خَلِّ الْخَمْرِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُفْسِدُونَ خَمْرَهُمْ، وَإِنَّمَا يَتَخَلَّلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ، وَفِي قَوْلِ عُمَرَ حُجَّةٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: الصَّحَابَةُ كَانُوا أَطْوَعَ النَّاسِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلِهَذَا لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْخَمْرَ أَرَاقُوهَا، فَإِذَا كَانُوا مَعَ هَذَا قَدْ نُهُوا عَنْ تَخْلِيلِهَا وَأُمِرُوا بِإِرَاقَتِهَا فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ أَوْلَى مِنْهُمْ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ أَقَلُّ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُمْ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ غَلَّظَ عَلَى النَّاسِ الْعُقُوبَةَ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، حَتَّى كَانَ يَنْفِي فِيهَا: لِأَنَّ أَهْلَ زَمَانِهِ كَانُوا أَقَلَّ اجْتِنَابًا لَهَا مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَيْفَ يَكُونُ زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟

لَا رَيْبَ أَنَّ أَهْلَهُ أَقَلُّ اجْتِنَابًا لِلْمَحَارِمِ، فَكَيْفَ تُسَدُّ الذَّرِيعَةُ عَنْ أُولَئِكَ الْمُتَّقِينَ، وَتُفْتَحُ لِغَيْرِهِمْ، وَهُمْ أَقَلُّ تَقْوًى مِنْهُمْ. وَأَمَّا مَا يُرْوَى: «خَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ» فَهَذَا الْكَلَامُ لَمْ يَقُلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ نَقَلَهُ عَنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَلَكِنْ هُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ، فَإِنَّ خَلَّ الْخَمْرِ لَا يَكُونُ فِيهَا مَاءٌ، وَلَكِنْ الْمُرَادُ بِهِ الَّذِي بَدَأَ اللَّهُ بِقَلْبِهِ. وَأَيْضًا فَكُلُّ خَمْرٍ يُعْمَلُ مِنْ الْعِنَبِ بِلَا مَاءٍ فَهُوَ مِثْلُ خَلِّ الْخَمْرِ. وَقَدْ وَصَفَ الْعُلَمَاءُ عَمَلَ الْخَلِّ أَنَّهُ يُوضَعُ أَوَّلًا فِي الْعِنَبِ شَيْءٌ يُحَمِّضُهُ حَتَّى لَا يَسْتَحِيلَ أَوَّلًا خَمْرًا، وَلِهَذَا تَنَازَعُوا فِي خَمْرَةِ الْخِلَالِ، هَلْ يَجِبُ إرَاقَتُهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، أَظْهَرُهُمَا وُجُوبُ إرَاقَتِهَا كَغَيْرِهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ خَمْرَةٌ مُحْتَرَمَةٌ، وَلَوْ كَانَ لِشَيْءٍ مِنْ الْخَمْرِ حُرْمَةٌ لَكَانَتْ الْخَمْرُ لِلْيَتَامَى الَّتِي اُشْتُرِيَتْ لَهُمْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِاجْتِنَابِ الْخَمْرِ، فَلَا يَجُوزُ إفْسَادُهَا، وَلَا يَكُونُ فِي بَيْتِ مُسْلِمٍ خَمْرٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ فِي التَّخْلِيلِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ اعْتَقَدَ أَنَّ التَّخْلِيلَ إصْلَاحٌ لَهَا: كَدِبَاغِ الْجِلْدِ النَّجِسِ. وَبَعْضُهُمْ قَالَ: اقْتِنَاؤُهَا لَا يَجُوزُ، لَا لِتَخْلِيلٍ وَلَا غَيْرِهِ، لَكِنْ إذَا صَارَتْ خَلًّا فَكَيْفَ تَكُونُ نَجِسَةً. وَبَعْضُهُمْ قَالَ: إذَا أُلْقِيَ فِيهَا شَيْءٌ تَنَجَّسَ أَوَّلًا، ثُمَّ تَنَجَّسَتْ بِهِ ثَانِيًا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُلْقَ فِيهَا شَيْءٌ، فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ. وَأَمَّا أَهْلُ الْقَوْلِ الرَّاجِحِ فَقَالُوا: قَصْدُ الْمُخَلِّلِ لِتَخْلِيلِهَا الْمُوجِبِ لِتَنْجِيسِهَا، فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْ اقْتِنَائِهَا وَأَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا، فَإِذَا قَصَدَ التَّخْلِيلَ كَانَ قَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا، وَغَايَةُ مَا يَكُونُ تَخْلِيلُهَا كَتَذْكِيَةِ الْحَيَوَانِ، وَالْعَيْنُ إذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً لَمْ تَصِرْ مُحَلَّلَةً بِالْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلنِّعْمَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْحَيَوَانُ مُحَرَّمًا قَبْلَ التَّذْكِيَةِ، وَلَا يُبَاحُ إلَّا بِالتَّذْكِيَةِ، فَلَوْ ذَكَّاهُ تَذْكِيَةً مُحَرَّمَةً، مِثْلُ أَنْ يُذَكِّيَهُ فِي غَيْرِ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ أَوَّلًا يَقْصِدُ ذَكَاتَهُ، أَوْ يَأْمُرَ وَثَنِيًّا، أَوْ مَجُوسِيًّا بِتَذْكِيَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ. وَكَذَلِكَ الصَّيْدُ إذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ لَمْ يَصِرْ ذَكِيًّا، فَالْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ تَكُونُ طَاهِرَةً

مسألة صلاة من يخرج من ذكره قيح لا ينقطع

حَلَالًا فِي حَالٍ، وَتَكُونُ حَرَامًا نَجِسَةً فِي حَالٍ، تَارَةً بِاعْتِبَارِ الْفَاعِلِ، كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْوَثَنِيِّ، وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ، كَالْفَرْقِ بَيْنَ الذَّبِيحَةِ بِالْمُحَدَّدِ وَغَيْرِهِ، وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ وَغَيْرِهِ، كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْعِتْقِ وَغَيْرِهِ، وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ قَصْدِ الْفَاعِلِ، كَالْفَرْقِ بَيْنَ مَا قَصَدَ تَذْكِيَتَهُ، وَمَا قَصَدَ قَتْلَهُ. حَتَّى إنَّهُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، إذَا ذَكَّى الْحَلَالَ صَيْدًا أُبِيحَ لِلْحَلَالِ دُونَ الْمُحْرِمِ، فَيَكُونُ حَلَالًا طَاهِرًا فِي حَقِّ هَذَا، حَرَامًا نَجِسًا فِي حَقِّ هَذَا. وَانْقِلَابُ الْخَمْرِ إلَى الْخَلِّ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، مِثْلَ: مَا كَانَ ذَلِكَ مَحْظُورًا، فَإِذَا قَصَدَهُ الْإِنْسَانُ لَمْ يَصِرْ الْخَلُّ بِهِ حَلَالًا، وَلَا طَاهِرًا كَمَا لَمْ يَصِرْ لَحْمُ الْحَيَوَانِ حَلَالًا طَاهِرًا بِتَذْكِيَةٍ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ هُوَ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ مَتَى عُلِمَ أَنَّ صَاحِبَهَا قَدْ قَصَدَ تَخْلِيلَهَا، لَمْ تُشْتَرَ مِنْهُ، إذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ جَازَ اشْتِرَاؤُهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ صَاحِبَ الْخَمْرِ لَا يَرْضَى أَنْ يُخَلِّلَهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ صَلَاةُ مِنْ يَخْرُجُ مِنْ ذَكَرِهِ قَيْحٌ لَا يَنْقَطِعُ] 63 - 47 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنْ ذَكَرِهِ قَيْحٌ لَا يَنْقَطِعُ، فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ مَعَ خُرُوجِ ذَلِكَ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ الْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُبْطِلَ الصَّلَاةَ، بَلْ يُصَلِّي بِحَسَبِ إمْكَانِهِ، فَإِنْ لَمْ تَنْقَطِعْ النَّجَاسَةُ قَدْرَ مَا يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي، صَلَّى بِحَسَبِ حَالِهِ بَعْدَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَإِنْ خَرَجَتْ النَّجَاسَةُ فِي الصَّلَاةِ، لَكِنْ يَتَّخِذُ حِفَاظًا يَمْنَعُ مِنْ انْتِشَارِ النَّجَاسَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْمَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ] 64 - 48 - مَسْأَلَةٌ: فِي أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. هَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ غَيْرَ مُخَرَّقٍ حَتَّى لَا يَظْهَرَ شَيْءٌ مِنْ الْقَدَمِ. وَهَلْ لِلتَّخْرِيقِ حَدٌّ، وَمَا الْقَوْلُ الرَّاجِحُ بِالدَّلِيلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:

{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] . فَإِنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ. هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَغَيْرِهِمْ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى مَا فِيهِ خَرْقٌ يَسِيرٌ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي حَدِّ ذَلِكَ. وَاخْتَارَ هَذَا بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ إلَّا عَلَى مَا يَسْتُرُ جَمِيعَ مَحَلِّ الْغَسْلِ. قَالُوا: لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ بَعْضُ الْقَدَمِ كَانَ فَرْضُ مَا ظَهَرَ الْغَسْلَ، وَفَرْضُ مَا بَطَنَ الْمَسْحَ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ، أَيْ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَغْسِلَ الْقَدَمَيْنِ وَإِمَّا أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَهُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَدَ وَنُصُوصِهِ فِي الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ الْعَوْرَةِ، وَعَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، بِأَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُطْلَقًا، قَوْلًا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلًا. «كَقَوْلِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا كُنَّا سَفْرًا أَوْ مُسَافِرِينَ أَنْ لَا نَنْزِعَ أَخْفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ لَا نَنْزِعُ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ» ، رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أُمَّتَهُ أَنْ لَا يَنْزِعُوا أَخْفَافَهُمْ فِي السَّفَرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ الْغَائِطِ، وَالْبَوْلِ، وَالنَّوْمِ، وَلَكِنْ يَنْزِعُوهَا مِنْ الْجَنَابَةِ، وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ لِأَصْحَابِهِ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى التَّسَاخِينِ، وَالْعَصَائِبِ. وَالتَّسَاخِينُ: هِيَ الْخُفَّانِ، فَإِنَّهَا تُسَخِّنُ الرِّجْلَ. وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ» ، وَتَلَقَّى أَصْحَابُهُ عَنْهُ

ذَلِكَ فَأَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِجَوَازِ " الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَنَقَلُوا أَيْضًا أَمْرَهُ مُطْلَقًا كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ، قَالَ: أَتَيْت عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَتْ: عَلَيْك بِابْنِ أَبِي طَالِبٍ فَاسْأَلْهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَهُ أَيَّامٍ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ» . أَيْ جَعَلَ لَهُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَأَطْلَقَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخِفَافَ فِي الْعَادَةِ لَا يَخْلُو كَثِيرٌ مِنْهَا عَنْ فَتْقٍ أَوْ خَرْقٍ، لَا سِيَّمَا مَعَ تَقَادُمِ عَهْدِهَا وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فُقَرَاءَ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُمْ تَجْدِيدُ ذَلِكَ، «لَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَقَالَ: أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ» . وَهَذَا كَمَا أَنَّ ثِيَابَهُمْ كَانَ يَكْثُرُ فِيهَا الْفَتْقُ وَالْخَرْقُ، حَتَّى يَحْتَاجُ لِتَرْقِيعٍ، فَكَذَلِكَ الْخِفَافُ. وَالْعَادَةُ فِي الْفَتْقِ الْيَسِيرِ فِي الثَّوْبِ، وَالْخُفِّ: أَنَّهُ لَا يُرَقَّعُ، وَإِنَّمَا التَّرْقِيعُ الْكَثِيرُ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يُصَلِّي فِي الثَّوْبِ الضَّيِّقِ، حَتَّى إنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَجَدُوا تَقَلَّصَ الثَّوْبُ، فَظَهَرَ بَعْضُ الْعَوْرَةِ، وَكَانَ النِّسَاءُ نُهِينَ عَنْ أَنْ يَرْفَعْنَ رُءُوسَهُنَّ حَتَّى يَرْفَعَ الرِّجَالُ رُءُوسَهُمْ لِئَلَّا يَرَيْنَ عَوْرَاتِ الرِّجَالِ مِنْ ضِيقِ الْأُزُرِ، مَعَ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ، وَخَارِجِ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ سَتْرِ الرِّجْلَيْنِ بِالْخُفِّ. فَلَمَّا أَطْلَقَ الرَّسُولُ الْأَمْرَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخِفَافِ، مَعَ عِلْمِهِ بِمَا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْعَادَةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَنْ تَكُونَ سَلِيمَةً مِنْ الْعُيُوبِ، وَجَبَ حَمْلُ أَمْرِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَمْ

يَجُزْ أَنْ يُقَيَّدَ كَلَامُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَكَانَ مُقْتَضَى لَفْظِهِ أَنَّ كُلَّ خُفٍّ يَلْبَسُهُ النَّاسُ وَيَمْشُونَ فِيهِ، فَلَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَفْتُوقًا أَوْ مَخْرُوقًا، مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ لِمِقْدَارِ ذَلِكَ، فَإِنَّ التَّحْدِيدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَحُدُّهُ بِالرُّبُعِ، كَمَا يَحُدُّ مِثْلَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، قَالُوا: لِأَنَّهُ يُقَالُ: رَأَيْتُ الْإِنْسَانَ، إذَا رَأَيْتُ أَحَدَ جَوَانِبِهِ الْأَرْبَعِ، فَالرُّبُعُ يَقُومُ مَقَامَ الْجَمِيعِ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ يُنَازِعُونَ فِي هَذَا وَيَقُولُونَ: التَّحْدِيدُ بِالرُّبُعِ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. وَأَيْضًا فَأَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ بَلَّغُوا سُنَّتَهُ، وَعَمِلُوا بِهَا، لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ تَقْيِيدُ الْخُفِّ بِشَيْءٍ مِنْ الْقُيُودِ، بَلْ أَطْلَقُوا الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْخِفَافِ وَأَحْوَالِهَا، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ فَهِمُوا عَنْ نَبِيِّهِمْ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُطْلَقًا. وَأَيْضًا فَكَثِيرٌ مِنْ خِفَافِ النَّاسِ لَا يَخْلُو مِنْ فَتْقٍ أَوْ خَرْقٍ، يَظْهَرُ مِنْهُ بَعْضُ الْقَدَمِ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا، بَطَلَ مَقْصُودُ الرُّخْصَةِ، لَا سِيَّمَا وَاَلَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إلَى لُبْسِ ذَلِكَ هُمْ الْمُحْتَاجُونَ، وَهُمْ أَحَقُّ بِالرُّخْصَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُحْتَاجِينَ، فَإِنَّ سَبَبَ الرُّخْصَةِ هُوَ الْحَاجَةُ، وَلِهَذَا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ: أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ» . بَيَّنَ أَنَّ فِيكُمْ مَنْ لَا يَجِدُ إلَّا ثَوْبًا وَاحِدًا، فَلَوْ أَوْجَبَ الثَّوْبَيْنِ لَمَا أَمْكَنَ هَؤُلَاءِ أَدَاءَ الْوَاجِبِ. ثُمَّ إنَّهُ أَطْلَقَ الرُّخْصَةَ، فَكَذَلِكَ هُنَا، لَيْسَ كُلُّ إنْسَانٍ يَجِدُ خُفًّا سَلِيمًا، فَلَوْ لَمْ يُرَخِّصْ إلَّا لِهَذَا لَزِمَ الْمَحَاوِيجَ خَلْعُ خِفَافِهِمْ، وَكَانَ إلْزَامُ غَيْرِهِمْ بِالْخَلْعِ أَوْلَى، ثُمَّ إذَا كَانَ إلَى الْحَاجَةِ فَالرُّخْصَةُ عَامَّةٌ. وَكُلُّ مَنْ لَبِسَ خُفًّا وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ فَلَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا؛ وَسَوَاءٌ كَانَ الْخُفُّ سَلِيمًا أَوْ مَقْطُوعًا. فَإِنَّهُ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ ذَلِكَ؛ وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَجِبُ فِعْلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى: كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ، حَتَّى تُشْتَرَطَ فِيهِ السَّلَامَةُ مِنْ الْعُيُوبِ.

وَأَمَّا قَوْلُ الْمُنَازِعِ: إنَّ فَرْضَ مَا ظَهَرَ الْغَسْلُ؛ وَمَا بَطَنَ الْمَسْحُ؛ فَهَذَا خَطَأٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا بَطَنَ مِنْ الْقَدَمِ يُمْسَحُ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي يُلَاقِيهِ مِنْ الْخُفِّ، بَلْ إذَا مَسَحَ ظَهْرَ الْقَدَمِ أَجْزَأَهُ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا يَسْتَحِبُّ مَسْحَ أَسْفَلِهِ، وَهُوَ إنَّمَا يَمْسَحُ خُطَطًا بِالْأَصَابِعِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْسَحَ جَمِيعَ الْخُفِّ، كَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَمْسَحَ الْجَبِيرَةَ، فَإِنَّ مَسْحَ الْجَبِيرَةِ يَقُومُ مَقَامَ غَسْلِ نَفْسِ الْعُضْوِ، فَإِنَّهَا لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ نَزْعُهَا إلَّا بِضَرَرٍ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْجِلْدِ، وَشَعْرِ الرَّأْسِ، وَظُفْرِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، بِخِلَافِ الْخُفِّ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ نَزْعُهُ وَغَسْلُ الْقَدَمِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَسْحُ الْجَبِيرَةِ وَاجِبًا، وَمَسْحُ الْخُفَّيْنِ جَائِزًا: إنْ شَاءَ مَسَحَ، وَإِنْ شَاءَ خَلَعَ. وَلِهَذَا فَارَقَ مَسْحُ الْجَبِيرَةِ الْخُفَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا وَاجِبٌ وَذَلِكَ جَائِزٌ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا يَجُوزُ فِي الطَّهَارَتَيْنِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إلَّا ذَلِكَ، وَمَسْحُ الْخُفَّيْنِ لَا يَكُونُ فِي الْكُبْرَى، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ الْقَدَمَيْنِ، كَمَا عَلَيْهِ أَنْ يُوصِلَ الْمَاءَ إلَى جِلْدِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَفِي الْوُضُوءِ يُجْزِئُهُ الْمَسْحُ عَلَى ظَاهِرِ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَغَسْلِ ظَاهِرِ اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ، فَكَذَلِكَ الْخِفَافُ يَمْسَحُ عَلَيْهَا فِي الصُّغْرَى، فَإِنَّهُ لَمَّا احْتَاجَ إلَى لُبْسِهَا صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ مَا يَسْتُرُ الْبَشَرَةَ مِنْ الشَّعْرِ، الَّذِي يُمْكِنُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى بَاطِنِهِ، وَلَكِنْ فِيهِ مَشَقَّةٌ، وَالْغُسْلُ لَا يَتَكَرَّرُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْجَبِيرَةَ يُمْسَحُ عَلَيْهَا إلَى أَنْ يَحُلَّهَا، لَيْسَ فِيهَا تَوْقِيتٌ، فَإِنَّ مَسْحَهَا لِلضَّرُورَةِ بِخِلَافِ الْخُفِّ؛ فَإِنَّ مَسْحَهُ مُوَقَّتٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَإِنَّ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ لَوْ كَانَ فِي خَلْعِهِ بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ ضَرَرٌ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ بَرْدٌ شَدِيدٌ، مَتَى خَلَعَ خُفَّيْهِ تَضَرَّرَ، كَمَا يُوجَدُ فِي أَرْضِ الثُّلُوجِ وَغَيْرِهَا، أَوْ كَانَ فِي رُفْقَةٍ مَتَى خَلَعَ وَغَسَلَ لَمْ يَنْتَظِرُوهُ، فَيَنْقَطِعُ عَنْهُمْ فَلَا يَعْرِفُ الطَّرِيقَ، أَوْ يَخَافُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ، أَوْ كَانَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَاتَهُ وَاجِبٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَهُنَا قِيلَ: إنَّهُ يَتَيَمَّمُ، وَقِيلَ: إنَّهُ يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا لِلضَّرُورَةِ، وَهَذَا أَقْوَى؛ لِأَنَّ لُبْسَهُمَا هُنَا صَارَ كَلُبْسِ الْجَبِيرَةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ.

فَأَحَادِيثُ التَّوْقِيتِ فِيهَا الْأَمْرُ بِالْمَسْحِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهِنَّ، وَلَيْسَ فِيهَا النَّهْيُ عَنْ الزِّيَادَةِ إلَّا بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ، وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ، فَإِذَا كَانَ يَخْلَعُ بَعْدَ الْوَقْتِ عِنْدَ إمْكَانِ ذَلِكَ عَمِلَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ. وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ «عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: لَمَّا خَرَجَ مِنْ دِمَشْقَ إلَى الْمَدِينَةِ يُبَشِّرُ النَّاسَ بِفَتْحِ دِمَشْقَ، وَمَسَحَ أُسْبُوعًا بِلَا خَلْعٍ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَصَبْت السُّنَّةَ» ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَلَيْسَ الْخُفُّ كَالْجَبِيرَةِ مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ لَا يُسْتَوْعَبُ بِالْمَسْحِ بِحَالٍ، وَيُخْلَعُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى، وَلَا بُدَّ مِنْ لُبْسِهِ عَلَى طَهَارَةٍ، لَكِنْ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ خَلْعُهُ فَالْمَسْحُ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ، وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ خَلْعُهُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى فَقَدْ صَارَ كَالْجَبِيرَةِ، يَمْسَحُ عَلَيْهِ كُلَّهُ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى رِجْلِهِ جَبِيرَةٌ يَسْتَوْعِبُهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ فِيمَا يُغَطِّي مَوْضِعَ الْغَسْلِ، وَذَاكَ مَسْحٌ بِالتُّرَابِ فِي عُضْوَيْنِ آخَرَيْنِ، فَكَانَ هَذَا الْبَدَلُ أَقْرَبَ إلَى الْأَصْلِ مِنْ التَّيَمُّمِ. وَلِهَذَا لَوْ كَانَ جَرِيحًا وَأَمْكَنَهُ مَسْحُ جِرَاحِهِ بِالْمَاءِ دُونَ الْغُسْلِ، فَهَلْ يَمْسَحُ بِالْمَاءِ أَوْ يَتَيَمَّمُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَسْحُهُمَا بِالْمَاءِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ مَسْحُ الْجَبِيرَةِ، وَمَسْحُ الْخُفِّ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ، فَلَأَنْ يَكُونَ مَسْحُ الْعُضْوِ بِالْمَاءِ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. الرَّابِعُ: أَنَّ الْجَبِيرَةَ يَسْتَوْعِبُهَا بِالْمَسْحِ، كَمَا يَسْتَوْعِبُ الْجِلْدَ؛ لِأَنَّ مَسْحَهَا كَغَسْلِهِ، وَهَذَا أَقْوَى عَلَى قَوْلِ مَنْ يُوجِبُ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْجَبِيرَةَ يَمْسَحُ عَلَيْهَا، وَإِنْ شَدَّهَا عَلَى حَدَثٍ، عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَمَنْ قَالَ لَا يَمْسَحُ عَلَيْهَا إلَّا إذَا لَبِسَهَا عَلَى طَهَارَةٍ لَيْسَ مَعَهُ إلَّا قِيَاسُهَا عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَمَسْحُهَا كَمَسْحِ الْجِلْدَةِ، وَمَسْحُ الشَّعْرِ، لَيْسَ كَمَسْحِ الْخُفَّيْنِ، وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ، وَأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ عِنْدَهُ بِجِلْدَةِ الْإِنْسَانِ لَا بِالْخُفَّيْنِ،

وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يَجْعَلُهَا كَالْخُفَّيْنِ، وَيَجْعَلُ الْبُرْءَ كَانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْمَسْحِ، فَيَقُولُ بِبُطْلَانِ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ، كَمَا قَالُوا فِي الْخُفِّ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَهُوَ: أَنَّهَا إذَا سَقَطَتْ سُقُوطَ بُرْءٍ كَانَ بِمَنْزِلَةِ حَلْقِ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ، وَبِمَنْزِلَةِ كَشْطِ الْجِلْدِ، لَا يُوجِبُ إعَادَةَ غُسْلِ الْجَنَابَةِ، عَلَيْهَا إذَا كَانَ قَدْ مَسَحَ عَلَيْهَا مِنْ الْجَنَابَةِ. وَكَذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ، لَا يَجِبُ غَسْلُ الْمَحَلِّ، وَلَا إعَادَةُ الْوُضُوءِ، كَمَا قِيلَ: إنَّهُ يَجِبُ فِي خَلْعِ الْخُفِّ وَالطَّهَارَةُ، وَجَبَتْ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لِيَكُونَ إذَا أَحْدَثَ يَتَعَلَّقُ الْحَدَثُ بِالْخُفَّيْنِ، فَيَكُونُ مَسْحُهُمَا كَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَعَلَّقَ الْحَدَثُ بِالْقَدَمِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ. ثُمَّ قِيلَ: إنَّ الْمَسْحَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ عَنْ الرِّجْلِ، فَإِذَا خَلَعَهَا كَانَ كَأَنَّهُ لَا يَمْسَحُ عَلَيْهَا، فَيَغْسِلُهَا عِنْدَ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ الْمُوَالَاةَ، وَمَنْ يَشْتَرِطُ الْمُوَالَاةَ يُعِيدُ الْوُضُوءَ، وَقِيلَ بَلْ حَدَثُهُ ارْتَفَعَ رَفْعًا مُؤَقَّتًا إلَى حِينِ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَخَلْعِ الْخُفِّ، لَكِنْ لَمَّا خَلَعَهُ انْقَضَتْ الطَّهَارَةُ فِيهِ، وَالطَّهَارَةُ الصُّغْرَى لَا تَتَبَعَّضُ، لَا فِي ثُبُوتِهَا، وَلَا فِي زَوَالِهَا، فَإِنَّ حُكْمَهَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ مَحَلِّهَا، فَإِنَّهَا غَسْلُ أَعْضَاءٍ أَرْبَعَةٍ، وَالْبَدَنُ كُلُّهُ يَصِيرُ طَاهِرًا، فَإِذَا غُسِلَ عُضْوٌ، أَوْ عُضْوَانِ لَمْ يَرْتَفِعْ الْحَدَثُ حَتَّى يُغْسَلَ الْأَرْبَعَةُ، وَإِذَا انْتَقَضَ الْوُضُوءُ فِي عُضْوٍ انْتَقَضَ فِي الْجَمِيعِ. وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ: إنَّهُ يُعِيدُ الْوُضُوءَ، وَمِثْلُ هَذَا مُنْتَفٍ فِي الْجَبِيرَةِ، فَإِنَّ الْجَبِيرَةَ يُمْسَحُ عَلَيْهَا فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى، وَلَا يُجْزِئُ فِيهَا الْبَدَلُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهَا كَالْمَسْحِ عَلَى الْجِلْدِ وَالشَّعْرِ. وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ إذَا سَقَطَتْ لِبُرْءٍ بَطَلَتْ الطَّهَارَةُ، أَوْ غَسَلَ مَحَلَّهَا، وَإِذَا سَقَطَتْ لِغَيْرِ بُرْءٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: فَإِنَّهُمْ جَعَلُوهَا مُؤَقَّتَةً بِالْبُرْءِ، وَجَعَلُوا سُقُوطَهَا بِالْبُرْءِ، كَانْقِطَاعِ مُدَّةِ الْمَسْحِ. وَأَمَّا إذَا سَقَطَتْ قَبْلَ الْبُرْءِ فَقِيلَ: هِيَ كَمَا لَوْ خَلَعَ الْخُفَّ قَبْلَ الْمُدَّةِ، وَقِيلَ: لَا تَبْطُلُ الطَّهَارَةُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ غَسْلُهَا قَبْلَ الْبُرْءِ، بِخِلَافِ الرِّجْلِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ غَسْلُهَا إذَا خَلَعَ الْخُفَّ فَلِهَذَا فَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخُفِّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، فَإِنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ غَسْلُهَا بَقِيَتْ الطَّهَارَةُ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْبُرْءِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ غَسْلُ مَحَلِّهَا.

وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْبُرْءَ كَالْوَقْتِ فِي الْخُفَّيْنِ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ طَهَارَةَ الْجَبِيرَةِ لَا تَوْقِيتَ فِيهَا أَصْلًا، حَتَّى يُقَالَ إذَا انْقَضَى الْوَقْتُ بَطَلَتْ الطَّهَارَةُ، بِخِلَافِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَإِنَّهُ مُؤَقَّتٌ، وَنَزْعُهَا مُشَبَّهٌ بِخَلْعِ الْخُفِّ، وَهُوَ أَيْضًا تَشْبِيهٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّهُ إنْ شُبِّهَ بِخَلْعِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ظَهَرَ الْفَرْقُ، وَإِنَّمَا يُشْبِهُ هَذَا نَزْعَهَا قَبْلَ الْبُرْءِ. وَفِيهِ الْوَجْهَانِ، وَإِنْ شُبِّهَ بِخَلْعِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَوُجُودُ الْخَلْعِ كَعَدَمِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَمَرَهُ بِخَلْعِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ، بِخِلَافِ الْجَبِيرَةِ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا وَقْتًا، بَلْ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ مَا يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ مِنْ جِلْدٍ وَشَعْرٍ وَظُفُرٍ، وَذَاكَ إذَا احْتَاجَ الرَّجُلُ إلَى إزَالَتِهِ أَزَالَهُ، وَلَمْ تَبْطُلُ طَهَارَتُهُ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إلَى بُطْلَانِهَا. وَأَنَّهُ يُطَهِّرُ مَوْضِعَهُ، وَهَذَا مُشْبِهٌ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْجَبِيرَةِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: خَلْعُ الْخُفِّ لَا يُبْطِلُ الطَّهَارَةَ. وَالْقَوْلُ الْوَسَطُ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ، وَإِلْحَاقُ الْجَبِيرَةِ بِمَا يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ أَوْلَى، كَالْوَسَخِ الَّذِي عَلَى يَدِهِ وَالْحِنَّاءِ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ وَاجِبٌ لَا يُمْكِنُهُ تَخْيِيرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَسْلِ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا إذَا شَدَّهَا وَهُوَ يُحْدِثُ نُقِلَ إلَى التَّيَمُّمِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ طَهَارَةَ الْمَسْحِ بِالْمَاءِ فِي مَحَلِّ الْغُسْلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، أَوْلَى مِنْ طَهَارَةِ الْمَسْحِ بِالتُّرَابِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْغَسْلِ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ أَوْلَى مِنْ التُّرَابِ، وَمَا كَانَ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ مِمَّا يَكُونُ فِي غَيْرِهِ. فَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَعَلَى الْجَبِيرَةِ، وَعَلَى نَفْسِ الْعُضْوِ، كُلُّ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ التَّيَمُّمِ حَيْثُ كَانَ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا شَدَّهَا عَلَى حَدَثٍ مَسَحَ عَلَيْهَا فِي الْجَنَابَةِ، فَفِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى أَوْلَى، وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ لَا يَمْسَحُ عَلَيْهَا مِنْ الْجَنَابَةِ حَتَّى يَشُدَّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ، كَانَ هَذَا قَوْلًا بِلَا أَصْلٍ يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَإِنْ قِيلَ: بَلْ إذَا شَدَّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ مِنْ الْجَنَابَةِ مَسَحَ عَلَيْهَا بِخِلَافِ مَا إذَا شَدَّهَا وَهُوَ جُنُبٌ، قِيلَ: هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى شَدِّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ مِنْ الْجَنَابَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَجْنُبُ وَالْمَاءُ يَضُرُّ جِرَاحَهُ، وَيَضُرُّ الْعَظْمَ الْمَكْسُورَ، وَيَضُرُّ الْفِصَادَ، فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ أَنْ يَشُدَّهُ بَعْدَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ يَمْسَحُ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ مِنْ أَحْسَنِ الْمَسَائِلِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَسْحَ الْخُفِّ لَا يُسْتَوْعَبُ فِيهِ الْخُفُّ، بَلْ يُجْزِئُ فِيهِ مَسْحُ بَعْضِهِ، كَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَهِيَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا

بَطَنَ مِنْ الْقَدَمِ مَسَحَ مَا يَلِيهِ مِنْ الْخُفِّ، بَلْ إذَا مَسَحَ ظَهْرَ الْقَدَمِ كَانَ هَذَا الْمَسْحُ مُجْزِيًا عَنْ بَاطِنِ الْقَدَمِ، وَعَنْ الْعَقِبِ، وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ الْخَرْقُ فِي مَوْضِعٍ، وَمَسَحَ مَوْضِعًا آخَرَ كَانَ ذَلِكَ مَسْحًا مُجْزِئًا عَنْ غَسْلِ جَمِيعِ الْقَدَمِ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْخَرْقُ فِي مُؤَخَّرِ الْخُفِّ وَأَسْفَلِهِ، فَإِنَّ مَسْحَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَا يَجِبُ، بَلْ وَلَا يُسْتَحَبُّ، وَلَوْ كَانَ الْخَرْقُ فِي الْمُقَدَّمِ فَالْمَسْحُ خُطُوطٌ بَيْنَ الْأَصَابِعِ. فَإِنْ قِيلَ: مُرَادُنَا أَنَّ مَا بَطَنَ يُجْزِئُ عَنْهُ الْمَسْحُ، وَمَا ظَهَرَ يَجِبُ غَسْلُهُ. قِيلَ: هَذَا دَعْوَى مَحَلِّ النِّزَاعِ فَلَا تَكُونُ حُجَّةً، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ الْخُفِّ الْمُخَرَّقِ فَرْضُهُ غَسْلُهُ، فَهَذَا رَأْسُ الْمَسْأَلَةِ، فَمَنْ احْتَجَّ بِهِ كَانَ مُثْبِتًا لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ قَالُوا بِأَنَّ الْمَسْحَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَسْتُورٍ، أَوْ مُغَطًّى، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ كَانَتْ هَذِهِ كُلُّهَا عِبَارَاتٍ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ دَعْوَى رَأْسِ الْمَسْأَلَةِ بِلَا حُجَّةٍ أَصْلًا، وَالشَّارِعُ أَمَرَنَا بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُطْلَقًا، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ، وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُقَيَّدُ. وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَدْ اشْتَرَطَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ شَرْطَيْنِ، هَذَا أَحَدُهُمَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سَاتِرًا لِمَحَلِّ الْفَرْضِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ ضَعْفُ هَذَا الشَّرْطِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ اشْتَرَطَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِشَدِّهِ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ، أَوْ خَيْطٍ مُتَّصِلٍ بِهِ أَوْ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ يَمْسَحْ، وَإِنْ ثَبَتَ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهُ لَا يَسْتُرُ جَمِيعَ الْمَحَلِّ إلَّا بِالشَّدِّ: كَالزُّرْبُولِ الطَّوِيلِ الْمَشْقُوقِ يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ، لَكِنْ لَا يَسْتُرُ إلَى الْكَعْبَيْنِ إلَّا بِالشَّدِّ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يُمْسَحُ عَلَيْهِ. وَهَذَا الشَّرْطُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ، بَلْ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتَا بِأَنْفُسِهِمَا، بَلْ بِنَعْلَيْنِ تَحْتَهُمَا، وَأَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ مَا لَمْ يَخْلَعْ النَّعْلَيْنِ. فَإِذَا كَانَ أَحْمَدُ لَا يَشْتَرِطُ فِي الْجَوْرَبَيْنِ أَنْ يَثْبُتَا بِأَنْفُسِهِمَا بَلْ إذَا ثَبَتَا بِالنَّعْلَيْنِ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا بِغَيْرِهِمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهُنَا قَدْ ثَبَتَا بِالنَّعْلَيْنِ وَهُمَا مُنْفَصِلَانِ عَنْ الْجَوْرَبَيْنِ، فَإِذَا ثَبَتَ الْجَوْرَبَانِ بِشَدِّهِمَا بِخُيُوطِهِمَا كَانَ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا أَوْلَى بِالْجَوَازِ، إذَا كَانَ هَذَا فِي الْجَوْرَبَيْنِ، فَالزُّرْبُولُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ إلَّا بِسَيْرٍ يَشُدُّهُ بِهِ، مُتَّصِلًا بِهِ أَوْ

مُنْفَصِلًا عَنْهُ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ الْجَوْرَبَيْنِ، وَهَكَذَا مَا يُلْبَسُ عَلَى الرِّجْلِ مِنْ فَرْوٍ، وَقُطْنٍ، وَغَيْرِهِمَا، إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِشَدِّهِمَا بِخَيْطٍ مُتَّصِلٍ أَوْ مَسَحَ عَلَيْهِمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَى اللَّفَائِفِ، وَهُوَ أَنْ يَلُفَّ عَلَى الرِّجْلِ لَفَائِفَ مِنْ الْبَرْدِ، أَوْ خَوْفَ الْحِفَاءِ، أَوْ مِنْ جِرَاحٍ بِهِمَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. قِيلَ: فِي هَذَا وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا الْحَلْوَانِيُّ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَى اللَّفَائِفِ، وَهِيَ بِالْمَسْحِ أَوْلَى مِنْ الْخُفِّ وَالْجَوْرَبِ، فَإِنَّ تِلْكَ اللَّفَائِفَ إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ لِلْحَاجَةِ فِي الْعَادَةِ وَفِي نَزْعِهَا ضَرَرٌ، إمَّا إصَابَةُ الْبَرْدِ وَإِمَّا التَّأَذِّي بِالْحِفَاءِ، وَإِمَّا التَّأَذِّي بِالْجُرْحِ، فَإِذَا جَازَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْجَوْرَبَيْنِ، فَعَلَى اللَّفَائِفِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَمَنْ ادَّعَى فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إجْمَاعًا فَلَيْسَ مَعَهُ إلَّا عَدَمُ الْعِلْمِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْقُلَ الْمَنْعَ مِنْ عَشَرَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ فَضْلًا عَنْ الْإِجْمَاعِ، وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ خَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، حَتَّى أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الصَّحَابَةِ أَنْكَرُوهُ، وَطَائِفَةً مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلُ الْبَيْتِ أَنْكَرُوهُ مُطْلَقًا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ جَوَازُهُ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ. وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ كِتَابًا كَبِيرًا فِي " الْأَشْرِبَةِ " تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا عَنْ الصَّحَابَةِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذَا صَحَّ فِيهِ الْخِلَافُ عَنْ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِ الْمُسْكِرِ. وَمَالِكٌ مَعَ سَعَةِ عِلْمِهِ، وَعُلُوِّ قَدْرِهِ. قَالَ فِي كِتَابِ " السِّرِّ ": لَأَقُولَنَّ قَوْلًا لَمْ أَقُلْهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي عَلَانِيَةٍ. وَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ مَضْمُونُهُ إنْكَارُهُ إمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا فِي الْحَضَرِ، وَخَالَفَهُ أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: هَذَا ضَعْفٌ لَهُ حَيْثُ لَمْ يَقُلْهُ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَانِيَةً، وَاَلَّذِينَ جَوَّزُوهُ مَنَعَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مِنْ الْمَسْحِ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ الْمَلْبُوسَيْنِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَالثَّلَاثَةُ مَنَعُوا الْمَسْحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، وَعَلَى الْعِمَامَةِ.

فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ مِمَّا هَابَهُ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، حَيْثُ كَانَ الْغَسْلُ هُوَ الْفَرْضَ الظَّاهِرَ الْمَعْلُومَ، فَصَارُوا يُجَوِّزُونَ الْمَسْحَ حَيْثُ يَظْهَرُ ظُهُورًا لَا حِيلَةَ فِيهِ، وَلَا يَطْرُدُونَ فِيهِ قِيَاسًا صَحِيحًا، وَلَا يَتَمَسَّكُونَ بِظَاهِرِ النَّصِّ الْمُبِيحِ، وَإِلَّا فَمَنْ تَدَبَّرَ أَلْفَاظَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْطَى الْقِيَاسَ حَقَّهُ، وَعَلِمَ أَنَّ الرُّخْصَةَ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَاسِعَةٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ، وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ السَّمْحَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا، وَقَدْ كَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمْسَحُ عَلَى خِمَارِهَا. فَهَلْ تَفْعَلُ ذَلِكَ بِدُونِ إذْنِهِ؟ وَكَانَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، يَمْسَحَانِ عَلَى الْقَلَانِسِ. وَلِهَذَا جَوَّزَ أَحْمَدُ هَذَا، وَهَذَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَجَوَّزَ أَيْضًا الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ. لَكِنْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ رَأَى أَنَّ الْعِمَامَةَ الَّتِي لَيْسَتْ مُحَنَّكَةً الْمُقْتَطَعَةَ كَانَ أَحْمَدُ يَكْرَهُ لُبْسُهَا، وَكَذَا مَالِكٌ يَكْرَهُ لُبْسُهَا أَيْضًا؛ لِمَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ، وَشَرَطَ فِي الْمَسْحِ عَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ مُحَنَّكَةً، وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي وَأَتْبَاعُهُ، وَذَكَرُوا فِيهَا - إذَا كَانَ لَهَا ذُؤَابَةٌ - وَجْهَيْنِ: وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: إذَا كَانَ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يُجَوِّزُ الْمَسْحَ عَلَى الْقَلَانِسِ الدُّبِّيَّاتِ، وَهِيَ الْقَلَانِسُ الْكِبَارُ؛ فَلَأَنْ يُجَوِّزَ ذَلِكَ عَلَى الْعِمَامَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَالسَّلَفُ كَانُوا يُحَنِّكُونَ عَمَائِمَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ، وَيُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَرْبِطُوا الْعَمَائِمَ بِالتَّحْنِيكِ وَإِلَّا سَقَطَتْ، وَلَمْ يُمْكِنْ مَعَهَا طَرْدُ الْخَيْلِ. وَلِهَذَا ذَكَرَ أَحْمَدُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَافِظُونَ عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ؛ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَنِهِ هُمْ الْمُجَاهِدُونَ. وَذَكَرَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ بِإِسْنَادِهِ: أَنَّ أَوْلَادَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَانُوا يَلْبَسُونَ الْعَمَائِمَ بِلَا تَحْنِيكٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْحِجَازِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ لَا يُجَاهِدُونَ.

وَرَخَّصَ إِسْحَاقُ وَغَيْرُهُ فِي لُبْسِهَا بِلَا تَحْنِيكٍ، وَالْجُنْدُ الْمُقَاتِلَةُ، لَمَّا احْتَاجُوا إلَى رَبْطِ عَائِمِهِمْ صَارُوا يَرْبِطُونَهَا، إمَّا بِكَلَالِيبَ، وَإِمَّا بِعِصَابَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا مَعْنَاهُ مَعْنَى التَّحْنِيكِ. كَمَا أَنَّ مِنْ السَّلَفِ مَنْ كَانَ يَرْبِطُ وَسَطَهُ بِطَرَفِ عِمَامَتِهِ، وَالْمَنَاطِقُ يَحْصُلُ بِهَا هَذَا الْمَقْصُودُ، وَفِي نَزْعِ الْعِمَامَةِ الْمَرْبُوطَةِ بِعِصَابَةٍ وَكَلَالِيبَ مِنْ الْمَشَقَّةِ مَا فِي نَزْعِ الْمُحَنَّكَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُجُوهٍ صَحِيحَةٍ، لَكِنْ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْفَرْضُ سَقَطَ بِمَسْحِ مَا بَدَأَ مِنْ الرَّأْسِ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ مُسْتَحَبٌّ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ الْفَرْضُ سَقَطَ بِمَسْحِ الْعِمَامَةِ، وَمَسْحِ مَا بَدَا مِنْ الرَّأْسِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ، هَلْ هُوَ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ، أَوْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ إنَّمَا كَانَ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ لِأَجْلِ الضَّرَرِ، وَهُوَ مَا إذَا حَصَلَ بِكَشْفِ الرَّأْسِ ضَرَرٌ مِنْ بَرْدٍ، وَمَرَضٍ، فَيَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ، كَمَا جَاءَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي سَرِيَّةٍ، فَشَكَوَا الْبَرْدَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى التَّسَاخِينِ وَالْعَصَائِبِ. وَالْعَصَائِبُ هِيَ: الْعَمَائِمُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبِلَادَ الْبَارِدَةَ يَحْتَاجُ فِيهَا مَنْ يَمْسَحُ التَّسَاخِينَ وَالْعَصَائِبَ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ، فَأَهْلُ الشَّامِ، وَالرُّومِ، وَنَحْوِ هَذِهِ الْبِلَادِ: أَحَقُّ بِالرُّخْصَةِ فِي هَذَا وَهَذَا مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالْمَاشُونَ فِي الْأَرْضِ الْحَزْنَةِ وَالْوَعِرَةِ، أَحَقُّ بِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ مِنْ الْمَاشِينَ فِي الْأَرْضِ السَّهْلَةِ، وَخِفَافُ هَؤُلَاءِ فِي الْعَادَةِ لَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهَا الْحَجَرُ، فَهُمْ بِرُخْصَةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخِفَافِ الْمُخَرَّقَةِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ. ثُمَّ الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ يَقُولُ: إذَا ظَهَرَ بَعْضُ الْقَدَمِ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ فَقَدْ يَظْهَرُ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ الْقَدَمِ: كَمَوْضِعِ الْخَرَزِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْخِفَافِ، فَإِنْ مَنَعُوا

مِنْ الْمَسْحِ عَلَيْهَا ضَيَّقُوا تَضْيِيقًا يَظْهَرُ خِلَافُهُ لِلشَّرِيعَةِ بِلَا حُجَّةٍ مَعَهُمْ أَصْلًا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ حَتَّى يَقُولُوا فَرْضُهُ الْغَسْلُ، وَإِنْ قَالُوا هَذَا يُعْفَى عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ضَابِطٌ فِيمَا يُمْنَعُ وَفِيمَا لَا يُمْنَعُ. وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُمْ " إذَا ظَهَرَ بَعْضُ الْقَدَمِ " إنْ أَرَادُوا ظُهُورَهُ لِلْبَصَرِ فَأَبْصَارُ النَّاسِ مَعَ اخْتِلَافِ إدْرَاكِهَا قَدْ يَظْهَرُ لَهَا مِنْ الْقَدَمِ مَا لَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ، فَإِنْ أَرَادُوا مَا يَظْهَرُ وَيُمْكِنُ مَسُّهُ بِالْيَدِ، فَقَدْ يُمْكِنُ غَسْلُهُ بِلَا مَسٍّ. وَإِنْ قَالُوا مَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ، فَالْإِمْكَانُ يَخْتَلِفُ: قَدْ يُمْكِنُ مَعَ الْجُرْحِ، وَلَا يُمْكِنُ بِدُونِهِ، فَإِنَّ سَمَّ الْخِيَاطِ يُمْكِنُ غَسْلُهُ إذَا وَضَعَ الْقَدَمَ فِي مَغْمَزِهِ، وَصَبَرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَاءُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ لَا يَتَيَقَّنُ وُصُولَ الْمَاءِ عَلَيْهِ إلَّا بِخَضْخَضَةٍ وَنَحْوِهَا، وَلَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ كَمَا يَغْسِلُ الْقَدَمَ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَقْوَى، فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ إذَا لُبِسَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ، وَإِنْ ظَهَرَ مِنْ جَوَانِبِ الرَّأْسِ مَا يَمْسَحُ عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ مَسْحُ ذَلِكَ. وَهَلْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى النَّاصِيَةِ مَعَ ذَلِكَ؟ فِيهِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ، فَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْمَمْسُوحِ أَنْ يَكُونَ سَاتِرًا لِجَمِيعِ مَحَلِّ الْفَرْضِ، وَأَوْجَبَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالشَّافِعِيُّ أَيْضًا يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ كَمَا يَسْتَحِبُّهُ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. فَعُلِمَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي اللِّبَاسِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ، سَوَاءٌ سَتَرَ جَمِيعَ مَحَلِّ الْفَرْضِ أَوْ لَمْ يَسْتُرْهُ، وَالْخِفَافُ قَدْ اُعْتِيدَ فِيهَا أَنْ تُلْبَسَ مَعَ الْفَتْقِ، وَالْخَرْقِ، وَظُهُورِ بَعْضِ الرِّجْلِ، وَأَمَّا مَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ، فَذَاكَ لَيْسَ بِخُفٍّ أَصْلًا، وَلِهَذَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّعْلَيْنِ فِي أَظْهَرْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَتَبَيَّنَ نَسْخُ الْأَمْرِ بِالْقَطْعِ، وَأَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ بِهِ حِينَ لَمْ يَشْرَعْ الْبَدَلَ أَيْضًا. فَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ دَلِيلِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ، مَمْنُوعٌ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، فَإِنَّ عِنْدَهُمَا يَجْمَعُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالْغَسْلِ فِيمَا إذَا أَمْكَنَ غَسْلُ بَعْضِ الْبَدَنِ دُونَ الْبَعْضِ؛ لِكَوْنِ الْبَاقِي جَرِيحًا، أَوْ لِكَوْنِ الْمَاءِ قَلِيلًا. وَيَجْمَعُ بَيْنَ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ مَعَ الْعِمَامَةِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ تَبُوكَ، فَلَوْ قَدَّرَ أَنَّ

اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ مَسْحَ الْخُفَّيْنِ كَمَا أَوْجَبَ غَسْلَ جَمِيعِ الْبَدَنِ، أَمْكَنَ أَنْ يَغْسِلَ مَا ظَهَرَ، وَيَمْسَحَ مَا بَطَنَ، كَمَا يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْجَبِيرَةِ، فَإِنَّهُ إذَا رَبَطَهَا عَلَى بَعْضِ مَكَانِ مَسْحِ الْجَبِيرَةِ، وَغَسَلَ أَوْ مَسَحَ مَا بَيْنَهُمَا، فَجَمَعَ بَيْنَ الْغُسْلِ وَالْمَسْحِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ سُقُوطَ غَسْلِ مَا ظَهَرَ مِنْ الْقَدَمِ لَمْ يُمْكِنْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ، بَلْ لِأَنَّ مَسْحَ ظَهْرِ الْخُفِّ وَلَوْ خَطَأً بِالْأَصَابِعِ يُجْزِئُ عَنْ جَمِيعِ الْقَدَمِ، فَلَا يَجِبُ غَسْلُ شَيْءٍ مِنْهُ، لَا مَا ظَهَرَ وَلَا مَا بَطَنَ، كَمَا أَمَرَ صَاحِبُ الشَّرْعِ لِأُمَّتِهِ، إذْ أَمَرَهُمْ إذَا كَانُوا مُسَافِرِينَ أَنْ لَا يَنْزِعُوا خِفَافَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، لَا مِنْ غَائِطٍ، وَلَا بَوْلٍ، وَلَا نَوْمٍ فَأَيُّ خُفٍّ كَانَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، دَخَلَ فِي مُطْلَقِ النَّصِّ. كَمَا أَنَّ «قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سُئِلَ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ» هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ. وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ بِذَلِكَ لَمَّا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ قَدْ شُرِعَتْ رُخْصَةُ الْبَدَلِ، فَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ لَا فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ إذَا لَمْ يَجِدُوا الْإِزَارَ، وَلَا فِي لُبْسِ الْخُفِّ مُطْلَقًا، ثُمَّ إنَّهُ فِي عَرَفَاتٍ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: «السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ، وَالْخِفَافُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ» . هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَرَوَاهُ جَابِرٌ، وَحَدِيثُهُ فِي مُسْلِمٍ.

فَأَرْخَصَ لَهُمْ بِعَرَفَاتٍ الْبَدَلَ، فَأَجَازَ لَهُمْ لُبْسَ السَّرَاوِيلِ إذَا لَمْ يَجِدُوا الْإِزَارَ بِلَا فَتْقٍ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. فَمَنْ اشْتَرَطَ فَتْقَهُ خَالَفَ النَّصَّ وَأَجَازَ لَهُمْ حِينَئِذٍ لُبْسَ الْخُفَّيْنِ إذَا لَمْ يَجِدُوا النَّعْلَيْنِ بِلَا قَطْعٍ، فَمَنْ اشْتَرَطَ الْقَطْعَ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ، فَإِنَّ السَّرَاوِيلَ الْمَفْتُوقَ، وَالْخُفَّ الْمَقْطُوعَ، لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى السَّرَاوِيلِ وَالْخُفِّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، كَمَا أَنَّ الْقَمِيصَ إذَا فُتِقَ وَصَارَ قِطَعًا لَمْ يُسَمَّ قَمِيصًا، وَكَذَلِكَ الْبُرْنُسُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْقَطْعِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ رُخْصَةَ الْبَدَلِ لَمْ تَكُنْ شُرِعَتْ، فَأَمَرَهُمْ بِالْقَطْعِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ يَصِيرُ كَالنَّعْلَيْنِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِخُفٍّ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي إذْنِهِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَدَلَّ هَذَا عَلَى: أَنَّ كُلَّ مَا يُلْبَسُ تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ، مِنْ مَدَاسٍ، وَجُمْجُمٍ، وَغَيْرِهِمَا: كَالْخُفِّ الْمَقْطُوعِ تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ، أَوْلَى بِالْجَوَازِ، فَتَكُونُ إبَاحَتُهُ أَصْلِيَّةً، كَمَا تُبَاحُ النَّعْلَانِ، لَا أَنَّهُ أُبِيحَ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ، وَإِنَّمَا الْمُبَاحُ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ هُوَ الْخُفُّ الْمُطْلَقُ وَالسَّرَاوِيلُ. وَدَلَّتْ نُصُوصُهُ الْكَرِيمَةُ، وَأَلْفَاظُهُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي هِيَ مَصَابِيحُ الْهُدَى عَلَى أُمُورٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَى مَعْرِفَتِهَا، قَدْ تَنَازَعَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ: مِنْهَا: أَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لِلْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ يَلْبَسُ الْخُفَّ، إمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا مَعَ الْقَطْعِ، وَكَانَ ذَلِكَ إذْنًا فِي كُلِّ مَا يُسَمَّى خُفًّا، سَوَاءٌ كَانَ سَلِيمًا أَوْ مَعِيبًا، وَكَذَلِكَ لَمَّا أَذِنَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، كَانَ ذَلِكَ إذْنًا فِي كُلِّ خُفٍّ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ قِيَاسَ حُكْمٍ عَلَى حُكْمٍ، حَتَّى يُقَالَ: ذَاكَ أَبَاحَ لَهُ لُبْسَهُ، وَهَذَا أَبَاحَ الْمَسْحَ عَلَيْهِ، بَلْ الْمَقْصُودُ أَنَّ لَفْظَ الْخُفِّ فِي كَلَامِهِ يَتَنَاوَلُ هَذَا بِالْإِجْمَاعِ، فَعُلِمَ أَنَّ لَفْظَ الْخُفِّ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا، فَمَنْ ادَّعَى فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّهُ أَرَادَ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْخِفَافِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ. وَإِذَا كَانَ الْخُفُّ فِي لَفْظِهِ مُطْلَقًا، حَيْثُ أَبَاحَ لُبْسَهُ لِلْمُحْرِمِ، وَكُلُّ الْخُفِّ جَازَ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُهُ وَإِنْ قَطَعَهُ، جَازَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَقْطَعْهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، وَلَا مَا يُشْبِهُ النَّعْلَيْنِ، مِنْ خُفٍّ مَقْطُوعٍ،

أَوْ جُمْجُمٍ، أَوْ مَدَاسٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ: فَإِنَّهُ يَلْبَسُ أَيَّ خُفٍّ شَاءَ وَلَا يَقْطَعُهُ، هَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ بِذَلِكَ فِي عَرَفَاتٍ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْ لُبْسِ الْخُفِّ مُطْلَقًا، وَبَعْدَ أَمْرِهِ مَنْ لَمْ يَجِدْ " أَنْ يَقْطَعَ "، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِعَرَفَاتٍ بِقَطْعٍ، مَعَ أَنَّ الَّذِينَ حَضَرُوا بِعَرَفَاتٍ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، أَوْ أَكْثَرُهُمْ، لَمْ يَشْهَدُوا كَلَامَهُ بِالْمَدِينَةِ، بَلْ حَضَرُوا مِنْ مَكَّةَ، وَالْيَمَنِ، وَالْبَوَادِي، وَغَيْرِهَا خَلْقٌ عَظِيمٌ حَجُّوا مَعَهُ، لَمْ يَشْهَدُوا جَوَابَهُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ، بَلْ أَكْثَرُ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ لَمْ يَشْهَدُوا ذَلِكَ الْجَوَابَ. وَذَلِكَ الْجَوَابُ لَمْ يَذْكُرْهُ ابْتِدَاءً لِتَعْلِيمِ جَمِيعِ النَّاسِ، بَلْ «سَأَلَهُ سَائِلٌ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إلَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ» . وَابْنُ عُمَرَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ إلَّا هَذَا، كَمَا أَنَّهُ فِي الْمَوَاقِيتِ لَمْ يَسْمَعْ إلَّا ثَلَاثَ مَوَاقِيتَ: قَوْلُهُ: «أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةُ وَأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ» . قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَذَكَرَ لِي وَلَمْ أَسْمَعْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَّتَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ» ، وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ لَهُ صَحِيحٌ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَابْنُ عَبَّاسٍ أَخْبَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَّتَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ، وَلِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَقَالَ: هُنَّ لَهُنَّ، وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ، مِمَّنْ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَهُنَّ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ» .

فَكَانَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ الْعِلْمِ بِهَذِهِ السُّنَّةِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، وَفِي حَدِيثِهِ ذَكَرَ أَرْبَعَ مَوَاقِيتَ، وَذَكَرَ أَحْكَامَ النَّاسِ كُلِّهِمْ إذَا مَرُّوا عَلَيْهَا أَوْ أَحْرَمُوا مِنْ دُونِهَا. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُبَلِّغُ الدِّينَ بِحَسَبِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَدْ أَسْلَمُوا، وَأَسْلَمَ أَهْلُ نَجْدٍ، وَأَسْلَمَ مَنْ كَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِ وَقَّتَ الثَّلَاثَ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ إنَّمَا أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ يَرَ أَكْثَرُهُمْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ كَانُوا مُخَضْرَمِينَ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا وَقَّتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: «أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ قُلُوبًا وَأَلْيَنُ أَفْئِدَةً، الْإِيمَانُ يَمَانِيٌّ، وَالْفِقْهُ يَمَانِيٌّ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ» . ثُمَّ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ «أَنَّهُ لَمَّا فُتِحَتْ أَطْرَافُ الْعِرَاقِ وَقَّتَ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ» ، كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ هَذَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِيهِ: أَحْسَبُهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَطَعَ بِهِ غَيْرُهُ، وَرَوَى ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، فَكَانَ مَا سَمِعَهُ هَؤُلَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا سَمِعَهُ غَيْرُهُمْ. وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ فِي تَرْخِيصِهِ فِي الْخُفِّ وَالسَّرَاوِيلِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ يَقُولُ: السَّرَاوِيلَاتُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ، وَالْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ جَابِرٍ «مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ» . فَهَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ فِيهِ فِي عَرَفَاتٍ - وَهُوَ أَعْظَمُ مَجْمَعٍ كَانَ لَهُ - أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ. وَلَمْ يَأْمُرْ بِقَطْعٍ وَلَا فَتْقٍ، وَأَكْثَرُ الْحَاضِرِينَ بِعَرَفَاتٍ لَمْ يَشْهَدُوا خُطْبَتَهُ، وَمَا سَمِعُوا أَمْرَهُ بِقَطْعِ الْخُفَّيْنِ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ.

فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الشَّرْعَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ بِعَرَفَاتٍ، لَمْ يَكُنْ شُرِعَ بَعْدُ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُ بِالْمَدِينَةِ إنَّمَا أَرْخَصَ فِي لُبْسِ النَّعْلَيْنِ وَمَا يُشْبِهُهُمَا مِنْ الْمَقْطُوعِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ عَدِمَ مَا يُشْبِهُ الْخُفَّيْنِ يَلْبَسُ الْخُفَّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَلْبَسُ سَرَاوِيلَ بِلَا فَتْقٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْطُوعَ كَالنَّعْلَيْنِ يَجُوزُ لُبْسُهُمَا مُطْلَقًا، وَلُبْسُ مَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ جُمْجُمٍ وَمَدَاسٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي جَدِّي أَبُو الْبَرَكَاتِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي آخِرِ عُمُرِهِ لَمَّا حَجَّ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْمَقْطُوعَ لُبْسُهُ أَصْلٌ لَا بَدَلٌ لَهُ فَيَجُوزُ لُبْسُهُ مُطْلَقًا، وَهَذَا فَهْمٌ صَحِيحٌ مِنْهُ، دُونَ فَهْمِ مَنْ فَهِمَ أَنَّهُ بَدَلٌ. وَالثَّلَاثَةُ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْخَصَ فِي الْبَدَلِ، وَهُوَ الْخُفُّ، وَلُبْسُ السَّرَاوِيلِ، فَمَنْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ إذَا عَدِمَ الْأَصْلَ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَهَذَا فَهْمٌ صَحِيحٌ. وَأَحْمَدُ فَهِمَ مِنْ النَّصِّ الْمُتَأَخِّرِ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ الْبَدَلَانِ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِلْقَطْعِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهَذَا فَهْمٌ صَحِيحٌ. وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا، فَأَوْجَبَ الْفِدْيَةَ عَلَى كُلِّ مَنْ لَبِسَ خُفًّا أَوْ سَرَاوِيلَ إذَا لَمْ يَفْتُقْهُ، وَإِنْ عَدِمَ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ، وَزَادَ: أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هِيَ لِلْحَاجَةِ، وَالْمُحْرِمُ إذَا احْتَاجَ إلَى مَحْظُورٍ فَعَلَهُ وَافْتَدَى. وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَقَالُوا: مَنْ لَبِسَ الْبَدَلَ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، كَمَا أَبَاحَ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَاتٍ، وَلَمْ يَأْمُرْ مَعَهُ بِفِدْيَةٍ وَلَا فَتْقٍ. قَالُوا: وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى لُبْسِ مَا يَسْتُرُونَ بِهِ عَوْرَاتِهِمْ وَمَا يَلْبَسُونَهُ فِي أَرْجُلِهِمْ، فَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ عَامَّةٌ، وَمَا احْتَاجَ إلَيْهِ الْعُمُومُ لَمْ يَحْظُرْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ فِيهِ فِدْيَةٌ، بِخِلَافِ مَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِمَرَضٍ أَوْ بَرْدٍ، وَمِنْ ذَلِكَ حَاجَةٌ لِعَارِضٍ، وَلِهَذَا «أَرْخَصَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنِّسَاءِ فِي اللِّبَاسِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ، وَنَهَى الْمُحْرِمَةَ عَنْ

النِّقَابِ، وَالْقُفَّازَيْنِ» ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا كَانَتْ مُحْتَاجَةً إلَى سَتْرِ بَدَنِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا فِي سَتْرِهِ فِدْيَةٌ، وَكَذَلِكَ حَاجَةُ الرِّجَالِ إلَى السَّرَاوِيلِ وَالْخِفَافِ، إذَا لَمْ يَجِدُوا الْإِزَارَ وَالنِّعَالَ. وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا لَمْ يَسْمَعْ إلَّا حَدِيثَ الْقَطْعِ أَخَذَ بِعُمُومِهِ، فَكَانَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ بِقَطْعِ الْخِفَافِ حَتَّى أَخْبَرُوهُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ فِي لُبْسِ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ: «لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» . أَخَذَ بِعُمُومِهِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَكَانَ يَأْمُرُ الْحَائِضَ أَنْ لَا تَنْفِرَ حَتَّى تَطُوفَ. وَكَذَلِكَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ، حَتَّى أَخْبَرُوهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ لِلْحُيَّضِ أَنْ يَنْفِرْنَ بِلَا وَدَاعٍ» . وَتَنَاظَرَ فِي ذَلِكَ زَيْدٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عُمَرَ، لَمَّا سَمِعَا «نَهْيَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ» أَخَذَا بِالْعُمُومِ. فَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَأْمُرُ النَّاسَ بِمَنْعِ نِسَائِهِمْ مِنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَنْهَى عَنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَيَنْزِعُ خُيُوطَ الْحَرِيرِ مِنْ الثَّوْبِ. وَغَيْرُهُمَا سَمِعَ الرُّخْصَةَ لِلْحَاجَةِ، وَهُوَ الْإِرْخَاصُ لِلنِّسَاءِ وَلِلرِّجَالِ فِي الْيَسِيرِ، وَفِيمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِلتَّدَاوِي وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَاجَةٌ عَامَّةٌ. وَهَكَذَا اجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي النُّصُوصِ: يَسْمَعُ أَحَدُهُمْ النَّصَّ الْمُطْلَقَ فَيَأْخُذُ بِهِ، وَلَا يَبْلُغُهُ مَا يَبْلُغُ مِثْلَهُ مِنْ تَقْيِيدِهِ وَتَخْصِيصِهِ، وَاَللَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى النَّاسِ فِي الْإِحْرَامِ، وَلَا غَيْرِهِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ حَاجَةً عَامَّةً، وَلَا أَمَرَ مَعَ هَذِهِ الرُّخْصَةِ فِي الْحَاجَةِ الْعَامَّةِ أَنْ يُفْسِدَ الْإِنْسَانُ خُفَّهُ، أَوْ سَرَاوِيلَهُ بِقَطْعٍ أَوْ فَتْقٍ، كَمَا أَفْتَى بِذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ سَمِعَ السُّنَّةَ الْمُتَأَخِّرَةَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْقَطْعِ أَوَّلًا لِيَصِيرَ الْمَقْطُوعُ

كَالنَّعْلِ، فَأَمَرَ بِالْقَطْعِ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ الْبَدَلَ؛ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ يَجُوزُ لُبْسُهُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا قَالَ " لِمَنْ لَمْ يَجِدْ "؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ مَعَ وُجُودِ النَّعْلِ إفْسَادٌ لِلْخُفِّ، وَإِفْسَادُ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَدِمَ الْخُفَّ، فَلِهَذَا جَعَلَ بَدَلًا فِي هَذِهِ الْحَالِ لِأَجْلِ فَسَادِ الْمَالِ. كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ» هَذِهِ رِوَايَةُ أَنَسٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: مَا بَالُ أَحَدُكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ؟ فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ هَكَذَا، وَتَفَلَ فِي ثَوْبِهِ وَوَضَعَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ» . فَأَمَرَ بِالْبُصَاقِ فِي الثَّوْبِ إذَا تَعَذَّرَ، لَا لِأَنَّ الْبُصَاقَ فِي الثَّوْبِ بَدَلٌ شَرْعِيٌّ، لَكِنْ مِثْلُ ذَلِكَ يُلَوِّثُ الثَّوْبَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. وَفِي الِاسْتِجْمَارِ أَمَرَ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَثَلَاثُ حَثَيَاتٍ مِنْ تُرَابٍ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ لَا يَتَمَكَّنُ بِهِ كَمَا يَتَمَكَّنُ بِالْحَجَرِ، لَا لِأَنَّهُ بَدَلٌ شَرْعِيٌّ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. فَدَلَّتْ نُصُوصُهُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَوْسِعَةُ شَرِيعَتِهِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَأَنَّهُ مَا جَعَلَ عَلَى أُمَّتِهِ مِنْ حَرَجٍ. وَكُلُّ قَوْلٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُهُ قَالَتْ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَلَمْ تَجْمَعُ الْأُمَّةُ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - عَلَى رَدِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، إذْ كَانُوا لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ، بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ، وَإِذَا رَدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ

وَالرَّسُولِ تَبَيَّنَ كَمَالُ دِينِهِ، وَتَصْدِيقُ بَعْضِهِ لِبَعْضٍ، وَأَنَّ مَنْ أَفْتَى مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِخِلَافِ ذَلِكَ مَعَ اجْتِهَادِهِ وَتَقْوَاهُ لِلَّهِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ، فَهُوَ مَأْجُورٌ فِي ذَلِكَ لَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَصَابَ الْحَقَّ فَيَعْرِفُهُ لَهُ أَجْرَانِ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، كَالْمُجْتَهِدِينَ فِي جِهَةِ الْكَعْبَةِ. وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ كَثِيرَ الْحَجِّ، وَكَانَ يُفْتِي النَّاسَ فِي الْمَنَاسِكِ كَثِيرًا، وَكَانَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ قَدْ احْتَاجَ إلَيْهِ النَّاسُ، وَإِلَى عِلْمِهِ وَدِينِهِ، إذْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَاتَ قَبْلَهُ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْتِي بِحَسَبِ مَا سَمِعَهُ وَفَهِمَهُ، فَلِهَذَا يُوجَدُ فِي مَسَائِلِهِ أَقْوَالٌ فِيهَا ضِيقٌ لِوَرَعِهِ وَدِينِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَرْضَاهُ - وَكَانَ قَدْ رَجَعَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهَا، كَمَا رَجَعَ عَنْ أَمْرِ النِّسَاءِ بِقَطْعِ الْخُفَّيْنِ، وَعَنْ أَمْرِ الْحَائِضِ أَنْ لَا تَنْفِرَ حَتَّى تُوَدِّعَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ يَأْمُرُ الرِّجَالَ بِالْقَطْعِ إذْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْخَبَرُ النَّاسِخُ. وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَكَانَ يُبِيحُ لِلرِّجَالِ لُبْسَ الْخُفِّ بِلَا قَطْعٍ إذَا لَمْ يَجِدُوا النَّعْلَيْنِ، لِمَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَاتٍ، وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَنْهَى الْمُحْرِمَ عَنْ الطِّيبِ حَتَّى يَطُوفَ اتِّبَاعًا لِعُمَرَ. وَأَمَّا سَعْدٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ فَبَلَغَتْهُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَنَّهُ تَطَيَّبَ لِحَرَمِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَكُلُّهُ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» فَأَخَذُوا بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ إذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ يَرَى إحْرَامَهُ قَدْ انْقَطَعَ، فَلَمَّا مَاتَ ابْنُهُ كَفَّنَهُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ، وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ. وَابْنُ عَبَّاسٍ عَلِمَ حَدِيثَ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غَسِّلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» . فَأَخَذَ بِذَلِكَ وَقَالَ: الْإِحْرَامُ بَاقٍ، يَجْتَنِبُ الْمُحْرِمُ إذَا مَاتَ مَا يَجْتَنِبُهُ غَيْرُهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَغَيْرُهُمْ.

وَكَذَلِكَ الشَّهِيدُ، رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَغْسِيلِهِ فَقَالَ: غُسِّلَ عُمَرُ وَهُوَ شَهِيدٌ. وَالْأَكْثَرُونَ بَلَغَهُمْ «سُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَقَوْلُهُ: زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ، فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ» . الْحَدِيثُ فِي الصِّحَاحِ، فَأَخَذُوا بِذَلِكَ فِي شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَثَّ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ يَعْقِدُ الْإِزَارَ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَ بِالْعَقْدِ. وَكَرِهَ ابْنُ عُمَرَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَعْقِدَ الرِّدَاءَ، كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ إذَا عَقَدَ عُقْدَةً صَارَ يُشْبِهُ الْقَمِيصَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ يَدَانِ، وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، فَكَرِهُوهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، فَيُوجِبُونَ الْفِدْيَةَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ، وَأَمَّا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ فَلَا يُوجِبُونَ الْفِدْيَةَ، وَهَذَا أَقْرَبُ. وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ كَرَاهَةَ عَقْدِ الرِّدَاءِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يَلْتَحِفُ وَلَا يَثْبُتُ بِالْعَادَةِ إلَّا بِالْعَقْدِ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ، مِثْلُ الْخِلَالِ، وَرَبْطِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى حَقْوِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَهْلُ الْحِجَازِ أَرْضُهُمْ لَيْسَتْ بَارِدَةً، فَكَانُوا يَعْتَادُونَ لُبْسَ الْأُزُرِ وَالْأَرْدِيَةِ، وَلُبْسُ السَّرَاوِيلُ قَلِيلٌ فِيهِمْ، حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ قَطُّ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَغَيْرُهُ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى الْأُزُرِ وَالْأَرْدِيَةِ لَمْ يَكْفِهِمْ ذَلِكَ، بَلْ يَحْتَاجُونَ إلَى الْقَمِيصِ وَالْخِفَافِ وَالْفِرَاء وَالسَّرَاوِيلَاتِ. وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: يُسْتَحَبُّ مَعَ الرِّدَاءِ الْإِزَارُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْفَخِذَيْنِ، وَيُسْتَحَبُّ مَعَ الْقَمِيصِ السَّرَاوِيلُ؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ، وَمَعَ الْقَمِيصِ لَا يَظْهَرُ تَقَاطِيعُ الْخَلْقِ، وَالْقَمِيصُ فَوْقَ

السَّرَاوِيلِ يَسْتُرُ، بِخِلَافِ الرِّدَاءِ فَوْقَ السَّرَاوِيلِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتُرُ تَقَاطِيعَ الْخَلْقِ. وَأَمَّا الرِّدَاءُ فَوْقَ السَّرَاوِيلِ: فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْتَحِبُّهُ تَشَبُّهًا بِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَحِبُّهُ لِعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ عَادَتِهِمْ الْمَعْرُوفَةَ لُبْسُهُ مَعَ الْإِزَارِ، وَمَنْ اعْتَادَ الرِّدَاءَ ثَبَتَ عَلَى جَسَدِهِ بِعَطْفِ أَحَدِ طَرَفَيْهِ، وَإِذَا حَجَّ مَنْ لَمْ يَتَعَوَّدْ لُبْسَهُ، وَكَانَ رِدَاؤُهُ صَغِيرًا لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِعَقْدِهِ، وَكَانَتْ حَاجَتُهُمْ إلَى عَقْدِهِ كَحَاجَةِ مَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ إلَى الْخُفَّيْنِ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى سَتْرِ الْبَدَنِ قَدْ تَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى سَتْرِ الْقَدَمَيْنِ. وَالتَّحَفِّي فِي الْمَشْيِ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ. وَأَمَّا إظْهَارُ بَدَنِهِ لِلْحَرِّ، وَالْبَرْدِ وَالرِّيحِ، وَالشَّمْسِ، فَهَذَا يَضُرُّ غَالِبَ النَّاسِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْمُصَلِّيَ بِسَتْرِ ذَلِكَ فَقَالَ: «لَا يُصَلِّيَنَّ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» . وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ حَافِيًا، فَعُلِمَ أَنَّ سَتْرَ هَذَا إلَى اللَّهِ أَحَبُّ مِنْ سَتْرِ الْقَدَمَيْنِ بِالنَّعْلَيْنِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ الْعَامَّةِ، رُخِّصَ فِيهِ فِي الْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ، فَلَأَنْ يُرَخَّصَ فِي هَذَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. فَإِنْ قِيلَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُرَخَّصَ فِي لُبْسِ الْقَمِيصِ وَالْجُبَّةِ، وَنَحْوِهِمَا: لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الرِّدَاءَ. قِيلَ الْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِأَنْ يَلْتَحِفَ بِذَلِكَ عَرْضًا مَعَ رَبْطِهِ وَعَقْدِ طَرَفَيْهِ فَيَكُونُ كَالرِّدَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الرَّبْطُ فَإِنَّ طَرَفَيْ الْقَمِيصِ وَالْجُبَّةِ وَنَحْوِهِمَا لَا يَثْبُتُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْأَرْدِيَةُ الصِّغَارُ فَمَا وَجَدَهُ الْمُحْرِمُ مِنْ قَمِيصٍ، وَمَا يُشْبِهُهُ كَالْجُبَّةِ، وَمِنْ بُرْنُسٍ، وَمَا يُشْبِهُهُ مِنْ ثِيَابٍ مُقَطَّعَةٍ، أَمْكَنَهُ أَنْ يَرْتَدِيَ بِهَا إذَا رَبَطَهَا، فَيَجِبُ أَنْ يُرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ مَحْظُورًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَكْرُوهًا فَعِنْدَ الْحَاجَةِ تَزُولُ الْكَرَاهَةُ كَمَا رَخَّصَ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ الْهِمْيَانَ لِحِفْظِ مَالِهِ، وَيَعْقِدَ

طَرَفَيْهِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِالْعَقْدِ، وَهُوَ إلَى سَتْرِ مَنْكِبَيْهِ أَحْوَجُ، فَرَخَّصَ لَهُ عَقْدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِلَا رَيْبٍ. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَذْكُرْ فِيمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَمَا يُنْهَى عَنْهُ، لَفْظًا عَامًّا يَتَنَاوَلُ عَقْدَ الرِّدَاءِ، بَلْ «سُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ فَقَالَ: لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْخِفَافَ، إلَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ. . .» الْحَدِيثَ. فَنَهَى عَنْ خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ الثِّيَابِ الَّتِي تُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ، وَهِيَ الْقَمِيصُ، وَفِي مَعْنَاهُ الْجُبَّةُ وَأَشْبَاهُهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْخَمْسَةِ فَقَطْ، بَلْ أَرَادَ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ، وَنَبَّهَ عَلَى كُلِّ جِنْسٍ بِنَوْعٍ مِنْهَا، وَذَكَرَ مَا احْتَاجَ الْمُخَاطَبُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَهُوَ مَا كَانُوا يَلْبَسُونَهُ غَالِبًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: مَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ سُئِلَ قَبْلَ ذَلِكَ عَمَّنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ فَقَالَ: انْزِعْ عَنْك الْجُبَّةَ، وَاغْسِلْ عَنْك أَثَرَ الْخَلُوقِ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا كُنْت صَانِعًا فِي حَجِّك» . وَكَانَ هَذَا فِي عُمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْجُبَّةِ كَانَ مَشْرُوعًا قَبْلَ هَذَا وَلَمْ يَذْكُرْهَا بِلَفْظِهَا فِي الْحَدِيثِ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ: وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ» . وَفِي مُسْلِمٍ «وَوَجْهَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» . فَنَهَاهُمْ عَنْ تَخْمِيرِ رَأْسِهِ لِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا، كَمَا أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يُقَرِّبُوهُ طِيبًا، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُحْرِمَ يُنْهَى عَنْ هَذَا وَهَذَا. وَإِنَّمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الْعَمَائِمِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ،

وَعَمَّا يُشْبِهُهُ فِي تَخْمِيرِ الرَّأْسِ، فَذَكَرَ مَا يُخَمِّرُ الرَّأْسَ وَمَا يُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ: كَالْقَمِيصِ وَالْجُبَّةِ، وَمَا يُلْبَسُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَهُوَ الْبُرْنُسُ. وَذَكَرَ مَا يُلْبَسُ فِي النِّصْفِ الْأَسْفَلِ مِنْ الْبَدَنِ، وَهُوَ السَّرَاوِيلُ وَالثِّيَابُ، وَالتُّبَّانُ فِي مَعْنَاهُ. وَكَذَلِكَ مَا يُلْبَسُ فِي الرِّجْلَيْنِ، وَهُوَ: الْخُفُّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجُرْمُوقَ، وَالْجَوْرَبَ فِي مَعْنَاهُ، فَهَذَا يُنْهَى عَنْهُ الْمُحْرِمُ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَسْحُ لِلْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ الَّذِي جَازَ لَهُ لُبْسُهُ، فَإِنَّ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ أُمِرَ بِالْمَسْحِ عَلَيْهِ. وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِالِاسْتِجْمَارِ بِالْأَحْجَارِ، لَمْ يَخْتَصَّ الْحَجَرُ إلَّا لِأَنَّهُ كَانَ الْمَوْجُودَ غَالِبًا، لَا لِأَنَّ الِاسْتِجْمَارَ بِغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ، بَلْ الصَّوَابُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ فِي جَوَازِ الِاسْتِجْمَارِ بِغَيْرِهِ، كَمَا هُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِنَهْيِهِ عَنْ الِاسْتِجْمَارِ بِالرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ، وَقَالَ: «إنَّهُمَا طَعَامُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ» . فَلَمَّا نَهَى عَنْ هَذَيْنِ تَعْلِيلًا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ، عُلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْحَجَرِ، وَإِلَّا لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ، هُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لِكَوْنِهِ كَانَ قُوتًا لِلنَّاسِ، فَأَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ يُخْرِجُونَ مِنْ قُوتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ، كَاَلَّذِينَ يَقْتَاتُونَ الرُّزَّ، أَوْ الذُّرَةَ يُخْرِجُونَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَلَيْسَ نَهْيُهُ عَنْ الِاسْتِجْمَارِ بِالرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ إذْنًا فِي الِاسْتِجْمَارِ بِكُلِّ شَيْءٍ، بَلْ الِاسْتِجْمَارُ بِطَعَامِ الْآدَمِيِّينَ، وَعَلَفِ دَوَابِّهِمْ، أَوْلَى بِالنَّهْيِ عَنْهُ مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ، وَعَلَفِ دَوَابِّهِمْ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَقَّوْنَ الِاسْتِجْمَارَ بِمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ، بِخِلَافِ طَعَامِ الْإِنْسِ وَعَلَفِ دَوَابِّهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ مَنْ يَفْعَلُهُ فِي الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ. وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَصْنَافُ الْخَمْسَةُ نَهَى عَنْهَا، وَقَدْ سُئِلَ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ

الثِّيَابِ، وَظَاهِرُ لَفْظِهِ أَنَّهُ أَذِنَ فِيمَا سِوَاهَا؛ لِأَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُ لَا عَمَّا لَا يَلْبَسُ، فَلَوْ لَمْ يُفِدْ كَلَامُهُ الْإِذْنَ فِيمَا سِوَاهَا لَمْ يَكُنْ قَدْ أَجَابَ السَّائِلَ، لَكِنْ كَانَ الْمَلْبُوسُ الْمُعْتَادُ عِنْدَهُمْ مِمَّا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ هَذِهِ الْخَمْسَةَ. وَالْقَوْمُ لَهُمْ عَقْلٌ وَفِقْهٌ، فَيَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ إذَا نَهَى عَنْ الْقَمِيصِ وَهُوَ طَاقٌ وَاحِدٌ، فَلَأَنْ يَنْهَى عَنْ الْمُبَطَّنَةِ، وَعَنْ الْجُبَّةِ الْمَحْشُوَّةِ، وَعَنْ الْفَرْوَةِ الَّتِي هِيَ كَالْقَمِيصِ، وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ فِيهَا مَا فِي الْقَمِيصِ وَزِيَادَةٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ فِيهَا مَعَ نَهْيِهِ عَنْ الْقَمِيصِ. وَكَذَلِكَ التُّبَّانُ أَبْلَغُ مِنْ السَّرَاوِيلِ، وَالْعِمَامَةُ تُلْبَسُ فِي الْعَادَةِ فَوْقَ غَيْرِهَا، إمَّا قَلَنْسُوَةً، أَوْ كَلْثَمَةً، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَإِذَا نَهَى عَنْ الْعِمَامَةِ الَّتِي لَا تُبَاشِرُ الرَّأْسَ فَنَهْيُهُ عَنْ الْقَلَنْسُوَةِ، وَالْكَلْثَمَةِ، وَنَحْوِهَا مِمَّا يُبَاشِرُ الرَّأْسَ أَوْلَى، فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى تَخْمِيرِ الرَّأْسِ، وَالْمُحْرِمُ أَشْعَثُ أَغْبَرُ. وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ - حَدِيثِ الْمُبَاهَاةِ - «إنَّهُ يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَيُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِأَهْلِ الْمَوْقِفِ فَيَقُولُ: اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا، مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ» . وَشُعْثُ الرَّأْسِ وَاغْبِرَارُهُ لَا يَكُونُ مَعَ تَخْمِيرِهِ، فَإِنَّ الْمُخَمَّرَ لَا يُصِيبُهُ الْغُبَارُ، وَلَا يَشْعَثُ بِالشَّمْسِ، وَالرِّيحِ وَغَيْرِهِمَا؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ يَحْصُلُ لَهُ نَوْعُ مُتْعَةٍ بِذَلِكَ يُؤْمَرُ بِالْحَلْقِ فَلَا يُقَصِّرُ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْقُعُودِ فِي ظِلٍّ، أَوْ سَقْفٍ أَوْ خَيْمَةٍ، أَوْ شَجَرٍ أَوْ ثَوْبٍ يُظَلُّ بِهِ، فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الشُّعْثَ وَلَا الِاغْبِرَارَ، وَلَيْسَ فِيهِ تَخْمِيرُ الرَّأْسِ. وَإِنَّمَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَنْ يَسْتَظِلُّ بِالْمُحْمَلِ؛ لِأَنَّهُ مُلَازِمٌ لِلرَّاكِبِ كَمَا تُلَازِمُهُ الْعِمَامَةُ، لَكِنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ، فَمَنْ نَهَى عَنْهُ اعْتَبَرَ مُلَازَمَتَهُ لَهُ، وَمَنْ رَخَّصَ فِيهِ اعْتَبَرَ انْفِصَالَهُ عَنْهُ، فَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ الَّذِي لَا يُلَازِمُ، فَهَذَا يُبَاحُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْمُتَّصِلُ الْمُلَازِمُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.

وَمَنْ لَمْ يَلْحَظْ الْمَعَانِيَ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا يَفْهَمُ تَنْبِيهَ الْخِطَابِ وَفَحْوَاهُ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ كَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ قَوْلَهُ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] . لَا يُفِيدُ النَّهْيَ عَنْ الضَّرْبِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ دَاوُد، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، بَلْ وَكَذَلِكَ قِيَاسُ الْأَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ، لَكِنْ عُرِفَ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَنْطُوقِ بِهَذَا، فَإِنْكَارُهُ مِنْ بِدَعِ الظَّاهِرِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْهُمْ بِهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ، فَمَا زَالَ السَّلَفُ يَحْتَجُّونَ بِمِثْلِ هَذَا. وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ إذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ كَرَّرَهَا ثَلَاثًا، قَالُوا: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» فَإِذَا كَانَ هَذَا بِمُجَرَّدِ الْخَوْفِ مِنْ بَوَائِقِهِ، فَكَيْفَ فِعْلُ الْبَوَائِقِ مَعَ عَدَمِ أَمْنِ جَارِهِ مِنْهُ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ: عَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: «أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلْقَك. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك. قِيلَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك» .

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَارَ لَا يَعْرِفُ هَذَا فِي الْعَادَةِ، فَهَذَا أَوْلَى بِسَلْبِ الْإِيمَانِ مِمَّنْ لَا تُؤْمَنُ بَوَائِقُهُ، وَلَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ هَذَا. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَا يُؤْمِنُونَ، فَاَلَّذِينَ يُحَكِّمُونَهُ وَيَرَوْنَ حُكْمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدُوا حَرَجًا مِمَّا قَضَى؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ غَيْرَهُ أَصَحُّ مِنْهُ، أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ سَدِيدٍ، [أَشَدُّ وَأَعْظَمُ] . وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] . فَإِذَا كَانَ بِمُوَادَّةِ الْمُحَادِّ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا، فَأَنْ لَا يَكُونَ مُؤْمِنًا إذَا حَادَّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَكَذَلِكَ إذَا نُهِيَ الرَّجُلُ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِالْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ؛ لِأَنَّهُمَا طَعَامُ الْجِنِّ وَعَلَفُ دَوَابِّهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ نَهْيَهُ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِطَعَامِ الْإِنْسِ وَعَلَفِ دَوَابِّهِمْ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إذَا نُهِيَ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ مَعَ الْإِمْلَاقِ، فَنَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ مَعَ الْغِنَى وَالْيَسَارِ أَوْلَى وَأَحْرَى. فَالتَّخَصُّصُ بِالذِّكْرِ قَدْ يَكُونُ لِلْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ، فَتَخْصِيصُ الْقَمِيصِ دُونَ الْجِبَابِ، وَالْعَمَائِمِ دُونَ الْقَلَانِسِ، وَالسَّرَاوِيلِ دُونَ التَّبَايُنِ، هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، لَا لِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ فَقَدْ أَذِنَ فِيهِ.

وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ بِصَبِّ دَلْوٍ مِنْ مَاءٍ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ اخْتِلَاطِ الْمَاءِ بِالْبَوْلِ وَسَرَيَانِ ذَلِكَ، لَكِنْ قَصَدَ بِهِ تَعْجِيلَ التَّطْهِيرِ، لَا لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَزُولُ بِغَيْرِ ذَلِكَ بَلْ الشَّمْسُ وَالرِّيحُ، وَالِاسْتِحَالَةُ تُزِيلُ النَّجَاسَةَ، أَعْظَمُ مِنْ هَذَا؛ وَلِهَذَا «كَانَتْ الْكِلَابُ تُقْبِلُ، وَتُدْبِرُ، وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ» . وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوءًا كَامِلًا، ثُمَّ لَبِسَ الْخُفَّيْنِ، جَازَ لَهُ الْمَسْحُ بِلَا نِزَاعٍ، وَلَوْ غَسَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ وَأَدْخَلَهَا الْخُفَّ، ثُمَّ فَعَلَ بِالْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ فَفِيهِ قَوْلَانِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: إحْدَاهُمَا: يَجُوزُ الْمَسْحُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. قَالَ هَؤُلَاءِ: لِأَنَّ الْوَاجِبَ ابْتِدَاءُ اللُّبْسِ عَلَى الطَّهَارَةِ، فَلَوْ لَبِسَهُمَا وَتَوَضَّأَ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ فِيهِمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الْمَسْحُ، حَتَّى يَخْلَعَ مَا لَبِسَ قَبْلَ تَمَامِ طُهْرِهِمَا، فَيَلْبَسُهُ بَعْدَهُ. وَكَذَلِكَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ؛ قَالُوا: يَخْلَعُ الرِّجْلَ الْأُولَى، ثُمَّ يُدْخِلُهَا فِي الْخُفِّ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي أَدْخَلْت الْقَدَمَيْنِ الْخُفَّيْنِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ» . قَالُوا: وَهَذَا أَدْخَلَهُمَا وَلَيْسَتَا طَاهِرَتَيْنِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ بِلَا شَكٍّ، وَإِذَا جَازَ الْمَسْحُ لِمَنْ تَوَضَّأَ خَارِجًا، ثُمَّ لَبِسَهُمَا، فَلَأَنْ يَجُوزَ لِمَنْ تَوَضَّأَ فِيهِمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَإِنَّ هَذَا فَعَلَ الطَّهَارَةَ فِيهِمَا وَاسْتَدَامَهَا فِيهِمَا، وَذَلِكَ فَعَلَ الطَّهَارَةَ خَارِجًا عَنْهُمَا، وَإِدْخَالُ هَذَا قَدَمَيْهِ الْخُفَّ مَعَ الْحَدَثِ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ لَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالطَّهَارَةِ الْمَوْجُودَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ كَمَسِّ الْمُصْحَفِ مَعَ الْحَدَثِ.

وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي أَدْخَلَتْهُمَا الْخُفَّ، وَهُمَا طَاهِرَتَانِ» حَقٌّ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا عِلَّةٌ لِجَوَازِ الْمَسْحِ، فَكُلُّ مَنْ أَدْخَلَهُمَا طَاهِرَتَيْنِ فَلَهُ الْمَسْحُ، وَهُوَ لَمْ يَقُلْ: إنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَمْ يَمْسَحْ. لَكِنْ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَالتَّعْلِيلِ. فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ حِكْمَةَ التَّخْصِيصِ هَلْ بَعْضُ الْمَسْكُوتِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذِكْرَ إدْخَالِهِمَا طَاهِرَتَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعْتَادُ، وَلَيْسَ غَسْلُهُمَا فِي الْخُفَّيْنِ مُعْتَادًا، وَإِلَّا فَإِذَا غَسَلَهُمَا فِي الْخُفِّ فَهُوَ أَبْلَغُ، وَإِلَّا فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي نَزْعِ الْخُفِّ ثُمَّ لُبْسِهِ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ شَيْءٍ فِيهِ مَنْفَعَةٌ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا عَبَثٌ مَحْضٌ يُنَزَّهُ الشَّارِعُ عَنْ الْأَمْرِ بِهِ؟ وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: أَدْخِلْ مَالِي وَأَهْلِي إلَى بَيْتِي، وَكَانَ فِي بَيْتِهِ بَعْضُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ. هَلْ يُؤْمَرُ بِأَنْ يُخْرِجَهُ ثُمَّ يُدْخِلَهُ؟ ، وَيُوسُفُ لَمَّا قَالَ لِأَهْلِهِ {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 99] . وَقَالَ مُوسَى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} [المائدة: 21] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] . فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ كَانَ بِمِصْرَ بَعْضُهُمْ، أَوْ كَانَ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بَعْضٌ، أَوْ كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ قَدْ دَخَلَ الْحَرَمَ قَبْلَ ذَلِكَ، هَلْ كَانَ هَؤُلَاءِ يُؤْمَرُونَ بِالْخُرُوجِ ثُمَّ الدُّخُولِ؟ فَإِذَا قِيلَ: هَذَا لَمْ يَقَعْ. قِيلَ: وَكَذَلِكَ غَسْلُ الرَّجُلِ قَدَمَيْهِ فِي الْخُفِّ لَيْسَ وَاقِعًا فِي الْعَادَةِ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِهِ، لَيْسَ لِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجٍ وَإِدْخَالٍ. فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا اسْتَجْمَرَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ اسْتَجْمَرَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ: كَالرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ، وَبِالْيَمِينِ، هَلْ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ؟

مسألة قراءة القرآن في حال النفاس

وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ إذَا اسْتَجْمَرَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَعَلَيْهِ تَكْمِيلُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَأَمَّا إذَا اسْتَجْمَرَ بِالْعَظْمِ، وَالْيَمِينِ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ، فَإِنَّهُ قَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا، وَالْإِعَادَةُ لَا فَائِدَةَ فِيهَا، وَلَكِنْ قَدْ يُؤْمَرُ بِتَنْظِيفِ الْعَظْمِ مِمَّا لَوَّثَهُ بِهِ. كَمَا لَوْ كَانَ عِنْدَهُ خَمْرٌ، فَأُمِرَ بِإِتْلَافِهَا فَأَرَاقَهَا فِي الْمَسْجِدِ، فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ إتْلَافِهَا، لَكِنْ هُوَ آثِمٌ بِتَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، فَيُؤْمَرُ بِتَطْهِيرِهِ، بِخِلَافِ الِاسْتِجْمَارِ بِتَمَامِ الثَّلَاثِ، فَإِنَّ فِيهِ فِعْلَ تَمَامِ الْمَأْمُورِ، وَتَحْصِيلَ الْمَقْصُودِ. [مَسْأَلَةٌ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي حَالِ النِّفَاسِ] 65 - 49 مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ نُفَسَاءَ هَلْ يَجُوزُ لَهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي حَالِ النِّفَاسِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ وَطْؤُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعِينَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ إذَا قَضَتْ الْأَرْبَعِينَ وَلَمْ تَغْتَسِلْ، فَهَلْ يَجُوزُ وَطْؤُهَا بِغَيْرِ غُسْلٍ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا وَطْؤُهَا قَبْلَ أَنْ يَنْقَطِعَ الدَّمُ فَحَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ بِدُونِ الْأَرْبَعِينَ فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُصَلِّيَ. لَكِنْ يَنْبَغِي لِزَوْجِهَا أَنْ لَا يَقْرَبَهَا إلَى تَمَامِ الْأَرْبَعِينَ. وَأَمَّا قِرَاءَتُهَا الْقُرْآنَ فَإِنْ لَمْ تَخَفْ النِّسْيَانَ فَلَا تَقْرَؤُهُ، وَأَمَّا إذَا خَافَتْ النِّسْيَانَ فَإِنَّهَا تَقْرَأُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ وَاغْتَسَلَتْ، قَرَأَتْ الْقُرْآنَ، وَصَلَّتْ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ اغْتِسَالُهَا لِعَدَمِ الْمَاءِ، أَوْ لِخَوْفِ ضَرَرٍ لِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهَا تَتَيَمَّمُ، تَفْعَلُ بِالتَّيَمُّمِ مَا تَفْعَلُ بِالِاغْتِسَالِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَا تَجِبُ لَهُ الطَّهَارَتَانِ] 66 - 50 مَسْأَلَةٌ: فِيمَا تَجِبُ لَهُ الطَّهَارَتَانِ: الْغُسْلُ، وَالْوُضُوءُ. وَذَلِكَ وَاجِبٌ لِلصَّلَاةِ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ، فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا. وَاخْتُلِفَ فِي: الطَّوَافِ، وَمَسِّ الْمُصْحَفِ، وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي: سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، هَلْ تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الصَّلَاةِ الَّتِي تَجِبُ لَهَا الطَّهَارَةُ؟

وَأَمَّا الِاعْتِكَافُ، فَمَا عَلِمْت أَحَدًا قَالَ إنَّهُ يَجِبُ لَهُ الْوُضُوءُ، وَكَذَلِكَ الذِّكْرُ، وَالدُّعَاءُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْحَائِضَ بِذَلِكَ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَفِيهِمَا خِلَافٌ شَاذٌّ، فَمَذْهَبُ الْأَرْبَعَةِ تَجِبُ الطَّهَارَتَانِ لِهَذَا كُلِّهِ إلَّا الطَّوَافَ مَعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ. فَقَدْ قِيلَ: فِيهِ نِزَاعٌ. وَالْأَرْبَعَةُ أَيْضًا لَا يُجَوِّزُونَ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، وَلَا اللُّبْثَ فِي الْمَسْجِدِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى وُضُوءٍ، وَتَنَازَعُوا فِي قِرَاءَةِ الْحَائِضِ، وَفِي قِرَاءَةِ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ. وَفِي هَذَا نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ، كَمَا قَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرَةِ: يَجُوزُ لِلْجُنُبِ أَنْ يَقْرَأَ لِلْقُرْآنِ، وَاللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ، هَذَا مَذْهَبُ دَاوُد، وَأَصْحَابِهِ، وَابْنِ حَزْمٍ، وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَأَمَّا مَذْهَبُهُمْ فِيمَا تَجِبُ الطَّهَارَتَانِ، فَاَلَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا لِصَلَاةٍ هِيَ رَكْعَتَانِ أَوْ رَكْعَةُ الْوِتْرِ، أَوْ رَكْعَةٌ فِي الْخَوْفِ، أَوْ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ، وَلَا تَجِبُ عِنْدَهُ الطَّهَارَةُ لِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُ لِلْجُنُبِ، وَالْمُحْدِثِ، وَالْحَائِضِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَالسُّجُودُ فِيهِ، وَمَسُّ الْمُصْحَفِ. قَالَ: لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ خَيْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا، فَمَنْ ادَّعَى مَنْعَ هَؤُلَاءِ مِنْهَا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَأَمَّا الطَّوَافُ فَلَا يَجُوزُ لِلْحَائِضِ بِالنَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا الْحَدَثُ فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ، وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الْمَنَاسِكِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ: أَنَّهُ يَجُوزُ الطَّوَافُ مَعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، وَقَدْ قِيلَ إنَّ هَذَا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَأَمَّا مَعَ الْجَنَابَةِ، وَالْحَيْضِ: فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْأَرْبَعَةِ، لَكِنْ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِيهِ لَا فَرْضٌ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ رُكْنٌ فِيهِ. وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَةِ، - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، وَهُوَ الَّذِي

دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَهُوَ أَنَّ مَسَّ الْمُصْحَفِ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ ثَابِتَةٌ عَنْ الصَّحَابَةِ. وَأَمَّا الطَّوَافُ فَلَا أَعْرِفُ السَّاعَةَ فِيهِ نَقْلًا خَاصًّا عَنْ الصَّحَابَةِ، لَكِنْ إذَا جَازَ سُجُودُ التِّلَاوَةِ مَعَ الْحَدَثِ فَالطَّوَافُ أَوْلَى، كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مِنْ التَّابِعِينَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ (سَجْدَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ) : وَالْمُشْرِكُ نَجَسٌ لَيْسَ لَهُ وُضُوءٌ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ: يَسْجُدُ عَلَى وُضُوءٍ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: الصَّوَابُ إثْبَاتُ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ. ذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ يَعْنِي عُبَيْدَ بْنَ الْحَسَنِ، عَنْ رَجُلٍ زَعَمَ أَنَّهُ نَسِيَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَنْزِلُ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَيُهْرِيقُ الْمَاءَ، ثُمَّ يَرْكَبُ فَيَقْرَأُ السَّجْدَةَ فَيَسْجُدُ وَمَا يَتَوَضَّأُ. وَذُكِرَ عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ الشَّعْبِيِّ فِي الرَّجُلِ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ قَالَ: يَسْجُدُ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَائِضِ تَسْمَعُ السَّجْدَةَ. فَقَالَ عَطَاءٌ وَأَبُو قَنْزَبَةَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ: لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَسْجُدَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: تُومِئُ بِرَأْسِهَا. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ قَالَ: تُومِئُ وَتَقُولُ: لَك سَجَدْت، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: (ذِكْرُ مَنْ سَمِعَ السَّجْدَةَ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ) . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَتَوَضَّأُ وَيَسْجُدُ، هَكَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ النَّخَعِيِّ قَوْلًا ثَالِثًا: إنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيَسْجُدُ، وَرَوَيْنَا عَنْ الشَّعْبِيِّ قَوْلًا ثَالِثًا: إنَّهُ يَسْجُدُ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ.

وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: تُومِئُ الْحَائِضُ بِالسُّجُودِ. وَقَالَ سَعِيدٌ: وَتَقُولُ: رَبِّ لَك سَجَدْت، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ جَوَازُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ إلَى الْقِبْلَةِ، وَأَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ: فَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ» وَقَالَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» . وَقَالَ: «صَلُّوا عَلَى النَّجَاشِيِّ» سَمَّاهَا صَلَاةً وَلَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ، وَلَا سُجُودٌ، وَلَا يَتَكَلَّمُ فِيهَا، وَفِيهَا تَكْبِيرٌ وَتَسْلِيمٌ، قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يُصَلِّي إلَّا طَاهِرًا وَلَا يُصَلِّي عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبِهَا وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: عَرَضَ الْبُخَارِيُّ لِلرَّدِّ عَلَى الشَّعْبِيِّ، فَإِنَّهُ أَجَازَ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ قَالَ: لِأَنَّهَا دُعَاءٌ لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ، وَالْفُقَهَاءُ مُجْمِعُونَ مِنْ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى شُذُوذِهِ. أَجْمَعُوا أَنَّهَا لَا تُصَلَّى إلَّا إلَى الْقِبْلَةِ، وَلَوْ كَانَتْ دُعَاءً كَمَا زَعَمَ الشَّعْبِيُّ لَجَازَتْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ. قَالَ: وَاحْتِجَاجُ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ حَسَنٌ. قُلْت: فَالنِّزَاعُ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَفِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، قِيلَ: هُمَا جَمِيعًا لَيْسَا صَلَاةً كَمَا قَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَقِيلَ: هُمَا جَمِيعًا صَلَاةٌ تَجِبُ لَهُمَا الطَّهَارَةُ، وَالْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ. وَالْقِيَاسُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْجِنَازَةِ وَالسُّجُودِ الْمُجَرَّدِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» . كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ:

«لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ» ، وَهَذَا قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] الْآيَةَ، وَقَدْ حَرَّمَ الصَّلَاةَ مَعَ الْجَنَابَةِ وَالسُّكْرِ فِي قَوْلِهِ: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] . وَثَبَتَ أَيْضًا: أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تَجِبُ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ، لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى حَاجَتَهُ مِنْ الْخَلَاءِ، فَقُرِّبَ لَهُ طَعَامٌ، فَأَكَلَ وَلَمْ يَمَسَّ الْمَاءَ» . قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَزَادَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ لَهُ: إنَّك لَمْ تَتَوَضَّأْ؟ قَالَ: مَا أَرَدْت صَلَاةً فَأَتَوَضَّأَ» . قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْته مِنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوا الْوُضُوءَ لِلطَّوَافِ لَيْسَ مَعَهُمْ حُجَّةٌ أَصْلًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَلَا ضَعِيفٍ، أَنَّهُ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ لِلطَّوَافِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ قَدْ حَجَّ مَعَهُ خَلَائِقُ عَظِيمَةٌ، وَقَدْ اعْتَمَرَ عُمُرًا مُتَعَدِّدَةً، وَالنَّاسُ يَعْتَمِرُونَ مَعَهُ، فَلَوْ كَانَ الْوُضُوءُ فَرْضًا لِلطَّوَافِ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانًا عَامًّا، وَلَوْ بَيَّنَهُ لَنَقَلَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُ وَلَمْ يُهْمِلُوهُ. وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ لَمَّا طَافَ تَوَضَّأَ» ، وَهَذَا وَحْدَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ،

فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَقَدْ قَالَ: «إنِّي كَرِهْت أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إلَّا عَلَى طُهْرٍ» . فَيَتَيَمَّمُ لِرَدِّ السَّلَامِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ، وَأَكَلَ وَهُوَ مُحْدِثٌ، قِيلَ لَهُ: أَلَا تَتَوَضَّأُ؟ قَالَ: مَا أَرَدْت صَلَاةً فَأَتَوَضَّأَ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ إلَّا إذَا أَرَادَ صَلَاةً، وَأَنَّ وُضُوءَهُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا أَرَدْت صَلَاةً فَأَتَوَضَّأَ " لَيْسَ إنْكَارًا لِلْوُضُوءِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ، لَكِنْ إنْكَارٌ لِإِيجَابِ الْوُضُوءِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ بَعْضَ الْحَاضِرِينَ قَالَ لَهُ: أَلَا تَتَوَضَّأُ؟ فَكَأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ ظَنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ لِلْأَكْلِ، «فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَرَدْت صَلَاةً فَأَتَوَضَّأَ» فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ إنَّمَا فَرَضَ اللَّهُ الْوُضُوءَ عَلَى مَنْ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ» قَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيّ؛ وَهُوَ يُرْوَى مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا، وَأَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ لَا يُصَحِّحُونَهُ إلَّا مَوْقُوفًا، وَيَجْعَلُونَهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَا يُثْبِتُونَ رَفْعَهُ. وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ: أَنَّ الطَّوَافَ نَوْعٌ مِنْ الصَّلَاةِ: كَصَلَاةِ الْعِيدِ، وَالْجَنَائِزِ، وَلَا أَنَّهُ مِثْلُ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا، فَإِنَّ الطَّوَافَ يُبَاحُ فِيهِ الْكَلَامُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَلَا تَسْلِيمَ فِيهِ، وَلَا يُبْطِلُهُ الضَّحِكُ وَالْقَهْقَهَةُ، وَلَا تَجِبُ فِيهِ الْقِرَاءَةُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ هُوَ مِثْلُ الْجِنَازَةِ، فَإِنَّ الْجِنَازَةَ فِيهَا تَكْبِيرٌ، وَتَسْلِيمٌ فَتُفْتَحُ بِالتَّكْبِيرِ، وَتُخْتَمُ بِالتَّسْلِيمِ، وَهَذَا حَدُّ الصَّلَاةِ الَّتِي أَمَرَ فِيهَا بِالْوُضُوءِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» .

وَالطَّوَافُ لَيْسَ لَهُ تَحْرِيمٌ وَلَا تَحْلِيلٌ، وَإِنْ كَبَّرَ فِي أَوَّلِهِ فَكَمَا يُكَبِّرُ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَعِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَحْرِيمًا؛ وَلِهَذَا يُكَبِّرُ كُلَّمَا حَاذَى الرُّكْنَ، وَالصَّلَاةُ لَهَا تَحْرِيمٌ، لِأَنَّهُ بِتَكْبِيرِهَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُصَلِّي مَا كَانَ حَلَالًا مِنْ الْكَلَامِ أَوْ الْأَكْلِ، أَوْ الضَّحِكِ أَوْ الشُّرْبِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَالطَّوَافُ لَا يُحَرِّمُ شَيْئًا، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ الطَّوَافِ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ مُبَاحٌ فِي الطَّوَافِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُكْرَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُشْغِلُ عَنْ مَقْصُودٍ الطَّوَافِ، كَمَا يُكْرَهُ فِي عَرَفَةَ، وَعِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ، وَلَا يُعْرَفُ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الطَّوَافَ لَا يَبْطُلُ بِالْكَلَامِ، وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالْقَهْقَهَةِ كَمَا لَا يَبْطُلُ غَيْرُهُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ بِذَلِكَ، وَكَمَا لَا يَبْطُلُ الِاعْتِكَافُ بِذَلِكَ، وَالِاعْتِكَافُ يُسْتَحَبُّ لَهُ طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَلَا يَجِبُ، فَلَوْ قَعَدَ الْمُعْتَكِفُ وَهُوَ مُحْدِثٌ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يَحْرُمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا، فَإِنَّ هَذَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ الْجُمْهُورُ كَمَنْعِهِمْ الْجُنُبَ وَالْحَائِضَ مِنْ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ؛ لَا لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ، وَلِهَذَا إذَا خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ لِلِاغْتِسَالِ كَانَ حُكْمُ اعْتِكَافِهِ عَلَيْهِ فِي حَالِ خُرُوجِهِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مُبَاشَرَةُ النِّسَاءِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، وَمَنْ جَوَّزَ لَهُ اللُّبْثَ مَعَ الْوُضُوءِ جَوَّزَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَتَوَضَّأَ، يَلْبَثُ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ. وَاَلَّذِي ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ نَهَى الْحَائِضَ عَنْ الطَّوَافِ، وَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ، فَأَمَرَ أَنْ يُنَادِيَ أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ، وَكَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، فَيَقُولُونَ: ثِيَابٌ عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا فَلَا نَطُوفُ فِيهَا إلَّا الْحُمْسَ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا.

وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] . وَقَوْلَهُ: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [الأعراف: 28] . مِثْلُ: طَوَافُهُمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ يَجِبُ مُطْلَقًا، خُصُوصًا إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالنَّاسُ يَرَوْنَهُ، فَلَمْ يَجِبْ ذَلِكَ لِخُصُوصِ الطَّوَافِ، لَكِنْ الِاسْتِتَارُ فِي حَالِ الطَّوَافِ أَوْكَدُ لِكَثْرَةِ مَنْ يَرَاهُ وَقْتَ الطَّوَافِ. فَيَنْبَغِي النَّظَرُ فِي مَعْرِفَةِ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ مُسَمَّى الصَّلَاةِ الَّتِي لَا يَقْبَلُهَا اللَّهُ إلَّا بِطُهُورٍ، الَّتِي أُمِرَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَيْهَا. وَقَدْ فَسَّرَ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّهُ قَالَ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ الصَّلَاةَ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ، فَمَا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُهُ التَّكْبِيرَ، وَتَحْلِيلُهُ التَّسْلِيمَ، لَمْ يَكُنْ مِنْ الصَّلَاةِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذِهِ هِيَ الصَّلَاةُ الَّتِي مِفْتَاحُهَا الطُّهُورُ، فَكُلُّ صَلَاةٍ مِفْتَاحُهَا الطُّهُورُ، فَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ، فَمَا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُهُ التَّكْبِيرَ، وَتَحْلِيلُهُ التَّسْلِيمَ، فَلَيْسَ مِفْتَاحُهُ الطُّهُورَ، فَدَخَلَتْ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فِي هَذَا، فَإِنَّ مِفْتَاحَهَا الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمَهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلَهَا التَّسْلِيمُ. وَأَمَّا سُجُودُ التِّلَاوَةِ، وَالشُّكْرِ: فَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ،

أَنَّ فِيهِ تَسْلِيمًا، وَلَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَلِّمُونَ مِنْهُ، وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا يَعْرِفُونَ فِيهِ التَّسْلِيمَ. وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ لَا يُسَلِّمُ فِيهِ، لِعَدَمِ وُرُودِ الْأَثَرِ بِذَلِكَ. وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: يُسَلِّمُ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِنَصٍّ بَلْ بِالْقِيَاسِ، وَكَذَلِكَ مَنْ رَأَى فِيهِ تَسْلِيمًا مِنْ الْفُقَهَاءِ لَيْسَ مَعَهُ نَصٌّ، بَلْ الْقِيَاسُ، أَوْ قَوْلُ بَعْضِ التَّابِعِينَ. وَقَدْ تَكَلَّمَ الْخَطَّابِيُّ عَلَى حَدِيثِ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ، فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وَسَجَدَ، وَسَجَدْنَا مَعَهُ» . قَالَ: فِيهِ بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُكَبِّرَ لِلسُّجُودِ، وَعَلَى هَذَا مَذَاهِبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَذَلِكَ يُكَبِّرُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ. قَالَ: وَكَانَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ يَقُولَانِ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ. وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ، وَعَطَاءٍ: إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ يُسَلِّمُ. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ. قَالَ: وَاحْتَجَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» ، وَكَانَ أَحْمَدُ لَا يَعْرِفُ، وَفِي لَفْظٍ " لَا يَرَى "، التَّسْلِيمَ فِي هَذَا. قُلْت: وَهَذِهِ الْحُجَّةُ إنَّمَا تَسْتَقِيمُ لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الصَّلَاةِ، لَكِنْ قَدْ يَحْتَجُّونَ بِهَذَا عَلَى مَنْ يُسَلِّمُ أَنَّهَا صَلَاةٌ فَيَتَنَاقَضُ قَوْلُهُ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ التَّكْبِيرُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ فِيهَا السَّجْدَةُ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ، حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَوْضِعَ جَبْهَتِهِ» . وَفِي لَفْظِهِ: «حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَكَانًا لِجَبْهَتِهِ» . فَابْنُ عُمَرَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْجُدُونَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَذْكُرْ تَسْلِيمًا، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ.

وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ لِأَصْحَابِهِ أَنَّ السُّجُودَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى وُضُوءٍ، لَكَانَ هَذَا مَا يَعْلَمُهُ عَامَّتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ كَانُوا يَسْجُدُونَ مَعَهُ، وَكَانَ هَذَا شَائِعًا فِي الصَّحَابَةِ، فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَوْجَبَ الطَّهَارَةَ لِسُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ أَعْلَمِهِمْ، وَأَفْقَهِهِمْ، وَأَتْبَعِهِمْ لِلسُّنَّةِ، وَقَدْ بَقِيَ إلَى آخِرِ الْأَمْرِ وَيَسْجُدُ لِلتِّلَاوَةِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، كَانَ هُوَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ أَنَّ الطَّهَارَةَ وَاجِبَةٌ لَهَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا أَوْجَبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكَانَ ذَلِكَ شَائِعًا بَيْنَهُمْ كَشِيَاعِ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَابْنُ عُمَرَ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْجَبَ الطَّهَارَةَ فِيهَا. وَلَكِنْ سُجُودُهَا عَلَى الطَّهَارَةِ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ يُكْرَهُ سُجُودُهَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَيَمَّمَ، وَقَالَ: «كَرِهْت أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إلَّا عَلَى طُهْرٍ» . فَالسُّجُودُ أَوْكَدُ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ. لَكِنْ كَوْنُ الْإِنْسَانِ إذَا قَرَأَ وَهُوَ مُحْدِثٌ يَحْرُمُ عَلَيْهِ السُّجُودُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْجُدَ لِلَّهِ إلَّا بِطَهَارَةٍ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَمَا ذُكِرَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْكِتَابِ» ، وَالطَّوَافُ وَالسُّجُودُ لَا يُقْرَأُ فِيهِمَا بِأُمِّ الْكِتَابِ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ» .

وَالْكَلَامُ يَجُوزُ فِي الطَّوَافِ، وَالطَّوَافُ أَيْضًا لَيْسَ فِيهِ تَسْلِيمٌ، لَكِنْ يُفْتَتَحُ بِالتَّكْبِيرِ، كَمَا يُسْجَدُ لِلتِّلَاوَةِ بِالتَّكْبِيرِ وَمُجَرَّدُ الِافْتِتَاحِ بِالتَّكْبِيرِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُفْتَتَحُ صَلَاةً، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ بِيَدِهِ وَكَبَّرَ» . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْهُ: «أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَعِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ» ؛ وَلِأَنَّ الطَّوَافَ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَأَمَّا الْحَائِضُ: فَقَدْ قِيلَ: إنَّمَا مُنِعَتْ مِنْ الطَّوَافِ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ. كَمَا تُمْنَعُ مِنْ الِاعْتِكَافِ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] . فَأَمَرَ بِتَطْهِيرِهِ، فَتُمْنَعُ مِنْهُ الْحَائِضُ مِنْ الطَّوَافِ وَغَيْرِ الطَّوَافِ. وَهَذَا مِنْ سِرِّ قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الطَّهَارَةَ وَاجِبَةً فِيهِ، وَيَقُولُ: إذَا طَافَتْ وَهِيَ حَائِضٌ عُصِمَتْ بِدُخُولِ الْمَسْجِدِ مَعَ الْحَيْضِ. وَلَا يَجْعَلُ طَهَارَتَهَا لِلطَّوَافِ كَطَهَارَتِهَا لِلصَّلَاةِ، بَلْ يَجْعَلُهُ مِنْ جِنْسِ مَنْعِهَا أَنْ تَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ حَائِضٌ، وَلِهَذَا لَمْ تُمْنَعْ الْحَائِضُ مِنْ سَائِرِ الْمَنَاسِكِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَائِضُ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ» ، «وَقَالَ لِعَائِشَةَ: افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» .

وَلَمَّا «قِيلَ لَهُ عَنْ صَفِيَّةَ إنَّهَا حَائِضٌ، قَالَ: أَحَابِسَتُنَا هِيَ. قِيلَ لَهُ: إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ. قَالَ: فَلَا إذًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ اعْتَرَضَ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى احْتِجَاجِ الْبُخَارِيِّ بِجَوَازِ السُّجُودِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ النَّجْمَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ» . وَهَذَا السُّجُودُ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «قَرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ النَّجْمَ، فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ غَيْرَ شَيْخٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى، أَوْ تُرَابٍ، فَرَفَعَهُ إلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا، قَالَ: فَرَأَيْته بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا» . قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ: لِأَنَّ سُجُودَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَالتَّعْظِيمِ لَهُ، «وَإِنَّمَا كَانَ لِمَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم: 20] . فَقَالَ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَأَنَّ شَفَاعَتَهُنَّ قَدْ تُرْتَجَى.

فَسَجَدُوا لِمَا سَمِعُوا مِنْ تَعْظِيمِ آلِهَتِهِمْ، فَلَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ ذَلِكَ أَشْفَقَ وَحَزِنَ لَهُ، فَأَنْزَلَ تَعَالَى تَأْنِيسًا لَهُ، وَتَسْلِيمَهُ عَمَّا عَرَضَ لَهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] إلَى قَوْلِهِ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] » . أَيْ إذَا تَلَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي تِلَاوَتِهِ، فَلَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ سُجُودِ الْمُشْرِكِينَ جَوَازُ السُّجُودِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، لِأَنَّ الْمُشْرِكَ نَجِسٌ لَا يَصِحُّ لَهُ وُضُوءٌ وَلَا سُجُودٌ، إلَّا بَعْدَ عَقْدِ الْإِسْلَامِ. فَيُقَالُ: هَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الْقَوْمَ إنَّمَا سَجَدُوا لَمَّا قَرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} [النجم: 59] {وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} [النجم: 60] {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 61] {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] . فَسَجَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ مَعَهُ امْتِثَالًا لِهَذَا الْأَمْرِ، وَهُوَ السُّجُودُ لِلَّهِ، وَالْمُشْرِكُونَ تَابَعُوهُ فِي السُّجُودِ لِلَّهِ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ التَّمَنِّي - إذَا كَانَ صَحِيحًا - فَإِنَّهُ هُوَ كَانَ سَبَبَ مُوَافَقَتِهِمْ لَهُ فِي السُّجُودِ لِلَّهِ، وَلِهَذَا لَمَّا جَرَى هَذَا بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ بِالْحَبَشَةِ ذَلِكَ، فَرَجَعَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ إلَى مَكَّةَ، وَالْمُشْرِكُونَ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَتَعْظِيمَهُ، وَلَكِنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ، فَكَانَ هَذَا السُّجُودُ مِنْ عِبَادَتِهِمْ لَهُ، وَقَدْ قَالَ: سَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا سُجُودَ إلَّا بَعْدَ عَقْدِ الْإِسْلَامِ، فَسُجُودُ الْكَافِرِ بِمَنْزِلَةِ دُعَائِهِ لِلَّهِ، وَذِكْرِهِ لَهُ، وَبِمَنْزِلَةِ صَدَقَتِهِ، وَبِمَنْزِلَةِ حِجَّتِهِمْ لِلَّهِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ، فَالْكُفَّارُ قَدْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَمَا فَعَلُوهُ مِنْ خَيْرٍ أُثِيبُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي

الْآخِرَةِ، وَإِنْ مَاتُوا عَلَى الْإِيمَانِ فَهَلْ يُثَابُونَ عَلَى مَا فَعَلُوهُ فِي الْكُفْرِ، فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُمْ يُثَابُونَ عَلَى ذَلِكَ؛ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ» ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَهُمْ صَلَاةٌ وَسُجُودٌ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ إذَا مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ، وَأَيْضًا فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ عَنْ سُجُودِ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف: 120] {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ - رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 121 - 122] . وَذَلِكَ سُجُودٌ مَعَ إيمَانِهِمْ، وَهُوَ مِمَّا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَأَدْخَلَهُمْ بِهِ الْجَنَّةَ، وَلَمْ يَكُونُوا عَلَى طَهَارَةٍ. وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ شَرْعُنَا بِنَسْخِهِ، وَلَوْ قُرِئَ الْقُرْآنُ عَلَى كُفَّارٍ، فَسَجَدُوا لِلَّهِ سُجُودَ إيمَانٍ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ رَأَوْا آيَةً مِنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ، فَسَجَدُوا لِلَّهِ مُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَنَفَعَهُمْ ذَلِكَ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ السُّجُودَ يُشْرَعُ مُنْفَرِدًا عَنْ الصَّلَاةِ: كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَسُجُودِ الشُّكْرِ، وَكَالسُّجُودِ عِنْدَ الْآيَاتِ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمَّا بَلَغَهُ مَوْتُ بَعْضِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ سَجَدَ، وَقَالَ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنَا إذَا رَأَيْنَا آيَةً أَنْ نَسْجُدَ» . وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي السُّجُودِ الْمُطْلَقِ لِغَيْرِ سَبَبٍ، هَلْ هُوَ عِبَادَةٌ أَمْ لَا؟ وَمَنْ سَوَّغَهُ يَقُولُ: هُوَ خُضُوعٌ لِلَّهِ، وَالسُّجُودُ هُوَ الْخُضُوعُ، قَالَ تَعَالَى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] . قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: السُّجُودُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْخُضُوعُ.

وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا رُكَّعًا مُنْحَنِينَ، فَإِنَّ الدُّخُولَ مَعَ وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ لَيْسَ سُجُودُ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَضْعَ جِبَاهِهَا عَلَى الْأَرْضِ، وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، لَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ: إنَّهَا تَذْهَبُ فَتَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. فَعُلِمَ أَنَّ السُّجُودَ اسْمُ جِنْسٍ، وَهُوَ كَمَالُ الْخُضُوعِ لِلَّهِ، وَأَعَزُّ مَا فِي الْإِنْسَانِ وَجْهُهُ، فَوَضْعُهُ عَلَى الْأَرْضِ لِلَّهِ غَايَةُ خُضُوعِهِ بِبَدَنِهِ، وَهُوَ غَايَةُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] . فَصَارَ مِنْ جِنْسِ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ الَّتِي تُشْرَعُ خَارِجَ الصَّلَاةِ: كَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الطَّهَارَةُ، وَيَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ فِعْلُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا لَا يُفْعَلُ إلَّا فِي الصَّلَاةِ: كَالرُّكُوعِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا جُزْءًا مِنْ الصَّلَاةِ. وَأَفْضَلُ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ السُّجُودُ، وَأَفْضَلُ أَقْوَالِهَا الْقِرَاءَةُ، وَكِلَاهُمَا مَشْرُوعٌ فِي

غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَيَسَّرَتْ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ، لَكِنْ الصَّلَاةُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، فَاشْتُرِطَ لَهَا أَفْضَلُ الْأَحْوَالِ، وَاشْتُرِطَ لِلْفَرْضِ مَا لَمْ يُشْتَرَطْ لِلنَّفْلِ مِنْ الْقِيَامِ وَالِاسْتِقْبَالِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَجَازَ التَّطَوُّعُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ كَمَا مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ: أَنَّهُ كَانَ يَتَطَوَّعُ عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ قِبَلَ أَيَّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ. وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِهِ، وَهُوَ صَلَاةٌ بِلَا قِيَامٍ وَلَا اسْتِقْبَالٍ لِلْقِبْلَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْمُتَطَوِّعَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَّا كَذَلِكَ فَلَوْ نَهَى عَنْ التَّطَوُّعِ أَفْضَى إلَى تَفْوِيتِ عِبَادَةِ اللَّهِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا كَذَلِكَ، بِخِلَافِ الْفَرْضِ، فَإِنَّهُ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْزِلَ لَهُ، وَلَا يَقْطَعُهُ ذَلِكَ عَنْ سَفَرِهِ، وَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ النُّزُولُ، لِقِتَالٍ أَوْ مَرَضٍ، أَوْ وَحْلٍ، صَلَّى عَلَى الدَّابَّةِ أَيْضًا. وَرُخِّصَ فِي التَّطَوُّعِ جَالِسًا، لَكِنْ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، فَإِنَّ الِاسْتِقْبَالَ يُمْكِنُهُ مَعَ الْجُلُوسِ، فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِخِلَافِ تَكْلِيفِهِ الْقِيَامَ، فَإِنَّهُ قَدْ يَشُقُّ عَلَيْهِ تَرْكُ التَّطَوُّعِ، وَكَانَ ذَلِكَ تَيْسِيرًا لِلصَّلَاةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَأَوْجَبَ اللَّهُ فِي الْفَرْضِ مَا لَا يَجِبُ فِي النَّفْلِ. وَكَذَلِكَ السُّجُودُ دُونَ صَلَاةِ النَّفْلِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُهُ قَاعِدًا، وَإِنْ كَانَ الْقِيَامُ أَفْضَلَ، وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ أَكْمَلُ مِنْ النَّفْلِ مِنْ وَجْهٍ، فَاشْتُرِطَ لَهَا الْقِيَامُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَعَذَّرُ، وَصَلَاةُ النَّافِلَةِ فِيهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ، فَهِيَ أَكْمَلُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَالْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ هُوَ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ، وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ مَا فِيهَا مِنْ الذِّكْرِ دُعَاءٌ، وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْعُلَمَاءُ هَلْ فِيهَا قِرَاءَةٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ: لَمْ يُوَقِّتْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا دُعَاءً بِعَيْنِهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّتُ فِيهَا وُجُوبُ شَيْءٍ مِنْ الْأَذْكَارِ، وَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا سُنَّةً، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَالنَّاسُ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ: قِيلَ: تُكْرَهُ. وَقِيلَ: تَجِبُ. وَالْأَشْبَهُ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، لَا تُكْرَهُ، وَلَا تَجِبُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا قُرْآنٌ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ، فَلَوْ كَانَتْ الْفَاتِحَةُ وَاجِبَةً فِيهَا كَمَا تَجِبُ فِي الصَّلَاةِ التَّامَّةِ لَشُرِعَ فِيهَا قِرَاءَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْفَاتِحَةِ؛ وَلِأَنَّ الْفَاتِحَةَ نِصْفُهَا ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ، وَنِصْفُهَا دُعَاءٌ لِلْمُصَلِّي نَفْسِهِ، لَا دُعَاءٌ لِلْمَيِّتِ،

وَالْوَاجِبُ فِيهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ، وَمَا كَانَ تَتِمَّةً كَذَلِكَ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ فِيهَا سَلَّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً لِنَقْصِهَا عَنْ الصَّلَاةِ التَّامَّةِ، وَقَوْلُهُ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَا يَقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ» . يُقَالُ الصَّلَاةُ الْمُطْلَقَةُ هِيَ الَّتِي فِيهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةً. وَهَذِهِ صَلَاةٌ تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» . لَكِنَّهَا تُقَيَّدُ، يُقَالُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ، وَيُقَالُ صَلُّوا عَلَى الْمَيِّتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] . وَالصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ قَدْ بَيَّنَهَا الشَّارِعُ أَنَّهَا دُعَاءٌ مَخْصُوصٌ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] . تِلْكَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهَا الدُّعَاءُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ تَحْرِيمٌ وَتَحْلِيلٌ، وَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَلَا يُمْنَعُ فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ.

وَالسُّجُودُ الْمُجَرَّدُ لَا يُسَمَّى صَلَاةً، لَا مُطْلَقًا وَلَا مُقَيَّدًا، وَلِهَذَا لَا يُقَالُ: صَلَاةُ التِّلَاوَةِ، وَلَا صَلَاةُ الشُّكْرِ، فَلِهَذَا لَمْ تَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ» . وَقَوْلُهُ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» . فَإِنَّ السُّجُودَ مَقْصُودُهُ الْخُضُوعُ وَالذُّلُّ لَهُ. وَقِيلَ لِسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ: أَيَسْجُدُ الْقَلْبُ؟ . قَالَ: نَعَمْ، سَجْدَةً لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْهَا أَبَدًا، وَمُسَمَّى الصَّلَاةِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الدُّعَاءِ، فَلَا يَكُونُ مُصَلِّيًا إلَّا بِدُعَاءٍ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ، وَالصَّلَاةُ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ قُرْآنٍ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا» . فَالسُّجُودُ لَا يَكُونُ فِيهِ قُرْآنٌ، وَصَلَاةُ التَّقَرُّبِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ قُرْآنٍ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ الَّتِي مَقْصُودُهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ، فَإِنَّهَا بِقُرْآنٍ أَكْمَلَ، وَلَكِنْ مَقْصُودُهَا يَحْصُلُ بِغَيْرِ قُرْآنٍ، وَأَمَّا مَسُّ الْمُصْحَفِ: فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَجِبُ لَهُ الْوُضُوءُ، كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ: سَعْدٍ، وَسَلْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَفِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ» . وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ» ، مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ، وَقَدْ أَقَرَّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى السُّجُودِ لِلَّهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ السُّجُودَ لِلَّهِ خُضُوعٌ.

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15] . وَأَمَّا كَلَامُهُ فَلَهُ حُرْمَةٌ عَظِيمَةٌ؛ وَلِهَذَا يَنْهَى أَنْ يُقْرَأَ الْقُرْآنُ فِي حَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَإِذَا نُهِيَ أَنْ يُقْرَأَ فِي السُّجُودِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الْمُصْحَفُ مِثْلَ السُّجُودِ، وَحُرْمَةُ الْمُصْحَفِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ، وَالْمَسْجِدُ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَهُ الْمُحْدِثُ، وَيَدْخُلَهُ الْكَافِرُ لِلْحَاجَةِ، وَقَدْ كَانَ الْكُفَّارُ يَدْخُلُونَهُ، وَاخْتُلِفَ فِي نَسْخِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمُصْحَفِ، فَلَا يَلْزَمُ إذَا جَازَ الطَّوَافُ مَعَ الْحَدَثِ، أَنْ يَجُوزَ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُصْحَفِ أَعْظَمُ، وَعَلَى هَذَا فَمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ، وَسَعِيدٍ: مِنْ أَنَّ الْحَائِضَ تُومِئُ بِالسُّجُودِ، هُوَ لِأَنَّ حَدَثَ الْحَائِضِ أَغْلَظُ، وَالرُّكُوعُ هُوَ سُجُودٌ خَفِيفٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [البقرة: 58] . قَالُوا: رُكَّعًا فَرُخِّصَ لَهَا فِي دُونِ كَمَالِ السُّجُودِ. وَأَمَّا احْتِجَاجُ ابْنِ حَزْمٍ عَلَى أَنَّ مَا دُونَ رَكْعَتَيْنِ لَيْسَ بِصَلَاةٍ، بِقَوْلِهِ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى» . فَهَذَا يَرْوِيهِ الْأَزْدِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِقِيِّ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ خِلَافُ مَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ الْمَعْرُوفُونَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّهُمْ رَوَوْا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ؟ فَقَالَ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ الْفَجْرَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» .

وَلِهَذَا ضَعَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ حَدِيثَ الْبَارِقِيِّ، وَلَا يُقَالُ هَذِهِ زِيَادَةٌ مِنْ الثِّقَةِ، فَتَكُونُ مَقْبُولَةً؛ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا مُتَكَلَّمٌ فِيهِ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُخَالِفْ الْجُمْهُورَ، وَإِلَّا فَإِذَا انْفَرَدَ عَنْ الْجُمْهُورِ فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا إذَا لَمْ يُخَالِفْ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ ذَكَرَ ابْنُ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَقَالَ: صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى. فَإِذَا خِفْت الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ إذَا ذَكَرَ صَلَاةَ اللَّيْلِ مُنْفَرِدَةً، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَالسَّائِلُ إنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ قَدْ يُجِيبُ عَنْ أَعَمَّ مِمَّا سُئِلَ عَنْهُ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَحْرِ «لَمَّا قِيلَ لَهُ: إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . لَكِنْ يَكُونُ الْجَوَابُ مُنْتَظِمًا كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُنَاكَ إذَا ذُكِرَ النَّهَارُ لَمْ يَكُنْ الْجَوَابُ مُنْتَظِمًا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَهُ «فَإِذَا خِفْت الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الْحَدِيثِ لَا رَيْبَ فِيهِ.

فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَدْ ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَجْلِسٍ آخَرَ كَلَامًا مُبْتَدَأً لِآخَرَ: إمَّا لِهَذَا السَّائِلِ وَإِمَّا لِغَيْرِهِ. قِيلَ: كُلُّ مَنْ رَوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ إنَّمَا رَوَاهُ هَكَذَا، فَذَكَرُوا فِي أَوَّلِهِ السُّؤَالَ، وَفِي آخِرِهِ الْوَتْرَ، وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا صَلَاةُ اللَّيْلِ، وَهَذَا خَالَفَهُمْ فَلَمْ يَذْكُرْ مَا فِي أَوَّلِهِ وَلَا مَا فِي آخِرِهِ، وَزَادَ فِي وَسَطِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ بِالْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجْ حَدِيثَهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ: الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَمَا أَشْبَهَهَا مَتَى تَأَمَّلَهَا اللَّبِيبُ عَلِمَ أَنَّهُ غَلِطَ فِي الْحَدِيثِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ أَوْجَبَ رِيبَةً قَوِيَّةً تَمْنَعُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ عَلَى إثْبَاتِ مِثْلِ هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْوِتْرَ رَكْعَةٌ، وَهُوَ صَلَاةٌ، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ وَغَيْرِهَا، فَعُلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ بَيَانَ مُسَمَّى الصَّلَاةِ وَتَحْدِيدِهَا، فَإِنَّ الْحَدَّ يَطَّرِدُ وَيَنْعَكِسُ؟ فَإِنْ قِيلَ: قَصَدَ بَيَانَ مَا يَجُوزُ مِنْ الصَّلَاةِ. قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمْ جَائِزٌ، وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ أَيْضًا جَائِزٌ، فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِهِ لَا عَلَى الِاسْمِ، وَلَا عَلَى الْحُكْمِ، وَكُلُّ قَوْلٍ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمُتَأَخِّرُ عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَلَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ يَكُونُ خَطَأً، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَك فِيهَا إمَامٌ. وَأَمَّا سُجُودُ السَّهْوِ: فَقَدْ جَوَّزَهُ ابْنُ حَزْمٍ أَيْضًا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الضَّعِيفِ. وَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ، وَلَيْسَ هُوَ مِثْلُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ؛ لِأَنَّ هَذَا سَجْدَتَانِ يَقُومَانِ مَقَامَ رَكْعَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، حَدِيثِ الشَّكِّ: «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فَلَمْ يَدْرِ ثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا، فَلْيَطْرَحْ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا تَيَقَّنَ، ثُمَّ لْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإِنْ صَلَّى خَمْسًا شَفَعَتَا لَهُ صَلَاتَهُ، وَإِلَّا كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ» .

وَفِي لَفْظٍ: «وَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ تَمَامًا، كَانَتَا تَرْغِيمًا» . فَجَعَلَهُمَا كَالرَّكْعَةِ السَّادِسَةِ الَّتِي تَشْفَعُ الْخَامِسَةَ الْمَزِيدَةَ سَهْوًا، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّهَا مِنْ تَمَامِ الْمَكْتُوبَةِ، وَفَعَلَهَا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ، وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا يَعْتَقِدُهُ قُرْبَةً بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ، إنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ: وَإِنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ يُفْعَلَانِ إمَّا قَبْلَ السَّلَامِ وَإِمَّا قَرِيبًا مِنْ السَّلَامِ، فَهُمَا مُتَّصِلَانِ بِالصَّلَاةِ دَاخِلَانِ فِيهَا، فَهُمَا مِنْهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُمَا جُبْرَانٌ لِلصَّلَاةِ، فَكَانَتَا كَالْجُزْءِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ لَهُمَا تَحْلِيلًا وَتَحْرِيمًا، فَإِنَّهُ يُسَلِّمُ مِنْهُمَا وَيَتَشَهَّدُ، فَصَارَتَا أَوْكَدَ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَفِي الْجُمْلَةِ: سَجْدَتَا السَّهْوِ مِنْ جِنْسِ سَجْدَتَيْ الصَّلَاةِ، لَا مِنْ جِنْسِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ، وَلِهَذَا يُفْعَلَانِ إلَى الْكَعْبَةِ. وَهَذَا عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ نَبِيِّهِمْ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ فَعَلَهَا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَلَا بِغَيْرِ وُضُوءٍ، كَمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَإِذَا كَانَ السَّهْوُ فِي الْفَرِيضَةِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهُمَا بِالْأَرْضِ كَالْفَرِيضَةِ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُمَا عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، بِخِلَافِ سُجُودِ الشُّكْرِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي اسْتِحْبَابِهِ نِزَاعٌ، وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ فِي وُجُوبِهِ نِزَاعٌ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا بِالْإِجْمَاعِ، فَسُجُودُ التِّلَاوَةِ سَبَبُهُ الْقِرَاءَةُ فَيَتْبَعُهَا. وَلَمَّا كَانَ الْمُحْدِثُ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ فَلَهُ أَنْ يَسْجُدَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ سَجَدُوا، وَمَا كَانُوا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ

وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقْرَأَ الْقُرْآنُ فِي حَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ. وَقَوْلُهُ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» أَيْ: مِنْ الْأَفْعَالِ، فَلَمْ تَدْخُلْ الْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ. وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْأَقْرَبِ وَالْأَفْضَلِ، فَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَ مِنْ السُّجُودِ، وَإِنْ كَانَ فِي السُّجُودِ أَقْرَبَ: كَالْجِهَادِ، فَإِنَّهُ سَنَامُ الْعَمَلِ، إلَّا أَنْ يُرَادَ السُّجُودُ الْعَامُّ وَهُوَ الْخُضُوعُ، فَهَذَا يَحْصُلُ لَهُ فِي حَالِ الْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ يَحْصُلُ لِلرَّجُلِ فِي حَالِ الْقِرَاءَةِ مِنْ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ مَا لَا يَحْصُلُ لَهُ فِي حَالِ السُّجُودِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ تَعَالَى مِنْ عَبْدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ» . وَقَوْلُهُ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ» ، وَقَوْلُهُ: «إنَّهُ يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَمِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] . فَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّنْ دَعَاهُ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرُ الدَّاعِي أَفْضَلَ مِنْ الدَّاعِي، كَمَا قَالَ: «مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة غسل القدمين في الوضوء

[مَسْأَلَةٌ غَسْلُ الْقَدَمَيْنِ فِي الْوُضُوءِ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: غَسْلُ الْقَدَمَيْنِ فِي الْوُضُوءِ مَنْقُولٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، مَنْقُولٌ عَمَلُهُ بِذَلِكَ، وَأَمْرُهُ بِهِ، كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرَةَ، وَعَائِشَةَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ» . وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظٍ «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ وَبُطُونِ الْأَقْدَامِ مِنْ النَّارِ» . فَمَنْ تَوَضَّأَ كَمَا تَتَوَضَّأُ الْمُبْتَدِعَةُ فَلَمْ يَغْسِلْ بَاطِنَ قَدَمَيْهِ وَلَا عَقِبَهُ، بَلْ مَسَحَ ظَهْرَهُمَا. فَالْوَيْلُ لِعَقِبِهِ وَبَاطِنِ قَدَمَيْهِ مِنْ النَّارِ. وَتَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَنُقِلَ عَنْهُ الْمَسْحُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ، مِثْلُ: أَنْ يَكُونَ فِي قَدَمَيْهِ نَعْلَانِ يَشُقُّ نَزْعُهُمَا. وَأَمَّا مَسْحُ الْقَدَمَيْنِ مَعَ طُهُورِهِمَا جَمِيعًا فَلَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِلسُّنَّةِ: فَظَاهِرٌ مُتَوَاتِرٌ، وَأَمَّا مُخَالَفَةُ الْقُرْآنِ فَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] . فِيهِ قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ النَّصْبُ وَالْخَفْضُ، فَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ، فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَالْمَعْنَى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، وَأَيْدِيكُمْ، وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ. وَمَنْ قَرَأَ بِالْخَفْضِ، فَلَيْسَ مَعْنَاهُ وَامْسَحُوا أَرْجُلَكُمْ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ؛ لِأَوْجُهٍ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ قَالُوا: عَادَ الْأَمْرُ إلَى الْغَسْلِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَطْفًا عَلَى الرُّءُوسِ، لَكَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مَسْحَ الْأَرْجُلِ، لَا الْمَسْحَ بِهَا، وَاَللَّهُ إنَّمَا أَمَرَ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ بِالْمَسْحِ بِالْعُضْوِ، لَا مَسْحِ الْعُضْوِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] . وَقَالَ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] ، وَلَمْ يَقْرَأْ الْقُرَّاءُ الْمَعْرُوفُونَ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ " {وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] " بِالنَّصْبِ، كَمَا قَرَءُوا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ، فَلَوْ كَانَ عَطْفًا لَكَانَ الْمَوْضِعَانِ سَوَاءً. وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ، وَقَوْلُهُ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة: 6] . يَقْتَضِي إلْصَاقَ الْمَمْسُوحِ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ، وَهَذَا يَقْتَضِي إيصَالَ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ إلَى أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ، وَإِذَا قِيلَ امْسَحْ رَأْسَك وَرِجْلَك، لَمْ يَقْتَضِ إيصَالَ الْمَاءِ إلَى الْعُضْوِ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْبَاءَ حَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى، لَا زَائِدَةً كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ: مُعَاوِيَةَ إنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ فَلَسْنَا ... بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا فَإِنَّ الْبَاءَ هُنَا مُؤَكِّدَةٌ، فَلَوْ حُذِفَتْ لَمْ يَخْتَلَّ الْمَعْنَى، وَالْبَاءُ فِي آيَةِ الطَّهَارَةِ إذَا حُذِفَتْ اخْتَلَّ الْمَعْنَى، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَلَى مَحَلِّ الْمَجْرُورِ بِهَا، بَلْ عَلَى لَفْظِ الْمَجْرُورِ بِهَا أَوْ مَا قَبْلَهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَطْفًا عَلَى الْمَحَلِّ، لَقُرِئَ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ: فَامْسَحُوا

بِوُجُوهِكُمْ وَامْسَحُوا أَيْدِيكُمْ، فَكَانَ فِي الْآيَةِ مَا بَيَّنَ فَسَادَ مَذْهَبِ الشَّارِحِ بِأَنَّهُ قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] بِالنَّصْبِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَيْنِ سَوَاءٌ، فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى الْجَرِّ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ، مَعَ إمْكَانِ الْعَطْفِ عَلَى الْمَحَلِّ، لَوْ كَانَ صَوَابًا عُلِمَ أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى اللَّفْظِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ مَنْصُوبٌ مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّفْظِ كَمَا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] وَلَمْ يَقُلْ إلَى الْكِعَابِ، فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْمَحَلِّ كَالْقَوْلِ الْآخَرِ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ فِي كُلِّ رِجْلَيْنِ كَعْبَيْنِ، وَفِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبٌ وَاحِدٌ، لَقِيلَ إلَى الْكِعَابِ، كَمَا قِيلَ إلَى الْمَرَافِقِ؛ لَمَّا كَانَ فِي كُلِّ يَدٍ مَرْفِقٌ، وَحِينَئِذٍ فَالْكَعْبَانِ هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ فِي جَانِبَيْ السَّاقِ، لَيْسَ هُوَ مَعْقِدَ الشِّرَاكِ مَجْمَعُ السَّاقِ وَالْقَدَمِ، كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَرَى الْمَسْحَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ. فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إنَّمَا أَمَرَ بِطَهَارَةِ الرِّجْلَيْنِ إلَى الْكَعْبَيْنِ النَّاتِئَيْنِ، وَالْمَاسِحُ يَمْسَحُ إلَى مَجْمَعِ الْقَدَمِ وَالسَّاقِ، عُلِمَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْآيَتَيْنِ، وَالتَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ إمَّا وَاجِبٌ، وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ مُؤَكَّدُ الِاسْتِحْبَابِ، فَإِذَا فُصِلَ مَمْسُوحٌ بَيْنَ مَغْسُولَيْنِ، وَقُطِعَ النَّظِيرُ عَنْ النَّظِيرِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَشْرُوعِ فِي الْوُضُوءِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ، وَتُعَبِّرُ عَنْهُ، وَهِيَ قَدْ جَاءَتْ بِالْغَسْلِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ التَّيَمُّمَ جُعِلَ بَدَلًا عَنْ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَحُذِفَ شَطْرُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَخُفِّفَ الشَّطْرُ الثَّانِي، وَذَلِكَ فَإِنَّهُ حُذِفَ مَا كَانَ مَمْسُوحًا، وَمُسِحَ مَا كَانَ مَغْسُولًا.

وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بِالْخَفْضِ فَهِيَ لَا تُخَالِفُ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، إذْ الْقِرَاءَتَانِ كَالْآيَتَيْنِ، وَالسُّنَّةُ الثَّابِتَةُ لَا تُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ، بَلْ تُوَافِقُهُ وَتُصَدِّقُهُ، وَلَكِنْ تُفَسِّرُهُ وَتُبَيِّنُهُ لِمَنْ قَصُرَ فَهْمُهُ عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ فِيهِ دَلَالَاتٌ خَفِيَّةٌ تَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، وَفِيهِ مَوَاضِعُ ذُكِرَتْ مُجْمَلَةً تُفَسِّرُهَا السُّنَّةُ وَتُبَيِّنُهَا. وَالْمَسْحُ اسْمُ جِنْسٍ يَدُلُّ عَلَى إلْصَاقِ الْمَمْسُوحِ بِهِ بِالْمَمْسُوحِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى لَفْظِهِ وَجَرَيَانِهِ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَغَيْرُهُ: الْعَرَبُ تَقُولُ: تَمَسَّحْت لِلصَّلَاةِ، فَتُسَمِّي الْوُضُوءَ كُلَّهُ مَسْحًا، وَلَكِنْ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ إذَا كَانَ الِاسْمُ عَامًّا تَحْتَهُ نَوْعَانِ، خَصُّوا أَحَدَ نَوْعَيْهِ بِاسْمٍ خَاصٍّ، وَأَبْقَوْا الِاسْمَ الْعَامَّ لِلنَّوْعِ الْآخَرِ، كَمَا فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ، فَإِنَّهُ عَامٌّ لِلْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ الدَّوَابِّ، لَكِنْ لِلْإِنْسَانِ اسْمٌ يَخُصُّهُ، فَصَارُوا يُطْلِقُونَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْحَيَوَانِ، وَلَفْظُ ذَوِي الْأَرْحَامِ، يَتَنَاوَلُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ، لَكِنْ لِلْوَارِثِ بِفَرْضٍ، أَوْ تَعْصِيبٍ اسْمٌ يَخُصُّهُ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمُؤْمِنِ، يَتَنَاوَلُ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَمَنْ آمَنَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، فَصَارَ لِهَذَا النَّوْعِ اسْمٌ يَخُصُّهُ وَهُوَ الْكَافِرُ، وَأَبْقَى اسْمَ الْإِيمَانِ مُخْتَصًّا بِالْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْبِشَارَةِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. ثُمَّ إنَّهُ مَعَ الْقَرِينَةِ تَارَةً، وَمَعَ الْإِطْلَاقِ أُخْرَى، يُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ الْعَامُّ فِي مَعْنَيَيْنِ، كَمَا إذَا أَوْصَى لِذَوِي رَحِمِهِ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ أَقَارِبَهُ مِنْ مِثْلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الْوُضُوءِ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] يَقْتَضِي إيجَابَ مُسَمَّى الْمَسْحِ بَيْنَهُمَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَسْحِ الْخَاصِّ الْخَالِي عَنْ الْإِسَالَةِ، وَالْمَسْحُ الَّذِي مَعَهُ إسَالَةٌ يُسَمَّى مَسْحًا، فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ الْآيَةِ مَا يَمْنَعُ كَوْنَ الرِّجْلِ يَكُونُ الْمَسْحُ بِهَا هُوَ الْمَسْحُ الَّذِي مَعَهُ إسَالَةٌ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] فَأَمَرَ بِمَسْحِهِمَا إلَى الْكَعْبَيْنِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَسْحَ الْخَاصَّ هُوَ: إسَالَةُ الْمَاءِ مَعَ الْغَسْلِ، فَهُمَا نَوْعَانِ: الْمَسْحُ

مسألة مني الإنسان وغيره من الدواب الطاهرة

الْعَامُّ الَّذِي هُوَ إيصَالُ الْمَاءِ، وَمِنْ لُغَتِهِمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنْ يُكْتَفَى بِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ كَقَوْلِهِمْ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا، وَالْمَاءُ سَقْيٌ لَا عَلْفٌ، وَقَوْلُهُ: وَرَأَيْت زَوْجَك فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا وَالرُّمْحُ لَا يُتَقَلَّدُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ - بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ} [الواقعة: 17 - 18] إلَى قَوْلِهِ: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] . فَكَذَلِكَ اكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْغَسْلَ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] وَالْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى مَعَ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَمَنْ يَقُولُ: يُمْسَحَانِ بِلَا إسَالَةٍ يَمْسَحُهُمَا إلَى الْكِعَابِ لَا إلَى الْكَعْبَيْنِ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقِرَاءَتَيْنِ، كَمَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَلَيْسَ مَعَهُ لَا ظَاهِرٌ وَلَا بَاطِنٌ، وَلَا سُنَّةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ غَلَطٌ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ، وَجَهْلٌ بِمَعْنَاهُ وَبِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَذِكْرُ الْمَسْحِ بِالرِّجْلِ مِمَّا يُشْعِرُ بِأَنَّ: الرِّجْلَ يُمْسَحُ بِهَا بِخِلَافِ الْوَجْهِ وَالْيَدِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْسَحُ بِهِمَا بِحَالٍ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَى الرِّجْلَيْنِ، مَا لَمْ يَجِئْ مِثْلُهُ فِي الْوَجْهِ وَالْيَدِ، وَلَكِنْ دَلَّتْ السُّنَّةُ مَعَ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْمَسْحِ بِالرِّجْلَيْنِ. وَمَنْ مَسَحَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ، مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَلِلْقُرْآنِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْمَلَ بِذَلِكَ مَعَ إمْكَانِ الْغَسْلِ، وَالرِّجْلُ إذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً وَجَبَ غَسْلُهَا، وَإِذَا كَانَتْ فِي الْخُفِّ كَانَ حُكْمُهَا مِمَّا بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ كَمَا فِي آيَةِ الْفَرَائِضِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ بَيَّنَتْ حَالَ الْوَارِثِ إذَا كَانَ عَبْدًا، أَوْ كَافِرًا أَوْ قَاتِلًا، وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَنِيّ الْإِنْسَانِ وَغَيْره مِنْ الدَّوَابِّ الطَّاهِرَةِ] 68 - 52 مَسْأَلَةٌ: قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ كُنَّا فِي مَجْلِسِ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَالنَّظَرِ فِي مَدَارِك الْأَحْكَامِ

الْمَشْرُوعَةِ تَصْوِيرًا وَتَقْرِيرًا وَتَأْصِيلًا وَتَفْصِيلًا، فَوَقَعَ الْكَلَامُ، فِي شَرْحِ الْقَوْلِ فِي حُكْمِ مَنِيِّ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ الدَّوَابِّ الطَّاهِرَةِ، وَفِي أَرْوَاثِ الْبَهَائِمِ الْمُبَاحَةِ، أَهِيَ طَاهِرَةٌ أَمْ نَجِسَةٌ؟ عَلَى وَجْهٍ أَحَبَّ أَصْحَابُنَا تَقْيِيدَهُ وَمَا يُقَارِبُهُ مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، فَكَتَبْت لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَأَقُولُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَفَصْلَيْنِ. أَمَّا الْأَصْلُ: فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي جَمِيعِ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ، عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا، وَتَبَايُنِ أَوْصَافِهَا، أَنْ تَكُونَ حَلَالًا مُطْلَقًا لِلْآدَمِيِّينَ، وَأَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً، لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مُلَابَسَتُهَا وَمُبَاشَرَتُهَا وَمُمَاسَّتُهَا، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ، وَمَقَالَةٌ عَامَّةٌ، وَقَضِيَّةٌ فَاضِلَةٌ، عَظِيمَةُ الْمَنْفَعَةِ، وَاسِعَةُ الْبَرَكَةِ، يَفْزَعُ إلَيْهَا حَمَلَةُ الشَّرِيعَةِ فِيمَا لَا يُحْصَى مِنْ الْأَعْمَالِ، وَحَوَادِثِ النَّاسِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا أَدِلَّةٌ عَشَرَةٌ، مِمَّا حَضَرَنِي ذِكْرُهُ مِنْ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ كِتَابُ اللَّهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ، وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْظُومَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] . وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55] . ثُمَّ مَسَالِكُ الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ، وَمَنَاهِجُ الرَّأْيِ وَالِاسْتِصْبَارِ. الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: الْكِتَابُ، وَهُوَ عِدَّةُ آيَاتٍ: الْآيَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ النَّاسِ لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] . وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ لِلنَّاسِ، مُضَافًا إلَيْهِمْ

بِاللَّامِ، وَاللَّامُ حَرْفُ الْإِضَافَةِ، وَهِيَ تُوجِبُ اخْتِصَاصَ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إلَيْهِ، وَاسْتِحْقَاقُهُ إيَّاهُ مِنْ الْوَجْهِ. الَّذِي يَصْلُحُ لَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَعُمُّ مَوَارِدَ اسْتِعْمَالِهَا، كَقَوْلِهِمْ: الْمَالُ لِزَيْدٍ، وَالسَّرْجُ لِلدَّابَّةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَيَجِبُ إذًا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ مُمَلَّكِينَ مُمَكَّنِينَ لِجَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ، فَضْلًا مِنْ اللَّهِ، وَنِعْمَةً وَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ، وَهِيَ الْخَبَائِثُ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِفْسَادِ لَهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ أَوْ مَعَادِهِمْ، فَيَبْقَى الْبَاقِي مُبَاحًا بِمُوجَبِ الْآيَةِ. الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] . دَلَّتْ الْآيَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَبَّخَهُمْ وَعَنَّفَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُحِلَّهُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْأَشْيَاءُ مُطْلَقَةً مُبَاحَةً لَمْ يَلْحَقْهُمْ ذَمٌّ وَلَا تَوْبِيخٌ، إذْ لَوْ كَانَ حُكْمُهَا مَجْهُولًا، أَوْ كَانَتْ مَحْظُورَةً لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] وَالتَّفْصِيلُ التَّبْيِينُ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ بَيَّنَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَمَا لَمْ يُبَيِّنْ تَحْرِيمَهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ. وَمَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ فَهُوَ حَلَالٌ، إذْ لَيْسَ إلَّا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ. الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] ، وَإِذَا كَانَ مَا فِي الْأَرْضِ مُسَخَّرًا لَنَا جَازَ اسْتِمْتَاعُنَا بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. الْآيَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] الْآيَةَ.

فَمَا لَمْ يَجِدْ تَحْرِيمَهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، وَمَا لَمْ يُحَرَّمْ فَهُوَ حِلٌّ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} [البقرة: 173] الْآيَةَ. لِأَنَّ حَرْفَ " إنَّمَا " يُوجِبُ حَصْرَ الْأَوَّلِ فِي الثَّانِي، فَيَجِبُ انْحِصَارُ الْمُحَرَّمَاتِ فِيمَا ذُكِرَ، وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمُحِيطِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. الصِّنْفُ الثَّانِي: السُّنَّةُ، وَاَلَّذِي حَضَرَنِي مِنْهَا حَدِيثَانِ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا: مَنْ يَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» . دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ لَا تُحَرَّمُ إلَّا بِتَحْرِيمٍ خَاصٍّ، لِقَوْلِهِ " لَمْ يُحَرَّمْ " وَدَلَّ أَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ الْمَسْأَلَةِ، فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهَا بِدُونِ ذَلِكَ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً وَهُوَ الْمَقْصُودُ. الثَّانِي: رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ: عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ مِنْ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ؟ فَقَالَ: «الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ» . فَمِنْهُ دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَفْتَى بِالْإِطْلَاقِ فِيهِ. الثَّانِي: قَوْلُهُ «وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ» نَصٌّ فِي أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ. وَتَسْمِيَتُهُ هَذَا عَفْوًا كَأَنَّهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ التَّحْلِيلَ هُوَ الْإِذْنُ فِي التَّنَاوُلِ بِخِطَابٍ خَاصٍّ، وَالتَّحْرِيمُ الْمَنْعُ مِنْ التَّنَاوُلِ كَذَلِكَ، وَالسُّكُوتُ عَنْهُ لَمْ يُؤْذِنْ بِخِطَابٍ يَخُصُّهُ،

وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ، فَيَرْجِعُ إلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ: أَنْ لَا عِقَابَ إلَّا بَعْدَ الْإِرْسَالِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عِقَابٌ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا. وَفِي السُّنَّةِ دَلَائِلُ كَثِيرَةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. الصِّنْفُ الثَّالِثُ: اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَشَهَادَةُ شُهَدَاءِ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، الَّذِينَ هُمْ عُدُولٌ، الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ، الْمَعْصُومِينَ مِنْ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى ضَلَالَةٍ، الْمَفْرُوضِ اتِّبَاعُهُمْ، وَذَلِكَ أَنِّي لَسْت أَعْلَمُ خِلَافَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ السَّالِفِينَ فِي أَنَّ مَا لَمْ يَجِئْ دَلِيلٌ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مَحْجُورٍ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ، وَأَحْسَنَ بَعْضُهُمْ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ يَقِينًا، أَوْ ظَنًّا كَالْيَقِينِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ فِي ذَلِكَ إجْمَاعٌ، وَقَدْ عَلِمْت اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي الْأَعْيَانِ قَبْلَ مَجِيءِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ؟ هَلْ الْأَصْلُ فِيهَا الْحَظْرُ، أَوْ الْإِبَاحَةُ، أَوْ لَا يَدْرِي مَا الْحُكْمُ فِيهَا، أَوْ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهَا أَصْلًا؛ وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ دَلِيلٌ مُتَّبَعٌ، وَأَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ عَلَى: أَنَّ حُكْمَ الْأَعْيَانِ الثَّابِتَ لَهَا قَبْلَ الشَّرْعِ مُسْتَصْحَبٌ بَعْدَ الشَّرْعِ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الْحَظْرُ، اسْتَصْحَبَ هَذَا الْحُكْمَ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْحِلِّ. فَأَقُولُ: هَذَا قَوْلٌ مُتَأَخِّرٌ لَمْ يُؤْثَرْ أَصْلُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّابِقِينَ مِمَّنْ لَهُ قِدَمٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا بَعْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَقَدْ زَالَ حُكْمُ ذَلِكَ الْأَصْلِ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْتهَا، وَلَسْت أُنْكِرُ أَنَّ بَعْضَ مَنْ لَمْ يُحَطْ عِلْمًا بِمَدَارِكِ الْأَحْكَامِ، وَلَمْ يُؤْتَ تَمْيِيزًا فِي مَظَانِّ الِاشْتِبَاهِ، رُبَّمَا سَحَبَ ذَيْلَ مَا قَبْلَ الشَّرْعِ عَلَى مَا بَعْدَهُ، إلَّا أَنَّ هَذَا غَلَطٌ قَبِيحٌ، لَوْ نُبِّهَ لَهُ لَتَنَبَّهَ، مِثْلُ الْغَلَطِ فِي الْحِسَابِ، لَا يَهْتِكُ حَرِيمَ الْإِجْمَاعِ، وَلَا يَثْلِمُ سُنَنَ الِاتِّبَاعِ. وَلَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، هَلْ هِيَ جَائِزَةٌ أَمْ مُمْتَنِعَةٌ؟ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَخْلُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، إذْ كَانَ آدَم نَبِيًّا مُكَلَّمًا حَسَبَ اخْتِلَافِهِمْ فِي جَوَازِ خُلُوِّ الْأَقْطَارِ عَنْ حُكْمٍ مَشْرُوعٍ، وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ عِنْدَنَا جَوَازَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَضَهَا فِيمَنْ وُلِدَ بِجَزِيرَةٍ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يُبَيَّنُ لَك أَنْ

لَا عَمَلَ بِهَا، وَأَنَّهَا نَظَرٌ مَحْضٌ، لَيْسَ فِيهِ عَمَلٌ كَالْكَلَامِ فِي مَبْدَإِ اللُّغَاتِ وَشَبَهِ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي لَا رَادَّ لَهُ: أَنَّ قَبْلَ الشَّرْعِ لَا تَحْلِيلَ وَلَا تَحْرِيمَ، فَإِذًا لَا تَحْرِيمَ يُسْتَصْحَبُ وَيُسْتَدَامُ فَيَبْقَى الْآنَ كَذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ خُلُوُّهَا عَنْ الْمَآثِمِ وَالْعُقُوبَاتِ. وَأَمَّا مَسْلَكُ الِاعْتِبَارِ بِالْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ، وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي الْأُصُولِ الْجَوَامِعِ فَمِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ نُنَبِّهُ عَلَى بَعْضِهَا: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَجَعَلَ فِيهَا لِلْإِنْسَانِ مَتَاعًا وَمَنْفَعَةً، وَمِنْهَا مَا قَدْ يَضْطَرُّ إلَيْهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ جَوَادٌ، مَاجِدٌ كَرِيمٌ رَحِيمٌ، غَنِيٌّ صَمَدٌ، وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يُعَاقِبُهُ، وَلَا يُعَذِّبُهُ عَلَى مُجَرَّدِ اسْتِمْتَاعِهِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَثَانِيهَا: أَنَّهَا مَنْفَعَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ مَضَرَّةٍ، فَكَانَتْ مُبَاحَةً كَسَائِرِ مَا نُصَّ عَلَى تَحْلِيلِهِ، وَهَذَا الْوَصْفُ قَدْ دَلَّ عَلَى تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ النَّصُّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] . فَكُلُّ مَا نَفَعَ فَهُوَ طَيِّبٌ، وَكُلُّ مَا ضَرَّ فَهُوَ خَبِيثٌ. وَالْمُنَاسَبَةُ الْوَاضِحَةُ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ أَنَّ النَّفْعَ يُنَاسِبُ التَّحْلِيلَ، وَالضَّرَرَ يُنَاسِبُ التَّحْرِيمَ، وَالدَّوَرَانَ، فَإِنَّ التَّحْرِيمَ يَدُورُ مَعَ الْمَضَارِّ وُجُودًا فِي الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَذَوَاتِ الْأَنْيَابِ، وَالْمَخَالِبِ، وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَضُرُّ بِأَنْفُسِ النَّاسِ، وَعُدَّ مَا فِي الْأَنْعَامِ وَالْأَلْبَانِ وَغَيْرِهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا حُكْمٌ، أَوْ لَا يَكُونُ، وَالْأَوَّلُ صَوَابٌ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَإِذَا كَانَ لَهَا حُكْمٌ بِالْوُجُوبِ، وَالْكَرَاهَةِ، وَالِاسْتِحْبَابِ مَعْلُومَةُ الْبُطْلَانِ بِالْكُلِّيَّةِ،

لَمْ يَبْقَ إلَّا الْحِلُّ. وَالْحُرْمَةُ بَاطِلَةٌ لِانْتِفَاءِ دَلِيلِهَا نَصًّا وَاسْتِنْبَاطًا لَمْ يَبْقَ إلَّا الْحِلُّ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ: الْأَصْلُ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الطَّاهِرَ: مَا حَلَّ مُلَابَسَتُهُ، وَمُبَاشَرَتُهُ، وَحَمْلُهُ فِي الصَّلَاةِ. وَالنَّجِسُ بِخِلَافِهِ، وَأَكْثَرُ الْأَدِلَّةِ السَّالِفَةِ تَجْمَعُ جَمِيعَ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَشْيَاءِ أَكْلًا وَشُرْبًا، وَلُبْسًا، وَمَسًّا، وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَثَبَتَ دُخُولُ الطَّهَارَةِ فِي الْحِلِّ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَالْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ نَافِلَةٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ أَكْلِهَا، وَشُرْبِهَا؛ فَلَأَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مُلَابَسَتُهَا، وَمُخَالَطَتُهَا الْخَلْقَ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّعَامَ يُخَالِطُ الْبَدَنَ وَيُمَازِجُهُ، وَيَنْبُتُ مِنْهُ، فَيَصِيرُ مَادَّةً وَعُنْصُرًا لَهُ، فَإِذَا كَانَ خَبِيثًا صَارَ الْبَدَنُ خَبِيثًا، فَيَسْتَوْجِبُ النَّارَ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ جِسْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» وَالْجَنَّةُ طَيِّبَةٌ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا طَيِّبٌ. وَأَمَّا مَا يُمَاسُّ الْبَدَنَ وَيُبَاشِرُهُ فَيُؤْثَرُ أَيْضًا فِي الْبَدَنِ مِنْ ظَاهِرٍ كَتَأْثِيرِ الْأَخْبَاثِ فِي أَبْدَانِنَا، وَفِي ثِيَابِنَا الْمُتَّصِلَةِ بِأَبْدَانِنَا؛ لَكِنْ تَأْثِيرُهَا دُونَ تَأْثِيرِ الْمُخَالِطِ الْمُمَازِجِ، فَإِذَا ثَبَتَ حِلُّ مُخَالَطَةِ الشَّيْءِ وَمُمَازَجَتُهُ، فَحِلُّ مُلَابَسَتِهِ، وَمُبَاشَرَتِهِ أَوْلَى، وَهَذَا قَاطِعٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَطَرَدَ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا حَرُمَ مُبَاشَرَتُهُ وَمُلَابَسَتُهُ، حَرُمَ مُخَالَطَتُهُ وَمُمَازَجَتُهُ، وَلَا يَنْعَكِسُ، فَكُلُّ نَجِسٍ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ، وَلَيْسَ كُلُّ مُحَرَّمِ الْأَكْلِ نَجِسًا، وَهَذَا فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْفُقَهَاءَ كُلَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ، وَأَنَّ النَّجَاسَاتِ مُحْصَاةٌ مُسْتَقْصَاةٌ، وَمَا خَرَجَ عَنْ الضَّبْطِ وَالْحَصْرِ فَهُوَ طَاهِرٌ، كَمَا يَقُولُونَهُ فِيمَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَيُوجِبُ الْغُسْلَ، وَمَا لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ وَشِبْهُ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ غَايَةُ الْمُتَقَابِلَاتِ، تَجِدُ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ فِيهَا مَحْصُورًا مَضْبُوطًا، وَالْجَانِبُ الْآخَرُ مُطْلَقٌ مُرْسَلٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْهَادِي لِلصَّوَابِ.

فصل طهارة الأرواث والأبوال من الدواب والطير التي لم تحرم

[فَصَلِّ طَهَارَةُ الْأَرْوَاثِ وَالْأَبْوَالِ مِنْ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ الَّتِي لَمْ تَحْرُمْ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: الْقَوْلُ فِي طَهَارَةِ الْأَرْوَاثِ، وَالْأَبْوَالِ مِنْ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ الَّتِي لَمْ تَحْرُمْ، وَعَلَى ذَلِكَ عِدَّةُ أَدِلَّةٍ: الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْلَ الْجَامِعَ طَهَارَةُ جَمِيعِ الْأَعْيَانِ حَتَّى تَتَبَيَّنَ نَجَاسَتُهَا، فَكُلُّ مَا لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهُ نَجِسٌ فَهُوَ طَاهِرٌ. وَهَذِهِ الْأَعْيَانُ لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا نَجَاسَتَهَا فَهِيَ طَاهِرَةٌ. أَمَّا الرُّكْنُ الْأَوَّلُ مِنْ الدَّلِيلِ، فَقَدْ ثَبَتَ بِالْبَرَاهِينِ الْبَاهِرَةِ، وَالْحُجَجِ الْقَاهِرَةِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَنَقُولُ إنَّ الْمَنْفِيَّ عَلَى ضَرْبَيْنِ: نَفْيٌ نَحْصُرُهُ وَنُحِيطُ بِهِ كَعِلْمِنَا بِأَنَّ السَّمَاءَ لَيْسَ فِيهَا شَمْسَانِ، وَلَا قَمَرَانِ طَالِعَانِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا إلَّا قِبْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، بَلْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مَا لَيْسَ بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ إلَّا صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَعَلِمَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي دَرَاهِمَ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، وَأَنَّهُ لَمْ يُطْعِمْ، وَأَنَّهُ الْبَارِحَةَ لَمْ يَنَمْ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ عَدُّهُ، فَهَذَا كُلُّهُ نَفْيٌ مُسْتَيْقَنٌ بَيَّنَ خَطَأَ مَنْ يُطْلِقُ قَوْلَهُ: لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ. الثَّانِي: مَا لَا يُسْتَيْقَنُ نَفْيُهُ وَعَدَمُهُ. ثُمَّ مِنْهُ مَا يَغْلِبُ عَلَى الْقَلْبِ، وَيَقْوَى فِي الرَّأْيِ، وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَإِذَا رَأَيْنَا حُكْمًا مَنُوطًا بِنَفْيٍ مِنْ الصِّنْفِ الثَّانِي، فَالْمَطْلُوبُ أَنْ نَرَى النَّفْيَ وَيَغْلِبُ عَلَى قُلُوبِنَا، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالِاسْتِصْحَابِ، وَبِعَدَمِ الْمُخَصِّصِ، وَعَدَمِ الْمُوجِبِ لِحَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى مَجَازِهِ هُوَ مِنْ هَذَا الْقَسَمِ. فَإِذَا بَحَثْنَا، وَسَيَّرْنَا عَمَّا يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ، وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا مُنْذُ مِائَتَيْنِ مِنْ السِّنِينَ، فَلَمْ نَجِدْ فِيهَا إلَّا أَدِلَّةً مَعْرُوفَةً، شَهِدْنَا شَهَادَةً جَازِمَةً فِي هَذَا الْمَقَامِ بِحَسَبِ عِلْمِنَا: أَنْ لَا دَلِيلَ إلَّا ذَلِكَ، فَنَقُولُ: الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الدَّلِيلِ إنَّمَا يَتِمُّ

بِفَسْخِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَنَقْضِ ذَلِكَ، وَقَدْ احْتَجَّ لِذَلِكَ بِمَسْلَكَيْنِ: أَثَرِيٌّ وَنَظَرِيٌّ. أَمَّا الْأَثَرِيُّ: فَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ، وَرُوِيَ: لَا يَسْتَنْزِهُ» . وَالْبَوْلُ اسْمُ جِنْسٍ مُحَلَّى بِاللَّامِ، فَيُوجِبُ الْعُمُومَ، كَالْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 2 - 3] . فَإِنَّ الْمُرْتَضَى أَنَّ أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ تَقْتَضِي مِنْ الْعُمُومِ مَا تَقْتَضِيهِ أَسْمَاءُ الْجُمُوعِ، لَسْت أَقُولُ الْجِنْسُ الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَ وَاحِدِهِ وَكَثِيرِهِ الْهَاءُ: كَالنَّمِرِ وَالْبُرِّ وَالشَّجَرِ، فَإِنَّ حُكْمَ تِلْكَ حُكْمُ الْجُمُوعِ بِلَا رَيْبٍ، وَإِنَّمَا أَقُولُ: اسْمُ الْجِنْسِ الْمُفْرَدِ الدَّالِّ عَلَى الشَّيْءِ وَعَلَى مَا أَشْبَهَهُ: كَإِنْسَانٍ وَرَجُلٍ، وَفَرَسٍ وَثَوْبٍ، وَشِبْهِ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَخْبَرَ بِالْعَذَابِ مِنْ جِنْسِ الْبَوْلِ، وَجَبَ الِاحْتِرَازُ وَالتَّنَزُّهُ مِنْ جِنْسِ الْبَوْلِ، فَيَجْمَعُ ذَلِكَ جَمِيعَ أَبْوَالِ جَمِيعِ الدَّوَابِّ، وَالْحَيَوَانِ النَّاطِقِ، وَالْبَهِيمُ مَا يُؤْكَلُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ، فَيَدْخُلُ بَوْلُ الْأَنْعَامِ فِي هَذَا الْعُمُومِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَهَذَا قَدْ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي الِاسْتِدْلَالَ بِالسَّمْعِ وَبَعْضِ الرَّأْيِ وَارْتَضَاهُ بَعْضُ مَنْ يَتَكَايَسُ، وَجَعَلَهُ مَفْزَعًا وَمَوْئِلًا. الْمَسْلَكُ الثَّانِي: النَّظَرِيُّ: وَهُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: الْقِيَاسُ عَلَى الْبَوْلِ الْمُحَرَّمِ فَنَقُولُ: بَوْلٌ وَرَوْثٌ، فَكَانَ نَجِسًا كَسَائِرِ الْأَبْوَالِ، فَيَحْتَاجُ هَذَا الْقِيَاسُ أَنْ يُبَيِّنَ

أَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ هُوَ أَنَّهُ بَوْلٌ وَرَوْثٌ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ تَنْبِيهَاتُ النُّصُوصِ مِثْلُ قَوْلِهِ: «اتَّقُوا الْبَوْلَ» . وَقَوْلِهِ: «كَانَ بَنُو إسْرَائِيلَ إذَا أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ الْبَوْلُ قَرَضَهُ بِالْمِقْرَاضِ» . وَالْمُنَاسَبَةُ أَيْضًا فَإِنَّ الْبَوْلَ وَالرَّوْثَ مُسْتَخْبَثٌ مُسْتَقْذَرٌ، تَعَافُهُ النُّفُوسُ عَلَى حَدٍّ يُوجِبُ الْمُبَايَنَةَ، وَهَذَا يُنَاسِبُ التَّحْرِيمَ حَمْلًا لِلنَّاسِ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ تَنَجُّسُ أَرْوَاثِ الْخَبَائِثِ. الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ إذَا فَحَصْنَا وَبَحَثْنَا عَنْ الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ النَّجَاسَاتِ وَالطَّهَارَاتِ، وَجَدْنَا مَا اسْتَحَالَ فِي أَبْدَانِ الْحَيَوَانِ عَنْ أَغْذِيَتِهَا، فَمَا صَارَ جُزْءًا فَهُوَ طَيِّبُ الْغِذَاءِ، وَمَا فَضَلَ فَهُوَ خَبِيثُهُ، وَلِهَذَا يُسَمَّى رَجِيعًا، كَأَنَّهُ أُخِذَ ثُمَّ رُجِّعَ، أَيْ رُدَّ. فَمَا كَانَ مِنْ الْخَبَائِثِ يَخْرُجُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَسْفَلِ: كَالْغَائِطِ، وَالْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ، وَالْوَدْيِ، فَهُوَ نَجِسٌ. وَمَا خَرَجَ مِنْ الْجَانِبِ الْأَعْلَى: كَالدَّمْعِ وَالرِّيقِ، وَالْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ، وَنُخَامَةِ الرَّأْسِ، فَهُوَ طَاهِرٌ، وَمَا تَرَدَّدَ: كَبَلْغَمِ الْمَعِدَةِ، فَفِيهِ تَرَدُّدٌ، وَهَذَا الْفَصْلُ بَيْنَ مَا خَرَجَ مِنْ أَعْلَى الْبَدَنِ، وَأَسْفَلِهِ، قَدْ جَاءَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ الضَّيِّقِ الَّذِي لَمْ يُفْقَهْ كُلَّ الْفِقْهِ، حَتَّى زَعَمَ زَاعِمُونَ أَنَّهُ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ، وَابْتِلَاءٌ، وَتَمْيِيزٌ بَيْنَ مَنْ يُطِيعُ، وَبَيْنَ مَنْ يَعْصِي، وَعِنْدَنَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ بِمُفْرَدِهِ، حَتَّى يُضَمَّ إلَيْهِ أَشْيَاءُ أُخَرُ، فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا اسْتَحَالَ مِنْ مَعِدَةِ الْحَيَوَانِ: كَالرَّوْثِ، وَالْقَيْءِ، وَمَا اسْتَحَالَ فِي مَعِدَتِهِ: كَاللَّبَنِ.

إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ: فَهَذِهِ الْأَبْوَالُ وَالْأَرْوَاثُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ فِي بَدَنِ الْحَيَوَانِ، وَيَنْصَعُ طَيِّبُهُ، وَيَخْرُجُ خَبِيثُهُ مِنْ جِهَةِ دُبُرِهِ وَأَسْفَلِهِ، وَيَكُونُ نَجِسًا، فَإِنْ فَرَّقَ بِطِيبِ لَحْمِ الْمَأْكُولِ، وَخُبْثِ لَحْمِ الْمُحَرَّمِ، فَيُقَالُ: طَيِّبُ الْحَيَوَانِ وَشَرَفُهُ، وَكَرَمُهُ لَا يُوجِبُ طَهَارَةَ رَوْثِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا حُرِّمَ لَحْمُهُ كَرَامَةً لَهُ وَشَرَفًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَبَوْلُهُ أَخْبَثُ الْأَبْوَالِ - أَلَا تَرَى أَنَّكُمْ تَقُولُونَ إنَّ مُفَارَقَةَ الْحَيَاةِ لَا تُنَجِّسُهُ، وَأَنَّ مَا أُبِينَ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ فَهُوَ طَاهِرٌ أَيْضًا، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ، وَإِنْ لَمْ يُؤْكَلْ لَحْمُهُ، فَلَوْ كَانَ إكْرَامُ الْحَيَوَانِ مُوجِبًا لِطَهَارَةِ رَوْثِهِ، لَكَانَ الْإِنْسَانُ فِي ذَلِكَ الْقَدَحِ الْمُعَلَّى، وَهَذَا سِرُّ الْمَسْأَلَةِ وَلُبَابُهَا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ فِي الدَّرَجَةِ السُّفْلَى مِنْ الِاسْتِخْبَاثِ، وَالطَّبَقَةِ النَّازِلَةِ مِنْ الِاسْتِقْذَارِ كَمَا شَهِدَ بِهِ أَنْفُسُ النَّاسِ، وَتَجِدُهُ طَبَائِعُهُمْ وَأَخْلَاقُهُمْ، حَتَّى لَا نَكَادَ نَجِدُ أَحَدًا يُنَزِّلُهُ مَنْزِلَةَ دَرِّ الْحَيَوَانِ وَنَسْلِهِ، وَلَيْسَ لَنَا إلَّا طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ، وَإِذَا فَارَقَ الطَّهَارَاتِ دَخَلَ فِي النَّجَاسَاتِ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ النَّجَاسَاتِ مِنْ مُبَاعَدَتِهِ وَمُجَانَبَتِهِ، فَلَا يَكُونُ طَاهِرًا؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ إذَا تَجَاذَبَتْهَا الْأُصُولُ لَحِقَتْ بِأَكْثَرِهَا شَبَهًا، وَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ اللَّبَنِ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْبَوْلِ، وَهُوَ بِهَذَا أَشْبَهُ، وَيُقَوِّي هَذَا أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} [النحل: 66] . قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الدَّمَ نَجِسٌ، فَكَذَلِكَ الْفَرْثُ لِتَظْهَرَ الْقُدْرَةُ وَالرَّحْمَةُ فِي إخْرَاجِ طَيِّبٍ مِنْ بَيْنِ خَبِيثَيْنِ، وَيُبَيِّنُ هَذَا جَمِيعَهُ أَنَّهُ يُوَافِقُ غَيْرَهُ مِنْ الْبَوْلِ فِي خَلْقِهِ، وَلَوْنِهِ وَرِيحِهِ وَطَعْمِهِ، فَكَيْفَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا مَعَ هَذِهِ الْجَوَامِعِ الَّتِي تَكَادُ تَجْعَلُ حَقِيقَةَ أَحَدِهِمَا حَقِيقَةَ الْآخَرِ. فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قِيَاسُ التَّمْثِيلِ، وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْمُشْتَرَكِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: قِيَاسُ التَّعْلِيلِ بِتَنْقِيحِ مَنَاطِ الْحُكْمِ وَضَبْطٍ أَصْلِيٍّ كُلِّيٍّ. وَالثَّالِثُ: التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جِنْسِ الطَّاهِرَاتِ، فَلَا يَجُوزُ إدْخَالُهُ فِيهَا. فَهَذِهِ أَنْوَاعُ الْقِيَاسِ أَصْلٌ، وَوَصْلٌ، وَفَصْلٌ.

فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: هُوَ الْأَصْلُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَخْبَاثِ. وَالثَّانِي: هُوَ الْأَصْلُ وَالْقَاعِدَةُ، وَالضَّابِطُ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ، وَالثَّالِثُ: الْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الطَّاهِرَاتِ، وَهُوَ قِيَاسُ الْعَكْسِ. فَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْحُجَجِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. أَمَّا الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ فَضَعِيفٌ جِدًّا لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّامَ فِي الْبَوْلِ لِلتَّعْرِيفِ، فَتُفِيدُ مَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، فَإِنْ كَانَ الْمَعْرُوفُ وَاحِدًا مَعْهُودًا فَهُوَ الْمُرَادُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عَهْدٌ بِوَاحِدٍ أَفَادَتْ الْجِنْسَ، إمَّا جَمِيعُهُ عَلَى الْمُرْتَضَى، أَوْ مُطْلَقُهُ عَلَى رَأْيِ بَعْضِ النَّاسِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ كَذَلِكَ. وَقَدْ نَصَّ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِاللِّسَانِ وَالنَّظَرِ فِي دَلَالَاتِ الْخِطَابِ أَنَّهُ لَا يُصَارُ إلَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ شَيْءٌ مَعْهُودٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَ ثَمَّ شَيْءٌ مَعْهُودٌ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا} [المزمل: 15] {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] . صَارَ مَعْهُودًا بِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ، وَقَوْلُهُ: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ} [النور: 63] . هُوَ مُعَيَّنٌ لِأَنَّهُ مَعْهُودٌ بِتَقَدُّمِ مَعْرِفَتِهِ وَعِلْمِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِتَعْرِيفِ جِنْسِ ذَلِكَ الِاسْمِ حَتَّى يَنْظُرَ فِيهِ، هَلْ يُفِيدُ تَعْرِيفَ عُمُومِ الْجِنْسِ، أَوْ مُطْلَقَ الْجِنْسِ. فَافْهَمْ هَذَا، فَإِنَّهُ مِنْ مَحَاسِنِ الْمَسَالِكِ. فَإِنَّ الْحَقَائِقَ ثَلَاثَةٌ: عَامَّةٌ، وَخَاصَّةٌ، وَمُطْلَقَةٌ. فَإِذَا قُلْت: " الْإِنْسَانُ " قَدْ تُرِيدُ جَمِيعَ الْجِنْسِ، وَقَدْ تُرِيدُ مُطْلَقَ الْجِنْسِ وَقَدْ تُرِيدُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ مِنْ الْجِنْسِ. فَأَمَّا الْجِنْسُ الْعَامُّ فَوُجُودُهُ فِي الْقُلُوبِ وَالنُّفُوسِ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَتَصَوُّرًا، وَأَمَّا الْخَامِسُ مِنْ الْجِنْسِ مِثْلُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَوُجُودُهُ هُوَ حَيْثُ حِلٌّ، وَهُوَ الَّذِي

يُقَالُ لَهُ وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ، وَفِي خَارِجِ الْأَذْهَانِ، وَقَدْ يُتَصَوَّرُ هَكَذَا فِي الْقَلْبِ خَاصًّا مُتَمَيِّزًا، وَأَمَّا الْجِنْسُ الْمُطْلَقُ مِثْلُ الْإِنْسَانِ الْمُجَرَّدِ عَنْ عُمُومٍ وَخُصُوصٍ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ نَفْسُ الْحَقِيقَةِ، وَمُطْلَقُ الْجِنْسِ، فَهَذَا كَمَا لَا يَتَقَيَّدُ فِي نَفْسِهِ لَا يَتَقَيَّدُ بِمَحَلِّهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُدْرَكُ إلَّا بِالْقُلُوبِ فَتُجْعَلُ مَحَلًّا لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَرُبَّمَا جُعِلَ مَوْجُودًا فِي الْأَعْيَانِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ فِي كُلِّ إنْسَانٍ حَظًّا مِنْ مُطْلَقِ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَالْمَوْجُودُ فِي الْعَيْنِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ النَّوْعِ حَظُّهَا وَقِسْطُهَا. فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَقَوْلُهُ: «فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَنْزِهُ مِنْ الْبَوْلِ» بَيَانٌ لِلْبَوْلِ الْمَعْهُودِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُصِيبُهُ وَهُوَ بَوْلُ نَفْسِهِ. يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا سَبْعَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ «فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنْ الْبَوْلِ» وَالِاسْتِبْرَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ بَوْلِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ بَرَاءَةَ الذَّكَرِ، كَاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ مِنْ الْوَلَدِ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّامَ تُعَاقِبُ الْإِضَافَةَ، فَقَوْلُهُ: " مِنْ الْبَوْلِ " كَقَوْلِهِ: " مِنْ بَوْلِهِ " وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ} [ص: 50] أَيْ أَبْوَابُهَا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وُجُوهٍ صَحِيحَةٍ: «فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ» وَهَذَا يُفَسِّرُ تِلْكَ الرَّاوِيَةَ. ثُمَّ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي اللَّفْظِ مُتَأَخِّرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ رَوَى الْأَعْمَشُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَعْلُومٌ إنَّ الْمُحَدِّثَ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ، وَالْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ عَدَمُ تَكَرُّرِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعُلِمَ أَنَّهُمْ رَوَوْهُ بِالْمَعْنَى، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَيَّ اللَّفْظَيْنِ هُوَ الْأَصْلُ. ثُمَّ إنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ اللَّفْظَيْنِ، مَعَ أَنَّ مَعْنَى أَحَدِهِمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَعْنَى الْآخَرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا، فَالظَّاهِرُ الْمُوَافَقَةُ. يُبَيِّنُ هَذَا: أَنَّ الْحَدِيثَ فِي حِكَايَةِ حَالٍ، لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَبْرَيْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ.

الرَّابِعُ: أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ، أَنَّ الْبَوْلَ كَانَ يُصِيبُهُ، وَلَا يَسْتَتِرُ مِنْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ بَوْلُ نَفْسِهِ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْحَسَنَ قَالَ: الْبَوْلُ كُلُّهُ نَجِسٌ، وَقَالَ: أَيْضًا: لَا بَأْسَ بِأَبْوَالِ الْغَنَمِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْبَوْلَ الْمُطْلَقَ عِنْدَهُ هُوَ بَوْلُ الْإِنْسَانِ. السَّادِسُ: أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ لِلسَّامِعِ عِنْدَ تَجَرُّدِ قَلْبِهِ عَنْ الْوَسْوَاسِ، وَالتَّمْرِيحِ، فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: «فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ» إلَّا بَوْلَ نَفْسِهِ، وَلَوْ قِيلَ إنَّهُ لَمْ يَخْطِرْ لِأَكْثَرِ النَّاسِ عَلَى بَالِهِمْ جَمِيعُ الْأَبْوَالِ مِنْ بَوْلِ بَعِيرٍ وَشَاةٍ، وَثَوْرٍ، لَكَانَ صِدْقًا. السَّابِعُ: أَنْ يَكْفِيَ بِأَنْ يُقَالَ: إذَا احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ بَوْلَ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمَعْهُودُ، وَأَنْ يُرِيدَ جَمِيعَ جِنْسِ الْبَوْلِ، لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا، إلَّا بِدَلِيلٍ، فَيَقِفُ الِاسْتِدْلَال، وَهَذَا لَعَمْرِي تَنَزَّلَ، وَإِلَّا فَاَلَّذِي قَدَّمْنَا أَصْلٌ مُسْتَقِرٌّ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْبَوْلِ الْمَعْهُودِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَوْلِ، وَهُوَ بَوْلُ نَفْسِهِ الَّذِي يُصِيبُهُ غَالِبًا، وَيَتَرَشْرَشُ عَلَى أَفْخَاذِهِ وَسُوقِهِ، وَرُبَّمَا اسْتَهَانَ بِإِنْقَائِهِ، وَلَمْ يَحْكُمْ الِاسْتِنْجَاءَ مِنْهُ. فَأَمَّا بَوْلُ غَيْرِهِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ، فَإِنَّ حُكْمَهُ وَإِنْ سَاوَى حُكْمَ بَوْلِ نَفْسِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، بَلْ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَالِاسْتِوَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ يُوجِبُ الِاسْتِوَاءَ فِي الْحُكْمِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَكَادُ يُصِيبُهُ بَوْلُ غَيْرِهِ، وَلَوْ أَصَابَهُ لَسَاءَهُ ذَلِكَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ مَوْجُودٍ غَالِبٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «اتَّقُوا الْبَوْلَ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ» . فَكَيْفَ يَكُونُ عَامَّةُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ شَيْءٍ لَا يَكَادُ يُصِيبُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ؟ وَهَذَا بَيِّنٌ لَا خَفَاءَ بِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْأَبْوَالِ، فَسَوْفَ نَذْكُرُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْخَاصَّةِ عَلَى طَهَارَةِ هَذَا النَّوْعِ مَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ مِنْ هَذَا الِاسْمِ الْعَامِّ، وَمَعْلُومٌ مِنْ

الْأُصُولِ الْمُسْتَقِرَّةِ إذَا تَعَارَضَ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، فَالْعَمَلُ بِالْخَاصِّ أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهِ إبْطَالٌ لَهُ وَإِهْدَارٌ، وَالْعَمَلُ بِهِ تُرِكَ لِبَعْضِ مَعَانِي الْعَامِّ، وَلَيْسَ اسْتِعْمَالُ الْعَامِّ وَإِرَادَةُ الْخَاصِّ بِبِدَعٍ فِي الْكَلَامِ، بَلْ هُوَ غَالِبٌ كَثِيرٌ، وَلَوْ سَلَّمْنَا التَّعَارُضَ عَلَى التَّسَاوِي مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَإِنَّ فِي أَدِلَّتِنَا مِنْ الْوُجُوهِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّقْدِيمِ وَالتَّرْجِيحِ وُجُوهًا أُخْرَى مِنْ الْكَثْرَةِ وَالْعَمَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْ عَجِيبِ مَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ الْبَوْلِ» . وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ، مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ إصَابَةَ الْإِنْسَانِ بَوْلَ غَيْرِهِ قَلِيلٌ نَادِرٌ، وَإِنَّمَا الْكَثِيرُ إصَابَتُهُ بَوْلَ نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ أَرَادَ أَنْ يُدْرِجَ بَوْلَهُ فِي الْجِنْسِ الَّذِي يَكْثُرُ وُقُوعُ الْعَذَابِ بِنَوْعٍ مِنْهُ، لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: «أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ النَّجَاسَاتِ» . وَاعْتَمَدَ أَيْضًا عَلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ» . يَعْنِي الْبَوْلَ وَالنَّجْوَ. وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا يُفِيدُ تَسْمِيَةَ كُلِّ بَوْلٍ وَنَجْوٍ أَخْبَثَ، وَالْأَخْبَثُ حَرَامٌ نَجِسٌ، وَهَذَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ لَيْسَ فِيهِ شُمُولٌ لِغَيْرِ مَا يُدَافَعُ أَصْلًا. وَقَوْلُهُ: إنَّ الِاسْمَ يَشْمَلُ الْجِنْسَ كُلَّهُ، فَيُقَالُ لَهُ وَمَا الْجِنْسُ الْعَامُّ، أَكُلُّ بَوْلٍ وَنَجْوٍ؟ أَمْ بَوْلِ الْإِنْسَانِ وَنَجْوِهِ؟ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِي يُدَافِعُ كُلُّ شَخْصٍ مِنْ جِنْسِ الَّذِي يُدَافِعُ غَيْرُهُ، فَأَمَّا مَا لَا يُدَافَعُ أَصْلًا فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ، فَهَذِهِ عُمْدَةُ الْمُخَالِفِ، وَأَمَّا الْمَسْلَكُ النَّظَرِيُّ: فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ مُجْمَلٌ وَمُفَصَّلٌ: أَمَّا الْمُفَصَّلُ فَالْجَوَابُ عَنْهُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ بَوْلٌ وَرَوْثٌ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَنْبِيهِ النُّصُوصِ فَقَدْ سَلَفَ الْجَوَابُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا بَوْلُ الْإِنْسَانِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ، فَنَقُولُ: التَّعْلِيلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِجِنْسِ اسْتِخْبَاثِ النَّفْسِ وَاسْتِقْذَارِهَا، أَوْ بِقَدْرٍ مَحْدُودٍ مِنْ الِاسْتِخْبَاثِ وَالِاسْتِقْذَارِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، وَجَبَ تَنْجِيسُ كُلِّ مُسْتَخْبَثٍ مُسْتَقْذَرٍ، فَيَجِبُ نَجَاسَةُ الْمُخَاطِ، وَالْبُصَاقِ، وَالنُّخَامَةِ، بَلْ نَجَاسَةُ الْمَنِيِّ الَّذِي جَاءَ الْأَثَرُ بِإِمَاطَتِهِ مِنْ الثِّيَابِ، بَلْ رُبَّمَا نَفَرَتْ النُّفُوسُ عَنْ بَعْضِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَشَدَّ مِنْ نُفُورِهَا عَنْ أَرْوَاثِ الْمَأْكُولِ مِنْ الْبَهَائِمِ، مِثْلُ مَخْطَةِ الْمَجْذُومِ إذَا اخْتَلَطَ بِالطَّعَامِ، وَنُخَامَةِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ إذَا وُضِعَتْ فِي الشَّرَابِ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مَدْعَاةً لِبَعْضِ الْأَنْفُسِ إلَى أَنْ يَذْرَعَهُ الْقَيْءُ. وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيلُ بِقَدْرٍ مُوَقَّتٍ مِنْ الِاسْتِقْذَارِ، فَهَذَا قَدْ يَكُونُ حَقًّا، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَدْرِ مِنْ الِاسْتِخْبَاثِ الْمُوجِبِ لِلتَّنْجِيسِ، وَبَيْنَ مَا لَا يُوجِبُ وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ، وَلَعَلَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ مِمَّا يَنْقُضُ بَيَانَ اسْتِقْذَارِهَا الْحَدُّ الْمُعْتَبَرُ. ثُمَّ إنَّ التَّقْدِيرَاتِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْأَحْكَامِ إنَّمَا تُعْلَمُ مِنْ جِهَةِ اسْتِقْذَارِهَا عَنْ الشَّرْعِ فِي الْأَمْرِ الْغَالِبِ فَنَقُولُ: مَتَى حُكِمَ بِنَجَاسَةِ نَوْعٍ، عَلِمْنَا أَنَّهُ مِمَّا غَلُظَ اسْتِخْبَاثُهُ، وَمَتَى لَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَةِ نَوْعٍ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَغْلُظْ اسْتِخْبَاثُهُ، فَنَعُودُ مُسْتَدِلِّينَ بِالْحُكْمِ عَلَى الْمُعْتَبَرِ مِنْ الْعِلَّةِ، فَمَتَى اسْتَرَبْنَا فِي الْحُكْمِ فَنَحْنُ فِي الْعِلَّةِ أَشَدُّ اسْتِرَابَةً، فَبَطَلَ هَذَا، وَأَمَّا الشَّاهِدُ بِالِاعْتِبَارِ، فَكَمَا أَنَّهُ شَهِدَ لِجِنْسِ الِاسْتِخْبَاثِ شَهِدَ لِلِاسْتِخْبَاثِ الشَّدِيدِ، وَالِاسْتِقْذَارِ الْغَلِيظِ، وَثَانِيهِمَا: أَنْ نَقُولَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَهَذِهِ عِلَّةٌ مُطَّرِدَةٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنَّا وَمِنْ الْمُخَالِفِينَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَالِانْعِكَاسُ إنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَقَدْ حَصَلَ الْغَرَضُ، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِي الْعِلَلِ فَنَقُولُ فِيهِ مَا قَالُوا فِي اطِّرَادِ الْعِلَّةِ الْأُولَى، حَيْثُ خُولِفُوا فِيهِ، وَعَدَمُ الِانْعِكَاسِ أَيْسَرُ مِنْ عَدَمِ الِاطِّرَادِ. وَإِذَا افْتَرَقَ الصِّنْفَانِ فِي اللَّحْمِ، وَالْعَظْمِ وَاللَّبَنِ، وَالشَّعْرِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ

افْتِرَاقُهُمَا فِي الرَّوْثِ، وَالْبَوْلِ، وَهَذِهِ الْمُنَاسَبَةُ أَبْيَنُ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ هُوَ بَعْضٌ مِنْ أَبْعَاضِ الْبَهِيمَةِ، أَوْ مُتَوَلِّدٌ مِنْهَا، فَيَلْحَقُ سَائِرَهَا، قِيَاسًا لِبَعْضِ الشَّيْءِ عَلَى جُمْلَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَنْقُوضٌ بِالْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُ طَاهِرٌ، وَلَبَنُهُ طَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَمْوَاهِهِ وَفَضَلَاتِهِ، وَمَعَ هَذَا فَرَوْثُهُ وَبَوْلُهُ مِنْ أَخْبَثِ الْأَخْبَاثِ، فَحَصَلَ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ الْبَوْلِ وَغَيْرِهِ. فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ فَارَقَ غَيْرَهُ مِنْ الْحَيَوَانِ فِي هَذَا الْبَابِ، طَرْدًا وَعَكْسًا، فَقِيَاسُ الْبَهَائِمِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَجَعْلُهَا فِي حَيِّزٍ يُبَايِنُ حَيِّزَ الْإِنْسَانِ. وَجَعْلُ الْإِنْسَانِ فِي حَيِّزٍ هُوَ الْوَاجِبُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَهِيَ تُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ، ثُمَّ بَوْلُهُ أَشَدُّ مِنْ بَوْلِهَا؟ أَلَا تَرَى أَنَّ تَحْرِيمَهُ مُفَارِقٌ لِتَحْرِيمِ غَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ؛ لِكَرَمِ نَوْعِهِ، وَحُرْمَتِهِ، حَتَّى يَحْرُمَ الْكَافِرُ وَغَيْرُهُ، وَحَتَّى لَا يَحِلَّ أَنْ يُدْبَغَ جِلْدُهُ، مَعَ أَنَّ بَوْلَهُ أَشَدُّ وَأَغْلَظُ. فَهَذَا وَغَيْرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَوْلَ الْإِنْسَانِ فَارَقَ سَائِرَ فَضَلَاتِهِ أَشَدَّ مِنْ مُفَارَقَةِ بَوْلِ الْبَهَائِمِ فَضَلَاتِهَا، إمَّا لِعُمُومِ مُلَابَسَتِهِ حَتَّى لَا يُسْتَخَفَّ بِهِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ فِي عَذِرَةِ الْإِنْسَانِ وَبَوْلِهِ مِنْ الْخُبْثِ وَالنَّتِنِ، وَالْقَذَرِ، مَا لَيْسَ فِي عَامَّةِ الْأَبْوَالِ وَالْأَرْوَاثِ، وَفِي الْجُمْلَةِ: فَإِلْحَاقُ الْأَبْوَالِ بِاللُّحُومِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ أَحْسَنُ طَرْدًا مِنْ غَيْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَنَقُولُ ذَلِكَ الْأَصْلُ فِي الْآدَمِيِّينَ مُسَلَّمٌ، وَاَلَّذِي جَاءَ عَنْ السَّلَفِ إنَّمَا جَاءَ فِيهِمْ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ فِي أَبْدَانِهِمْ، وَخُرُوجُهُ مِنْ الشِّقِّ الْأَعْلَى أَوْ الْأَسْفَلِ، فَمِنْ أَيْنَ يُقَالُ: كَذَلِكَ سَائِرُ الْحَيَوَانِ، وَقَدْ مَضَتْ الْإِشَارَةُ إلَى الْفَرْقِ؟ ثُمَّ مُخَالِفُوهُمْ يَمْنَعُونَهُمْ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ فِي الْبَهَائِمِ، فَيَقُولُونَ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ مَا خَبُثَ

لَحْمُهُ خَبُثَ لَبَنُهُ وَمَنِيُّهُ، بِخِلَافِ الْآدَمِيِّ، فَبَطَلَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الِاسْتِحَالَةِ بَلْ قَدْ يَقُولُونَ إنَّ جَمِيعَ الْفَضَلَاتِ الرَّطْبَةِ مِنْ الْبَهَائِمِ حُكْمُهَا سَوَاءٌ، فَمَا طَابَ لَحْمُهُ طَابَ لَبَنُهُ، وَبَوْلُهُ وَرَوْثُهُ، وَمَنِيُّهُ وَعَرَقُهُ، وَرِيقُهُ وَدَمْعُهُ، وَمَا خَبُثَ لَحْمُهُ خَبُثَ لَبَنُهُ وَرِيقُهُ، وَبَوْلُهُ وَرَوْثُهُ، وَمَنِيُّهُ وَعَرَقُهُ، وَدَمْعُهُ، وَهَذَا قَوْلٌ يَقُولُهُ أَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَقَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ، وَبِالْجُمْلَةِ: فَاللَّبَنُ، وَالْمَنِيُّ يَشْهَدُ لَهُمْ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ شَهَادَةً قَاطِعَةً، وَبِاسْتِوَاءِ الْفَضَلَاتِ مِنْ الْحَيَوَانِ ضَرْبًا مِنْ الشَّهَادَةِ. فَعَلَى هَذَا يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ: يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَخْرُجُ مِنْ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ، لِمَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، فَإِنَّهُ مُنْتَصِبُ الْقَامَةِ، نَجَاسَتُهُ كُلُّهَا فِي أَعَالِيهِ، وَمَعِدَتِهِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ اسْتِحَالَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الشِّقِّ الْأَسْفَلِ، وَأَمَّا الثَّدْيُ، وَنَحْوُهُ فَهُوَ فِي الشِّقِّ الْأَعْلَى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَهِيمَةُ، فَإِنَّ ضَرْعَهَا فِي الْجَانِبِ الْمُؤَخَّرِ مِنْهَا، وَفِيهِ اللَّبَنُ الطَّيِّبُ، وَلَا مَطْمَعَ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحَزَوَّرَاتِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَمَدَارُهُ عَلَى الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الطَّاهِرَاتِ، فَإِنْ فُصِلَ بِنَوْعِ الِاسْتِقْذَارِ بَطَلَ بِجَمِيعِ الْمُسْتَقْذَرَاتِ، الَّتِي رُبَّمَا كَانَتْ أَشَدَّ اسْتِقْذَارًا مِنْهُ، وَإِنْ فُصِلَ بِقَدْرٍ خَاصٍّ فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْقِيتِهِ، وَقَدْ مَضَى تَقْرِيرُ هَذَا، وَأَمَّا الْجَوَابُ الْعَامُّ فَمِنْ أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ، فِي مُقَابَلَةِ الْآثَارِ الْمَنْصُوصَةِ، وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدُ الْوَضْعِ. " مَنْ جَمَعَ بَيْنَ مَا فَرَّقَتْ السُّنَّةُ بَيْنَهُ فَقَدْ ضَاهَى قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، وَلِذَلِكَ طَهَّرَتْ السُّنَّةُ هَذَا، وَنَجَّسَتْ هَذَا. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ فِي بَابٍ لَمْ تَظْهَرْ أَسْبَابُهُ وَأَنْوَاطُهُ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ مَأْخَذُهُ، وَمَا بَلْ النَّاسُ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ:

إمَّا قَائِلٌ يَقُولُ: هَذَا اسْتِعْبَادٌ مَحْضٌ، وَابْتِلَاءٌ صِرْفٌ، فَلَا قِيَاسَ، وَلَا إلْحَاقَ، وَلَا اجْتِمَاعَ، وَلَا افْتِرَاقَ، وَإِمَّا قَائِلٌ يَقُولُ: دَقَّتْ عَلَيْنَا عِلَلُهُ وَأَسْبَابُهُ، وَخَفِيَتْ عَلَيْنَا مَسَالِكُهُ وَمَذَاهِبُهُ، وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ إلَيْنَا رَسُولًا يُزَكِّينَا، وَيُعَلِّمُنَا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، بَعَثَهُ إلَيْنَا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا نَصْنَعُ مَا رَأَيْنَاهُ يَصْنَعُ، وَالسُّنَّةُ لَا تُضْرَبُ لَهَا الْأَمْثَالُ، وَالتَّعَارُضُ بِآرَاءِ الرِّجَالِ، وَالدِّينُ لَيْسَ بِالرَّأْيِ، وَيَجِبُ أَنْ يُتَّهَمَ الرَّأْيُ عَلَى الدِّينِ، وَالْقِيَاسُ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ مُمْتَنِعٌ بِاتِّفَاقِ أُولِي الْأَلْبَابِ. الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: هَذَا كُلُّهُ مَدَارُهُ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَبَوْلِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُفْتَرِقَيْنِ، فَإِنَّ رِيحَ الْمُحَرَّمِ خَبِيثُهُ، وَأَمَّا رِيحُ الْمُبَاحِ فَمِنْهُ مَا قَدْ يُسْتَطَابُ، مِثْلُ أَرْوَاثِ الظِّبَاءِ وَغَيْرِهَا، وَمَا لَمْ يُسْتَطَبْ مِنْهُ فَلَيْسَ رِيحُهُ كَرِيحِ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ خَلْقُهُ غَالِبًا فَإِنَّهُ يَشْمَلُ عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ الْمُبَاحِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي حَقِيقَةِ الْمَسْأَلَةِ، وَسَنَعُودُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي آخِرِهَا. الدَّلِيلُ الثَّانِي: الْحَدِيثُ الْمُسْتَفِيضُ، أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ وَغَيْرُهُمْ: حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «أَنَّ نَاسًا مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، فَاجْتَوَوْهَا، فَأَمَرَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلِقَاحٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ» - وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَوَجْهُ الْحُجَّةِ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِي شُرْبِ الْأَبْوَالِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَ أَفْوَاهَهُمْ، وَأَيْدِيَهُمْ، وَثِيَابَهُمْ، وَآنِيَتَهُمْ، فَإِذَا كَانَ نَجِسَةً وَجَبَ تَطْهِيرُ أَفْوَاهِهِمْ، وَأَيْدِيهِمْ، وَثِيَابِهِمْ لِلصَّلَاةِ، وَتَطْهِيرُ آنِيَتِهِمْ، فَيَجِبُ بَيَانُ ذَلِكَ لَهُمْ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ لَا يَجُوزُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ إمَاطَةُ مَا أَصَابَهُمْ مِنْهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ نَجِسٍ، وَمِنْ الْبَيِّنِ أَنْ لَوْ كَانَتْ أَبْوَالُ الْإِبِلِ كَأَبْوَالِ النَّاسِ لَأَوْشَكَ أَنْ يَشْتَدَّ تَغْلِيظُهُ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ إنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا نَجِسَةٌ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وُجُوبَ

التَّطْهِيرِ مِنْ النَّجَاسَاتِ فَقَدْ أَبْعَدَ غَايَةَ الْإِبْعَادِ، وَأَتَى بِشَيْءٍ قَدْ يُسْتَيْقَنُ بُطْلَانُهُ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّرِيعَةَ أَوَّلَ مَا شُرِعَتْ كَانَتْ أَخْفَى، وَبَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ، وَتَنَاقُلِ الْعِلْمِ، وَإِفْشَائِهِ صَارَتْ أَبْدَى وَأَظْهَرَ، وَإِذَا كُنَّا إلَى الْيَوْمِ لَمْ يَسْتَبِنْ لَنَا نَجَاسَتُهَا، بَلْ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى طَهَارَتِهَا، وَعَامَّةُ التَّابِعِينَ عَلَيْهِ. بَلْ قَدْ قَالَ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ: إنَّ السَّلَفَ مَا كَانُوا يُنَجِّسُونَهَا وَلَا يَتَّقُونَهَا، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ: وَعَلَيْهِ اعْتِمَادُ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ، وَالْخِلَافِ، وَقَدْ ذَكَرَ طَهَارَةَ الْأَبْوَالِ عَنْ عَامَّةِ السَّلَفِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْأَبْوَالُ كُلُّهَا نَجَسٌ. قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ إنَّ أَبْوَالَ الْأَنْعَامِ وَأَبْعَارِهَا نَجَسٌ. قُلْت: وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بَوْلِ النَّاقَةِ، فَقَالَ: اغْسِلْ مَا أَصَابَك مِنْهُ، وَعَنْ الزُّهْرِيِّ فِيمَا يُصِيبُ الرَّاعِيَ مِنْ أَبْوَالِ الْإِبِلِ قَالَ: يُنْضَحُ، وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي بَوْلِ الشَّاةِ وَالْبَعِيرِ: يُغْسَلُ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ نَجَاسَةُ ذَلِكَ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ فِيهِ، فَلَعَلَّ الَّذِي أَرَادَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ اجْتِنَابِ قَلِيلِ الْبَوْلِ، وَالرَّوْثِ وَكَثِيرِهِ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ، وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ أَمَرَ بِغَسْلِهِ كَمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ الْمُخَاطِ، وَالْبُصَاقِ وَالْمَنِيِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: أَنَّهُ صَلَّى عَلَى مَكَان فِيهِ رَوْثُ الدَّوَابِّ، وَالصَّحْرَاءُ أَمَامَهُ، وَقَالَ: هَهُنَا وَهَهُنَا سَوَاءٌ، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: لَا بَأْسَ بِبَوْلِ كُلِّ ذِي كِرْشٍ. وَلَسْت أَعْرِفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْقَوْلَ بِنَجَاسَتِهَا، بَلْ الْقَوْلُ بِطَهَارَتِهَا إلَّا مَا ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ إنْ كَانَ أَرَادَ النَّجَاسَةَ. فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِأُولَئِكَ؟ . وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا، فَوُجُوبُ التَّطَهُّرِ مِنْ النَّجَاسَةِ لَيْسَ مِنْ الْأُمُورِ

الْبَيِّنَةِ، قَدْ أَنْكَرَهُ فِي الثِّيَابِ طَائِفَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ وَغَيْرُهُمْ. فَمِنْ أَيْنَ يَعْلَمُهُ أُولَئِكَ؟ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مُسْتَفِيضًا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ الصَّحَابَةِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَعْلَمَهُ أُولَئِكَ؛ لِأَنَّهُمْ حَدِيثُو الْعَهْدِ بِالْجَاهِلِيَّةِ وَالْكُفْرِ؛ فَقَدْ كَانُوا يَجْهَلُونَ أَصْنَافَ الصَّلَوَاتِ، وَأَعْدَادَهَا، وَأَوْقَاتِهَا، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ، فَجَهْلُهُمْ بِشَرْطٍ خَفِيٍّ فِي أَمْرٍ خَفِيٍّ أَوْلَى وَأَحْرَى، لَا سِيَّمَا، وَالْقَوْمُ لَمْ يَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ أَدْنَى تَفَقُّهٍ، وَلِذَلِكَ ارْتَدُّوا، وَلَمْ يُخَالِطُوا أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، بَلْ حِينَ أَسْلَمُوا وَأَصَابَهُمْ الِاسْتِيخَامُ أَمَرَهُمْ بِالْبَدَاوَةِ. فَيَا لَيْتَ شِعْرِي، مِنْ أَيْنَ لَهُمْ الْعِلْمُ بِهَذَا الْأَمْرِ الْخَفِيِّ؟ وَرَابِعُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ فِي تَعْلِيمِهِ وَإِرْشَادِهِ وَاكِلًا لِلتَّعْلِيمِ إلَى غَيْرِهِ، بَلْ يُبَيِّنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ لِمَنْ أَحْسَنَ الْمَعْرِفَةَ بِالسُّنَنِ الْمَاضِيَةِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ الْعِلْمُ بِنَجَاسَةِ هَذِهِ الْأَرْوَاثِ، أَبْيَنَ مِنْ الْعِلْمِ بِنَجَاسَةِ بَوْلِ الْإِنْسَانِ، الَّذِي قَدْ عَلِمَهُ الْعَذَارَى فِي حِجَالِهِنَّ وَخُدُورِهِنَّ، ثُمَّ قَدْ حَذَّرَ مِنْهُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ، فَصَارَ الْأَعْرَابُ الْجُفَاةُ أَعْلَمَ بِالْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ، فَهَذَا كَمَا تَرَى. وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَبْوَالِ، وَالْأَلْبَانِ، وَأَخْرَجَهُمَا مَخْرَجًا وَاحِدًا، وَالْقُرْآنُ بَيَّنَ الشَّيْئَيْنِ إنْ لَمْ يُوجِبْ اسْتِوَاءَهُمَا فَلَا بُدَّ أَنْ يُورِثَ شُبْهَةً، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْبَيَانُ وَاجِبًا لَكَانَتْ الْمُقَارَنَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّاهِرِ مُوجِبَةً لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا إنْ كَانَ التَّمْيِيزُ حَقًّا. وَمِنْ الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ أُخْرَى فِيهَا تَنَازُعٌ، وَهُوَ: أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُمْ شُرْبَهَا، وَلَوْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً نَجِسَةً لَمْ يُبَحْ لَهُمْ شُرْبُهَا، وَلَسْت أَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي جَوَازِ التَّدَاوِي بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ كَمَا جَاءَتْ السُّنَّةُ، لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِ مَنَاطِهِ. فَقِيلَ: هُوَ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِلتَّدَاوِي وَغَيْرِ التَّدَاوِي. وَقِيلَ: بَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ وَإِنَّمَا أَبَاحَهَا لِلتَّدَاوِي وَقِيلَ: هِيَ مَعَ ذَلِكَ نَجِسَةٌ.

وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْوَجْهِ يَحْتَاجُ إلَى رُكْنٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ التَّدَاوِيَ بِالْمُحَرَّمَاتِ النَّجِسَةِ مُحَرَّمٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى التَّحْرِيمِ مِثْلَ قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] ، وَ «كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ» . وَ {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة: 90] . عَامَّةٌ فِي حَالِ التَّدَاوِي وَغَيْرِ التَّدَاوِي، فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَخَصَّ الْعُمُومَ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَبَاحَهَا لِلضَّرُورَةِ وَالْمُتَدَاوِي مُضْطَرٌّ، فَتُبَاحُ لَهُ، أَوْ أَنَّا نَقِيسُ إبَاحَتَهَا لِلْمَرِيضِ عَلَى إبَاحَتِهَا لِلْجَائِعِ، بِجَامِعِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا. يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرَضَ يُسْقِطُ الْفَرَائِضَ مِنْ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالِانْتِقَالُ مِنْ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ إلَى الطَّهَارَةِ بِالصَّعِيدِ، فَكَذَلِكَ يُبِيحُ الْمَحَارِمَ، لِأَنَّ الْفَرَائِضَ وَالْمَحَارِمَ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ. يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْحِلْيَةِ وَاللِّبَاسِ، مِثْلُ: الذَّهَبِ، وَالْحَرِيرِ قَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِإِبَاحَةِ اتِّخَاذِ الْأَنْفِ مِنْ الذَّهَبِ، وَرَبْطِ الْأَسْنَانِ بِهِ، «وَرُخِّصَ لِلزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ مِنْ حَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا» ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأُصُولُ الْكَثِيرَةُ عَلَى إبَاحَةِ الْمَحْظُورَاتِ حِينَ الِاحْتِيَاجِ وَالِافْتِقَارِ إلَيْهَا. قُلْت: أَمَّا إبَاحَتُهَا لِلضَّرُورَةِ فَحَقٌّ، وَلَيْسَ التَّدَاوِي بِضَرُورَةٍ لِوُجُوهٍ

أَحَدُهَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَرْضَى، أَوْ أَكْثَرَ الْمَرْضَى يُشْفَوْنَ بِلَا تَدَاوٍ، لَا سِيَّمَا فِي أَهْلِ الْوَبَرِ وَالْقُرَى، وَالسَّاكِنِينَ فِي نَوَاحِي الْأَرْضِ يَشْفِيهِمْ اللَّهُ بِمَا خَلَقَ فِيهِمْ مِنْ الْقُوَى الْمَطْبُوعَةِ فِي أَبْدَانِهِمْ، الرَّافِعَةِ لِلْمَرَضِ، وَفِيمَا يُيَسِّرُهُ لَهُمْ مِنْ نَوْعِ حَرَكَةٍ وَعَمَلٍ أَوْ دَعْوَةٍ مُسْتَجَابَةٍ أَوْ رُقْيَةٍ نَافِعَةٍ، أَوْ قُوَّةٍ لِلْقَلْبِ، وَحُسْنِ التَّوَكُّلِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْكَثِيرَةِ غَيْرِ الدَّوَاءِ، وَأَمَّا الْأَكْلُ فَهُوَ ضَرُورِيٌّ، وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ أَبْدَانَ الْحَيَوَانِ تَقُومُ إلَّا بِالْغِذَاءِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَمَاتَ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ التَّدَاوِيَ لَيْسَ مِنْ الضَّرُورَةِ فِي شَيْءٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَكْلَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَاجِبٌ. قَالَ مَسْرُوقٌ: مَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ، فَلَمْ يَأْكُلْ، فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ وَالتَّدَاوِي غَيْرُ وَاجِبٍ «وَمَنْ نَازَعَ فِيهِ خَصَمَتْهُ السُّنَّةُ فِي الْمَرْأَةِ السَّوْدَاءِ الَّتِي خَيَّرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَبَيْنَ الدُّعَاءِ بِالْعَافِيَةِ، فَاخْتَارَتْ الْبَلَاءَ وَالْجَنَّةَ» ، وَلَوْ كَانَ رَفْعُ الْمَرَضِ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْيِيرِ مَوْضِعٌ، كَدَفْعِ الْجُوعِ، وَفِي دُعَائِهِ لِأُبَيٍّ بِالْحُمَّى، وَفِي اخْتِيَارِهِ الْحُمَّى لِأَهْلِ قُبَاءَ، وَفِي دُعَائِهِ بِفَنَاءِ أُمَّتِهِ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ، وَفِي نَهْيِهِ عَنْ الْفِرَارِ مِنْ الطَّاعُونِ، وَخَصَمَهُ حَالُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ الْمُبْتَلِينَ الصَّابِرِينَ عَلَى الْبَلَاءِ، حِينَ لَمْ يَتَعَاطَوْا الْأَسْبَابَ الدَّافِعَةَ لَهُ، مِثْلُ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَغَيْرِهِ، وَخَصَمَهُ حَالُ السَّلَفِ الصَّالِحِ. فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ قَالُوا لَهُ: أَلَا نَدْعُو لَك الطَّبِيبَ، قَالَ: قَدْ رَآنِي، قَالُوا: فَمَا قَالَ لَك؟ قَالَ: إنِّي فَعَّالٌ لِمَا أُرِيدُ. وَمِثْلُ هَذَا وَنَحْوِهِ يُرْوَى عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ الْمُخْبِتِ الْمُنِيبِ، الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْكُوفِيِّينَ أَوْ كَأَفْضَلِهِمْ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ الْهَادِي الْمَهْدِيّ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصُونَ عَدَدًا، وَلَسْت أَعْلَمُ سَالِفًا أَوْجَبَ التَّدَاوِي، وَإِنَّمَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْمَعْرِفَةِ يُفَضِّلُ تَرْكَهُ تَفَضُّلًا، وَاخْتِيَارًا لِمَا اخْتَارَ اللَّهُ، وَرِضًى بِهِ، وَتَسْلِيمًا لَهُ، وَهَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يُوجِبُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّهُ، وَيُرَجِّحُهُ كَطَرِيقَةِ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ، اسْتِمْسَاكًا لِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَسْبَابِ، وَجَعَلَهُ مِنْ سُنَنِهِ فِي عِبَادِهِ.

وَثَالِثُهَا: أَنَّ الدَّوَاءَ لَا يُسْتَيْقَنُ، بَلْ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ لَا يُظَنُّ دَفْعُهُ لِلْمَرَضِ، إذْ لَوْ اطَّرَدَ ذَلِكَ لَمْ يَمُتْ أَحَدٌ، بِخِلَافِ دَفْعِ الطَّعَامِ لِلْمَسْغَبَةِ وَالْمَجَاعَةِ، فَإِنَّهُ مُسْتَيْقَنٌ بِحُكْمِ سُنَّةِ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ وَخَلْقِهِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمَرَضَ يَكُونُ لَهُ أَدْوِيَةٌ شَتَّى، فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ بِالْمُحَرَّمِ انْتَقَلَ إلَى الْمُحَلَّلِ. وَمُحَالٌ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِي الْحَلَالِ شِفَاءٌ، أَوْ دَوَاءٌ، وَاَلَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ أَنْزَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً إلَّا الْمَوْتَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَدْوِيَةُ الْأَدْوَاءِ فِي الْقِسْمِ الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ، وَإِلَى هَذَا الْإِشَارَةُ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا» . بِخِلَافِ الْمَسْغَبَةِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ انْدَفَعَتْ بِأَيِّ طَعَامٍ، اُتُّفِقَ إلَّا أَنَّ الْخَبِيثَ إنَّمَا يُبَاحُ عِنْدَ فَقْدِ غَيْرِهِ، فَإِنْ صَوَّرْت مِثْلَ هَذَا فِي الدَّوَاءِ، فَتِلْكَ صُورَةٌ نَادِرَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ أَنْدَرُ مِنْ الْجُوعِ بِكَثِيرٍ، وَتَعَيُّنُ الدَّوَاءِ الْمُعَيَّنِ وَعَدَمُ غَيْرِهِ نَادِرٌ، فَلَا يُنْتَقَضُ هَذَا، عَلَى أَنَّ فِي الْأَوْجُهِ السَّالِفَةِ غِنًى. وَخَامِسُهَا: وَفِيهِ فِقْهُ الْبَابِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ خَلْقَهُ مُفْتَقِرِينَ إلَى الطَّعَامِ وَالْغِذَاءِ، لَا تَنْدَفِعُ مَجَاعَتُهُمْ وَمَسْغَبَتُهُمْ إلَّا بِنَوْعِ الطَّعَامِ وَصِنْفِهِ. فَقَدْ هَدَانَا وَعَلَّمَنَا النَّوْعَ الْكَاشِفَ لِلْمَسْغَبَةِ الْمُزِيلَ لِلْمَخْمَصَةِ. وَأَمَّا الْمَرَضُ فَإِنَّهُ يُزِيلُهُ بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْأَسْبَابِ: ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ، رُوحَانِيَّةٌ وَجُسْمَانِيَّةٌ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ الدَّوَاءُ مُزِيلًا ثُمَّ الدَّوَاءُ بِنَوْعِهِ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَجْسَامِ فِي إزَالَةِ الدَّاءِ الْمُعَيَّنِ، ثُمَّ ذَلِكَ النَّوْعُ الْمُعَيَّنُ يَخْفَى عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ بَلْ عَلَى عَامَّتِهِمْ دَرْكُهُ، وَمَعْرِفَتُهُ الْخَاصَّةُ الْمُزَاوِلُونَ مِنْهُمْ هَذَا الْفَنَّ أُولُو الْأَفْهَامِ وَالْعُقُولِ يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ قَدْ أَفْنَى كَثِيرًا مِنْ عُمُرِهِ فِي مَعْرِفَتِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ يَخْفَى عَلَيْهِ نَوْعُ الْمَرَضِ وَحَقِيقَتُهُ، وَيَخْفَى عَلَيْهِ دَوَاؤُهُ وَشِفَاؤُهُ، فَفَارَقَتْ الْأَسْبَابُ الْمُزِيلَةُ لِلْمَرَضِ، الْأَسْبَابَ الْمُزِيلَةَ لِلْمَخْمَصَةِ فِي هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْبَيِّنَةِ وَغَيْرِهَا، فَكَذَلِكَ افْتَرَقَتْ أَحْكَامُهَا كَمَا ذَكَرْنَا، وَبِهَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ الْأَقْيِسَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ فِيمَا يَسْقُطُ وَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ مَا حَضَرَنِي الْآنَ. أَمَّا سُقُوطُ

مَا يَسْقُطُ مِنْ الْقِيَامِ وَالصِّيَامِ وَالِاغْتِسَالِ فَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ مُسْتَيْقَنَةٌ بِخِلَافِ التَّدَاوِي، وَأَيْضًا: فَإِنَّ تَرْكَ الْمَأْمُورِ بِهِ أَيْسَرُ مِنْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . فَانْظُرْ كَيْفَ أَوْجَبَ الِاجْتِنَابَ عَنْ كُلِّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَفَرَّقَ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ بَيْنَ الْمُسْتَطَاعِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا يَكَادُ يَكُونُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْوَاجِبَاتِ مِنْ الْقِيَامِ وَالْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ تَسْقُطُ بِأَنْوَاعٍ مِنْ الْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِاسْتِبَاحَةِ شَيْءٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ، وَهَذَا بَيِّنٌ بِالتَّأَمُّلِ. وَأَمَّا الْحِلْيَةُ: فَإِنَّمَا أُبِيحَ الذَّهَبُ لِلْأَنْفِ وَرَبْطِ الْأَسْنَانِ؛ لِأَنَّهُ اضْطِرَارٌ، وَهُوَ يَسُدُّ الْحَاجَةَ يَقِينًا كَالْأَكْلِ فِي الْمَخْمَصَةِ. أَمَّا لُبْسُ الْحَرِيرِ: لِلْحَكَّةِ وَالْجَرَبِ إنْ سُلِّمَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ لَيْسَا مُحَرَّمَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّهُمَا قَدْ أُبِيحَ لِأَحَدِ صِنْفَيْ الْمُكَلَّفِينَ، وَأُبِيحَ لِلصِّنْفِ الْآخَرِ بَعْضُهُمَا، وَأُبِيحَ التِّجَارَةُ فِيهِمَا، وَإِهْدَاؤُهُمَا لِلْمُشْرِكِينَ، فَعُلِمَ أَنَّهُمَا أُبِيحَا لِمُطْلَقِ الْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ إلَى التَّدَاوِي أَقْوَى مِنْ الْحَاجَةِ إلَى تَزَيُّنِ النِّسَاءِ بِخِلَافِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ النَّجَاسَاتِ، وَأُبِيحَ أَيْضًا لِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ بِذَلِكَ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ. ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَرِيرِ وَالطَّعَامِ: أَنَّ بَابَ الطَّعَامِ يُخَالِفُ بَابَ اللِّبَاسِ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الطَّعَامِ فِي الْأَبْدَانِ أَشَدُّ مِنْ تَأْثِيرِ اللِّبَاسِ عَلَى مَا قَدْ مَضَى، فَالْمُحَرَّمُ مِنْ الطَّعَامِ لَا يُبَاحُ إلَّا لِلضَّرُورَةِ الَّتِي هِيَ الْمَسْغَبَةُ وَالْمَخْمَصَةُ، وَالْمُحَرَّمُ مِنْ اللِّبَاسِ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ وَلِلْحَاجَةِ أَيْضًا، هَكَذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ، وَلَا جَمْعَ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ مَعْلُومٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشَّرْعِيَّاتِ، وَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ مَا يُعَارَضُ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ، أَيُتَدَاوَى بِهَا؟ فَقَالَ:

«إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءٍ» . فَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ رَدًّا عَلَى مَنْ أَبَاحَهُ، وَسَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ، مِثْلُهَا قِيَاسًا، خِلَافًا لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ قِيَاسَ الْمُحَرَّمِ مِنْ الطَّعَامِ أَشْبَهُ مِنْ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ، بَلْ الْخَمْرُ قَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي بَعْضِ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ أَبَاحَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ نَوْعِهَا الشُّرْبَ دُونَ الْإِسْكَارِ، وَالْمَيْتَةُ، وَالدَّمُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: الْخَمْرُ قَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هِيَ دَوَاءٌ بِخِلَافِ غَيْرِهَا، وَأَيْضًا فَفِي إبَاحَةِ التَّدَاوِي بِهَا إجَازَةُ اصْطِنَاعِهَا، وَاعْتِصَارِهَا، وَذَلِكَ دَاعٍ إلَى شُرْبِهَا، وَلِذَلِكَ اخْتَصَّتْ بِالْحَدِّ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْمَطَاعِمِ الْخَبِيثَةِ؛ لِقُوَّةِ مَحَبَّةِ الْأَنْفُسِ لَهَا. فَأَقُولُ: أَمَّا قَوْلُك: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هِيَ دَوَاءٌ، فَهُوَ حَقٌّ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ، عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِي حَرَامٍ» . ثُمَّ مَاذَا تُرِيدُ بِهَذَا، أَتُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ فِيهَا قُوَّةً طَبِيعِيَّةً مِنْ السُّخُونَةِ وَغَيْرِهَا؟ جَرَتْ الْعَادَةُ فِي الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ أَنَّهُ يَنْدَفِعُ فِيهَا بَعْضُ الْأَدْوَاءِ الْبَارِدَةِ. كَسَائِرِ الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ الَّتِي أَوْدَعَهَا جَمِيعَ الْأَدْوِيَةِ مِنْ الْأَجْسَامِ. أَمْ تُرِيدُ شَيْئًا آخَرَ، فَإِنْ أَرَدْت الْأَوَّلَ فَهُوَ بَاطِلٌ بِالْقَضَايَا الْمُجَرَّبَةِ الَّتِي تَوَاطَأَتْ عَلَيْهَا الْأُمَمُ، وَجَرَتْ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مَجْرَى الضَّرُورِيَّاتِ، بَلْ هُوَ رَدٌّ لِمَا يُشَاهَدُ وَيُعَايَنُ، بَلْ قَدْ قِيلَ إنَّهُ رَدُّ الْقُرْآنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] .

وَلَعَلَّ هَذَا فِي الْخَمْرِ أَظْهَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَقَالَاتِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ طَيِّبِ الْأَبْدَانِ. وَإِنْ أَرَدْت أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ أَنَّهَا دَاءُ النُّفُوسِ، وَالْقُلُوبِ، وَالْعُقُولِ، وَهِيَ أُمُّ الْخَبَائِثِ وَالنَّفْسِ، وَالْقَلْبُ هُوَ الْمَلِكُ الْمَطْلُوبُ صَلَاحُهُ وَكَمَالُهُ، وَإِنَّمَا الْبَدَنُ آلَةٌ لَهُ، وَهُوَ تَابِعٌ لَهُ، مُطِيعٌ لَهُ طَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ رَبَّهَا، فَإِذَا صَلُحَ الْقَلْبُ صَلُحَ الْبَدَنُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَ [الْقَلْبُ فَسَدَ] الْبَدَنُ كُلُّهُ. فَالْخَمْرُ هِيَ دَاءٌ، وَمَرَضٌ لِلْقَلْبِ، مُفْسِدٌ لَهُ، مُضَعْضِعٌ لِأَفْضَلِ خَوَاصِّهِ الَّذِي هُوَ الْعَقْلُ وَالْعِلْمُ، وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَ الْبَدَنُ كُلُّهُ، كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، فَتَصِيرُ دَاءً لِلْبَدَنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِوَاسِطَةِ كَوْنِهَا دَاءً لِلْقَلْبِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمَسْرُوقَةِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا صَلُحَ عَلَيْهَا الْبَدَنُ، وَنَبَتَ، وَسَمِنَ، لَكِنْ يَفْسُدُ عَلَيْهَا الْقَلْبُ فَيَفْسُدُ الْبَدَنُ بِفَسَادِهِ، وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ الَّتِي فِيهَا، فَإِنَّهَا مَنْفَعَةٌ لِلْبَدَنِ فَقَطْ، وَنَفْعُهَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ، فَهِيَ وَإِنْ أَصْلَحَتْ شَيْئًا يَسِيرًا فَهِيَ فِي جَنْبِ مَا تُفْسِدُهُ كَلَا إصْلَاحٍ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] . فَهَذَا لَعَمْرِي شَأْنُ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الْقُوَّةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ الْبَدَنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا يُرْبِي عَلَى مَا فِيهَا مِنْ مَنْفَعَةٍ قَلِيلَةٍ، تَكُونُ فِي الْبَدَنِ وَحْدَهُ فِي الدُّنْيَا خَاصَّةً. عَلَى أَنَّا وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ جِهَةَ الْمَفْسَدَةِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّا نَقْطَعُ أَنَّ فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا يُرْبِي عَلَى مَا نَظُنُّهُ مِنْ الْمَصَالِحِ، فَافْهَمْ هَذَا، فَإِنَّ بِهِ يَظْهَرُ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ وَسِرُّهَا، وَأَمَّا إقْضَاؤُهُ إلَى اعْتِصَارِهَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَخْذُهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ اعْتِصَارُهَا، وَإِنَّمَا الْقَوْلُ إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً أَنَّ هَذَا مُنْتَقَضٌ بِإِطْفَاءِ الْحَرْقِ بِهَا، وَدَفْعِ الْغُصَّةِ إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا.

وَأَمَّا اخْتِصَاصُهَا بِالْحَدِّ، فَإِنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ يُوجِبُ الْحَدَّ فِي الْمَيْتَةِ أَيْضًا، وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، لَكِنْ الْفَرْقُ أَنَّ فِي النُّفُوسِ دَاعِيًا طَبِيعِيًّا، وَبَاعِثًا إرَادِيًّا إلَى الْخَمْرِ. فَنُصِبَ رَادِعٌ شَرْعِيٌّ وَزَاجِرٌ دُنْيَوِيٌّ أَيْضًا لِيَتَقَابَلَا، وَيَكُونُ مَدْعَاةً إلَى قِلَّةِ شُرْبِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُهَا مِمَّا لَيْسَ فِي النُّفُوسِ إلَيْهِ كَثِيرُ مَيْلٍ، وَلَا عَظِيمُ طَلَبٍ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا رَوَى حَسَّانُ بْنُ مُخَارِقٍ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: «اشْتَكَتْ بِنْتٌ لِي فَنَبَذْت لَهَا فِي كُوزٍ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَغْلِي، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقُلْت إنَّ بِنْتِي اشْتَكَتْ فَنَبَذْنَا لَهَا هَذَا، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِي حَرَامٍ» . رَوَاهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ: أَنَّ رَجُلًا وُصِفَ لَهُ ضُفْدَعٌ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ، فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ وَقَالَ: «إنَّ نَقْنَقَتَهَا تَسْبِيحٌ» . فَهَذَا حَيَوَانٌ مُحَرَّمٌ، وَلَمْ يُبَحْ لِلتَّدَاوِي، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلَعَلَّ تَحْرِيمَ الضُّفْدَعِ أَخَفُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ غَيْرِهَا، فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهَا إنَّ نَقْنَقَتَهَا تَسْبِيحٌ، فَمَا ظَنُّك بِالْخِنْزِيرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ بَيِّنٌ لَك اسْتِخْفَافُهُ بِطَلَبِ الطِّبِّ، وَاقْتِضَائِهِ وَإِجْرَائِهِ مَجْرَى الرِّفْقِ بِالْمَرِيضِ، وَتَطْيِيبِ قَلْبِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ لِرَجُلٍ قَالَ لَهُ: أَنَا طَبِيبٌ قَالَ: «أَنْتَ رَفِيقٌ، وَاَللَّهُ الطَّبِيبُ» .

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: مَا رُوِيَ أَيْضًا فِي سُنَنِهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ» وَهُوَ نَصٌّ جَامِعٌ مَانِعٌ، وَهُوَ صُورَةُ الْفَتْوَى فِي الْمَسْأَلَةِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ: «مَا أُبَالِي مَا أُتِيت أَوْ مَا رَكِبْت - إذَا شَرِبْت تِرْيَاقًا، أَوْ نَطَقْت تَمِيمَةً، أَوْ قُلْت الشِّعْرَ مِنْ نَفْسِي» . مَعَ مَا رُوِيَ مِنْ كَرَاهَةِ مَنْ كَرِهَ التِّرْيَاقَ مِنْ السَّلَفِ، إلَى أَنَّهُ لَمْ يُقَابِلْ ذَلِكَ نَصٌّ عَامٌّ وَلَا خَاصٌّ يَبْلُغُ ذُرْوَةَ الْمَطْلَبِ، وَسَنَامَ الْمَقْصِدِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَوْلَا أَنِّي كَتَبْت هَذَا مِنْ حِفْظِي لَاسْتَقْصَيْتُ الْقَوْلَ عَلَى وَجْهٍ يُحِيطُ بِمَا دَقَّ وَجَلَّ، وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ. الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ رَابِعٌ: الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَغَيْرِهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ فَقَالَ: «صَلُّوا فِيهَا فَإِنَّهَا بَرَكَةٌ» وَسُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ فَقَالَ: «لَا تُصَلُّوا فِيهَا فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ الشَّيَاطِينِ» ، وَوَجْهُ الْحُجَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَطْلَقَ الْإِذْنَ بِالصَّلَاةِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ حَائِلًا يَقِي مِنْ مُلَامَسَتِهَا، وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ إلَى الْبَيَانِ، فَلَوْ احْتَاجَ لَبَيَّنَهُ، وَقَدْ مَضَى تَقْرِيرُ هَذَا. وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ، فِي حِكَايَةِ الْحَالِ، مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ. يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ. فَإِنَّهُ تَرَكَ اسْتِفْصَالَ السَّائِلِ أَهُنَاكَ حَائِلٌ يَحُولُ بَيْنَك وَبَيْنَ أَبْعَارِهَا؟ مَعَ ظُهُورِ الِاحْتِمَالِ، لَيْسَ مَعَ قِيَامِهِ فَقَطْ، وَأُطْلِقَ الْإِذْنُ، بَلْ هَذَا أَوْكَدُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ هُنَا إلَى الْبَيَانِ أَمَسُّ وَأَوْكَدُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ نَجِسَةً كَأَرْوَاثِ الْآدَمِيِّينَ، لَكَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهَا إمَّا

مُحَرَّمَةً كَالْحُشُوشِ وَالْكُنُفِ، أَوْ مَكْرُوهَةً كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً؛ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْأَخْبَاثِ وَالْأَنْجَاسِ، فَإِمَّا أَنْ يُسْتَحَبَّ الصَّلَاةُ فِيهَا وَيُسَمِّيهَا بَرَكَةً، وَيَكُونُ شَأْنُهَا شَأْنَ الْحُشُوشِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ، وَحَاشَا الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ذَلِكَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رُوِيَ: أَنَّ أَبَا مُوسَى صَلَّى فِي مَبَارِكِ الْغَنَمِ، وَأَشَارَ إلَى الْبَرِّيَّةِ وَقَالَ: هَهُنَا وَثَمَّ سَوَاءٌ، وَهُوَ الصَّاحِبُ الْفَقِيهُ، الْعَالِمُ بِالتَّنْزِيلِ، الْفَاهِمُ لِلتَّأْوِيلِ، سَوَّى بَيْنَ مَحَلِّ الْإِبْعَارِ وَبَيْنَ مَا خَلَا عَنْهَا، فَكَيْفَ يُجَامِعُ هَذَا الْقَوْلَ بِنَجَاسَتِهَا؟ وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ، فَلَيْسَتْ اخْتَصَّتْ بِهِ دُونَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَالظِّبَاءِ وَالْخَيْلِ، إذْ لَوْ كَانَ السَّبَبُ نَجَاسَةَ الْبَوْلِ، لَكَانَ تَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ يَقِينًا. الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ سَابِعٌ: مَا ثَبَتَ وَاسْتَفَاضَ، مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَأَدْخَلَهَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ الَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ بِقَاعِ الْأَرْضِ وَبَرَّكَهَا حَتَّى طَافَ بِهَا أُسْبُوعًا، وَكَذَلِكَ إذْنُهُ لِأُمِّ سَلَمَةَ أَنْ تَطُوفَ رَاكِبَةً. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَ الدَّوَابِّ مِنْ الْعَقْلِ مَا تَمْتَنِعُ مِنْ تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، الْمَأْمُورِ بِتَطْهِيرِهِ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ، وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، فَلَوْ كَانَتْ أَبْوَالُهَا نَجِسَةً لَكَانَ فِيهِ تَعْرِيضُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِلتَّنْجِيسِ، مَعَ أَنَّ الضَّرُورَةَ مَا دَعَتْ إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ دَعَتْ إلَيْهِ، وَلِهَذَا اسْتَنْكَرَ بَعْضُ مَنْ يَرَى تَنْجِيسَهَا إدْخَالَ الدَّوَابِّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَحَسْبُك بِقَوْلٍ بُطْلَانًا رَدُّهُ فِي وَجْهِ السُّنَّةِ الَّتِي لَا رَيْبَ فِيهَا. الدَّلِيلُ الْخَامِسُ: وَهُوَ الثَّامِنُ: مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «فَأَمَّا مَا أُكِلَ لَحْمُهُ فَلَا بَأْسَ بِبَوْلِهِ» . وَهَذَا تَرْجَمَةُ الْمَسْأَلَةِ، إلَّا أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَبُولًا وَرَدًّا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى جَابِرٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا رَيْبَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ قَوْلُ صَاحِبٍ، وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ، فَيَنْبَنِي عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ أَوْلَى

مِنْ قَوْلِ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ انْتَشَرَ فِي سَائِرِهِمْ، وَلَمْ يُنْكِرُوهُ فَصَارَ إجْمَاعًا سُكُوتِيًّا. الدَّلِيلُ السَّادِسُ: وَهُوَ التَّاسِعُ: الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ سَاجِدًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إلَى قَوْمٍ قَدْ نَحَرُوا جَزُورًا لَهُمْ، فَجَاءَ بِفَرْثِهَا وَسَلَاهَا فَوَضَعَهُمَا عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ سَاجِدٌ، وَلَمْ يَنْصَرِفْ حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ» . فَهَذَا أَيْضًا بَيِّنٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْفَرْثَ وَالسَّلَى لَمْ يَقْطَعْ الصَّلَاةَ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ فِيمَا أَرَى إلَّا عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ. إمَّا أَنْ يُقَالَ هُوَ مَنْسُوخٌ، وَأَعْنِي بِالنَّسْخِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُرْتَفِعٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ ثَبَتَ بِخِطَابٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِيَقِينٍ، وَإِمَّا بِالظَّنِّ فَلَا يَثْبُتُ النَّسْخُ، وَأَيْضًا فَإِنَّا مَا عَلِمْنَا أَنَّ اجْتِنَابَ النَّجَاسَةِ كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ، ثُمَّ صَارَ وَاجِبًا، لَا سِيَّمَا مَنْ يَحْتَجُّ عَلَى النَّجَاسَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] ، وَسُورَةُ الْمُدَّثِّرِ فِي أَوَّلِ الْمُنَزَّلِ، فَيَكُونُ فَرْضُ التَّطْهِيرِ مِنْ النَّجَاسَاتِ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَوَّلِ الْفَرَائِضِ، فَهَذَا هَذَا، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ حَمْلِ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَعَامَّةُ مَنْ يُخَالِفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ، فَيَلْزَمُهُمْ تَرْكُ الْحَدِيثِ. ثُمَّ هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ؛ لِخِلَافِهِ الْأَحَادِيثَ الصِّحَاحَ فِي دَمِ الْحَيْضِ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ. ثُمَّ إنَّهُمْ لَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَأَنَّ إعَادَةَ الصَّلَاةِ مِنْهُ أَوْلَى فَهَذَا هَذَا. لَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يُقَالَ: الْفَرْثُ، وَالسَّلَى لَيْسَ بِنَجِسٍ وَإِنَّمَا هُوَ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ فَرْثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لِكَثْرَةِ الْقَائِلِينَ بِهِ وَظُهُورِ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ، وَبِطُولِ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يُوجِبُ تَعَيُّنَ هَذَا.

فَإِنْ قِيلَ: فَفِيهِ السَّلَى، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ دَمٌ. قُلْنَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَمًا يَسِيرًا، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَسِيرٌ، وَالدَّمُ الْيَسِيرُ مَعْفُوٌّ عَنْ حَمْلِهِ فِي الصَّلَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالسَّلَى لَحْمٌ مِنْ ذَبِيحَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ نَجِسٌ، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ حُرِّمَ حِينَئِذٍ ذَبَائِحُ الْمُشْرِكِينَ، بَلْ مِنْ الْبَيِّنِ، أَوْ الْمَقْطُوعِ بِهِ، أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حُرِّمَتْ حِينَئِذٍ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنَجِّسُونَ ذَبَائِحَ قَوْمِهِمْ، وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِبُ إلَّا مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ، أَمَّا مَا ذَبَحَهُ قَوْمُهُ فِي دُورِهِمْ لَمْ يَكُنْ يَتَجَنَّبُهُ، وَلَوْ كَانَ تَحْرِيمُ ذَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ قَدْ وَقَعَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، لَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفَرِ الْقَلِيلِ، الَّذِينَ أَسْلَمُوا مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ، فَإِنَّ عَامَّةَ أَهْلِ الْبَلَدِ مُشْرِكُونَ، وَهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا، إلَّا مِنْ طَعَامِهِمْ وَخُبْزِهِمْ، وَفِي أَوَانِيهِمْ لِقِلَّتِهِ وَضَعْفِهِمْ وَفَقْرِهِمْ. ثُمَّ الْأَصْلُ عَدَمُ التَّحْرِيمِ حِينَئِذٍ، فَمَنْ ادَّعَاهُ احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ. الدَّلِيلُ السَّابِعُ: وَهُوَ الْعَاشِرُ: مَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ نَهَى عَنْ الِاسْتِجْمَارِ بِالْعَظْمِ وَالْبَعْرِ وَقَالَ: «إنَّهُ زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ» . وَفِي لَفْظٍ: قَالَ: «فَسَأَلُونِي الطَّعَامَ لَهُمْ وَلِدَوَابِّهِمْ، فَقُلْت: لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَوْفَرُ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ» . فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُسْتَنْجَى بِالْعَظْمِ وَالْبَعْرِ، الَّذِي هُوَ زَادُ إخْوَانِنَا مِنْ الْجِنِّ، وَعَلَفُ دَوَابِّهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا نُنَجِّسَهُ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا اسْتَنْبَطَ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِزَادِ الْإِنْسِ. ثُمَّ إنَّهُ قَدْ اسْتَفَاضَ النَّهْيُ فِي ذَلِكَ وَالتَّغْلِيظَ حَتَّى قَالَ:

«مَنْ تَقَلَّدَ وَتَرًا، أَوْ اسْتَنْجَى بِعَظْمٍ أَوْ رَجِيعٍ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا مِنْهُ بَرِيءٌ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْبَعْرُ فِي نَفْسِهِ نَجِسًا لَمْ يَكُنْ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ يُنَجِّسُهُ، وَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ الْبَعْرِ الْمُسْتَنْجَى بِهِ، وَالْبَعْرِ الَّذِي لَا يُسْتَنْجَى بِهِ، وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ مَا فَرَّقَتْ السُّنَّةُ بَيْنَهُ. ثُمَّ إنَّ الْبَعْرَ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ عَلَفًا لِقَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ بِذَلِكَ جَلَّالَةً، وَلَوْ جَازَ أَنْ تَصِيرَ جَلَّالَةً لَجَازَ أَنْ تُعْلَفَ رَجِيعَ الْإِنْسِ، وَرَجِيعَ الدَّوَابِّ، فَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الزَّائِدَ لَهُمْ مَا فَضَلَ عَنْ الْإِنْسِ، وَلِدَوَابِّهِمْ مَا فَضَلَ عَنْ دَوَابِّ الْإِنْسِ مِنْ الْبَعْرِ، شَرَطَ فِي طَعَامِهِمْ كُلَّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَلَا بُدَّ أَنْ يُشْرَطَ فِي عَلَفِ دَوَابِّهِمْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَهُوَ الطَّهَارَةُ. وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، لَمَّا أَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَقَالَ: «إنَّهَا رِكْسٌ» . إنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهَا رَوْثَةَ آدَمِيٍّ وَنَحْوِهِ، عَلَى أَنَّهَا قَضِيَّةُ عَيْنٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ رَوْثَةَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَرَوْثَةَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَلَا يَعُمُّ الصِّنْفَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ بِأَنَّهَا مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ. مَعَ أَنَّ لَفْظَ: " الرِّكْسِ " لَا يَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّ الرِّكْسَ: هُوَ الْمَرْكُوسُ أَيْ الْمَرْدُودُ، وَهُوَ مَعْنَى الرَّجِيعِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالرَّجِيعِ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ: إمَّا لِنَجَاسَتِهِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ عَلَفَ دَوَابِّ إخْوَانِنَا مِنْ الْجِنِّ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: وَهُوَ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُبَيِّنْهُ فَلَيْسَتْ نَجِسَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ تَكْثُرُ مُلَابَسَةُ النَّاسِ لَهَا، وَمُبَاشَرَتُهُمْ لِكَثِيرٍ مِنْهَا، خُصُوصًا الْأُمَّةَ الَّتِي بُعِثَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَإِنَّ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ غَالِبُ أَمْوَالِهِمْ، وَلَا يَزَالُونَ يُبَاشِرُونَهَا، وَيُبَاشِرُونَ أَمَاكِنَهَا فِي مُقَامِهِمْ وَسَفَرِهِمْ، مَعَ

كَثْرَةِ الِاحْتِفَاءِ فِيهِمْ، حَتَّى أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَأْمُرُ بِذَلِكَ: تَمَعْدَدُوا وَاخْشَوْشِنُوا وَامْشُوا حُفَاةً وَانْتَعِلُوا، وَمَحَالِبُ الْأَلْبَانِ كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ أَبْوَالِهَا، وَلَيْسَ ابْتِلَاؤُهُمْ بِهَا بِأَقَلَّ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ فِي أَوَانِيهِمْ، فَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً يَجِبُ غَسْلُ الثِّيَابِ، وَالْأَبْدَانِ، وَالْأَوَانِي مِنْهَا، وَعَدَمُ مُخَالَطَتِهِ، وَيُمْنَعُ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ ذَلِكَ، وَيَجِبُ تَطْهِيرُ الْأَرْضِ مِمَّا فِيهِ ذَلِكَ إذَا صَلَّى فِيهَا، وَالصَّلَاةُ فِيهَا تَكْثُرُ فِي أَسْفَارِهِمْ، وَفِي مَرَاحِ أَغْنَامِهِمْ، وَيَحْرُمُ شُرْبُ اللَّبَنِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ بَعْرُهَا، وَتُغْسَلُ الْيَدُ إذَا أَصَابَهَا الْبَوْلُ، أَوْ رُطُوبَةُ الْبَعْرِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ النَّجَاسَةِ، لَوَجَبَ أَنْ يُبَيِّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بَيَانًا تَحْصُلُ بِهِ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ، وَلَوْ بَيَّنَ ذَلِكَ لَنُقِلَ جَمِيعُهُ أَوْ بَعْضُهُ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ وَعَادَةَ الْقَوْمِ تُوجِبُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ نَجَاسَتَهَا دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَتِهَا مِنْ جِهَةِ تَقْرِيرِهِ لَهُمْ عَلَى مُبَاشَرَتِهَا، وَعَدَمِ النَّهْيِ عَنْهُ، وَالتَّقْرِيرُ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ. وَمِنْ وَجْهٍ أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَجِبُ بَيَانُهُ بِالْخِطَابِ، وَلَا تُحَالُ الْأُمَّةُ فِيهِ عَلَى الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْأُصُولِ لَا مِنْ الْفُرُوعِ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ مَا سَكَتَ اللَّهُ عَنْهُ، فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ، لَا سِيَّمَا إذَا وَصَلَ بِهَذَا الْوَجْهِ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ: وَهُوَ الثَّانِيَ عَشَرَ: وَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ، وَالتَّابِعِينَ، وَعَامَّةَ السَّلَفِ قَدْ اُبْتُلِيَ النَّاسُ فِي أَزْمَانِهِمْ بِأَضْعَافِ مَا اُبْتُلُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي كَثْرَةِ وُقُوعِ الْحَوَادِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: إمَّا الْقَوْلُ بِالطَّهَارَةِ، أَوْ عَدَمُ الْحُكْمِ بِالنَّجَاسَةِ، مِثْلُ: مَا ذَكَرْنَا عَنْ أَبِي مُوسَى، وَأَنَسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ: أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَعَلَى رِجْلَيْهِ أَثَرُ السِّرْقِينِ، وَهَذَا قَدْ عَايَنَ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ بِالْعِرَاقِ، وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: إنَّ لِي غَنَمًا تَبْعَرُ فِي مَسْجِدِي. وَهَذَا قَدْ عَايَنَ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ بِالْحِجَازِ.

وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: فِيمَنْ يُصَلِّي وَقَدْ أَصَابَهُ السِّرْقِينُ، قَالَ: لَا بَأْسَ، وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ: أَصَابَتْ عِمَامَتَهُ بَوْلُ بَعِيرٍ فَقَالَا جَمِيعًا: لَا بَأْسَ، وَسَأَلَهُمَا جَعْفَرٌ الصَّادِقُ، وَهُوَ أَشْبَهَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَسْلِ إمَّا ضَعِيفٌ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ وَالتَّنْظِيفِ، فَإِنَّ نَافِعًا لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَيْهِ طَرِيقَةُ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ وَلَا يَكَادُ يُخَالِفُهُ وَالْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَلْفَاظٌ إنْ ثَبَتَتْ فَلَيْسَتْ صَرِيحَةً بِنَجَاسَةِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، مِثْلُ مَا رَوَى عَنْهُ الْحَسَنُ أَنَّهُ قَالَ: الْبَوْلُ كُلُّهُ يُغْسَلُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِأَبْوَالِ الْغَنَمِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بَوْلَ الْإِنْسَانِ، الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ. وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ قَالَ: الْأَبْوَالُ كُلُّهَا أَنْجَاسٌ. فَلَعَلَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ إنْ ثَبَتَ عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ الْقَوْلُ بِنَجَاسَتِهَا. وَمِنْ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ: أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ عَلَى عَدَمِ النَّجَاسَةِ، بَلْ مُقْتَضَاهُ أَنَّ التَّنْجِيسَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُحْدَثَةِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى إبْطَالِ الْحَوَادِثِ، لَا سِيَّمَا مَقَالَةٌ مُحْدَثَةٌ مُخَالِفَةٌ لِمَا عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَعْيَانَ الْمَوْجُودَةَ فِي زَمَانِهِمْ وَمَكَانِهِمْ، إذَا أَمْسَكُوا عَنْ تَحْرِيمِهَا وَتَنْجِيسِهَا، مَعَ الْحَاجَةِ إلَى بَيَانِ ذَلِكَ كَانَ تَحْرِيمُهَا وَتَنْجِيسُهَا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُمْسِكُوا عَنْ بَيَانِ أَفْعَالٍ يُحْتَاجُ إلَى بَيَانِ وُجُوبِهَا لَوْ كَانَ ثَابِتًا، فَيَجِيءُ مَنْ بَعْدَهُمْ فَيُوجِبُهَا، وَمَتَى قَامَ الْمُقْتَضِي لِلتَّحْرِيمِ أَوْ الْوُجُوبِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا وُجُوبًا وَلَا تَحْرِيمًا، كَانَ إجْمَاعًا عَنْهُمْ عَلَى عَدَمِ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ مُعْتَمَدَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَهِيَ أَصْلٌ عَظِيمٌ يَنْبَغِي لِلْفَقِيهِ أَنْ يَتَأَمَّلَهَا، وَلَا يَغْفُلُ عَنْ غَوْرِهَا، لَكِنْ لَا يُسَلَّمُ إلَّا بِعَدَمِ ظُهُورِ الْخِلَافِ فِي الصَّدْرِ

الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ مُحَقَّقٌ بَطَلَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ. وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ. الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: وَهُوَ الثَّالِثَ عَشَرَ فِي الْحَقِيقَةِ: أَنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ الْحُبُوبَ مِنْ الشَّعِيرِ، وَالْبَيْضَاءِ، وَالذُّرَةِ، وَنَحْوِهَا كَانَتْ تُزْرَعُ فِي مَزَارِعِ الْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَيُعْلَمُ أَنَّ الدَّوَابَّ إذَا دَاسَتْ فَلَا بُدَّ أَنْ تَرُوثَ وَتَبُولَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُنَجِّسُ الْحُبُوبَ لَحُرِّمَتْ مُطْلَقًا، أَوْ لَوَجَبَ تَنْجِيسُهَا. وَقَدْ أَسْلَمَتْ الْحِجَازُ، وَالْيَمَنُ وَنَجْدٌ، وَسَائِرُ جَزَائِرِ الْعَرَبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعَثَ إلَيْهِمْ سُعَاتَهُ وَعُمَّالَهُ يَأْخُذُونَ عُشُورَ حُبُوبِهِمْ مِنْ الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَتْ سَمْرَاءُ الشَّامِ تُجْلَبُ إلَى الْمَدِينَةِ، فَيَأْكُلُ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنُونَ عَلَى عَهْدِهِ. وَعَامَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ تَمْرٍ وَزَرْعٍ، وَكَانَ يُعْطِي الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَائِهِ ثَمَانِينَ وَسْقَ شَعِيرٍ مِنْ غَلَّةِ خَيْبَرَ، وَكُلُّ هَذِهِ تُدَاسُ بِالدَّوَابِّ الَّتِي تَرُوثُ وَتَبُولُ عَلَيْهَا، فَلَوْ كَانَتْ تُنَجَّسُ بِذَلِكَ لَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى أَقَلِّ الْأَحْوَالِ تَطْهِيرَ الْحَبِّ وَغَسْلَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَلَا فُعِلَ عَلَى عَهْدِهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحْكُمْ بِنَجَاسَتِهَا. وَلَا يُقَالُ: هُوَ لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّ ذَلِكَ الْحَبَّ الَّذِي أَكَلَهُ مِمَّا أَصَابَهُ الْبَوْلُ، وَالْأَصْلُ الطَّهَارَةُ، لِأَنَّا نَقُولُ فَصَاحِبُ الْحَبِّ قَدْ تَيَقَّنَ نَجَاسَةَ بَعْضِ حَبِّهِ، وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ اسْتِعْمَالُ الْجَمِيعِ، بَلْ الْوَاجِبُ تَطْهِيرُ الْجَمِيعِ، كَمَا إذَا عَلِمَ نَجَاسَةَ بَعْضِ الْبَدَنِ، أَوْ الثَّوْبِ، أَوْ الْأَرْضِ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ مَكَانُ النَّجَاسَةِ غَسَلَ مَا يَتَيَقَّنُ بِهِ غَسْلَهَا. وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ. ثُمَّ اشْتِبَاهُ الطَّاهِرِ بِالنَّجَسِ نَوْعٌ مِنْ اشْتِبَاهِ الطَّعَامِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ، فَكَيْفَ يُبَاحُ أَحَدُهُمَا مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ،؟ فَإِنَّ الْقَائِلَ إمَّا أَنْ يَقُولَ: يَحْرُمُ الْجَمِيعُ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ بِالتَّحَرِّي. فَأَمَّا الْأَكْلُ مِنْ أَحَدِهِمَا بِلَا تَحَرٍّ فَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا جَوَّزَهُ، وَإِنَّمَا يَسْتَمْسِكُ بِالْأَصْلِ مَعَ تَيَقُّنِ النَّجَاسَةِ. وَلَا مَحِيصَ عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ إلَّا إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إمَّا أَنْ يُقَالَ بِطَهَارَةِ هَذِهِ الْأَبْوَالِ

وَالْأَرْوَاثِ، أَوْ أَنْ يُقَالَ: عُفِيَ عَنْهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِلْحَاجَةِ، كَمَا يُعْفَى عَنْ رِيقِ الْكَلْبِ فِي بَدَنِ الصَّيْدِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَكَمَا يَطْهُرُ مَحَلُّ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعِ الْحَاجَاتِ. فَيُقَالُ: الْأَصْلُ فِيمَا اسْتَحَلَّ جَرَيَانُهُ عَلَى وِفَاقِ الْأَصْلِ، فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ اسْتِحْلَالَ هَذَا مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ فَقَدْ ادَّعَى مَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا بِحُجَّةٍ قَوِيَّةٍ، وَلَيْسَ مَعَهُ مِنْ الْحُجَّةِ مَا يُوجِبُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا مُخَالِفًا لِلْأَصْلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ قَامَ دَلِيلٌ يُوجِبُ الْحَظْرَ لَأَمْكَنَ أَنْ يُسْتَثْنَى هَذَا الْمَوْضِعُ. فَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ الْعُمُومِ الضَّعِيفِ، وَالْقِيَاسِ الضَّعِيفِ، فَدَلَالَةُ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى الطَّهَارَةِ الْمُطْلَقَةِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ تِلْكَ عَلَى النَّجَاسَةِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ. عَلَى أَنَّ ثُبُوتَ طَهَارَتِهَا وَالْعَفْوَ عَنْهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَحَدُ مَوَارِدِ الْخِلَافِ، فَيَبْقَى إلْحَاقُ الْبَاقِي بِهِ بِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَرْقِ، وَمِنْ جِنْسِ هَذَا: الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: وَهُوَ الرَّابِعَ عَشَرَ هُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ، عَلَى دِيَاسِ الْحُبُوبِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا بِالْبَقَرِ وَنَحْوِهَا، مَعَ الْقَطْعِ بِبَوْلِهَا وَرَوْثِهَا عَلَى الْحِنْطَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مُنْكِرٌ، وَلَمْ يَغْسِلْ الْحِنْطَةَ لِأَجْلِ هَذَا أَحَدٌ، وَلَا اُحْتُرِزَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا فِي الْبَيَادِرِ لِوُصُولِ الْبَوْلِ إلَيْهِ، وَالْعِلْمُ بِهَذَا كُلِّهِ عِلْمٌ اضْطِرَارِيٌّ مَا أَعْلَمُ عَلَيْهِ سُؤَالًا، وَلَا أَعْلَمُ لِمَنْ يُخَالِفُ هَذَا شُبْهَةً. وَهَذَا الْعَمَلُ إلَى زَمَانِنَا مُتَّصِلٌ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، لَكِنْ لَمْ نَحْتَجَّ بِإِجْمَاعِ الْأَعْصَارِ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا هَذَا الْخِلَافُ، لِئَلَّا يَقُولَ الْمُخَالِفُ: أَنَا أُخَالِفُ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا احْتَجَجْنَا بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَ ظُهُورِ الْخِلَافِ. وَهَذَا الْإِجْمَاعُ مِنْ جِنْسٍ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى كَوْنِهِمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ الْحِنْطَةَ وَيَلْبَسُونَ الثِّيَابَ وَيَسْكُنُونَ الْبِنَاءَ، فَإِنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ تُزْرَعُ، وَنَتَيَقَّنُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ ذَلِكَ الْحَبَّ وَيُقَرُّونَ عَلَى أَكْلِهِ، وَنَتَيَقَّنُ أَنَّ الْحُبَّ لَا يُدَاسُ إلَّا بِالدَّوَابِّ، وَنَتَيَقَّنُ أَنْ لَا بُدَّ أَنْ تَبُولَ عَلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي يَبْقَى أَيَّامًا، وَيَطُولُ دِيَاسُهَا لَهُ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مُقَدِّمَاتٌ يَقِينِيَّةٌ. الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ: وَهُوَ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:

{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] . فَأَمَرَ بِتَطْهِيرِ بَيْتِهِ الَّذِي هُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَصَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أَمَرَ بِتَنْظِيفِ الْمَسَاجِدِ، وَقَالَ: جُعِلَتْ لِي كُلُّ أَرْضٍ طَيِّبَةٍ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» وَقَالَ: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» . وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الْحَمَامَ لَمْ يَزَلْ مُلَازِمًا لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لِأَمْنِهِ وَعِبَادَةِ بَيْتِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ ذَرْقُهُ يَنْزِلُ فِي الْمَسْجِدِ وَفِي الْمَطَافِ وَالْمُصَلَّى، فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَتَنَجَّسَ الْمَسْجِدُ بِذَلِكَ. وَلَوَجَبَ تَطْهِيرُ الْمَسْجِدِ مِنْهُ، إمَّا بِإِبْعَادِ الْحَمَامِ، أَوْ بِتَطْهِيرِ الْمَسْجِدِ، أَوْ بِتَسْقِيفِ الْمَسْجِدِ، وَلَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ فِي أَفْضَلِ الْمَسَاجِدِ وَأُمِّهَا وَسَيِّدِهَا لِنَجَاسَةِ أَرْضِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ يَقِينًا. وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ قَوْلَيْنِ: إمَّا طَهَارَتُهُ مُطْلَقًا، أَوْ الْعَفْوُ عَنْهُ، كَمَا فِي الدَّلِيلِ قَبْلَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا رُجْحَانَ الْقَوْلِ بِالطَّهَارَةِ الْمُطْلَقَةِ. الدَّلِيلُ الثَّالِثَ عَشَرَ: وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ السَّادِسَ عَشَرَ: مَسْلَكُ التَّشْبِيهِ وَالتَّوْجِيهِ، فَنَقُولُ وَاَللَّهُ الْهَادِي: اعْلَمْ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ، وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ، إنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لِافْتِرَاقِ حَقِيقَتِهِمَا، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ هَذَا طَيِّبًا، وَهَذَا خَبِيثًا. وَأَسْبَابُ التَّحْرِيمِ: إمَّا لِقُوَّةِ السَّبُعِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ فِي نَفْسِ الْبَهِيمَةِ، فَأَكْلُهَا يُورِثُ نَبَاتَ أَبْدَانِنَا مِنْهَا، فَتَصِيرُ أَخْلَاقُ النَّاسِ أَخْلَاقَ السِّبَاعِ، أَوْ لِمَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَإِمَّا خُبْثُ مَطْعَمِهَا كَمَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ مِنْ الطَّيْرِ؛ أَوْ

لِأَنَّهَا فِي نَفْسِهَا مُسْتَخْبَثَةٌ كَالْحَشَرَاتِ فَقَدْ رَأَيْنَا طِيبَ الْمَطْعَمِ يُؤَثِّرُ فِي الْحِلِّ، وَخُبْثَهُ يُؤَثِّرُ فِي الْحُرْمَةِ، كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي لُحُومِ الْجَلَّالَةِ، وَلَبَنِهَا، وَبَيْضِهَا، فَإِنَّهُ حُرِّمَ الطِّيبُ لِاغْتِذَائِهِ بِالْخَبِيثِ، وَكَذَلِكَ النَّبَاتُ الْمُسْقَى بِالْمَاءِ النَّجِسِ، وَالْمُسَمَّدُ بِالسِّرْقِينِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ، وَقَدْ رَأَيْنَا عَدَمَ الطَّعَامِ يُؤَثِّرُ فِي طَهَارَةِ الْبَوْلِ، أَوْ خِفَّةِ نَجَاسَتِهِ، مِثْلُ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ. فَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَشْيَاءَ: مِنْهَا أَنَّ الْأَبْوَالَ قَدْ يُخَفَّفُ شَأْنُهَا بِحَسَبِ الْمُطْعَمِ كَالصَّبِيِّ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُبَاحَاتِ لَا تَكُونُ مَطَاعِمُهَا إلَّا طَيِّبَةً، فَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ تَكُونَ أَبْوَالُهَا طَاهِرَةً لِذَلِكَ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُطْعَمَ إذَا خَبُثَ وَفَسَدَ حُرِّمَ مَا نَبَتَ مِنْهُ مِنْ لَحْمٍ وَلَبَنٍ، وَبَيْضٍ: كَالْجَلَّالَةِ وَالزَّرْعِ الْمُسَمَّدِ، وَكَالطَّيْرِ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ. فَإِذَا كَانَ فَسَادُهُ يُؤَثِّرُ فِي تَنْجِيسِ مَا تُوجِبُهُ الطَّهَارَةُ وَالْحِلُّ، فَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ طِيبُهُ وَحِلُّهُ يُؤَثِّرُ فِي تَطْهِيرِ مَا يَكُونُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ نَجِسًا مُحَرَّمًا، فَإِنَّ الْأَرْوَاثَ، وَالْأَبْوَالَ مُسْتَحِيلَةٌ مَخْلُوقَةٌ فِي بَاطِنِ الْبَهِيمَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ. يُبَيِّنُ هَذَا مَا يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْأَرْوَاثِ مِنْ مُخَالَفَتِهَا غَيْرَهَا مِنْ الْأَرْوَاثِ فِي الْخَلْقِ، وَالرِّيحِ وَاللَّوْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ فَيَكُونُ فَرْقُ مَا بَيْنَهُ فَرْقَ مَا بَيْنِ اللَّبَنَيْنِ، وَالْمَنْبَتَيْنِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ خِلَافُهَا لِلْإِنْسَانِ. يُؤَكِّدُ ذَلِكَ مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ: مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِلَى الْيَوْمِ، فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ، مَا زَالُوا يَدُوسُونَ الزُّرُوعَ الْمَأْكُولَةَ بِالْبَقَرِ، وَيُصِيبُ الْحَبَّ مِنْ أَرْوَاثِ الْبَقَرِ وَأَبْوَالِهَا، وَمَا سَمِعْنَا أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ غَسَلَ حَبًّا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُنَجَّسًا أَوْ مُسْتَقْذَرًا لَأَوْشَكَ أَنْ يُنْهُوا عَنْهَا، وَأَنْ تَنْفِرَ عَنْهُ نُفُوسُهُمْ نُفُورَهَا عَنْ بَوْلِ الْإِنْسَانِ، وَلَوْ قِيلَ: هَذَا إجْمَاعٌ عَمَلِيٌّ لَكَانَ حَقًّا، وَكَذَلِكَ مَا زَالَ يَسْقُطُ فِي الْمَحَالِبِ مِنْ أَبْعَارِ الْأَنْعَامِ، وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَحْتَرِزُ مِنْ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ عَفَا عَنْ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ يَقُولُ

بِالتَّنْجِيسِ، عَلَى أَنَّ ضَبْطَ قَانُونٍ كُلِّيٍّ فِي الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ مُطَّرِدٌ مُنْعَكِسٌ، لَمْ يَتَيَسَّرْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْوَاجِبِ عَلَيْنَا بَعْدَ عِلْمِنَا بِالْأَنْوَاعِ الطَّاهِرَةِ، وَالْأَنْوَاعِ النَّجِسَةِ. فَهَذِهِ إشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إلَى مَسَالِكِ الرَّأْيِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَتَمَامُهُ مَا حَضَرَنِي كِتَابَةً فِي هَذَا الْمَجْلِسِ، وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ، وَاَللَّهُ يَهْدِي السَّبِيلَ.

فصل في مني الآدمي

[فَصَلِّ فِي مَنِيِّ الْآدَمِيِّ] الْفَصْلُ الثَّانِي فِي مَنِيِّ الْآدَمِيِّ وَفِيهِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: إنَّهُ نَجِسٌ، كَالْبَوْلِ، فَيَجِبُ غَسْلُهُ رَطْبًا وَيَابِسًا مِنْ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَطَائِفَةٍ. وَثَانِيهَا: إنَّهُ نَجِسٌ، يُجْزِئُ فَرْكُ يَابِسِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. ثُمَّ هُنَا أَوْجُهٌ قِيلَ يُجْزِئُ فَرْكُ يَابِسِهِ، وَمَسْحُ رَطْبِهِ مِنْ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ، وَمَنِيُّ الرَّجُلِ يَتَأَتَّى فَرْكُهُ وَمَسْحُهُ، بِخِلَافِ مَنِيِّ الْمَرْأَةِ، فَإِنَّهُ رَقِيقٌ كَالْمَذْيِ، وَهَذَا مَنْصُوصُ أَحْمَدَ. وَقِيلَ: يُجْزِئُ فَرْكُهُ فَقَطْ مِنْهُمَا، لِذَهَابِهِ بِالْفَرْكِ، وَبَقَاءِ أَثَرِهِ بِالْمَسْحِ. وَقِيلَ: بَلْ الْجَوَازُ مُخْتَصٌّ بِالْفَرْكِ مِنْ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ، كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ. وَثَالِثُهَا: إنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ، كَالْمُخَاطِ، وَالْبُصَاقِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَهُوَ الَّذِي نَصَرْنَاهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كُنْت أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَذْهَبُ فَيُصَلِّي فِيهِ» . وَرُوِيَ فِي لَفْظِ الدَّارَقُطْنِيِّ: «كُنْت أَفْرُكُهُ إذَا كَانَ يَابِسًا، وَأَغْسِلُهُ إذَا كَانَ رَطْبًا» . فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَيْسَ كَالْبَوْلِ نَجِسًا يَكُونُ نَجَاسَةً غَلِيظَةً. فَبَقِيَ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا: كَالدَّمِ، أَوْ طَاهِرًا: كَالْبُصَاقِ، لَكِنَّ الثَّانِيَ أَرْجَحُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ تَطْهِيرِ الثِّيَابِ مِنْ الْأَنْجَاسِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ

حَمْلِ قَلِيلِهِ فِي الصَّلَاةِ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كَثِيرِهِ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْسِلُ الْمَنِيَّ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ وَأَنَا أَنْظُرُ إلَى أَثَرِ الْغَسْلِ فِيهِ» . فَهَذَا يُعَارِضُ حَدِيثَ الْفَرْكِ فِي مَنِيِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْغَسْلُ دَلِيلُ النَّجَاسَةِ فَإِنَّ الطَّاهِرَ لَا يُطَهَّرُ. فَيُقَالُ: هَذَا لَا يُخَالِفُهُ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ لِلرَّطْبِ، وَالْفَرْكَ لِلْيَابِسِ، كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ، أَوْ هَذَا أَحْيَانًا وَهَذَا أَحْيَانًا، وَأَمَّا الْغَسْلُ فَإِنَّ الثَّوْبَ قَدْ يُغْسَلُ مِنْ الْمُخَاطِ، وَالْبُصَاقِ، وَالنُّخَامَةِ اسْتِقْذَارًا لَا تَنْجِيسًا؛ وَلِهَذَا قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: أَمِطْهُ عَنْك وَلَوْ بِإِذْخِرَةٍ فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ. الدَّلِيلُ الثَّانِي: مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْلُتُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِهِ بِعِرْقِ الْإِذْخِرِ، ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَحْثُهُ مِنْ ثَوْبِهِ يَابِسًا، ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ» . وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْمُسْتَقْذَرَاتِ، لَا مِنْ أَحْكَامِ النَّجَاسَاتِ، فَإِنَّ عَامَّةَ الْقَائِلِينَ بِنَجَاسَتِهِ لَا يُجَوِّزُونَ مَسْحَ رَطْبِهِ. الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: مَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ أَوَّلِينَا، بِمَا رَوَاهُ إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ؟ فَقَالَ: إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ، وَإِنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَمْسَحَهُ بِخِرْقَةٍ أَوْ بِإِذْخِرَةٍ» .

قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ، عَنْ شَرِيكٍ، قَالُوا: وَهَذَا لَا يُقْدَحُ؛ لِأَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ يُوسُفَ الْأَزْرَقَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ. وَرَوَى عَنْ سُفْيَانَ، وَشَرِيكٍ وَغَيْرِهِمَا، وَحَدَّثَ عَنْهُ أَحْمَدُ وَمَنْ فِي طَبَقَتِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ صَاحِبَا الصَّحِيحِ، فَيُقْبَلُ رَفْعُهُ وَمَا يَنْفَرِدُ بِهِ. وَأَنَا أَقُولُ: أَمَّا هَذِهِ الْفُتْيَا فَهِيَ ثَابِتَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَبْلَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُمَا الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ فِي كُتُبِهِمْ، وَأَمَّا رَفْعُهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَمُنْكَرٌ بَاطِلٌ، لَا أَصْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ رَوَوْهُ عَنْ شَرِيكٍ مَوْقُوفًا. ثُمَّ شَرِيكٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَيْسَا فِي الْحِفْظِ بِذَاكَ، وَاَلَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِعَطَاءٍ مِثْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ الَّذِي هُوَ أَثْبَتُ فِيهِ مِنْ الْقُطْبِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَكِّيِّينَ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ إلَّا مَوْقُوفًا، وَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى وَهْمِ تِلْكَ الرُّوَاةِ. فَإِنْ قُلْت: أَلَيْسَ مِنْ الْأُصُولِ الْمُسْتَقِرَّةِ أَنَّ زِيَادَةَ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ، وَأَنَّ الْحُكْمَ لِمَنْ رَفَعَ، لَا لِمَنْ وَقَفَ؛ لِأَنَّهُ زَائِدٌ. قُلْت: هَذَا عِنْدَنَا حَقٌّ مَعَ تَكَافُؤِ الْمُحَدِّثِينَ الْمُخْبِرِينَ وَتَعَادُلِهِمْ، وَأَمَّا مَعَ زِيَادَةِ عَدَدِ مَنْ لَمْ يُزِدْ، فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ أَوَّلُونَا، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّمَا ذَاكَ إذَا لَمْ تَتَصَادَمْ الرِّوَايَتَانِ وَتَتَعَارَضَا، وَأَمَّا مَتَى تَعَارَضَتَا يَسْقُطُ رِوَايَةُ الْأَقَلِّ بِلَا رَيْبٍ، وَهَهُنَا الْمَرْوِيُّ لَيْسَ هُوَ مُقَابَلٌ بِكَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَهَا ثُمَّ قَالَهَا صَاحِبُهُ تَارَةً، تَارَةً ذَاكِرًا، وَتَارَةً آثِرًا، وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةُ حَالٍ، وَقَضِيَّةُ عَيْنٍ، فِي رَجُلٍ اسْتَفْتَى عَلَى صُورَةٍ، وَحُرُوفٍ مَأْثُورَةٍ، فَالنَّاسُ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُسْتَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَتْ الْقَضِيَّةُ إلَّا وَاحِدَةً إذْ لَوْ تَعَدَّدَتْ الْقَضِيَّةُ لَمَا أَهْمَلَ الثِّقَاتُ الْأَثْبَاتُ ذَلِكَ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ اهْتِمَامِهِمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَأَهْلُ نَقْدِ الْحَدِيثِ وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ أَقْعَدُ بِذَلِكَ وَلَيْسُوا يَشُكُّونَ فِي أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَهْمٌ. الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ، فَيَجِبُ الْقَضَاءُ بِطَهَارَتِهِ حَتَّى يَجِيئَنَا مَا يُوجِبُ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ نَجِسٌ، وَقَدْ بَحَثْنَا وَصَبَرْنَا فَلَمْ نَجِدْ لِذَلِكَ أَصْلًا، فَعُلِمَ أَنَّ

كُلَّ مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْ مُلَابَسَتِهِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَنِيَّ يُصِيبُ أَبْدَانَ النَّاسِ، وَثِيَابَهُمْ، وَفُرُشَهُمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَلَغُ الْهِرُّ فِي آنِيَتِهِمْ، فَهُوَ طَوَافُ الْفَضَلَاتِ، بَلْ قَدْ يَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنْ الِاحْتِرَازِ مِنْ الْبُصَاقِ، وَالْمُخَاطِ، الْمُصِيبِ ثِيَابَهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ مَنِيِّ الِاحْتِلَامِ وَالْجِمَاعِ، وَهَذِهِ الْمَشَقَّةُ الظَّاهِرَةُ تُوجِبُ طَهَارَتَهُ، وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَضِي لِلتَّنْجِيسِ قَائِمًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّارِعَ خَفَّفَ فِي النَّجَاسَةِ الْمُعْتَادَةِ فَاجْتَزَأَ فِيهَا بِالْجَامِدِ، مَعَ أَنَّ إيجَابَ الِاسْتِنْجَاءِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ أَهْوَنُ مِنْ إيجَابِ غَسْلِ الثِّيَابِ مِنْ الْمَنِيِّ، لَا سِيَّمَا فِي الشِّتَاءِ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ. فَإِنْ قِيلَ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ الْبَوْلِ، وَالْغَائِطِ، وَالْمَنِيِّ، وَالْقَيْءِ» رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ قَدْ مَضَى فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْسِلُهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ خَارِجٌ يُوجِبُ طَهَارَتَيْ الْخَبَثِ وَالْحَدَثِ، فَكَانَ نَجِسًا كَالْبَوْلِ وَالْحَيْضِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إيجَابَ نَجَاسَةِ الطَّهَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ نَجِسٌ، فَإِنَّ إمَاطَتَهُ وَتَنْحِيَتَهُ أَخَفُّ مِنْ التَّطْهِيرِ مِنْهُ، فَإِذَا وَجَبَ الْأَثْقَلُ، فَالْأَخَفُّ أَوْلَى، لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ، فَإِنَّ الِاسْتِنْجَاءَ إمَاطَةٌ وَتَنْحِيَةٌ، فَإِذَا وَجَبَ تَنْحِيَتُهُ فِي مَخْرَجِهِ فَفِي غَيْرِ مَخْرَجِهِ أَحَقُّ وَأَوْلَى. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمَذْيِ فَكَانَ نَجِسًا كَالْمَذْيِ، وَذَاكَ؛ لِأَنَّ الْمَذْيَ يَخْرُجُ عَنْ مُقَدِّمَاتِ الشَّهْوَةِ، وَالْمَنِيُّ أَصْلُ الْمَذْيِ عِنْدَ اسْتِكْمَالِهَا، وَهُوَ يَجْرِي فِي مَجْرَاهُ، وَيَخْرُجُ مِنْ مَخْرَجِهِ، فَإِذَا نَجِسَ الْفَرْعُ فَلَأَنْ يَنْجَسَ الْأَصْلُ أَوْلَى. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الذَّكَرِ، أَوْ خَارِجٌ مِنْ الْقُبُلِ، فَكَانَ نَجِسًا كَجَمِيعِ الْخَوَارِجِ مِثْلُ: الْبَوْلِ، وَالْمَذْيِ، وَالْوَدْيِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي النَّجَاسَةِ مَنُوطٌ بِالْمَخْرَجِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَضَلَاتِ الْخَارِجَةَ مِنْ أَعَالِي الْبَدَنِ لَيْسَتْ نَجِسَةً، وَفِي أَسَافِلِهِ تَكُونُ نَجِسَةً، وَإِنْ جَمَعَهَا الِاسْتِحَالَةُ فِي الْبَدَنِ

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَنْ الدَّمِ؛ لِأَنَّهُ دَمٌ قَصَرَته الشَّهْوَةُ، وَلِهَذَا يَخْرُجُ عِنْدَ الْإِكْثَارِ مِنْ الْجِمَاعِ أَحْمَرَ، وَالدَّمُ نَجِسٌ، وَالنَّجَاسَةُ لَا تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ عِنْدَكُمْ. وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ يَجْرِي فِي مَجْرَى الْبَوْلِ، فَيَتَنَجَّسُ بِمُلَاقَاةِ الْبَوْلِ، فَيَكُونُ كَاللَّبَنِ فِي الظَّرْفِ النَّجِسِ، فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهِ. فَنَقُولُ: الْجَوَابُ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ: أَمَّا حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فَلَا أَصْلَ لَهُ. فِي إسْنَادِهِ ثَابِتُ بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ضَعِيفٌ جِدًّا، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَهُ مَنَاكِيرُ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَقَوْلُهُمْ يُوجِبُ طَهَارَتَيْ الْخَبَثِ وَالْحَدَثِ، أَمَّا الْخَبَثُ فَمَمْنُوعٌ، بَلْ الِاسْتِنْجَاءُ مِنْهُ مُسْتَحَبٌّ، كَمَا يُسْتَحَبُّ إمَاطَتُهُ مِنْ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَقَدْ قِيلَ: هُوَ وَاجِبٌ، كَمَا قَدْ قِيلَ: يَجِبُ غَسْلُ الْأُنْثَيَيْنِ مِنْ الْمَذْيِ، وَكَمَا يَجِبُ غَسْلُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ إذَا خَرَجَ الْخَارِجُ مِنْ الْفَرْجِ، فَهَذَا كُلُّهُ طَهَارَةٌ وَجَبَتْ لِخَارِجٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَقْصُودُ بِهَا إمَاطَتَهُ وَتَنْجِيسَهُ، بَلْ سَبَبٌ آخَرُ كَمَا يُغْسَلُ مِنْهُ سَائِرُ الْبَدَنِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ لَيْسَ هُوَ النَّجَاسَةُ، بَلْ سَبَبٌ آخَرُ. فَقَوْلُهُمْ يُوجِبُ طَهَارَةَ الْخَبَثِ، وَصْفٌ مَمْنُوعٌ فِي الْفَرْعِ، فَلَيْسَ غَسْلُهُ عَنْ الْفَرْجِ لِلْخَبَثِ، وَلَيْسَتْ الطَّهَارَاتُ مُنْحَصِرَةً فِي ذَلِكَ كَغَسْلِ الْيَدِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ، وَغُسْلِ الْمَيِّتِ، وَالْأَغْسَالِ الْمُسْتَحَبَّةِ وَغَسْلِ الْأُنْثَيَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ الطَّهَارَةُ إنْ قِيلَ بِوُجُوبِهَا، فَهِيَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّالِثِ، فَيَبْطُلُ قِيَاسُهُ عَلَى الْبَوْلِ لِفَسَادِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ. وَأَمَّا إيجَابُهُ طَهَارَةَ الْحَدَثِ فَهُوَ حَقٌّ، لَكِنَّ طَهَارَةَ الْحَدَثِ لَيْسَتْ أَسْبَابُهَا مُنْحَصِرَةً فِي النَّجَاسَاتِ، فَإِنَّ الصُّغْرَى تَجِبُ مِنْ الرِّيحِ إجْمَاعًا، وَتَجِبُ بِمُوجِبِ الْحُجَّةِ مِنْ مُلَامَسَةِ الشَّهْوَةِ، وَمِنْ مَسِّ الْفَرْجِ، وَمِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، وَمِنْ الرِّدَّةِ، وَغُسْلِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ كَانَتْ تَجِبُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مِنْ كُلِّ مَا غَيَّرَتْهُ النَّارُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَسْبَابِ غَيْرُ نَجِسَةٍ. وَأَمَّا الْكُبْرَى فَتَجِبُ بِالْإِيلَاجِ إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ، وَلَا نَجَاسَةَ، وَتَجِبُ بِالْوِلَادَةِ

الَّتِي لَا دَمَ مَعَهَا عَلَى رَأْيٍ مُخْتَارٍ، وَالْوَلَدُ طَاهِرٌ، وَتَجِبُ بِالْمَوْتِ، وَلَا يُقَالُ هُوَ نَجِسٌ، وَتَجِبُ بِالْإِسْلَامِ عِنْدَ طَائِفَةٍ، فَقَوْلُهُمْ: إنَّمَا أَوْجَبَ طَهَارَةَ الْحَدَثِ، أَوْ أَوْجَبَ الِاغْتِسَالَ: نَجِسٌ، مُنْتَقِضُ بِهَذِهِ الصُّوَرِ الْكَثِيرَةِ، فَبَطَلَ طَرْدُهُ، فَإِنْ ضَمُّوا إلَى الْعِلَّةِ كَوْنَهُ خَارِجًا انْتَقَضَ بِالرِّيحِ وَالْوَلَدِ نَقْضًا قَادِحًا. ثُمَّ يُقَالُ: قَوْلُكُمْ " خَارِجٌ " وَصْفٌ طَرْدِيٌّ، فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِرَازُ بِهِ، ثُمَّ إنَّ عَكْسَهُ أَيْضًا بَاطِلٌ، وَالْوَصْفُ عَدِيمُ التَّأْثِيرِ، فَإِنَّ مَا لَا يُوجِبُ طَهَارَةَ الْحَدَثِ مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ نَجِسٌ كَالدَّمِ الَّذِي لَمْ يَسِلْ، وَالْيَسِيرِ مِنْ الْقَيْءِ، وَأَيْضًا فَسَيَأْتِي الْفَرْقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَهَذِهِ أَوْجُهٌ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: التَّطْهِيرُ مِنْهُ أَبْعَدُ مِنْ تَطْهِيرِهِ، فَجُمِعَ مَا بَيْنَ مُتَفَاوِتَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ، فَإِنَّ الطَّهَارَةَ مِنْهُ طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ، وَتَطْهِيرُهُ إزَالَةُ خَبَثٍ، وَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالْأَسْبَابُ وَالْأَحْكَامُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّ هَذِهِ تَجِبُ لَهَا النِّيَّةُ دُونَ تِلْكَ. وَهَذِهِ مِنْ بَابِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَتِلْكَ مِنْ بَابِ اجْتِنَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهَذِهِ مَخْصُوصَةٌ بِالْمَاءِ أَوْ التُّرَابِ، وَقَدْ تُزَالُ تِلْكَ بِغَيْرِ الْمَاءِ فِي مَوَاضِعَ بِالِاتِّفَاقِ وَفِي مَوَاضِعَ عَلَى رَأْيٍ، وَهَذِهِ يَتَعَدَّى حُكْمُهَا مَحَلَّ سَبَبِهَا إلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَتِلْكَ يَخْتَصُّ حُكْمُهَا بِمَحَلِّهَا، وَهَذِهِ تَجِبُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ السَّبَبِ أَوْ فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِ، وَتِلْكَ تَجِبُ فِي مَحَلِّ السَّبَبِ فَقَطْ، وَهَذِهِ حِسِّيَّةٌ وَتِلْكَ عَقْلِيَّةٌ، وَهَذِهِ جَارِيَةٌ فِي أَكْثَرِ أُمُورِهَا عَلَى سُنَنِ مَقَايِيسِ الْبَاحِثِينَ، وَتِلْكَ مُسْتَصْعَبَةٌ عَلَى سَيْرِ الْقِيَاسِ، وَهَذِهِ وَاجِبَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي وُجُوبِ الْأُخْرَى خِلَافٌ مَعْلُومٌ، وَهَذِهِ لَهَا بَدَلٌ، وَفِي بَدَلِ تِلْكَ فِي الْبَدَنِ خَاصَّةً خِلَافٌ ظَاهِرٌ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَقِيَاسُ هَذِهِ الطَّهَارَةِ عَلَى تِلْكَ الطَّهَارَةِ كَقِيَاسِ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَجِّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ، وَتِلْكَ عِبَادَةٌ مَعَ اخْتِلَافِ الْحَقِيقَتَيْنِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ إلْحَاقُهُ بِالْمَذْيِ، فَقَدْ مَنَعَ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ عَلَى قَوْلٍ بِطَهَارَةِ الْمَذْيِ، وَالْأَكْثَرُونَ سَلَّمُوهُ وَفَرَّقُوا بِافْتِرَاقِ الْحَقِيقَتَيْنِ، فَإِنَّ هَذَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِنْسَانِ وَذَلِكَ بِخِلَافِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ عَدَمَ الْإِمْنَاءِ عَيْبٌ يُبْنَى عَلَيْهِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مُنْشَؤُهَا عَلَى أَنَّهُ نَقْصٌ،

وَكَثْرَةُ الْإِمْذَاءِ رُبَّمَا كَانَتْ مَرَضًا وَهُوَ فَضْلَةٌ مَحْضَةٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ كَالْبَوْلِ، وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي انْبِعَاثِهِمَا عَنْ شَهْوَةِ النِّكَاحِ، فَلَيْسَ الْمُوجِبُ لِطَهَارَةِ الْمَنِيِّ أَنَّهُ عَنْ شَهْوَةِ الْبَاءَةِ فَقَطْ، بَلْ شَيْءٌ آخَرُ، وَإِنْ أَجْرَيْنَاهُ مَجْرَاهُ فَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا كَوْنُهُ فَرْعًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجَنِينِ النَّاقِصِ، كَالْإِنْسَانِ إذَا أَسْقَطَتْهُ الْمَرْأَةُ قَبْلَ كَمَالِ خَلْقِهِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَبْدَأُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، يُنَاطُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِنْسَانِ إلَّا مَا قَلَّ وَلَوْ كَانَ فَرْعًا فَإِنَّ النَّجَاسَةَ اسْتِخْبَاثٌ، وَلَيْسَ اسْتِخْبَاثُ الْفَرْعِ بِالْمُوجِبِ خَبَثَ أَصْلِهِ كَالْفُضُولِ الْخَارِجَةِ مِنْ الْإِنْسَانِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فَقِيَاسُهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَارِجَاتِ بِجَامِعِ اشْتِرَاكِهِنَّ فِي الْمَخْرَجِ مَنْقُوضٌ بِالْفَمِ، فَإِنَّهُ مَخْرَجُ النُّخَامَةِ وَالْبُصَاقِ الطَّاهِرَيْنِ، وَالْقَيْءِ النَّجِسِ، وَكَذَلِكَ الدُّبُرُ مَخْرَجُ الرِّيحِ الطَّاهِرِ، وَالْغَائِطِ النَّجِسِ، وَكَذَلِكَ الْأَنْفُ مَخْرَجُ الْمُخَاطِ الطَّاهِرِ، وَالدَّمِ النَّجِسِ، وَإِنْ فَصَلُوا بَيْنَ مَا يَعْتَادُ النَّاسُ مِنْ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَبَيْنَ مَا يَعْرِضُ لَهُمْ لِأَسْبَابٍ حَادِثَةٍ، قُلْنَا النُّخَامَةُ الْمَعِدِيَّةُ إذَا قِيلَ بِنَجَاسَتِهَا مُعْتَادَةٌ، وَكَذَلِكَ الرِّيحُ. وَأَيْضًا فَإِنَّا نَقُولُ: لِمَ قُلْتُمْ إنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَخْرَجِ، وَلِمَ لَا يُقَالُ الِاعْتِبَارُ بِالْمَعْدِنِ وَالْمُسْتَحَالِ، فَمَا خُلِقَ فِي أَعْلَى الْبَدَنِ فَطَاهِرٌ، وَمَا خُلِقَ فِي أَسْفَلِهِ فَنَجِسٌ، وَالْمَنِيُّ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، بِخِلَافِ الْبَوْلِ وَالْوَدْيِ، وَهَذَا أَشَدُّ اطِّرَادًا؛ لِأَنَّ الْقَيْءَ وَالنُّخَامَةَ الْمُنَجَّسَةَ خَارِجَانِ مِنْ الْفَمِ، لَكِنْ لَمَّا اسْتَحَالَا فِي الْمَعِدَةِ كَانَا نَجِسَيْنِ، وَأَيْضًا فَسَوْفَ نُفَرِّقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْوَجْهُ الْخَامِسُ: فَقَوْلُهُمْ: مُسْتَحِيلٌ عَنْ الدَّمِ، وَالِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ، عَنْهُ عِدَّةُ أَجْوِبَةٍ مُسْتَنِيرَةٍ قَاطِعَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالْآدَمِيِّ، وَبِمُضْغَتِهِ، فَإِنَّهُمَا مُسْتَحِيلَانِ عَنْهُ، وَبَعْدَهُ عَنْ الْعَلَقَةِ، وَهِيَ دَمٌ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِنَجَاسَتِهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْبَهَائِمِ الْمَأْكُولَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّمَ قَبْلَ طُهُورِهِ وَبُرُوزِهِ يَكُونُ نَجِسًا، فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى تَنْجِيسِهِ، وَلَا يَعْنِي الْقِيَاسَ عَلَيْهِ إذَا ظَهَرَ وَبَرَزَ بِاتِّفَاقِ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لِلدَّلِيلِ عَلَى طَهَارَتِهِ وُجُوهٌ:

أَحَدُهَا: أَنَّ النَّجِسَ هُوَ الْمُسْتَقْذَرُ الْمُسْتَخْبَثُ، وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَثْبُتُ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ إلَّا بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا مَوَاضِعَ خَلْقِهَا، فَوَصْفُهَا بِالنَّجَاسَةِ فِيهَا وَصْفٌ بِمَا لَا تَتَّصِفُ بِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ خَاصَّةَ النَّجِسِ وُجُوبُ مُجَانَبَتِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا مَفْقُودٌ فِيهَا فِي الْبَدَنِ مِنْ الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ صَلَّى حَامِلًا وِعَاءً مَسْدُودًا، قَدْ أَوْعَى دَمًا، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؟ فَلَئِنْ قُلْت: عُفِيَ عَنْهُ لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ. قُلْت: بَلْ جُعِلَ طَاهِرًا لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ، فَمَا الْمَانِعُ مِنْهُ، وَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّلُ طَهَارَةَ الْهِرَّةِ بِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ، حَيْثُ يَقُولُ: «إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ، إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» . بَلْ أَقُولُ: قَدْ رَأَيْنَا جِنْسَ الْمَشَقَّةِ فِي الِاحْتِرَازِ مُؤَثِّرًا فِي جِنْسِ التَّخْفِيفِ، فَإِنْ كَانَ الِاحْتِرَازُ مِنْ جَمِيعِ الْجِنْسِ مُشِقًّا، عُفِيَ عَنْ جَمِيعِهِ، فَحُكِمَ بِالطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ بَعْضِهِ عُفِيَ عَنْ الْقَدْرِ الْمُشِقِّ، وَهُنَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي دَاخِلِ الْأَبْدَانِ فَيُحْكَمُ لِنَوْعِهِ بِالطَّهَارَةِ: كَالْهِرِّ، وَمَا دُونَهَا، وَهَذَا وَجْهٌ ثَالِثٌ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الدِّمَاءَ الْمُسْتَخْبَثَةَ فِي الْأَبْدَانِ وَغَيْرِهَا هِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْحَيَوَانِ الَّتِي لَا تَقُومُ حَيَاتُهُ إلَّا بِهَا، حَتَّى سُمِّيَتْ نَفْسًا، فَالْحُكْمُ بِأَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ أَحَدَ أَرْكَانِ عِبَادِهِ مِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ نَوْعًا نَجِسًا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، فَلَا تَثْبُتُ النَّجَاسَةُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الدِّمَاءِ الْمُسْتَخْبَثَةِ شَيْءٌ مِنْ أَدِلَّةِ النَّجَاسَةِ وَخَصَائِصِهَا. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا الْأَعْيَانَ تَفْتَرِقُ حَالُهَا بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ فِي مَوْضِعِ عَمَلِهَا وَمَنْفَعَتِهَا، وَبَيْنَ مَا إذَا فَرَّقْت ذَلِكَ، فَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ مَا دَامَ جَارِيًا فِي أَعْضَاءِ الْمُتَطَهِّرِ فَهُوَ طَهُورٌ، فَإِذَا انْفَصَلَ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ، وَالْمَاءُ فِي الْمَحَلِّ النَّجِسِ مَا دَامَ عَلَيْهِ فَعَمَلُهُ بَاقٍ وَتَطْهِيرُهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، فَإِذَا فَارَقَ مَحَلَّ عَمَلِهِ فَهُوَ إمَّا

نَجِسٌ أَوْ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، وَهَذَا مَعَ تَغَيُّرِ الْأَمْوَاهِ فِي مَوَارِدِ التَّطْهِيرِ، تَارَةً بِالطَّاهِرَاتِ، وَتَارَةً بِالنَّجَاسَاتِ، فَإِذَا كَانَتْ الْمُخَالَطَةُ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ أَسْبَابِ التَّغْيِيرِ لَا تُؤَثِّرُ فِي مَحَلِّ عَمَلِنَا وَانْتِفَاعِنَا، فَمَا ظَنُّك بِالْجِسْمِ الْمُفْرَدِ فِي مَحَلِّ عَمَلِهِ بِخَلْقِ اللَّهِ وَتَدْبِيرِهِ، فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّهُ لُبَابُ الْفِقْهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ عَنْ أَصْلِ الدَّلِيلِ: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الدَّمَ نَجِسٌ، فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَحَالَ وَتَبَدَّلَ. وَقَوْلُهُمْ: الِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ. قُلْنَا: مَنْ أَفْتَى بِهَذِهِ الْفَتْوَى الطَّوِيلَةِ الْعَرِيضَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِجْمَاعِ؟ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا أَنَّ الْخَمْرَ إذَا بَدَأَ اللَّهُ بِإِفْسَادِهَا وَتَحْوِيلِهَا خَلًّا طَهُرَتْ، وَكَذَلِكَ تَحْوِيلُ الدَّوَابِّ وَالشَّجَرِ، بَلْ أَقُولُ الِاسْتِقْرَاءُ دَلَّنَا أَنَّ كُلَّ مَا بَدَأَ اللَّهُ بِتَحْوِيلِهِ وَتَبْدِيلِهِ مِنْ جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ، مِثْلُ: جَعْلِ الْخَمْرِ خَلًّا، وَالدَّمِ مَنِيًّا، وَالْعَلَقَةِ مُضْغَةً، وَلَحْمِ الْجَلَّالَةِ الْخَبِيثِ طَيِّبًا، وَكَذَلِكَ بَيْضُهَا وَلَبَنُهَا، وَالزَّرْعُ الْمُسْتَسْقَى بِالنَّجِسِ إذَا سُقِيَ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَزُولُ حُكْمُ التَّنْجِيسِ، وَيَزُولُ حَقِيقَةُ الْجِنْسِ وَاسْمِهِ التَّابِعِ لِلْحَقِيقَةِ، وَهَذَا ضَرُورِيٌّ لَا يُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ فِي الْأَرْضِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحَوِّلُهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ، وَيُبَدِّلُهَا خَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ، وَلَا الْتِفَاتَ إلَى مَوَادِّهَا وَعَنَاصِرِهَا. وَأَمَّا مَا اسْتَحَالَ بِسَبَبِ كَسْبِ الْإِنْسَانِ: كَإِحْرَاقِ الرَّوْثِ حَتَّى يَصِيرَ رَمَادًا، وَوَضْعِ الْخِنْزِيرِ فِي الْمَلَّاحَةِ حَتَّى يَصِيرَ مِلْحًا، فَفِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ. وَلِلْقَوْلِ بِالتَّطْهِيرِ اتِّجَاهٌ وَظُهُورٌ، وَمِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. الدَّلِيلُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَنِيَّ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الذَّكَرِ فِي خَلْقِهِ، فَإِنَّهُ غَلِيظٌ، وَتِلْكَ رَقِيقَةٌ، وَفِي لَوْنِهِ فَإِنَّهُ أَبْيَضُ شَدِيدُ الْبَيَاضِ، وَفِي رِيحِهِ فَإِنَّهُ طَيِّبٌ كَرَائِحَةِ الطَّلْعِ، وَتِلْكَ خَبِيثَةٌ، ثُمَّ جَعَلَهُ اللَّهُ أَصْلًا لِجَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَالْإِنْسَانُ الْمُكْرَمُ، فَكَيْفَ يَكُونُ أَصْلُهُ نَجِسًا؟ . وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَقَدْ نَاظَرَ بَعْضَ مَنْ يَقُولُ بِنَجَاسَتِهِ، لِرَجُلٍ قَالَ لَهُ: مَا بَالُك وَبَالُ هَذَا؟ قَالَ: أُرِيدَ أَنْ أَجْعَلَ أَصْلَهُ طَاهِرًا، وَهُوَ يَأْبَى إلَّا أَنْ يَكُونَ نَجِسًا. ثُمَّ لَيْسَ شَأْنُهُ شَأْنَ الْفُضُولِ، بَلْ شَأْنُ مَا هُوَ غِذَاءٌ وَمَادَّةٌ فِي الْأَبْدَانِ، إذْ هُوَ قِوَامُ النَّسْلِ، فَهُوَ بِالْأُصُولِ أَشْبَهَ مِنْهُ بِالْفَضْلِ.

الْوَجْهُ السَّادِسُ: وَفِيهِ أَجْوِبَةٌ: أَحَدُهَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجْرِي فِي مَجْرَى الْبَوْلِ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّ بَيْنَهُمَا جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ، وَأَنَّ الْبَوْلَ إنَّمَا يَخْرُجُ رَضْحًا، وَهَذَا مَشْهُورٌ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ اتِّصَالِهِمَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْلُومًا إلَّا فِي ثَقْبِ الذَّكَرِ، وَهُوَ طَاهِرٌ أَوْ مَعْفُوٌّ عَنْ نَجَاسَتِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ جَرَى فِي مَجْرَاهُ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَوْلَ قَبْلَ ظُهُورِهِ نَجِسٌ، كَمَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ فِي الدَّمِ، وَهُوَ فِي الدَّمِ أَبْيَنُ مِنْهُ فِي الْبَوْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رُكْنٌ وَبَعْضٌ وَهَذَا فَضْلٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُمَاسَّةَ فِي بَاطِنِ الْحَيَوَانِ مُوجِبَةٌ لِلتَّنْجِيسِ، كَمَا قَدْ قِيلَ فِي الِاسْتِحَالَةِ، وَهُوَ فِي الْمُمَاسَّةِ أَبْيَنُ، يُؤَيِّدُ هَذَا قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] . وَلَوْ كَانَتْ الْمُمَاسَّةُ فِي الْبَاطِنِ لِلْفَرْثِ مَثَلًا مُوجِبَةً لِلنَّجَاسَةِ لَنَجِسَ اللَّبَنُ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَعَلَّ بَيْنَهُمَا حَاجِزًا؟ قِيلَ: الْأَصْلُ عَدَمُهُ عَلَى أَنَّ ذِكْرَهُ هَذَا فِي مَعْرِضِ بَيَانِ ذِكْرِ الِاقْتِدَارِ بِإِخْرَاجِ طَيِّبٍ مِنْ بَيْنِ خَبِيثَيْنِ فِي الِاغْتِذَاءِ، وَلَا يَتِمُّ إلَّا مَعَ عَدَمِ الْحَاجِزِ، وَإِلَّا فَهُوَ مَعَ الْحَاجِزِ ظَاهِرٌ فِي كَمَالِ خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {خَالِصًا} [النحل: 66] وَالْخُلُوصُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ قِيَامِ الْمُوجِبِ لِلشُّرْبِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَخُرُوجُ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ، وَقَدْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ مَنْ رَأَى إنْفَحَةَ الْمَيْتَةِ وَلَبَنَهَا طَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا. وَإِنَّمَا حَدَثَ نَجَاسَةُ الْوِعَاءِ، فَقَالَ: الْمُلَاقَاةُ فِي الْبَاطِنِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ، وَمَنْ نَجَّسَ هَذَا فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَنِيِّ، بِأَنَّ الْمَنِيَّ يَنْفَصِلُ عَنْ النَّجَسِ فِي الْبَاطِنِ، أَيْضًا بِخِلَافِ اللَّبَنِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ مِنْ الْمَيْتَةِ إلَّا بَعْدَ إبْرَازِ الضَّرْعِ، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ فِي حَدِّ مَا يَلْحَقُهُ النَّجَاسَةُ.

مسألة الكلب إذا ولغ في اللبن

وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. وَهَذَا الَّذِي حَضَرَنِي فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. [مَسْأَلَةٌ الْكَلْب إذَا وَلَغَ فِي اللَّبَنِ] 69 - 53 - مَسْأَلَةٌ: عَنْ الْكَلْبِ إذَا وَلَغَ فِي اللَّبَنِ أَوْ غَيْرِهِ، مَا الَّذِي يَجِبُ فِي ذَلِكَ؟ وَأَمَّا الْكَلْبُ فَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ حَتَّى رِيقُهُ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَالثَّانِي: نَجِسٌ حَتَّى شَعْرُهُ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَالثَّالِثُ: شَعْرُهُ طَاهِرٌ، وَرِيقُهُ نَجِسٌ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، فَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ، أَوْ الْبَدَنَ رُطُوبَةُ شَعْرِهِ لَمْ يَنْجَسْ بِذَلِكَ، وَإِذَا وَلَغَ فِي الْمَاءِ أُرِيقَ الْمَاءُ، وَإِنْ وَلَغَ فِي اللَّبَنِ وَنَحْوِهِ، مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: يُؤْكَلُ ذَلِكَ الطَّعَامُ، كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَغَيْرِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يُرَاقُ، كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. فَأَمَّا إنْ كَانَ اللَّبَنُ كَثِيرًا، فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ كَمَا تَقَدَّمَ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ عَلَى غَيْرِ طُهْرٍ وَحَمَلَ الْمُصْحَفَ بِأَكْمَامِهِ لِيَقْرَأَ بِهِ] 70 - 54 مَسْأَلَةٌ: عَنْ الْإِنْسَانِ إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ طُهْرٍ، وَحَمَلَ الْمُصْحَفَ بِأَكْمَامِهِ لِيَقْرَأَ بِهِ، وَيَرْفَعُهُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان هَلْ يُكْرَهُ ذَلِكَ؟ وَإِذَا مَاتَ الصَّبِيُّ وَهُوَ غَيْرُ مَخْتُونٍ هَلْ يُخْتَنُ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ . وَأَمَّا إذَا حَمَلَ الْإِنْسَانُ الْمُصْحَفَ بِكُمِّهِ، فَلَا بَأْسَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَمَسُّهُ بِيَدَيْهِ. وَلَا يُخْتَنُ أَحَدٌ بَعْدَ الْمَوْتِ.

مسألة المسح على الجورب

[مَسْأَلَةٌ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبِ] 71 - 55 مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: هَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى عُنُقِهِ فِي الْوُضُوءِ، أَوْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبِ كَالْخُفِّ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَكُونُ الْخَرْقُ الَّذِي فِيهِ الَّذِي بَيْنَ الطَّعْنِ مَانِعًا مِنْ الْمَسْحِ فَقَدْ يَصِفُ بَشَرَةَ شَيْءٍ مِنْ مَحِلِّ الْفَرْضِ وَإِذَا كَانَ فِي الْخُفِّ خَرْقٌ بِقَدْرِ النِّصْفِ أَوْ أَكْثَرَ هَلْ يُعْفَى عَنْ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى عُنُقِهِ فِي الْوُضُوءِ، بَلْ وَلَا رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ، بَلْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي فِيهَا صِفَةُ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ [فِيهَا أَنَّهُ كَانَ] يَمْسَحُ عُنُقَهُ. وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَحِبَّ ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِمْ، وَمَنْ اسْتَحَبَّهُ فَاعْتَمَدَ فِيهِ عَلَى أَثَرٍ يُرْوَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ حَدِيثٍ يَضْعُفُ نَقْلُهُ: «أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ حَتَّى بَلَغَ الْقَذَالَ» وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ عُمْدَةً وَلَا يُعَارِضُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ. وَمَنْ تَرَكَ مَسْحَ الْعُنُقِ فَوُضُوءُهُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا مَسْحُ الْجَوْرَبِ: نَعَمْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ إذَا كَانَ يَمْشِي فِيهِمَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مُجَلَّدَةً، أَوْ لَمْ تَكُنْ، فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. فَفِي السُّنَنِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى جَوْرَبَيْهِ وَنَعْلَيْهِ» وَهَذَا الْحَدِيثُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ إنَّمَا هُوَ كَوْنُ هَذَا مِنْ صُوفٍ وَهَذَا مِنْ جُلُودٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفَرْقِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الشَّرِيعَةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ جُلُودًا أَوْ قُطْنًا، أَوْ كَتَّانًا، أَوْ صُوفًا كَمَا لَمْ

مسألة مدة الحيض

يُفَرَّقْ بَيْنَ سَوَادِ اللِّبَاسِ فِي الْإِحْرَامِ وَبَيَاضِهِ، وَمَحْظُورِهِ وَمُبَاحِهِ، وَغَايَتُهُ أَنَّ الْجِلْدَ أَبْقَى مِنْ الصُّوفِ فَهَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ، كَمَا لَا تَأْثِيرَ لِكَوْنِ الْجِلْدِ قَوِيًّا، يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى مَا يَبْقَى وَمَا لَا يَبْقَى. وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَسْحِ عَلَى هَذَا، كَالْحَاجَةِ إلَى الْمَسْحِ عَلَى هَذَا سَوَاءٌ، وَمَعَ التَّسَاوِي فِي الْحِكْمَةِ وَالْحَاجَةِ، يَكُونُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَهَذَا خِلَافُ الْعَدْلِ وَالِاعْتِبَارِ الصَّحِيحِ، الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ كُتُبَهُ، وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ، وَمَنْ فَرَّقَ يَكُونُ هَذَا يَنْفُذُ الْمَاءُ مِنْهُ، وَهَذَا لَا يَنْفُذُ مِنْهُ، فَقَدْ ذَكَرَ فَرْقًا طَرْدِيًّا عَدِيمَ التَّأْثِيرِ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: يَصِلُ الْمَاءُ إلَى الصُّوفِ أَكْثَرَ مِنْ الْجِلْدِ، فَيَكُونُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ أَوْلَى لِلصُّوفِ الطَّهُورِ بِهِ أَكْثَرَ كَانَ هَذَا الْوَصْفُ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ، وَأَقْرَبَ إلَى الْأَوْصَافِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ. وَخُرُوقُ الطَّعْنِ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْمَسْحِ، وَلَوْ لَمْ تُسْتَرْ الْجَوَارِبُ إلَّا بِالشَّدِّ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَذَلِكَ الزُّرْبُولُ الطَّوِيلُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ، وَلَا يُسْتَرُ إلَّا بِالشَّدِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مُدَّة الْحَيْض] 72 - 56 مَسْأَلَةٌ: فِيمَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْحَيْضُ لِلْجَارِيَةِ الْبِكْرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهُنَّ، وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ» . هَلْ هُوَ صَحِيحٌ؟ وَمَا تَأْوِيلُهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا نَقْلُ هَذَا الْخَبَرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ بَاطِلٌ بَلْ هُوَ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ، وَلَكِنْ هُوَ مَشْهُورٌ عَنْ أَبِي الْخُلْدِ عَنْ أَنَسٍ، وَقَدْ تُكُلِّمَ فِي أَبِي الْخُلْدِ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ: أَكْثَرُ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ، كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَيَقُولُونَ: أَقَلُّهُ يَوْمٌ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، أَوْ لَا حَدَّ لَهُ، كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ، فَهُمْ يَقُولُونَ: لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ فِي هَذَا شَيْءٌ، وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعَادَةِ كَمَا قُلْنَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

مسألة مدة المسح على الخفين

[مَسْأَلَةٌ مُدَّةُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ] وَقَالَ الشَّيْخُ أَيْضًا: وَجَدَّ بِنَا السَّيْرُ وَقَدْ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمَسْحِ، فَلَمْ يُمْكِنْ النَّزْعُ وَالْوُضُوءُ إلَّا بِانْقِطَاعٍ عَنْ الرُّفْقَةِ أَوْ حَبْسِهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَرَّرُونَ بِالْوُقُوفِ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّي عَدَمُ التَّوْقِيتِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا قُلْنَا فِي الْجَبِيرَةِ، وَنَزَّلْت حَدِيثَ عُمَرَ، وَقَوْلَهُ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: أَصَبْت السُّنَّةَ. عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الْآثَارِ ثُمَّ رَأَيْته مُصَرَّحًا بِهِ فِي مَغَازِي ابْنِ عَائِدٍ أَنَّهُ كَانَ قَدْ ذَهَبَ عَلَى الْبَرِّيَّةِ كَمَا ذَهَبْت لَمَّا فُتِحَتْ دِمَشْقُ ذَهَبَ بَشِيرًا بِالْفَتْحِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مُنْذُ كَمْ يَوْمٍ لَمْ تَنْزِعْ خُفَّيْك. قَالَ: مُنْذُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ قَالَ: أَصَبْت. فَحَمِدْت اللَّهَ عَلَى الْمُوَافَقَةِ. وَهَذَا أَظُنُّهُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِنَا، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ يَتَضَرَّرُ بِنَزْعِ الْخُفِّ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْجَبِيرَةِ. وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: إنَّهُ إذَا خَافَ الضَّرَرَ بِالنَّزْعِ تَيَمَّمَ وَلَمْ يَمْسَحْ، وَهَذَا كَالرِّوَايَتَيْنِ لَنَا إذَا كَانَ جُرْحُهُ بَارِزًا يُمْكِنُهُ مَسْحُهُ بِالْمَاءِ دُونَ غَسْلِهِ، فَهَلْ يَمْسَحُهُ أَوْ يَتَيَمَّمُ لَهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: وَالصَّحِيحُ الْمَسْحُ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَسْحِ بِالْمَاءِ أَوْلَى مِنْ طَهَارَةِ الْمَسْحِ بِالتُّرَابِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ الْمَسْحُ عَلَى حَائِلِ الْعُضْوِ فَعَلَيْهِ أَوْلَى، وَذَلِكَ أَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ طَهَارَةُ اخْتِيَارٍ، وَطَهَارَةَ الْجَبِيرَةِ طَهَارَةُ اضْطِرَارٍ. فَمَاسِحُ الْخُفِّ لَمَّا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْغَسْلِ، وَالْمَسْحُ وُقِّتَ لَهُ الْمَسْحُ، وَمَاسِحُ الْجَبِيرَةِ لَمَّا كَانَ مُضْطَرًّا إلَى مَسْحِهَا، لَمْ يُوَقَّتْ، وَجَازَ فِي الْكُبْرَى، فَالْخُفُّ الَّذِي يَتَضَرَّرُ بِنَزْعِهِ جَبِيرَةٌ، وَالضَّرُورَةُ بِأَشْيَاءَ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي ثَلْجٍ، وَبَرْدٍ عَظِيمٍ إذَا نَزَعَهُ يَنَالُ رِجْلَيْهِ ضَرَرٌ، أَوْ يَكُونُ الْمَاءُ بَارِدًا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ غَسْلُهُمَا، فَإِنْ نَزَعَهُمَا تَيَمَّمَ، فَمَسْحُهُمَا خَيْرٌ مِنْ التَّيَمُّمِ أَوْ يَكُونُ خَائِفًا إذَا نَزَعَهُمَا وَتَوَضَّأَ مِنْ عَدُوٍّ، أَوْ سَبُعٍ، أَوْ انْقِطَاعٍ عَنْ الرُّفْقَةِ فِي مَكَان لَا يُمْكِنُهُ السَّيْرُ وَحْدَهُ، فَفِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ لَهُ تَرْكُ طَهَارَةِ الْمَاءِ إلَى التَّيَمُّمِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ تَرْكُ طَهَارَةِ الْغَسْلِ إلَى الْمَسْحِ أَوْلَى. وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ إذَا كَانَ عَادِمًا لِلْمَاءِ، وَمَعَهُ قَلِيلٌ يَكْفِي طَهَارَةُ الْمَسْحِ، لَا طَهَارَةُ الْغَسْلِ فَإِنْ نَزَعَهُمَا تَيَمَّمَ، فَالْمَسْحُ خَيْرٌ مِنْ التَّيَمُّمِ.

مسألة الجنب إذا وضع يده في الماء هل يصير مستعملا

وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهُنَّ» مَنْطُوقُهُ إبَاحَةُ الْمَسْحِ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ، بَلْ يَكْفِي أَنْ لَا يَكُونَ الْمَسْكُوتُ كَالْمَنْطُوقِ، فَإِذَا خَالَفَهُ فِي صُورَةٍ حَصَلَتْ الْمُخَالَفَةُ، فَإِذَا كَانَ فِيمَا سِوَى هَذِهِ الْمُدَّةِ لَا يُبَاحُ مُطْلَقًا، بَلْ يُحْظَرُ تَارَةً، وَيُبَاحُ أُخْرَى، حَصَلَ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ، وَهَذَا وَاضِحٌ وَهِيَ نَافِعَةٌ جِدًّا، فَإِنَّهُ مَنْ بَاشَرَ الْأَسْفَارَ فِي الْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، وَالتِّجَارَةِ، وَغَيْرِهَا رَأَى أَنَّهُ فِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا يُمْكِنُ نَزْعُ الْخُفَّيْنِ وَالْوُضُوءُ، إلَّا بِتَضَرُّرٍ يُبَاحُ التَّيَمُّمُ بِدُونِهِ، وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمَا لَوْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَالْعَدُوُّ بِإِزَائِهِ، فَفَائِدَةُ النَّزْعِ لِلْوُضُوءِ عَلَى الرِّجْلَيْنِ، فَحَيْثُ يَسْقُطُ الْوُضُوءُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ، يَسْقُطُ النَّزْعُ، وَقَدْ يَكُونُ الْوُضُوءُ وَاجِبًا لَوْ كَانَا بَارِزَيْنِ، لَكِنْ مَعَ اسْتِتَارِهِمَا يَحْتَاجُ إلَى قَلْعِهِمَا وَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، ثُمَّ لَبِسَهُمَا إذَا لَمْ تَتِمَّ مَصْلَحَتُهُ إلَّا بِذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَمَرَّ فَإِنَّ طَهَارَتَهُ بَاقِيَةٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ لَا يَضُرُّهُ، فَفِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لَا يَتَوَقَّتُ، إذَا كَانَ الْوُضُوءُ سَاقِطًا، فَيَنْتَقِلُ إلَى التَّيَمُّمِ، فَإِنَّ الْمَسْحَ الْمُسْتَمِرَّ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ، وَإِذَا كَانَ فِي النَّزْعِ وَاللُّبْسِ ضَرَرٌ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ، فَلَأَنْ يُبِيحَ الْمَسْحَ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْجُنُبُ إذَا وَضَعَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ هَلْ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا] 74 - 58 مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، عَنْ الرَّجُلِ يَغْتَسِلُ إلَى جَانِبِ الْحَوْضِ أَوْ الْجُرْنِ فِي الْحَمَّامِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ نَاقِصٌ ثُمَّ يُرْجِعُ بَعْضَ الْمَاءِ مِنْ عَلَى بَدَنِهِ إلَى الْجُرْنِ، هَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا أَمْ لَا؟ وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ إذَا وَضَعَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ أَوْ الْجُرْنِ هَلْ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا أَمْ لَا؟ وَعَنْ مِقْدَارِ الْمَاءِ الَّذِي إذَا اغْتَسَلَ فِيهِ الْجُنُبُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا. وَعَنْ الطَّاسَةِ الَّتِي تُحَطُّ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ، وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ جَارٍ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَغْتَرِفُ بِهَا مِنْ الْجُرْنِ النَّاقِصِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُغْسَلَ، أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا يَطِيرُ مِنْ بَدَنِ الْمُغْتَسِلِ أَوْ الْمُتَوَضِّئِ، مِنْ الرَّشَاشِ فِي إنَاءِ الطَّهَارَةِ لَا يَجْعَلُهُ مُسْتَعْمَلًا.

وَكَذَلِكَ غَمْسُ الْجُنُبِ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ وَالْجُرْنِ النَّاقِصِ لَا يُصَيِّرُهُ مُسْتَعْمَلًا. وَأَمَّا مِقْدَارُ الْمَاءِ الَّتِي إذَا اغْتَسَلَ فِيهِ الْجُنُبُ، لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إذَا كَانَ كَثِيرًا مِقْدَارَ قُلَّتَيْنِ. وَأَمَّا الطَّاسَةُ الَّذِي تُوضَعُ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ فَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ طَاهِرٌ لَا يَنْجَسُ إلَّا بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ، فَالْأَصْلُ فِي الْأَرْضِ الطَّهَارَةُ، حَتَّى تُعْلَمَ نَجَاسَتُهَا، لَا سِيَّمَا مَا بَيْنَ يَدَيْ الْحِيَاضِ الْفَائِضَةِ فِي الْحَمَّامَاتِ، فَإِنَّ الْمَاءَ يَجْرِي عَلَيْهَا كَثِيرًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 75 - 59 أَجْوِبَةٌ لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ. وَكَذَلِكَ فِي الْمَائِعَاتِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ، وَالْخَبِيثُ مُتَمَيِّزٌ عَنْ الطَّيِّبِ بِصِفَاتِهِ، فَإِذَا كَانَ صِفَاتُ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ صِفَاتِ الطَّيِّبِ دُونَ الْخَبِيثِ، وَجَبَ دُخُولُهُ فِي الْحَلَالِ دُونَ الْحَرَامِ. وَأَيْضًا: فَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ لَهُ: أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحَيْضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتِنُ؟ فَقَالَ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . وَهَذَا اللَّفْظُ عَامٌّ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّجَاسَاتِ وَأَمَّا إذَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّمَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ؛ لِأَنَّ جُرْمَ النَّجَاسَةِ بَاقٍ، فَفِي اسْتِعْمَالِهِ اسْتِعْمَالٌ لَهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَالَتْ، فَإِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ، وَلَيْسَ هُنَاكَ نَجَاسَةٌ قَائِمَةٌ.

وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ خَمْرٌ فِي مَاءٍ، وَاسْتَحَالَتْ، ثُمَّ شَرِبَهَا شَارِبٌ، لَمْ يَكُنْ شَارِبًا لِلْخَمْرِ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدُّ الْخَمْرِ، إذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ طَعْمِهَا، وَلَوْنِهَا، وَرِيحِهَا. وَلَوْ صَبَّ لَبَنَ امْرَأَةٍ فِي مَاءِ، وَاسْتَحَالَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ، وَشَرِبَ طِفْلٌ ذَلِكَ الْمَاءَ، لَمْ يَصِرْ ابْنَهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا بَاقٍ عَلَى أَوْصَافِ خِلْقَتِهِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومُ قَوْلِهِ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ لَا طَعْمِهِ، وَلَا رِيحِهِ، وَلَا لَوْنِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، وَعَنْ الِاغْتِسَالِ مِنْهُ. قِيلَ: نَهْيُهُ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْجَسُ بِمُجَرَّدِ الْبَوْلِ، إذْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ نَهْيُهُ؛ لِأَنَّ الْبَوْلَ ذَرِيعَةٌ إلَى تَنْجِيسِهِ، فَإِنَّهُ إذَا بَالَ هَذَا تَغَيَّرَ بِالْبَوْلِ، فَكَانَ نَهْيًا مُبْتَدَأً سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ. وَأَيْضًا فَيُقَالُ نَهْيُهُ عَنْ الْبَوْلِ ذَرِيعَةٌ إلَى تَنْجِيسِهِ، فَإِنَّهُ إذَا بَالَ هَذَا تَغَيَّرَ بِالْبَوْلِ، فَكَانَ نَهْيًا مُبْتَدَأً سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ. أَيْضًا فَيُقَالُ: نَهْيُهُ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ يَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، فَيُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُلَّتَيْنِ: أَتُجَوِّزُ بَوْلَهُ فِيمَا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ، إنْ جَوَّزْته فَقَدْ خَالَفَتْ ظَاهِرَ النَّصِّ، وَإِنْ حَرَّمْته فَقَدْ نَقَضْتَ دَلِيلَكَ. وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ، وَمَا لَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ: أَتُسَوِّغُ لِلْحَاجِّ أَنْ يَبُولُوا فِي الْمَصَانِعِ الَّتِي بِطَرِيقِ مَكَّةَ، إنْ جَوَّزْته فَقَدْ خَالَفْت ظَاهِرَ النَّصِّ، وَإِلَّا نَقَضْت قَوْلَك. وَيُقَالُ لِلْمُقَدَّرِ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ، إذَا كَانَ لِلْقَرْيَةِ غَدِيرٌ مُسْتَطِيلٌ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ رَقِيقٍ: أَتُسَوِّغُ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ الْبَوْلَ فِيهِ، إنْ سَوَّغْته فَقَدْ خَالَفَتْ ظَاهِرَ النَّصِّ، وَإِلَّا نَقَضْت قَوْلَك.

وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْبَوْلِ، وَبَيْنَ صَبِّ الْبَوْلِ، فَقَوْلُهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، فَإِنَّ صَبَّ الْبَوْلِ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ مِنْ مُجَرَّدِ الْبَوْلِ، إذْ الْإِنْسَانُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ، وَأَمَّا صَبُّ الْأَبْوَالِ فِي الْمِيَاهِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَفِي حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ: إنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، وَمَا يَنْوِيهِ مِنْ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ، فَقَالَ: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» وَفِي لَفْظٍ: «لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» وَأَمَّا مَفْهُومُهُ إذَا قُلْنَا بِدَلَالَةِ مَفْهُومِ الْعَدَدِ، فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَسْكُوتِ مُخَالِفٌ لِلْحُكْمِ فِي الْمَنْطُوقِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لِيَظْهَرَ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بِالْمِقْدَارِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْمَسْكُوتِ مُنَاقَضَةً لِلْحُكْمِ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْمَنْطُوقِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ، فَلَا يَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَبْلُغْ الْقُلَّتَيْنِ يَنْجَسُ. بَلْ إذَا قِيلَ بِالْمُخَالَفَةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَذْكُرْ هَذَا التَّقْدِيرَ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ فِي جَوَابِ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ مِيَاهِ الْفَلَاةِ الَّتِي تَرِدُهَا السِّبَاعُ وَالدَّوَابُّ، وَالتَّخَصُّصُ إذَا كَانَ لَهُ سَبَبٌ غَيْرُ اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ لَمْ يَبْقَ حُجَّةٌ بِاتِّفَاقٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] . فَإِنَّهُ خَصَّ هَذِهِ الصُّورَةَ بِالنَّهْيِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْوَاقِعَةُ لَا لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَخْتَصُّ بِهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . فَذِكْرُ الزَّمَنَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِلْحَاجَةِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ» ، فَهَذَا رَهْنٌ فِي الْحَضَرِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ» فِي جَوَابِ

سَائِلٍ مُعَيِّنٍ بَيَانٌ لِمَا احْتَاجَ السَّائِلُ إلَى بَيَانِهِ، فَلَمَّا كَانَ حَالُ الْمَاءِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ كَثِيرًا قَدْ بَلَغَ قُلَّتَيْنِ، وَمِنْ شَأْنِ الْكَثِيرِ أَنَّهُ لَا يَحْمِلُ الْخَبَثَ، فَلَا يَبْقَى الْخَبَثُ فِيهِ مَحْمُولًا، بَلْ يَسْتَحِيلُ الْخَبَثُ فِيهِ لِكَثْرَتِهِ، بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ لَا خَبَثَ فِيهِ، فَلَا يَنْجَسُ، وَدَلَّ كَلَامُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عَلَى أَنَّ مَنَاطَ التَّنْجِيسِ هُوَ كَوْنُ الْخَبَثِ مَحْمُولًا، فَحَيْثُ كَانَ الْخَبَثُ مَحْمُولًا مَوْجُودًا فِي الْمَاءِ كَانَ نَجِسًا، وَحَيْثُ كَانَ الْخَبَثُ مُسْتَهْلَكًا غَيْرَ مَحْمُولٍ فِي الْمَاءِ كَانَ بَاقِيًا عَلَى طَهَارَتِهِ، فَصَارَ حَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . وَالتَّقْدِيرُ فِيهِ لِبَيَانِ صُورَةِ السُّؤَالِ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ الْخَبَثَ، فَإِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ، إذْ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ قَدْ لَا يَحْمِلُ الْخَبَثَ وَلَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، كَقَوْلِهِ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» وَهُوَ إنَّمَا أَرَادَ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ قَلِيلًا فَقَدْ يَحْمِلُ الْخَبَثَ لِضَعْفِهِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ أَمْرُهُ بِتَطْهِيرِ الْإِنَاءِ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ سَبْعًا إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ، وَبِإِرَاقَتِهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ، وَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» كَقَوْلِهِ: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» . فَإِذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْ غَمْسِ الْيَدِ فِي الْإِنَاءِ هُوَ الْإِنَاءُ الْمُعْتَادُ لِلْغَمْسِ، وَهُوَ الْوَاحِدُ مِنْ آنِيَةِ الْمِيَاهِ، فَكَذَلِكَ تِلْكَ الْآنِيَةُ الْمُعْتَادَةُ لِلْوُلُوغِ، وَهِيَ آنِيَةُ الْمَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلْبَ يَلَغُ بِلِسَانِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى فِي الْمَاءِ مِنْ رِيقِهِ وَلُعَابِهِ مَا يَبْقَى وَهُوَ لَزِجٌ، فَلَا يُحِيلُهُ الْمَاءُ الْقَلِيلُ، بَلْ يَبْقَى، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْخَبَثُ مَحْمُولًا، وَالْمَاءُ يَسِيرًا، فَيُرَاقُ ذَلِكَ الْمَاءُ لِأَجْلِ كَوْنِ الْخَبَثِ مَحْمُولًا فِيهِ، وَيُغْسَلُ الْإِنَاءُ الَّذِي لَاقَاهُ ذَلِكَ الْخَبَثُ.

وَهَذَا بِخِلَافِ الْخَبَثِ الْمُسْتَهْلَكِ الْمُسْتَحِيلِ: كَاسْتِحَالَةِ الْخَمْرِ، فَإِنَّ الْخَمْرَ إذَا انْقَلَبَتْ فِي الدَّنِّ بِإِذْنِ اللَّهِ كَانَتْ طَاهِرَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ جَوَانِبُ الدَّنِّ فَهُنَاكَ يُغْسَلُ الْإِنَاءُ، وَهُنَا لَا يُغْسَلُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحَالَةَ حَصَلَتْ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمَاءَيْنِ، وَاَلَّذِي يَنْجَسُ بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ وَمَا لَا يَنْجَسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، لَقَالَ: إذَا لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ نُجِّسَ، وَمَا بَلَغَهُمَا لَمْ يَنْجَسْ، إلَّا بِالتَّغَيُّرِ انْجَرَّ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. فَأَمَّا مُجَرَّدُ قَوْلِهِ: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» مَعَ أَنَّ الْكَثِيرَ يَنْجَسُ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَقْصُودِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْعَادَةِ لَا يَحْمِلُ الْخَبَثَ فَلَا يُنَجِّسُهُ، فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ انْتِفَاءِ سَبَبِ التَّنَجُّسِ، وَبَيَانٌ لِكَوْنِ التَّنَجُّسِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ حَمْلُ الْخَبَثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَغْمِسَ الْقَائِمُ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَهُوَ لَا يَقْتَضِي تَنَجُّسَ الْمَاءِ بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْمَاءِ أَثَرًا، أَوْ أَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى التَّأْثِيرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَعْظَمَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّنَجُّسِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنْ الْمَاءِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ» . فَأَمَرَ بِالْغَسْلِ مُعَلِّلًا بِمَبِيتِ الشَّيْطَانِ عَلَى خَيْشُومِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلْغَسْلِ غَيْرَ النَّجَاسَةِ وَالْحَدَثِ الْمَعْرُوفِ. وَقَوْلُهُ: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذَلِكَ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْعِلَّةُ مِنْ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ الَّتِي شَهِدَ لَهَا النَّصُّ بِالِاعْتِبَارِ. وَأَمَّا نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ بَعْدَ الْبَوْلِ، فَهَذَا إنْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ

مسألة إزالة النجاسة بغير الماء

كَنَهْيِهِ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمُسْتَحَمِّ، ثُمَّ إذَا اغْتَسَلَ حَصَلَ لَهُ وَسْوَاسٌ، وَرُبَّمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَوْلِ، فَعَادَ عَلَيْهِ رَشَاشُهَا، وَكَذَلِكَ إذَا بَالَ فِي مَاءٍ، ثُمَّ اغْتَسَلَ فِيهِ، فَقَدْ يَغْتَسِلُ قَبْلَ الِاسْتِحَالَةِ مَعَ بَقَاءِ أَجْزَاءِ الْبَوْلِ، فَنُهِيَ عَنْهُ لِذَلِكَ. وَنَهْيُهُ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ إنْ صَحَّ يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْدِيرِ الْمَاءِ عَلَى غَيْرِهِ، لَا لِأَجْلِ نَجَاسَتِهِ وَلَا لِمَصِيرِهِ مُسْتَعْمَلًا، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمَاءُ لَا يُجْنِبُ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ إزَالَة النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ] 75 - 60 مَسْأَلَةٌ: فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهَا: الْمَنْعُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ، كَمَا فِي طَهَارَةِ فَمِ الْهِرَّةِ بِرِيقِهَا، وَطَهَارَةِ أَفْوَاهِ الصَّبِيَّانِ بِأَرْيَاقِهِمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالسُّنَّةُ قَدْ جَاءَتْ بِالْأَمْرِ بِالْمَاءِ فِي «قَوْلِهِ لِأَسْمَاءِ: حُتِّيهِ ثُمَّ اقْرِضِيهِ ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ» . وَقَوْلُهُ فِي آنِيَةِ الْمَجُوسِ: «ارْحَضُوهَا ثُمَّ اغْسِلُوهَا بِالْمَاءِ» .

وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ: «صُبُّوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ» . فَأَمَرَ بِالْإِزَالَةِ بِالْمَاءِ فِي قَضَايَا مُعَيَّنَةٍ، وَلَمْ يَأْمُرْ أَمْرًا عَامًّا بِأَنْ تُزَالَ كُلُّ نَجَاسَةٍ بِالْمَاءِ، وَقَدْ أَذِنَ فِي إزَالَتِهَا بِغَيْرِ الْمَاءِ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا: الِاسْتِجْمَارُ بِالْأَحْجَارِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي النَّعْلَيْنِ: «ثُمَّ لِيَدْلُكْهُمَا بِالتُّرَابِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ» . وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي الذَّيْلِ: «يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ» . وَمِنْهَا «أَنَّ الْكِلَابَ كَانَتْ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ لَمْ يَكُونُوا يَغْسِلُونَ ذَلِكَ» . وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي الْهِرَّةِ: «إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» مَعَ أَنَّ الْهِرَّةَ فِي الْعَادَةِ تَأْكُلُ الْفَأْرَ، وَلَمْ تَكُنْ هُنَاكَ قَنَاةٌ تَرِدْهَا تُطَهِّرُ بِهَا أَفْوَاهَهَا، وَإِنَّمَا طَهَّرَهَا رِيقُهَا. وَمِنْهَا أَنَّ الْخَمْرَ الْمُنْقَلِبَةَ بِنَفْسِهَا تَطْهُرُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالرَّاجِحُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّجَاسَةَ مَتَى زَالَتْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، زَالَ حُكْمُهَا، فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا، لَكِنْ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إفْسَادِ الْأَمْوَالِ كَمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهَا. وَاَلَّذِينَ قَالُوا: لَا تَزُولُ إلَّا بِالْمَاءِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا تَعَبُّدٌ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ أَمَرَ بِالْمَاءِ فِي قَضَايَا مُعَيَّنَةٍ؛ لِأَنَّ إزَالَتَهَا بِالْأَشْرِبَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ إفْسَادٌ لَهَا، وَإِزَالَتُهَا بِالْجَامِدَاتِ كَانَتْ مُتَعَذِّرَةً يَغْسِلُ الثَّوْبَ وَالْإِنَاءَ

وَالْأَرْضَ بِالْمَاءِ، فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ مَاءُ وَرْدٍ، وَخَلٌّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِفْسَادِهِ، فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمَاءَ لَهُ مِنْ اللُّطْفِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمَائِعَاتِ، فَلَا يَلْحَقُ غَيْرُهُ بِهِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ الْخَلُّ، وَمَاءُ الْوَرْدِ، وَغَيْرُهُمَا يُزِيلَانِ مَا فِي الْآنِيَةِ مِنْ النَّجَاسَةِ كَالْمَاءِ، وَأَبْلَغَ وَالِاسْتِحَالَةُ أَبْلَغُ فِي الْإِزَالَةِ مِنْ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ فَإِنَّ الْإِزَالَةَ بِالْمَاءِ قَدْ يَبْقَى مَعَهَا لَوْنُ النَّجَاسَةِ فَيُعْفَى عَنْهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَكْفِيك الْمَاءُ وَلَا يَضُرُّك أَثَرُهُ» . وَغَيْرُ الْمَاءِ يُزِيلُ الطَّعْمَ وَاللَّوْنَ وَالرِّيحَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا تَزُولَ بِالْمَاءِ لِتَنَجُّسِهِ بِالْمُلَاقَاةِ، لَكِنْ رَخَّصَ فِي الْمَاءِ لِلْحَاجَةِ فَجَعَلَ الْإِزَالَةَ بِالْمَاءِ صُورَةَ اسْتِحْسَانٍ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، وَكِلَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَةٌ، فَلَيْسَتْ إزَالَتُهَا بِهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا. وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ يَنْجَسُ بِالْمُلَاقَاةِ مَمْنُوعٌ، وَمَنْ سَلَّمَهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَارِدِ وَالْمَوْرُودِ، وَبَيْنَ الْجَارِي وَالْوَاقِفِ، وَلَوْ قِيلَ: إنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَالصَّوَابُ إنَّمَا خَلَّفَ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ إذَا عُرِفَتْ عِلَّتُهُ، إذْ الِاعْتِبَارُ فِي الْقِيَاسِ بِالْجَامِعِ وَالْفَارِقِ، وَاعْتِبَارُ طَهَارَةِ الْخَبَثِ بِطَهَارَةِ الْحَدَثِ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ طَهَارَةَ الْحَدَثِ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَلِهَذَا لَمْ تَسْقُطْ بِالنِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ، وَاشْتُرِطَ فِيهَا النِّيَّةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَمَّا طَهَارَةُ الْخَبَثِ فَإِنَّهَا مِنْ بَابِ التُّرُوكِ فَمَقْصُودُهَا اجْتِنَابُ الْخَبَثِ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا فِعْلُ الْعَبْدِ وَلَا قَصْدُهُ، بَلْ لَوْ زَالَتْ بِالْمَطَرِ النَّازِلِ مِنْ السَّمَاءِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ وَغَيْرُهُمْ. وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ: إنَّهُمْ اعْتَبَرُوا فِيهَا النِّيَّةَ فَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ السَّابِقِ، مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِأَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ، وَإِنَّمَا قِيلَ: هَذَا مِنْ ضِيقِ

مسألة ناس في مفازة ومعهم ماء قليل فولغ الكلب فيه

الْمَجَالِ فِي الْمُنَاظَرَةِ، فَإِنَّ الْمُنَازِعَ لَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ النِّيَّةِ قَاسَ طَهَارَةَ الْحَدَثِ عَلَى طَهَارَةِ الْخَبَثِ، فَمَنَعُوا الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ إذَا صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي أَظْهَرْ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ؛ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلَعَ نَعْلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ لِلْأَذَى الَّذِي كَانَ فِيهِمَا، وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ الصَّلَاةَ» . وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، «لَمَّا وَجَدَ فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةً أَمَرَ بِغَسْلِهَا وَلَمْ يُعِدْ الصَّلَاةَ» ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا كَانَ مَقْصُودُهُ اجْتِنَابَ الْمَحْظُورِ إذَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا، فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] . وَقَالَ تَعَالَى {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ فَعَلْت، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. . وَلِهَذَا كَانَ أَقْوَى الْأَقْوَالِ: أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ لَا يُبْطِلُ الْعِبَادَةَ، كَالْكَلَامِ نَاسِيًا، وَالْأَكْلِ نَاسِيًا، وَاللِّبَاسِ، وَالطِّيبِ نَاسِيًا، وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا. وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ نِزَاعٌ، وَتَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَحِينَئِذٍ فَإِذَا زَالَ الْخَبَثُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، حَصَلَ الْمَقْصُودُ، لَكِنْ إنْ زَالَ بِفِعْلِ الْعَبْدِ وَنِيَّتِهِ، أُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا إنْ عَدِمَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَلَا نِيَّتِهِ زَالَتْ الْمَفْسَدَةُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوَابٌ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عِقَابٌ. [مَسْأَلَةٌ نَاس فِي مَفَازَةٍ وَمَعَهُمْ مَاءٌ قَلِيلٌ فَوَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ] 76 - 61 مَسْأَلَةٌ: فِي نَاسٍ فِي مَفَازَةٍ وَمَعَهُمْ مَاءٌ قَلِيلٌ، فَوَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ فَمَا الْحُكْمُ فِيهِ؟

مسألة أواني النحاس المطعمة بالفضة

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، يَجُوزُ لَهُمْ حَبْسُهُ لِأَجْلِ الشُّرْبِ إذَا عَطِشُوا، وَلَمْ يَجِدُوا مَاءً طَيِّبًا، فَإِنَّ الْخَبَائِثَ جَمِيعَهَا تُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ الْمَيْتَةَ، وَالدَّمَ، وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَلَهُ أَنْ يَشْرَبَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ مَا يَرْوِيهِ، كَالْمِيَاهِ النَّجِسَةِ، وَالْمَائِعَاتِ الَّتِي تَرْوِيهِ، وَإِنَّمَا مَنَعَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ شُرْبَ الْخَمْرِ، قَالُوا: لِأَنَّهَا تَزِيدُهُ عَطَشًا. وَأَمَّا التَّوَضُّؤُ بِمَاءِ الْوُلُوغِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، بَلْ يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى التَّيَمُّمِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ، وَيَشْرَبَ مَا يُقِيمُ بِهِ بِنْيَتَهُ، فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ أَوْ الْمَاءِ النَّجِسِ، فَلَمْ يَأْكُلْ، وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ. وَلَوْ وَجَدَ غَيْرَهُ مُضْطَرًّا إلَى مَا مَعَهُ مِنْ الْمَاءِ الطَّيِّبِ وَالنَّجِسِ أَوْ حَدَثٍ صَغِيرٍ. وَمَنْ اغْتَسَلَ وَتَوَضَّأَ، وَهُنَاكَ مُضْطَرٌّ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ أَوْ الذِّمَّةِ، وَدَوَابِّهِمْ الْمَعْصُومَةِ، فَلَمْ يَسْقِهِ كَانَ آثِمًا عَاصِيًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أَوَانِي النُّحَاسِ الْمُطَعَّمَة بِالْفِضَّةِ] 77 - 62 مَسْأَلَةٌ: فِي أَوَانِي النُّحَاسِ الْمُطَعَّمَةِ بِالْفِضَّةِ كَالطَّاسَاتِ وَغَيْرِهَا، هَلْ حُكْمُهَا حُكْمُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالْفِضَّةِ مِنْ الْآنِيَةِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِنْ الْآلَاتِ، سَوَاءٌ سُمِّيَ الْوَاحِدُ مِنْ ذَلِكَ إنَاءً أَوْ لَمْ يُسَمَّ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُضَبَّبِ كَالْمَبَاخِرِ، وَالْمَجَامِرِ، وَالطُّشُوتِ، وَالشَّمْعُدَانَات، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ الضَّبَّةُ يَسِيرَةً لِحَاجَةٍ مِثْلُ: تَشْعِيبِ الْقَدَحِ، وَشَعِيرَةِ السِّكِّينِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا لَا يُبَاشَرُ بِالِاسْتِعْمَالِ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ بِالْحَاجَةِ هُنَا أَنْ يَحْتَاجَ إلَى تِلْكَ الصُّورَةِ، كَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّشْعِيبِ، وَالشَّعِيرَةِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ فِضَّةٍ، أَوْ نُحَاسٍ، أَوْ حَدِيدٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ

مُرَادُهُمْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى كَوْنِهَا مِنْ فِضَّةٍ، بَلْ هَذَا يُسَمُّونَهُ فِي مِثْلِ هَذَا ضَرُورَةً، وَالضَّرُورَةُ تُبِيحُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مُفْرَدًا وَتَبَعًا، حَتَّى لَوْ احْتَاجَ إلَى شَدِّ أَسْنَانِهِ بِالذَّهَبِ، أَوْ اتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ جَازَ، كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، مَعَ أَنَّهُ ذَهَبٌ وَمَعَ أَنَّهُ مُفْرَدٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَجِدْ مَا يَشْرَبُهُ إلَّا فِي إنَاءِ ذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ، جَازَ لَهُ شُرْبُهُ، وَلَوْ لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا يَقِيهِ الْبَرْدَ، أَوْ يَقِيهِ السِّلَاحَ، أَوْ يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ، إلَّا ثَوْبًا مِنْ حَرِيرٍ مَنْسُوجٍ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، جَازَ لَهُ لُبْسُهُ، فَإِنَّ الضَّرُورَةَ تُبِيحُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. مَعَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَطَاعِمِ أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَلَابِسِ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْخَبَائِثِ بِالْمُمَازَجَةِ وَالْمُخَالَطَةِ لِلْبَدَنِ، أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِهَا بِالْمُلَابَسَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ لِلظَّاهِرِ، وَلِهَذَا كَانَتْ النَّجَاسَاتُ الَّتِي تَحْرُمُ مُلَابَسَتُهَا يَحْرُمُ أَكْلُهَا، وَيَحْرُمُ مِنْ أَكْلِ السَّمُومِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمُضِرَّاتِ، مَا لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَلَا يَحْرُمُ مُبَاشَرَتُهَا. ثُمَّ مَا حَرُمَ لِخَبَثِ جِنْسِهِ أَشَدُّ مِمَّا حَرُمَ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّرَفِ، وَالْفَخْرِ، وَالْخُيَلَاءِ، فَإِنَّ هَذَا يَحْرُمُ الْقَدْرُ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْهُ، وَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ، كَمَا أُبِيحَ لِلنِّسَاءِ لُبْسُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ لِحَاجَتِهِنَّ إلَى التَّزَيُّنِ، وَحَرُمَ ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ، وَأُبِيحَ لِلرِّجَالِ مِنْ ذَلِكَ الْيَسِيرِ، كَالْعَلَمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ. وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، جَوَازَ التَّدَاوِي بِهَذَا الضَّرْبِ دُونَ الْأَوَّلِ، كَمَا رَخَّصَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلزُّبَيْرِ، وَطَلْحَةَ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ مِنْ حَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا. وَنَهَى عَنْ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ، وَقَالَ: «إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءٍ» . وَنَهَى عَنْ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ.

وَنَهَى عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ لِأَجْلِ التَّدَاوِي بِهَا، وَقَالَ: «إنَّ نَقْنَقَتَهَا تَسْبِيحٌ» . وَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا» . وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ بِإِذْنِهِ لِلْعُرَنِيِّينَ فِي التَّدَاوِي بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْخَبَائِثِ الْمُحَرَّمَةِ النَّجِسَةِ، لِنَهْيِهِ عَنْ التَّدَاوِي بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَلِكَوْنِهِ لَمْ يَأْمُرْ بِغَسْلِ مَا يُصِيبُ الْأَبْدَانَ، وَالثِّيَابَ، وَالْآنِيَةَ مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ الْقَائِلُونَ بِطَهَارَةِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ شُرْبِهَا لِغَيْرِ الضَّرُورَةِ، وَفِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ، فَذَاكَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْقَذَارَةِ الْمُلْحَقِ لَهَا بِالْمُخَاطِ، وَالْبُصَاقِ، وَالْمَعْنَى، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْتَقْذَرَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ، الَّتِي يُشْرَعُ النَّظَافَةُ مِنْهَا، كَمَا يُشْرَعُ نَتْفُ الْإِبْطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَإِحْفَاءُ الشَّارِبِ. وَلِهَذَا أَيْضًا كَانَ هَذَا الضَّرْبُ مُحَرَّمًا فِي بَابِ الْآنِيَةِ وَالْمَنْقُولَاتِ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَآنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ عَلَى الصِّنْفَيْنِ، بِخِلَافِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ، وَلِبَاسِ الْحَرِيرِ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لِلنِّسَاءِ، وَبَابُ الْخَبَائِثِ بِالْعَكْسِ فَإِنَّهُ يُرَخَّصُ فِي اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ، فِيمَا يَنْفَصِلُ عَنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مَا لَا يُبَاحُ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ، كَمَا يُبَاحُ إطْفَاءُ الْحَرِيقِ بِالْخَمْرِ، وَإِطْعَامُ الْمَيْتَةِ لِلْبُزَاةِ وَالصُّقُورِ، وَإِلْبَاسِ الدَّابَّةِ لِلثَّوْبِ النَّجِسِ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَهَذَا لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْخَبَائِثِ فِيهَا يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْمُنْفَصِلَةِ، بِخِلَافِ اسْتِعْمَالِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ، فَإِنَّ هَذَا غَايَةُ السَّرَفِ، وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ غَلَطُ مَنْ رَخَّصَ مِنْ الْفُقَهَاءِ، مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، فِي إلْبَاسِ دَابَّتِهِ الثَّوْبَ الْحَرِيرَ، قِيَاسًا عَلَى إلْبَاسِ الثَّوْبِ النَّجِسِ، فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُجَوِّزُ افْتِرَاشَ الْحَرِيرِ وَوَطْأَهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُصَوَّرَاتِ، أَوْ مَنْ يُبِيحُ تَحْلِيَةَ دَابَّتِهِ بِالذَّهَبِ

وَالْفِضَّةِ، قِيَاسًا عَلَى مَنْ يُبِيحُ إلْبَاسَهَا الثَّوْبَ النَّجِسَ، فَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ تَحْرِيمُ افْتِرَاشِ الْحَرِيرِ، كَمَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ لِبَاسِهِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ حَرَّمَ افْتِرَاشَهُ عَلَى النِّسَاءِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمَرَاوِزَةِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ مِنْ قَوْلِ مَنْ أَبَاحَهُ لِلرِّجَالِ، كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الِافْتِرَاشَ كَاللِّبَاسِ، يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الِافْتِرَاشَ لِلِّبَاسِ، كَمَا قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ. إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إبَاحَةِ التَّزَيُّنِ عَلَى الْبَدَنِ إبَاحَةُ الْمُنْفَصِلِ، كَمَا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَإِذَا تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ حَاجَةً وَمَا يُسَمُّونَهُ ضَرُورَةً فَيَسِيرُ الْفِضَّةِ التَّابِعِ يُبَاحُ عِنْدَهُمْ لِلْحَاجَةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: «أَنَّ قَدَحَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا انْكَسَرَ شُعِّبَ بِالْفِضَّةِ» ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّاعِبُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ كَانَ هُوَ أَنَسًا. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْيَسِيرُ لِلزِّينَةِ، فَفِيهِ أَقْوَالٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ: التَّحْرِيمُ، وَالْإِبَاحَةُ، وَالْكَرَاهَةُ. قِيلَ: وَالرَّابِعُ أَنَّهُ يُبَاحُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُبَاشَرُ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ، فَيُنْهَى عَنْ الْعِنَبَةِ فِي مَوْضِعِ الشُّرْبِ دُونَ غَيْرِهِ. وَلِهَذَا كُرِهَ حَلْقَةُ الذَّهَبِ فِي الْإِنَاءِ اتِّبَاعًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ وَهُوَ أَوْلَى مَا اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْهُ مَرْفُوعًا مِنْ شُرْبٍ فِي إنَاءٍ ذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ إنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَلِهَذَا كَانَ الْمُبَاحُ مِنْ الضَّبَّةِ إنَّمَا يُبَاحُ لَنَا اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ، قِيلَ: يُكْرَهُ، وَقِيلَ: يَحْرُمُ، وَلِذَلِكَ كَرِهَ أَحْمَدُ الْحَلْقَةَ فِي الْإِنَاءِ اتِّبَاعًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْكَرَاهَةُ مِنْهُ هَلْ تُحْمَلُ عَلَى التَّنْزِيهِ، أَوْ التَّحْرِيمِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِهِ، وَهَذَا الْمَنْعُ هُوَ مُقْتَضَى النَّصِّ وَالْقِيَاسِ، فَإِنَّ تَحْرِيمَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ، كَمَا أَنَّ تَحْرِيمَ الْخِنْزِيرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ اقْتَضَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ أَبْعَاضِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ اقْتَضَى النَّهْيَ عَنْ أَبْعَاضِ ذَلِكَ، لَوْلَا مَا وَرَدَ مِنْ اسْتِثْنَاءِ مَوْضِعِ إصْبَعَيْنِ، أَوْ ثَلَاثٍ، أَوْ أَرْبَعٍ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.

وَلِهَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَلَامِ سَائِرِ النَّاسِ، بَيْنَ بَابِ النَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ، وَبَابِ الْأَمْرِ وَالْإِيجَابِ، فَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ نَهَى عَنْ بَعْضِهِ، وَإِذَا أَمَرَ بِشَيْءٍ كَانَ أَمْرًا بِجَمِيعِهِ. وَلِهَذَا كَانَ النِّكَاحُ حَيْثُ أَمَرَ بِهِ كَانَ أَمْرًا بِمَجْمُوعِهِ، وَالْعَقْدُ وَالْوَطْءُ، وَكَذَلِكَ إذَا أُبِيحَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] . {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] . «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ» . وَحَيْثُ حُرِّمَ النِّكَاحُ كَانَ تَحْرِيمًا لِأَبْعَاضِهِ، حَتَّى يُحَرَّمَ الْعَقْدُ مُفْرَدًا وَالْوَطْءُ مُفْرَدًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] . وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الْآيَةَ إلَى آخِرِهَا. وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ» .

وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا فَرَّقَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، بَيْنَ مَنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا فَفَعَلَ بَعْضَهُ، أَنَّهُ لَا يَبَرُّ، وَمَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَ بَعْضَهُ أَنَّهُ يَحْنَثُ. وَإِذَا كَانَ تَحْرِيمُ الذَّهَبِ، وَالْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ، وَآنِيَةِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ عَلَى الزَّوْجَيْنِ، يَقْتَضِي شُمُولَ التَّحْرِيمِ لِأَبْعَاضِ ذَلِكَ، بَقِيَ اتِّخَاذُ الْيَسِيرِ لِحَاجَةٍ أَوْ مُطْلَقًا، فَالِاتِّخَاذُ الْيَسِيرُ. وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ اتِّخَاذِ الْآنِيَةِ بِدُونِ اسْتِعْمَالِهَا، فَرَخَّصَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي قَوْلٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْهُمَا تَحْرِيمُهُ، إذْ الْأَصْلُ أَنَّ مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ، حَرُمَ اتِّخَاذُهُ كَآلَاتِ الْمَلَاهِي. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ التَّابِعَةُ كَثِيرَةً فَفِيهَا أَيْضًا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَفِي تَحْدِيدِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَثِيرِ وَالْيَسِيرِ، وَالتَّرْخِيصِ فِي لُبْسِ خَاتَمِ الْفِضَّةِ، أَوْ تَحْلِيَةِ السِّلَاحِ مِنْ الْفِضَّةِ، وَهَذَا فِيهِ إبَاحَةُ يَسِيرِ الْفِضَّةِ مُفْرَدًا، لَكِنْ فِي اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي، وَذَلِكَ يُبَاحُ فِيهِ مَا لَا يُبَاحُ فِي بَابِ الْآنِيَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا غَلِطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، حَيْثُ حَكَى قَوْلًا بِإِبَاحَةِ يَسِيرِ الذَّهَبِ تَبَعًا فِي الْآنِيَةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو بَكْرٍ، إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي بَابِ اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي كَعَلَمِ الذَّهَبِ وَنَحْوِهِ. وَفِي يَسِيرِ الذَّهَبِ فِي بَابِ اللِّبَاسِ عَنْ أَحْمَدَ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: الرُّخْصَةُ مُطْلَقًا، لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ: «نَهَى عَنْ الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا» وَلَعَلَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ. وَالثَّانِي: الرُّخْصَةُ فِي السِّلَاحِ فَقَطْ. وَالثَّالِثُ: فِي السَّيْفِ خَاصَّةً، وَفِيهِ وَجْهٌ بِتَحْرِيمِهِ مُطْلَقًا، لِحَدِيثِ أَسْمَاءَ: «لَا يُبَاحُ مِنْ الذَّهَبِ وَلَا خَرِيصَةٌ» .

وَالْخَرِيصَةُ عَيْنُ الْجَرَادَةِ، لَكِنْ هَذَا قَدْ يُحْمَلُ عَلَى الذَّهَبِ الْمُفْرَدِ دُونَ التَّابِعِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ نَهَى عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ» ، وَإِنْ كَانَ قَدْ لَبِسَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ، وَلِهَذَا فَرَّقَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بَيْنَ يَسِيرِ الْحَرِيرِ مُفْرَدًا كَالتِّكَّةِ، فَنَهَى عَنْهُ، وَبَيْنَ يَسِيرِهِ تَبَعًا كَالْعَلَمِ، إذْ الِاسْتِثْنَاءُ وَقَعَ فِي هَذَا النَّوْعِ فَقَطْ. فَكَمَا يُفَرَّقُ فِي الرُّخْصَةِ بَيْنَ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ التَّابِعِ وَالْمُفْرَدِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُ مُعَاوِيَةَ " إلَّا مُقَطَّعًا " عَلَى التَّابِعِ لِغَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ قَدْ رُخِّصَ مِنْهَا فِي بَابِ اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي فِي الْيَسِيرِ، وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا، فَاَلَّذِينَ رَخَّصُوا فِي الْيَسِيرِ، أَوْ الْكَثِيرِ التَّابِعِ فِي الْآنِيَةِ أَلْحَقُوهَا بِالْحَرِيرِ، الَّذِي أُبِيحَ يَسِيرُهُ تَبَعًا لِلرِّجَالِ فِي الْفِضَّةِ الَّتِي أُبِيحَ يَسِيرُهَا مُفْرَدًا أَوْ لَا، وَلِهَذَا أُبِيحَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، حِلْيَةُ الْمُتَطَفَّةِ مِنْ الْفِضَّةِ، وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِنْ لِبَاسِ الْحَرْبِ: كَالْخُوذَةِ وَالْجَوْشَنِ، وَالرَّانِّ، وَحَمَائِلِ السَّيْفِ، وَأَمَّا تَحْلِيَةُ السَّيْفِ بِالْفِضَّةِ، فَلَيْسَ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ. وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا قَالُوا: الرُّخْصَةُ وَقَعَتْ فِي بَابِ اللِّبَاسِ دُونَ بَابِ الْآنِيَةِ، وَبَابُ اللِّبَاسِ أَوْسَعُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ هَذَا أَقْوَى، إذْ لَا أَثَرَ. هَذِهِ الرُّخْصَةُ وَالْقِيَاسُ كَمَا تَرَى، وَأَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ، فَهَذَا دَخَلَ فِي النَّهْيِ، سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْفِضَّةِ مُنْتَفٍ هَهُنَا، لَكِنْ فِي يَسِيرِ الذَّهَبِ فِي الْآنِيَةِ وَجْهٌ لِلرُّخْصَةِ فِيهِ. وَأَمَّا التَّوَضُّؤُ وَالِاغْتِسَالُ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، لَكِنَّهُ مُرَكَّبٌ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، بَلْ أَشْهَرُهُمَا عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَاللِّبَاسِ الْمُحَرَّمِ كَالْحَرِيرِ، وَالْمَغْصُوبِ، وَالْحَجِّ بِالْمَالِ الْحَرَامِ،

مسألة لمس النساء هل ينقض الوضوء

وَذَبْحِ الشَّاةِ بِالسِّكِّينِ الْمُحَرَّمَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا فِيهِ أَدَاءُ وَاجِبٍ، وَاسْتِحْلَالُ مَحْظُورٍ. فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يُصَحِّحُ فِيهَا الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ وَيُبِيحُ الذَّبْحَ، فَإِنَّهُ يُصَحِّحُ الطَّهَارَةَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَأَمَّا عَلَى الْمَنْعِ فَلِأَصْحَابِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الصِّحَّةُ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ وَغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: الْبُطْلَانُ، كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ طَرْدًا لِقِيَاسِ الْبَابِ. وَاَلَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ الْخِرَقِيِّ أَكْثَرُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ فَرَّقُوا بِفَرْقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَا مُنْفَصِلٌ عَنْ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ الْإِنَاءَ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْمُتَطَهِّرِ، بِخِلَافِ لَابِسِ الْمُحَرَّمِ، وَآكِلِهِ، وَالْجَالِسِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مُبَاشِرٌ لَهُ. قَالُوا: فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ذَهَبَ إلَى الْجُمُعَةِ بِدَابَّةٍ مَغْصُوبَةٍ، وَضَعَّفَ آخَرُونَ هَذَا الْفَرْقَ بِأَنَّهُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَغْمِسَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ الْمُحَرَّمِ، وَبَيْنَ أَنْ يَغْتَرِفَ مِنْهُ، وَبِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الشَّارِبَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» ، وَهُوَ حِينَ انْصِبَابِ الْمَاءِ فِي بَطْنِهِ يَكُونُ قَدْ انْفَصَلَ عَنْ الْإِنَاءِ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: وَهُوَ أَفْقَهُ، قَالُوا: التَّحْرِيمُ إذَا كَانَ فِي رُكْنِ الْعِبَادَةِ وَشَرْطِهَا أَثَّرَ فِيهَا، كَمَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فِي اللِّبَاسِ أَوْ الْبُقْعَةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي أَجْنَبِيٍّ عَنْهَا لَمْ يُؤَثِّرْ، وَالْإِنَاءُ فِي الطَّهَارَةِ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا، فَلِهَذَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ لَمْس النِّسَاءِ هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ] 78 - 63 - مَسْأَلَةٌ: فِي لَمْسِ النِّسَاءِ هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ؛ أَمَّا نَقْضُ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ النِّسَاءِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، طَرَفَانِ وَوَسَطٌ: أَضْعَفُهَا: أَنَّهُ يُنْقَضُ بِاللَّمْسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِشَهْوَةٍ إذَا كَانَ الْمَلْمُوسُ مَظِنَّةً

لِلشَّهْوَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى {أَوْ لامَسْتُمُ} [النساء: 43] . الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّمْسَ لَا يَنْقُضُ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَ لِشَهْوَةٍ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يُذْكَرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، لَكِنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِهِ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةِ: أَنَّ اللَّمْسَ إنْ كَانَ لِشَهْوَةٍ نَقَضَ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ مُتَوَجِّهٌ إلَّا هَذَا الْقَوْلَ أَوْ الَّذِي قَبْلَهُ. فَأَمَّا تَعْلِيقُ النَّقْضِ بِمُجَرَّدِ اللَّمْسِ، فَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ، وَخِلَافُ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَخِلَافُ الْآثَارِ، وَلَيْسَ مَعَ قَائِلِهِ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ، فَإِنْ كَانَ اللَّمْسُ فِي قَوْله تَعَالَى {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] إذَا أُرِيدَ بِهِ اللَّمْسُ بِالْيَدِ، وَالْقُبْلَةُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ، فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ حَيْثُ. ذُكِرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَا كَانَ لِشَهْوَةٍ، مِثْلُ قَوْلِهِ فِي آيَةِ الِاعْتِكَافِ: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] . وَمُبَاشَرَةُ الْمُعْتَكِفِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمُبَاشَرَةِ لِشَهْوَةٍ، وَكَذَلِكَ الْمُحْرِمُ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ، لَوْ بَاشَرَ الْمَرْأَةَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بِهِ دَمٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] . وَقَوْلُهُ: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236] . فَإِنَّهُ لَوْ مَسَّهَا مَسِيسًا خَالِيًا مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَجِبْ بِهِ عِدَّةٌ، وَلَا يَسْتَقِرُّ بِهِ مَهْرٌ، وَلَا تَنْتَشِرُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ مَسَّ الْمَرْأَةَ لِشَهْوَةٍ، وَلَمْ يَخْلُ بِهَا، وَلَمْ يَطَأْهَا، فَفِي اسْتِقْرَارِ الْمَهْرِ بِذَلِكَ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ.

فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] يَتَنَاوَلُ اللَّمْسَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِشَهْوَةٍ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ اللُّغَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ، بَلْ وَعَنْ لُغَةِ النَّاسِ فِي عُرْفِهِمْ، فَإِنَّهُ إذَا ذَكَرَ الْمَسَّ الَّذِي يُقْرَنُ فِيهِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عُلِمَ أَنَّهُ مَسُّ الشَّهْوَةِ، كَمَا أَنَّهُ إذَا ذُكِرَ الْوَطْءُ الْمَقْرُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالْمَرْأَةِ، عُلِمَ أَنَّهُ الْوَطْءُ بِالْفَرْجِ لَا بِالْقَدَمِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ إنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِلَمْسِ النِّسَاءِ مُطْلَقًا، بَلْ بِصِنْفٍ مِنْ النِّسَاءِ، وَهُوَ مَا كَانَ مَظِنَّةَ الشَّهْوَةِ، فَأَمَّا مَسُّ مَنْ لَا يَكُونُ مَظِنَّةً، كَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَالصَّغِيرَةِ فَلَا يُنْقَضُ بِهَا، فَقَدْ تَرَكَ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الظَّاهِرِ وَاشْتَرَطَ شَرْطًا لَا أَصْلَ لَهُ بِنَصٍّ وَلَا قِيَاسٍ، فَإِنَّ الْأُصُولَ الْمَنْصُوصَةَ تُفَرِّقُ بَيْنَ اللَّمْسِ لِشَهْوَةٍ، وَاللَّمْسِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَلْمُوسُ مَظِنَّةَ الشَّهْوَةِ، أَوْ لَا يَكُونُ. وَهَذَا هُوَ الْمَسُّ الْمُؤَثِّرُ فِي الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا، كَالْإِحْرَامِ، وَالِاعْتِكَافِ، وَالصِّيَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَلَا الْقِيَاسُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ. وَأَمَّا مَنْ عَلَّقَ النَّقْضَ بِالشَّهْوَةِ فَالظَّاهِرُ الْمَعْرُوفُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ دَلِيلٌ لَهُ، وَقِيَاسُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ دَلِيلٌ. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّمْسَ نَاقِضًا بِحَالٍ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ اللَّمْسَ إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْجِمَاعُ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] . وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَفِي السُّنَنِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» . لَكِنْ تُكُلِّمَ فِيهِ. وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَسَّ النَّاسِ نِسَاءَهُمْ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَمَسُّ امْرَأَتَهُ، فَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَهُ لِأُمَّتِهِ، وَلَكَانَ مَشْهُورًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِمُجَرَّدِ مُلَاقَاةِ

مسألة قنطار زيت وقعت فيه فأرة

يَدِهِ لِامْرَأَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا، وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ بَاطِلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قِنْطَار زَيْتٍ وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ] 79 - 64 مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ قَدَّسَ اللَّهُ تَعَالَى رُوحَهُ، وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ: عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ سِتُّونَ قِنْطَارَ زَيْتٍ بِالدِّمَشْقِيِّ، وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ فِي بِئْرٍ وَاحِدَةٍ، فَهَلْ يَنْجَسُ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ أَوْ اسْتِعْمَالُهُ، أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا يَنْجَسُ بِذَلِكَ، بَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَحُكْمُ الْمَائِعَاتِ عِنْدَهُ حُكْمُ الْمَاءِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، فَلَا يَنْجَسُ إذَا بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، لَكِنْ تُلْقَى النَّجَاسَةُ وَمَا حَوْلَهَا، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ حُكْمَ الْمَائِعَاتِ حُكْمُ الْمَاءِ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: كَالزُّهْرِيِّ، وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ. وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ، وَفِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْإِزَالَةِ، لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَأَى مُجَرَّدَ الْوُصُولِ مُنَجِّسًا، وَجُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ خَالَفُوا فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يَرَوْا الْوُصُولَ مُنَجِّسًا مَعَ الْكَثْرَةِ، وَتَنَازَعُوا فِي الْقَلِيلِ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ رَأَى أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ أَنَّ الْخَبِيثَ إذَا وَقَعَ فِي الطَّيِّبِ أَفْسَدَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّمَا يُفْسِدُهُ إذَا كَانَ قَدْ ظَهَرَ أَثَرُهُ، فَأَمَّا إذَا اُسْتُهْلِكَ فِيهِ وَاسْتَحَالَ، فَلَا وَجْهَ لِإِفْسَادِهِ، كَمَا لَوْ انْقَلَبَتْ الْخَمْرَةُ خَلًّا بِغَيْرِ قَصْدِ آدَمِيٍّ، فَإِنَّهَا طَاهِرَةٌ حَلَالٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، لَكِنَّ مَذْهَبَهُ فِي الْمَاءِ مَعْرُوفٌ، وَعَلَى هَذَا أَدِلَّةٌ قَدْ بَسَطْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى نَجَاسَتِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ. وَعُمْدَةُ الَّذِينَ نَجَّسُوهُ احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ، فَقَالَ:

«إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ إنَّمَا يَدُلُّ لَوْ دَلَّ عَلَى نَجَاسَةِ السَّمْنِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْفَأْرَةُ، فَكَيْفَ وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، بَلْ بَاطِلٌ غَلِطَ فِيهِ مَعْمَرٌ عَلَى الزُّهْرِيِّ غَلَطًا مَعْرُوفًا عِنْدَ النُّقَّادِ الْجَهَابِذَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْبُخَارِيِّ. وَمَنْ اعْتَقَدَ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ فَلَمْ يَعْلَمْ لِلْعِلَّةِ الْبَاطِنَةِ فِيهِ، الَّتِي تُوجِبُ الْعِلْمَ بِبُطْلَانِهِ، فَإِنَّ عِلْمَ الْعِلَلِ مِنْ خَوَاصِّ عِلْمِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، وَلِهَذَا بَيَّنَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مَا يُوجِبُ فَسَادَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ هُوَ عَلَى طَهَارَتِهِ أَدَلُّ مِنْهُ عَلَى النَّجَاسَةِ فَقَالَ: (بَابٌ: إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ أَوْ الذَّائِبِ) فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ - عَنْ يُونُسَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الدَّابَّةِ الَّتِي تَمُوتُ فِي الزَّيْتِ، أَوْ السَّمْنِ وَهُوَ جَامِدٌ، أَوْ غَيْرُ جَامِدٍ، الْفَأْرَةُ أَوْ غَيْرُهَا قَالَ: بَلَغَنَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِفَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ بِمَا قَرُبَ مِنْهَا فَطُرِحَ ثُمَّ أُكِلَ» . وَفِي حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوهُ» . فَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ أَعْلَمِ الْأُمَّةِ بِالسُّنَّةِ فِي زَمَانِهِ، أَنَّهُ أَفْتَى فِي الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ الْجَامِدِ، وَغَيْرِ الْجَامِدِ، إذَا مَاتَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ أَنَّهَا تُطْرَحُ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا، وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: «أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوهُ» . وَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ، بَلْ هَذَا بَاطِلٌ، فَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذَا لِيُبَيِّنَّ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ رَوَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ هَذَا التَّفْصِيلَ فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ أَجَابَ الْعُمُومَ فِي الْجَامِدِ وَالذَّائِبِ مُسْتَدِلًّا بِهَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ، لَا سِيَّمَا وَالسَّمْنُ بِالْحِجَازِ يَكُونُ ذَائِبًا أَكْثَرَ مِمَّا يَكُونُ جَامِدًا.

مسألة طواف الحائض والجنب والمحدث

بَلْ قِيلَ أَنْ لَا يَكُونَ بِالْحِجَازِ جَامِدًا بِحَالٍ، فَإِطْلَاقُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَوَابَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ يُوجِبُ الْعُمُومَ، إذْ السُّؤَالُ كَالْمُعَادِ فِي الْجَوَابِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ، وَتَرْكِ الِاسْتِفْصَالِ فِي حِكَايَةِ الْحَالِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ، هَذَا إذَا كَانَ السَّمْنُ بِالْحِجَازِ يَكُونُ جَامِدًا، وَيَكُونُ ذَائِبًا فَأَمَّا إنْ كَانَ وُجُودُ الْجَافِّ نَادِرًا، أَوْ مَعْدُومًا كَانَ الْحَدِيثُ نَصًّا فِي أَنَّ السَّمْنَ الذَّائِبَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ فَإِنَّهَا تُلْقَى وَمَا حَوْلَهَا وَيُؤْكَلُ. وَبِذَلِكَ أَجَابَ الزُّهْرِيُّ، فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجَسُ قَلِيلُهُ وَلَا كَثِيرُهُ، إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَائِلِ الصَّحِيحِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَدَلَائِلِهَا، وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَيْفَ وَفِي تَنْجِيسِ مِثْلِ ذَلِكَ وَتَحْرِيمِهِ مِنْ فَسَادِ الْأَطْعِمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَإِتْلَافِ الْأَمْوَالِ الْعَظِيمَةِ الْقَدْرِ مَا لَا تَأْتِي بِمِثْلِهِ الشَّرِيعَةُ الْجَامِعَةُ لِلْمَحَاسِنِ كُلِّهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ تَنْزِيهًا لَنَا عَنْ الْمَضَارِّ، وَأَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ كُلَّهَا، لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْنَا شَيْئًا مِنْ الطَّيِّبَاتِ، كَمَا حَرَّمَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِظُلْمِهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ. وَمَنْ اسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ فِي مَوَارِدِهَا، وَمَصَادِرِهَا، وَاشْتِمَالِهَا عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَهْدِيهِ اللَّهُ إلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَاتُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. [مَسْأَلَةٌ طَوَاف الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ] وَمِنْ مُصَنَّفَاتِهِ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ: فَصْلٌ: 80 - 65 مَسْأَلَةٌ: فِي طَوَافِ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْحَائِضُ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ» .

وَقَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «اصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» . «وَلَمَّا قِيلَ لَهُ عَنْ صَفِيَّةَ إنَّهَا حَاضَتْ، فَقَالَ: أَحَابِسَتُنَا هِيَ فَقِيلَ لَهُ: إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ؟ قَالَ: فَلَا إذًا» . وَصَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ عَامَ تِسْعٍ، لَمَّا أَمَّرَهُ عَلَى الْمَوْسِمِ يُنَادِي: أَنْ لَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ» . وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ الطَّائِفِينَ بِالْوُضُوءِ وَلَا بِاجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ، كَمَا أَمَرَ الْمُصَلِّينَ بِالْوُضُوءِ، فَنَهْيُهُ الْحَائِضَ عَنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ، لِكَوْنِهَا مَنْهِيَّةً عَنْ اللَّبْثِ فِيهِ، وَفِي الطَّوَافِ لَبْثٌ، أَوْ عَنْ الدُّخُولِ إلَيْهِ مُطْلَقًا لِمُرُورٍ أَوْ لَبْثٍ؛ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِ الطَّوَافِ نَفْسِهِ يَحْرُمُ مَعَ الْحَيْضِ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ الصَّلَاةُ، وَالصِّيَامُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَمَسِّ الْمُصْحَفِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَاَلَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَيْهَا الْقِرَاءَةَ كَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ تَنَازَعُوا فِي إبَاحَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لَهَا وَلِلنُّفَسَاءِ، قَبْلَ الْغُسْلِ وَبَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهُمَا: إبَاحَتُهَا لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَقَالَ: هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَالثَّانِي: مَنْعُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ. وَالثَّالِثُ: إبَاحَتُهَا لِلنُّفَسَاءِ دُونَ الْحَائِضِ، اخْتَارَهُ الْخَلَّالُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَجْمُوعِهِمَا، بِحَيْثُ لَوْ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَحْرُمْ، فَإِنْ كَانَ تَحْرِيمُهُ لِلْأَوَّلِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَإِنَّ لَبْثَهَا فِي الْمَسْجِدِ لِضَرُورَةِ الْمَسْجِدِ.

وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَقُلْت: إنِّي حَائِضٌ، قَالَ: إنَّ حَيْضَتَك لَيْسَتْ فِي يَدِك» . وَعَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضَعُ رَأْسَهُ فِي حِجْرِ إحْدَانَا، يَتْلُو الْقُرْآنَ وَهِيَ حَائِضٌ، وَتَقُومُ إحْدَانَا لِخُمْرَتِهِ إلَى الْمَسْجِدِ فَتَبْسُطُهَا وَهِيَ حَائِضٌ» ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد: مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِجُنُبٍ وَلَا حَائِضٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَلِهَذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمَا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُرُورِ وَاللَّبْثِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهَا مِنْ اللَّبْثِ وَالْمُرُورِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُحَرِّمْ الْمَسْجِدَ عَلَيْهَا، وَقَدْ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] . وَأَبَاحَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ اللَّبْثَ لِمَنْ يَتَوَضَّأُ، لِمَا رَوَاهُ هُوَ، وَغَيْرُهُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: رَأَيْت رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ مُجْنِبُونَ، إذَا تَوَضَّئُوا وُضُوءَ الصَّلَاةِ. وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمَسْجِدَ بَيْتُ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَلَائِكَةُ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُنُبَ أَنْ يَنَامَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ.

وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: " إذَا أَصَابَ أَحَدُكُمْ الْمَرْأَةَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ، فَلَا يَنَامُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ نَفْسَهُ تُصَابُ فِي نَوْمِهِ ". وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: " فَإِنَّهُ إذَا مَاتَ لَمْ تَشْهَدْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ جِنَازَتَهُ ". وَقَدْ أَمَرَ الْجُنُبَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْمُعَاوَدَةِ، وَهَذَا دَلِيلُ أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ ذَهَبَتْ الْجَنَابَةُ عَنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، فَلَا تَبْقَى جَنَابَتُهُ تَامَّةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَدَثِ، كَمَا أَنَّ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ عَلَيْهِ حَدَثٌ دُونَ الْجَنَابَةِ، وَإِنْ كَانَ حَدَثُهُ فَوْقَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ فَهُوَ دُونَ الْجُنُبِ، فَلَا يَمْنَعُ الْمَلَائِكَةَ عَنْ شُهُودِهِ، فَلِهَذَا يَنَامُ وَيَلْبَثُ فِي الْمَسْجِدِ. وَأَمَّا الْحَائِضُ فَحَدَثُهَا دَائِمٌ، لَا يُمْكِنُهَا طَهَارَةٌ تَمْنَعُهَا عَنْ الدَّوَامِ، فَهِيَ مَعْذُورَةٌ فِي مُكْثِهَا، وَنَوْمِهَا، وَأَكْلِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا تُمْنَعُ مِمَّا يُمْنَعُ مِنْهُ الْجُنُبُ مَعَ حَاجَتِهَا إلَيْهِ. وَلِهَذَا كَانَ أَظْهَرُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا لَا تُمْنَعُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. إذَا احْتَاجَتْ إلَيْهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَيُذْكَرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، فَإِنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إلَيْهَا، وَلَا يُمْكِنُهَا الطَّهَارَةُ، كَمَا يُمْكِنُ الْجُنُبَ، وَإِنْ كَانَ حَدَثُهَا أَغْلَظَ مِنْ حَدَثِ الْجُنُبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا لَا تَصُومُ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ الدَّمُ، وَالْجُنُبُ يَصُومُ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ الصَّلَاةِ طَهُرَتْ أَوْ لَمْ تَطْهُرْ، وَيُمْنَعُ الرَّجُلُ مِنْ وَطْئِهَا أَيْضًا، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْحَظْرِ فِي حَقِّهَا أَقْوَى، لَكِنْ إذَا احْتَاجَتْ إلَى الْفِعْلِ اسْتَبَاحَتْ الْمَحْظُورَ مَعَ قِيَامِ سَبَبِ الْحَظْرِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، كَمَا يُبَاحُ سَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ مَعَ الضَّرُورَةِ مِنْ الدَّمِ، وَالْمَيْتَةِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَإِنْ كَانَ مَا هُوَ دُونَهَا فِي التَّحْرِيمِ لَا يُبَاحُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، كَلُبْسِ الْحَرِيرِ، وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، مَعَ كَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَمَعَ النَّجَاسَةِ فِي الْبَدَنِ، وَالثَّوْبِ، هِيَ مُحَرَّمَةٌ أَغْلَظُ مِنْ غَيْرِهَا وَتُبَاحُ، بَلْ تَجِبُ مَعَ الْحَاجَةِ، وَغَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ دُونَهَا فِي التَّحْرِيمِ: كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مَعَ الْحَاجَةِ لَا يُبَاحُ. وَإِذَا قَدَرَ جُنُبٌ اسْتَمَرَّتْ بِهِ الْجَنَابَةُ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى غُسْلٍ، أَوْ تَيَمُّمٍ فَهَذَا

كَالْحَائِضِ فِي الرُّخْصَةِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا نَادِرًا، وَكَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحُيَّضَ أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْعِيدِ، وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ، وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِ النَّاسِ، وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ، أَمَرَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةِ، وَمَا فِيهِمَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَشُهُودِهِمَا عَرَفَةَ مَعَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ، مَعَ ذِكْرِ اللَّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يُكْرَهُ لَهَا ذَلِكَ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا، وَالْجُنُبُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَغْتَسِلَ؛ لِأَنَّهُ نَادِرٌ عَلَى الطَّهَارَةِ بِخِلَافِ الْحَائِضِ. فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَوْعِهَا، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ إلَى غِلَظِ الْمَفْسَدَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْحَظْرِ، أَوْ لَا يُنْظَرُ مَعَ ذَلِكَ إلَى الْحَاجَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِذْنِ، بَلْ الْمُوجِبَةِ لِلِاسْتِحْبَابِ أَوْ الْإِيجَابِ. وَكُلُّ مَا يَحْرُمُ مَعَهُ الصَّلَاةُ يَجِبُ مَعَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ الصَّلَاةُ إلَّا كَذَلِكَ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَعَ تِلْكَ الْأُمُورِ أَخَفُّ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ، فَلَوْ صَلَّى بِتَيَمُّمٍ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، لَكَانَتْ الصَّلَاةُ مُحَرَّمَةً، وَمَعَ عَجْزِهِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ كَانَتْ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ وَاجِبَةً بِالْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عُرْيَانًا، وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَمَعَ حُصُولِ النَّجَاسَةِ وَبِدُونِ الْقِرَاءَةِ، وَصَلَاةِ الْفَرْضِ قَاعِدًا أَوْ بِدُونِ إكْمَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَحْرُمُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَيَجِبُ مَعَ الْعَجْزِ، وَكَذَلِكَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ يَحْرُمُ أَكْلُهَا عِنْدَ الْغِنَى عَنْهَا، وَيَجِبُ أَكْلُهَا بِالضَّرُورَةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ مَسْرُوقٌ: مَنْ اُضْطُرَّ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَعَانَ عَلَى نَفْسِهِ بِتَرْكِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَكْلِ الْمُبَاحِ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ، بِخِلَافِ الْمُجَاهِدِ بِالنَّفْسِ، وَمَنْ تَكَلَّمَ بِحَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ قُتِلَ مُجَاهِدًا فَفِي قَتْلِهِ مَصْلَحَةٌ لِدِينِ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَعْلِيلُ مَنْعِ طَوَافِ الْحَائِضِ بِأَنَّهُ لِأَجْلِ حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ، رَأَيْته يُعَلِّلُ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الطَّهَارَةَ وَاجِبَةٌ لَهُ، لَا فَرْضٌ فِيهِ، وَلَا شَرْطٌ لَهُ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ يُنَاسِبُ الْقَوْلَ بِأَنَّ طَوَافَ الْمُحْدِثِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْهُمَا.

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فِي مَنَاسِكِهِ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ، أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَمَّادٍ، وَمَنْصُورٍ قَالَ: سَأَلْتهمَا عَنْ الرَّاجِلِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَوَضِّئٍ؟ فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأْسًا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَأَلْت أَبِي عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَوَضِّئٍ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ صَلَاةٌ، وَأَحْمَدُ عَنْهُ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ فِي الطَّهَارَةِ هَلْ هِيَ شَرْطٌ فِي الطَّوَافِ أَمْ لَا؟ وَكَذَلِكَ وُجُوبُ الطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ كَلَامُهُ فِيهَا يَقْتَضِي رِوَايَتَيْنِ. وَكَذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً فِي الطَّوَافِ، بَلْ سُنَّةٌ مَعَ قَوْلِهِ إنَّ فِي تَرْكِهَا دَمًا، فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمُحْدِثَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطُوفَ، بِخِلَافِ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ تَعْلِيلُ الْمَنْعِ بِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ، لَا بِخُصُوصِ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ يُبَاحُ فِيهِ الْكَلَامُ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، فَلَا يَكُونُ كَالصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ مِفْتَاحُهَا الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ، وَالطَّوَافُ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَيَقُولُ: إنَّمَا مُنِعَ الْعُرَاةُ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ نَظَرِ النَّاسِ، وَلِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ أَيْضًا، وَمَنْ قَالَ هَذَا، قَالَ الْمَطَافُ أَشْرَفُ الْمَسَاجِدِ، لَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْ طَائِفٍ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] . فَأَمَرَ بِأَخْذِهَا عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَتِرَ لِنَفْسِ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ تُفْعَلُ فِي جَمِيعِ الْبِقَاعِ، فَلَوْ صَلَّى وَحْدَهُ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ لَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ السَّتْرِ لِلصَّلَاةِ، بِخِلَافِ الطَّوَافِ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَالِاعْتِكَافُ يُشْتَرَطُ فِيهِ جِنْسُ الْمَسَاجِدِ، وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ فَلَا يَحْرُمُ طَوَافُ الْجُنُبِ، وَالْحَائِضِ، إذَا اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ. كَمَا لَا يَحْرُمُ عِنْدَهُمْ الطَّوَافُ عَلَى الْمُحْدِثِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمَا دُخُولُ الْمَسْجِدِ حِينَئِذٍ، وَهُمَا إذَا كَانَا مُضْطَرَّيْنِ إلَى ذَلِكَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ الْمُحْدِثِ، الَّذِي يُجَوِّزُونَ لَهُ الطَّوَافَ مَعَ الْحَدَثِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، إلَّا أَنَّ الْمُحْدِثَ مُنِعَ مِنْ الصَّلَاةِ وَمَسِّ

فصل من لم يمكنها الحج بدون طوافها وهي حائض

الْمُصْحَفِ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ لِلْجُنُبِ مَعَ التَّيَمُّمِ، وَإِذَا عَجَزَ عَنْ التَّيَمُّمِ صَلَّى بِلَا غُسْلٍ وَلَا تَيَمُّمٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، كَمَا نُقِلَ أَنَّ الصَّحَابَةَ صَلَّوْا مَعَ الْجَنَابَةِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ آيَةُ التَّيَمُّمِ، وَالْحَائِضُ نُهِيَتْ عَنْ الصَّوْمِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُحْتَاجَةً إلَى الصَّوْمِ فِي الْحَيْضِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُهَا أَنْ تَصُومَ شَهْرًا آخَرَ غَيْرَ رَمَضَانَ. فَإِذَا كَانَ الْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ مَعَ إمْكَانِ صَوْمِهِمَا جَعَلَ لَهُمَا أَنْ يَصُومَا شَهْرًا آخَرَ، فَالْحَائِضُ الْمَمْنُوعَةُ مِنْ ذَلِكَ أَوْلَى أَنْ تَصُومَ شَهْرًا آخَرَ، وَإِذَا أُمِرَتْ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، فَلَمْ تُؤْمَرْ إلَّا بِشَهْرٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا إلَّا مَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِهَا، وَلِهَذَا لَوْ اسْتَحَاضَتْ فَإِنَّهَا تَصُومُ مَعَ الِاسْتِحَاضَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، إذْ قَدْ تَسْتَحِيضُ وَقْتَ الْقَضَاءِ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَإِنَّهَا تَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَالْحَيْضُ مِمَّا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ فَلَوْ قِيلَ إنَّهَا تُصَلِّي مَعَ الْحَيْضِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، لَمْ يَكُنْ الْحَيْضُ مَانِعًا مِنْ الصَّلَاةِ بِحَالٍ، وَكَأَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ كَانَ مِنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ أَنَّهَا لَا تُصَلِّي وَقْتَ الْحَيْضِ، إذَا كَانَ لَهَا فِي الصَّلَاةِ أَوْقَاتَ الطُّهْرِ غُنْيَةً عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ الْحَيْضِ، وَإِذَا كَانَتْ إنَّمَا مُنِعَتْ مِنْ الطَّوَافِ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ. فَمَعْلُومٌ أَنَّ إبَاحَةَ ذَلِكَ لِلْعُذْرِ أَوْلَى مِنْ إبَاحَةِ مَسِّ الْمُصْحَفِ لِلْعُذْرِ، وَلَوْ كَانَ لَهَا مُصْحَفٌ، وَلَمْ يُمْكِنْهَا حِفْظُهُ إلَّا بِمَسِّهِ، مِثْلُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَأْخُذَهُ لِصٌّ، أَوْ كَافِرٌ، أَوْ يَنْهَبَهُ أَحَدٌ، أَوْ يَنْهَبَهُ مِنْهَا، وَلَمْ يُمْكِنْهَا مَنْعُهُ إلَّا بِمَسِّهِ، لَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهَا، مَعَ أَنَّ الْمُحْدِثَ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ، وَيَجُوزُ لَهُ الدُّخُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَعُلِمَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمُصْحَفِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ، وَإِذَا أُبِيحَ لَهَا مَسُّ الْمُصْحَفِ لِلْحَاجَةِ، فَالْمَسْجِدُ الَّذِي حُرْمَتُهُ دُونَ حُرْمَةِ الْمُصْحَفِ أَوْلَى بِالْإِبَاحَةِ. [فَصْلٌ مِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا الْحَجُّ بِدُونِ طَوَافِهَا وَهِيَ حَائِضٌ] فَصْلٌ وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَنْعُ مِنْ الطَّوَافِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الطَّوَافِ، كَمَا مُنِعَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ كَانَ لِذَلِكَ وَلِلْمَسْجِدِ كُلٌّ مِنْهُمَا عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فَنَقُولُ: إذَا اُضْطُرَّتْ إلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَمْ

يُمْكِنْهَا الْحَجُّ بِدُونِ طَوَافِهَا وَهِيَ حَائِضٌ، لِتَعَذُّرِ الْمُقَامِ عَلَيْهَا إلَى أَنْ تَطْهُرَ، فَهُنَا الْأَمْرُ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ تَطُوفَ مَعَ الْحَيْضِ، وَبَيْنَ الضَّرَرِ الَّذِي يُنَافِي الشَّرِيعَةَ، فَإِنَّ إلْزَامَهَا بِالْمُقَامِ إذَا كَانَ فِيهِ خَوْفٌ عَلَى نَفْسِهَا، وَمَالِهَا، وَفِيهِ عَجْزُهَا عَنْ الرُّجُوعِ إلَى أَهْلِهَا، وَإِلْزَامُهَا بِالْمُقَامِ بِمَكَّةَ مَعَ عَجْزِهَا عَنْ ذَلِكَ، وَتَضَرُّرِهَا بِهِ، لَا تَأْتِي بِهِ الشَّرِيعَةُ، فَإِنَّ مَذْهَبَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ الْحَجُّ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الرُّجُوعُ إلَى أَهْلِهِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَفِيهِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ إنَّهُ يَجِبُ إذَا أَمْكَنَهُ الْمُقَامُ. أَمَّا مَعَ الضَّرَرِ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ عَلَى النَّفْسِ، أَوْ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ الْكَسْبِ، فَلَا يُوجِبُ أَحَدٌ عَلَيْهِ الْمُقَامَ، فَهَذِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا حَجٌّ يُحْتَاجُ مَعَهُ إلَى سُكْنَى مَكَّةَ، وَكَثِيرٌ مِنْ النِّسَاءِ إذَا لَمْ تَرْجِعْ مَعَ مَنْ حَجَّتْ مَعَهُ لَمْ يُمْكِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ الرُّجُوعُ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ يُمْكِنُهَا بَعْدَ ذَلِكَ الرُّجُوعُ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ يَبْقَى وَطْؤُهَا مُحَرَّمًا مَعَ رُجُوعِهَا إلَى أَهْلِهَا، وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ إلَى أَنْ تَعُودَ، فَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَعْظَمِ الْحَرَجِ الَّذِي لَا يُوجِبُ اللَّهُ مِثْلَهُ، إذْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ إيجَابِ حِجَّتَيْنِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ إلَّا حِجَّةً وَاحِدَةً، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَالْمُفَرِّطِ، فَإِنَّمَا ذَاكَ لِتَفْرِيطِهِ بِإِفْسَادِ الْحَجِّ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُحْصَرِ، فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، لِعَدَمِ التَّفْرِيطِ، وَمَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَإِنَّهُ يُوجِبُهُ؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ عِنْدَهُ، وَإِذَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَلْ يَتَحَلَّلُ كَمَا يَتَحَلَّلُ الْمُحْصَرُ، فَهَذَا لَا يُفِيدُ سُقُوطَ الْفَرْضِ عَنْهَا؛ فَيَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إلَى حِجَّةٍ ثَانِيَةٍ، ثُمَّ فِي الثَّانِيَةِ تَخَافُ مَا خَافَتْهُ فِي الْأُولَى، مَعَ أَنَّ الْحَصْرَ لَا يُعْقَلُ إلَّا مَعَ الْعَجْزِ الْحِسِّيِّ، إمَّا بِعُذْرٍ، وَإِمَّا بِمَرَضٍ، أَوْ فَقْدٍ، أَوْ حَبْسٍ، فَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ مُحْصَرًا، وَكُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ لَمْ يَكُنْ مُحْصَرًا فِي الشَّرْعِ، فَهَذِهِ هِيَ التَّقْدِيرَاتُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُفْعَلَ، إمَّا مُقَامُهَا بِمَكَّةَ، وَإِمَّا رُجُوعُهَا مُحْرِمَةً وَلَهَا تَحَلُّلُهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا مَنَعَهُ الشَّرْعُ فِي حَقِّ مِثْلِهَا. وَإِنْ قِيلَ إنَّ الْحَجَّ يَسْقُطُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ كَمَا يَسْقُطُ عَمَّنْ لَا تَحُجُّ إلَّا مَعَ مَنْ يَفْجُرُ بِهَا، لِكَوْنِ الطَّوَافِ مَعَ الْحَيْضِ يَحْرُمُ كَالْفُجُورِ، بَلْ هَذَا مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَبْنَاهُ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا لَمْ يُمْكِنْهَا فِعْلُ شَيْءٍ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ، أَوْ الصِّيَامِ، أَوْ غَيْرِهِمَا إلَّا مَعَ الْفُجُورِ، لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ عِبَادَهُ بِأَمْرٍ لَا يُمْكِنُ إلَّا مَعَ الْفُجُورِ، فَإِنَّ الزِّنَا لَا يُبَاحُ بِالضَّرُورَةِ، كَمَا يُبَاحُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَلَكِنْ إذَا أُكْرِهَتْ عَلَيْهِ بِأَنْ يُفْعَلَ بِهَا، وَلَا تَسْتَطِيعُ الِامْتِنَاعَ مِنْهُ، فَهَذِهِ لَا فِعْلَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ بِالْإِكْرَاهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَا يُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ إلَّا الْأَقْوَالُ دُونَ الْأَفْعَالِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: إنَّ الْمُكْرَهَةَ عَلَى الزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ مَعْفُوٌّ عَنْهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33] . وَأَمَّا الرَّجُلُ الزَّانِي فَفِيهِ قَوْلَانِ، فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، بِنَاءً عَلَى كَوْنِ الْإِكْرَاهِ هَلْ يَمْنَعُ مِنْ الِانْتِشَارِ أَمْ لَا؟ فَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ قَوْلَانِ: لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُكْرَهًا عَلَى الزِّنَا، وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ الْعَبْدَ أَنْ يَفْعَلَ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ يَبْقَى سَاقِطًا، كَأَنْ يُؤْمَرَ بِالصَّلَاةِ عُرْيَانًا، وَمَعَ النَّجَاسَةِ، وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ إذَا لَمْ يُطِقْ إلَّا ذَلِكَ، وَكَمَا يَجُوزُ الطَّوَافُ رَاكِبًا وَمَحْمُولًا لِلْعُذْرِ بِالنَّصِّ، اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ، وَبِدُونِ ذَلِكَ فَفِيهِ نِزَاعٌ. وَكَمَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْفَرْضِ لِلْمَرِيضِ قَاعِدًا، أَوْ رَاكِبًا، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ بِدُونِ الْعُذْرِ، مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَالصَّلَاةَ عُرْيَانًا، وَبِدُونِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَفِي الثَّوْبِ النَّجِسِ حَرَامٌ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، وَمَعَ هَذَا فَكَانَ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ مَعَ هَذِهِ الْمَحْظُورَاتِ خَيْرًا مِنْ تَرْكِهَا، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْخَوْفِ مَعَ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ وَمَعَ اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ مَعَ مُفَارَقَةِ الْإِمَامِ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ، وَمَعَ قَضَاءِ مَا فَاتَهُ قَبْلَ السَّلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْعُذْرِ. فَإِنْ قِيلَ: الطَّوَافُ مَعَ الْحَيْضِ كَالصَّلَاةِ مَعَ الْحَيْضِ، وَالصَّوْمِ مَعَ الْحَيْضِ، وَذَلِكَ لَا يُبَاحُ بِحَالٍ قِيلَ: الصَّوْمُ مَعَ الْحَيْضِ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ بِحَالٍ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ شَهْرٌ، وَغَيْرُ

رَمَضَانَ يَوْمٌ مَقَامَهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُؤَدِّيَ الْفَرْضَ مَعَ الْحَيْضِ، فَالنَّفَلُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ لَهَا مَنْدُوحَةً عَنْ ذَلِكَ بِالصِّيَامِ فِي وَقْتِ الطُّهْرِ، كَمَا كَانَ لِلْمُصَلِّي الْمُتَطَوِّعِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّطَوُّعِ فِي أَوْقَاتٍ أُخَرَ، فَلَمْ تَكُنْ مُحْتَاجَةً إلَى الصَّوْمِ مَعَ الْحَيْضِ بِحَالٍ، فَلَا تُبَاحُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا، كَمَا لَا تُبَاحُ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ الَّتِي لَا سَبَبَ لَهَا فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ، بِخِلَافِ ذَوَاتِ السَّبَبِ، فَإِنَّ الرَّاجِحَ فِي الدَّلِيلِ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ: أَنَّهَا تَجُوزُ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْهَا فَأَتَتْ مَصْلَحَتُهَا بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ الْمَحْضِ فَإِنَّهُ لَا يَفُوتُ، وَالصَّوْمُ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَيْسَ لَهَا صَوْمٌ إلَّا وَيُمْكِنُ فِعْلُهُ فِي أَيَّامِ الطُّهْرِ، وَلِهَذَا جَازَ لِلْمُسْتَحَاضَةِ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ: فَإِنَّهَا لَوْ أُبِيحَتْ مَعَ الْحَيْضِ، لَمْ يَكُنْ الْحَيْضُ مَانِعًا مِنْ الصَّلَاةِ بِحَالٍ، فَإِنَّ الْحَيْضَ مِمَّا يَعْتَادُ النِّسَاءَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ: «إنَّ هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ» . فَلَوْ أَذِنَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلِّينَ بِالْحَيْضِ صَارَتْ الصَّلَاةُ مَعَ الْحَيْضِ كَالصَّلَاةِ مَعَ الطُّهْرِ، ثُمَّ إنْ أُبِيحَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ لَمْ يَبْقَ الْحَيْضُ مَانِعًا، مَعَ أَنَّ الْجَنَابَةَ وَالْحَدَثَ الْأَصْغَرَ مَانِعٌ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ عَظِيمٌ، وَإِنْ حَرُمَ مَا دُونَ الصَّلَاةِ، وَأُبِيحَتْ الصَّلَاةُ كَانَ أَيْضًا تَنَاقُضًا، وَلَمْ تَكُنْ مُحْتَاجَةً إلَى الصَّلَاةِ زَمَنَ الْحَيْضِ، فَإِنَّ لَهَا فِي الصَّلَاةِ زَمَنَ الطُّهْرِ، وَهُوَ أَغْلَبُ أَوْقَاتِهَا، مَا يُغْنِيهَا عَنْ الصَّلَاةِ أَيَّامَ الْحَيْضِ، وَلَكِنْ رُخِّصَ لَهَا فِيمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ التَّلْبِيَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَقَدْ أُمِرَتْ لِذَلِكَ بِالِاغْتِسَالِ. كَمَا «أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْمَاءَ أَنْ تَغْتَسِلَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، لَمَّا نَفِسَتْ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ» ، وَأَمَرَ أَيْضًا بِذَلِكَ النِّسَاءَ مُطْلَقًا. «وَأَمَرَ عَائِشَةَ حِينَ حَاضَتْ بِسَرِفٍ أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُحْرِمَ بِالْحَجِّ» ، فَأَمَرَهَا بِالِاغْتِسَالِ مَعَ الْحَيْضِ لِلْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ، وَرَخَّصَ لِلْحَائِضِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تُلَبِّيَ وَتَقِفَ بِعَرَفَةَ، وَتَدْعُوَ وَتَذْكُرَ اللَّهَ. وَلَا تَغْتَسِلُ، وَلَا تَتَوَضَّأُ، وَلَا يُكْرَهُ لَهَا ذَلِكَ، كَمَا يُكْرَهُ لِلْجُنُبِ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ

بِدُونِ طَهَارَةٍ؛ لِأَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ، وَغُسْلُهَا وَوُضُوءُهَا لَا يُؤَثِّرَانِ فِي الْحَدَثِ الْمُسْتَمِرِّ، بِخِلَافِ غُسْلِهَا عِنْدَ الْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ غُسْلُ نَظَافَةٍ، كَمَا يُغْتَسَلُ لِلْجُمُعَةِ. وَلِهَذَا هَلْ يُتَيَمَّمُ لِمِثْلِ هَذِهِ الْأَغْسَالِ، إذَا عُدِمَ الْمَاءُ، عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَكَذَلِكَ هَلْ يَتَيَمَّمُ الْمَيِّتُ إذَا تَعَذَّرَ غُسْلُهُ، عَلَى قَوْلَيْنِ، لَيْسَ هَذَا الْغُسْلُ، وَالْجَنَابَةُ، وَالْوُضُوءُ مِنْ الْحَدَثِ، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُؤْمَرْ بِالْغُسْلِ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ، وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَلَمَّا نُهِيَتْ عَنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَيْضِ دُونَ الْأَذْكَارِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، عُلِمَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: سَائِرُ الْأَذْكَارِ تُبَاحُ لِلْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ، فَلَا حَظْرَ فِي ذَلِكَ. قِيلَ: الْجُنُبُ مَمْنُوعٌ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَيُكْرَهُ لَهُ الْآذَانُ مَعَ الْجَنَابَةِ، وَالْخُطْبَةِ، وَكَذَلِكَ النَّوْمُ بِلَا وُضُوءٍ، وَكَذَلِكَ فِعْلُ الْمَنَاسِكِ بِلَا طَهَارَةٍ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا، وَالْمُحْدِثُ أَيْضًا تُسْتَحَبُّ لَهُ الطَّهَارَةُ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنِّي كَرِهْت أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إلَّا عَلَى طُهْرٍ» ، وَالْحَائِضُ لَا يُسْتَحَبُّ لَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُكْرَهُ الذِّكْرُ بِدُونِهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ فِي مَنْعِهَا مِنْ الْقُرْآنِ سُنَّةٌ أَصْلًا، فَإِنَّ قَوْلَهُ: «لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ» حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ، رَوَاهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَأَحَادِيثُهُ عَنْ أَهْلِ الْحِجَازِ يَغْلَطُ فِيهَا كَثِيرًا. وَلَيْسَ لِهَذَا أَصْلٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا حَدَّثَ بِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَلَا عَنْ نَافِعٍ، وَلَا عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَصْحَابُهُمْ الْمَعْرُوفُونَ بِنَقْلِ السُّنَنِ عَنْهُمْ. وَقَدْ كَانَ النِّسَاءُ يَحِضْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِنَّ كَالصَّلَاةِ، لَكَانَ هَذَا مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمَّتِهِ، وَتَعْلَمُهُ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَنْقُلُونَهُ إلَى النَّاسِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ نَهْيًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُجْعَلَ حَرَامًا لِلْعِلْمِ أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ مَعَ كَثْرَةِ الْحَيْضِ فِي زَمَنِهِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ. وَهَذَا كَمَا اسْتَدْلَلْنَا عَلَى أَنَّ الْمَنِيَّ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَكَانَ يَأْمُرُ الصَّحَابَةَ بِإِزَالَتِهِ مِنْ

أَبْدَانِهِمْ وَثِيَابِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَ أَبْدَانَ النَّاسِ وَثِيَابَهُمْ فِي الِاحْتِلَامِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِزَالَةِ ذَلِكَ، لَا بِغُسْلٍ، وَلَا فَرْكٍ، مَعَ كَثْرَةِ إصَابَةِ ذَلِكَ الْأَبْدَانَ وَالثِّيَابَ عَلَى عَهْدِهِ، وَإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ إزَالَتُهُ وَاجِبَةً، وَلَا يَأْمُرُ بِهِ، مَعَ عُمُومِ الْبَلْوَى بِذَلِكَ، كَمَا أَمَرَ بِالِاسْتِنْجَاءِ مِنْ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، وَالْحَائِضَ بِإِزَالَةِ دَمِ الْحَيْضِ مِنْ ثَوْبِهَا، وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ مِنْ لَمْسِ النِّسَاءِ، وَمِنْ النَّجَاسَاتِ الْخَارِجَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، لَمْ يَأْمُرْ الْمُسْلِمِينَ بِالْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ مَعَ كَثْرَةِ ابْتِلَائِهِمْ بِهِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَ يَجِبُ الْأَمْرُ، وَكَانَ إذَا أَمَرَ بِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْقُلَهُ الْمُسْلِمُونَ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، وَأَمْرُهُ بِالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَمِمَّا مَسَّتْ النَّارُ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ، فَهَذَا أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ إلَّا مُسْتَحَبًّا. وَإِذَا كَانَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَضَتْ بِأَنَّهُ يُرَخَّصُ لِلْحَائِضِ فِيمَا لَا يُرَخَّصُ فِيهِ لِلْجُنُبِ؛ لِأَجْلِ حَاجَتِهَا إلَى ذَلِكَ لِعَدَمِ إمْكَانِ تَطَهُّرِهَا، وَأَنَّهُ إنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا مَا لَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَمُنِعَتْ مِنْهُ، كَمَا مُنِعَتْ مِنْ الصَّوْمِ لِأَجْلِ حَدَثِ الْحَيْضِ، وَعَدَمِ احْتِيَاجِهَا إلَى الصَّوْمِ، وَمُنِعَتْ مِنْ الصَّلَاةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، لِاعْتِيَاضِهَا عَنْ صَلَاةِ الْحَيْضِ بِالصَّلَاةِ بِالطُّهْرِ، فَهِيَ أَيْضًا مُنِعَتْ مِنْ الطَّوَافِ إذَا أَمْكَنَهَا أَنْ تَطُوفَ مَعَ الطُّهْرِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَلَيْسَ كَالصَّلَاةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ» . قَدْ قِيلَ إنَّهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الصَّلَاةِ كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَالْكُسُوفِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ، وَالطَّوَافِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] . وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ أَيُّمَا أَفْضَلُ لِلْقَادِمِ، الصَّلَاةُ أَوْ الطَّوَافُ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى

أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ. وَالْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مُسَمَّى الصَّلَاةِ وَمُسَمَّى الطَّوَافِ مُتَوَاتِرَةٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ نَوْعًا مِنْ الصَّلَاةِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الصَّلَاةُ مِفْتَاحُهَا الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» . وَالطَّوَافُ لَيْسَ تَحْرِيمُهُ التَّكْبِيرَ، وَتَحْلِيلُهُ التَّسْلِيمَ، وَقَدْ تَنَازَعَ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ الْحَدَثِ لَهُ، وَالْوُضُوءُ لِلصَّلَاةِ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَهُوَ كَافِرٌ، وَلَمْ يُنْقَلْ شَيْءٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ لَهُ، وَمَنْعُ الْحَائِضِ لَا يَسْتَلْزِمُ مَنْعَ الْمُحْدِثِ. وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الطَّهَارَةِ مِنْ الْحَيْضِ، هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ فِيهِ أَوْ شَرْطٌ فِيهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِيهِ، وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ أَنَّهَا شَرْطٌ فِيهَا، وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ» . وَالْقِرَاءَةُ فِيهِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، بَلْ فِي كَرَاهَتِهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ، وَمِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ» . فَنَهَى عَنْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا، وَالطَّوَافُ يَجُوزُ فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ مَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، فَإِنَّ لَهَا تَحْرِيمًا وَتَحْلِيلًا، وَنَهَى فِيهَا عَنْ الْكَلَامِ، وَتُصَلَّى بِإِمَامٍ وَصُفُوفٍ. وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْقِرَاءَةُ فِيهَا سُنَّةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا سُجُودُ التِّلَاوَةِ: فَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ، هَلْ هُوَ مِنْ الصَّلَاةِ الَّتِي تُشْتَرَطُ لَهَا الطَّهَارَةُ؟ مَعَ أَنَّهُ سُجُودٌ، وَهُوَ أَعْظَمُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ الْفِعْلِيَّةِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي حَالِ

سُجُودِهِ، بَلْ يُكَبِّرُ إذَا سَجَدَ، وَإِذَا رَفَعَ، وَيُسَلِّمُ أَيْضًا فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، هَذَا عَنْ مَنْ يُسَلِّمُ أَنَّ السُّجُودَ الْمُجَرَّدَ كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ يَجِبُ لَهُ الطَّهَارَةُ، وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ قَالَ: إنَّهُ يَجُوزُ بِدُونِ الْوُضُوءِ، وَقَالَ: إنَّ السُّجُودَ الْمُجَرَّدَ لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الصَّلَاةِ مَا لَهُ تَحْرِيمٌ وَتَحْلِيلٌ. وَهَذَا السُّجُودُ لَمْ يُرْوَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ لَهُ بِالطَّهَارَةِ، بَلْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ، سَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَالْمُشْرِكُونَ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ» وَسَجَدَ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ. وَثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ سَجَدَ التِّلَاوَةَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَوْجَبَ فِيهِ الطَّهَارَةَ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَلَّمَ فِيهِ؛ وَأَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ فِيهِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ فِي التَّسْلِيمِ أَثَرٌ. وَمَنْ قَالَ فِيهِ تَسْلِيمٌ فَقَدْ أَثْبَتَهُ بِالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ، حَيْثُ جَعَلَهُ صَلَاةً، وَهُوَ مَوْضِعُ الْمَنْعِ. وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ، قَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا الطَّهَارَةُ، لَكِنْ هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ لَهَا تَحْرِيمًا وَتَحْلِيلًا، فَهِيَ صَلَاةٌ، وَلَيْسَ الطَّوَافُ مِثْلَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا الْحَائِضُ مُحْتَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهَا إنْ لَمْ تُصَلِّ فَرْضَ الْعَيْنِ فَفَرْضُ الْكِفَايَةِ وَالنَّفَلِ أَوْلَى. وَدُعَاؤُهَا لِلْمَيِّتِ وَاسْتِغْفَارُهَا لَهُ يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، كَمَا أَنَّ شُهُودَهَا الْعِيدَ، وَذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ الْمُسْلِمِينَ، يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَالطَّوَافُ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى سَائِرِ الْمَنَاسِكِ بِنَفْسِهِ، وَلِكَوْنِهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَبِأَنَّ الطَّوَافَ شُرِعَ مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ، وَشُرِعَ فِي الْعُمْرَةِ وَشُرِعَ فِي الْحَجِّ. وَأَمَّا الْإِحْرَامُ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالْحَلْقُ، فَلَا يُشْرَعُ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَأَمَّا سَائِرُ الْمَنَاسِكِ مِنْ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَمُزْدَلِفَةَ وَرَمْيِ الْجِمَارِ، فَلَا يُشْرَعُ إلَّا فِي الْحَجِّ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَسَّرَهُ لِلنَّاسِ؛ وَجَعَلَ لَهُمْ التَّقَرُّبَ بِهِ مَعَ الْإِحْلَالِ وَالْإِحْرَامِ فِي التَّسْكِينِ وَفِي غَيْرِهِمَا، فَلَمْ يُوجِبُ فِيهِ مَا أَوْجَبَهُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا حَرَّمَ فِيهِ مَا حَرَّمَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَعُلِمَ أَنَّ أَمْرَ الصَّلَاةِ أَعْظَمُ، فَلَا يُجْعَلُ مِثْلَ الصَّلَاةِ.

وَمَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ: إنَّ طَوَافَ أَهْلِ الْآفَاقِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ بِالْمَسْجِدِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُمْكِنُهُمْ فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ، بِخِلَافِ الطَّوَافِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِمَكَّةَ، وَالْعَمَلُ الْمَفْضُولُ فِي مَكَانِهِ وَزَمَانِهِ يُقَدَّمُ عَلَى الْفَاضِلِ، لَا لِأَنَّ جِنْسَهُ أَفْضَلُ كَمَا يُقَدَّمُ الدُّعَاءُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ عَلَى الذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ، وَيُقَدَّمُ الذِّكْرُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى الْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «نُهِيت أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا وَسَاجِدًا» . وَكَمَا يُقَدَّمُ الْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ، وَكَمَا تُقَدَّمُ إجَابَةُ الْمُؤَذِّنِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا يَفُوتُ وَذَلِكَ لَا يَفُوتُ الْآفَاقِيَّ إذَا خَرَجَ فَقُدِّمَ ذَلِكَ لَا لِأَنَّ جِنْسَهُ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ، بَلْ وَلَا مِثْلُهَا فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ، وَالْحَجُّ كُلُّهُ لَا يُقَاسُ بِالصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ عَمُودُ الدِّينِ، فَكَيْفَ يُقَاسُ بِهَا بَعْضُ أَفْعَالِهِ، وَإِنَّمَا فَرَضَ اللَّهُ الْحَجَّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ، وَلَمْ يُوجِبْ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِهِ مَرَّتَيْنِ، بَلْ إنَّمَا فَرَضَ طَوَافًا وَاحِدًا، وَوُقُوفًا وَاحِدًا، وَكَذَلِكَ السَّعْيُ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي أَنَصِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: لَا يُوجِبُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ إلَّا سَعْيًا وَاحِدًا، إمَّا قَبْلَ التَّعْرِيفِ وَإِمَّا بَعْدَهُ، بَعْدَ الطَّوَافِ، وَلِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَجِبُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي الدَّلِيلِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبْ إلَّا حَجَّ الْبَيْتِ، وَلَمْ يُوجِبْ الْعُمْرَةَ، وَلَكِنْ أَوْجَبَ إتْمَامَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَلَى مَنْ يَشْرَعُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ هِيَ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ، فَيَجِبُ إتْمَامُهَا كَمَا يَجِبُ إتْمَامُ الْحَجِّ التَّطَوُّعِ، وَاَللَّهُ لَمْ يُوجِبْ إلَّا مُسَمَّى الْحَجِّ، لَمْ يُوجِبْ حَجَّيْنِ أَكْبَرَ وَأَصْغَرَ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ اسْمِ الْحَجِّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَلَا يَجِبُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَعْمَالِ الْحَجِّ، فَلَوْ وَجَبَتْ لَمْ يَجِبْ إلَّا عَمَلٌ وَاحِدٌ مَرَّتَيْنِ. وَهَذَا خِلَافُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ فِي الْحَجِّ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْحَجَّ إذَا لَمْ يَجِبْ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَكَيْفَ يُقَاسُ بِمَا يَجِبُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَهَذَا مِمَّا يُفَرِّقُ بَيْنَ طَوَافِ الْحَائِضِ وَصَلَاةِ الْحَائِضِ، فَإِنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى الطَّوَافِ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهَا مَرَّةً فِي الْعُمُرِ، وَقَدْ تَكَلَّفَتْ السَّفَرَ الطَّوِيلَ وَحَمَلَتْ الْإِبِلُ أَقْفَالَهَا إلَى بَلَدٍ لَمْ يَكُنْ النَّاسُ بَالِغِيهِ إلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ، فَأَيْنَ حَاجَةُ هَذِهِ إلَى الطَّوَافِ مِنْ حَاجَتِهَا إلَى الصَّلَاةِ الَّتِي تَسْتَغْنِي عَنْهَا زَمَنَ الْحَيْضِ، بِمَا تَفْعَلُهُ زَمَنَ الطُّهْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَائِضَ لَمْ تُمْنَعْ مِنْ الْقِرَاءَةِ لِحَاجَتِهَا إلَيْهَا وَحَاجَتُهَا إلَى هَذَا الطَّوَافِ أَعْظَمُ. وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: الْقُرْآنُ تَقْرَؤُهُ مَعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، فَالطَّوَافُ تَجِبُ لَهُ الطَّهَارَةُ. قِيلَ لَهُ: هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ عَنْ السَّلَفِ، فَلَا بُدَّ بِذَلِكَ مِنْ حُجَّةٍ عَلَى وُجُوبِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى فِي الطَّوَافِ. وَالِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ، فَإِنَّ نِهَايَتَهُ أَنْ يُشَبَّهَ بِالصَّلَاةِ، وَلَيْسَ الْمُشَبَّهُ كَالْمُشَبَّهِ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ كَالصَّلَاةِ فِي اجْتِنَابِ الْمَحْظُورَاتِ الَّتِي تَحْرُمُ خَارِجَ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ وَهُوَ الْأَكْلُ، وَالشُّرْبُ، وَالْعَمَلُ الْكَثِيرُ، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا مُبْطِلًا لِلطَّوَافِ، وَإِنْ كُرِهَ فِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَشْتَغِلُ عَنْ مَقْصُودِهِ، كَمَا يُكْرَهُ مِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ، وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ، وَهَذَا كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَبْدُ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ» . وَقَوْلِهِ: «إذَا خَرَجَ أَحَدُكُمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ» . وَلِهَذَا قَالَ: «إنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَكُمْ فِيهِ الْكَلَامَ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُبَاحُ فِيهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَهَذِهِ مَحْظُورَاتُ الصَّلَاةِ الَّتِي تُبْطِلُهَا:

الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَالْعَمَلُ الْكَثِيرُ، وَلَا يُبْطِلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الطَّوَافَ، بَلْ نِهَايَتُهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ فِيهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، كَمَا يُكْرَهُ الْعَبَثُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَوْ قَطَعَ الطَّوَافَ لِصَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، أَوْ جِنَازَةٍ أُقِيمَتْ، بَنَى عَلَى طَوَافِهِ، وَالصَّلَاةُ لَا تُقْطَعُ لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ مَحْظُورَاتُ الصَّلَاةِ مَحْظُورَةٌ فِيهِ، وَلَا وَاجِبَاتُ الصَّلَاةِ وَاجِبَاتٌ فِيهِ: كَالتَّحْلِيلِ، وَالتَّحْرِيمِ، فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ مِثْلُ الصَّلَاةِ فِيمَا يَجِبُ لَهَا، وَيَحْرُمُ فِيهَا فَمَنْ أَوْجَبَ لَهُ الطَّهَارَةَ الصُّغْرَى فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَمَا أَعْلَمُ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ. ثُمَّ تَدَبَّرْت وَتَبَيَّنَ لِي أَنَّ طَهَارَةَ الْحَدَثِ لَا تُشْتَرَطُ فِي الطَّوَافِ، وَلَا تَجِبُ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ، وَلَكِنْ تُسْتَحَبُّ فِيهِ الطَّهَارَةُ الصُّغْرَى، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا فِيهِ، وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى فِيهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ جِنْسَ الطَّوَافِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، بَلْ جِنْسُ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ مِنْهُ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ مَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْأَقْوَالِ، وَالسُّجُودُ أَفْضَلُ مَا فِيهَا مِنْ الْأَفْعَالِ، وَالطَّوَافُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ مَفْرُوضٌ. وَإِذَا قِيلَ: الطَّوَافُ قَدْ فُرِضَ بَعْضُهُ. قِيلَ لَهُ: قَدْ فُرِضَتْ الْقِرَاءَةُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، فَلَا تَصِحُّ صَلَاةٌ إلَّا بِقِرَاءَةٍ، فَكَيْفَ يُقَاسُ الطَّوَافُ بِالصَّلَاةِ؟ وَإِذَا كَانَتْ الْقِرَاءَةُ أَفْضَلَ، وَهِيَ تَجُوزُ لِلْحَائِضِ لِحَاجَتِهَا إلَيْهِ فِي أَظْهَرْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، فَالطَّوَافُ أَوْلَى أَنْ يَجُوزَ مَعَ الْحَاجَةِ. وَإِذَا قِيلَ: أَنْتُمْ تُسَلِّمُونَ أَنَّ الطَّوَافَ فِي الْأَصْلِ مَحْظُورٌ عَلَى الْحَائِضِ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ. قِيلَ: مَنْ عَلَّلَ بِالْمَسْجِدِ فَلَمْ يُسَلِّمْ أَنَّ نَفْسَ فِعْلِهِ مَحْظُورٌ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ سَلَّمَ ذَلِكَ يَقُولُ: وَكَذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ مَحْظُورٌ عَلَى الْحَائِضِ، وَهُوَ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، يُحَرِّمُهَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلْحَاجَةِ فَالطَّوَافُ أَوْلَى. ثُمَّ مَسُّ الْمُصْحَفِ يُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى، عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَكَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَهُوَ ثَابِتٌ عَنْ سَلْمَانَ، وَسَعْدٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ،

وَحُرْمَةُ الْمُصْحَفِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَسَاجِدِ، وَمَعَ هَذَا إذَا اُضْطُرَّ الْجُنُبُ، وَالْمُحْدِثُ، وَالْحَائِضُ إلَى مَسِّهِ مَسَّهُ، فَإِذَا اُضْطُرَّ الطَّوَافُ الَّذِي لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى وُجُوبِ الطَّهَارَةِ فِيهِ مُطْلَقًا، كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ. فَإِذَا قِيلَ: الطَّوَافُ مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ. قِيلَ: وَمَسُّ الْمُصْحَفِ قَدْ يَجِبُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِصِيَانَتِهِ الْوَاجِبَةِ، وَالْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ، أَوْ الْحَمْلِ الْوَاجِبِ، إذَا لَمْ يُمْكِنْ أَدَاءُ الْوَاجِبِ إلَّا بِمَسِّهِ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَائِضُ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ» . مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» . وَقَوْلِهِ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» . وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِجُنُبٍ وَلَا حَائِضٍ» . بَلْ اشْتِرَاطُ الْوُضُوءِ فِي الصَّلَاةِ، وَخِمَارِ الْمَرْأَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَمَنْعِ الصَّلَاةِ بِدُونِ ذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ مَنْعِ الطَّوَافِ، وَإِذَا كَانَ قَدْ حُرِّمَ الْمَسْجِدُ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، وَرُخِّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تُنَاوِلَهُ الْخُمْرَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ لَهَا: «إنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ» فَبَيَّنَ أَنَّ الْحَيْضَةَ فِي الْفَرْجِ، وَالْفَرْجُ لَا يَنَالُ الْمَسْجِدَ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ تَقْتَضِي إبَاحَتَهُ لِلْحَائِضِ مُطْلَقًا، لَكِنْ إذَا كَانَ قَدْ قَالَ: «لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِجُنُبٍ، وَلَا حَائِضٍ» ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ ذَلِكَ، وَالْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ، فَهَذَا مُجْمَلٌ، وَهَذَا خَاصٌّ فِيهِ إبَاحَةُ الْمُرُورِ، وَهُوَ

مُسْتَثْنًى مِنْ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ، مَعَ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ، فَإِبَاحَةُ الطَّوَافِ لِلضَّرُورَةِ لَا تُنَافِي تَحْرِيمَهُ بِذَلِكَ النَّصِّ، كَإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِلَا وُضُوءٍ لِلضَّرُورَةِ بَدَلَ التَّيَمُّمِ، بَلْ وَبِلَا وُضُوءٍ، وَلَا تَيَمُّمٍ لِلضَّرُورَةِ، كَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ لَمَّا فَقَدُوا الْمَاءَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ. وَكَإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِلَا قِرَاءَةٍ لِلضَّرُورَةِ، مَعَ قَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ» . وَكَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ مَعَ النَّجَاسَةِ لِلضَّرُورَةِ، مَعَ قَوْلِهِ: «حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ ثُمَّ صَلِّي فِيهِ» . وَالصَّلَاةِ عَلَى الْمَكَانِ النَّجِسِ لِلضَّرُورَةِ، مَعَ قَوْلِهِ: «جُعِلَتْ لِي كُلُّ أَرْضٍ طَيِّبَةٍ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» . بَلْ تَحْرِيمُ الدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَعْظَمُ الْأُمُورِ، وَقَدْ أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ. وَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ: أَنَّ الطَّوَافَ عِبَادَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْمَنَاسِكِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، لِنَهْيِ الْحَائِضِ عَنْهُ، وَالصَّلَاةُ أَكْمَلُ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمَسْجِدِ، فَلِهَاتَيْنِ الْحُرْمَتَيْنِ مُنِعَتْ مِنْهُ الْحَائِضُ، وَلَمْ تَأْتِ سُنَّةٌ تَمْنَعُ الْمُحْدِثَ مِنْهُ، وَمَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْمُحْدِثِ، فَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ مَعَ الضَّرُورَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى: كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَكَالِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَوْ حَرُمَ عَلَيْهَا مَعَ الْحَدَثِ، فَلَا يَلْزَمُ تَحْرِيمُ ذَلِكَ مَعَ الضَّرُورَةِ: كَمَسِّ الْمُصْحَفِ، وَغَيْرِهِ. وَمَنْ جَعَلَ حُكْمَ الطَّوَافِ مِثْلَ حُكْمِ الصَّلَاةِ فِيمَا يَجِبُ وَيَحْرُمُ، فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَجَّ بِقَوْلِ أَحَدٍ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ، وَدَلِيلٌ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ ذَلِكَ تُقَدَّرُ مُقَدَّمَاتُهُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، لَا بِأَقْوَالِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ لَهَا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، لَا يُحْتَجُّ بِهَا عَلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَمَنْ تَرَبَّى عَلَى مَذْهَبٍ قَدْ تَعَوَّدَهُ وَاعْتَقَدَ مَا فِيهِ، وَهُوَ لَا يُحْسِنُ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ،

وَتَنَازُعَ الْعُلَمَاءِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا جَاءَ عَنْ الرَّسُولِ وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ. بِحَيْثُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، وَبَيْنَ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، أَوْ يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ. وَمَنْ كَانَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْمُقَلِّدَةِ النَّاقِلِينَ لِأَقْوَالِ غَيْرِهِمْ، مِثْلُ الْمُحَدِّثِ عَنْ غَيْرِهِ، وَالشَّاهِدُ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَكُونُ حَاكِمًا، وَالنَّاقِلُ الْمَحْمُودُ يَكُونُ حَاكِيًا لَا مُفْتِيًا. وَلَا يَحْتَمِلُ حَالُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ إلَّا تِلْكَ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ، أَوْ هَذَا الْقَوْلَ، أَوْ أَنْ يُقَالَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ قَبْلَ الْوُقُوفِ يُجْزِئُ إذَا تَعَذَّرَ الطَّوَافُ بَعْدَهُ، كَمَا يُذْكَرُ ذَلِكَ قَوْلًا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، فِيمَنْ نَسِيَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ حَتَّى عَادَ إلَى بَلَدِهِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ طَوَافُ الْقُدُومِ، هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا فِيهِ فَرَجٌ، فَإِنَّهَا قَدْ يَمْتَدُّ بِهَا الْحَيْضُ مِنْ حِينِ تَدْخُلُ مَكَّةَ إلَى أَنْ يَخْرُجَ الْحَاجُّ، وَفِيهِ أَيْضًا تَقْدِيمٌ لِلطَّوَافِ قَبْلَ وَقْتِهِ الثَّابِتِ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ. وَالْمَنَاسِكُ قَبْلَ وَقْتِهَا لَا تُجْزِئُ، وَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ نَطُوفَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ مَعَ الْحَدَثِ، وَبَيْنَ أَنْ لَا تَطُوفَهُ، كَانَ أَنْ تَطُوفَهُ مَعَ الْحَدَثِ أَوْلَى، فَإِنَّ فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ نِزَاعًا مَعْرُوفًا، وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ يَقُولُونَ: إنَّهَا فِي حَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ، إذَا طَافَتْ مَعَ الْحَيْضِ أَجْزَأَهَا، وَعَلَيْهَا دَمٌ، مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّهَا تَأْثَمُ بِذَلِكَ، وَلَوْ طَافَتْ قَبْلَ التَّعْرِيفِ لَمْ يُجْزِئْهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ، تَبَيَّنَ لَك أَنَّ الطَّوَافَ مَعَ الْحَيْضِ أَوْلَى مِنْ الطَّوَافِ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُونَ: إنَّ الطَّهَارَةَ وَاجِبَةٌ فِيهَا، لَا شَرْطٌ فِيهَا، وَالْوَاجِبَاتُ كُلُّهَا تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ، وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ: إنَّ كُلَّ مَا يَجِبُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، فَلَيْسَ بِفَرْضٍ، وَإِنَّمَا الْفَرْضُ مَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ. وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ لَمَّا أَسْقَطَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْحَائِضِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ، بَلْ يَجْبُرُهُ دَمٌ، وَكَذَلِكَ الْمَبِيتُ بِمِنًى لَمَّا أَسْقَطَهُ عَنْ أَهْلِ السِّقَايَةِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ، بَلْ هُوَ وَاجِبٌ يَجْبُرُهُ دَمٌ. وَكَذَلِكَ الرَّمْيُ لَمَّا جَوَّزَ فِيهِ لِلرُّعَاةِ وَأَهْلِ السِّقَايَةِ التَّأْخِيرَ مِنْ وَقْتٍ إلَى وَقْتٍ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَيْسَ

بِفَرْضٍ. وَكَذَلِكَ رَخَّصَ لِلضَّعَفَةِ أَنْ يُفِيضُوا مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ جَمْعٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَهَا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ كَالطَّحَاوِيِّ وَغَيْرِهِ. فَإِذَا كَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ إنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ فَرْضًا فِي الطَّوَافِ وَشَرْطًا فِيهِ، بَلْ هِيَ وَاجِبٌ تُجْبَرُ بِدَمٍ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ إنَّمَا هُوَ فَرْضٌ عِنْدَهُمْ، لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِ لَا يُجْبَرُ بِدَمٍ، وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَتْ الطَّهَارَةُ وَاجِبَةً فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ سَقَطَتْ مَعَ الْعَجْزِ، كَمَا سَقَطَ سَائِرُ الْوَاجِبَاتِ مَعَ الْعَجْزِ: كَطَوَافِ الْوَدَاعِ، وَكَمَا يُبَاحُ لِلْمُحْرِمِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ مِنْ حَاجَةٍ عَامَّةٍ: كَالسَّرَاوِيلِ، وَالْخُفَّيْنِ، فَلَا فِدْيَةَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: كَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَسَائِرِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، بِخِلَافِ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ إلَّا مَعَ الْقُدْرَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُوجِبُ الْفِدْيَةَ فِي الْجَمِيعِ. وَحِينَئِذٍ فَهَذِهِ الْمُحْتَاجَةُ إلَى الطَّوَافِ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ: إنَّهُ يَلْزَمُهَا دَمٌ، كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، فَإِنَّ الدَّمَ يَلْزَمُهَا بِدُونِ الْعُذْرِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الطَّهَارَةَ وَاجِبَةً، وَأَمَّا مَعَ الْعَجْزِ فَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ ذَلِكَ، فَهَذَا غَايَةُ مَا يُقَالُ فِيهَا، وَإِلَّا قِيسَ أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَ هَذَا وَاجِبًا يَجْبُرُهُ دَمٌ، وَيُقَالُ: إنَّهُ لَا يَسْقُطُ لِلضَّرُورَةِ، فَهَذَا خِلَافُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُضْطَرَّةَ إلَى الطَّوَافِ مَعَ الْحَيْضِ لَمَّا كَانَ فِي عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُفْتِيهَا بِالْإِجْزَاءِ مَعَ الدَّمِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُضْطَرَّةً، لَمْ تَكُنْ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةً عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهَا إلَّا الطَّوَافُ مَعَ الطُّهْرِ مُطْلَقًا، وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ مَعَ الْمُنَازِعِ الْقَائِلِ بِذَلِكَ لَا نَصَّ، وَلَا إجْمَاعَ، وَلَا قِيَاسَ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَلْزَمُ لِجَوَازِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا، وَأَنَّ قَوْلَ النُّفَاةِ لِلْوُجُوبِ أَظْهَرُ، فَلَمْ تُجْمِعْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الطَّهَارَةِ مُطْلَقًا، وَلَا عَلَى أَنَّ شَيْئًا مِنْ الطَّهَارَةِ شَرْطٌ فِي الطَّوَافِ، وَأَمَّا الَّذِي لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا: أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَطُوفَ مَعَ الْحَيْضِ، إذَا كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى

الطَّوَافِ مَعَ الطُّهْرِ، فَمَا أَعْلَمُ مُنَازِعًا أَنَّ ذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا وَتَأْثَمُ بِهِ. وَتَنَازَعُوا فِي إجْزَائِهِ: فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يُجْزِئُهَا ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، فَإِنَّ أَحْمَدَ نَصَّ فِي رِوَايَةٍ عَلَى أَنَّ الْجُنُبَ إذَا طَافَ نَاسِيًا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَصَرَ ذَلِكَ عَلَى حَالِ النِّسْيَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ فَرْضًا، إذْ لَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَمَا سَقَطَتْ بِالنِّسْيَانِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْمَأْمُورِ بِهِ، لَا مِنْ بَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ إذَا صَلَّى نَاسِيًا لَهَا، أَوْ جَاهِلًا بِهَا، لَا يُعِيدُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَإِذَا فَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِهِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ، فَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، ثُمَّ إنَّ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ فِي الطَّوَافِ لَيْسَتْ عِنْدَهُ رُكْنًا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، بَلْ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِدَمٍ. وَحَكَى هَؤُلَاءِ فِي صِحَّةِ طَوَافِ الْحَائِضِ رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: لَا يَصِحُّ، وَالثَّانِيَةُ: يَصِحُّ وَتَجْبُرُهُ بِدَمٍ. وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا أَبُو الْبَرَكَاتِ وَغَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَنَّ هَذَا النِّزَاعَ فِي الطَّهَارَةِ مِنْ الْحَيْضِ، وَالْجَنَابَةِ: كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ. وَذَكَرَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَنْهُ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ: رِوَايَةٌ: يُجْزِئُهُ الطَّوَافُ مَعَ الْجَنَابَةِ، نَاسِيًا لَا دَمَ عَلَيْهِ. وَرِوَايَةٌ: أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا. وَرِوَايَةٌ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ. وَبَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ النِّزَاعَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ إنَّمَا هُوَ فِي الْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ دُونَ الْحَائِضِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ بِأَنَّ النِّزَاعَ فِي الْحَائِضِ وَغَيْرِهَا، وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَقِّفًا فِي طَوَافِ الْحَائِضِ، وَفِي طَوَافِ الْجُنُبِ، وَكَانَ يَذْكُرُ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ. فَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي الشَّافِي " عَنْ الْمَيْمُونِيِّ قَالَ لِأَحْمَدَ: مَنْ سَعَى أَوْ طَافَ طَوَافَ الْوَاجِبِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، ثُمَّ وَاقَعَ أَهْلَهُ. فَقَالَ فِي هَذِهِ: النَّاسُ فِيهَا مُخْتَلِفُونَ.

وَذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ، وَمَا يَقُولُ عَطَاءٌ وَمَا يُسَهَّلُ فِيهِ، وَمَا يَقُولُ الْحَسَنُ، وَأَمْرَ عَائِشَةَ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ حَاضَتْ: «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ، إنَّ هَذَا أَمْرٌ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَقَدْ بُلِيَتْ بِهِ نُزِّلَ عَلَيْهَا لَيْسَ مِنْ قِبَلِهَا» . قُلْت: فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ عَلَيْهِ الْحَجُّ. فَقَالَ: نَعَمْ كَذَلِكَ أَكْثَرُ عِلْمِي وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَوَّلًا وَآخِرًا هِيَ مَسْأَلَةٌ مُشْتَبِهَةٌ، فِيهَا نَظَرٌ، دَعْنِي حَتَّى أَنْظُرَ فِيهَا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: وَإِنْ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ يَرْجِعُ حَتَّى يَطُوفَ قُلْت: وَالنِّسْيَانُ؟ قَالَ: وَالنِّسْيَانُ أَهْوَنُ حُكْمًا بِكَثِيرٍ. يُرِيدُ أَهْوَنَ مِمَّنْ يَطُوفُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ مُتَعَمِّدًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: قَدْ بَيَّنَّا أَمْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فِي أَحْكَامِ الطَّوَافِ عَلَى قَوْلَيْنِ، يَعْنِي لِأَحْمَدَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ، أَنَّ الطَّوَافَ إذَا طَافَ الرَّجُلُ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ، إنَّ الطَّوَافَ يُجْزِئُ عَنْهُ إذَا كَانَ نَاسِيًا. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: إنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَكُونَ طَاهِرًا، فَإِنْ وَطِئَ وَقَدْ طَافَ غَيْرَ طَاهِرٍ نَاسِيًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ: مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الطَّوَافِ، فَمَنْ أَجَازَ الطَّوَافَ غَيْرَ طَاهِرٍ قَالَ: تَمَّ حَجُّهُ، وَمَنْ لَمْ يُجِزْهُ إلَّا طَاهِرًا رَدَّهُ مِنْ أَيِّ الْمَوَاضِعِ ذَكَرَ حَتَّى يَطُوفَ. قَالَ: وَبِهَذَا أَقُولُ. فَأَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ يَقُولُونَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: يُجْزِئُهُ مَعَ الْعُذْرِ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ بَيِّنٌ فِي هَذَا، وَجَوَابُ أَحْمَدَ الْمَذْكُورُ يُبَيِّنُ أَنَّ النِّزَاعَ عِنْدَهُ فِي طَوَافِ الْحَائِضِ وَغَيْرِهِ، وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِمَا التَّسْهِيلُ فِي هَذَا. وَمِمَّا نُقِلَ عَنْ عَطَاءٍ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَاضَتْ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ، فَإِنَّهَا تُتِمُّ طَوَافَهَا. وَهَذَا صَرِيحٌ مِنْ عَطَاءٍ: أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ الْحَيْضِ لَيْسَتْ شَرْطًا، وَقَوْلُهُ مِمَّا اعْتَدَّ بِهِ أَحْمَدُ، وَقَدْ ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ، وَأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ» يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَمْرٌ بُلِيَتْ بِهِ نُزِّلَ عَلَيْهَا لَيْسَ مِنْ قِبَلِهَا، فَهِيَ مَعْذُورَةٌ فِي ذَلِكَ؛

وَلِهَذَا تُعْذَرُ إذَا حَاضَتْ وَهِيَ مُعْتَكِفَةٌ، فَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهَا، بَلْ تُقِيمُ فِي رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ اُضْطُرَّتْ إلَى الْمُقَامِ فِي الْمَسْجِدِ أَقَامَتْ بِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا حَاضَتْ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ لَمْ يَنْقَطِعْ التَّتَابُعُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا تَشْهَدُ الْمَنَاسِكَ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَتَشْهَدُ الْعِيدَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَتَدْعُو وَتَذْكُرُ اللَّهَ، وَالْجُنُبُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الطَّهَارَةِ. وَهَذِهِ عَاجِزَةٌ عَنْهَا، فَهِيَ مَعْذُورَةٌ. كَمَا عَذَرَهَا مَنْ جَوَّزَ لَهَا الْقِرَاءَةَ، بِخِلَافِ الْجُنُبِ الَّذِي يُمْكِنُهُ الطَّهَارَةُ، فَالْحَائِضُ أَحَقُّ بِأَنْ تُعْذَرَ مِنْ الْجُنُبِ الَّذِي طَافَ مَعَ الْجَنَابَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُمْكِنُهُ الطَّهَارَةُ، وَهَذِهِ تَعْجِزُ عَنْ الطَّهَارَةِ، وَعُذْرُهَا بِالْعَجْزِ، وَالضَّرُورَةُ أَوْلَى مِنْ عُذْرِ الْجُنُبِ بِالنِّسْيَانِ، فَإِنَّ النَّاسِيَ لَمَّا أُمِرَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ يُؤْمَرُ بِهَا إذَا ذَكَرَهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ الطَّهَارَةَ لِلصَّلَاةِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَطَهَّرَ وَيُصَلِّيَ إذَا ذَكَرَ، بِخِلَافِ الْعَاجِزِ عَنْ الشَّرْطِ، مِثْلُ: مَنْ يَعْجِزُ عَنْ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنْ سَائِرِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، كَالْعَاجِزِ عَنْ الْقِرَاءَةِ، وَالْقِيَامِ، وَعَنْ تَكْمِيلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَعَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، فَإِنَّ هَذَا يَسْقُطُ عَنْهُ كُلُّ مَا عَجَزَ عَنْهُ، وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ، وَلَا سَقَطَ عَنْهَا الطَّوَافُ الَّذِي تَعَذَّرَ عَلَيْهِ بِعَجْزِهَا عَمَّا هُوَ رُكْنٌ فِيهِ، أَوْ وَاجِبٌ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . وَهَذِهِ لَا تَسْتَطِيعُ إلَّا هَذَا، وَقَدْ اتَّقَتْ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَتْ، فَلَيْسَ عَلَيْهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي طَافَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ مُتَعَمِّدًا آثِمٌ، وَقَدْ ذَكَرَ أَحْمَدُ الْقَوْلَيْنِ: هَلْ عَلَيْهِ دَمٌ، أَمْ يَرْجِعُ فَيَطُوفُ، وَذَكَرَ النِّزَاعَ فِي ذَلِكَ، وَكَلَامُهُ يُبَيِّنُ فِي أَنَّ تَوَقُّفَهُ فِي الطَّائِفِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ يَتَنَاوَلُ الْحَائِضَ وَالْجُنُبَ، مَعَ التَّعَمُّدِ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ النَّاسِيَ أَهْوَنُ بِكَثِيرٍ، وَالْعَاجِزُ عَنْ الطَّهَارَةِ أَعْذَرُ مِنْ النَّاسِي. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي الشَّافِي.

بَابٌ: فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فِي طَاهِرٍ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَحَدٌ إلَّا طَاهِرًا، وَالْمُتَطَوِّعُ أَيْسَرُ، وَلَا يَقِفُ مَشَاهِدَ الْحَجِّ إلَّا طَاهِرًا. قَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: إذَا طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ وَهُوَ نَاسٍ لِطَهَارَتِهِ حَتَّى رَجَعَ، فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَ لَهُ أَنْ يَطُوفَ وَهُوَ طَاهِرٌ، وَإِنْ وَطِئَ فَحَجُّهُ مَاضٍ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَهَذَا النَّصُّ مِنْ أَحْمَدَ صَرِيحٌ بِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا طَافَ نَاسِيًا لِطَهَارَتِهِ، لَا دَمَ وَلَا غَيْرَهُ، وَأَنَّهُ إذَا وَطِئَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَحَجُّهُ مَاضٍ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا فَرَّقَ بَيْنَ التَّطَوُّعِ وَغَيْرِهِ فِي الطَّهَارَةِ، فَأَمَرَ بِالطَّهَارَةِ فِيهِ وَفِي سَائِرِ الْمَشَاهِدِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا عِنْدَهُ، فَقَطْعَ الْقَوْلَ هُنَا بِأَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ النِّسْيَانِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ أَيْضًا: إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ، يَتَوَضَّأُ وَيُعِيدُ الطَّوَافَ، وَإِذَا طَافَ وَهُوَ جُنُبٌ، فَإِنَّهُ يَغْتَسِلُ وَيُعِيدُ الطَّوَافَ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: إذَا طَافَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَلْيُعِدْ طَوَافَهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: بَابٌ: فِي الطَّوَافِ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: وَإِذَا طَافَ رَجُلٌ فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ، فَإِنَّ الْحَسَنَ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطُوفَ إلَّا فِي ثَوْبٍ طَاهِرٍ. وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ أَحْمَدَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ الطَّوَافُ عِنْدَهُ كَالصَّلَاةِ فِي شُرُوطِهَا، فَإِنَّ غَايَةَ مَا ذُكِرَ فِي الطَّوَافِ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ: أَنَّ الْحَسَنَ كَرِهَ ذَلِكَ. وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطُوفَ إلَّا فِي ثَوْبٍ طَاهِرٍ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ تُقَالُ فِي الْمُسْتَحَبِّ الْمُؤَكَّدِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ إذَا طَافَ وَعَلَيْهِ نَجَاسَةٌ، صَحَّ طَوَافُهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَبِالْجُمْلَةِ: هَلْ لِلطَّوَافِ شُرُوطُ الصَّلَاةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ.

أَحَدُهُمَا: يُشْتَرَطُ، كَقَوْلِ: مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِمَا. وَالثَّانِي: لَا يُشْتَرَطُ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّ الْمُشَرِّطِينَ فِي الطَّوَافِ كَشُرُوطِ الصَّلَاةِ، لَيْسَ مَعَهُمْ حُجَّةٌ، إلَّا قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» . وَهَذَا لَوْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُوجِبْ عَلَى الطَّائِفِينَ طَهَارَةً وَلَا اجْتِنَابَ نَجَاسَةٍ، بَلْ قَالَ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» . وَالطَّوَافُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالطَّوَافُ لَا يَجِبُ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا يَحْرُمُ فِيهِ مَا يَحْرُمُ فِي الصَّلَاةِ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهَا، وَقَدْ ذَكَرُوا مِنْ الْقِيَاسِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ، وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مَا بُيِّنَ فِيهِ أَنَّ الْمُشْتَرِكَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ، أَوْ دَلِيلُ الْعِلَّةِ. وَأَيْضًا فَالطَّهَارَةُ إنَّمَا وَجَبَتْ لِكَوْنِهَا صَلَاةً، سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِالْبَيْتِ أَوْ لَمْ تَتَعَلَّقْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى الصَّخْرَةِ كَانَتْ الطَّهَارَةُ أَيْضًا شَرْطًا فِيهَا، وَلَمْ تَكُنْ مُتَعَلِّقَةً بِالْبَيْتِ،؟ وَكَذَلِكَ أَيْضًا: إذَا صَلَّى إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ كَمَا يُصَلِّي الْمُتَطَوِّعُ فِي السَّفَرِ، وَكَصَلَاةِ الْخَوْفِ رَاكِبًا، فَإِنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالْبَيْتِ. وَأَيْضًا فَالنَّظَرُ إلَى الْبَيْتِ عِبَادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَيْتِ، وَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ، وَلَا غَيْرُهَا، ثُمَّ هُنَاكَ عِبَادَةٌ مِنْ شَرْطِهَا الْمَسْجِدُ وَلَمْ تَكُنْ الطَّهَارَةُ شَرْطًا فِيهَا: كَالِاعْتِكَافِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] . فَلَيْسَ إلْحَاقُ الطَّائِفِ بِالرَّاكِعِ السَّاجِدِ بِأَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْعَاكِفِ، بَلْ بِالْعَاكِفِ أَشْبَهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ شَرْطٌ فِي الطَّوَافِ وَالْعُكُوفِ، وَلَيْسَ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ.

فَإِنْ قِيلَ: الطَّائِفُ لَا بُدَّ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الطَّوَافِ، وَالصَّلَاةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِطَهَارَةٍ قِيلَ: وُجُوبُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فِيهِ نِزَاعٌ، وَإِذَا قُدِّرَ وُجُوبُهُمَا لَمْ تَجِبْ فِيهِمَا الْمُوَالَاةُ، وَلَيْسَ اتِّصَالُهُمَا بِالطَّوَافِ بِأَعْظَمَ مِنْ اتِّصَالِ الصَّلَاةِ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ خَطَبَ مُحْدِثًا ثُمَّ تَوَضَّأَ وَصَلَّى الْجُمُعَةَ: جَازَ، فَلَأَنْ يَجُوزَ أَنْ يَطُوفَ مُحْدِثًا ثُمَّ يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ الرَّكْعَتَيْنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهَذَا كَثِيرٌ مَا يُبْتَلَى بِهِ الْإِنْسَانُ إذَا نَسِيَ الطَّهَارَةَ فِي الْخُطْبَةِ وَالطَّوَافِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ وَيُصَلِّيَ. وَقَدْ نُصَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا خَطَبَ وَهُوَ جُنُبٌ جَازَ. وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا يَبْقَى الْأَمْرُ دَائِرًا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ سُنَّةً، وَهُمَا قَوْلَانِ لِلسَّلَفِ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَفِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ: لَكِنْ مَنْ يَقُولُ هِيَ سُنَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُ مَعَ ذَلِكَ عَلَيْهَا دَمٌ، وَأَمَّا أَحْمَدُ فَإِنَّهُ يَقُولُ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا، لَا دَمَ وَلَا غَيْرَهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَنْ طَافَ جُنُبًا وَهُوَ نَاسٍ، فَإِذَا طَافَتْ حَائِضًا مَعَ التَّعَمُّدِ تَوَجَّهَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الدَّمِ عَلَيْهَا. وَأَمَّا مَعَ الْعَجْزِ فَهُنَا غَايَةُ مَا يُقَالُ: إنَّ عَلَيْهَا دَمًا، وَالْأَشْبَهُ أَنْ لَا يَجِبَ الدَّمُ؛ لِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ يُؤْمَرُ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ لَا مَعَ الْعَجْزِ. فَإِنَّ لُزُومَ الدَّمِ إنَّمَا يَجِبُ بِتَرْكِ مَأْمُورٍ، وَهِيَ لَمْ تَتْرَكْ مَأْمُورًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَمْ تَفْعَلْ مَحْظُورًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ. وَهَذَا لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، فَإِنَّ الطَّوَافَ يَفْعَلُهُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، فَصَارَ الْحَظْرُ هُنَا مِنْ جِنْسِ حَظْرِ اللَّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ. وَاعْتِكَافِ الْحَائِضِ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ مَسِّ الْمُصْحَفِ، أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ بِلَا دَمٍ، وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ، إنَّمَا يَجُوزُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ وَهِيَ حِينَئِذٍ يُبَاحُ لَهَا الْمَحْظُورَاتُ إلَّا الْجِمَاعَ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ كَانَ طَوَافُهَا مَعَ الْحَيْضِ مُمْكِنًا أُمِرَتْ بِطَوَافِ الْقُدُومِ، وَطَوَافِ الْوَدَاعِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْقَطَ طَوَافَ الْوَدَاعِ عَنْ الْحَائِضِ، وَأَمَرَ عَائِشَةَ لَمَّا قَدِمَتْ وَهِيَ مُتَمَتِّعَةٌ فَحَاضَتْ أَنْ تَدَعَ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ، وَتُحْرِمَ بِالْحَجِّ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهَا الطَّوَافِ. قِيلَ: الطَّوَافُ مَعَ الْحَيْضِ مَحْظُورٌ لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ، أَوْ لِلطَّوَافِ، أَوْ لَهُمَا،

وَالْمَحْظُورَاتُ لَا تُبَاحُ إلَّا حَالَ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ بِهَا إلَى طَوَافِ الْوَدَاعِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْحَجِّ، وَلِهَذَا لَا يُوَدِّعُ الْمُقِيمُ بِمَكَّةَ، وَإِنَّمَا يُوَدِّعُ الْمُسَافِرُ عَنْهَا فَسَيَكُونُ آخِرَ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ، وَكَذَلِكَ طَوَافُ الْقُدُومِ لَيْسَتْ مُضْطَرَّةً إلَيْهِ، بَلْ لَوْ قَدِمَ الْحَاجُّ، وَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَلَيْهِ، بَدَأَ بِعَرَفَةَ، وَلَمْ يَطُفْ لِلْقُدُومِ، فَهُوَ إنْ أُمِرَ بِهِمَا الْقَادِرُ عَلَيْهِمَا إمَّا أَمْرُ إيجَابٍ فِيهِمَا، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا، أَوْ اسْتِحْبَابٍ، فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا. وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا رُكْنًا يَجِبُ عَلَى كُلِّ حَاجٍّ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ، وَاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، بِخِلَافِ طَوَافِ الْفَرْضِ، فَإِنَّهَا مُضْطَرَّةٌ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَجَّ إلَّا بِهِ. وَهَذَا كَمَا يُبَاحُ لَهَا دُخُولُ الْمَسْجِدِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا تَدْخُلُهُ لِصَلَاةٍ، وَلَا اعْتِكَافٍ، وَإِنْ كَانَ مَنْذُورًا، بَلْ الْمُعْتَكِفَةُ إذَا حَاضَتْ خَرَجَتْ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَنَصَبَتْ لَهَا قُبَّةً فِي فِنَائِهِ، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْعَ الْحَائِضِ كَمَنْعِهَا مِنْ الِاعْتِكَافِ فِيهِ، لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ، وَإِلَّا فَالْحَيْضُ لَا يُبْطِلُ اعْتِكَافَهَا؛ لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ إلَيْهِ، بَلْ إنَّمَا مُنِعَ مِنْ الْمَسْجِدِ لَا لِلِاعْتِكَافِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُضْطَرَّةً إلَى أَنْ تُقِيمَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَوْ أُبِيحَ لَهَا ذَلِكَ مَعَ دَوَامِ الْحَيْضِ، لَكَانَ فِي ذَلِكَ إبَاحَةُ الْمَسْجِدِ لِلْحُيَّضِ. وَأَمَّا الطَّوَافُ: فَلَا يُمْكِنُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِبُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، لَيْسَ كَالِاعْتِكَافِ، فَإِنَّ الْمُعْتَكِفَ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ: كَقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي حَالِ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ، لَيْسَ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنْ يُبَاشِرَ النِّسَاءَ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] . وَقَوْلُهُ: {فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ {عَاكِفُونَ} [البقرة: 187] لَا بِقَوْلِهِ {تُبَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] فَإِنَّ الْمُبَاشَرَةَ فِي الْمَسْجِدِ لَا تَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ وَلَا لِغَيْرِهِ. وَالْمُعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَاشِرَ إذَا خَرَجَ مِنْهُ، لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا يُشْبِهُ الِاعْتِكَافَ، وَالْحَائِضُ تَخْرُجُ لِمَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ، فَلَمْ يَقْطَعْ الْحَيْضُ اعْتِكَافَهَا.

وَقَدْ جَمَعَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْعُكُوفِ، وَالطَّوَافِ، وَالصَّلَاةِ فِي الْأَمْرِ بِتَطْهِيرِ بَيْتِهِ، بِقَوْلِهِ: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] . فَمَنْعُهُ مِنْ الْحَيْضِ مِنْ تَمَامِ طَهَارَتِهِ، وَالطَّوَافُ كَالْعُكُوفِ لَا كَالصَّلَاةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تُبَاحُ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ، لَا تَخْتَصُّ بِمَسْجِدٍ، وَيَجِبُ لَهَا، وَيَحْرُمُ فِيهَا مَا لَا يَحْرُمُ فِي اعْتِكَافٍ، وَلَا طَوَافٍ. وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الطَّوَافَ عِبَادَةٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، لَا تَخْتَصُّ بِالْإِحْرَامِ، وَلِهَذَا كَانَ طَوَافُ الْفَرْضِ إنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، فَيَطُوفُ الْحَاجُّ الطَّوَافَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] . فَيَطُوفُ الْحُجَّاجُ وَهُمْ حَلَالٌ، قَدْ قَضَوْا حَجَّهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِمْ مُحَرَّمٌ إلَّا النِّسَاءَ. وَلِهَذَا لَوْ جَامَعَ أَحَدُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَفْسُدْ نُسُكُهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَإِذَا كَانَتْ عِبَادَةٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ فَهِيَ عِبَادَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، كَمَا أَنَّ الِاعْتِكَافَ يَخْتَصُّ بِجَمِيعِ الْمَسَاجِدِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِتَطْهِيرِ بَيْتِهِ لِلطَّائِفِينَ، وَالْعَاكِفِينَ، وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَلَيْسَ هُوَ نَوْعًا مِنْ الصَّلَاةِ، فَإِذَا تَرَكَهُ مِنْ نُسُكِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِذَا تَرَكَ الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ فِي الطَّوَافِ لِلْعَجْزِ فَهَذَا مَحَلُّ اجْتِهَادٍ، هَلْ يَلْحَقُ بِمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ نُسُكِهِ، أَوْ يُقَالُ: هَذَا فِيمَنْ تَرَكَ نُسُكًا مُسْتَقِلًّا، أَوْ تَرَكَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ لَا عُذْرَ أَوْ تَرَكَ مَا يَخْتَصُّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذِهِ الْعَاجِزَةَ عَنْ الطَّوَافِ مَعَ الطُّهْرِ تَرْجِعُ مُحْرِمَةً، أَوْ تَكُونُ كَالْمُحْصَرِ، أَوْ يَسْقُطُ عَنْهَا الْحَجُّ، أَوْ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهَا طَوَافُ الْفَرْضِ، فَهَذِهِ أَقْوَالٌ كُلُّهَا مُخَالِفَةٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ، مَعَ أَنِّي لَمْ أَعْلَمْ إمَامًا مِنْ الْأَئِمَّةِ صَرَّحَ بِشَيْءٍ مِنْهَا فِي هَذِهِ

مسألة من باشر امرأته أيؤخر الطهر إلى أن يتضحى النهار

الصُّورَةِ، وَإِنَّمَا كَلَامُ مَنْ قَالَ عَلَيْهَا دَمٌ، أَوْ تَرْجِعُ مُحْرِمَةً، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ، كَلَامٌ مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي عَهْدِهِمْ، وَكَانَ زَمَنَهُمْ يُمْكِنُهَا أَنْ تَحْتَبِسَ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَطُوفَ، وَكَانُوا يَأْمُرُونَ الْأُمَرَاءَ أَنْ يَحْتَدُّوا حَتَّى تَطْهُرَ الْحُيَّضُ وَيَظْعَنَّ. وَلِهَذَا أَلْزَمَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ الْمُكَارِيَ الَّذِي لَهَا أَنْ يَحْتَبِسَ مَعَهَا حَتَّى تَطْهُرَ وَتَطُوفَ، ثُمَّ إنَّ أَصْحَابَهُ قَالُوا: لَا يَجِبُ عَلَى مُكَارِيهَا فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ أَنْ يَحْتَبِسَ مَعَهَا لِمَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ ، فَعُلِمَ أَنَّ أَجْوِبَةَ الْأَئِمَّةِ بِكَوْنِ الطَّهَارَةِ مِنْ الْحَيْضِ شَرْطًا أَوْ وَاجِبًا، كَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَنْ تَطُوفَ طَاهِرًا لَا مَعَ الْعَجْزِ عَنْ ذَلِكَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالِاشْتِرَاطِ أَوْ الْوُجُوبِ فِي الْحَالَيْنِ، فَيَكُونُ النِّزَاعُ مَعَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. آخِرُ مَا وُجِّهَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْجَلِيلَةِ الْجَمِيلَةِ الْغَزِيرَةِ الْفَائِدَةِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ. [مَسْأَلَة مِنْ بَاشَرَ امْرَأَتَهُ أَيُؤَخِّرُ الطُّهْر إلَى أَنْ يَتَضَحَّى النَّهَارُ] 81 - 66 مَسْأَلَةٌ: وَسُئِلَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلٍ بَاشَرَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ فِي عَافِيَةٍ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَصْبِرَ بِالطُّهْرِ إلَى أَنْ يَتَضَحَّى النَّهَارُ، أَمْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّ. أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ، بَلْ عَلَيْهِ إنْ قَدَرَ عَلَى الِاغْتِسَال بِمَاءٍ بَارِدٍ أَوْ حَارٍّ، أَنْ يَغْتَسِلَ وَيُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ، وَإِلَّا تَيَمَّمَ، فَإِنَّ التَّيَمُّمَ بِخَشْيَةِ الْبَرْدِ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَإِذَا صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، لَكِنْ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الِاغْتِسَالِ اغْتَسَلَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة دِبَاغ جُلُود الْحُمُرِ وَجِلْد مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَالْمَيْتَة] 82 - 67 مَسْأَلَةٌ: فِي جُلُودِ الْحُمُرِ، وَجِلْدِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَالْمَيْتَةِ، هَلْ تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا طَهَارَةُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ فَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ، فِي الْجُمْلَةِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. الثَّانِي: لَا تَطْهُرُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَلِهَذَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْمَدْبُوغِ فِي الْمَاءِ دُونَ الْمَائِعَاتِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجَسُ بِذَلِكَ، وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا، اخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ. لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى هِيَ آخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، كَمَا نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ ابْنِ عُكَيْمٍ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ بِآخِرَةٍ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ قَالُوا: هِيَ مِنْ الْمَيْتَةِ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي الدِّبَاغِ شَيْءٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَرْوِ الْبُخَارِيُّ ذِكْرَ الدِّبَاغِ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَعَنَ هَؤُلَاءِ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ إذْ كَانُوا أَئِمَّةً لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ اجْتِهَادٌ، وَقَالُوا: رَوَى عُيَيْنَةُ الدِّبَاغَ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَالزُّهْرِيُّ كَانَ يُجَوِّزُ اسْتِعْمَالَ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِلَا دِبَاغٍ، وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ ذِكْرُ الدِّبَاغِ، وَتَكَلَّمُوا فِي ابْنِ وَعْلَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا: أَحَادِيثُ الدِّبَاغِ مَنْسُوخَةٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عُكَيْمٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا كَتَبَ إلَى جُهَيْنَةَ: «كُنْت رَخَّصْت فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ، فَإِذَا أَتَاكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» . فَكِلَا هَاتَيْنِ الْحُجَّتَيْنِ مَأْثُورَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ نَفْسِهِ فِي جَوَابِهِ وَمُنَاظَرَتِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى الْمَشْهُورَةِ. وَقَدْ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالدِّبَاغِ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ: هَلَّا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا.

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهَا مَيْتَةٌ. قَالَ: إنَّمَا حَرُمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «أَلَا أَخَذُوا إهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ» . وَعَنْ «سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ، فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا، فَمَا زِلْنَا نَنْبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ» . قُلْت: وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ: «إنَّا نَكُونُ بِالْمَغْرِبِ، وَمَعَنَا الْبَرْبَرُ وَالْمَجُوسُ نُؤْتَى بِالْكَبْشِ قَدْ ذَبَحُوهُ، وَنَحْنُ لَا نَأْكُلُ ذَبَائِحَهُمْ، وَيَأْتُونَا بِالسِّقَاءِ يَجْعَلُونَ فِيهِ الْوَدَكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: دِبَاغُهُ طَهُورُهُ» . وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ أَنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَتْ» ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالنَّسَائِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ. فَقَالَ: دِبَاغُهَا طَهُورُهَا» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ. وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَرَّ بِبَيْتٍ بِفِنَائِهِ قِرْبَةٌ مُعَلَّقَةٌ فَاسْتَقَى، فَقِيلَ إنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ: ذَكَاةُ الْأَدِيمِ دِبَاغُهُ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُكَيْمٍ فَقَدْ طَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ بِكَوْنِ حَامِلِهِ مَجْهُولًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُسَوَّغُ رَدُّ الْحَدِيثِ بِهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُكَيْمٍ: «أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَالَ: مَا أَصْلَحَ إسْنَادَهُ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ بِأَنَّ الْإِهَابَ اسْمٌ لِلْجِلْدِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ النَّضْرُ ابْنُ شُمَيْلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ الدَّبْغِ فَإِنَّمَا هُوَ أَدِيمٌ، فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْ اسْتِعْمَالِهَا قَبْلَ الدَّبْغِ. فَقَالَ الْمَانِعُونَ: هَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ فِي أَرْضِ جُهَيْنَةَ. «إنِّي كُنْت رَخَّصْت لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ، فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا، فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ، وَلَا عَصَبٍ» ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ " مِنْ رِوَايَةِ فَضَالَةَ بْنِ مُفَضَّلِ بْنِ فَضَالَةَ الْمِصْرِيِّ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ، لَكِنْ هُوَ شَدِيدٌ فِي التَّزْكِيَةِ، وَإِذَا كَانَ النَّهْيُ بَعْدَ الرُّخْصَةِ فَالرُّخْصَةُ إنَّمَا كَانَتْ فِي الْمَدْبُوغِ. وَتَحْقِيقُ الْجَوَابِ: أَنْ يُقَالَ: حَدِيثُ ابْنِ عُكَيْمٍ لَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَدْبُوغِ. وَأَمَّا الرُّخْصَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهَا كَانَتْ لِلْمَدْبُوغِ وَغَيْرِهِ، وَلِهَذَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ، مِنْهُمْ: الزُّهْرِيُّ، وَغَيْرُهُ إلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ الْمُطْلَقِ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ، قَوْلُهُ: «إنَّمَا حَرُمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا» . فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ ثُمَّ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْجِلْدَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ " عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «مَاتَتْ شَاةٌ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك وَسَلَّمَ، مَاتَتْ فُلَانَةُ - تَعْنِي الشَّاةَ - فَقَالَ: فَلَوْلَا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا فَقَالَتْ: آخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّمَا قَالَ {لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] وَإِنَّكُمْ لَا تَطْعَمُونَهُ، إنْ تَدْبُغُوهُ تَنْتَفِعُوا بِهِ

فَأَرْسَلَتْ إلَيْهَا فَسَلَخَتْ مَسْكَهَا فَدَبَغَتْهُ، فَاِتَّخَذَتْ مِنْهُ قِرْبَةً حَتَّى تَخَرَّقَتْ عِنْدَهَا» . فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْجِلْدَ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الدِّبَاغُ لِإِبْقَاءِ الْجِلْدِ وَحِفْظِهِ، لَا لِكَوْنِهِ شَرْطًا فِي الْحِلِّ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَكُونُ الرُّخْصَةُ لِجُهَيْنَةَ فِي هَذَا. وَالنَّسْخُ عَنْ هَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ فِي سُورَتَيْنِ مَكِّيَّتَيْنِ: الْأَنْعَامِ وَالنَّحْلِ، ثُمَّ فِي سُورَتَيْنِ مَدَنِيَّتَيْنِ: الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ، وَالْمَائِدَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا كَمَا رُوِيَ «الْمَائِدَةُ آخِرُ الْقُرْآنِ نُزُولًا، فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا» وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا مِنْ التَّحْرِيمِ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي غَيْرِهَا، وَحَرَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْيَاءَ مِثْلَ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ. وَإِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا فِي السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي اسْتَنَدَتْ الرُّخْصَةَ الْمُطْلَقَةَ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ الِانْتِفَاعِ بِالْعَصَبِ وَالْإِهَابِ قَبْلَ الدِّبَاغِ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ الدِّبَاغِ فَلَمْ يُحَرَّمْ ذَلِكَ قَطُّ، بَلْ بَيَّنَ أَنَّ دِبَاغَهُ طَهُورُهُ وَذَكَاتُهُ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ بِدُونِ الدِّبَاغِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلِلنَّاسِ فِيمَا يُطَهِّرُهُ الدِّبَاغُ أَقْوَالٌ: قِيلَ: إنَّهُ يُطَهِّرُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْحَمِيرَ، كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَدَاوُد. وَقِيلَ: يُطَهِّرُ كُلَّ شَيْءٍ سِوَى الْحَمِيرِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: يُطَهِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْكَلْبَ، وَالْحَمِيرَ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ عَلَى الْقَوْلِ بِتَطْهِيرِ الدِّبَاغِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِهِ، وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، إنَّهُ إنَّمَا يُطَهِّرُ مَا يُبَاحُ بِالذَّكَاةِ، فَلَا يُطَهِّرُ جُلُودَ السِّبَاعِ. وَمَأْخَذُ التَّرَدُّدِ أَنَّ الدِّبَاغَ: هَلْ هُوَ كَالْحَيَاةِ فَيُطَهِّرُ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ، أَوْ هُوَ كَالذَّكَاةِ، فَيُطَهِّرُ مَا طَهُرَ بِالذَّكَاةِ، وَالثَّانِي أَرْجَحُ.

مسألة مراب خلف مالا وولدا وهو يعلم بحاله

وَدَلِيلُ ذَلِكَ نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ عُمَيْرٍ الدِّهْلِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ» ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. زَادَ التِّرْمِذِيُّ: " أَنْ تُفْرَشَ ". وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ: «وَفَدَ الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: أُنْشِدُكَ بِاَللَّهِ، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ، وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَهَذَا لَفْظُهُ. وَعَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رُكُوبِ النُّمُورِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةَ رُفْقَةً فِيهَا جِلْدُ نَمِرٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة مُرَابٍ خَلَّفَ مَالًا وَوَلَدًا وَهُوَ يَعْلَمُ بِحَالِهِ] 83 - 68 مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: عَنْ رَجُلٍ تُدْرِكُهُ الصَّلَاةُ وَهُوَ فِي مَدْرَسَةٍ، فَيَجِدُ فِي الْمَدَارِسِ بِرَكًا فِيهَا مَاءٌ لَهُ مُدَّةٌ كَثِيرَةٌ وَمِثْلُ مَاءِ الْحَمَّامِ الَّذِي فِي الْحَوْضِ، فَهَلْ يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ وَالطَّهَارَةُ أَمْ لَا؟ . وَعَنْ رَجُلٍ مُرَابٍ خَلَّفَ مَالًا وَوَلَدًا وَهُوَ يَعْلَمُ بِحَالِهِ، فَهَلْ يَكُونُ الْمَالُ حَلَالًا لِلْوَلَدِ بِالْمِيرَاثِ، أَمْ لَا؟

وَعَنْ رَجُلٍ غُصِبَ لَهُ مَالٌ، أَوْ مُطِلَ فِي دَيْنٍ ثُمَّ مَاتَ فَهَلْ تَكُونُ الْمُطَالَبَةُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ أَمْ لِلْوَرَثَةِ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ: كَحَدِيثِ عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَمَيْمُونَةَ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَزَوْجَتُهُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ، حَتَّى يَقُولَ لَهَا: أَبْقِي لِي وَتَقُولَ هِيَ: أَبْقِ لِي» . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَغْتَسِلُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ. وَلَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاءٌ جَارٍ وَلَا حَمَّامٌ» . فَإِذَا كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ جَمِيعًا، وَيَغْتَسِلُونَ جَمِيعًا مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ بِقَدْرِ الْفَرْقِ، وَهُوَ بِضْعَةَ عَشَرَ رِطْلًا بِالْمِصْرِيِّ أَوْ أَقَلُّ، وَلَيْسَ لَهُمْ يَنْبُوعٌ، وَلَا أُنْبُوبٌ، فَتَوَضُّؤُهُمْ وَاغْتِسَالُهُمْ جَمِيعًا مِنْ حَوْضِ الْحَمَّامِ أَوْلَى وَأَحْرَى، فَيَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْحَوْضُ نَاقِصًا وَالْأُنْبُوبُ مُسَدَّدًا، فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْأُنْبُوبُ مَفْتُوحًا وَسَوَاءٌ فَاضَ أَوْ لَمْ يَفِضْ. وَكَذَلِكَ بِرَكُ الْمَدَارِسِ، وَمَنْ مَنَعَ غَيْرَهُ حَتَّى يَنْفَرِدَ وَحْدَهُ بِالِاغْتِسَالِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ، مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ. وَأَمَّا الْقَدْرُ الَّذِي يَعْلَمُ الْوَلَدُ أَنَّهُ رِبًا: يُخْرِجُهُ، إمَّا أَنْ يَرُدَّهُ إلَى أَصْحَابِهِ إنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهِ، وَالْبَاقِي لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ، لَكِنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَبَهَ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَرْكُهُ إذَا لَمْ يَجِبْ صَرْفُهُ فِي قَضَاءِ دَيْنٍ أَوْ نَفَقَةِ عِيَالٍ. وَإِنْ كَانَ الْأَبُ قَبَضَهُ بِالْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي يُرَخِّصُ فِيهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ جَازَ لِلْوَارِثِ الِانْتِفَاعُ بِهِ. وَإِنْ اخْتَلَطَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ، وَجُهِلَ قَدْرُ كُلٍّ مِنْهُمَا: جُعِلَ ذَلِكَ نِصْفَيْنِ. وَأَمَّا مَنْ غُصِبَ لَهُ مَالٌ أَوْ مُطِلَ بِهِ فَالْمُطَالَبَةُ فِي الْآخِرَةِ لَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ:

مسألة الجبن الإفرنجي والجوخ

«مَنْ كَانَتْ لِأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ فِي دَمٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ عِرْضٍ فَلْيَسْتَحْلِلْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا دِينَارَ فِيهِ وَلَا دِرْهَمَ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ، فَأُلْقِيَتْ عَلَيْهِ» . فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الظُّلَامَةَ إذَا كَانَتْ فِي الْمَالِ طَالَبَ الْمَظْلُومُ بِهَا ظَالِمَهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ الْمُطَالَبَةَ لِوَرَثَتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْوَرَثَةَ يَخْلُفُونَهُ فِي الدُّنْيَا، فَمَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا كَانَ لِلْوَرَثَةِ، وَمَا لَمْ يُمْكِنْ اسْتِيفَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا فَالطَّلَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ لِلْمَظْلُومِ نَفْسِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة الْجُبْنِ الْإِفْرِنْجِيِّ وَالْجُوخِ] 84 - 69 مَسْأَلَةٌ: فِي الْجُبْنِ الْإِفْرِنْجِيِّ، وَالْجُوخِ، هَلْ هُمَا مَكْرُوهَانِ، أَوْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ إنَّهُمَا نَجَسَانِ، وَأَنَّ الْجُبْنَ يُدْهَنُ بِدُهْنِ الْخِنْزِيرِ، وَكَذَلِكَ الْجُوخُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا الْجُبْنُ الْمَجْلُوبُ مِنْ بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ، فَاَلَّذِينَ كَرِهُوهُ ذَكَرُوا لِذَلِكَ سَبَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُوضَعُ بَيْنَهُ شَحْمُ الْخِنْزِيرِ إذَا حُمِلَ فِي السُّفُنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يُذَكُّونَ مَا نُصْنَعُ مِنْهُ الْإِنْفَحَةَ، بَلْ يَضْرِبُونَ رَأْسَ الْبَقَرِ وَلَا يُذَكُّونَهُ. فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَغَايَتُهُ أَنْ يَنْجَسَ ظَاهِرُ الْجُبْنِ، فَمَتَى كُشِطَ الْجُبْنُ أَوْ غُسِلَ طَهُرَ، فَإِنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ» . فَإِذَا كَانَ مُلَاقَاةُ الْفَأْرَةِ لِلسَّمْنِ لَا تُوجِبُ نَجَاسَةَ جَمِيعِهِ، فَكَيْفَ تَكُونُ مَلَّاقَاتُ الشَّحْمِ النَّجَسِ لِلْجُبْنِ تُوجِبُ نَجَاسَةَ بَاطِنِهِ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّمَا يَجِبُ إزَالَةُ ظَاهِرِهِ إذَا تُيُقِّنَ إصَابَةُ النَّجَاسَةِ لَهُ، وَأَمَّا مَعَ الشَّكِّ فَلَا يَجِبُ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يَعْقِرُونَهُ مِنْ الْأَنْعَامِ يَتْرُكُونَ ذَكَاتَهُ، بَلْ قَدْ قِيلَ: إنَّهُمْ إنَّمَا يَفْعَلُونَ هَذَا بِالْبَقَرِ، وَقِيلَ: إنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ حَتَّى يَسْقُطَ، ثُمَّ يُذَكُّونَهُ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ ذَبَائِحِهِمْ، بَلْ إذَا اخْتَلَطَ الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ فِي عَدَدٍ لَا يَنْحَصِرُ، كَاخْتِلَاطِ أُخْتِهِ بِأَهْلِ بَلَدٍ، وَاخْتِلَاطِ الْمَيْتَةِ وَالْمَغْصُوبِ بِأَهْلِ بَلْدَةٍ، لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَحْرِيمَ مَا فِي الْبَلَدِ، كَمَا إذَا اخْتَلَطَتْ الْأُخْتُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَالْمُذَكَّى بِالْمَيِّتِ، فَهَذَا الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ ذَبَائِحِهِمْ الْمَجْهُولَةِ الْحَالِ. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْجُبْنُ مَصْنُوعًا مِنْ إنْفَحَةِ مَيْتَةٍ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ طَاهِرٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَرَامٌ نَجِسٌ كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَالْخِلَافُ مَشْهُورٌ فِي لَبَنِ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتِهَا. هَلْ هُوَ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ وَالْمُطَهِّرُونَ احْتَجُّوا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَكَلُوا جُبْنَ الْمَجُوسِ مَعَ كَوْنِ ذَبَائِحِهِمْ مَيْتَةً، وَمَنْ خَالَفَهُمْ نَازَعَهُمْ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَأَمَّا الْجُوخُ فَقَدْ حَكَى بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَدْهُنُونَهُ بِشَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ لَيْسَ يُفْعَلُ هَذَا بِهِ كُلِّهِ، فَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي عُمُومِ نَجَاسَةِ الْجُوخِ لَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَةٍ لِعَيْنِهِ، لِإِمْكَانِ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ لَمْ تُصِبْهَا، إذْ الْعَيْنُ طَاهِرَةٌ، وَمَتَى شَكَّ فِي نَجَاسَتِهَا فَالْأَصْلُ الطَّهَارَةُ، وَلَوْ تَيَقَّنَّا نَجَاسَةَ بَعْضِ أَشْخَاصِ نَوْعٍ دُونَ بَعْضٍ لَمْ نَحْكُمْ بِنَجَاسَةِ جَمِيعِ أَشْخَاصِهِ، وَلَا بِنَجَاسَةِ مَا شَكَكْنَا فِي تَنَجُّسِهِ، وَلَكِنْ إذَا تَيَقَّنَ النَّجَاسَةَ أَوْ قَصَدَ قَاصِدٌ إزَالَةَ الشَّكِّ، فَغَسْلُ الْجُوخَةِ يُطَهِّرُهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ صُوفٌ أَصَابَهُ دُهْنٌ نَجِسٌ، وَإِصَابَةُ الْبَوْلِ وَالدَّمِ لِثَوْبِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ أَشَدُّ، وَهُوَ بِهِ أَلْصَقُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ أَصَابَ دَمُ الْحَيْضِ ثَوْبَهَا: «حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ، ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلَا يَضُرُّك أَثَرُهُ» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الصلاة

[كِتَابُ الصَّلَاةِ] ِ 85 - 1 مَسْأَلَةٌ: هَلْ كَانَتْ الصَّلَاةُ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأُمَمِ مِثْلَ مَا هِيَ عَلَيْنَا مِنْ الْوُجُوبِ وَالْأَوْقَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْهَيْئَاتِ. أَمْ لَا؟ أَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَانَتْ لَهُمْ صَلَاةٌ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ. لَكِنْ لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِصَلَاتِنَا فِي الْأَوْقَاتِ وَالْهَيْئَاتِ، وَغَيْرِهِمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فَاسِقٌ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ] 86 - 2 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ يَفْسُقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيُصَلِّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ صَلَاةٍ لَمْ تَنْهَ عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ صَاحِبُهَا مِنْ اللَّهِ إلَّا بُعْدًا» . أَجَابَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَكِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَالصَّلَاةُ لَا تَزِيدُ صَاحِبَهَا بُعْدًا. بَلْ الَّذِي يُصَلِّي خَيْرٌ مِنْ الَّذِي لَا يُصَلِّي، وَأَقْرَبُ إلَى اللَّهِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا. لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْت مِنْهَا. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ. وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا، إلَّا ثُلُثُهَا إلَّا رُبُعُهَا، حَتَّى قَالَ: إلَّا عُشْرُهَا» . فَإِنَّ الصَّلَاةَ إذَا أَتَى بِهَا كَمَا أُمِرَ نَهَتْهُ عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَإِذَا لَمْ تَنْهَهُ دَلَّ عَلَى تَضْيِيعِهِ لِحُقُوقِهَا، وَإِنْ كَانَ مُطِيعًا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم: 59] الْآيَةَ. وَإِضَاعَتُهَا التَّفْرِيطُ فِي وَاجِبَاتِهَا، وَإِنْ كَانَ يُصَلِّيهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى

[مَسْأَلَةٌ قَوْلُهُ تَعَالَى لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى] مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] . وَالرَّجُلُ إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ وَصَلَّى وَهُوَ سَكْرَانُ، هَلْ تَجُوزُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: صَلَاةُ السَّكْرَانِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ لَا تَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ؛ بَلْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا. فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ، وَقُرْبَانِ مَوَاضِعِ الصَّلَاةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مِنْ يَجِدُ رِيحًا فِي جَوْفِهِ تَمْنَعُهُ عَنْ انْتِظَارِ الْجُمُعَةِ] 88 - 4 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ يُصَلِّي الْخَمْسَ لَا يَقْطَعُهَا وَلَمْ يَحْضُرْ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ. وَذَكَرَ أَنَّ عَدَمَ حُضُورِهِ لَهَا أَنَّهُ يَجِدُ رِيحًا فِي جَوْفِهِ تَمْنَعُهُ عَنْ انْتِظَارِ الْجُمُعَةِ؛ وَبَيْنَ مَنْزِلِهِ وَالْمَكَانِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ قَدْرُ مِيلَيْنِ أَوْ دُونَهُمَا، فَهَلْ الْعُذْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ كَافٍ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ مَعَ قُرْبِ مَنْزِلِهِ، أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ". الْجَوَابُ: بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمُعَةَ وَلَا يَتَأَخَّرَ بِحَيْثُ يَحْضُرُ وَيُصَلِّي مَعَ بَقَاءِ وُضُوئِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الْحُضُورُ إلَّا مَعَ خُرُوجِ الرِّيحِ فَلْيَشْهَدْهَا - وَإِنْ خَرَجَتْ مِنْهُ الرِّيحُ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ تَجِبُ إقَامَةُ حُدُودِ الصَّلَاةِ عَلَى مِنْ يَتَعَلَّمهَا] 89 - 5 - مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْمٍ مُنْتَسِبِينَ إلَى الْمَشَايِخِ يُتَوِّبُونَهُمْ عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ، وَالسَّرِقَةِ، وَأَلْزَمُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِكَوْنِهِمْ يُصَلُّوا صَلَاةَ عَادَةِ الْبَادِيَةِ، فَهَلْ تَجِبُ إقَامَةُ حُدُودِ الصَّلَاةِ أَمْ لَا؟ أَجَابَ: أَمَّا الصَّلَاةُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 6] {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] .

فَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الَّذِينَ يُصَلُّونَ إذَا سَهَوْا عَنْ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَنْ وَقْتِهَا. الثَّانِي: أَنْ لَا يُكْمِلَ وَاجِبَاتِهَا: مِنْ الطَّهَارَةِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَالْخُشُوعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ - ثَلَاثَ مِرَارٍ - يَتَرَقَّبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا» . فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْمُنَافِقِينَ التَّأْخِيرَ، وَقِلَّةَ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 142] وَقَالَ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146] . وَأَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا. وَإِضَاعَةُ حُقُوقِهَا، قَالُوا: وَكَانُوا يُصَلُّونَ، وَلَوْ تَرَكُوهَا لَكَانُوا كُفَّارًا: فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ إلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ» وَقَالَ: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» وَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّ الْعَبْدَ إذَا كَمَّلَ الصَّلَاةَ صَعِدَتْ وَلَهَا بُرْهَانٌ كَبُرْهَانِ الشَّمْسِ. وَتَقُولُ حَفِظَك اللَّهُ كَمَا حَفِظْتنِي، وَإِنْ لَمْ

يُكْمِلْهَا فَإِنَّهَا تُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ، وَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا، وَتَقُولُ ضَيَّعَك اللَّهُ كَمَا ضَيَّعْتنِي» . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ إلَّا نِصْفُهَا؛ إلَّا ثُلُثُهَا إلَّا رُبُعُهَا، إلَّا خُمُسُهَا: إلَّا سُدُسُهَا. حَتَّى قَالَ: إلَّا عُشْرُهَا» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْت مِنْهَا. وَقَوْلُهُ: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59] الَّذِي يُشْتَغَلُ بِهِ عَنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ - كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّهَوَاتِ: كَالرَّقْصِ، وَالْغِنَاءِ: وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَعَلَيْك السَّلَامُ، ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ فَصَلَّى ثُمَّ أَتَاهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَعَلَيْك السَّلَامُ، ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ. مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. فَقَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهَا، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِك كُلِّهَا» . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ مَنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» «وَنَهَى عَنْ نَقْرٍ كَنَقْرِ الْغُرَابِ» . وَرَأَى حُذَيْفَةُ رَجُلًا يُصَلِّي لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَقَالَ: لَوْ مِتّ مِتّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَوْ قَالَ: لَوْ مَاتَ هَذَا. رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ.

مسألة فيمن قال إن الصبيان مأمورون بالصلاة قبل البلوغ

[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ قَالَ إنَّ الصِّبْيَانَ مَأْمُورُونَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ] مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ قَالَ: إنَّ الصِّبْيَانَ مَأْمُورُونَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَقَالَ آخَرُ: لَا نُسَلِّمُ، فَقَالَ لَهُ: وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ» فَقَالَ: هَذَا مَا هُوَ أَمْرٌ مِنْ اللَّهِ، وَلَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ تَنْقِيصٌ، فَهَلْ يَجِبُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِمْ فَالصَّوَابُ مَعَ الثَّانِي. وَأَمَّا إنْ أَرَادَ أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ: أَيْ أَنَّ الرِّجَالَ يَأْمُرُونَهُمْ بِهَا لِأَمْرِ اللَّهِ إيَّاهُمْ بِالْأَمْرِ، أَوْ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ فِي حَقِّ الصِّبْيَانِ، فَالصَّوَابُ مَعَ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: مَا هُوَ أَمْرٌ مِنْ اللَّهِ، إذَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا مِنْ اللَّهِ لِلصِّبْيَانِ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ لِمَنْ يَأْمُرُ الصِّبْيَانِ، فَقَدْ أَصَابَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ أَمْرًا مِنْ اللَّهِ لِأَحَدٍ. فَهَذَا خَطَأٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ، وَيَسْتَغْفِرَ اللَّهَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مِنْ يُؤَخِّرُ صَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ] 91 - 7 - مَسْأَلَةٌ: فِي أَقْوَامٍ يُؤَخِّرُونَ صَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ، لِأَشْغَالٍ لَهُمْ مِنْ زَرْعٍ أَوْ حَرْثٍ أَوْ جَنَابَةٍ أَوْ خِدْمَةِ أُسْتَاذٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ؟ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُؤَخِّرَ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ، وَلَا يُؤَخِّرَ صَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ لِشُغْلٍ مِنْ الْأَشْغَالِ. لَا لِحَصْدٍ وَلَا لِحَرْثٍ وَلَا لِصِنَاعَةٍ وَلَا لِجَنَابَةٍ. وَلَا نَجَاسَةٍ وَلَا صَيْدٍ وَلَا لَهْوٍ وَلَا لَعِبٍ وَلَا لِخِدْمَةِ أُسْتَاذٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ؛ بَلْ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِالنَّهَارِ، وَيُصَلِّيَ الْفَجْرَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَا يَتْرُكُ ذَلِكَ لِصِنَاعَةٍ مِنْ الصِّنَاعَاتِ، وَلَا لِلَّهْوِ وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَشْغَالِ وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَمْنَعَ مَمْلُوكَهُ، وَلَا لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْنَعَ الْأَجِيرَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا. وَمَنْ أَخَّرَهَا لِصِنَاعَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ خِدْمَةِ أُسْتَاذٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ وَجَبَتْ عُقُوبَتُهُ، بَلْ يَجِبُ قَتْلُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَالْتَزَمَ أَنْ

يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ أُلْزِمَ بِذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ: لَا أُصَلِّي إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لِاشْتِغَالِهِ بِالصِّنَاعَةِ وَالصَّيْدِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» وَفِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: " إنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ، وَحَقًّا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ ". وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَخَّرَ صَلَاةَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ لِاشْتِغَالِهِ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ صَلَّاهَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ» . فَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ ذَلِكَ التَّأْخِيرُ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَلَمْ يُجَوِّزُوا تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ حَالَ الْقِتَالِ، بَلْ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ حَالَ الْقِتَالِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يُخَيِّرُ حَالَ الْقِتَالِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَبَيْنَ التَّأْخِيرِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يَشْتَغِلُ بِالْقِتَالِ وَيُصَلِّي بَعْدَ الْوَقْتِ، وَأَمَّا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِغَيْرِ الْجِهَادِ كَصِنَاعَةٍ أَوْ زِرَاعَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يُجَوِّزُهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، بَلْ قَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: هُمْ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتِهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَهَا عَلَى

الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَإِنْ صَلَّاهَا فِي الْوَقْتِ فَتَأْخِيرُهَا عَنْ الْوَقْتِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ صَلَاةِ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ، وَتَأْخِيرَ صَلَاةِ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ بِمَنْزِلَةِ تَأْخِيرِ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ إلَى شَوَّالٍ. فَمَنْ قَالَ: أُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِاللَّيْلِ، فَهُوَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: أُفْطِرُ شَهْرَ رَمَضَانَ وَأَصُومُ شَوَّالًا، وَإِنَّمَا يُعْذَرُ بِالتَّأْخِيرِ النَّائِمُ وَالنَّاسِي. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ» . فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا لِجَنَابَةٍ وَلَا حَدَثٍ وَلَا نَجَاسَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ حَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا وَقَدْ عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى. وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي إذَا عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ لِمَرَضٍ أَوْ لِبَرْدٍ. وَكَذَلِكَ الْعُرْيَانُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ عُرْيَانًا، وَلَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ فِي ثِيَابِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُزِيلَهَا فَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ حَالِهِ. وَهَكَذَا الْمَرِيضُ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فِي الْوَقْتِ، كَمَا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» فَالْمَرِيضُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ قَاعِدًا أَوْ عَلَى جَنْبٍ، إذَا كَانَ الْقِيَامُ يَزِيدُ فِي مَرَضِهِ، وَلَا يُصَلِّي بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ قَائِمًا. وَهَذَا كُلُّهُ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا فَرْضٌ، وَالْوَقْتُ أَوْكَدُ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ، كَمَا أَنَّ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَاجِبٌ فِي وَقْتِهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْ وَقْتِهِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ، بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَبَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ لِلسَّفَرِ وَالْمَرَضِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ. وَأَمَّا تَأْخِيرُ صَلَاةِ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ، وَتَأْخِيرُ صَلَاةِ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ، فَلَا يَجُوزُ

لِمَرَضٍ وَلَا لِسَفَرٍ، وَلَا لِشُغْلٍ مِنْ الْأَشْغَالِ، وَلَا لِصِنَاعَةٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. بَلْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ الْكَبَائِرِ. لَكِنَّ الْمُسَافِرَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّي أَرْبَعًا. بَلْ الرَّكْعَتَانِ تُجْزِئُ الْمُسَافِرَ فِي سَفَرِ الْقَصْرِ، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسَافِرٍ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَكِلَاهُمَا ضَلَالٌ، مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، يُسْتَتَابُ قَائِلُهُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَالْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا صَلَّى الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْفَجْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثًا، وَأَفْطَرَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَقَضَاهُ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ شَهْرَ رَمَضَانَ أَوْ صَلَّى أَرْبَعًا، فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ، فَالْمَرِيضُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّوْمَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسَافِرُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصِّيَامَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا أَوْكَدُ مِنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59] . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا. وَلَوْ تَرَكُوهَا لَكَانُوا كُفَّارًا. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، ثُمَّ اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَيْفَ بِك إذَا كَانَ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا. وَيَنْسَئُونَ الصَّلَاةَ

عَنْ وَقْتِهَا، قُلْت: فَمَاذَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَك نَافِلَةٌ» وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ تَشْغَلُهُمْ أَشْيَاءُ عَنْ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا حَتَّى يَذْهَبَ وَقْتُهَا. فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا. وَقَالَ رَجُلٌ: أُصَلِّي مَعَهُمْ قَالَ: نَعَمْ إنْ شِئْت، وَاجْعَلُوهَا تَطَوُّعًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَيْفَ بِكُمْ إذَا كَانَ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا؟ قُلْت: فَمَا تَأْمُرُنِي إنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، وَاجْعَلْ صَلَاتَك مَعَهُمْ نَافِلَةً» . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ عُرْيَانًا مِثْلَ أَنْ تَنْكَسِرَ بِهِمْ السَّفِينَةُ أَوْ تَسْلُبَهُ الْقُطَّاعُ ثِيَابَهُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ عُرْيَانًا، وَالْمُسَافِرُ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ فِي الْوَقْتِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ يَجِدُ الْمَاءَ بَعْدَ الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ الْمُسَافِرُ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ تَيَمَّمَ وَصَلَّى، وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَغَيْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَرْدُ شَدِيدًا فَخَافَ إنْ اغْتَسَلَ أَنْ يَمْرَضَ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ، وَلَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ بِاغْتِسَالٍ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ بَشَرَتَك فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ» . وَكُلُّ مَا يُبَاحُ بِالْمَاءِ يُبَاحُ بِالتَّيَمُّمِ، فَإِذَا تَيَمَّمَ لِصَلَاةِ فَرِيضَةٍ قَرَأَ الْقُرْآنَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا، وَمَنْ امْتَنَعَ عَنْ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَإِنَّ التَّيَمُّمَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا طَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي» وَفِي لَفْظٍ: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ» .

وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ؟ وَهَلْ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوْ يَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ؟ أَوْ يُصَلِّي مَا شَاءَ كَمَا يُصَلِّي بِالْمَاءِ وَلَا يُنْقِضُهُ إلَّا مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَوْ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ؟ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ. فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ بَشَرَتَك، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُزِيلُهَا بِهِ صَلَّى فِي الْوَقْتِ وَعَلَيْهِ النَّجَاسَةُ، كَمَا صَلَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا. وَلَمْ يُؤَخِّرْ الصَّلَاةَ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ. وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا ثَوْبًا نَجِسًا فَقِيلَ: يُصَلِّي عُرْيَانًا. وَقِيلَ: يُصَلِّي فِيهِ وَيُعِيدُ، وَقِيلَ: يُصَلِّي فِيهِ وَلَا يُعِيدُ؛ وَهَذَا أَصَحُّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ الْعَبْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ مَرَّتَيْنِ، إلَّا إذَا لَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، مِثْلُ أَنْ يُصَلِّيَ بِلَا طُمَأْنِينَةٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ صَلَّى وَلَمْ يَطْمَئِنَّ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ. وَقَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ» . وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ الطَّهَارَةَ وَصَلَّى بِلَا وُضُوءٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَوَضَّأَ وَتَرَكَ لُمْعَةً فِي قَدَمِهِ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ» . فَأَمَّا مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . وَمَنْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا فِي الْوَقْتِ وَالْمَاءُ بَعِيدٌ مِنْهُ لَا يُدْرِكُهُ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَرْدُ شَدِيدًا، وَيَضُرُّهُ الْمَاءُ الْبَارِدُ، وَلَا يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ إلَى الْحَمَّامِ، أَوْ تَسْخِينُ الْمَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ. وَالْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، فَإِذَا كَانَا جُنُبَيْنِ وَلَمْ يُمْكِنْهُمَا الِاغْتِسَالُ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ، فَإِنَّهُمَا يُصَلِّيَانِ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ.

وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا فِي الْوَقْتِ، وَلَمْ يُمْكِنْهَا الِاغْتِسَالُ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ فِي الْوَقْتِ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الصَّلَاةَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِالْمَاءِ خَيْرٌ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ فَهُوَ ضَالٌّ جَاهِلٌ. وَإِذَا اسْتَيْقَظَ آخِرَ وَقْتِ الْفَجْرِ فَإِذَا اغْتَسَلَ طَلَعَتْ الشَّمْسُ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ هُنَا يَقُولُونَ: يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَقَالَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: بَلْ يَتَيَمَّمُ أَيْضًا هُنَا وَيُصَلِّي قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ خَيْرٌ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَهُ بِالْغُسْلِ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّ النَّائِمِ هُوَ مِنْ حِينِ يَسْتَيْقِظُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» . فَالْوَقْتُ فِي حَقِّ النَّائِمِ هُوَ مِنْ حِينِ يَسْتَيْقِظُ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَقْتًا فِي حَقِّهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ الِاغْتِسَالُ وَالصَّلَاةُ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِهَا فَقَدْ صَلَّى الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا وَلَمْ يُفَوِّتْهَا؛ بِخِلَافِ مَنْ اسْتَيْقَظَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَإِنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّهِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَوِّتَ الصَّلَاةَ. وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً وَذَكَرَهَا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، وَهَذَا هُوَ الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَيْقِظْ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، كَمَا اسْتَيْقَظَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَامُوا عَنْ الصَّلَاةِ عَامَ خَيْبَرَ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالطَّهَارَةِ الْكَامِلَةِ، وَإِنْ أَخَّرَهَا إلَى حِينِ الزَّوَالِ، فَإِذَا قَدَّرَ أَنَّهُ كَانَ جُنُبًا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ وَيَغْتَسِلُ وَإِنْ أَخَّرَهَا إلَى قَرِيبِ الزَّوَالِ، وَلَا يُصَلِّي هُنَا بِالتَّيَمُّمِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ الْمَكَانِ الَّذِي نَامَ فِيهِ، كَمَا انْتَقَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ عَنْ الْمَكَانِ الَّذِي نَامُوا فِيهِ، وَقَالَ: «هَذَا مَكَانٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ» . وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. وَإِنْ صَلَّى فِيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُسَمَّى قَضَاءً أَوْ أَدَاءً؟

قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ هُوَ فَرْقٌ اصْطِلَاحِيٌّ؛ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى فِعْلَ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا قَضَاءً، كَمَا قَالَ فِي الْجُمُعَةِ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 200] مَعَ أَنَّ هَذَيْنِ يُفْعَلَانِ فِي الْوَقْتِ. " وَالْقَضَاءُ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: هُوَ إكْمَالُ الشَّيْءِ وَإِتْمَامُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] أَيْ: أَكْمَلَهُنَّ وَأَتَمَّهُنَّ. فَمَنْ فَعَلَ الْعِبَادَةَ كَامِلَةً فَقَدْ قَضَاهَا، وَإِنْ فَعَلَهَا فِي وَقْتِهَا. وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا أَعْلَمُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَ بَقَاءَ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَنَوَاهَا أَدَاءً. ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ اعْتَقَدَ خُرُوجَهُ فَنَوَاهَا قَضَاءً ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بَقَاءُ الْوَقْتِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ. وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ الْعِبَادَةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، سَوَاءٌ نَوَاهَا أَدَاءً أَوْ قَضَاءً، وَالْجُمُعَةُ تَصِحُّ سَوَاءٌ نَوَاهَا أَدَاءً أَوْ قَضَاءً إذَا أَرَادَ الْقَضَاءَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ، وَالنَّائِمُ وَالنَّاسِي إذَا صَلَّيَا وَقْتَ الذِّكْرِ وَالِانْتِبَاهِ فَقَدْ صَلَّيَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَا بِالصَّلَاةِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَا قَدْ صَلَّيَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ الْمَشْرُوعِ لِغَيْرِهِمَا. فَمَنْ سَمَّى ذَلِكَ قَضَاءً بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى. وَكَانَ فِي لُغَتِهِ أَنَّ الْقَضَاءَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ شَرْعًا لِلْعُمُومِ، فَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ قَطُّ شُغْلٌ يُسْقِطُ عَنْهُ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا، بِحَيْثُ يُؤَخِّرُ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ وَصَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ؛ لَكِنْ يُصَلِّي بِحَسَبِ حَالِهِ، فَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ فَرَائِضِهَا فَعَلَهُ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ سَقَطَ عَنْهُ، وَلَكِنْ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْعُذْرِ بَيْنَ صَلَاتَيْ النَّهَارِ وَبَيْنَ صَلَاتَيْ اللَّيْلِ، عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: فَيَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمُسَافِرِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِعْلُ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا أَوْلَى مِنْ الْجَمْعِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَرَجٌ؛ بِخِلَافِ الْقَصْرِ

مسألة العمل الذي لله بالنهار لا يقبله بالليل

فَإِنَّ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ أَرْبَعٍ، عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ. فَلَوْ صَلَّى الْمُسَافِرُ أَرْبَعًا فَهَلْ تُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. «وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي جَمِيعِ أَسْفَارِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا قَطُّ» ، وَلَا أَبُو بَكْرٍ، وَلَا عُمَرُ [مَسْأَلَةٌ الْعَمَل الَّذِي لِلَّهِ بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ] 92 - 8 مَسْأَلَةٌ: فِي الْعَمَلِ الَّذِي لِلَّهِ بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ، وَالْعَمَلُ الَّذِي بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ؟ الْجَوَابُ: وَأَمَّا عَمَلُ النَّهَارِ الَّذِي لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ بِاللَّيْلِ، وَعَمَلُ اللَّيْلِ الَّذِي لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ بِالنَّهَارِ: فَهُمَا صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، لَا يَحِلُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُؤَخِّرَهُمَا إلَى اللَّيْلِ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ» . فَأَمَّا مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» . وَأَمَّا مَنْ فَوَّتَهَا مُتَعَمِّدًا فَقَدْ أَتَى كَبِيرَةً مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يَصِحُّ فِعْلُهَا قَضَاءً أَصْلًا، وَمَعَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ لَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْوَاجِبِ، وَلَا يَقْبَلُهَا اللَّهُ مِنْهُ بِحَيْثُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْعِقَابُ، وَيَسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ؛ بَلْ يُخَفَّفُ عَنْهُ الْعَذَابُ بِمَا فَعَلَهُ مِنْ الْقَضَاءِ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ إثْمُ التَّفْوِيتِ، وَهُوَ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى مُسْقِطٍ آخَرَ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَلَيْهِ حَقَّانِ: فَعَلَ أَحَدَهُمَا، وَتَرَكَ الْآخَرَ. قَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] . وَتَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا مِنْ السَّهْوِ عَنْهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

مسألة تارك الصلاة من غير عذر

وَقَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا، فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْوَيْلَ لِمَنْ أَضَاعَهَا وَإِنْ صَلَّاهَا. وَمِنْ كَانَ لَهُ الْوَيْلُ لَمْ يَكُنْ قَدْ يُقْبَلُ عَمَلُهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ ذُنُوبٌ أُخَرُ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ فِي نَفْسِ الْعَمَلِ لَمْ يُتَقَبَّلْ ذَلِكَ الْعَمَلُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فِي وَصِيَّتِهِ لِعُمَرَ: وَاعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ، وَحَقًّا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ النَّافِلَةَ حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَارِك الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ] 93 - 9 مَسْأَلَةٌ: عَنْ تَارِكِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ هَلْ هُوَ مُسْلِمٌ فِي تِلْكَ الْحَالِ؟ أَجَابَ: أَمَّا تَارِكُ الصَّلَاةِ. فَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ إذَا أَسْلَمَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ، أَوْ وُجُوبَ بَعْضِ أَرْكَانِهَا: مِثْلَ أَنْ يُصَلِّيَ بِلَا وُضُوءٍ، فَلَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ أَوْ يُصَلِّيَ مَعَ الْجَنَابَةِ فَلَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ، فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرٍ، إذَا لَمْ يَعْلَمْ. لَكِنْ إذَا عَلِمَ الْوُجُوبَ: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا قِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَقِيلَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَعَنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا الْأَصْلِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ فِيمَنْ صَلَّى فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِالنَّهْيِ، ثُمَّ عَلِمَ، هَلْ يُعِيدُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِالنَّهْيِ، ثُمَّ عَلِمَ، هَلْ يُعِيدُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ. وَقِيلَ: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ: إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ جَاهِلًا بِوُجُوبِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ دُونَ دَارِ الْحَرْبِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالصَّائِمُ إذَا فَعَلَ مَا يُفْطِرُ بِهِ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ: فَهَلْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَكَذَلِكَ مَنْ فَعَلَ مَحْظُورًا [فِي] الْحَجِّ جَاهِلًا.

وَأَصْلُ هَذَا: أَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ: هَلْ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. قِيلَ: يَثْبُتُ. وَقِيلَ: لَا يَثْبُتُ، وَقِيلَ: يَثْبُتُ الْمُبْتَدَأُ دُونَ النَّاسِخِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَثْبُتُ الْخِطَابُ إلَّا بَعْدَ الْبَلَاغِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] . وَقَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] . وَلِقَوْلِهِ: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ مُتَعَدِّدٌ، بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا حَتَّى يُبَلِّغَهُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَآمَنَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَعْلَمْ كَثِيرًا مِمَّا جَاءَ بِهِ لَمْ يُعَذِّبْهُ اللَّهُ عَلَى مَا لَمْ يَبْلُغْهُ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُعَذِّبْهُ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُ عَلَى بَعْضِ شَرَائِطِهِ إلَّا بَعْدَ الْبَلَاغِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَهَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ «أَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ ظَنُّوا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187] هُوَ الْحَبْلُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْحَبْلِ الْأَسْوَدِ. فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَرْبِطُ فِي رِجْلِهِ حَبْلًا. ثُمَّ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ هَذَا مِنْ هَذَا فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمُرَادَ بَيَاضُ النَّهَارِ، وَسَوَادُ اللَّيْلِ» ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ. وَكَذَلِكَ «عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَمَّارٌ أَجْنَبَا، فَلَمْ يُصَلِّ عُمَرُ حَتَّى أَدْرَكَ الْمَاءَ؛ وَظَنَّ عَمَّارٌ أَنَّ التُّرَابَ يَصِلُ إلَى حَيْثُ يَصِلُ الْمَاءُ فَتَمَرَّغَ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ وَلَمْ يَأْمُرْ وَاحِدًا مِنْهُمْ بِالْقَضَاءِ» ، وَكَذَلِكَ أَبُو ذَرٍّ بَقِيَ مُدَّةً جُنُبًا لَمْ يُصَلِّ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ، بَلْ أَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَكَذَلِكَ «الْمُسْتَحَاضَةُ قَالَتْ: إنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً شَدِيدَةً تَمْنَعُنِي الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ، فَأَمَرَهَا بِالصَّلَاةِ زَمَنَ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ» ، وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالْقَضَاءِ.

وَلَمَّا حَرُمَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ «تَكَلَّمَ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ، فَقَالَ لَهُ: إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ» وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ. وَلَمَّا زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ حِينَ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ، كَانَ مَنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ مِثْلُ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ، وَبِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ. وَلَمَّا فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَبْلُغْ الْخَبَرُ إلَى مِنْ كَانَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى فَاتَ ذَلِكَ الشَّهْرُ، لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ الصِّيَامِ. وَكَانَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ - لَمَّا ذَهَبُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ - قَدْ صَلَّى إلَى الْكَعْبَةِ مُعْتَقِدًا جَوَازَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وَكَانُوا حِينَئِذٍ يَسْتَقْبِلُونَ الشَّامَ، فَلَمَّا ذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَمَرَهُ بِاسْتِقْبَالِ الشَّامِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا كَانَ صَلَّى. وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ «سُئِلَ - وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ: عَنْ رَجُلٍ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ، وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِالْخَلُوقِ، فَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ قَالَ لَهُ: انْزَعْ عَنْك جُبَّتَك، وَاغْسِلْ عَنْك أَثَرَ الْخَلُوقِ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا كُنْت صَانِعًا فِي حَجِّك» . وَهَذَا قَدْ فَعَلَ مَحْظُورًا فِي الْحَجِّ، وَهُوَ لُبْسُ الْجُبَّةِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ بِدَمٍ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ لَلَزِمَهُ دَمٌ. وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ «قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ: صَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - فَقَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِينِي فِي الصَّلَاةِ. فَعَلَّمَهُ الصَّلَاةَ الْمُجْزِيَةَ» وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةٍ مَا صَلَّى قَبْلَ ذَلِكَ.

مَعَ قَوْلِهِ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ تِلْكَ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا بَاقٍ، فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِهَا، وَاَلَّتِي صَلَّاهَا لَمْ تَبْرَأْ بِهَا الذِّمَّةُ، وَوَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ صَبِيٌّ، أَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ، أَوْ طَهُرَتْ حَائِضٌ، أَوْ أَفَاقَ مَجْنُونٌ، وَالْوَقْتُ بَاقٍ لَزِمَتْهُمْ الصَّلَاةُ أَدَاءً لَا قَضَاءً. وَإِذَا كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِمْ. فَهَذَا الْمُسِيءُ الْجَاهِلُ إذَا عَلِمَ بِوُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الطُّمَأْنِينَةُ حِينَئِذٍ، وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالطُّمَأْنِينَةِ فِي صَلَاةِ تِلْكَ الْوَقْتِ، دُونَ مَا قَبْلَهَا. وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ أَنْ يُعِيدَ، وَلِمَنْ تَرَكَ لُمْعَةً مِنْ قَدَمِهِ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ. وَقَوْلُهُ أَوَّلًا: «صَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ» تَبَيَّنَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ لَمْ يَكُنْ صَلَاةً، وَلَكِنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا بِوُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ، فَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ عَلَّمَهُ إيَّاهَا، لَمَّا قَالَ: «وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا» . فَهَذِهِ نُصُوصُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَحْظُورَاتِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ مَعَ الْجَهْلِ فِيمَنْ تَرَكَ وَاجِبَاتِهَا مَعَ الْجَهْلِ. وَأَمَّا أَمْرُهُ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ أَنْ يُعِيدَ فَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْوَاجِبِ مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ. فَثَبَتَ الْوُجُوبُ فِي حَقِّهِ حِينَ أَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَقَاءِ وَقْتِ الْوُجُوبِ، لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ مَعَ مُضِيِّ الْوَقْتِ. وَأَمَّا أَمْرُهُ لِمَنْ تَرَكَ لُمْعَةً فِي رِجْلِهِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ بِالْإِعَادَةِ، فَلِأَنَّهُ كَانَ نَاسِيًا، فَلَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ، كَمَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ، وَكَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا، فَإِنَّهَا قَضِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ بِشَخْصٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْوَقْتِ بَعْدَهُ. أَعْنِي أَنَّهُ «رَأَى فِي رِجْلِ رَجُلٍ لُمْعَةً لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدِيثٌ جَيِّدٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ» وَنَحْوُهُ. فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَكْمِيلِ الْوُضُوءِ لَيْسَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ بِإِعَادَةِ شَيْءٍ وَمَنْ كَانَ أَيْضًا يَعْتَقِدُ أَنَّ الصَّلَاةَ تَسْقُطُ عَنْ الْعَارِفِينَ، أَوْ عَنْ الْمَشَايِخِ الْوَاصِلِينَ. أَوْ عَنْ بَعْضِ أَتْبَاعِهِمْ، أَوْ أَنَّ الشَّيْخَ يُصَلِّي عَنْهُمْ، أَوْ أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا أَسْقَطَ عَنْهُمْ الصَّلَاةَ، كَمَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ

الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْفَقْرِ وَالزُّهْدِ، وَاتِّبَاعِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَهَؤُلَاءِ يُسْتَتَابُونَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، فَإِنْ أَقَرُّوا بِالْوُجُوبِ، وَإِلَّا قُوتِلُوا، وَإِذَا أَصَرُّوا عَلَى جَحْدِ الْوُجُوبِ حَتَّى قُتِلُوا، كَانُوا مِنْ الْمُرْتَدِّينَ، وَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ وَصَلَّى لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا تَرَكَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إمَّا أَنْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ جَاهِلِينَ لِلْوُجُوبِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَالْمُرْتَدُّ إذَا أَسْلَمَ لَا يَقْضِي مَا تَرَكَهُ حَالَ الرِّدَّةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا لَا يَقْضِي الْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ مَا تَرَكَ حَالَ الْكُفْرِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَالْأُخْرَى يَقْضِي الْمُرْتَدُّ. كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. فَإِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ، وَطَائِفَةٍ مَعَهُ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 86] الْآيَةَ، وَاَلَّتِي بَعْدَهَا. وَكَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَاَلَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ الْكُفَّارِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَنْزَلَ فِيهِمْ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110] . فَهَؤُلَاءِ عَادُوا إلَى الْإِسْلَامِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ عَامَ الْفَتْحِ، وَبَايَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِإِعَادَةِ مَا تَرَكَ حَالَ الْكُفْرِ فِي الرِّدَّةِ، كَمَا لَمْ يَكُنْ يَأْمُرُ سَائِرَ الْكُفَّارِ إذَا أَسْلَمُوا. وَقَدْ ارْتَدَّ فِي حَيَاتِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ اتَّبَعُوا الْأَسْوَدَ الْعَنْسِيَّ الَّذِي تَنَبَّأَ بِصَنْعَاءِ الْيَمَنِ، ثُمَّ قَتَلَهُ اللَّهُ، وَعَادَ أُولَئِكَ إلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِالْإِعَادَةِ. وَتَنَبَّأَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، قَاتَلَهُمْ الصِّدِّيقُ وَالصَّحَابَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى أَعَادُوا مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَأْمُرُوا أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْقَضَاءِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَكَانَ أَكْثَرُ الْبَوَادِي قَدْ ارْتَدُّوا ثُمَّ عَادُوا إلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِقَضَاءِ

مَا تَرَكَ مِنْ الصَّلَاةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] يَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ. وَإِنْ قِيلَ: إنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ، بَلْ جُهَّالًا بِالْوُجُوبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَظْهَرَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يَسْتَأْنِفُونَ الصَّلَاةَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ. هَذَا حُكْمُ مَنْ تَرَكَهَا غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِوُجُوبِهَا. وَأَمَّا مَنْ اعْتَقَدَ وُجُوبَهَا مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى التَّرْكِ: فَقَدْ ذَكَرَ عَلَيْهِ الْمُفَرِّعُونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فُرُوعًا. أَحَدُهَا هَذَا، فَقِيلَ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ: مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَإِذَا صِيرَ حَتَّى يُقْتَلَ فَهَلْ يُقْتَلُ كَافِرًا مُرْتَدًّا، أَوْ فَاسِقًا كَفُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ. حُكِيَا رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهَذِهِ الْفُرُوعُ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَهِيَ فُرُوعٌ فَاسِدَةٌ، فَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِالصَّلَاةِ فِي الْبَاطِنِ، مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا، يَمْتَنِعُ أَنْ يُصِرَّ عَلَى تَرْكِهَا حَتَّى يُقْتَلَ، وَهُوَ لَا يُصَلِّي هَذَا لَا يُعْرَفُ مِنْ بَنِي آدَمَ وَعَادَتِهِمْ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ هَذَا قَطُّ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا، وَيُقَالُ لَهُ: إنْ لَمْ تُصَلِّ وَإِلَّا قَتَلْنَاك، وَهُوَ يُصِرُّ عَلَى تَرْكِهَا، مَعَ إقْرَارِهِ بِالْوُجُوبِ، فَهَذَا لَمْ يَقَعْ قَطُّ فِي الْإِسْلَامِ. وَمَتَى امْتَنَعَ الرَّجُلُ مِنْ الصَّلَاةِ حَتَّى يُقْتَلَ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَاطِنِ مُقِرًّا بِوُجُوبِهَا، وَلَا مُلْتَزِمًا بِفِعْلِهَا، وَهَذَا كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا اسْتَفَاضَتْ الْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ بِكُفْرِ هَذَا، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ. كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ إلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَوْلِهِ: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» . وَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنْ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ إلَّا الصَّلَاةَ، فَمَنْ كَانَ مُصِرًّا عَلَى تَرْكِهَا حَتَّى يَمُوتَ لَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً قَطُّ، فَهَذَا لَا يَكُونُ قَطُّ مُسْلِمًا مُقِرًّا بِوُجُوبِهَا، فَإِنَّ اعْتِقَادَ الْوُجُوبِ، وَاعْتِقَادَ أَنَّ تَارِكَهَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ هَذَا دَاعٍ تَامٌّ إلَى فِعْلِهَا، وَالدَّاعِي مَعَ الْقُدْرَةِ يُوجِبُ وُجُودَ الْمَقْدُورِ، فَإِذَا كَانَ قَادِرًا وَلَمْ يَفْعَلْ قَطُّ عُلِمَ أَنَّ الدَّاعِيَ فِي حَقِّهِ لَمْ يُوجَدْ. وَالِاعْتِقَادُ التَّامُّ لِعِقَابِ التَّارِكِ

مسألة من يؤخر صلاة الفجر إلى بعد طلوع الشمس

بَاعِثٌ عَلَى الْفِعْلِ، لَكِنَّ هَذَا قَدْ يُعَارِضُهُ أَحْيَانًا أُمُورٌ تُوجِبُ تَأْخِيرَهَا وَتَرْكَ بَعْضِ وَاجِبَاتِهَا، وَتَفْوِيتَهَا أَحْيَانًا. فَأَمَّا مَنْ كَانَ مُصِرًّا عَلَى تَرْكِهَا لَا يُصَلِّي قَطُّ، وَيَمُوتُ عَلَى هَذَا الْإِصْرَارِ وَالتَّرْكِ فَهَذَا لَا يَكُونُ مُسْلِمًا؛ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُصَلُّونَ تَارَةً، وَيَتْرُكُونَهَا تَارَةً، فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا، وَهَؤُلَاءِ تَحْتَ الْوَعِيدِ، وَهُمْ الَّذِينَ جَاءَ فِيهِمْ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ حَدِيثُ عُبَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهِنَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ» . فَالْمَحَافِظُ عَلَيْهَا الَّذِي يُصَلِّيهَا فِي مَوَاقِيتِهَا، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاَلَّذِي لَيْسَ يُؤَخِّرُهَا أَحْيَانًا عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ يَتْرُكُ وَاجِبَاتِهَا، فَهَذَا تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ يَكُونُ لِهَذَا نَوَافِلُ يُكْمِلُ بِهَا فَرَائِضَهُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. [مَسْأَلَةٌ مِنْ يُؤَخِّرُ صَلَاةَ الْفَجْرِ إلَى بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ] 94 - 10 - مَسْأَلَةٌ: فِي أَقْوَامٍ يُؤَخِّرُونَ صَلَاةَ الْفَجْرِ إلَى بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَتَكُونُ لَهُمْ أَشْغَالٌ كَالزَّرْعِ وَالْحَرْثِ وَالْجَنَابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهَلْ لَهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا الصَّلَاةَ إلَى غَيْرِ وَقْتِهَا ثُمَّ يَقْضُوهَا؟ الْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُؤَخِّرَ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ وَلَا يُؤَخِّرَ صَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ، لِشُغْلٍ مِنْ الْأَشْغَالِ لَا لِحَصْدٍ وَلَا لِحَرْثٍ وَلَا لِصِنَاعَةٍ وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا لِجَنَابَةٍ وَلَا نَجَاسَةٍ، بَلْ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي النَّهَارِ، وَيُصَلِّيَ الْفَجْرَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَا يَتْرُكُ ذَلِكَ لِصِنَاعَةٍ مِنْ الصِّنَاعَاتِ، وَمَنْ أَخَّرَهَا لِصِنَاعَةٍ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ وَجَبَتْ عُقُوبَتُهُ، بَلْ يَجِبُ قَتْلُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ أَنْ يُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَ وَالْتَزَمَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ أُلْزِمَ بِذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ: لَا أُصَلِّي إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا

وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبَطَ عَمَلُهُ» وَفِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: " إنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ وَحَقًّا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ "، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَّرَ صَلَاةَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ لِاشْتِغَالِهِ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ، وَصَلَّاهَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ» ، فَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ ذَلِكَ التَّأْخِيرَ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَلَا يُجَوِّزُونَ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ حَالَ الْقِتَالِ، بَلْ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ حَالَ الْقِتَالِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يُخَيَّرُ حَالَ الْقِتَالِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَبَيْنَ التَّأْخِيرِ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يَشْتَغِلُ بِالْقِتَالِ وَيُصَلِّي بَعْدَ الْوَقْتِ. وَأَمَّا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِغَيْرِ الْجِهَادِ كَصِنَاعَةٍ أَوْ زِرَاعَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يُجَوِّزُهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَلْ قَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: هُمْ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتِهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ الَّذِي لَا يُؤَدُّونَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَإِنْ صَلَّاهَا فِي الْوَقْتِ. فَتَأْخِيرُهَا عَنْ الْوَقْتِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ صَلَاةِ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ، وَتَأْخِيرُ صَلَاةِ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ، بِمَنْزِلَةِ تَأْخِيرِ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ إلَى شَوَّالٍ، فَمَنْ قَالَ: أُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِاللَّيْلِ، فَهُوَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: أُفْطِرُ شَهْرَ رَمَضَانَ وَأَصُومُ شَوَّالًا، وَإِنَّمَا يُعْذَرُ بِالتَّأْخِيرِ النَّائِمُ وَالنَّاسِي، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا، لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ» . وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا لِجَنَابَةٍ وَلَا حَدَثٍ وَلَا نَجَاسَةٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ.

بَلْ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ حَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا وَقَدْ عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى. وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي إذَا عَدِمَ الْمَاءَ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ لِمَرَضٍ أَوْ لِبَرْدٍ. وَكَذَلِكَ الْعُرْيَانُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ عُرْيَانًا، وَلَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ فِي ثِيَابِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُزِيلَهَا فَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ حَالِهِ. وَهَكَذَا الْمَرِيضُ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فِي الْوَقْتِ، كَمَا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» فَالْمَرِيضُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ قَاعِدًا أَوْ عَلَى جَنْبٍ إذَا كَانَ الْقِيَامُ يَزِيدُ فِي مَرَضِهِ، وَلَا يُصَلِّي بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ قَائِمًا. وَهَذَا كُلُّهُ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا فَرْضٌ، وَالْوَقْتُ أَوْكَدُ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ كَمَا أَنَّ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَاجِبٌ فِي وَقْتِهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْ وَقْتِهِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَبَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ لِلسَّفَرِ وَالْمَرَضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ. وَأَمَّا تَأْخِيرُ صَلَاةِ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ: وَتَأْخِيرُ صَلَاةِ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ، فَلَا يَجُوزُ لِمَرَضٍ وَلَا لِسَفَرٍ؛ وَلَا لِشُغْلٍ وَلَا لِصِنَاعَةٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، بَلْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ الْكَبَائِرِ، لَكِنْ الْمُسَافِرُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا، بَلْ الرَّكْعَتَانِ تُجْزِئُ الْمُسَافِرُ فِي سَفَرِ الْقَصْرِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسَافِرٍ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَكِلَاهُمَا ضَلَالٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، يُسْتَتَابُ قَائِلُهُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَالْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا صَلَّى الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْفَجْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثًا وَأَفْطَرَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَقَضَاهُ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ شَهْرَ رَمَضَانَ أَوْ صَلَّى أَرْبَعًا فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ

الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ، فَالْمَرِيضُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّوْمَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسَافِرُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصِّيَامَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا أَوْكَدُ مِنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتِهِ، قَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59] . وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَلَوْ تَرَكُوهَا لَكَانُوا كُفَّارًا، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ثُمَّ اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً» . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ عُرْيَانًا مِثْلَ أَنْ تَنْكَسِرَ بِهِمْ السَّفِينَةُ، أَوْ تَسْلُبَهُ الْقُطَّاعُ ثِيَابَهُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ عُرْيَانًا. وَالْمُسَافِرُ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ فِي الْوَقْتِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ كَانَ يَجِدُ الْمَاءَ بَعْدَ الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ وَالْمُسَافِرُ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ تَيَمَّمَ وَصَلَّى وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَرْدُ شَدِيدًا فَخَافَ إنْ اغْتَسَلَ أَنْ يَمْرَضَ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ وَلَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ بِاغْتِسَالٍ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ بَشَرَتَك فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ» . وَكُلُّ مَا يُبَاحُ بِالْمَاءِ يُبَاحُ بِالتَّيَمُّمِ، فَإِذَا تَيَمَّمَ لِصَلَاةِ فَرِيضَةٍ قَرَأَ الْقُرْآنَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا وَإِنْ كَانَ جُنُبًا. وَمَنْ امْتَنَعَ عَنْ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَإِنَّ التَّيَمُّمَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا طَهُورًا وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي» . وَفِي لَفْظٍ: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ» .

وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُزِيلُهَا بِهِ، صَلَّى فِي الْوَقْتِ وَعَلَيْهِ النَّجَاسَةُ كَمَا صَلَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَجُرْحُهُ يَثْغَبُ دَمًا، وَلَمْ يُؤَخِّرْ الصَّلَاةَ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا ثَوْبًا نَجِسًا فَقِيلَ يُصَلِّي عُرْيَانًا. وَقِيلَ: يُصَلِّي فِيهِ وَيُعِيدُ وَقِيلَ: يُصَلِّي فِيهِ وَلَا يُعِيدُ، وَهَذَا أَصَحُّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ الْعَبْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ مَرَّتَيْنِ إلَّا إذَا لَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، مِثْلُ أَنْ يُصَلِّيَ بِلَا طُمَأْنِينَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ صَلَّى وَلَمْ يَطْمَئِنَّ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ، وَقَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ» . وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ الطَّهَارَةَ وَصَلَّى بِلَا وُضُوءٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ كَمَا «أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ تَوَضَّأَ وَتَرَكَ لُمْعَةً مِنْ قَدَمِهِ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ» . فَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ مَا أُمِرَ بِهِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأَتَوْا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ، وَمَنْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَالْمَاءُ بَعِيدٌ مِنْهُ لَا يُدْرِكُهُ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَرْدُ شَدِيدًا وَيَضُرُّهُ الْمَاءُ الْبَارِدُ، وَلَا يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ إلَى الْحَمَّامِ، أَوْ تَسْخِينُ الْمَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ. وَالْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، فَإِذَا كَانَا جُنُبَيْنِ وَلَمْ يُمْكِنْهُمَا الِاغْتِسَالُ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ فَإِنَّهُمَا يُصَلِّيَانِ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ. وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا فِي الْوَقْتِ، وَلَمْ يُمْكِنْهَا الِاغْتِسَالُ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ فِي الْوَقْتِ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الصَّلَاةَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِالْمَاءِ خَيْرٌ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ فَهُوَ ضَالٌّ جَاهِلٌ. وَإِذَا اسْتَيْقَظَ آخِرَ وَقْتِ الْفَجْرِ فَإِذَا اغْتَسَلَ طَلَعَتْ الشَّمْسُ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ هُنَا يَقُولُونَ: يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَالَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: بَلْ يَتَيَمَّمُ أَيْضًا هُنَا وَيُصَلِّي قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ خَيْرٌ مِنْ

الصَّلَاةِ بَعْدَهُ بِالْغُسْلِ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ لِأَنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّ النَّائِمِ هُوَ مِنْ حِينِ يَسْتَيْقِظُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» فَالْوَقْتُ فِي حَقِّ النَّائِمِ هُوَ مِنْ حِينِ يَسْتَيْقِظُ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَقْتًا فِي حَقِّهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ الِاغْتِسَالُ وَالصَّلَاةُ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِهَا فَقَدْ صَلَّى الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا وَلَمْ يُفَوِّتْهَا، بِخِلَافِ مَنْ اسْتَيْقَظَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، فَإِنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّهِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَوِّتَ الصَّلَاةَ. وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً وَذَكَرَهَا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ وَهَذَا هُوَ الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَيْقِظْ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَمَا اسْتَيْقَظَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَامُوا عَنْ الصَّلَاةِ عَامَ خَيْبَرَ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالطَّهَارَةِ الْكَامِلَةِ وَإِنْ أَخَّرَهَا إلَى حِينِ الزَّوَالِ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ كَانَ جُنُبًا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ وَيَغْتَسِلُ وَإِنْ أَخَّرَهَا إلَى فَوْتِ الزَّوَالِ، وَلَا يُصَلِّي هُنَا بِالتَّيَمُّمِ. وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ الْمَكَانِ الَّذِي نَامَ فِيهِ كَمَا انْتَقَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ عَنْ الْمَكَانِ الَّذِي نَامُوا فِيهِ، وَقَالَ: «هَذَا مَكَانٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيَاطِينُ» وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. وَإِنْ صَلَّى فِيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُسَمَّى قَضَاءٌ أَوْ أَدَاءٌ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ هُوَ فَرْقٌ اصْطِلَاحِيٌّ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى فِعْلَ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا قَضَاءً كَمَا قَالَ فِي الْجُمُعَةِ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 200] . مَعَ أَنَّ هَذَيْنِ يُفْعَلَانِ فِي الْوَقْتِ. وَالْقَضَاءُ هُوَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الْإِكْمَالُ قَالَ تَعَالَى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] . أَيْ: أَكْمَلَهُنَّ وَأَتَمَّهُنَّ، فَمَنْ فَعَلَ الْعِبَادَةَ كَامِلَةً فَقَدْ قَضَاهَا وَإِنْ فَعَلَهَا فِي وَقْتِهَا.

وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا أَعْلَمُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَ بَقَاءَ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَنَوَاهَا أَدَاءً، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَلَوْ اعْتَقَدَ خُرُوجَهُ فَنَوَاهَا قَضَاءً ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بَقَاءُ الْوَقْتِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ. وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ الْعِبَادَةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ سَوَاءٌ نَوَاهَا أَدَاءً أَوْ قَضَاءً وَالْجُمُعَةُ تَصِحُّ سَوَاءٌ نَوَاهَا أَدَاءً أَوْ قَضَاءً، وَأَرَادَ الْقَضَاءَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ. وَالنَّائِمُ وَالنَّاسِي إذَا صَلَّيَا وَقْتَ الذِّكْرِ وَالِانْتِبَاهِ فَقَدْ صَلَّيَا فِي الْوَقْتِ الْمَشْرُوعِ لِغَيْرِهِمَا، فَمَنْ سَمَّى ذَلِكَ قَضَاءً بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى، وَكَانَ فِي لُغَتِهِ أَنَّ الْقَضَاءَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ شَرْعًا لِلْعُمُومِ، فَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ قَطُّ شُغْلٌ يُسْقِطُ عَنْهُ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا بِحَيْثُ يُؤَخِّرُ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ وَصَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ لَكِنْ يُصَلِّي بِحَسَبِ حَالِهِ، فَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ فَرَائِضِهَا فَعَلَهُ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ سَقَطَ عَنْهُ. وَلَكِنْ يَجُوزُ لِلْعُذْرِ الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاتَيْ النَّهَارِ، وَبَيْنَ صَلَاتَيْ اللَّيْلِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. فَيَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمُسَافِرِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِعْلُ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا أَوْلَى مِنْ الْجَمْعِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَرَجٌ بِخِلَافِ الْقَصْرِ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ رَكْعَتَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ أَرْبَعٍ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ. فَلَوْ صَلَّى الْمُسَافِرُ أَرْبَعًا فَهَلْ تُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، «وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي جَمِيعِ أَسْفَارِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا قَطُّ» وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ. وَأَمَّا الْجَمْعُ فَإِنَّمَا كَانَ يَجْمَعُ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ، وَكَانَ لَهُ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ، كَمَا جَمَعَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَكَانَ يَجْمَعُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَحْيَانًا. كَانَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى الْعَصْرِ، ثُمَّ صَلَّاهُمَا جَمِيعًا وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، وَأَمَّا إذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِعَرَفَةَ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي السُّنَنِ وَهَذَا إذَا كَانَ لَا يَنْزِلُ إلَى وَقْتِ الْمَغْرِبِ، كَمَا كَانَ بِعَرَفَةَ لَا يُفِيضُ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ يَنْزِلُ وَقْتَ الْعَصْرِ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا فَلَيْسَ الْقَصْرُ كَالْجَمْعِ، بَلْ الْقَصْرُ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ. وَأَمَّا الْجَمْعُ فَإِنَّهُ رُخْصَةٌ عَارِضَةٌ.

مسألة من يؤمر بالصلاة فيمتنع

وَمَنْ يُسَوِّي مِنْ الْعَامَّةِ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ فَهُوَ جَاهِلٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِأَقْوَالِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا وَالْعُلَمَاءُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا سُنَّةٌ وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ وَتَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الْآخَرِ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا. وَأَوْسَعُ الْمَذَاهِبِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْحَرَجِ وَالشُّغْلِ بِحَدِيثٍ رُوِيَ فِي ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَعْنِي إذَا كَانَ هُنَاكَ شُغْلٌ يُبِيحُ لَهُ تَرْكَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ جَازَ لَهُ الْجَمْعُ. وَيَجُوزُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْجَمْعُ لِلْمَرَضِ، وَيَجُوزُ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ الْجَمْعُ لِلْمَطَرِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَفِي صَلَاتَيْ النَّهَارِ نِزَاعٌ بَيْنَهُمَا. وَيَجُوزُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ الْجَمْعُ لِلْوَحْلِ وَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ لِلْمُرْضِعِ أَنْ تَجْمَعَ إذَا كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهَا غَسْلُ الثَّوْبِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ، فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ نُصُوصُهُ وَأُصُولُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: إنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ. وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ فَيَمْتَنِعُ] 95 - 11 مَسْأَلَةٌ: عَمَّنْ يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ فَيَمْتَنِعُ، وَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ وَمَنْ اعْتَذَرَ بِقَوْلِهِ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» هَلْ يَكُونُ لَهُ عُذْرٌ فِي أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، أَمْ لَا؟ وَمَاذَا يَجِبُ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ فِي حَقِّ مَنْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ إذَا تَرَكُوا الصَّلَاةَ؟ وَهَلْ قِيَامُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ وَأَكْبَرِ أَبْوَابِ الْبِرِّ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَنْ يَمْتَنِعُ عَنْ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ

الْغَلِيظَةَ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ يَجِبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ: كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ أَنْ يُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. بَلْ تَارِكُ الصَّلَاةِ شَرٌّ مِنْ السَّارِقِ وَالزَّانِي، وَشَارِبِ الْخَمْرِ، وَآكِلِ الْحَشِيشَةِ. وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُطَاعٍ أَنْ يَأْمُرَ مَنْ يُطِيعُهُ بِالصَّلَاةِ، حَتَّى الصِّغَارَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» . وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ صَغِيرٌ مَمْلُوكٌ أَوْ يَتِيمٌ أَوْ وَلَدٌ فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ الْكَبِيرُ إذَا لَمْ يَأْمُرْ الصَّغِيرَ، وَيُعَزَّرُ الْكَبِيرُ عَلَى ذَلِكَ تَعْزِيرًا بَلِيغًا؛ لِأَنَّهُ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ عِنْدَهُ مَمَالِيكُ كِبَارٌ، أَوْ غِلْمَانُ الْخَيْلِ وَالْجِمَالِ وَالْبُزَاةِ، أَوْ فَرَّاشُونَ أَوْ بَابِيَّةٌ يَغْسِلُونَ الْأَبْدَانَ وَالثِّيَابَ، أَوْ خَدَمٌ، أَوْ زَوْجَةٌ، أَوْ سُرِّيَّةٌ، أَوْ إمَاءٌ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ بِالصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ هَذَا أَنْ يَكُونَ مِنْ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ مِنْ جُنْدِ التَّتَارِ. فَإِنَّ التَّتَارَ يَتَكَلَّمُونَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَمَعَ هَذَا فَقِتَالُهُمْ وَاجِبٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ كُلُّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَنْ شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ، أَوْ الْبَاطِنَةِ الْمَعْلُومَةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهَا، فَلَوْ قَالُوا: نَشْهَدُ وَلَا نُصَلِّي قُوتِلُوا حَتَّى يُصَلُّوا، وَلَوْ قَالُوا: نُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي قُوتِلُوا حَتَّى يُزَكُّوا، وَلَوْ قَالُوا: نُزَكِّي وَلَا نَصُومُ وَلَا نَحُجُّ، قُوتِلُوا حَتَّى يَصُومُوا رَمَضَانَ. وَيَحُجُّوا الْبَيْتَ. وَلَوْ قَالُوا: نَفْعَلُ هَذَا لَكِنْ لَا نَدَعُ الرِّبَا، وَلَا شُرْبَ الْخَمْرِ، وَلَا الْفَوَاحِشَ، وَلَا نُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا نَضْرِبُ الْجِزْيَةَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَنَحْوِ ذَلِكَ، قُوتِلُوا حَتَّى يَفْعَلُوا ذَلِكَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] . وَالرِّبَا آخِرُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ،

مسألة من يأمره الناس بالصلاة ولم يصل

وَكَانَ أَهْلُ الطَّائِفِ قَدْ أَسْلَمُوا وَصَلَّوْا وَجَاهَدُوا، فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ الرِّبَا، كَانُوا مِمَّنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؟ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا» . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَلَمْ يَقُلْ: إلَّا بِحَقِّهَا، وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتهمْ عَلَيْهِ. قَالَ عُمَرُ: فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْت اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَلِمْت أَنَّهُ الْحَقُّ. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ الْخَوَارِجَ فَقَالَ: يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . فَإِذَا كَانَ الَّذِينَ يَقُومُونَ اللَّيْلَ، وَيَصُومُونَ النَّهَارَ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِتَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ فَارَقُوا السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ، فَكَيْفَ بِالطَّوَائِفِ الَّذِينَ لَا يَلْتَزِمُونَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُونَ بِبَاسَاقِ مُلُوكِهِمْ. وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مِنْ يَأْمُرُهُ النَّاسُ بِالصَّلَاةِ وَلَمْ يُصَلِّ] 96 - 12 مَسْأَلَةٌ: عَنْ رَجُلٍ يَأْمُرُهُ النَّاسُ بِالصَّلَاةِ، وَلَمْ يُصَلِّ، فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ؟ الْجَوَابُ: إذَا لَمْ يُصَلِّ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ. فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً عَمْدًا بِنِيَّةِ فَعَلَهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا] 97 - 13 مَسْأَلَةٌ: عَمَّنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً عَمْدًا بِنِيَّةِ أَنَّهُ يَفْعَلُهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا قَضَاءً، فَهَلْ يَكُونُ فِعْلُهُ كَبِيرَةً مِنْ الْكَبَائِرِ؟

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. نَعَمْ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ غَيْرِ وَقْتِهَا الَّذِي يَجِبُ فِعْلُهَا فِيهِ عَمْدًا مِنْ الْكَبَائِرِ، بَلْ قَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مَرْفُوعًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ» . وَرَفَعَ هَذَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَظَرٌ. فَإِنَّ التِّرْمِذِيَّ قَالَ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْأَثَرُ مَعْرُوفٌ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ ذَكَرُوا ذَلِكَ مُقِرِّينَ لَهُ، لَا مُنْكِرِينَ لَهُ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» وَحُبُوطُ الْعَمَلِ لَا يُتَوَعَّدُ بِهِ إلَّا عَلَى مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ. وَكَذَلِكَ تَفْوِيتُ الْعَصْرِ أَعْظَمُ مِنْ تَفْوِيتِ غَيْرِهَا، فَإِنَّهَا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى الْمَخْصُوصَةُ بِالْأَمْرِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَهِيَ الَّتِي فُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَضَيَّعُوهَا، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا فَلَهُ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ، وَهِيَ الَّتِي لَمَّا فَاتَتْ سُلَيْمَانَ فَعَلَ بِالْخَيْلِ مَا فَعَلَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» . وَالْمُوتُورُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ يَبْقَى مَسْلُوبًا لَيْسَ لَهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ الْأَهْلِ وَالْمَالِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي حَبِطَ عَمَلُهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] فَتَوَعَّدَ بِالْوَيْلِ لِمَنْ يَسْهُو عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا وَإِنْ صَلَّاهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] . وَقَدْ سَأَلُوا ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ إضَاعَتِهَا فَقَالَ: هُوَ تَأْخِيرُهَا حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا، فَقَالُوا: مَا كُنَّا نَرَى ذَلِكَ إلَّا تَرْكَهَا، فَقَالَ: لَوْ تَرَكُوهَا لَكَانُوا

كُفَّارًا. وَقَدْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ عَنْ بَعْضِ أُمَرَاءِ الْكُوفَةِ فِي زَمَانِهِ: مَا فَعَلَ خَلَفُكُمْ؟ لِكَوْنِهِمْ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا. وَقَوْلُهُ: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59] يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ اسْتَعْمَلَ مَا يَشْتَهِيهِ عَنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فِي وَقْتِهَا، سَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَهَى مِنْ جِنْسِ الْمُحَرَّمَاتِ: كَالْمَأْكُولِ الْمُحَرَّمِ، وَالْمَشْرُوبِ الْمُحَرَّمِ، وَالْمَنْكُوحِ الْمُحَرَّمِ، وَالْمَسْمُوعِ الْمُحَرَّمِ أَوْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحَاتِ لَكِنَّ الْإِسْرَافَ فِيهِ يُنْهَى عَنْهُ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَمَنْ اشْتَغَلَ عَنْ فِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ بِلَعِبٍ أَوْ لَهْوٍ أَوْ حَدِيثٍ مَعَ أَصْحَابِهِ، أَوْ تَنَزُّهٍ فِي بُسْتَانِهِ، أَوْ عِمَارَةِ عَقَارِهِ، أَوْ سَعْيٍ فِي تِجَارَتِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ أَضَاعَ تِلْكَ الصَّلَاةَ، وَاتَّبَعَ مَا يَشْتَهِيهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9] . وَمَنْ أَلْهَاهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ عَنْ فِعْلِ الْمَكْتُوبَةِ فِي وَقْتِهَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ خَاسِرًا. وَقَالَ تَعَالَى فِي ضِدِّ هَؤُلَاءِ: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36] {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور: 37] . فَإِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ قَدْ تَوَعَّدَ بِلُقِيِّ الْغَيِّ مَنْ يُضَيِّعُ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا وَيَتَّبِعُ الشَّهَوَاتِ، وَالْمُؤَخِّرَ لَهَا عَنْ وَقْتِهَا مُشْتَغِلًا بِمَا يَشْتَهِيهِ هُوَ مُضَيِّعٌ لَهَا مُتَّبِعٌ لِشَهْوَتِهِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ، إذْ هَذَا الْوَعِيدُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى كَبِيرَةٍ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ جَعْلُهُ خَاسِرًا، وَالْخُسْرَانُ لَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِ الصَّغَائِرِ الْمُكَفَّرَةِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ. وَأَيْضًا فَلَا أَحَدًا مَنْ صَلَّى بِلَا طَهَارَةٍ، أَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ عَمْدًا، وَتَرَكَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ أَوْ الْقِرَاءَةَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا، أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ بِذَلِكَ كَبِيرَةً، بَلْ قَدْ يُتَوَرَّعُ فِي كُفْرِهِ إنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ ذَلِكَ، وَأَمَّا إذَا اسْتَحَلَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ بِلَا رَيْبٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَقْتَ لِلصَّلَاةِ مُقَدَّمٌ عَلَى هَذِهِ الْفُرُوضِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ الْمُسَافِرُ الْعَادِمُ لِلْمَاءِ أَنَّهُ يَجِدُهُ بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهُ تَأْخِيرُ

الصَّلَاةِ لِيُصَلِّيَهَا بَعْدَ الْوَقْتِ بِوُضُوءٍ، أَوْ غُسْلٍ: بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْفَرْضُ وَكَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ إذَا اسْتَحَلَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ بِلَا رَيْبٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ بَعْدَ الْوَقْتِ يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِإِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ لِإِمْكَانِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا إلَّا لِنَاوٍ لِجَمْعِهَا أَوْ مُشْتَغِلٍ بِشَرْطِهَا، فَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ قَبْلَهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَصْحَابِ، بَلْ وَلَا أَحَدٌ مِنْ سَائِرِ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ فَهَذَا أَشُكُّ فِيهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ وَإِطْلَاقِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا فِيهِ صُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ، كَمَا إذَا أَمْكَنَ الْوَاصِلُ إلَى الْبِئْرِ أَنْ يَضَعَ حَبْلًا يَسْتَقِي، وَلَا يَفْرُغُ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ؛ وَإِذَا أَمْكَنَ الْعُرْيَانَ أَنْ يَخِيطَ لَهُ ثَوْبًا وَلَا يَفْرُغَ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ، وَنَحْوُ هَذِهِ الصُّوَرِ، وَمَعَ هَذَا فَاَلَّذِي قَالَهُ فِي ذَلِكَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ الْمَعْرُوفِ عَنْ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ، وَخِلَافُ قَوْلِ جَمَاعَةِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَمَا أَعْلَمُ مِنْ يُوَافِقُهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الِاشْتِغَالِ بِالشَّرْطِ لَا يُبِيحُ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ شَرْعًا، فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ الْوَقْتُ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَطْلُبَ الْمَاءَ وَهُوَ لَا يَجِدُهُ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّأْخِيرُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِالشَّرْطِ. وَكَذَلِكَ الْعُرْيَانُ لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى قَرْيَةٍ لِيَشْتَرِيَ لَهُ مِنْهَا ثَوْبًا، وَهُوَ لَا يُصَلِّي إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّأْخِيرُ بِلَا نِزَاعٍ. وَالْأُمِّيُّ كَذَلِكَ إذَا أَمْكَنَهُ تَعَلُّمُ الْفَاتِحَةِ وَهُوَ لَا يَتَعَلَّمُهَا حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنْ تَعَلُّمِ التَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدِ إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ صَلَّى بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ. وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ لَوْ كَانَ دَمُهَا يَنْقَطِعُ بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تُؤَخِّرَ وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ لَوْ كَانَ دَمُهَا يَنْقَطِعُ بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ لِتُصَلِّيَ بِطَهَارَةٍ بَعْدَ الْوَقْتِ؛ بَلْ تُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَأَمَّا حَيْثُ جَازَ الْجَمْعُ فَالْوَقْتُ وَاحِدٌ، وَالْمُؤَخِّرُ لَيْسَ بِمُؤَخِّرٍ عَنْ الْوَقْتِ الَّذِي يَجُوزُ فِعْلُهَا فِيهِ؛ بَلْ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ الْجَمْعُ إلَى النِّيَّةِ، كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ.

وَكَذَلِكَ الْقَصْرُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْخَوْفِ تَجِبُ فِي الْوَقْتِ، مَعَ إمْكَانِ أَنْ يُؤَخِّرَهَا فَلَا يَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ، وَلَا يَعْمَلُ عَمَلًا كَثِيرًا فِي الصَّلَاةِ، وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْ الْإِمَامِ بِرَكْعَةٍ، وَلَا يُفَارِقُ الْإِمَامَ قَبْلَ السَّلَامِ، وَلَا يَقْضِي مَا سُبِقَ بِهِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِأَجْلِ الْوَقْتِ، وَإِلَّا فَفِعْلُهَا بَعْدَ الْوَقْتِ وَلَوْ بِاللَّيْلِ مُمْكِنٌ عَلَى الْإِكْمَالِ. وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ، وَأَمْكَنَهُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إلَى أَنْ يَأْتِيَ مِصْرًا يَعْلَمُ فِيهِ الْقِبْلَةَ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا نَازَعَ مَنْ نَازَعَ إذَا أَمْكَنَهُ تَعَلُّمُ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ، وَلَا يَتَعَلَّمُهَا حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ. وَهَذَا النِّزَاعُ هُوَ الْقَوْلُ الْمُحْدَثُ الشَّاذُّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَأَمَّا النِّزَاعُ الْمَعْرُوفُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي مِثْلِ مَا إذَا اسْتَيْقَظَ النَّائِمُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ الطُّلُوعِ بِوُضُوءٍ: هَلْ يُصَلِّي بِتَيَمُّمٍ؟ أَوْ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّ بَعْدَ الطُّلُوعِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَالِكٍ: مُرَاعَاةً لِلْوَقْتِ. الثَّانِي: قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ كَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الَّتِي تَوَهَّمَ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الشَّرْطَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَقْتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّ النَّائِمِ هُوَ مِنْ حِينِ يَسْتَيْقِظُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» . فَجَعَلَ الْوَقْتَ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ فِيهِ هُوَ وَقْتَ الذِّكْرِ وَالِانْتِبَاهِ، وَحِينَئِذٍ فَمَنْ فَعَلَهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُهُ مِنْ الطَّهَارَةِ الْوَاجِبَةِ فَقَدْ فَعَلَهَا فِي الْوَقْتِ، وَهَذَا لَيْسَ بِمُفَرِّطٍ وَلَا مُضَيِّعٍ لَهَا، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ؛ إنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقِظَةِ» .

بِخِلَافِ الْمُتَنَبِّهِ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ أَنْ يَفْعَلَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، بِحَيْثُ لَوْ أَخَّرَهَا عَنْهُ عَمْدًا كَانَ مُضَيِّعًا مُفَرِّطًا، فَإِذَا اشْتَغَلَ عَنْهَا بِشَرْطِهَا وَكَانَ قَدْ أَخَّرَهَا عَنْ الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَ أَنْ يَفْعَلَهَا فِيهِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَجَازَ تَأْخِيرُهَا عَنْ الْوَقْتِ، إذَا كَانَ مُشْتَغِلًا بِتَحْصِيلِ مَاءِ الطَّهَارَةِ، أَوْ ثَوْبِ الِاسْتِعَارَةِ، بِالذَّهَابِ إلَى مَكَانِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. بَلْ الْمُسْتَيْقِظُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ كَمَا يَتَوَضَّأُ الْمُسْتَيْقِظُ فِي الْوَقْتِ، فَلَوْ أَخَّرَهَا لِأَنَّهُ يَجِدُ الْمَاءَ عِنْدَ الزَّوَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا جَاءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَلَمْ يُصَلِّ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، وَإِنْ قَالَ: أَنَا أُصَلِّيهَا قَضَاءً. كَمَا يُقْتَلُ إذَا قَالَ: أُصَلِّي بِغَيْرِ وُضُوءٍ، أَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَكُلُّ فَرْضٍ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا إذَا تَرَكَهُ عَمْدًا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِهِ. كَمَا أَنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ. فَإِنْ قُلْنَا: يُقْتَلُ بِضِيقِ الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ، فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا: يُقْتَلُ بِضِيقِ الْأُولَى، وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَوْ الثَّالِثَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ: هَلْ يُقْتَلُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ، أَوْ بِثَلَاثٍ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِذَا قِيلَ بِتَرْكِ صَلَاةٍ، فَهَلْ يُشْتَرَطُ وَقْتُ الَّتِي بَعْدَهَا، أَوْ يَكْفِي ضِيقُ وَقْتِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَفِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ وَغَيْرِهَا. وَلَا يُعَارِضُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ يَصِحُّ بَعْدَ الْوَقْتِ؛ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْفَرَائِضِ: لِأَنَّ الْوَقْتَ إذَا فَاتَ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِدْرَاكُهُ، فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَهَا إلَّا فَائِتَةً، وَيَبْقَى إثْمُ التَّأْخِيرِ مِنْ بَابِ الْكَبَائِرِ الَّتِي تَمْحُوهَا التَّوْبَةُ وَنَحْوُهَا، وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْفَرَائِضِ فَيُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا بِالْقَضَاءِ. وَأَمَّا الْأُمَرَاءُ الَّذِينَ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قِتَالِهِمْ، فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُمْ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ قِيلَ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - إنَّهُمْ كَانُوا يُفَوِّتُونَهَا، فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأُمَّةَ بِالصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ. وَقَالَ: «اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً» . وَنَهَى عَنْ قِتَالِهِمْ، كَمَا نَهَى عَنْ قِتَالِ الْأَئِمَّةِ إذَا

مسألة تارك للصلاة ويصلي الجمعة

اسْتَأْثَرُوا وَظَلَمُوا النَّاسَ حُقُوقَهُمْ، وَاعْتَدَوْا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ يَقَعُ مِنْ الْكَبَائِرِ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مَا يَقَعُ. وَمُؤَخِّرُهَا عَنْ وَقْتِهَا فَاسِقٌ، وَالْأَئِمَّةُ لَا يُقَاتَلُونَ بِمُجَرَّدِ الْفِسْقِ، وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ الْمَقْدُورُ قَدْ يُقْتَلُ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْفِسْقِ: كَالزِّنَا، وَغَيْرِهِ. فَلَيْسَ كُلَّمَا جَازَ فِيهِ الْقَتْلُ. جَازَ أَنْ يُقَاتَلَ الْأَئِمَّةُ لِفِعْلِهِمْ إيَّاهُ؛ إذْ فَسَادُ الْقِتَالِ أَعْظَمُ مِنْ فَسَادِ كَبِيرَةٍ يَرْتَكِبُهَا وَلِيُّ الْأَمْرِ. وَلِهَذَا نَصَّ مَنْ نَصَّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ النَّافِلَةَ تُصَلَّى خَلْفَ الْفُسَّاقِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا. وَهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ فُسَّاقٌ، وَقَدْ أَمَرَ بِفِعْلِهَا خَلْفَهُمْ نَافِلَةً. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْفِسْقَ بِتَفْوِيتِ الصَّلَاةِ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. لَكِنْ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: الْكَبِيرَةُ تَفْوِيتُهَا دَائِمًا، فَإِنَّ ذَلِكَ إصْرَارٌ عَلَى الصَّغِيرَةِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ تَقَدَّمَ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْوَعِيدَ يَلْحَقُ بِتَفْوِيتِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِصْرَارَ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْعَوْدِ، وَمَنْ أَتَى صَغِيرَةً وَتَابَ مِنْهَا ثُمَّ عَادَ إلَيْهَا، لَمْ يَكُنْ قَدْ أَتَى كَبِيرَةً. وَأَيْضًا فَمَنْ اشْتَرَطَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى التَّفْوِيتِ مُحْتَاجٌ إلَى ضَابِطٍ، فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى طُولِ عُمْرِهِ، لَمْ يَكُنْ الْمَذْكُورُونَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَإِنْ أَرَادَ مِقْدَارًا مَحْدُودًا طُولِبَ بِدَلِيلٍ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَالْقَتْلُ بِتَرْكِ وَاحِدَةٍ أَبْلَغُ مِنْ جَعْلِ ذَلِكَ كَبِيرَةً، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَارِك لِلصَّلَاةِ وَيُصَلِّي الْجُمُعَةَ] 98 - 14 مَسْأَلَةٌ: عَنْ مُسْلِمٍ تَارِكٍ لِلصَّلَاةِ، وَيُصَلِّ الْجُمُعَةَ. فَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذَا اسْتَوْجَبَ الْعُقُوبَةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْوَاجِبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنْ يُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَلَعْنُ تَارِكِ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ جَائِزٌ، وَأَمَّا لَعْنَةُ الْمُعَيَّنِ فَالْأَوْلَى تَرْكُهَا، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتُوبَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة أحرم بنافلة ثم سمع الأذان

[مَسْأَلَةٌ أَحْرَمَ بِنَافِلَةِ ثُمَّ سَمِعَ الْأَذَانَ] مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ إذَا أَحْرَمَ فِي الصَّلَاةِ وَكَانَتْ نَافِلَةً، ثُمَّ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ فَهَلْ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ وَيَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ، أَوْ يُتِمُّ صَلَاتَهُ وَيَقْضِي مَا قَالَهُ الْمُؤَذِّنُ؟ الْجَوَابُ: إذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يُؤَذِّنُ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا، وَلَا يَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فِي قِرَاءَةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ دُعَاءٍ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ ذَلِكَ وَيَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ، لِأَنَّ مُوَافَقَةَ الْمُؤَذِّنِ عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ يَفُوتُ وَقْتُهَا، وَهَذِهِ الْأَذْكَارُ لَا تَفُوتُ، وَإِذَا قَطَعَ الْمُوَالَاةَ فِيهَا لِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ كَانَ جَائِزًا، مِثْلَمَا يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ فِيهَا بِكَلَامٍ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ خِطَابِ آدَمِيٍّ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، وَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ الْمُوَالَاةَ بِسُجُودِ تِلَاوَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ مُوَالَاتَهَا بِسَبَبٍ آخَرَ، كَمَا لَوْ سَمِعَ غَيْرَهُ يَقْرَأُ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ لَمْ يَسْجُدْ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَمَعَ هَذَا فَفِي هَذَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ اسْتِقْبَال الْقِبْلَة عِنْد قَضَاء الْحَاجَة] 100 - 16 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ قَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «غَرِّبُوا وَلَا تُشَرِّقُوا» وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: «شَرِّقُوا وَلَا تُغَرِّبُوا» ؟ الْجَوَابُ: الْحَدِيثَانِ كَذِبٌ. وَلَكِنْ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» . وَهَذَا خِطَابٌ مِنْهُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ جَرَى مُجْرَاهُمْ كَأَهْلِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ. وَأَمَّا مِصْرُ فَقِبْلَتُهُمْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْجَنُوبِ مِنْ مَطْلَعِ الشَّمْسِ فِي الشِّتَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة أيهما أفضل إذا قام من الليل الصلاة أم القراءة

[مَسْأَلَةٌ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ الصَّلَاةُ أَمْ الْقِرَاءَةُ] مَسْأَلَةٌ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ الصَّلَاةُ أَمْ الْقِرَاءَةُ؟ الْجَوَابُ: بَلْ الصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ قَالَ: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إلَّا مُؤْمِنٌ» . لَكِنَّ مَنْ حَصَلَ لَهُ نَشَاطٌ وَتَدَبَّرَ وَفَهِمَ لِلْقِرَاءَةِ دُونَ الصَّلَاةِ فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ مَا كَانَ أَنْفَعَ لَهُ [مَسْأَلَةٌ حُكْم الْأَذَانِ] 102 - 18 مَسْأَلَةٌ: فِي الْأَذَانِ. هَلْ هُوَ فَرْضٌ أَمْ سُنَّةٌ؟ وَهَلْ يُسْتَحَبُّ التَّرْجِيعُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ التَّكْبِيرُ أَرْبَعٌ أَوْ اثْنَتَانِ. كَمَالِكٍ؟ وَهَلْ الْإِقَامَةُ شَفْعٌ أَوْ فَرْدٌ؟ وَهَلْ يَقُولُ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ؟ الْجَوَابُ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْأَذَانَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَلَيْسَ لِأَهْلِ مَدِينَةٍ وَلَا قَرْيَةٍ أَنْ يَدَعُوا الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ أَطْلَقَ طَوَائِفُ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ سُنَّةٌ، ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ إذَا اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهِ قُوتِلُوا، وَالنِّزَاعُ مَعَ هَؤُلَاءِ قَرِيبٌ مِنْ النِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ. فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ يُطْلِقُ الْقَوْلَ بِالسُّنَّةِ عَلَى مَا يُذَمُّ تَارِكُهُ شَرْعًا، وَيُعَاقَبُ تَارِكُهُ شَرْعًا. فَالنِّزَاعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ وَاجِبٌ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ مُتَعَدِّدَةٌ. وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ سُنَّةٌ لَا إثْمَ عَلَى تَارِكِيهِ، وَلَا عُقُوبَةَ، فَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ. فَإِنَّ الْأَذَانَ هُوَ شِعَارُ دَارِ الْإِسْلَامِ، الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعَلِّقُ اسْتِحْلَالَ أَهْلِ الدَّارِ بِتَرْكِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي الصُّبْحَ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ سَمِعَ مُؤَذِّنًا لَمْ يُغِرْ؛ وَإِلَّا أَغَارَ. وَفِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ لَا يُؤَذَّنُ، وَلَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ، إلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْك بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الذِّئْبَ يَأْكُلُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ» . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19] .

وَأَمَّا التَّرْجِيعُ وَتَرْكُهُ، وَتَثْنِيَةُ التَّكْبِيرِ وَتَرْبِيعُهُ، وَتَثْنِيَةُ الْإِقَامَةِ وَإِفْرَادُهَا، فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَالسُّنَنِ، حَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَذَانَ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَكَانَ الْأَذَانُ فِيهِ وَفِي وَلَدِهِ بِمَكَّةَ، ثَبَتَ أَنَّهُ عَلَّمَهُ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ، وَفِيهِ التَّرْجِيعُ. وَرُوِيَ فِي حَدِيثِهِ: «التَّكْبِيرُ مَرَّتَيْنِ» كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَرُوِيَ: " أَرْبَعًا " كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ. وَفِي حَدِيثِهِ أَنَّهُ عَلَّمَهُ الْإِقَامَةَ شَفْعًا. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ، قَالَ: «تَذَاكَرُوا أَنْ يَعْلَمُوا وَقْتَ الصَّلَاةِ بِشَيْءٍ يَعْرِفُونَهُ فَذَكَرُوا أَنْ يُورُوا نَارًا، أَوْ يَضْرِبُوا نَاقُوسًا، فَأُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ. وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «إلَّا الْإِقَامَةَ» . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ لَمَّا أُرِيَ الْأَذَانَ، وَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُلْقِيَهُ عَلَى بِلَالٍ، فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ. وَفِيهِ التَّكْبِيرُ أَرْبَعًا، بِلَا تَرْجِيعٍ» . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالصَّوَابُ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ، وَهُوَ تَسْوِيغُ كُلِّ مَا ثَبَتَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. لَا يَكْرَهُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، إذْ تَنَوُّعُ صِفَةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، كَتَنَوُّعِ صِفَةِ الْقِرَاءَاتِ وَالتَّشَهُّدَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْرَهَ مَا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمَّتِهِ. وَأَمَّا مَنْ بَلَغَ بِهِ الْحَالُ إلَى الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ حَتَّى يُوَالِيَ وَيُعَادِيَ وَيُقَاتِلَ عَلَى مِثْلِ هَذَا وَنَحْوِهِ مِمَّا سَوَّغَهُ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، فَهَؤُلَاءِ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ، وَكَانُوا شِيَعًا. وَكَذَلِكَ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ. - وَلَا أُحِبُّ تَسْمِيَتَهُ - مِنْ

كَرَاهَةِ بَعْضِهِمْ لِلتَّرْجِيعِ، وَظَنِّهِمْ أَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ غَلِطَ فِي نَقْلِهِ، وَأَنَّهُ كَرَّرَهُ لِيَحْفَظَهُ، وَمِنْ كَرَاهَةِ مَنْ خَالَفَهُمْ لِشَفْعِ الْإِقَامَةِ، مَعَ أَنَّهُمْ يَخْتَارُونَ أَذَانَ أَبِي مَحْذُورَةَ. هَؤُلَاءِ يَخْتَارُونَ إقَامَتَهُ، وَيَكْرَهُونَ أَذَانَهُ، وَهَؤُلَاءِ يَخْتَارُونَ أَذَانَهُ، وَيَكْرَهُونَ إقَامَتَهُ. فَكِلَاهُمَا قَوْلَانِ مُتَقَابِلَانِ. وَالْوَسَطُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا. وَإِنْ كَانَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ يَخْتَارُونَ أَذَانَ بِلَالٍ وَإِقَامَتَهُ لِمُدَاوَمَتِهِ عَلَى ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِ، فَهَذَا كَمَا يُخْتَارُ بَعْضُ الْقِرَاءَاتِ وَالتَّشَهُّدَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمِنْ تَمَامِ السُّنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا: أَنْ يَفْعَلَ هَذَا تَارَةً، وَهَذَا تَارَةً، وَهَذَا فِي مَكَان، وَهَذَا فِي مَكَان؛ لِأَنَّ هَجْرَ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَمُلَازَمَةَ غَيْرِهِ، قَدْ يُفْضِي إلَى أَنْ يَجْعَلَ السُّنَّةَ بِدْعَةً، وَالْمُسْتَحَبَّ وَاجِبًا وَيُفْضِي ذَلِكَ إلَى التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ، إذَا فَعَلَ آخَرُونَ الْوَجْهَ الْآخَرَ. فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُرَاعِيَ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ، الَّتِي فِيهَا الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ. وَأَصَحُّ النَّاسِ طَرِيقَةً فِي ذَلِكَ هُمْ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ، الَّذِينَ عَرَفُوا السُّنَّةَ وَاتَّبَعُوهَا، إذْ مِنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ مَنْ اعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ عُمْدَتُهُ الْعَمَلُ الَّذِي وَجَدَهُ بِبَلَدِهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ السُّنَّةَ دُونَ مَا خَالَفَهُ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ وَسَّعَ فِي ذَلِكَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ. وَرُبَّمَا جَعَلَ بَعْضُهُمْ أَذَانَ بِلَالٍ وَإِقَامَتَهُ مَا وَجَدَهُ فِي بَلَدِهِ، إمَّا بِالْكُوفَةِ، وَإِمَّا بِالشَّامِ، وَإِمَّا بِالْمَدِينَةِ. وَبِلَالٌ لَمْ يُؤَذِّنْ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا قَلِيلًا، وَإِنَّمَا أَذَّنَ بِالْمَدِينَةِ سَعْدٌ الْقُرَظِيّ مُؤَذِّنُ أَهْلِ قُبَاءَ. وَالتَّرْجِيعُ فِي الْأَذَانِ اخْتِيَارُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، لَكِنْ مَالِكٌ يَرَى التَّكْبِيرَ مَرَّتَيْنِ، وَالشَّافِعِيُّ يَرَاهُ أَرْبَعًا، وَتَرْكُهُ اخْتِيَارُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا أَحْمَدُ فَعِنْدَهُ كِلَاهُمَا سُنَّةٌ وَتَرْكُهُ أَحَبُّ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَذَانُ بِلَالٍ. وَالْإِقَامَةُ يَخْتَارُ إفْرَادَهَا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقُولُ: إنَّ تَثْنِيَتَهَا سُنَّةٌ، وَالثَّلَاثَةُ: أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ يَخْتَارُونَ تَكْرِيرَ لَفْظَةِ الْإِقَامَةِ، دُونَ مَالِكٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة حال المؤذن إذا قال الصلاة خير من النوم

[مَسْأَلَةٌ حَال الْمُؤَذِّن إذَا قَالَ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ] مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ عَنْ الْمُؤَذِّنِ إذَا قَالَ: «الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ» هَلْ السُّنَّةُ أَنْ يَسْتَدِيرَ وَيَلْتَفِتَ، أَمْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، أَمْ الشَّرْقَ؟ فَأَجَابَ: لَيْسَ هَذَا سُنَّةً عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، بَلْ السُّنَّةُ أَنْ يَقُولَهَا وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ، كَغَيْرِهَا مِنْ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ، وَكَقَوْلِهِ فِي الْإِقَامَةِ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ إلَّا الْحَيْعَلَةَ، فَإِنَّهُ يَلْتَفِتُ بِهَا يَمِينًا وَشِمَالًا، وَلَا يَخْتَصُّ الْمَشْرِقُ بِالْكَلِمَتَيْنِ. وَلَيْسَ فِي الْآذَانِ وَالْإِقَامَةِ مَا يَخْتَصُّ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ بِجِنْسِهِ، فَمَنْ قَالَ: «الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ» كِلَاهُمَا إلَى الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ، فَهُوَ مُبْتَدِعٌ خَارِجٌ عَنْ السُّنَّةِ فِي الْأَذَانِ، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يَدُورُ فِي الْمَنَارَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ. فَمَنْ دَارَ فَقَدْ فَعَلَ مَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ إنْ دَارَ لِقَوْلِهِ: «الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ» لَزِمَهُ أَنْ يَدُورَ مَرَّتَيْنِ. وَلَا قَائِلَ بِهِ، وَإِنْ خَصَّ الْمَشْرِقَ بِهِمَا كَانَ أَبْعَدَ عَنْ السُّنَّةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَقُولَهُمَا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَمَّا ذَهَبْت عَلَى الْبَرِيدِ كُنَّا نَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، فَكُنْت أَوَّلًا أُؤَذِّنُ عِنْدَ الْغُرُوبِ وَأَنَا رَاكِبٌ، ثُمَّ تَأَمَّلْت فَوَجَدْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا جَمَعَ لَيْلَةَ جَمَعَ لَمْ يُؤَذِّنُوا لِلْمَغْرِبِ فِي طَرِيقِهِمْ، بَلْ أَخَّرَ التَّأْذِينَ حَتَّى نَزَلَ فَصِرْت أَفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي الْجَمْعِ صَارَ وَقْتُ الثَّانِيَةِ وَقْتًا لَهُمَا، وَالْأَذَانُ إعْلَامٌ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ. وَلِهَذَا قُلْنَا يُؤَذِّنُ لِلْفَائِتَةِ، كَمَا أَذَّنَ بِلَالٌ لَمَّا نَامُوا عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُهَا، وَالْأَذَانُ لِلْوَقْتِ الَّذِي تُفْعَلُ فِيهِ؛ لَا الْوَقْتُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ. 104 - 20 - مَسْأَلَةٌ: وَسُئِلَ: عَمَّنْ أَحْرَمَ وَدَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَكَانَتْ نَافِلَةً، ثُمَّ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ، فَهَلْ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ وَيَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ؟ أَوْ يُتِمُّ صَلَاتَهُ وَيَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ؟ فَأَجَابَ: إذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يُؤَذِّنُ وَهُوَ فِي صَلَاةٍ فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا، وَلَا يَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ

مسألة أفضل الأعمال عند الله

عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فِي قِرَاءَةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ دُعَاءٍ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ ذَلِكَ، وَيَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ: لِأَنَّ مُوَافَقَةَ الْمُؤَذِّنِ عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ يَفُوتُ وَقْتُهَا، وَهَذِهِ الْأَذْكَارُ لَا تَفُوتُ. وَإِذَا قَطَعَ الْمُوَالَاةَ فِيهَا لِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ كَانَ جَائِزًا، مِثْلُ مَا يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ فِيهَا بِكَلَامٍ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ خِطَابِ آدَمِيٍّ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ الْمُوَالَاةَ بِسُجُودِ تِلَاوَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ مُوَالَاتَهَا بِسَبَبٍ آخَرَ، كَمَا لَوْ سَمِعَ غَيْرَهُ يَقْرَأُ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ لَمْ يَسْجُدْ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَمَعَ هَذَا فَفِي هَذَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ] 105 - 21 - مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا» فَهَلْ هُوَ الْأَوَّلُ؟ أَوْ الثَّانِي؟ أَجَابَ: الْوَقْتُ يَعُمُّ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَآخِرَهُ، وَاَللَّهُ يَقْبَلُهَا فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ، لَكِنْ أَوَّلُهُ أَفْضَلُ مِنْ آخِرِهِ، إلَّا حَيْثُ اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ كَالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، وَكَالْعِشَاءِ إذَا لَمْ يَشُقَّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَا بَيْنَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ وَدُخُولِ الْعِشَاءِ مِنْ مَنَازِلِ الْقَمَرِ] 106 - 22 مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ: هَلْ يُشْتَرَطُ اللَّيْلُ إلَى مَطْلَعِ الشَّمْسِ؟ وَكَمْ أَقَلُّ مَا بَيْنَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ وَدُخُولِ الْعِشَاءِ مِنْ مَنَازِلِ الْقَمَرِ؟ أَجَابَ: أَمَّا وَقْتُ الْعِشَاءِ فَهُوَ مَغِيبُ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ، لَكِنْ فِي الْبِنَاءِ يُحْتَاطُ حَتَّى يَغِيبَ الْأَبْيَضُ، فَإِنَّهُ قَدْ تَسْتَتِرُ الْحُمْرَةُ بِالْجُدْرَانِ. فَإِذَا غَابَ الْبَيَاضُ تُيُقِّنَ مَغِيبُ الْأَحْمَرِ. هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ: فَالشَّفَقُ عِنْدَهُ هُوَ الْبَيَاضُ، وَأَهْلُ الْحِسَابِ يَقُولُونَ: إنَّ وَقْتَهَا

مسألة التغليس بصلاة الفجر أفضل أم الإسفار بها

مَنْزِلَتَانِ. لَكِنَّ هَذَا لَا يَنْضَبِطُ، فَإِنَّ الْمَنَازِلَ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالْكَوَاكِبِ، بَعْضُهَا قَرِيبٌ مِنْ الْمَنْزِلَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَبَعْضُهَا بَعِيدٌ مِنْ ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَوَقْتُ الْعِشَاءِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ يَتْبَعُ النَّهَارَ، فَيَكُونُ فِي الصَّيْفِ أَطْوَلَ، كَمَا أَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ يَتْبَعُ اللَّيْلَ، فَيَكُونُ فِي الشِّتَاءِ أَطْوَلَ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ حِصَّةَ الْعِشَاءِ بِقَدْرِ حِصَّةِ الْفَجْرِ فِي الشِّتَاءِ، وَفِي الصَّيْفِ: فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا حِسِّيًّا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ. وَسَبَبُ غَلَطِهِ أَنَّ الْأَنْوَارَ تَتْبَعُ الْأَبْخِرَةَ، فَفِي الشِّتَاءِ يَكْثُرُ الْبُخَارُ بِاللَّيْلِ، فَيَظْهَرُ النُّورُ فِيهِ أَوَّلًا، وَفِي الصَّيْفِ تَقِلُّ الْأَبْخِرَةُ بِاللَّيْلِ، وَفِي الصَّيْفِ يَتَكَدَّرُ الْجَوَّ بِالنَّهَارِ بِالْأَبْخِرَةِ، وَيَصْفُو فِي الشِّتَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّمْسَ مَزَّقَتْ الْبُخَارَ، وَالْمَطَرُ لَبَّدَ الْغُبَارَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ النُّورَيْنِ تَابِعَانِ لِلشَّمْسِ، هَذَا يَتَقَدَّمُهَا، وَهَذَا يَتَأَخَّرُ عَنْهَا، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَا تَابِعَيْنِ لِلشَّمْسِ، فَإِذَا كَانَ فِي الشِّتَاءِ طَالَ زَمَنُ مَغِيبِهَا، فَيَطُولُ زَمَانُ الضَّوْءِ التَّابِعِ لَهَا. وَأَمَّا جَعْلُ هَذِهِ الْحِصَّةِ بِقَدْرِ هَذِهِ الْحِصَّةِ، وَإِنَّ الْفَجْرَ فِي الصَّيْفِ أَطْوَلُ، وَالْعِشَاءَ فِي الشِّتَاءِ أَطْوَلُ، وَجَعْلُ الْفَجْرِ تَابِعًا لِلنَّهَارِ: يَطُولُ فِي الصَّيْفِ، وَيَقْصُرُ فِي الشِّتَاءِ، وَجَعْلُ الشَّفَقِ تَابِعًا لِلَّيْلِ يَقْصُرُ فِي الصَّيْفِ وَيَطُولُ فِي الشِّتَاءِ، فَهَذَا قَلْبُ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ. وَلَا يَتَأَخَّرُ ظُهُورُ السَّوَادِ عَنْ مَغِيبِ الشَّمْسِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ التَّغْلِيسُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ أَفْضَلُ أَمْ الْإِسْفَارُ بِهَا] 107 - 23 - مَسْأَلَةٌ: هَلْ التَّغْلِيسُ أَفْضَلُ أَمْ الْإِسْفَارُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. بَلْ التَّغْلِيسُ أَفْضَلُ، إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ سَبَبٌ يَقْتَضِي التَّأْخِيرَ، فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الْمُسْتَفِيضَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ يُغَلِّسُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: " لَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْفَجْرَ فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ مُتَلَفِّعَاتٌ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَرْجِعْنَ إلَى

بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْغَلَسِ» . وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ فِي مَسْجِدِهِ قَنَادِيلُ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِمَا بَيْنَ السِّتِّينَ آيَةً إلَى الْمِائَةِ، وَيَنْصَرِفُ مِنْهَا حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ» ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ هِيَ نَحْوُ نِصْفِ جُزْءٍ أَوْ ثُلُثِ جُزْءٍ، وَكَانَ فَرَاغُهُ مِنْ الصَّلَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلَ جَلِيسَهُ. وَهَكَذَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ كَانَ يُغَلِّسُ بِالْفَجْرِ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ، وَكَانَ بَعْدَهُ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، فَنَشَأَ فِي دَوْلَتِهِمْ فُقَهَاءُ رَأَوْا عَادَتَهُمْ فَظَنُّوا أَنَّ تَأْخِيرَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ أَفْضَلُ مِنْ تَقْدِيمِهِمَا، وَذَلِكَ غَلَطٌ فِي السُّنَّةِ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» ، وَقَدْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ كَانَ مُعَارِضًا لَمْ يُقَاوِمْهَا؛ لِأَنَّ تِلْكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ، وَالْخَبَرُ الْوَاحِدُ إذَا خَالَفَ الْمَشْهُورَ الْمُسْتَفِيضَ كَانَ شَاذًّا، وَقَدْ يَكُونُ مَنْسُوخًا؛ لِأَنَّ التَّغْلِيسَ هُوَ فِعْلُهُ حَتَّى مَاتَ، وَفِعْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ. وَقَدْ تَأَوَّلَ الطَّحَاوِيَّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ كَأَبِي حَفْصٍ الْبَرْمَكِيِّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، قَوْلَهُ: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ» . عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْإِسْفَارُ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا، أَيْ أَطِيلُوا صَلَاةَ الْفَجْرِ حَتَّى تَخْرُجُوا مِنْهَا مُسْفِرِينَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِسْفَارِ التَّبَيُّنُ، أَيْ صَلُّوهَا إذَا تَبَيَّنَ الْفَجْرُ وَانْكَشَفَ وَوَضَحَ: فَإِنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ وَقْتِهَا إلَّا صَلَاةَ الْفَجْرِ بِمُزْدَلِفَةَ. وَصَلَاةَ الْمَغْرِبِ بِجُمَعٍ، وَصَلَاةَ الْفَجْرِ إنَّمَا صَلَّاهَا يَوْمَئِذٍ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ» هَكَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «وَصَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ حِينَ بَزَقَ

مسألة قول النبي أسفروا بالفجر

الْفَجْرُ» وَإِنَّمَا مُرَادُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُؤَخِّرُ الْفَجْرَ عَنْ أَوَّلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ وَيَنْكَشِفَ وَيَظْهَرَ. وَذَلِكَ الْيَوْمُ عَجَّلَهَا قَبْلُ. وَبِهَذَا تَتَّفِقُ مَعَانِي أَحَادِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا إذَا أَخَّرَهَا لِسَبَبٍ يَقْتَضِي التَّأْخِيرَ مِثْلِ الْمُتَيَمِّمِ عَادَتُهُ إنَّمَا يُؤَخِّرُهَا لِيُصَلِّيَ آخِرَ الْوَقْتِ بِوُضُوءٍ، وَالْمُنْفَرِدِ يُؤَخِّرُهَا حَتَّى يُصَلِّيَ آخِرَ الْوَقْتِ فِي جَمَاعَةٍ، أَوْ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الصَّلَاةِ آخِرَ الْوَقْتِ قَائِمًا، وَفِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لَا يَقْدِرُ إلَّا قَاعِدًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ فَضِيلَةٌ تَزِيدُ عَلَى الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، فَالتَّأْخِيرُ لِذَلِكَ أَفْضَلُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قَوْل النَّبِيّ أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ] 108 - 24 مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» فَإِنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. لَكِنْ قَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يُغَلِّسُ بِالْفَجْرِ، حَتَّى كَانَتْ تَنْصَرِفُ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ مُتَلَفِّعَاتٌ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْغَلَسِ. فَلِهَذَا فَسَّرُوا ذَلِكَ الْحَدِيثَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ الْإِسْفَارَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا، أَيْ: أَطِيلُوا الْقِرَاءَةَ حَتَّى تَخْرُجُوا مِنْهَا مُسْفِرِينَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِيهَا بِالسِّتِّينَ آيَةً إلَى مِائَةِ آيَةٍ، نَحْوَ نِصْفِ حِزْبٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتَبَيَّنَ الْفَجْرُ وَيَظْهَرَ، فَلَا يُصَلِّي مَعَ غَلَبَةِ الظَّنِّ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي بَعْد التَّبَيُّنِ. إلَّا يَوْمَ مُزْدَلِفَةَ فَإِنَّهُ قَدَّمَهَا. ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَى عَادَتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَرَكَ الصَّلَاةَ سَنَتَيْنِ ثُمَّ تَابَ وَوَاظَبَ عَلَى أَدَائِهَا] 109 - 25 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُدَّةَ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَوَاظَبَ عَلَى أَدَائِهَا. فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْهَا أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: أَمَّا مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ، أَوْ فَرْضًا مِنْ فَرَائِضِهَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ ذَلِكَ

نَاسِيًا لَهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِوُجُوبِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِوُجُوبِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ يَعْتَقِدُ مَعَهُ جَوَازَ التَّأْخِيرِ، وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهُ عَالِمًا عَمْدًا. فَأَمَّا النَّاسِي لِلصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا إذَا ذَكَرَهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ، بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا. لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ» وَقَدْ اسْتَفَاضَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ: «أَنَّهُ نَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي السَّفَرِ فَصَلَّوْهَا بَعْدَ مَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ السُّنَّةُ وَالْفَرِيضَةُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ» . وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ طَهَارَةَ الْحَدَثِ، وَصَلَّى نَاسِيًا: فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ بِطَهَارَةٍ بِلَا نِزَاعٍ، حَتَّى لَوْ كَانَ النَّاسِي إمَامًا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ، وَلَا إعَادَةَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ إذَا لَمْ يَعْلَمُوا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَنْصُوصِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ، كَمَا جَرَى لِعُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَأَمَّا مَنْ نَسِيَ طَهَارَةَ الْخَبَثِ فَإِنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ وَتِلْكَ مِنْ بَابِ تَرَكَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَمَنْ فَعَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ نَاسِيًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِيمَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَطَرْدُ ذَلِكَ فِيمَنْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا، وَمَنْ تَطَيَّبَ وَلَبِسَ نَاسِيًا. كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا كَمَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَهُنَا مَسَائِلُ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا: مِثْلُ مَنْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَصَلَّى بِالتَّيَمُّمِ؛ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِهَا. وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ جَاهِلًا بِوُجُوبِهَا: مِثْلُ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِلْفُقَهَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَحَدُهَا: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ مُطْلَقًا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ.

وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ: إذَا تَرَكَهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ دُونَ دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ جَهْلٍ، يُعْذَرُ فِيهِ؛ بِخِلَافِ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَالثَّالِثُ: لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا. وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ. وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ حُكْمَ الشَّارِعِ، هَلْ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ بُلُوغِ الْخِطَابِ لَهُ، فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ؛ وَغَيْرِهِ: أَحَدُهَا: يَثْبُتُ مُطْلَقًا. وَالثَّانِي: لَا يَثْبُتُ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثُ: يَثْبُتُ حُكْمُ الْخِطَابِ الْمُبْتَدَأِ دُونَ الْخِطَابِ النَّاسِخِ، كَقَضِيَّةِ أَهْلِ قُبَاءَ، وَكَالنِّزَاعِ الْمَعْرُوفِ فِي الْوَكِيلِ إذَا عُزِلَ، فَهَلْ يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَزْلِ فِي حَقِّهِ قَبْلَ الْعِلْمِ. وَعَلَى هَذَا: لَوْ تَرَكَ الطَّهَارَةَ الْوَاجِبَةَ لِعَدَمِ بُلُوغِ النَّصِّ، مِثْلُ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ الْإِبِلِ وَلَا يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَبْلُغُهُ النَّصُّ، وَيَتَبَيَّنُ لَهُ وُجُوبُ الْوُضُوءِ، أَوْ يُصَلِّي فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ ثُمَّ يَبْلُغُهُ. وَيَتَبَيَّنُ لَهُ النَّصُّ، فَهَلْ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا مَضَى؟ فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. وَنَظِيرُهُ أَنْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ وَيُصَلِّيَ. ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ وُجُوبُ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ. وَالصَّحِيحُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَدَمُ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَلِأَنَّهُ قَالَ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] فَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ أَمْرُ الرَّسُولِ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرَ وَعَمَّارًا لَمَّا أَجْنَبَا فَلَمْ يُصَلِّ عُمَرُ، وَصَلَّى عَمَّارٌ بِالتَّمَرُّغِ، أَنْ يُعِيدَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْ أَبَا ذَرٍّ بِالْإِعَادَةِ لَمَّا كَانَ يَجْنُبُ وَيَمْكُثُ أَيَّامًا لَا يُصَلِّي، وَكَذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْ مَنْ أَكَلَ مِنْ الصَّحَابَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَبْلُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْحَبْلِ الْأَسْوَدِ بِالْقَضَاءِ، كَمَا لَمْ يَأْمُرْ مَنْ صَلَّى إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ بُلُوغِ النَّسْخِ لَهُمْ بِالْقَضَاءِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْمُسْتَحَاضَةُ إذَا مَكَثَتْ مُدَّةً لَا تُصَلِّي لِاعْتِقَادِهَا عَدَمَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ:

مسألة عليه صلوات كثيرة فاتته هل يصليها بسننها

أَحَدُهُمَا: لَا إعَادَةَ عَلَيْهَا، كَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ: لِأَنَّ «الْمُسْتَحَاضَةَ الَّتِي قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي حِضْت حَيْضَةً شَدِيدَةً كَبِيرَةً مُنْكَرَةً مَنَعَتْنِي الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ» . أَمَرَهَا بِمَا يَجِبُ فِي الْمُسْتَقْبِلِ، وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِقَضَاءِ صَلَاةِ الْمَاضِي. وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدِي بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ فِي النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ بِالْبَوَادِي وَغَيْرِ الْبَوَادِي مَنْ يَبْلُغُ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ؛ بَلْ إذَا قِيلَ لِلْمَرْأَةِ: صَلِّي، تَقُولُ: حَتَّى أَكْبَرَ وَأَصِيرَ عَجُوزَةً، ظَانَّةً أَنَّهُ لَا يُخَاطَبَ بِالصَّلَاةِ إلَّا الْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ، كَالْعَجُوزِ وَنَحْوِهَا. وَفِي أَتْبَاعِ الشُّيُوخِ طَوَائِفُ كَثِيرُونَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ، فَهَؤُلَاءِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِي الصَّحِيحِ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ، سَوَاءٌ قِيلَ: كَانُوا كُفَّارًا، أَوْ كَانُوا مَعْذُورِينَ بِالْجَهْلِ. وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُ خِلَافَهُ، وَهُوَ لَا يُصَلِّي، أَوْ يُصَلِّي أَحْيَانًا بِلَا وُضُوءٍ، أَوْ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ إذَا تَابَ مِنْ نِفَاقِهِ وَصَلَّى فَإِنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَالْمُرْتَدُّ الَّذِي كَانَ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ ثُمَّ عَادَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ حَالَ الرِّدَّةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ؛ فَإِنَّ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَغَيْرِهِ مَكَثُوا عَلَى الْكُفْرِ مُدَّةً ثُمَّ أَسْلَمُوا، وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِقَضَاءِ مَا تَرَكُوهُ، وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّونَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ لَمْ يُؤْمَرُوا بِقَضَاءِ صَلَاةٍ؛ وَلَا غَيْرِهَا. وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَالِمًا بِوُجُوبِهَا وَتَرَكَهَا بِلَا تَأْوِيلٍ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا الْمُوَقَّتُ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ، إلَى أَنَّ فِعْلَهَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَا يَصِحُّ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِيمَنْ تَرَكَ الصَّوْمَ تَعَمُّدًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ فَاتَتْهُ هَلْ يُصَلِّيهَا بِسُنَنِهَا] 110 - 26 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ فَاتَتْهُ؛ هَلْ يُصَلِّيهَا بِسُنَنِهَا؟ أَمْ الْفَرِيضَةَ وَحْدَهَا؟ وَهَلْ تُقْضَى فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ؟

مسألة أيهما أفضل صلاة النافلة أم القضاء

الْجَوَابُ: الْمُسَارَعَةُ إلَى قَضَاءِ الْفَوَائِتِ الْكَثِيرَةِ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِغَالِ عَنْهَا بِالنَّوَافِلِ، وَأَمَّا مَعَ قِلَّةِ الْفَوَائِتِ فَقَضَاءُ السُّنَنِ مَعَهَا حَسَنٌ. «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ الصَّلَاةِ - صَلَاةِ الْفَجْرِ - عَامَ حُنَيْنٍ، قَضَوْا السُّنَّةَ وَالْفَرِيضَةَ» . وَلَمَّا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ قَضَى الْفَرَائِضَ بِلَا سُنَنٍ. وَالْفَوَائِتُ الْمَفْرُوضَةُ تُقْضَى فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلِيُصَلِّ إلَيْهَا أُخْرَى» ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ صَلَاةُ النَّافِلَةِ أَمْ الْقَضَاءُ] 111 - 27 مَسْأَلَةٌ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ صَلَاةُ النَّافِلَةِ؟ أَمْ الْقَضَاءُ. الْجَوَابُ: إذَا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَاجِبٌ، فَالِاشْتِغَالُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالنَّوَافِلِ الَّتِي تَشْغَلُ عَنْهُ. [مَسْأَلَةٌ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ فَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْهَا إلَّا فِي الْعَصْرِ] 112 - 28 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ مِنْ فَرْضِ الظُّهْرِ فَسَلَّمَ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْهَا إلَّا وَهُوَ فِي فَرْضِ الْعَصْرِ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا فِي التَّحِيَّاتِ. فَمَاذَا يَصْنَعُ؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ مَأْمُومًا فَإِنَّهُ يُتِمُّ الْعَصْرَ، ثُمَّ يَقْضِي الظُّهْرَ، وَفِي إعَادَةِ الْعَصْرِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ بَطَلَتْ بِطُولِ الْفَصْلِ، وَالشُّرُوعِ فِي غَيْرِهَا، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ فَاتَتْهُ الظُّهْرُ، وَمَنْ فَاتَتْهُ الظُّهْرُ وَحَضَرَتْ جَمَاعَةُ الْعَصْرِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ، ثُمَّ هَلْ يُعِيدُ الْعَصْرَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ. أَحَدُهُمَا: يُعِيدُهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَالثَّانِي: لَا يُعِيدُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَاخْتِيَارُ جَدِّي.

مسألة فاتته صلاة العصر فجاء المسجد فوجد المغرب قد أقيمت

وَمَتَى ذَكَرَ الْفَائِتَةَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ كَانَ كَمَا لَوْ ذَكَرَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهَا، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْفَائِتَةَ حَتَّى فَرَغَتْ الْحَاضِرَةُ، فَإِنَّ الْحَاضِرَةَ تُجْزِئُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَغَالِبُ ظَنِّي أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَجَاءَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ الْمَغْرِبَ قَدْ أُقِيمَتْ] 113 - 29 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ: فَجَاءَ إلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدَ الْمَغْرِبَ قَدْ أُقِيمَتْ، فَهَلْ يُصَلِّي الْفَائِتَةَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. بَلْ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ الْإِمَامِ، ثُمَّ يُصَلِّي الْعَصْرَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَلَكِنْ هَلْ يُعِيدُ الْمَغْرِبَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُعِيدُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَالثَّانِي: لَا يُعِيدُ الْمَغْرِبَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَالثَّانِي أَصَحُّ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبْ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ مَرَّتَيْنِ، إذَا اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ دَخَلَ وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ وَهُوَ لَا يَسْمَعُ كَلَامَ الْخَطِيبِ] 114 - 30 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ دَخَلَ الْجَامِعَ وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ، وَهُوَ لَا يَسْمَعُ كَلَامَ الْخَطِيبِ، فَذَكَرَ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ صَلَاةٍ فَقَضَاهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا ذَكَرَ أَنَّ عَلَيْهِ فَائِتَةً وَهُوَ فِي الْخُطْبَةِ يَسْمَعُ الْخَطِيبَ أَوْ لَا يَسْمَعُهُ: فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، إذَا أَمْكَنَهُ الْقَضَاءُ، وَإِدْرَاكُ الْجُمُعَةِ، بَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ الْخُطْبَةِ لَا يَتَنَاوَلُ النَّهْيَ عَنْ الْفَرِيضَةِ، وَالْفَائِتَةُ مَفْرُوضَةٌ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، بَلْ لَا يَتَنَاوَلُ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ. فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» .

مسألة الصلاة في النعل

وَأَيْضًا فَإِنَّ فِعْلَ الْفَائِتَةَ فِي وَقْتِ النَّهْيِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْفَجْرَ» . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا ذَكَرَ الْفَائِتَةَ عِنْدَ قِيَامِهِ إلَى الصَّلَاةِ، هَلْ يَبْدَأُ بِالْفَائِتَةِ وَإِنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ؟ كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ، أَوْ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ يُصَلِّي الْفَائِتَةَ، كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا، ثُمَّ هَلْ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْجُمُعَةِ ظُهْرًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. وَأَصْلُ هَذَا: أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ وَاجِبٌ فِي الصَّلَوَاتِ الْقَلِيلَةِ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، بَلْ يَجِبُ عِنْدَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْقَلِيلَةِ وَالْكَثِيرَةِ، وَبَيْنَهُمْ نِزَاعٌ فِي حَدِّ الْقَلِيلِ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ قَضَاءُ الْفَوَائِتِ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَهُمْ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذَا تَرَكَهَا عَمْدًا فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ بِخِلَافِ النَّاسِي. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ» . وَفِي لَفْظٍ: «فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» . وَاخْتَلَفَ الْمُوجِبُونَ لِلتَّرْتِيبِ، هَلْ يَسْقُطُ بِضِيقِ الْوَقْتِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. لَكِنْ أَشْهَرُهُمَا عَنْهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ. كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَالْأُخْرَى لَا يَسْقُطُ كَقَوْلِ مَالِكٍ. وَكَذَلِكَ هَلْ يَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ؟ فِيهِ نِزَاعٌ نَحْوُ هَذَا. وَإِذَا كَانَتْ الْمُسَارَعَةُ إلَى قَضَاءِ الْفَائِتَةِ. وَتَقْدِيمُهَا عَلَى الْحَاضِرَةِ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ: كَانَ فِعْلُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ هُوَ الْوَاجِبَ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِذَا كَانَ يُجَوِّزُ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَالْفَائِتَةُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الصَّلَاة فِي النَّعْلِ] 115 - 31 مَسْأَلَةٌ: فِي الصَّلَاةِ فِي النَّعْلِ وَنَحْوِهِ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا الصَّلَاةُ فِي النَّعْلِ وَنَحْوِهِ، مِثْلُ الْجُمْجُمِ، وَالْمَدَاسِ وَالزُّرْبُولِ،

مسألة لبس القباء في الصلاة

وَغَيْرِ ذَلِكَ: فَلَا يُكْرَهُ، بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ. وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْيَهُودَ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ فَخَالِفُوهُمْ» . فَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ مُخَالَفَةً لِلْيَهُودِ. وَإِذَا عُلِمَتْ طَهَارَتُهَا لَمْ تُكْرَهْ الصَّلَاةُ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا إذَا تَيَقَّنَ نَجَاسَتَهَا فَلَا يُصَلِّي فِيهَا حَتَّى تَطْهُرَ. لَكِنْ الصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا دَلَّك النَّعْلَ بِالْأَرْضِ طَهُرَ بِذَلِكَ. كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، سَوَاءٌ كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَذِرَةً، أَوْ غَيْرَ عَذِرَةٍ. فَإِنَّ أَسْفَلَ النَّعْلِ مَحَلُّ تَكَرُّرِ مُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ لَهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّبِيلَيْنِ، فَلَمَّا كَانَ إزَالَتُهُ عَنْهَا بِالْحِجَارَةِ ثَابِتًا بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ. فَكَذَلِكَ هَذَا. وَإِذَا شَكَّ فِي نَجَاسَةِ أَسْفَلِ الْخُفِّ لَمْ تُكْرَهْ الصَّلَاةُ فِيهِ، وَلَوْ تَيَقَّنَ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَنَّهُ كَانَ نَجَسًا فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ؛ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ كَالْبَدَنِ وَالثِّيَابِ وَالْأَرْضِ. [مَسْأَلَةٌ لُبْس الْقَبَاءِ فِي الصَّلَاةِ] 116 - 32 مَسْأَلَةٌ: فِي لُبْسِ الْقَبَاءِ فِي الصَّلَاةِ، إذَا أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ يَدَيْهِ فِي أَكْمَامِهِ هَلْ يُكْرَهُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ ذَكَرُوا جَوَازَ ذَلِكَ؛ وَلَيْسَ هُوَ مِثْلُ السَّدْلِ الْمَكْرُوهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مُشَابَهَةِ الْيَهُودِ: فَإِنَّ هَذِهِ اللُّبْسَةَ لَيْسَتْ مِنْ مَلَابِسِ الْيَهُودِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الصَّلَاةُ فِي الْفِرَاء مِنْ جُلُودِ الْوُحُوشِ] 117 - 33 مَسْأَلَةٌ: فِي الْفِرَاءِ مِنْ جُلُودِ الْوُحُوشِ، هَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا جِلْدُ الْأَرْنَبِ فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ. وَأَمَّا الثَّعْلَبُ فَفِيهِ نِزَاعٌ، وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَجِلْدُ الضَّبُعِ وَكَذَلِكَ كُلُّ جِلْدٍ غَيْرِ جُلُودِ السِّبَاعِ الَّتِي نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُبْسِهَا.

مسألة المرأة إذا ظهر شيء من شعرها في الصلاة

[مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَة إذَا ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ شَعْرِهَا فِي الصَّلَاةِ] مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ إذَا ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ شَعْرِهَا فِي الصَّلَاةِ هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهَا أَمْ لَا؟ أَجَابَ: إذَا انْكَشَفَ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ شَعْرِهَا وَبَدَنِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا الْإِعَادَةُ، عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ. وَإِنْ انْكَشَفَ شَيْءٌ كَثِيرٌ أَعَادَتْ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ، عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَغَيْرِهِمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَة إذَا صَلَّتْ وَظَاهِرُ قَدَمِهَا مَكْشُوفٌ] 119 - 35 مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ إذَا صَلَّتْ وَظَاهِرُ قَدَمِهَا مَكْشُوفٌ هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهَا؟ أَجَابَ: هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ صَلَاتُهَا جَائِزَةٌ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ الصَّلَاة فِي مَوْضِعٍ نَجَسٍ] 120 - 36 مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ: عَمَّا إذَا صَلَّى فِي مَوْضِعٍ نَجَسٍ؟ أَجَابَ: إذَا صَلَّى وَبَعْضُ بَدَنِهِ فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ لَمْ يُمْكِنْهُ الصَّلَاةُ إلَّا فِيهِ، فَهُوَ مَعْذُورٌ، وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ. وَأَمَّا إنْ أَمْكَنَهُ الصَّلَاةُ فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَوْضِعِ النَّجِسِ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْأَرْضِ] 121 - 37 مَسْأَلَةٌ: هَلْ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْأَرْضِ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ، يُنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَوَاطِنَ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ، فَقَالَ: لَا تُصَلُّوا فِيهَا» ، وَسُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِ الْغَنَمِ فَقَالَ: «صَلُّوا فِيهَا» ، وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ: «الْأَرْضُ كُلُّهَا

مسألة الصلاة في الحمام

مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ» وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا» . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» وَفِي السُّنَنِ: «أَنَّهُ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بِأَرْضِ الْخَسْفِ» . وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ: «أَنَّهُ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ: الْمَقْبَرَةِ، وَالْمَجْزَرَةِ، وَالْمَزْبَلَةِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالْحَمَّامِ، وَظَهْرِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ» ، وَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ - غَيْرَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ - قَدْ يُعَلِّلُهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهَا مَظِنَّةُ النَّجَاسَةِ. وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ النَّهْيَ تَعَبُّدًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ عِلَلَهَا مُخْتَلِفَةٌ. تَكُونُ الْعِلَّةُ مُشَابَهَةَ أَهْلِ الشِّرْكِ: كَالصَّلَاةِ عِنْدَ الْقُبُورِ، وَتَارَةً لِكَوْنِهَا مَأْوًى لِلشَّيَاطِينِ: كَأَعْطَانِ الْإِبِلِ. وَتَارَةً لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الصَّلَاة فِي الْحَمَّامِ] 122 - 38 سُئِلَ: عَنْ الْحَمَّامِ إذَا اُضْطُرَّ الْمُسْلِمُ لِلصَّلَاةِ فِيهَا، وَخَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَخْرُجَ وَيُصَلِّيَ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ، فَإِنَّهُ يَغْتَسِلُ، وَيُصَلِّي بِالْحَمَّامِ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي الْأَمَاكِنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِي الْوَقْتِ أَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوَقْتِ فِي غَيْرِهَا وَلِهَذَا لَوْ حُبِسَ فِي الْحُشِّ صَلَّى فِيهِ، وَفِي الْإِعَادَةِ

نِزَاعٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ: وَلِهَذَا يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ عُرْيَانًا، إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا كَذَلِكَ. وَأَمَّا إنْ أَمْكَنَهُ الِاغْتِسَالُ وَالْخُرُوجُ لِلصَّلَاةِ خَارِجَ الْحَمَّامِ فِي الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الصَّلَاةُ فِي الْحَمَّامِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَمْكَنَهُ الِاغْتِسَالُ فِي بَيْتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُصَلِّي فِي الْحَمَّامِ إلَّا لِحَاجَةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 123 - 39 مَسْأَلَةٌ: عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ؟ الْجَوَابُ: فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ» وَقَدْ صَحَّحَهُ الْحُفَّاظُ. وَأَمَّا إنْ ضَاقَ الْوَقْتُ، فَهَلْ يُصَلِّي فِي الْحَمَّامِ؟ أَوْ يُفَوِّتُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَخْرُجَ فَيُصَلِّي خَارِجَهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ. فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْحَمَّامِ. وَيَنْبَغِي لِمَنْ أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ إنْ احْتَاجَ إلَى الْحَمَّامِ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَيَخْرُجَ يُصَلِّي، ثُمَّ إنْ أَحَبَّ أَنْ يُتِمَّ اغْتِسَالَهُ بِالسِّدْرِ وَنَحْوِهِ، عَادَ إلَى الْحَمَّامِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا؛ إمَّا نَهْيُ تَحْرِيمٍ، أَوْ لَا تَصِحُّ: كَالْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ. وَإِمَّا نَهْيُ تَنْزِيهٍ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِ. 124 - 40 سُئِلَ: هَلْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْحَمَّامِ. إذَا خَافَ خُرُوجَ الْوَقْتِ؟ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: أَمَّا إذَا ذَهَبَ إلَى الْحَمَّامِ لِيَغْتَسِلَ وَيَخْرُجَ وَيُصَلِّيَ خَارِجَ الْحَمَّامِ فِي الْوَقْتِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْحَمَّامِ، أَوْ تَفُوتَ الصَّلَاةُ فَالصَّلَاةُ فِي الْحَمَّامِ خَيْرٌ مِنْ تَفْوِيتِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي الْحَمَّامِ كَالصَّلَاةِ فِي الْحُشِّ، وَالْمَوَاضِعِ النَّجِسَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمَنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ نَجَسٍ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ حَتَّى يَفُوتَ الْوَقْتُ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِيهِ، وَلَا يُفَوِّتُ الْوَقْتَ، لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْوَقْتِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مُرَاعَاةِ جَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ.

مسألة الصلاة في البيع والكنائس

وَأَمَّا إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا ذَهَبَ إلَى الْحَمَّامِ لَمْ يُمْكِنْهُ الْخُرُوجُ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ، فَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ خَيْرٌ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا، وَعَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ. [مَسْأَلَةٌ الصَّلَاةُ فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ] 125 - 41 مَسْأَلَةٌ: هَلْ الصَّلَاةُ فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ جَائِزَةٌ مَعَ وُجُودِ الصُّوَرِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُقَالُ: إنَّهَا بُيُوتُ اللَّهِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: لَيْسَتْ بُيُوتَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا بُيُوتُ اللَّهِ الْمَسَاجِدُ، بَلْ هِيَ بُيُوتٌ يُكْفَرُ فِيهَا بِاَللَّهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُذْكَرُ فِيهَا، فَالْبُيُوتُ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِهَا، وَأَهْلُهَا كُفَّارٌ، فَهِيَ بُيُوتُ عِبَادَةِ الْكُفَّارِ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِيهَا فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: الْمَنْعُ مُطْلَقًا؛ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَالْإِذْنُ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَأْثُورُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ إنْ كَانَ فِيهَا صُوَرٌ لَمْ يُصَلَّ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَدْخُلْ الْكَعْبَةَ حَتَّى مُحِيَ مَا فِيهَا مِنْ الصُّوَرِ، وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ: إنَّا كُنَّا لَا نَدْخُلُ كَنَائِسَهُمْ وَالصُّوَرُ فِيهَا. وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْجِدِ الْمُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ «ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَنِيسَةٌ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَمَا فِيهَا مِنْ الْحُسْنِ وَالتَّصَاوِيرِ، فَقَالَ: أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا صُوَرٌ فَقَدْ صَلَّى الصَّحَابَةُ فِي الْكَنِيسَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة فيمن يبسط سجادة في الجامع ويصلي عليها

[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ يَبْسُطُ سَجَّادَةً فِي الْجَامِعِ وَيُصَلِّي عَلَيْهَا] مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ يَبْسُطُ سَجَّادَةً فِي الْجَامِعِ، وَيُصَلِّ عَلَيْهَا: هَلْ مَا فَعَلَهُ بِدْعَةٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى السَّجَّادَةِ بِحَيْثُ يَتَحَرَّى الْمُصَلِّي ذَلِكَ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ سُنَّةَ السَّلَفِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ بَلْ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِهِ عَلَى الْأَرْضِ، لَا يَتَّخِذُ أَحَدُهُمْ سَجَّادَةً يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَسَطَ سَجَّادَةً فَأَمَرَ مَالِكٌ بِحَبْسِهِ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ بَسْطَ السَّجَّادَةِ فِي مَسْجِدِنَا بِدْعَةٌ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي حَدِيثِ اعْتِكَافِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اعْتَكَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ - وَفِيهِ قَالَ: مَنْ اعْتَكَفَ فَلْيَرْجِعْ إلَى مُعْتَكَفِهِ فَإِنِّي رَأَيْت هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَرَأَيْتنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ» . وَفِي آخِرِهِ: «فَلَقَدْ رَأَيْت يَعْنِي صَبِيحَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ عَلَى أَنْفِهِ وَأَرْنَبَتِهِ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ» . فَهَذَا بَيِّنٌ أَنَّ سُجُودَهُ كَانَ عَلَى الطِّينِ. وَكَانَ مَسْجِدُهُ مَسْقُوفًا بِجَرِيدِ النَّخْلِ يَنْزِلُ مِنْهُ الْمَطَرُ، فَكَانَ مَسْجِدُهُ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ. وَرُبَّمَا وَضَعُوا فِيهِ الْحَصَى، كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ الْحَصَى الَّذِي كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: مُطِرْنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَأَصْبَحَتْ الْأَرْضُ مُبْتَلَّةً، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْتِي بِالْحَصَى فِي ثَوْبِهِ فَيَبْسُطُهُ تَحْتَهُ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا؟» . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد أَيْضًا، عَنْ أَبِي بَدْرٍ شُجَاعِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَبُو بَدْرٍ أَرَاهُ قَدْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ الْحَصَاةَ تُنَاشِدُ الَّذِي يُخْرِجُهَا مِنْ الْمَسْجِدِ» . وَلِهَذَا فِي السُّنَنِ وَالْمُسْنَدِ عَنْ

أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَمْسَحْ الْحَصَى؛ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ» وَفِي لَفْظٍ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ قَالَ: سَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى سَأَلْته عَنْ مَسْحِ الْحَصَى، فَقَالَ: «وَاحِدَةً أَوْ دَعْ» . وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَأَنْ يُمْسِكَ أَحَدُكُمْ يَدَهُ عَنْ الْحَصَى خَيْرٌ لَهُ مِنْ مِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا سُودُ الْحَدَقِ، فَإِنْ غَلَبَ أَحَدَكُمْ الشَّيْطَانُ فَلْيَمْسَحْ وَاحِدَةً» . وَهَذَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ «مُعَيْقِيبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الرَّجُلِ يُسَوِّي التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ، قَالَ: إنْ كُنْت فَاعِلًا فَوَاحِدَةً» فَهَذَا بَيِّنٌ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْجُدُونَ عَلَى التُّرَابِ وَالْحَصَى، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يُسَوِّي بِيَدِهِ مَوْضِعَ سُجُودِهِ، فَكَرِهَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ الْعَبَثَ، وَرَخَّصَ فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ لِلْحَاجَةِ، وَإِنْ تَرَكَهَا كَانَ أَحْسَنَ. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ، فَسَجَدَ عَلَيْهِ» أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصِّحَاحِ: كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَهْلِ السُّنَنِ وَغَيْرِهِمْ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: بَيَانُ أَنَّ أَحَدَهُمْ إنَّمَا كَانَ يَتَّقِي شِدَّةَ الْحَرِّ بِأَنْ يَبْسُطَ ثَوْبَهُ الْمُتَّصِلَ: كَإِزَارِهِ وَرِدَائِهِ وَقَمِيصِهِ، فَيَسْجُدُ عَلَيْهِ وَهَذَا بَيِّنٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ عَلَى سَجَّادَاتٍ، بَلْ وَلَا عَلَى حَائِلٍ، وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ يُصَلُّونَ تَارَةً فِي نِعَالِهِمْ، وَتَارَةً حُفَاةً، كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالْمُسْنَدِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ صَلَّى فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا انْصَرَفَ. قَالَ: لِمَ خَلَعْتُمْ؟ قَالُوا: رَأَيْنَاك خَلَعْت.

فَخَلَعْنَا، قَالَ: فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهِمَا خَبَثًا، فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلِيَقْلِبْ نَعْلَيْهِ، فَإِنْ رَأَى خَبَثًا فَلِيَمْسَحْهُ بِالْأَرْضِ ثُمَّ لِيُصَلِّ فِيهِمَا» فَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ صَلَاتَهُمْ فِي نِعَالِهِمْ، وَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ يُفْعَلُ فِي الْمَسْجِدِ إذَا لَمْ يَكُنْ يُوطَأُ بِهِمَا عَلَى مَفَارِشَ، وَأَنَّهُ إذَا رَأَى بِنَعْلَيْهِ أَذًى فَإِنَّهُ يَمْسَحُهُمَا بِالْأَرْضِ، وَيُصَلِّي فِيهِمَا، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى غَسْلِهِمَا، وَلَا إلَى نَزْعِهِمَا وَقْتَ الصَّلَاةِ، وَوَضْعِ قَدَمَيْهِ عَلَيْهِمَا، كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَبِهَذَا كُلِّهِ جَاءَتْ السُّنَّةُ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ، وَالْمُسْنَدِ، عَنْ «أَبِي سَلَمَةَ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: سَأَلْت أَنَسًا أَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ» . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ، وَلَا خِفَافِهِمْ» . فَقَدْ أُمِرْنَا بِمُخَالَفَةِ ذَلِكَ، إذْ هُمْ يَنْزِعُونَ الْخِفَافَ وَالنِّعَالَ عِنْدَ الصَّلَاةِ، وَيَأْتَمُّونَ فِيمَا يُذْكَرُ عَنْهُمْ بِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، حَيْثُ قِيلَ لَهُ وَقْتَ الْمُنَاجَاةِ {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه: 12] . فَنُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَأُمِرْنَا أَنْ نُصَلِّيَ فِي خِفَافِنَا وَنِعَالِنَا، وَإِنْ كَانَ بِهِمَا أَذًى مَسَحْنَاهُمَا بِالْأَرْضِ لِمَا تَقَدَّمَ. وَلِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد أَيْضًا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا وَطِئَ أَحَدُكُمْ بِنَعْلَيْهِ الْأَذَى، فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ» وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «إذَا وَطِئَ الْأَذَى بِخُفَّيْهِ فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ» وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَعْنَاهُ، وَقَدْ قِيلَ حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَفْظُهُ الثَّانِي مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، وَقَدْ خَرَّجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الشَّوَاهِدِ، وَمُسْلِمٍ فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَوَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ لَمْ يُسَمِّ رَاوِيَهُ؛ لَكِنْ تَعَدُّدُهُ مَعَ عَدَمِ التُّهْمَةِ وَعَدَمِ الشُّذُوذِ يَقْتَضِي أَنَّهُ حَسَنٌ أَيْضًا، وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَمَعَ دَلَالَةِ السُّنَّةِ عَلَيْهِ هُوَ مُقْتَضَى الِاعْتِبَارِ؛ فَإِنَّ هَذَا مَحَلٌّ تَتَكَرَّرُ مُلَاقَاتُهُ لِلنَّجَاسَةِ، فَأَجْزَأَ الْإِزَالَةَ عَنْهُ بِالْجَامِدِ كَالْمَخْرَجَيْنِ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُ فِيهِمَا الِاسْتِجْمَارُ بِالْأَحْجَارِ كَمَا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِجْمَارِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ تَارَةً فِي نِعَالِهِمْ، وَتَارَةً حُفَاةً، كَمَا فِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي حَافِيًا وَمُنْتَعِلًا» وَالْحُجَّةُ فِي الِانْتِعَالِ ظَاهِرَةٌ وَأَمَّا فِي الِاحْتِفَاءِ فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي يَوْمَ الْفَتْحِ وَوَضَعَ نَعْلَيْهِ عَنْ يَسَارِهِ» وَكَذَلِكَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ وَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ» وَتَمَامُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ السَّائِبِ فَإِنَّ أَصْلَهُ قَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصُّبْحَ بِمَكَّةَ فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى إذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ - أَوْ ذِكْرُ مُوسَى وَعِيسَى - أَخَذَتْ رَسُولَ اللَّهِ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ» وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ حَاضِرٌ لِذَلِكَ، فَهَذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَدْ وَضَعَ نَعْلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ النَّاسَ يُصَلُّونَ وَيَطُوفُونَ

بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَلَوْ كَانَ الِاحْتِرَازُ مِنْ نَجَاسَةِ أَسْفَلِ النَّعْلِ مُسْتَحَبًّا لَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقَّ النَّاسِ بِفِعْلِ الْمُسْتَحَبِّ الَّذِي فِيهِ صِيَانَةُ الْمَسْجِدِ. وَأَيْضًا فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَلَا يُؤْذِ بِهِمَا أَحَدًا، وَلِيَجْعَلْهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، أَوْ لِيُصَلِّ فِيهِمَا» ، وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَا يَضَعْ نَعْلَيْهِ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَا عَنْ يَسَارِهِ: تَكُونُ عَنْ يَمِينِ غَيْرِهِ إلَّا أَنْ لَا يَكُونَ عَنْ يَسَارِهِ أَحَدٌ. وَلْيَضَعْهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ قِيلَ: فِي إسْنَادِهِ لِينٌ لَكِنَّهُ هُوَ وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ قَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ الِاحْتِرَازُ مِنْ ظَنِّ نَجَاسَتِهِمَا مَشْرُوعًا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَأَيْضًا فَفِي الْأَوَّلِ الصَّلَاةُ فِيهِمَا، وَفِي الثَّانِي وَضْعُهُمَا عَنْ يَسَارِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُصَلٍّ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ كَرَاهَةِ وَضْعِهِمَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ يَمِينِ غَيْرِهِ، لَمْ يَكُنْ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ النَّجَاسَةِ، لَكِنْ مِنْ جِهَةِ الْأَدَبِ. كَمَا كُرِهَ الْبُصَاقُ عَنْ يَمِينِهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، قَالَ: «شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شِدَّةَ حَرِّ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِنَا. وَأَكُفِّنَا فَلَمْ يُشْكِنَا» . وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي مُسْلِمٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَسَبَبُ هَذِهِ الشَّكْوَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْجُدُونَ عَلَى الْأَرْضِ فَتَسْخُنُ جِبَاهُهُمْ وَأَكُفُّهُمْ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ زِيَادَةً عَلَى مَا كَانَ يُؤَخِّرُهَا، وَيُبْرِدُ بِهَا فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَسْجُدُوا عَلَى مَا يَقِيهِمْ مِنْ الْحَرِّ مِنْ عِمَامَةٍ وَنَحْوِهَا فَلَمْ يَفْعَلْ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ حُجَّةً فِي وُجُوبِ مُبَاشَرَةِ الْمُصَلِّي بِالْجَبْهَةِ. وَهَذِهِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: «وَأَنَّهُمْ كَانُوا إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُهُمْ أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ وَسَجَدَ عَلَيْهِ» وَالسُّجُودُ عَلَى مَا

يَتَّصِلُ بِالْإِنْسَانِ مِنْ كُمِّهِ وَذَيْلِهِ وَطَرَفِ إزَارِهِ وَرِدَائِهِ فِيهِ النِّزَاعُ الْمَشْهُورُ، وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْجُدُونَ وَأَيْدِيهِمْ فِي ثِيَابِهِمْ، وَيَسْجُدُ الرَّجُلُ عَلَى عِمَامَتِهِ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَقَدْ اسْتَشْهَدَ بِذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ السُّجُودِ عَلَى الثَّوْبِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، فَقَالَ: " وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْقَوْمُ يَسْجُدُونَ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ، وَيَدَاهُ فِي كُمِّهِ وَرَوَى حَدِيثَ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمَ قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَضَعُ أَحَدُنَا الثَّوْبَ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي مَكَانِ السُّجُودِ» . وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ حَسِرَ الْعِمَامَةَ عَنْ جَبْهَتِهِ. وَعَنْ نَافِعٍ: " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا سَجَدَ وَعَلَيْهِ الْعِمَامَةُ يَرْفَعُهَا حَتَّى يَضَعَ جَبْهَتَهُ بِالْأَرْضِ " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلْيَحْسِرْ الْعِمَامَةِ عَنْ جَبْهَتِهِ " فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا هُوَ السُّنَّةُ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «وَأَنَّهُ رَأَى أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى أَنْفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَرْنَبَتِهِ» وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى رَأَيْت أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَرْنَبَتِهِ تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ» وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: يُحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ لَا تُمْسَحَ الْجَبْهَةُ فِي الصَّلَاةِ، بَلْ تُمْسَحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُئِيَ الْمَاءُ فِي أَرْنَبَتِهِ وَجَبْهَتِهِ بَعْدَ مَا صَلَّى. قُلْت: كَرِهَ الْعُلَمَاءُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مَسْحَ الْجَبْهَةِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ التُّرَابِ وَنَحْوِهِ الَّذِي يَعْلَقُ بِهَا فِي السُّجُودِ، وَتَنَازَعُوا فِي مَسْحِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى قَوْلَيْنِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. كَالْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَسْحِ مَاءِ الْوُضُوءِ بِالْمِنْدِيلِ، وَفِي إزَالَةِ خُلُوفِ فَمِ الصَّائِمِ بَعْدَ الزَّوَالِ بِالسِّوَاكِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ أَثَرِ الْعِبَادَةِ. وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا سَجَدَ مَكَّنَ جَبْهَتَهُ بِالْأَرْضِ، وَيُجَافِي يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ

صَحِيحٌ. وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٌ قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْجُدُ عَلَى الْأَرْضِ وَاضِعًا جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ فِي سُجُودِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. فَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ كَانُوا يُبَاشِرُونَ الْأَرْضَ بِالْجِبَاهِ، وَعِنْدَ الْحَاجَةِ كَالْحَرِّ وَنَحْوِهِ: يَتَّقُونَ بِمَا يَتَّصِلُ بِهِمْ مِنْ طَرَفِ ثَوْبٍ وَعِمَامَةٍ وَقَلَنْسُوَةٍ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ يُرَخَّصُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَيُكْرَهُ السُّجُودُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَنَحْوِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّهُ لَوْ كَانَ مَطْلُوبُهُمْ مِنْهُ السُّجُودَ عَلَى الْحَائِلِ لَأَذِنَ لَهُمْ فِي اتِّخَاذِ مَا يَسْجُدُونَ عَلَيْهِ مُنْفَصِلًا عَنْهُمْ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ، فَقَالَتْ مَيْمُونَةُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ» أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَأَهْلِ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ: أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد: «كَانَ يُصَلِّي وَأَنَا حِذَاءَهُ، وَأَنَا حَائِضٌ، وَرُبَّمَا أَصَابَنِي ثَوْبُهُ إذَا سَجَدَ، وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالسُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَالْمُسْنَدِ عَنْ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي حَائِضٌ، فَقَالَ: إنَّ حَيْضَتَك لَيْسَتْ فِي يَدِك» .

وَعَنْ «مَيْمُونَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَّكِئُ عَلَى إحْدَانَا وَهِيَ حَائِضٌ، فَيَضَعُ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهَا، فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهِيَ حَائِضٌ، ثُمَّ تَقُومُ إحْدَانَا بِخُمْرَتِهِ فَتَضَعُهَا فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ حَائِضٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ وَلَفْظُهُ «فَتَبْسُطُهَا وَهِيَ حَائِضٌ» فَهَذَا صَلَاتُهُ عَلَى الْخُمْرَةِ وَهِيَ نَسْجٌ يُنْسَجُ مِنْ خُوصٍ، كَانَ يَسْجُدُ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ «أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: قُومُوا فَلِأُصَلِّ لَكُمْ، قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَفَفْت أَنَا وَالْيَتِيمُ مِنْ وَرَائِهِ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ» وَفِي الْبُخَارِيِّ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي رَجُلٌ ضَخْمٌ - وَكَانَ ضَخْمًا - لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُصَلِّيَ مَعَك، وَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا وَدَعَاهُ إلَى بَيْتِهِ، وَقَالَ: صَلِّ حَتَّى أَرَاك كَيْفَ تُصَلِّي فَأَقْتَدِي بِك، فَنَضَحُوا لَهُ طَرَفَ حَصِيرٍ لَهُمْ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، قِيلَ لِأَنَسٍ: أَكَانَ يُصَلِّي؟ فَقَالَ: لَمْ أَرَهُ صَلَّى إلَّا يَوْمَئِذٍ» . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَزُورُ أُمَّ سُلَيْمٍ، فَتُدْرِكُهُ الصَّلَاةُ أَحْيَانًا، فَيُصَلِّي عَلَى بِسَاطٍ لَهَا، وَهُوَ حَصِيرٌ تَنْضَحُهُ بِالْمَاءِ» وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: " أَنَّهُ «دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَرَأَيْته يُصَلِّي عَلَى حَصِيرٍ يَسْجُدُ عَلَيْهِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كُنْت أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْت رِجْلِي، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتهمَا قَالَتْ: وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ» . وَعَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ فِيمَا بَيْنَهُ

وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، عَلَى فِرَاشِ أَهْلِهِ، اعْتِرَاضَ الْجِنَازَةِ» وَفِي لَفْظٍ عَنْ عِرَاكٍ، عَنْ عُرْوَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي وَعَائِشَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ عَلَى الْفِرَاشِ الَّذِي يَنَامَانِ عَلَيْهِ» . وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا لِلْبُخَارِيِّ، اسْتَدَلُّوا بِهَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الْفُرُشِ، وَذَكَرَ اللَّفْظَ الْأَخِيرَ مُرْسَلًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّفْسِيرِ لِلْمُسْنَدِ أَنَّ عُرْوَةَ إنَّمَا سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا سَمِعَ مِنْهَا. وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ وَالسُّجُودِ عَلَى الْمَفَارِشِ إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، كَالْخُمْرَةِ وَالْحَصِيرَةِ وَنَحْوِهِ، وَإِمَّا تَنَازَعُوا فِي كَرَاهَةِ ذَلِكَ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ: كَالْأَنْطَاعِ الْمَبْسُوطَةِ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ، وَكَالْبُسُطِ وَالزَّرَابِيِّ الْمَصْبُوغَةِ مِنْ الصُّوفِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يُرَخِّصُونَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ اسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ أَيْضًا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ، فَإِنَّ الْفِرَاشَ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ أَدَمٍ أَوْ صُوفٍ. وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي عَلَى الْحَصِيرِ، وَعَلَى الْفَرْوَةِ الْمَدْبُوغَةِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوْنٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ الْمُغِيرَةِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ مَجْهُولٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى بِسَاطٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «مَا أُبَالِي لَوْ صَلَّيْت عَلَى خُمُرٍ» . وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الصَّلَاةِ عَلَى مَا يُفْرَشُ - بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ - عُلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا شَيْئًا يَسْجُدُونَ عَلَيْهِ يَتَّقُونَ بِهِ الْحَرَّ؛ وَلَكِنْ طَلَبُوا مِنْهُ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ زِيَادَةً عَلَى مَا كَانَ يُؤَخِّرُهَا فَلَمْ يُجِبْهُمْ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَتَّقِي الْحَرَّ إمَّا بِشَيْءٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، وَإِمَّا بِمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ طَرَفِ ثَوْبِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَفِي حَدِيثِ الْخُمْرَةِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَتَّخِذُ السَّجَّادَةَ، كَمَا قَدْ احْتَجَّ بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ. قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ دَائِمًا، بَلْ أَحْيَانًا، كَأَنَّهُ كَانَ إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ يَتَّقِي بِهَا الْحَرَّ، وَنَحْوَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ مَا قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ رَأَى أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا حُجَّةٌ لِمَنْ يَتَّخِذُ السَّجَّادَةَ يُصَلِّي عَلَيْهَا دَائِمًا. وَالثَّانِي: قَدْ ذَكَرُوا أَنَّهَا كَانَتْ لِمَوْضِعِ سُجُودِهِ، لَمْ تَكُنْ بِمَنْزِلَةِ السَّجَّادَةِ الَّتِي تَسَعُ جَمِيعَ بَدَنِهِ، كَأَنَّهُ كَانَ يَتَّقِي بِهَا الْحَرَّ، هَكَذَا قَالَ أَهْلُ الْغَرِيبِ. قَالُوا: " الْخُمْرَةُ " كَالْحَصِيرِ الصَّغِيرِ، تُعْمَلُ مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ، وَتُنْسَجُ بِالسُّيُورِ وَالْخُيُوطِ، وَهِيَ قَدْرُ مَا يُوضَعُ عَلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْأَنْفُ، فَإِذَا كَبِرَتْ عَنْ ذَلِكَ فَهِيَ حَصِيرٌ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِسِتْرِهَا الْوَجْهَ وَالْكَعْبَيْنِ مِنْ حَرِّ الْأَرْضِ وَبَرْدِهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تُخَمِّرُ وَجْهَ الْمُصَلِّي، أَيْ تَسْتُرُهُ. وَقِيلَ: لِأَنَّ خُيُوطَهَا مَسْتُورَةٌ بِسَعَفِهَا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «جَاءَتْ فَأْرَةٌ فَأَخَذَتْ تَجُرُّ الْفَتِيلَةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْخُمْرَةِ الَّتِي كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهَا فَاحْتَرَقَتْ مِنْهَا مِثْلُ مَوْضِعِ دِرْهَمٍ» قَالَ: وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي إطْلَاقِ الْخُمْرَةِ عَلَى الْكَبِيرِ مِنْ نَوْعِهَا، لَكِنْ هَذَا الْحَدِيثُ لَا تُعْلَمُ صِحَّتُهُ، وَالْقُعُودُ عَلَيْهَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا طَوِيلَةٌ بِقَدْرِ مَا يُصَلِّي عَلَيْهَا، فَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مَا ذَكَرُوهُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْخُمْرَةَ لَمْ تَكُنْ لِأَجْلِ اتِّقَاءِ النَّجَاسَةِ، أَوْ الِاحْتِرَازِ مِنْهَا كَمَا يُعَلِّلُ بِذَلِكَ مَنْ يُصَلِّي عَلَى السَّجَّادَةِ، وَيَقُولُ: إنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ نَجَاسَةِ الْمَسْجِدِ، أَوْ نَجَاسَةِ حُصْرِ الْمَسْجِدِ وَفُرُشِهِ، لِكَثْرَةِ دَوْسِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ، وَأَنَّهُ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي نَعْلَيْهِ، وَهُمْ فِي نِعَالِهِمْ، وَأَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ لِمُخَالَفَةِ الْيَهُودِ، وَأَنَّهُ أَمَرَ إذَا كَانَ بِهَا أَذًى أَنْ تُدَلَّكَ بِالتُّرَابِ، وَيُصَلَّى بِهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ النِّعَالَ تُصِيبُ الْأَرْضَ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ يُصَلَّى فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ الدَّلْكِ، وَإِنْ أَصَابَهَا أَذًى.

فَمَنْ تَكُونُ هَذِهِ شَرِيعَتَهُ وَسُنَّتَهُ كَيْفَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ حَائِلًا لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ فَإِنَّ الْمَرَاتِبَ أَرْبَعٌ. أَمَّا الْغُلَاةُ: مِنْ الْمُوَسْوِسِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَا عَلَى مَا يُفْرَشُ لِلْعَامَّةِ عَلَى الْأَرْضِ، لَكِنْ عَلَى سَجَّادَةٍ وَنَحْوِهَا، وَهَؤُلَاءِ كَيْفَ يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ، وَذَلِكَ أَبْعَدُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِنَّ النِّعَالَ قَدْ لَاقَتْ الطَّرِيقَ الَّتِي مَشَوْا فِيهَا؛ وَاحْتَمَلَ أَنْ تُلْقِيَ النَّجَاسَةَ، بَلْ قَدْ يَقْوَى ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، فَإِذَا كَانُوا لَا يُصَلُّونَ عَلَى الْأَرْضِ مُبَاشِرِينَ لَهَا بِأَقْدَامِهِمْ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ الْأَصْلُ فِيهِ الطَّهَارَةُ، وَلَا يُلَاقُونَهُ إلَّا وَقْتَ الصَّلَاةِ، فَكَيْفَ بِالنِّعَالِ الَّتِي تَكَرَّرَتْ مُلَاقَاتُهَا لِلطُّرُقَاتِ، الَّتِي تَمْشِي فِيهَا الْبَهَائِمُ وَالْآدَمِيُّونَ، وَهِيَ مَظِنَّةُ النَّجَاسَةِ، وَلِهَذَا هَؤُلَاءِ إذَا صَلَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ وَضَعُوا أَقْدَامَهُمْ عَلَى ظَاهِرِ النِّعَالِ؛ لِئَلَّا يَكُونُوا حَامِلِينَ لِلنَّجَاسَةِ، وَلَا مُبَاشِرِينَ لَهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَرَّعُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَا فِي أَسْفَلِهِ نَجَاسَةٌ خِلَافًا مَعْرُوفًا، فَيُفْرَشُ لِأَحَدِهِمْ مَفْرُوشٌ عَلَى الْأَرْضِ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ أَبْعَدُ الْمَرَاتِبِ عَنْ السُّنَّةِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْحَصِيرِ وَنَحْوِهَا دُونَ الْأَرْضِ وَمَا يُلَاقِيهَا. الثَّالِثَةُ: أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَا يُصَلِّي فِي النَّعْلِ الَّذِي تَكَرَّرَ مُلَاقَاتُهَا لِلطُّرُقَاتِ؛ فَإِنَّ طَهَارَةَ مَا يَتَحَرَّى الْأَرْضَ قَدْ يَكُونُ طَاهِرًا، وَاحْتِمَالُ تَنْجِيسِهِ بَعِيدٌ، بِخِلَافِ أَسْفَلِ النَّعْلِ. الرَّابِعَةُ: أَنْ يُصَلِّيَ فِي النَّعْلَيْنِ، وَإِذَا وَجَدَ فِيهِمَا أَذًى دَلَّكَهُمَا بِالتُّرَابِ كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ. فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ كَانَتْ سُنَّتُهُ هِيَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ الرَّابِعَةَ: امْتَنَعَ أَنْ يَسْتَحِبَّ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ حَائِلًا مِنْ سَجَّادَةٍ وَغَيْرِهَا؛ لِأَجْلِ الِاحْتِرَازِ مِنْ النَّجَاسَةِ. فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ حَدِيثِ الْخُمْرَةِ عَلَى أَنَّهُ وَضَعَهَا لِاتِّقَاءِ النَّجَاسَةِ فَبَطَلَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ لِاتِّقَاءِ الْحَرِّ فَهَذَا يُسْتَعْمَلُ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِذَلِكَ، وَإِذَا اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ لَمْ يُفْعَلْ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْخُمْرَةَ لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا الصَّحَابَةَ. وَلَمْ يَكُنْ كُلٌّ مِنْهُمْ يَتَّخِذُ لَهُ خُمْرَةً، بَلْ كَانُوا يَسْجُدُونَ عَلَى التُّرَابِ وَالْحَصَى، كَمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا أَوْ سُنَّةً لَفَعَلُوهُ، وَلَأَمَرَهُمْ بِهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ رُخْصَةً لِأَجْلِ الْحَاجَةِ إلَى مَا يَدْفَعُ الْأَذَى عَنْ

الْمُصَلِّي، وَهُمْ كَانُوا يَدْفَعُونَ الْأَذَى بِثِيَابِهِمْ وَنَحْوِهَا، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّحَابَةَ فِي عَهْدِهِ وَبَعْدَهُ أَفْضَلُ مِنَّا، وَأَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ، وَأَطْوَعُ لِأَمْرِهِ، فَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ مَا يَقْصِدُهُ مُتَّخِذُو السَّجَّادَاتِ، لَكَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: إنَّ الْمَسْجِدَ لَمْ يَكُنْ مَفْرُوشًا بَلْ كَانَ تُرَابًا، وَحَصًى وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْحَصِيرِ، وَفِرَاشِ امْرَأَتِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَمْ يُصَلِّ هُنَاكَ لَا عَلَى خُمْرَةٍ، وَلَا سَجَّادَةٍ وَلَا غَيْرِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَفِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ وَعَائِشَةَ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ فِي بَيْتِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ. وَأَيْضًا فَفِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ الْمُتَقَدِّمِ مَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ. قِيلَ: مَنْ اتَّخَذَ السَّجَّادَةَ لِيَفْرِشَهَا عَلَى حُصْرِ الْمَسْجِدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي هَذَا الْفِعْلِ حُجَّةٌ فِي السُّنَّةِ، بَلْ كَانَتْ الْبِدْعَةُ فِي ذَلِكَ مُنْكَرَةً مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ يَتَّقِي أَحَدُهُمْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْأَرْضِ حَذَرًا أَنْ تَكُونَ نَجِسَةً، مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْأَرْضِ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ، فَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ» . وَلَا يُشْرَعُ اتِّقَاءُ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا لِأَجْلِ هَذَا. بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَتْ الْكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ» . أَوْ كَمَا قَالَ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد «تَبُولُ، وَتُقْبِلُ، وَتُدْبِرُ، وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ احْتَجَّ بِهِ مَنْ رَأَى أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا أَصَابَتْ الْأَرْضَ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِدَلْكِ النَّعْلِ النَّجِسِ بِالْأَرْضِ وَجَعَلَ التُّرَابَ لَهَا طَهُورًا، فَإِذَا كَانَ طَهُورًا فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَأَنْ يَكُونَ طَهُورًا فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ يَقُولُ بِهِ مَنْ لَا يَقُولُ: إنَّ النَّجَاسَةَ تَطْهُرُ

بِالِاسْتِحَالَةِ. فَإِنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ تَطْهُرُ بِذَلِكَ، مَعَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ: إنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ النَّجَاسَةَ تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ، كَمَا هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ، وَغَيْرِهِمْ، فَالْأَمْرُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَظْهَرُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الرَّوْثَ النَّجِسَ إذَا صَارَ رَمَادًا وَنَحْوَهُ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَمَا يَقَعُ فِي الْمَلَّاحَةِ مِنْ دَمٍ وَمَيْتَةٍ وَنَحْوِهِمَا إذَا صَارَ مِلْحًا، فَهُوَ طَاهِرٌ. وَقَدْ اتَّفَقُوا جَمِيعُهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ إذَا اسْتَحَالَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَصَارَتْ خَلًّا طَهُرَتْ. وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَسَائِرُ الْأَعْيَانِ إذَا انْقَلَبَتْ يَقِيسُونَهَا عَلَى الْخَمْرِ الْمُنْقَلِبَةِ. وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا يَعْتَذِرُ بِأَنَّ الْخَمْرَ نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَطَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ كَانَ طَاهِرًا فَلَمَّا اسْتَحَالَ خَمْرًا نَجُسَ، فَإِذَا اسْتَحَالَ خَلًّا طَهُرَ. وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ إنَّمَا نَجُسَتْ أَيْضًا بِالِاسْتِحَالَةِ؛ فَإِنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ يَتَنَاوَلُهُ الْحَيَوَانُ طَاهِرًا فِي حَالِ الْحَيَاةِ ثُمَّ يَمُوتُ فَيَنْجُسُ، وَكَذَلِكَ الْخِنْزِيرُ وَالْكَلْبُ وَالسِّبَاعُ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِنَجَاسَتِهَا إنَّمَا خُلِقَتْ مِنْ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ الطَّاهِرَيْنِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْخَلَّ وَالْمِلْحَ وَنَحْوَهُمَا أَعْيَانٌ طَيِّبَةٌ طَاهِرَةٌ، دَاخِلَةٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] فَلِلْمُحَرَّمِ الْمُنَجِّسِ لَهَا أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ حَرَّمَهَا لِكَوْنِهَا دَاخِلَةً فِي الْمَنْصُوصِ، أَوْ لِكَوْنِهَا فِي مَعْنَى الدَّاخِلَةِ فِيهِ، فَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُنْتَفٍ؛ فَإِنَّ النَّصَّ لَا يَتَنَاوَلُهَا، وَمَعْنَى النَّصِّ الَّذِي هُوَ الْخُبْثُ مُنْتَفٍ فِيهَا، وَلَكِنْ كَانَ أَصْلُهَا نَجَسًا، وَهَذَا لَا يَضُرُّ، فَإِنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ الطَّيِّبَ مِنْ الْخَبِيثِ، وَيُخْرِجُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْوَى فِي الْحُجَّةِ نَصًّا وَقِيَاسًا. وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ يَنْبَنِي طَهَارَةُ الْمَقَابِرِ. فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِنَجَاسَةِ الْمَقْبَرَةِ الْعَتِيقَةِ. يَقُولُونَ: إنَّهُ خَالَطَ التُّرَابَ صَدِيدُ الْمَوْتَى وَنَحْوُهُ، وَاسْتَحَالَ عَنْ ذَلِكَ، فَيُنَجِّسُونَهُ. وَأَمَّا

عَلَى قَوْلِ الِاسْتِحَالَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ فَلَا يَكُونُ التُّرَابُ نَجَسًا، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّ «مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ حَائِطًا لِبَنِي النَّجَّارِ، وَكَانَ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَخَرِبٌ، وَنَخْلٌ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَتْ، وَبِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، وَجُعِلَ قِبْلَةً لِلْمَسْجِدِ» فَهَذَا كَانَ مَقْبَرَةً لِلْمُشْرِكِينَ. ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَمَرَ بِنَبْشِهِمْ لَمْ يَأْمُرْ بِنَقْلِ التُّرَابِ، الَّذِي لَاقَاهُمْ، وَغَيْرِهِ مِنْ تُرَابِ الْمَقْبَرَةِ، وَلَا أَمَرَ بِالِاحْتِرَازِ مِنْ الْعَذِرَةِ؛ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لَكِنْ الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْوَسْوَاسِ مِنْ تَوَقِّي الْأَرْضِ وَتَنْجِيسِهَا بَاطِلٌ بِالنَّصِّ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ فِيهِ نِزَاعٌ، وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَؤُلَاءِ يَفْتَرِشُ أَحَدُهُمْ السَّجَّادَةَ عَلَى مُصَلَّيَاتِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْحُصْرِ وَالْبُسُطِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا يُفْرَشُ فِي الْمَسَاجِدِ، فَيَزْدَادُونَ بِدْعَةً عَلَى بِدْعَتِهِمْ. وَهَذَا الْأَمْرُ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَكُونُ شُبْهَةً لَهُمْ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا؛ بَلْ يُعَلِّلُونَ أَنَّ هَذِهِ الْحُصْرَ يَطَؤُهَا عَامَّةُ النَّاسِ، وَلَعَلَّ أَحَدُهُمْ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَأَى أَوْ سَمِعَ أَنَّهُ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بَالَ صَبِيٌّ، أَوْ غَيْرُهُ عَلَى بَعْضِ حُصْرِ الْمَسْجِدِ، أَوْ رَأَى عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ ذَرْقِ الْحَمَامِ، أَوْ غَيْرِهِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ حُجَّةً فِي الْوَسْوَاسِ. وَقَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مَا زَالَ يَطَأُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ، وَهُنَاكَ مِنْ الْحَمَامِ مَا لَيْسَ بِغَيْرِهِ، وَيَمُرُّ بِالْمَطَافِ مِنْ الْخَلْقِ مَا لَا يَمُرُّ بِمَسْجِدٍ مِنْ الْمَسَاجِدِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الشُّبْهَةُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا أَقْوَى. ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ يُصَلِّي هُنَاكَ عَلَى حَائِلٍ، وَلَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ هَذَا مُسْتَحَبًّا كَمَا زَعَمَهُ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ مُتَّفِقِينَ عَلَى تَرْكِ الْمُسْتَحَبِّ، الْأَفْضَلِ. وَيَكُونُ هَؤُلَاءِ أَطْوَعَ لِلَّهِ وَأَحْسَنَ عَمَلًا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ مَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَأَيْضًا فَقَدْ كَانُوا يَطَئُونَ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنِعَالِهِمْ وَخِفَافِهِمْ، وَيُصَلُّونَ فِيهِ مَعَ قِيَامِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، وَلَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُمْ هَذَا الِاحْتِرَازُ الَّذِي ابْتَدَعَهُ هَؤُلَاءِ، فَعُلِمَ

خَطَؤُهُمْ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَقُولُوا: الْأَرْضُ تَطْهُرُ بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَالِاسْتِحَالَةِ. دُونَ الْحَصِيرِ. فَيُقَالُ: هَذَا إذَا كَانَ حَقًّا فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ. وَذَلِكَ يَظْهَرُ بِالْوَجْهِ الثَّالِثِ، وَهُوَ: أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا يُسْتَحَبُّ الْبَحْثُ عَمَّا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا، وَلَا الِاحْتِرَازُ عَمَّا لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ، لِاحْتِمَالِ وُجُودِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ: إنَّهُ يُسْتَحَبُّ الِاحْتِرَازُ عَنْ الشُّكُوكِ فِيهِ مُطْلَقًا، فَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أَنَّهُ مَرَّ هُوَ وَصَاحِبٌ لَهُ بِمَكَانٍ، فَسَقَطَ عَلَى صَاحِبِهِ مَاءٌ مِنْ مِيزَابٍ، فَنَادَى صَاحِبَهُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ، أَمَاؤُك طَاهِرٌ أَمْ نَجَسٌ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ، لَا تُخْبِرْهُ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ " فَنَهَى عُمَرُ عَنْ إخْبَارِهِ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّفَ مِنْ السُّؤَالِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ. وَهَذَا قَدْ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ: أَنَّ النَّجَاسَةَ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا مَعَ الْعِلْمِ، فَلَوْ صَلَّى وَبِبَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا إلَّا بَعْدَ الصَّلَاةِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَأَحْمَدَ فِي أَقْوَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَلِمَهَا ثُمَّ نَسِيَهَا؛ أَوْ جَهِلَهَا ابْتِدَاءً، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي نَعْلَيْهِ ثُمَّ خَلَعَهُمَا فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، لَمَّا أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ أَنَّ بِهِمَا أَذًى، وَمَضَى فِي صَلَاتِهِ، وَلَمْ يَسْتَأْنِفْهَا، مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ، لَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، فَتَكَلُّفُهُ لِلْخَلْعِ فِي أَثْنَائِهَا، مَعَ أَنَّهُ لَوْلَا الْحَاجَةُ لَكَانَ عَبَثًا أَوْ مَكْرُوهًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ مَعَ الْعِلْمِ؛ وَمَظِنَّةٌ تَدُلُّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْهَا فِي حَالِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد أَيْضًا عَنْ «أُمِّ جَحْدَرٍ الْعَامِرِيَّةِ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ، فَقَالَتْ: كُنْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْنَا شِعَارُنَا؛ وَقَدْ أَلْقَيْنَا فَوْقَهُ كِسَاءً، فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ أَخَذَ الْكِسَاءَ فَلَبِسَهُ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْغَدَاةَ ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ لُمْعَةٌ مِنْ دَمٍ، فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَلِيهَا، فَبَعَثَ بِهَا إلَيَّ مَصْرُورَةً فِي يَدِ غُلَامٍ، فَقَالَ: اغْسِلِي هَذَا، وَأَجِفِّيهَا، وَأَرْسِلِي بِهَا إلَيَّ، فَدَعَوْت بِقَصْعَتِي فَغَسَلْتهَا، ثُمَّ أَجَفَفْتهَا فَأَعَدْتهَا إلَيْهِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِصْفَ النَّهَارِ وَهِيَ عَلَيْهِ» .

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَأْمُرْ الْمَأْمُومِينَ بِالْإِعَادَةِ، وَلَا ذَكَرَ لَهُمْ أَنَّهُ يُعِيدُ، وَأَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ، وَلَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يُعِدْ. وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ مِنْ بَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ، وَبَابُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَعْفُوٌّ فِيهِ عَنْ الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي، كَمَا قَالَ فِي دُعَاءِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ. وَلِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ وَنَحْوَهُ مِنْ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ يُعْفَى فِيهَا عَنْ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ وَنَحْوِهِ، وَحَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ لَمَّا شَمَّتَ الْعَاطِسَ فِي الصَّلَاةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي التَّشَهُّدِ لَمَّا كَانُوا يَقُولُونَ أَوَّلًا: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّشَهُّدِ الْمَشْهُورِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَارْحَمْ مُحَمَّدًا، وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأُمُورَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا يُعْفَى فِيهَا عَنْ النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ، وَنَحْوِهِمَا، مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالنَّجَاسَةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، فَلَا حَاجَةَ بِهِ حِينَئِذٍ عَنْ السُّؤَالِ عَنْ أَشْيَاءَ إنْ أُبْدِيَتْ سَاءَتْهُ، قَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا، وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَبْلُغُ الْحَالُ بِأَحَدِهِمْ إلَى أَنْ يَكْرَهَ الصَّلَاةَ إلَّا عَلَى سَجَّادَةٍ؛ بَلْ قَدْ جَعَلَ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِهَا مُحَرَّمًا، فَيَمْتَنِعُ مِنْهُ امْتِنَاعَهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ. وَهَذَا فِيهِ مُشَابَهَةٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا لَا يُصَلُّونَ إلَّا فِي مَسَاجِدِهِمْ؛ فَإِنَّ الَّذِي لَا يُصَلِّي إلَّا عَلَى مَا يُصْنَعُ لِلصَّلَاةِ مِنْ الْمَفَارِشِ شَبِيهٌ بِاَلَّذِي لَا يُصَلِّي إلَّا فِيمَا يُصْنَعُ لِلصَّلَاةِ مِنْ الْأَمَاكِنِ. وَأَيْضًا فَقَدْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ أَهْلِ الدِّينِ، فَيُعِدُّونَ تَرْكَ ذَلِكَ مِنْ قِلَّةِ الدِّينِ، وَمِنْ قِلَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ، فَيَجْعَلُونَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْهَدْيِ الَّذِي مَا أَنْزَلَ بِهِ مِنْ سُلْطَانٍ أَكْمَلَ مِنْ هَدْيِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ. وَرُبَّمَا تَظَاهَرَ أَحَدُهُمْ بِوَضْعِ السَّجَّادَةِ عَلَى مَنْكِبِهِ، وَإِظْهَارِ الْمَسَابِحِ فِي يَدِهِ، وَجَعَلَهُ مِنْ شِعَارِ الدِّينِ وَالصَّلَاةِ. وَقَدْ

عُلِمَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا شِعَارَهُمْ، وَكَانُوا يُسَبِّحُونَ وَيَعْقِدُونَ عَلَى أَصَابِعِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «اعْقِدْنَ بِالْأَصَابِعِ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ، مُسْتَنْطَقَاتٌ» وَرُبَّمَا عَقَدَ أَحَدُهُمْ التَّسْبِيحَ بِحَصًى أَوْ نَوًى. وَالتَّسْبِيحُ بِالْمَسَابِحِ مِنْ النَّاسِ مَنْ كَرِهَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ، لَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّ التَّسْبِيحَ بِهِ أَفْضَلُ مِنْ التَّسْبِيحِ بِالْأَصَابِعِ، وَغَيْرِهَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُسْتَحَبًّا يَظْهَرُ فَقَصْدُ إظْهَارِ ذَلِكَ وَالتَّمَيُّزُ بِهِ عَلَى النَّاسِ مَذْمُومٌ، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ رِيَاءً فَهُوَ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الرِّيَاءِ، إذْ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَصْنَعُ هَذَا يَظْهَرُ مِنْهُ الرِّيَاءُ وَلَوْ كَانَ رِيَاءً بِأَمْرٍ مَشْرُوعٍ لَكَانَتْ إحْدَى الْمُصِيبَتَيْنِ؛ لَكِنَّهُ رِيَاءٌ لَيْسَ مَشْرُوعًا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2] . قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ. قَالُوا: يَا أَبَا عَلِيٍّ، مَا أَخْلَصُهُ؟ وَأَصْوَبُهُ؟ قَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ، حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا، وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ. وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْفُضَيْلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ فِي الْعَمَلِ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا مَأْمُورًا بِهِ، وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَلَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا، وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا، وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا ". وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} [النساء: 125] . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ. مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَإِنِّي مِنْهُ بَرِيءٌ،

وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ بِهِ» . وَفِي السُّنَنِ عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إلَيْنَا؟ فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ. وَإِيَّاكُمْ وَمُحَدِّثَاتِ الْأُمُورِ. فَإِنْ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» وَفِي لَفْظٍ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ «جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: إنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ تَقْدِيمِ مَفَارِشَ إلَى الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ غَيْرِهَا، قَبْلَ ذَهَابِهِمْ إلَى الْمَسْجِدِ، فَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ مُحَرَّمٌ. وَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَفْرُوشِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ غَصْبُ بُقْعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ بِفَرْشِ ذَلِكَ الْمَفْرُوشِ فِيهَا، وَمَنْعُ غَيْرِهِ مِنْ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ يَسْبِقُونَهُ إلَى الْمَسْجِدِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَمَنْ صَلَّى فِي بُقْعَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ مَعَ مَنْعِ غَيْرِهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا: فَهَلْ هُوَ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَفِي الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَهَذَا مُسْتَنَدُ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي الْمَقَاصِيرِ الَّتِي يُمْنَعُ الصَّلَاةَ فِيهَا عُمُومُ النَّاسِ. وَالْمَشْرُوعُ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّ النَّاسَ يُتِمُّونَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تُصَفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالُوا: وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: يُتِمُّونَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ، فَالْأَوَّلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ

مسألة في الحديث أن النبي صلى على سجادة

قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ، وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إلَيْهِ» . وَالْمَأْمُورُ بِهِ أَنْ يَسْبِقَ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ إلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا قَدَّمَ الْمَفْرُوشَ وَتَأَخَّرَ هُوَ فَقَدْ خَالَفَ الشَّرِيعَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ تَأَخُّرِهِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالتَّقَدُّمِ. وَمِنْ جِهَةِ غَصْبِهِ لِطَائِفَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَمَنْعِهِ السَّابِقِينَ إلَى الْمَسْجِدِ أَنْ يُصَلُّوا فِيهِ، وَأَنْ يُتِمُّوا الصَّفَّ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، ثُمَّ إنَّهُ يَتَخَطَّى النَّاسَ إذَا حَضَرَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «الَّذِي يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، يَتَّخِذُ جِسْرًا إلَى جَهَنَّمَ» وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلرَّجُلِ: «اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ» . ثُمَّ إذَا فَرَشَ هَذَا فَهَلْ لِمَنْ سَبَقَ إلَى الْمَسْجِدِ أَنْ يَرْفَعَ ذَلِكَ وَيُصَلِّ مَوْضِعَهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ لِغَيْرِهِ رَفْعَهُ، وَالصَّلَاةَ مَكَانَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا السَّابِقَ يَسْتَحِقُّ الصَّلَاةَ فِي ذَلِكَ الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَهُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْلِ هَذَا الْمَأْمُورِ وَاسْتِيفَاءِ هَذَا الْحَقِّ إلَّا بِرَفْعِ ذَلِكَ الْمَفْرُوشِ. وَمَا لَا يَتِمُّ الْمَأْمُورُ إلَّا بِهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ. وَأَيْضًا فَذَلِكَ الْمَفْرُوشُ وَضْعُهُ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ الْغَصْبِ، وَذَلِكَ مُنْكَرٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» . لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَئُولَ إلَى مُنْكَرٍ أَعْظَمَ مِنْهُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ. [مَسْأَلَةٌ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى عَلَى سَجَّادَةٍ] 127 - 43 مَسْأَلَةٌ: فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى سَجَّادَةٍ» فَقَدْ أَوْرَدَ شَخْصٌ

مسألة من تحجر موضعا من المسجد بسجادة أو بساط

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، ائْتِينِي بِالْخُمْرَةِ فَأَتَتْ بِهِ. فَصَلَّى عَلَيْهِ» . فَأَجَابَ: لَفْظُ الْحَدِيثِ " أَنَّهُ طَلَبَ الْخُمْرَةَ " وَالْخُمْرَةُ: شَيْءٌ يُصْنَعُ مِنْ الْخُوصِ، فَسَجَدَ عَلَيْهِ يَتَّقِي بِهِ حَرَّ الْأَرْضِ، وَأَذَاهَا. فَإِنَّ حَدِيثَ الْخُمْرَةِ صَحِيحٌ. وَأَمَّا اتِّخَاذُهَا كَبِيرَةً يُصَلِّي عَلَيْهَا يَتَّقِي بِهَا النَّجَاسَةَ وَنَحْوَهَا، فَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَّخِذُ سَجَّادَةً يُصَلِّي عَلَيْهَا، وَلَا الصَّحَابَةُ؛ بَلْ كَانُوا يُصَلُّونَ حُفَاةً وَمُنْتَعِلِينَ، وَيُصَلُّونَ عَلَى التُّرَابِ وَالْحَصِيرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ» ، وَقَالَ: «إنَّ الْيَهُودَ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ، فَخَالِفُوهُمْ» وَصَلَّى مَرَّةً فِي نَعْلَيْهِ، وَأَصْحَابُهُ فِي نِعَالِهِمْ فَخَلَعَهُمَا فِي الصَّلَاةِ، فَخَلَعُوا، فَقَالَ: «مَا لَكُمْ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ؟ قَالُوا: رَأَيْنَاكَ خَلَعْتَ فَخَلَعْنَا. قَالَ: إنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا أَذًى، فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فِي نَعْلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَذًى فَلْيُدَلِّكْهُمَا بِالتُّرَابِ، فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ» فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ يُصَلُّوا فِي نِعَالِهِمْ؛ وَلَا يَخْلَعُونَهَا، بَلْ يَطَئُونَ بِهَا عَلَى الْأَرْضِ، وَيُصَلُّونَ فِيهَا، فَكَيْفَ يُظَنُّ أَنَّهُ كَانَ يَتَّخِذُ سَجَّادَةً يَفْرِشُهَا عَلَى حَصِيرٍ، أَوْ غَيْرِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَيْهَا؟ فَهَذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَفْعَلُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَيُنْقَلُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَفَرَشَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَمَرَ بِحَبْسِهِ. وَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا فِي مَسْجِدِنَا بِدْعَةً؟ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ تَحَجَّرَ مَوْضِعًا مِنْ الْمَسْجِدِ بِسَجَّادَةٍ أَوْ بِسَاطٍ] 128 - 44 مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ عَمَّنْ تَحَجَّرَ مَوْضِعًا مِنْ الْمَسْجِدِ. بِسَجَّادَةٍ أَوْ بِسَاطٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. هَلْ هُوَ حَرَامٌ؟ وَإِذَا صَلَّى إنْسَانٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ هَلْ يُكْرَهُ؟ أَمْ لَا؟

مسألة دخول النصراني أو اليهودي المسجد

أَجَابَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَحَجَّرَ مِنْ الْمَسْجِدِ شَيْئًا لَا سَجَّادَةً يَفْرِشُهَا قَبْلَ حُضُورِهِ، وَلَا بِسَاطًا، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ. وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لَكِنْ يَرْفَعُهَا وَيُصَلِّي مَكَانَهَا؛ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ دُخُول النَّصْرَانِيِّ أَوْ الْيَهُودِيِّ الْمَسْجِدِ] 129 - 45 مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ: عَنْ دُخُولِ النَّصْرَانِيِّ أَوْ الْيَهُودِيِّ فِي الْمَسْجِدِ بِإِذْنِ الْمُسْلِمِ، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَوْ يَتَّخِذُهُ طَرِيقًا. فَهَلْ يَجُوزُ؟ أَجَابَ: لَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّخِذَ الْمَسْجِدَ طَرِيقًا، فَكَيْفَ إذَا اتَّخَذَهُ الْكَافِرُ طَرِيقًا، فَإِنَّ هَذَا يُمْنَعُ بِلَا رَيْبٍ. وَأَمَّا إذَا كَانَ دَخَلَهُ ذِمِّيٌّ لِمَصْلَحَةٍ، فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَفِي اشْتِرَاطِ إذْنِ الْمُسْلِمِ وَجْهَانِ، فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ. [مَسْأَلَةٌ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ فِيهِ قَبْرٌ] 130 - 46 مَسْأَلَةٌ: هَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ فِيهِ قَبْرٌ، وَالنَّاسُ تَجْتَمِعُ فِيهِ لِصَلَاتَيْ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُمَهَّدُ الْقَبْرُ، أَوْ يُعْمَلُ عَلَيْهِ حَاجِزٌ، أَوْ حَائِطٌ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ لَا يُبْنَى مَسْجِدٌ عَلَى قَبْرٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ. فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» . وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْنُ مَيِّتٍ فِي مَسْجِدٍ. فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ قَبْلَ الدَّفْنِ غُيِّرَ: إمَّا بِتَسْوِيَةِ الْقَبْرِ، وَإِمَّا بِنَبْشِهِ إنْ كَانَ جَدِيدًا.

مسألة ليس لأحد من الناس أن يختص بشيء من المسجد

وَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ بُنِيَ بَعْدَ الْقَبْرِ: فَإِمَّا أَنْ يُزَالَ الْمَسْجِدُ، وَإِمَّا أَنْ تُزَالَ صُورَةُ الْقَبْرِ، فَالْمَسْجِدُ الَّذِي عَلَى الْقَبْرِ لَا يُصَلَّى فِيهِ فَرْضٌ، وَلَا نَفْلٌ، فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. [مَسْأَلَةٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَخْتَصَّ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَسْجِدِ] 131 - 47 مَسْأَلَةٌ: فِي عَنْ جَمَاعَةٍ نَازِلِينَ فِي الْجَامِعِ مُقِيمِينَ لَيْلًا وَنَهَارًا وَأَكْلُهُمْ وَشُرْبُهُمْ وَنَوْمُهُمْ وَقُمَاشُهُمْ وَأَثَاثُهُمْ الْجَمِيعُ فِي الْجَامِعِ، وَيَمْنَعُونَ مَنْ يَنْزِلُ عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِمْ. وَحَكَرُوا الْجَامِعَ ثُمَّ إنَّ جَمَاعَةً دَخَلُوا بَعْضَ الْمَقَاصِيرِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ احْتِسَابًا فَمَنَعَهُمْ بَعْضُ الْمُجَاوِرِينَ وَقَالَ هَذَا مَوْضِعُنَا. فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ أَفْتَوْنَا مَأْجُورِينَ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَخْتَصَّ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَسْجِدِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْهُ دَائِمًا؛ بَلْ قَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إيطَانٍ كَإِيطَانِ الْبَعِيرِ» . قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ أَنْ يَتَّخِذَ الرَّجُلُ مَكَانًا مِنْ الْمَسْجِدِ لَا يُصَلِّي إلَّا فِيهِ، فَإِذَا كَانَ لَيْسَ لَهُ مُلَازَمَةُ مَكَان بِعَيْنِهِ لِلصَّلَاةِ كَيْفَ بِمَنْ يَتَحَجَّرُ بُقْعَةً دَائِمًا. هَذَا لَوْ كَانَ إنَّمَا يُفْعَلُ فِيهَا مَا يُبْنَى لَهُ الْمَسْجِدُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَكَيْفَ إذَا اتَّخَذَ الْمَسْجِدَ بِمَنْزِلَةِ الْبُيُوتِ فِيهِ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَنَوْمُهُ وَسَائِرُ أَحْوَالِهِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَمْ تُبْنَ الْمَسَاجِدُ لَهُ دَائِمًا؛ فَإِنَّ هَذَا يُمْنَعُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّمَا وَقَعَتْ الرُّخْصَةُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ لِذَوِي الْحَاجَةِ، مِثْلُ مَا كَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ: كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي مُهَاجِرًا إلَى الْمَدِينَةِ، وَلَيْسَ لَهُ مَكَانٌ يَأْوِي إلَيْهِ، فَيُقِيمُ بِالصُّفَّةِ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ لَهُ أَهْلٌ أَوْ مَكَانٌ يَأْوِي إلَيْهِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ. وَمِثْلُ الْمِسْكِينَةِ الَّتِي كَانَتْ تَأْوِي إلَى الْمَسْجِدِ، وَكَانَتْ تَقُمُّهُ. وَمِثْلُ مَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ عَزَبٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْتٌ يَأْوِي إلَيْهِ حَتَّى تَزَوَّجَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لَمَّا تَقَاوَلَ هُوَ وَفَاطِمَةُ ذَهَبَ إلَى الْمَسْجِدِ فَنَامَ فِيهِ. فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرِ الْيَسِيرِ، وَذَوِي الْحَاجَاتِ وَبَيْنَ مَا يَصِيرُ عَادَةً وَيَكْثُرُ، وَمَا يَكُونُ لِغَيْرِ ذَوِي الْحَاجَاتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَتَّخِذُوا الْمَسْجِدَ بَيْتًا وَمَقِيلًا. هَذَا وَلَمْ يَفْعَلْ فِيهِ إلَّا النَّوْمَ، فَكَيْفَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأُمُورِ؟ ، وَالْعُلَمَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي الْمُعْتَكِفِ هَلْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْكُلَ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ فِي بَيْتِهِ، مَعَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِمُلَازَمَةِ

الْمَسْجِدِ، وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهُ إلَّا لِحَاجَةٍ، وَالْأَئِمَّةُ كَرِهُوا اتِّخَاذَ الْمَقَاصِيرِ فِي الْمَسْجِدِ، لَمَّا أَحْدَثَهَا بَعْضُ الْمُلُوكِ؛ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ خَاصَّةً، وَأُولَئِكَ إنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ فِيهَا خَاصَّةً. فَأَمَّا اتِّخَاذُهَا لِلسُّكْنَى وَالْمَبِيتِ وَحِفْظِ الْقُمَاشِ وَالْمَتَاعِ فِيهَا فَمَا عَلِمْتُ مُسْلِمًا تَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا يَجْعَلُ الْمَسْجِدَ بِمَنْزِلَةِ الْفَنَادِقِ الَّتِي فِيهَا مَسَاكِنُ مُتَحَجِّرَةٌ، وَالْمَسْجِدُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، لَا يَخْتَصُّ أَحَدٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ، إلَّا بِمِقْدَارِ لُبْثِهِ لِلْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ، فَمَنْ سَبَقَ إلَى بُقْعَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ لِصَلَاةٍ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ تَعَلُّمِ عِلْمٍ أَوْ اعْتِكَافٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يَقْضِيَ ذَلِكَ الْعَمَلَ، لَيْسَ لِأَحَدٍ إقَامَتُهُ مِنْهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَلَكِنْ يُوَسِّعُ وَيُفْسِحُ. وَإِذَا انْتَقَضَ وُضُوءُهُ ثُمَّ عَادَ فَهُوَ أَحَقُّ بِمَكَانِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَّ ذَلِكَ. قَالَ: «إذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . وَأَمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِالْمُقَامِ وَالسُّكْنَى فِيهِ، كَمَا يَخْتَصُّ النَّاسُ بِمَسَاكِنِهِمْ، فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنْ الْمُقَامِ فِي الْمَسْجِدِ مُقَامُ الْمُعْتَكِفِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ يَحْتَجِرُ لَهُ حَصِيرًا فَيَعْتَكِفُ فِيهِ، وَكَانَ يَعْتَكِفُ فِي قُبَّةٍ وَكَذَلِكَ كَانَ النَّاسُ يَعْتَكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ، وَيَضْرِبُونَ لَهُمْ فِيهِ الْقِبَابَ فَهَذَا مُدَّةُ الِاعْتِكَافِ خَاصَّةً، وَالِاعْتِكَافُ عِبَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَلَيْسَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَالْمَشْرُوعُ لَهُ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ إلَّا بِقُرْبَةٍ إلَى اللَّهِ، وَاَلَّذِي يَتَّخِذُهُ سَكَنًا لَيْسَ مُعْتَكِفًا بَلْ يَشْتَمِلُ عَلَى فِعْلِ الْمَحْظُورِ، وَعَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْمَشْرُوعِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْحَالِ مَنَعَ النَّاسَ مِنْ أَنْ يَفْعَلُوا فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ مَا بُنِيَ لَهُ الْمَسْجِدُ مِنْ صَلَاةٍ وَقِرَاءَةٍ وَذِكْرٍ، كَمَا فِي الِاسْتِفْتَاءِ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَمْنَعُ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ، كَغَيْرِهِ مِنْ الْقُرَّاءِ، وَاَلَّذِي فَعَلَهُ هَذَا الظَّالِمُ مُنْكَرٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: اتِّخَاذُ الْمَسْجِدِ مَبِيتًا وَمَقِيلًا، وَسَكَنًا كَبُيُوتِ الْخَانَاتِ، وَالْفَنَادِقِ. وَالثَّانِي: مَنْعُهُ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ حَيْثُ يُشْرَعُ.

وَالثَّالِثُ: مَنْعُ بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنْ احْتَجَّ بِأَنَّ أُولَئِكَ يَقْرَءُونَ لِأَجْلِ الْوَقْفِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ، كَانَ هَذَا الْعُذْرُ أَقْبَحَ مِنْ الْمَنْعِ، لِأَنَّ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مُحْتَسِبًا أَوْلَى بِالْمُعَاوَنَةِ مِمَّنْ يَقْرَؤُهُ لِأَجْلِ الْوَقْفِ، وَلَيْسَ لِلْوَاقِفِ أَنْ يُغَيِّرَ دِينَ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمُجَرَّدِ وَقْفِهِ يَصِيرُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ فِي الْمَسْجِدِ حَقٌّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلِهَذَا لَوْ أَرَادَ الْوَاقِفُ أَنْ يَحْتَجِرَ بُقْعَةً مِنْ الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ وَقْفِهِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ عَيَّنَ بُقْعَةً مِنْ الْمَسْجِدِ لِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ تَعْلِيمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ تَتَعَيَّنْ تِلْكَ الْبُقْعَةُ، كَمَا لَا تَتَعَيَّنُ فِي النَّذْرِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَعْتَكِفَ فِي بُقْعَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ لَمْ تَتَعَيَّنْ تِلْكَ الْبُقْعَةُ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَعْتَكِفَ فِي سَائِرٍ بِقَاعٍ الْمَسْجِدِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَكِنْ هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ فَلَا يُوجِبُونَ عَلَيْهِ كَفَّارَةً. وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ طَاعَةً بِدُونِ النَّذْرِ، وَإِلَّا فَالنَّذْرُ لَا يَجْعَلُ مَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ عِبَادَةً، وَالنَّاذِرُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُوقِفَ إلَّا مَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» . وَلِهَذَا لَوْ نَذَرَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ. وَفِي الْكَفَّارَةِ قَوْلَانِ أَوْجَبَهَا فِي الْمَشْهُورِ أَحْمَدُ، وَلَمْ يُوجِبْهَا الثَّلَاثَةُ. وَكَذَلِكَ شَرْطُ الْوَاقِفِ وَالْبَائِعِ وَغَيْرِهِمَا. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ: «مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» . وَهَذَا كُلُّهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُغَيِّرَ شَرِيعَتَهُ الَّتِي بَعَثَ بِهَا رَسُولَهُ، وَلَا يَبْتَدِعَ فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَلَا يُغَيِّرَ أَحْكَامَ الْمَسَاجِدِ عَنْ حُكْمِهَا الَّذِي شَرَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة النوم في المسجد والكلام والمشي بالنعال فيه

[مَسْأَلَةٌ النَّوْم فِي الْمَسْجِدِ وَالْكَلَامِ وَالْمَشْيِ بِالنِّعَالِ فِيهِ] مَسْأَلَةٌ: فِي النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْكَلَامِ وَالْمَشْيِ بِالنِّعَالِ فِي أَمَاكِنِ الصَّلَاةِ هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: أَمَّا النَّوْمُ أَحْيَانًا لِلْمُحْتَاجِ مِثْلِ الْغَرِيبِ وَالْفَقِيرِ الَّذِي لَا مَسْكَنَ لَهُ فَجَائِزٌ، وَأَمَّا اتِّخَاذُهُ مَبِيتًا وَمَقِيلًا فَيَنْهَوْنَ عَنْهُ. وَأَمَّا الْكَلَامُ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي الْمَسْجِدِ فَحَسَنٌ، وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا. وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ. وَيُكْرَهُ فِيهِ فُضُولُ الْمُبَاحِ. وَأَمَّا الْمَشْيُ بِالنِّعَالِ فَجَائِزٌ، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَمْشُونَ بِنِعَالِهِمْ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إذَا أَتَى الْمَسْجِدَ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَنْظُرَ فِي نَعْلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ بِهِمَا أَذًى فَلْيُدَلِّكْهُمَا بِالتُّرَابِ، فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ السِّوَاك وَتَسْرِيح اللِّحْيَةِ فِي الْمَسْجِدِ] 133 - 49 مَسْأَلَةٌ: فِي السِّوَاكِ وَتَسْرِيحِ اللِّحْيَةِ فِي الْمَسْجِدِ: هَلْ هُوَ جَائِزٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: أَمَّا السِّوَاكُ فِي الْمَسْجِدِ فَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ كَرِهَهُ بَلْ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَسْتَاكُونَ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَبْصُقَ الرَّجُلُ فِي ثِيَابِهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَمْتَخِطَ فِي ثِيَابِهِ، بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتَةِ عَنْهُ، بَلْ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ فِي الْمَسْجِدِ بِلَا كَرَاهَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. فَإِذَا جَازَ الْوُضُوءُ فِيهِ، مَعَ أَنَّ الْوُضُوءَ يَكُونُ فِيهِ السِّوَاكُ، وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ، وَالصَّلَاةُ يُسْتَاكُ عِنْدَهَا فَكَيْفَ يُكْرَهُ السِّوَاكُ؟ ، وَإِذَا جَازَ الْبُصَاقُ وَالِامْتِخَاطُ فِيهِ، فَكَيْفَ يُكْرَهُ السِّوَاكُ. وَأَمَّا التَّسْرِيحُ: فَإِنَّمَا كَرِهَهُ بَعْضُ النَّاسِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَعْرَ الْإِنْسَانِ الْمُنْفَصِلِ نَجَسٌ، وَيُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ شَيْءٌ نَجَسٌ، أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَالْقَذَاةِ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ شَعْرَ الْإِنْسَانِ الْمُنْفَصِلِ عَنْهُ طَاهِرٌ، كَمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ رَأْسَهُ، وَأَعْطَى نِصْفَهُ لِأَبِي طَلْحَةَ، وَنِصْفَهُ قَسَّمَهُ بَيْنَ النَّاسِ. وَبَابُ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ يُشَارِكُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ أُمَّتَهُ؛ بَلْ الْأَصْلُ أَنَّهُ أُسْوَةٌ لَهُمْ فِي

مسألة ذبح الضحايا في المسجد

جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، إلَّا مَا قَامَ فِيهِ دَلِيلٌ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ بِهِ. وَأَيْضًا الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ شُعُورَ الْمَيْتَةِ طَاهِرَةٌ. بَلْ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ جَمِيعَ الشُّعُورِ طَاهِرَةٌ حَتَّى شَعْرُ الْخِنْزِيرِ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ إذَا سَرَّحَ شَعْرَهُ وَجَمَعَ الشَّعْرَ فَلَمْ يَتْرُكْ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَأَمَّا تَرْكُ شَعْرِهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَهَذَا يُكْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَجَسًا، فَإِنَّ الْمَسْجِدَ يُصَانُ حَتَّى عَنْ الْقَذَاةِ، الَّتِي تَقَعُ فِي الْعَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ ذَبْحُ الضَّحَايَا فِي الْمَسْجِدِ] 134 - 50 مَسْأَلَةٌ: فِي الضَّحَايَا: هَلْ يَجُوزُ ذَبْحُهَا فِي الْمَسْجِدِ؟ وَهَلْ تُغْسَلُ الْمَوْتَى، وَتُدْفَنُ الْأَجِنَّةُ فِيهَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ تَغْيِيرُ وَقْفِهَا مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ تَعُودُ عَلَيْهَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْغُسْلُ؟ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ، فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُهُ، وَلَا يَأْتَمِرُ بِأَمْرِ اللَّهِ؟ وَلَا يَنْتَهِي عَمَّا نَهَى عَنْهُ؟ وَإِنْ أَفْتَاهُ عَالِمٌ سَبَّهُ. وَهَلْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ زَجْرُهُ وَمَنْعُهُ، وَإِعَادَةُ الْوَقْفِ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ؟ الْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُذْبَحَ فِي الْمَسْجِدِ: لَا ضَحَايَا وَلَا غَيْرُهَا، كَيْفَ وَالْمَجْزَرَةُ الْمُعَدَّةُ لِلذَّبْحِ قَدْ كُرِهَ الصَّلَاةُ فِيهَا، إمَّا كَرَاهِيَةَ تَحْرِيمٍ، وَإِمَّا كَرَاهِيَةَ تَنْزِيهٍ؛ فَكَيْفَ يُجْعَلُ الْمَسْجِدُ مُشَابِهًا لِلْمَجْزَرَةِ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ تَلْوِيثِ الدَّمِ لِلْمَسْجِدِ مَا يَجِبُ تَنْزِيهُهُ. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَنَ فِي الْمَسْجِدِ مَيِّتٌ: لَا صَغِيرٌ، وَلَا كَبِيرٌ وَلَا جَنِينٌ، وَلَا غَيْرُهُ. فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَا يَجُوزُ تَشْبِيهُهَا بِالْمَقَابِرِ. وَأَمَّا تَغْيِيرُ الْوَقْفِ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ؛ فَلَا يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ فِيهَا. وَأَمَّا الْوُضُوءُ فَفِي كَرَاهَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَرْجَحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ إلَّا أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ امْتِخَاطٌ أَوْ بُصَاقٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ الْبُصَاقَ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا، فَكَيْفَ بِالْمُخَاطِ.

مسألة من يعلم الصبيان في المسجد هل له البيات فيه

وَمَنْ لَمْ يَأْتَمِرْ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وَيَنْتَهِ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، بَلْ يَرُدُّ عَلَى الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ الْعُقُوبَةَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تُوجِبُ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ أَدَاءَ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ. وَلَا تُغَسَّلُ الْمَوْتَى فِي الْمَسْجِدِ، وَإِذَا أَحْدَثَ فِي الْمَسْجِدِ مَا يَضُرُّ بِالْمُصَلِّينَ أُزِيلَ مَا يَضُرُّهُمْ، وَعُمِلَ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، إمَّا إعَادَتُهُ إلَى الصِّفَةِ الْأُولَى، أَوْ أَصْلَحَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ فِي الْمَسْجِدِ هَلْ لَهُ الْبَيَاتُ فِيهِ] 135 - 51 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ فِي الْمَسْجِدِ: هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْبَيَاتُ فِي الْمَسْجِدِ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. يُصَانُ الْمَسْجِدُ عَمَّا يُؤْذِيهِ، وَيُؤْذِي الْمُصَلِّينَ فِيهِ، حَتَّى رَفْعُ الصَّبِيَّانِ أَصْوَاتَهُمْ فِيهِ؛ وَكَذَلِكَ تَوْسِيخُهُمْ لِحُصْرِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ وَقْتَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَظِيمِ الْمُنْكَرَاتِ. وَأَمَّا الْمَبِيتُ فِيهِ: فَإِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ كَالْغَرِيبِ الَّذِي لَا أَهْلَ لَهُ، وَالْغَرِيبُ الْفَقِيرُ الَّذِي لَا بَيْتَ لَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، إذَا كَانَ يَبِيتُ فِيهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ فَلَا بَأْسَ، وَأَمَّا مَنْ اتَّخَذَهُ مَبِيتًا وَمَقِيلًا، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ التَّشْوِيشُ عَلَى الْقُرَّاءِ فِي الْمَسْجِد] 136 - 52 سُئِلَ: عَنْ مَسْجِدٍ يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ وَالتَّلْقِينُ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، ثُمَّ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ شُهُودٌ يُكْثِرُونَ الْكَلَامَ، وَيَقَعُ التَّشْوِيشُ عَلَى الْقُرَّاءِ، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ. أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُؤْذِيَ أَهْلَ الْمَسْجِدِ: أَهْلَ الصَّلَاةِ، أَوْ الْقِرَاءَةِ، أَوْ الذِّكْرِ، أَوْ الدُّعَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لَهُ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا عَلَى بَابِهِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ مَا يُشَوِّشُ عَلَى هَؤُلَاءِ. بَلْ قَدْ خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَيَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ. فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، كُلُّكُمْ يُنَاجِي

مسألة السؤال في الجامع

رَبَّهُ، فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ» ، فَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى الْمُصَلِّيَ أَنْ يَجْهَرَ عَلَى الْمُصَلِّي، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ؟ ؛ وَمَنْ فَعَلَ مَا يُشَوِّشُ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ، أَوْ فَعَلَ مَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ، مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ السُّؤَال فِي الْجَامِعِ] 137 - 53 مَسْأَلَةٌ: فِي السُّؤَالِ فِي الْجَامِعِ: هَلْ هُوَ حَلَالٌ؟ أَمْ حَرَامٌ؟ أَوْ مَكْرُوهٌ؟ وَأَنَّ تَرْكَهُ أَوْجَبُ مِنْ فِعْلِهِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَصْلُ السُّؤَالِ مُحَرَّمٌ فِي الْمَسْجِدِ وَخَارِجِ الْمَسْجِدِ، إلَّا لِضَرُورَةٍ، فَإِنْ كَانَ بِهِ ضَرُورَةٌ وَسَأَلَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا بِتَخَطِّيهِ رِقَابَ النَّاسِ، وَلَا غَيْرِ تَخَطِّيهِ، وَلَمْ يَكْذِبْ فِيمَا يَرْوِيهِ، وَيَذْكُرُ مِنْ حَالِهِ، وَلَمْ يَجْهَرْ جَهْرًا يَضُرُّ النَّاسَ، مِثْلُ أَنْ يَسْأَلَ وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ، أَوْ وَهُمْ يَسْمَعُونَ عِلْمًا يَشْغَلُهُمْ بِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ جَازَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَحِلّ النِّيَّة فِي الْعِبَادَات] 138 - 54 سُئِلَ: عَنْ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهَلْ مَحَلُّ ذَلِكَ الْقَلْبُ؟ أَمْ اللِّسَانُ؟ وَهَلْ يَجِبُ أَنْ نَجْهَرَ بِالنِّيَّةِ؟ أَوْ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ؟ أَوْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. أَوْ غَيْرُهَا؟ أَوْ قَالَ: إنَّ صَلَاةَ الْجَاهِرِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْخَافِتِ. إمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا، وَهَلْ التَّلَفُّظُ بِهَا وَاجِبٌ أَمْ لَا؟ أَوْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ: إنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِالنِّيَّةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؟ . وَإِذَا كَانَتْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ، فَهَلْ يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِهَا؟ وَمَا السُّنَّةُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ؟ وَإِذَا أَصَرَّ عَلَى الْجَهْرِ بِهَا مُعْتَقِدًا أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ: فَهَلْ هُوَ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ؟ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ عَلَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يَنْتَهِ؟ وَابْسُطُوا لَنَا الْجَوَابَ.

أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. مَحَلُّ النِّيَّةِ الْقَلْبُ دُونَ اللِّسَانِ، بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ: الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالْعِتْقِ وَالْجِهَادِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْ تَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ بِخِلَافِ مَا نَوَى فِي قَلْبِهِ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِمَا نَوَى بِقَلْبِهِ، لَا بِاللَّفْظِ، وَلَوْ تَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ تَحْصُلْ النِّيَّةُ فِي قَلْبِهِ لَمْ يُجْزِئْ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ النِّيَّةَ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْقَصْدِ؛ وَلِهَذَا تَقُولُ الْعَرَبُ نَوَاك اللَّهُ بِخَيْرٍ: أَيْ قَصَدَكَ بِخَيْرٍ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» مُرَادُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنِّيَّةِ النِّيَّةُ الَّتِي فِي الْقَلْبِ؛ دُونَ اللِّسَانِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ: الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَغَيْرِهِمْ. وَسَبَبُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ سَبَبَهُ أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا: أُمُّ قَيْسٍ، فَسُمِّيَ مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ. فَخَطَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ، وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ. وَهَذَا كَانَ نِيَّتُهُ فِي قَلْبِهِ. وَالْجَهْرُ بِالنِّيَّةِ لَا يَجِبُ وَلَا يُسْتَحَبُّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ الْجَاهِرُ بِالنِّيَّةِ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ، إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مِنْ الشَّرْعِ: فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ، يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ، وَإِلَّا الْعُقُوبَةُ عَلَى ذَلِكَ، إذَا أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ تَعْرِيفِهِ وَالْبَيَانِ لَهُ، لَا سِيَّمَا إذَا آذَى مَنْ إلَى جَانِبِهِ بِرَفْعِ صَوْتِهِ، أَوْ كَرَّرَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: إنَّ صَلَاةَ الْجَاهِرِ بِالنِّيَّةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْخَافِتِ بِهَا، سَوَاءٌ كَانَ إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا، أَوْ مُنْفَرِدًا. وَأَمَّا التَّلَفُّظُ بِهَا سِرًّا فَلَا يَجِبُ أَيْضًا، عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ: إنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ وَاجِبٌ، لَا فِي طَهَارَةٍ وَلَا فِي صَلَاةٍ، وَلَا صِيَامٍ، وَلَا حَجٍّ. وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ: أُصَلِّي الصُّبْحَ، وَلَا أُصَلِّي الظُّهْرَ، وَلَا الْعَصْرَ، وَلَا إمَامًا وَلَا مَأْمُومًا، وَلَا يَقُولُ بِلِسَانِهِ: فَرْضًا وَلَا نَفْلًا، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ، بَلْ يَكْفِي أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ فِي قَلْبِهِ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الْقُلُوبِ.

وَكَذَلِكَ نِيَّةُ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ وَالْوُضُوءِ يَكْفِي فِيهِ نِيَّةُ الْقَلْبِ. وَكَذَلِكَ نِيَّةُ الصِّيَامِ فِي رَمَضَانَ لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا صَائِمٌ غَدًا. بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ: بَلْ يَكْفِيهِ نِيَّةُ قَلْبِهِ. وَالنِّيَّةُ تَتْبَعُ الْعِلْمَ، فَمَنْ عَلِمَ مَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَهُ، فَإِذَا عَلِمَ الْمُسْلِمُ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ، وَهُوَ مِمَّنْ يَصُومُ رَمَضَانَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ غَدًا الْعِيدَ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ: فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الصَّلَاةَ الْقَائِمَةَ صَلَاةُ الْفَجْرِ، أَوْ الظُّهْرِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْفَجْرِ، أَوْ الظُّهْرِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَنْوِي تِلْكَ الصَّلَاةَ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا الْفَجْرُ، وَيَنْوِيَ الظُّهْرَ. وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُصَلِّي إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ، وَالنِّيَّةُ تَتْبَعُ الْعِلْمَ وَالِاعْتِقَادَ اتِّبَاعًا ضَرُورِيًّا، إذَا كَانَ يَعْلَمُ مَا يُرِيدُ [أَنْ] يَفْعَلَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَهُ. فَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ صَلَاةُ الظُّهْرِ، امْتَنَعَ أَنْ يَقْصِدَ غَيْرَهَا، وَلَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ خَرَجَ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَلَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ خَرَجَ فَنَوَى الصَّلَاةَ بَعْدَ الْوَقْتِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا فِي الْوَقْتِ أَجْزَأَتْهُ الصَّلَاةُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَإِذَا كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْجِنَازَةِ - أَيَّ جِنَازَةٍ كَانَتْ - فَظَنَّهَا رَجُلًا، وَكَانَتْ امْرَأَةً، صَحَّتْ صَلَاتُهُ بِخِلَافِ مَا نَوَى. وَإِذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُهُ فُلَانًا، وَصَلَّى عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ فُلَانٌ، فَتَبَيَّنَ غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ هُنَا لَمْ يَقْصِدْ الصَّلَاةَ عَلَى ذَلِكَ الْحَاضِرِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ لَا يَجِبُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ: وَلَكِنْ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ خَرَّجَ وَجْهًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِوُجُوبِ ذَلِكَ، وَغَلَّطَهُ جَمَاهِيرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ غَلَطُهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ النُّطْقِ فِي أَوَّلِهَا، فَظَنَّ هَذَا الْغَالِطُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ النُّطْقَ بِالنِّيَّةِ، فَغَلَّطَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ جَمِيعُهُمْ، وَقَالُوا: إنَّمَا أَرَادَ

النُّطْقَ بِالتَّكْبِيرِ، لَا بِالنِّيَّةِ. وَلَكِنَّ التَّلَفُّظَ بِهَا هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ؟ أَمْ لَا؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْفُقَهَاءِ. مِنْهُمْ مَنْ اسْتَحَبَّ التَّلَفُّظَ بِهَا، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَقَالُوا: التَّلَفُّظُ بِهَا أَوْكَدُ، وَاسْتَحَبُّوا التَّلَفُّظَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَسْتَحِبَّ التَّلَفُّظَ بِهَا، كَمَا قَالَ ذَلِكَ مَنْ قَالَهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمَا. وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، سُئِلَ تَقُولُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَقُولُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ شَيْئًا، وَلَمْ يَكُنْ يَتَلَفَّظُ بِالنِّيَّةِ، لَا فِي الطَّهَارَةِ، وَلَا فِي الصَّلَاةِ، وَلَا فِي الصِّيَامِ، وَلَا فِي الْحَجِّ. وَلَا فِي غَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَلَا خُلَفَاؤُهُ، وَلَا أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ بَلْ قَالَ لِمَنْ عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ: كَبِّرْ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» . وَلَمْ يَتَلَفَّظْ قَبْلَ التَّكْبِيرِ بِنِيَّةٍ، وَلَا غَيْرِهَا، وَلَا عَلَّمَ ذَلِكَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا لَفَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَعَلِمَهُ الْمُسْلِمُونَ. وَكَذَلِكَ فِي الْحَجِّ إنَّمَا كَانَ يَسْتَفْتِحُ الْإِحْرَامَ بِالتَّلْبِيَةِ، وَشَرَعَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُلَبُّوا فِي أَوَّلِ الْحَجِّ، «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ: حُجِّي وَاشْتَرِطِي، فَقُولِي: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، وَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي» فَأَمَرَهَا أَنْ تَشْتَرِطَ بَعْدَ التَّلْبِيَةِ. وَلَمْ يُشْرَعْ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ التَّلْبِيَةِ شَيْئًا. لَا يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدَ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ، وَلَا الْحَجَّ وَالْعَمْرَةَ، وَلَا يَقُولَ: فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي، وَلَا يَقُولَ: نَوَيْتُهُمَا جَمِيعًا، وَلَا يَقُولَ: أَحْرَمْتُ لِلَّهِ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا. وَلَا يَقُولَ قَبْلَ التَّلْبِيَةِ شَيْئًا، بَلْ جَعَلَ التَّلْبِيَةَ فِي الْحَجِّ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ. وَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: فُلَانٌ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، أَوْ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا. كَمَا يُقَالُ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ، وَالْإِهْلَالُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَكَانَ يَقُولُ فِي تَلْبِيَتِهِ:

«لَبَّيْكَ حَجًّا وَعُمْرَةً» يَنْوِي مَا يُرِيدُ [أَنْ] يَفْعَلَهُ بَعْدَ التَّلْبِيَةِ، لَا قَبْلَهَا. وَجَمِيعُ مَا أَحْدَثَهُ النَّاسُ مِنْ التَّلَفُّظِ بِالنِّيَّةِ قَبْلَ التَّكْبِيرِ، وَقَبْلَ التَّلْبِيَةِ، وَفِي الطَّهَارَةِ، وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَهِيَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَشْرَعْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكُلُّ مَا يَحْدُثُ فِي الْعِبَادَاتِ الْمَشْرُوعَةِ مِنْ الزِّيَادَاتِ الَّتِي لَمْ يَشْرَعْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهِيَ بِدْعَةٌ بَلْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُدَاوِمُ فِي الْعِبَادَاتِ عَلَى تَرْكِهَا، فَفِعْلُهَا وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ حَيْثُ اعْتِقَادُ الْمُعْتَقِدِ أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ مُسْتَحَبٌّ، أَيْ يَكُونُ فِعْلُهُ خَيْرًا مِنْ تَرْكِهِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ أَلْبَتَّةَ، فَيَبْقَى حَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ، إنَّمَا فَعَلْنَاهُ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ مِمَّا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ سَأَلَ رَجُلٌ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ الْإِحْرَامِ قَبْلَ الْمِيقَاتِ، فَقَالَ: " أَخَافُ عَلَيْكَ الْفِتْنَةَ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: أَيُّ فِتْنَةٍ فِي ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا زِيَادَةُ أَمْيَالٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَظُنَّ فِي نَفْسِكَ أَنَّكَ خُصِّصْتَ بِفَضْلٍ لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» فَأَيُّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ سُنَّةً أَفْضَلُ مِنْ سُنَّتِي، فَرَغِبَ عَمَّا سَنَّيْتُهُ مُعْتَقِدًا أَنَّ مَا رَغِبَ فِيهِ أَفْضَلُ مِمَّا رَغِبَ عَنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي؛ لِأَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ بِذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ هُدَى غَيْرِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ مِنْ هُدَى مُحَمَّدٍ فَهُوَ مَفْتُونٌ؛ بَلْ ضَالٌّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - إجْلَالًا لَهُ وَتَثْبِيتُ حُجَّتِهِ عَلَى النَّاسِ كَافَّةً - {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] أَيْ: وَجِيعٌ. وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِاتِّبَاعِهِ، وَأَنْ يَعْتَقِدُوا وُجُوبَ مَا أَوْجَبَهُ، وَاسْتِحْبَابَ مَا

أَحَبَّهُ. وَأَنَّهُ لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. فَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ هَذَا فَقَدْ عَصَى أَمْرَهُ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ - قَالَهَا ثَلَاثًا -» أَيْ: الْمُشَدِّدُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّشْدِيدِ، وَقَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ. وَلَا يَحْتَجُّ مُحْتَجٌّ بِجَمْعِ التَّرَاوِيحِ، وَيَقُولُ: " نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ " فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ فِي اللُّغَةِ، لِكَوْنِهِمْ فَعَلُوا مَا لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُ هَذِهِ، وَهِيَ سُنَّةٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ، وَهَكَذَا إخْرَاجُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَمَصَّرَ الْأَمْصَارَ كَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَجَمَعَ الْقُرْآنَ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ، وَفَرَضَ الدِّيوَانَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. فَقِيَامُ رَمَضَانَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمَّتِهِ، وَصَلَّى بِهِمْ جَمَاعَةً عِدَّةَ لَيَالٍ، وَكَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلُّونَ جَمَاعَةً وَفُرَادَى، لَكِنْ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَى جَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ لِئَلَّا يُفْتَرَضَ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا مَاتَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَقَرَّتْ الشَّرِيعَةُ. فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَمَعَهُمْ عَلَى إمَامٍ وَاحِدٍ، وَاَلَّذِي جَمَعَهُمْ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ، جَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهَا بِأَمْرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعُمَرَ هُوَ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ حَيْثُ يَقُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» يَعْنِي الْأَضْرَاسَ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ فِي الْقُوَّةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، فَمَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ» فَأَيُّ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ لَا تُجْزِئُ الْمُسَافِرَ كَفَرَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ حَيْثُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى خِلَافِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّ هَذَا بِدْعَةٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَإِنْ ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ فِي زِيَادَتِهِ خَيْرًا كَمَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْعِيدَيْنِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَكَرِهَهُ أَئِمَّةُ

الْمُسْلِمِينَ، كَمَا لَوْ صَلَّى عَقِيبَ السَّعْيِ رَكْعَتَيْنِ قِيَاسًا عَلَى رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ، وَقَدْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ فِي الْحَاجِّ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَنْ يَسْتَفْتِحَ بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، فَخَالَفُوا الْأَئِمَّةَ وَالسُّنَّةَ، وَإِنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ يَسْتَفْتِحَ الْمُحْرِمُ بِالطَّوَافِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ؛ بِخِلَافِ الْمُقِيمِ الَّذِي يُرِيدُ الصَّلَاةَ فِيهِ دُونَ الطَّوَافِ، فَهَذَا إذَا صَلَّى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ فَحَسَنٌ. وَفِي الْجُمْلَةِ: فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَكْمَلَ اللَّهُ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الدِّينَ، وَأَتَمَّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمْ النِّعْمَةَ، فَمَنْ جَعَلَ عَمَلًا وَاجِبًا مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ لَمْ يَكْرَهْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهُوَ غَالِطٌ. فَجِمَاعُ أَئِمَّةِ الدَّيْنِ أَنَّهُ لَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَمَنْ خَرَجَ عَنْ هَذَا وَهَذَا فَقَدْ دَخَلَ فِي حَرْبٍ مِنْ اللَّهِ، فَمَنْ شَرَعَ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَحَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهُوَ مِنْ دِينِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، الْمُخَالِفِينَ لِرَسُولِهِ، الَّذِينَ ذَمَّهُمْ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَالْأَعْرَافِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ السُّوَرِ، حَيْثُ شَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. فَحَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ، وَأَحَلُّوا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، فَذَمَّهُمْ اللَّهُ وَعَابَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. فَلِهَذَا كَانَ دِينُ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَنَّ الْأَحْكَامَ الْخَمْسَةَ: الْإِيجَابُ وَالِاسْتِحْبَابُ، وَالتَّحْلِيلُ، وَالْكَرَاهِيَةُ، وَالتَّحْرِيمُ، لَا يُؤْخَذُ إلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا وَاجِبَ إلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا حَلَالَ إلَّا مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الدِّينِ، وَمِنْهُ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ، فَرَدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] . فَمَنْ تَكَلَّمَ بِجَهْلٍ، وَبِمَا يُخَالِفُ الْأَئِمَّةَ، فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، وَيُؤَدَّبُ عَلَى الْإِصْرَارِ، كَمَا يُفْعَلُ بِأَمْثَالِهِ مِنْ الْجُهَّالِ، وَلَا يُقْتَدَى فِي خِلَافِ الشَّرِيعَةِ بِأَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ

مسألة من يخرج من بيته ناويا الصلاة هل يحتاج إلى تجديد نية

الضَّلَالَةِ، وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا عَنْهُ الْعِلْمُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا تَنْظُرُ إلَى عَمَلِ الْفَقِيهِ، وَلَكِنْ سَلْهُ يَصْدُقُك وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ نَاوِيًا الصَّلَاةَ هَلْ يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ نِيَّةٍ] 139 - 55 سُئِلَ: عَمَّنْ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ نَاوِيًا الطَّهَارَةَ، أَوْ الصَّلَاةَ. هَلْ يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ نِيَّةٍ غَيْرِ هَذِهِ عِنْدَ فِعْلِ الطَّهَارَةِ أَوْ الصَّلَاةِ؟ أَوْ لَا؟ وَهَلْ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ سُنَّةٌ أَمْ لَا؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ لِلصَّلَاةِ، هَلْ يَنْوِي حِينَ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: قَدْ نَوَى حِينَ خَرَجَ وَلِهَذَا قَالَ أَكَابِرُ أَصْحَابِهِ - كَالْخِرَقِيِّ وَغَيْرِهِ - يُجْزِئُهُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى التَّكْبِيرِ مِنْ حِينِ يَدْخُلُ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ مُسْتَحْضِرًا لِلنِّيَّةِ إلَى حِينِ الصَّلَاةِ أَجْزَأَ ذَلِكَ، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. فَإِنَّ النِّيَّةَ لَا يَجِبُ التَّلَفُّظُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَمَعْلُومٌ فِي الْعَادَةِ أَنَّ مَنْ كَبَّرَ فِي الصَّلَاةِ لَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ الصَّلَاةَ وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ نَوَى الظُّهْرَ، فَمَتَى عَلِمَ مَا يُرِيدُ فِعْلَهُ نَوَاهُ بِالضَّرُورَةِ، وَلَكِنْ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَوْ نَسِيَ شَذَّتْ عَنْهُ النِّيَّةُ، وَهَذَا نَادِرٌ، وَالتَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ فِي اسْتِحْبَابِهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ. قَالَ أَبُو دَاوُد قُلْت لِأَحْمَدَ: يَقُولُ الْمُصَلِّي قَبْلَ التَّكْبِيرِ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا. [مَسْأَلَةٌ هَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلتَّكْبِيرِ] 140 - 56 سُئِلَ: هَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلتَّكْبِيرِ؟ وَالْمَسْئُولُ أَنْ يُوَضِّحَ لَنَا كَيْفِيَّةَ مُقَارَنَتِهَا لِلتَّكْبِيرِ. كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِمُقَارَنَتِهَا التَّكْبِيرَ. وَهَذَا يَعْسُرُ. فَأَجَابَ: أَمَّا مُقَارَنَتُهَا التَّكْبِيرَ، فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ. وَالْمُقَارَنَةُ الْمَشْرُوطَةُ: قَدْ تُفَسَّرُ بِوُقُوعِ التَّكْبِيرِ عَقِيبَ النِّيَّةِ، وَهَذَا مُمْكِنٌ لَا صُعُوبَةَ فِيهِ، بَلْ عَامَّةُ النَّاسِ إنَّمَا يُصَلُّونَ هَكَذَا، وَهَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، لَوْ كُلِّفُوا تَرْكَهُ لَعَجَزُوا عَنْهُ.

مسألة النية في الدخول في العبادات هل تفتقر إلى نطق اللسان

وَقَدْ تُفَسَّرُ بِانْبِسَاطِ آخِرِ النِّيَّةِ عَلَى آخِرِ التَّكْبِيرِ، بِحَيْثُ يَكُونُ أَوَّلُهَا مَعَ أَوَّلِهِ، وَآخِرُهَا مَعَ آخِرِهِ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي عُزُوبَ كَمَالِ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ، وَخُلُوِّ أَوَّلِ الصَّلَاةِ عَنْ النِّيَّةِ الْوَاجِبَةِ. وَقَدْ تُفَسَّرُ بِحُضُورِ جَمِيعِ النِّيَّةِ مَعَ جَمِيعِ آخِرِ التَّكْبِيرِ، وَهَذَا تَنَازَعُوا فِي إمْكَانِهِ. فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَلَا مَقْدُورٍ لِلْبَشَرِ عَلَيْهِ، فَضْلًا عَنْ وُجُوبِهِ، وَلَوْ قِيلَ بِإِمْكَانِهِ، فَهُوَ مُتَعَسِّرٌ، فَيَسْقُطُ بِالْحَرَجِ. وَأَيْضًا فَمِمَّا يُبْطِلُ هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ، أَنَّ الْمُكَبِّرَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَدَبَّرَ التَّكْبِيرَ وَيَتَصَوَّرَهُ، فَيَكُونَ قَلْبُهُ مَشْغُولًا بِمَعْنَى التَّكْبِيرِ، لَا بِمَا يَشْغَلُهُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ اسْتِحْضَارِ النِّيَّةِ؛ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ مِنْ الشُّرُوطِ، وَالشُّرُوطُ تَتَقَدَّمُ الْعِبَادَاتِ، وَيَسْتَمِرُّ حُكْمُهَا إلَى آخِرِهَا، كَالطَّهَارَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ النِّيَّة فِي الدُّخُولِ فِي الْعِبَادَاتِ هَلْ تَفْتَقِرُ إلَى نُطِقْ اللِّسَانِ] 141 - 57 سُئِلَ: عَنْ " النِّيَّةِ " فِي الدُّخُولِ فِي الْعِبَادَاتِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَغَيْرِهَا. هَلْ تَفْتَقِرُ إلَى نُطْقِ اللِّسَانِ، مِثْلِ قَوْلِ الْقَائِلِ: نَوَيْتُ أَصُومُ، نَوَيْتُ أُصَلِّي هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَا؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. نِيَّةُ الطَّهَارَةِ مِنْ وُضُوءٍ أَوْ غُسْلٍ أَوْ تَيَمُّمٍ، وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى نُطْقِ اللِّسَانِ، بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ. بَلْ النِّيَّةُ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ دُونَ اللِّسَانِ بِاتِّفَاقِهِمْ، فَلَوْ لَفَظَ بِلِسَانِهِ غَلَطًا بِخِلَافِ مَا نَوَى فِي قَلْبِهِ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِمَا نَوَى، لَا بِمَا لَفَظَ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ خِلَافًا إلَّا أَنَّ بَعْضَ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَرَّجَ وَجْهًا فِي ذَلِكَ، وَغَلَّطَهُ فِيهِ أَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ. وَكَانَ سَبَبُ غَلَطِهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: إنَّ الصَّلَاةَ لَا بُدَّ مِنْ النُّطْقِ فِي أَوَّلِهَا. وَأَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ: التَّكْبِيرَ الْوَاجِبَ فِي أَوَّلِهَا، فَظَنَّ هَذَا الْغَالِطُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ النُّطْقَ بِالنِّيَّةِ، فَغَلَّطَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ جَمِيعُهُمْ. وَلَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ سِرًّا أَمْ لَا؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْفُقَهَاءِ.

مسألة الجهر بالنية في الصلاة

فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِهَا؛ لِكَوْنِهِ أَوْكَدَ؛ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا: لَا يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدًا مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ، وَلَا عَلَّمَ ذَلِكَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ كَانَ هَذَا مَشْهُورًا مَشْرُوعًا لَمْ يُهْمِلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ، مَعَ أَنَّ الْأُمَّةَ مُبْتَلَاةٌ بِهِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ. بَلْ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ. أَمَّا فِي الدِّينِ فَلِأَنَّهُ بِدْعَةٌ. وَأَمَّا فِي الْعَقْلِ فَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُرِيدُ يَأْكُلُ طَعَامًا فَيَقُولُ: نَوَيْتُ بِوَضْعِ يَدِي فِي هَذَا الْإِنَاءِ أَنِّي أُرِيدُ أَنْ آخُذَ مِنْهُ لُقْمَةً فَأَضَعَهَا فِي فَمِي فَأَمْضُغَهَا ثُمَّ أَبْلَعَهَا لِأَشْبَعَ. مِثْلُ الْقَائِلِ الَّذِي يَقُولُ: نَوَيْتُ أُصَلِّي فَرِيضَةَ هَذِهِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَيَّ حَاضِرَ الْوَقْتِ، أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي جَمَاعَةٍ، أَدَاءً لِلَّهِ تَعَالَى. فَهَذَا كُلُّهُ حُمْقٌ وَجَهْلٌ، وَذَلِكَ أَنَّ النِّيَّةَ بَلِيغُ الْعِلْمِ، فَمَتَى عَلِمَ الْعَبْدُ مَا يَفْعَلُهُ كَانَ قَدْ نَوَاهُ ضَرُورَةً، فَلَا يُتَصَوَّرُ مَعَ وُجُودِ الْعِلْمِ بِالْعَقْلِ أَنْ يَفْعَلَ بِلَا نِيَّةٍ: وَلَا يُمْكِنُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ أَنْ تَحْصُلَ نِيَّةٌ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الْجَهْرَ بِالنِّيَّةِ وَتَكْرِيرَهَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، بَلْ مَنْ اعْتَادَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُؤَدَّبَ تَأْدِيبًا يَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ التَّعَبُّدِ بِالْبِدَعِ، وَإِيذَاءِ النَّاسِ بِرَفْعِ صَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ: «أَيُّهَا النَّاسُ كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلَا يَجْهَرَنَّ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقِرَاءَةِ» فَكَيْفَ حَالُ مَنْ يُشَوِّشُ عَلَى النَّاسِ بِكَلَامِهِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ؟ بَلْ يَقُولُ: نَوَيْتُ أُصَلِّي، أُصَلِّي فَرِيضَةَ كَذَا وَكَذَا، فِي وَقْتِ كَذَا وَكَذَا، مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَمْ يَشْرَعْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مَسْأَلَةٌ الْجَهْرُ بِالنِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ] 142 - 58 سُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ الْجَهْرُ بِالنِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَلَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: صَحِيحٌ أَنَّهُ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَمَرَ بِهِ، لَكِنْ مَا نَهَى عَنْهُ، وَلَا تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ جَهَرَ بِهَا. ثُمَّ إنَّهُ قَالَ: لَنَا بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ، وَبِدْعَةٌ سَيِّئَةٌ، وَاحْتَجَّ بِالتَّرَاوِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا جَمَعَهَا، وَلَا نَهَى عَنْهَا. وَأَنَّ عُمَرَ الَّذِي جَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَأَمَرَ بِهَا. فَهَلْ هُوَ كَمَا قَالَ؟ وَهَلْ تُسَمَّى سُنَنُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِدْعَةً؟ وَهَلْ [يُقَاسُ] عَلَى سُنَنِهِمْ مَا سَنَّهُ غَيْرُهُمْ فَهَلْ لَهَا أَصْلٌ فِيمَا يَقُولُهُ، وَيَفْعَلُهُ؟ وَقَوْلُهُ:

وَلَا تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ جَهَرَ بِالنِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ، وَغَيْرِهَا. فَهَلْ يَأْثَمُ، الْمُنْكِرُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ: الْجَهْرُ بِالنِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْبِدَعِ السَّيِّئَةِ، لَيْسَ مِنْ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إنَّ الْجَهْرَ بِالنِّيَّةِ مُسْتَحَبٌّ، وَلَا هُوَ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ، فَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ سُنَّةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَغَيْرِهِمْ. وَقَائِلُ هَذَا يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا عُوقِبَ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ. وَإِنَّمَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي نَفْسِ التَّلَفُّظِ بِهَا سِرًّا. هَلْ يُسْتَحَبُّ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِهَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَكُونُوا يَتَلَفَّظُونَ بِهَا لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا؛ وَالْعِبَادَاتُ الَّتِي شَرَعَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمَّتِهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُهَا، وَلَا إحْدَاثُ بِدْعَةٍ فِيهَا. وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ، مِثْلُ مَا أَحْدَثَ بَعْضُ النَّاسِ الْأَذَانَ فِي الْعِيدَيْنِ، وَاَلَّذِي أَحْدَثَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، فَأَنْكَرَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ. هَذَا وَإِنْ كَانَ الْأَذَانُ ذِكْرَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ لَمَّا أَحْدَثَ النَّاسُ اجْتِمَاعًا رَاتِبًا غَيْرَ الشَّرْعِيِّ: مِثْلَ الِاجْتِمَاعِ عَلَى صَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوَّلَ رَجَبٍ أَوْ أَوَّلَ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ فِيهِ، وَلَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ. وَلَوْ أَحْدَثَ نَاسٌ صَلَاةً سَادِسَةً يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا غَيْرَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ، وَأَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ. وَأَمَّا قِيَامُ رَمَضَانَ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَّهُ لِأُمَّتِهِ، وَصَلَّى بِهِمْ جَمَاعَةً عِدَّةَ لَيَالٍ، وَكَانُوا عَلَى عَهْدِهِ يُصَلُّونَ جَمَاعَةً، وَفُرَادَى، لَكِنْ لَمْ يُدَاوِمُوا عَلَى جَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، لِئَلَّا تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَقَرَّتْ الشَّرِيعَةُ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَمَعَهُمْ عَلَى إمَامٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ الَّذِي جَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهَا بِأَمْرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، حَيْثُ يَقُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي. عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» يَعْنِي الْأَضْرَاسَ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ الْقُوَّةِ.

مسألة من يشوش على الصفوف بالجهر بالنية

وَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ هُوَ سُنَّةٌ؛ لَكِنَّهُ قَالَ: نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ فِي اللُّغَةِ، لِكَوْنِهِمْ فَعَلُوا مَا لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي مِنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ، وَهِيَ سُنَّةٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ. وَهَكَذَا إخْرَاجُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَهِيَ الْحِجَازُ وَالْيَمَنُ وَالْيَمَامَةُ، وَكُلُّ الْبِلَادِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْهُ مُلْكُ فَارِسَ وَالرُّومِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَمَصَّرَ الْأَمْصَارَ: كَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَجَمْعَ الْقُرْآنَ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ، وَفَرَضَ الدِّيوَانَ، وَالْآذَانَ الْأَوَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاسْتِنَابَةَ مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ يَوْمَ الْعِيدِ خَارِجَ الْمِصْرِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا سَنَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، لِأَنَّهُمْ سَنُّوهُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهُوَ سُنَّةٌ. وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ يُسَمَّى بِدْعَةً. وَأَمَّا الْجَهْرُ بِالنِّيَّةِ، وَتَكْرِيرُهَا، فَبِدْعَةٌ سَيِّئَةٌ لَيْسَتْ مُسْتَحَبَّةً بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ. [مَسْأَلَةٌ مِنْ يُشَوِّشُ عَلَى الصُّفُوفِ بِالْجَهْرِ بِالنِّيَّةِ] 143 - 59 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ إذَا صَلَّى يُشَوِّشُ عَلَى الصُّفُوفِ الَّذِي حَوَالَيْهِ بِالْجَهْرِ بِالنِّيَّةِ وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ مَرَّةً وَلَمْ يَرْجِعْ، وَقَالَ لَهُ إنْسَانٌ: هَذَا الَّذِي تَفْعَلُهُ مَا هُوَ مِنْ دِينِ اللَّهِ، وَأَنْتَ مُخَالِفٌ فِيهِ السُّنَّةَ. فَقَالَ: هَذَا دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا، وَكَذَلِكَ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهَا خَلْفَ الْإِمَامِ. فَهَلْ هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أَوْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ؟ أَوْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؟ أَوْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا كَانَ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ وَالْعُلَمَاءُ يَعْمَلُونَ هَذَا فِي الصَّلَاةِ، فَمَاذَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يَنْسُبُ هَذَا إلَيْهِمْ وَهُوَ يَعْمَلُهُ؟ فَهَلْ يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُعِينَهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا عَمِلَ هَذَا وَنَسَبَهُ إلَى أَنَّهُ مِنْ الدِّينِ، وَيَقُولُ لِلْمُنْكِرِينَ عَلَيْهِ كُلٌّ يَعْمَلُ فِي دِينِهِ مَا يَشْتَهِي؟ وَإِنْكَارُكُمْ عَلَيَّ جَهْلٌ، وَهَلْ هُمْ مُصِيبُونَ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، الْجَهْرُ بِلَفْظِ النِّيَّةِ لَيْسَ مَشْرُوعًا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ دِينُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ وَاجِبٌ، فَإِنَّهُ يَجِبُ تَعْرِيفُهُ الشَّرِيعَةَ،

وَاسْتِتَابَتُهُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ قُتِلَ، بَلْ النِّيَّةُ الْوَاجِبَةُ فِي الْعِبَادَاتِ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَالنِّيَّةُ هِيَ الْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ، وَالْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ مَحَلُّهُمَا الْقَلْبُ دُونَ اللِّسَانِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. فَلَوْ نَوَى بِقَلْبِهِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ عِنْدَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَيُفْتَى بِقَوْلِهِ، وَلَكِنْ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ زَعَمَ أَنَّ اللَّفْظَ بِالنِّيَّةِ وَاجِبٌ؛ وَلَمْ يَقُلْ: إنَّ الْجَهْرَ بِهَا وَاجِبٌ، وَمَعَ هَذَا فَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ صَرِيحٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُنَّةَ خُلَفَائِهِ، وَكَيْفَ كَانَ يُصَلِّي الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَلَفَّظُونَ بِالنِّيَّةِ، وَلَا أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، وَلَا عَلَّمَهُ لِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ «قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ: إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ» . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» . وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةَ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ. وَلَمْ يَنْقُلْ مُسْلِمٌ لَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَدْ تَلَفَّظَ قَبْلَ التَّكْبِيرِ بِلَفْظِ النِّيَّةِ، لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا وَلَا أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْهِمَمَ وَالدَّوَاعِيَ مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى نَقْلِ ذَلِكَ، لَوْ كَانَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَى أَهْلِ التَّوَاتُرِ عَادَةً وَشَرْعًا كِتْمَانُ نَقْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ. وَلِهَذَا يَتَنَازَعُ الْفُقَهَاءُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي اللَّفْظِ بِالنِّيَّةِ: هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ مَعَ النِّيَّةِ الَّتِي فِي الْقَلْبِ؟ فَاسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. قَالُوا: لِأَنَّهُ

أَوْكَدُ، وَأَتَمُّ تَحْقِيقًا لِلنِّيَّةِ، وَلَمْ يَسْتَحِبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، بَلْ رَأَوْا أَنَّهُ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ. قَالُوا: لَوْ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَحَبًّا لَفَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لَأَمَرَ بِهِ؛ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ بَيَّنَ كُلَّ مَا يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ، لَا سِيَّمَا الصَّلَاةَ الَّتِي لَا تُؤْخَذُ صِفَتُهَا إلَّا عَنْهُ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» . قَالَ هَؤُلَاءِ فَزِيَادَةُ هَذَا وَأَمْثَالِهِ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الزِّيَادَاتِ الْمُحْدَثَةِ فِي الْعِبَادَاتِ، كَمَنْ زَادَ فِي الْعِيدَيْنِ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ، وَمَنْ زَادَ فِي السَّعْيِ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ عَلَى الْمَرْوَةِ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ. قَالُوا: وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ فَاسِدٌ فِي الْعَقْلِ؛ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ أَنْوِي أَنْ أَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْوِي آكُلُ هَذَا الطَّعَامَ لِأَشْبَعَ، وَأَنْوِي أَلْبَسَ هَذَا الثَّوْبَ لَاسْتَتَرَ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ النِّيَّاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْقَلْبِ الَّتِي يُسْتَقْبَحُ النُّطْقُ بِهَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الحجرات: 16] . وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] قَالُوا: لَمْ يَقُولُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَإِنَّمَا عَلِمَهُ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَأَخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ فِي الْقَلْبِ بِلَا نِزَاعٍ. وَأَمَّا التَّلَفُّظُ بِهَا سِرًّا فَهَلْ يُكْرَهُ أَوْ يُسْتَحَبُّ؟ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَأَمَّا الْجَهْرُ بِهَا فَهُوَ مَكْرُوهٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ تَكْرِيرُهَا أَشَدُّ وَأَشَدُّ. وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ وَالْمُنْفَرِدُ، فَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَا يُشْرَعُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَجْهَرَ بِلَفْظِ النِّيَّةِ، وَلَا يُكَرِّرُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ يُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ، بَلْ جَهْرُ الْمُنْفَرِدِ بِالْقِرَاءَةِ إذَا كَانَ فِيهِ أَذًى لِغَيْرِهِ لَمْ يُشْرَعْ، كَمَا خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ

يُصَلُّونَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقِرَاءَةِ» . وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَالسُّنَّةُ لَهُ الْمُخَافَتَةُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ إذَا جَهَرَ أَحْيَانًا بِشَيْءٍ مِنْ الذِّكْرِ فَلَا بَأْسَ، كَالْإِمَامِ إذَا أَسْمَعَهُمْ أَحْيَانًا الْآيَةَ فِي صَلَاةِ السِّرِّ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ «أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ يُسْمِعُهُمْ الْآيَةَ أَحْيَانًا» وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ الْمَأْمُومِينَ مَنْ جَهَرَ بِدُعَاءٍ حِينَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ الرُّكُوعِ، وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الْبِدَعِ وَتَحْسِينِهَا فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُعَزَّرَ تَعْزِيرًا يَرْدَعُهُ، وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ. وَمَنْ نَسَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَاطِلَ خَطَأً، فَإِنَّهُ يُعَرَّفُ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ عُوقِبَ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ وَلَا يُعَيِّنُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ، أَوْ أَدْخَلَ فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: كُلٌّ يَعْمَلُ فِي دِينِهِ الَّذِي يَشْتَهِي. فَهِيَ كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ مِنْهَا، وَإِلَّا عُوقِبَ؛ بَلْ الْإِصْرَارُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ يُوجِبُ الْقَتْلَ؛ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْمَلَ فِي الدِّينِ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، دُونَ مَا يَشْتَهِيهِ وَيَهْوَاهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 119] . {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] . وَقَالَ: {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] . وَقَالَ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا} [الفرقان: 43] {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا} [الفرقان: 44] وَقَالَ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .

مسألة الصلاة لا تجوز إلا بنية

وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ» . قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 60 - 61] . وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] . وَقَالَ تَعَالَى: {المص - كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ - اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 1 - 3] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] وَأَمْثَالُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَتَّبِعَ الْحَقَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولُهُ، وَلَا يَجْعَلَ دِينَهُ تَبَعًا لِهَوَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الصَّلَاة لَا تَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ] 144 - 60 مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ: عَنْ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي " النِّيَّةِ " فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَا تَدْخُلْ الصَّلَاةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . وَقَالَ الْآخَرُ: تَجُوزُ بِلَا نِيَّةٍ، أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، الصَّلَاةُ لَا تَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ؛ لَكِنْ مَحَلُّ النِّيَّةِ الْقَلْبُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَهِيَ الْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ فَإِنْ نَوَى بِقَلْبِهِ خِلَافَ مَا نَطَقَ بِلِسَانِهِ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِمَا قَصَدَ بِقَلْبِهِ. وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَا نَوَاهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.

مسألة صلى حنفي في جماعة فأسر نيته ورفع يديه في كل تكبيرة

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِالنِّيَّةِ، وَلَا تَكْرِيرُ التَّكَلُّمِ بِهَا؛ بَلْ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالنِّيَّةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَغَيْرِهِمْ. وَلَمْ يُخَالِفْ إلَّا بَعْضُ شُذُوذِ الْمُتَأَخِّرِينَ. [مَسْأَلَةٌ صَلَّى حَنَفِيّ فِي جَمَاعَة فَأَسُرّ نِيَّتهُ وَرَفَعَ يَدِيّه فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ] 145 - 61 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ حَنَفِيٍّ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ، وَأَسَرَّ نِيَّتَهُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فَقِيهُ الْجَمَاعَةِ، وَقَالَ لَهُ: هَذَا لَا يَجُوزُ فِي مَذْهَبِك وَأَنْتَ مُبْتَدِعٌ فِيهِ، وَأَنْتَ مُذَبْذَبٌ، لَا بِإِمَامِك اقْتَدَيْت، وَلَا بِمَذْهَبِك اهْتَدَيْت. فَهَلْ مَا فَعَلَهُ نَقْصٌ فِي صَلَاتِهِ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ وَلِإِمَامِهِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا الَّذِي أَنْكَرَ عَلَيْهِ إسْرَارَهُ بِالنِّيَّةِ فَهُوَ جَاهِلٌ فَإِنَّ الْجَهْرَ بِالنِّيَّةِ لَا يَجِبُ وَلَا يُسْتَحَبُّ، لَا فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ الْجَهْرُ بِالنِّيَّةِ وَمَنْ جَهَرَ بِالنِّيَّةِ فَهُوَ مُخْطِئٌ، مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ؛ بَلْ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ إذَا نَوَى بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ بِالنِّيَّةِ لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا كَانَتْ صَحِيحَةً، وَلَا يَجِبُ التَّكَلُّمُ بِالنِّيَّةِ. لَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّة، حَتَّى أَنَّ بَعْضَ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَمَّا ذَكَرَ وَجْهًا مُخَرَّجًا: أَنَّ اللَّفْظَ بِالنِّيَّةِ وَاجِبٌ. غَلَّطَهُ بَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ، وَقَالُوا: إنَّمَا أَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ النُّطْقَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ بِالتَّكْبِيرِ، لَا بِالنِّيَّةِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ النُّطْقَ بِالنِّيَّةِ لَا يَجِبُ، وَكَذَلِكَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُهُ؛ بَلْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ سِرًّا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ، لَا الْجَهْرُ بِهَا، وَلَا يَجِبُ التَّلَفُّظُ، وَلَا الْجَهْرُ. وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ: بَلْ لَا يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ، لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا، كَمَا لَا يَجِبُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَكُونُوا يَتَلَفَّظُونَ بِالنِّيَّةِ، لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا» وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ.

وَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ حَتَّى فِي السُّجُودِ، فَلَيْسَتْ هِيَ السُّنَّةُ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهَا، وَلَكِنَّ الْأُمَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَرْفَعُ الْيَدَيْنِ مَعَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ. وَأَمَّا رَفْعُهُمَا عِنْدَ الرُّكُوعِ، وَالِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ. كَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ. وَأَمَّا أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَعُلَمَاءِ الْآثَارِ، فَإِنَّهُمْ عَرَفُوا ذَلِكَ - لِمَا أَنَّهُ اسْتَفَاضَتْ بِهِ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ. فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، وَإِذَا رَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ، وَلَا كَذَلِكَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ» وَثَبَتَ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ: مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، وَوَائِلِ بْنِ حُجْرٌ، وَأَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ: فِي عَشْرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَحَدُهُمْ أَبُو قَتَادَةَ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذَا رَأَى مَنْ يُصَلِّي وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الصَّلَاةِ حَصَبَهُ. وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: لَهُ بِكُلِّ إشَارَةٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ. وَالْكُوفِيُّونَ حُجَّتُهُمْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَكُنْ يَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَهُمْ مَعْذُورُونَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَهُمْ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ؛ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ هُوَ الْفَقِيهُ الَّذِي بَعَثَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِيُعَلِّمَ أَهْلَ الْكُوفَةِ السُّنَّةَ؛ لَكِنْ قَدْ حَفِظَ الرَّفْعَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَابْنُ مَسْعُودٍ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرْفَعْ إلَّا أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ لَكِنَّهُمْ رَأَوْهُ يُصَلِّي وَلَا يَرْفَعُ، إلَّا أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَنْسَى، وَقَدْ يُذْهَلُ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ التَّطْبِيقُ فِي الصَّلَاةِ؛ فَكَانَ يُصَلِّي، وَإِذَا رَكَعَ طَبَّقَ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ إنَّ التَّطْبِيقَ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأُمِرُوا بِالرُّكَبِ، وَهَذَا لَمْ يَحْفَظْهُ ابْنُ مَسْعُودٍ؛ فَإِنَّ الرَّفْعَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ لَيْسَ مِنْ نَوَاقِضِ الصَّلَاةِ: بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِلَا رَفْعٍ وَإِذَا رَفَعَ كَانَ أَفْضَلَ وَأَحْسَنَ. وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُتَّبِعًا لِأَبِي حَنِيفَةَ أَوْ مَالِكٍ أَوْ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَحْمَدَ: وَرَأَى فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ أَنَّ مَذْهَبَ غَيْرِهِ أَقْوَى فَاتَّبَعَهُ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي

دِينِهِ. وَلَا عَدَالَتِهِ بِلَا نِزَاعٍ؛ بَلْ هَذَا أَوْلَى بِالْحَقِّ، وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ يَتَعَصَّبُ لِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَنْ يَتَعَصَّبُ لِمَالِكٍ أَوْ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَحْمَدَ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَرَى أَنَّ قَوْلَ هَذَا الْمُعَيَّنِ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي يَنْبَغِي اتِّبَاعُهُ، دُونَ قَوْلِ الْإِمَامِ الَّذِي خَالَفَهُ. فَمَنْ فَعَلَ هَذَا كَانَ جَاهِلًا ضَالًّا: بَلْ قَدْ يَكُونُ كَافِرًا؛ فَإِنَّهُ مَتَى اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعُ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ دُونَ الْإِمَامِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. بَلْ غَايَةُ مَا يُقَال: إنَّهُ يَسُوغُ أَوْ يَنْبَغِي أَوْ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يُقَلِّدَ وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ، مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ زَيْدٍ وَلَا عَمْرٍو. وَأَمَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامَّةِ تَقَلُّدُ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ، فَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ. وَمَنْ كَانَ مُوَالِيًا لِلْأَئِمَّةِ مُحِبًّا لَهُمْ يُقَلِّدُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلسُّنَّةِ فَهُوَ مُحْسِنٌ فِي ذَلِكَ. بَلْ هَذَا أَحْسَنُ حَالًا مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا يُقَالُ لِمِثْلِ هَذَا مُذَبْذَبٌ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ. وَإِنَّمَا الْمُذَبْذَبُ الْمَذْمُومُ الَّذِي لَا يَكُونُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا مَعَ الْكُفَّارِ، بَلْ يَأْتِي الْمُؤْمِنِينَ بِوَجْهٍ، وَيَأْتِي الْكَافِرِينَ بِوَجْهٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء: 142] إلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا} [النساء: 88] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ: تُعِيرُ إلَى هَؤُلَاءِ مَرَّةً وَإِلَى هَؤُلَاءِ مَرَّةً» . فَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الْمُذَبْذَبُونَ هُمْ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَقَالَ فِي حَقِّهِمْ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] . وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14]

فَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْيَهُودَ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، مَا هُمْ مِنْ الْيَهُودِ، وَلَا هُمْ مِنَّا، مِثْلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالتَّتَرِ، وَغَيْرِهِمْ، وَقَلْبُهُ مَعَ طَائِفَتِهِ. فَلَا هُوَ مُؤْمِنٌ مَحْضٌ، وَلَا هُوَ كَافِرٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُذَبْذَبُونَ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَوْجَبَ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، لَا كُفَّارًا، وَلَا مُنَافِقِينَ، بَلْ يُحِبُّونَ لِلَّهِ، وَيُبْغِضُونَ لِلَّهِ، وَيُعْطُونَ لِلَّهِ، وَيَمْنَعُونَ لِلَّهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] إلَى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1] . الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو

الْمُسْلِمِ لَا يُسْلِمُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» . وَقَالَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ. أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِلَافِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] إلَى قَوْلِهِ: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] إلَى قَوْلِهِ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ. فَأَئِمَّةُ الدِّينِ هُمْ عَلَى مِنْهَاجِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -. وَالصَّحَابَةِ كَانُوا مُؤْتَلِفِينَ مُتَّفِقِينَ، وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي بَعْضِ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فِي الطَّهَارَةِ أَوْ الصَّلَاةِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ الْفَرَائِضِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ. وَمَنْ تَعَصَّبْ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ دُونَ الْبَاقِينَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَعَصَّبْ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ دُونَ الْبَاقِينَ. كَالرَّافِضِيِّ الَّذِي يَتَعَصَّبُ لِعَلِيٍّ دُونَ الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ. وَكَالْخَارِجِيِّ الَّذِي يَقْدَحُ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -

فَهَذِهِ طُرُقُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الَّذِينَ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُمْ مَذْمُومُونَ، خَارِجُونَ عَنْ الشَّرِيعَةِ وَالْمِنْهَاجِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَمَنْ تَعَصَّبَ لِوَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ بِعَيْنِهِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، سَوَاءٌ تَعَصَّبَ لِمَالِكٍ أَوْ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ أَحْمَدَ أَوْ غَيْرِهِمْ. ثُمَّ غَايَةُ الْمُتَعَصِّبِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِقَدْرِهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَبِقَدْرِ الْآخَرِينَ، فَيَكُونُ جَاهِلًا ظَالِمًا، وَاَللَّهُ يَأْمُرُ بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ، وَيَنْهَى عَنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ. قَالَ تَعَالَى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا - لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} [الأحزاب: 72 - 73] إلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَهَذَا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَتْبَعُ النَّاسِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَعْلَمُهُمْ بِقَوْلِهِ، وَهُمَا قَدْ خَالَفَاهُ فِي مَسَائِلَ لَا تَكَادُ تُحْصَى، لِمَا تَبَيَّنَ لَهُمَا مِنْ السُّنَّةِ وَالْحُجَّةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا اتِّبَاعُهُ، وَهُمَا مَعَ ذَلِكَ مُعَظِّمَانِ لِإِمَامِهِمَا. لَا يُقَالُ فِيهِمَا مُذَبْذَبَانِ؛ بَلْ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ يَقُولُ الْقَوْلَ ثُمَّ تَتَبَيَّنُ لَهُ الْحُجَّةُ فِي خِلَافِهِ فَيَقُولُ بِهَا، وَلَا يُقَالُ لَهُ مُذَبْذَبٌ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَزَالُ يَطْلُبُ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ. فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا كَانَ خَافِيًا عَلَيْهِ اتَّبَعَهُ، وَلَيْسَ هَذَا مُذَبْذَبًا؛ بَلْ هَذَا مُهْتَدٍ زَادَهُ اللَّهُ هُدًى. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] . فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ، وَعُلَمَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْ يَقْصِدَ الْحَقَّ وَيَتَّبِعَهُ حَيْثُ وَجَدَهُ، وَيَعْلَمَ أَنَّ مَنْ اجْتَهَدَ مِنْهُمْ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمَنْ اجْتَهَدَ مِنْهُمْ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ لِاجْتِهَادِهِ، وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ. وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّبِعُوا إمَامَهُمْ إذَا فَعَلَ مَا يَسُوغُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ» وَسَوَاءٌ رَفَعَ يَدَيْهِ أَوْ لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِمْ، وَلَا يُبْطِلُهَا، لَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا الشَّافِعِيِّ وَلَا مَالِكٍ وَلَا أَحْمَدُ. وَلَوْ رَفَعَ الْإِمَامُ دُونَ الْمَأْمُومِ، أَوْ الْمَأْمُومُ دُونَ الْإِمَامِ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ رَفَعَ الرَّجُلُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّخِذَ قَوْلَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ شِعَارًا يُوجِبُ اتِّبَاعَهُ، وَيُنْهِي عَنْ غَيْرِهِ

مِمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ؛ بَلْ كُلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فَهُوَ وَاسِعٌ: مِثْلُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ. فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ، وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ» . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ عَلَّمَ أَبَا مَحْذُورَةَ الْإِقَامَةَ شَفْعًا شَفْعًا، كَالْأَذَانِ» فَمَنْ شَفَعَ الْإِقَامَةَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ أَفْرَدَهَا فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ أَوْجَبَ هَذَا دُونَ هَذَا فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ، وَمَنْ وَالَى مَنْ يَفْعَلُ هَذَا دُونَ هَذَا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ وَبِلَادُ الشَّرْقِ مِنْ أَسْبَابِ تَسْلِيطِ اللَّهِ التَّتَرَ عَلَيْهَا كَثْرَةُ التَّفَرُّقِ وَالْفِتَنِ بَيْنَهُمْ فِي الْمَذَاهِبِ وَغَيْرِهَا، حَتَّى تَجِدَ الْمُنْتَسِبَ إلَى الشَّافِعِيِّ يَتَعَصَّبُ لِمَذْهَبِهِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يَخْرُجَ عَنْ الدِّينِ، وَالْمُنْتَسِبَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ يَتَعَصَّبُ لِمَذْهَبِهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ حَتَّى يَخْرُجَ عَنْ الدِّينِ، وَالْمُنْتَسِبَ إلَى أَحْمَدَ يَتَعَصَّبُ لِمَذْهَبِهِ عَلَى مَذْهَبِ هَذَا أَوْ هَذَا. وَفِي الْمَغْرِبِ تَجِدُ الْمُنْتَسِبَ إلَى مَالِكٍ يَتَعَصَّبُ لِمَذْهَبِهِ عَلَى هَذَا أَوْ هَذَا. وَكُلُّ هَذَا مِنْ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ. وَكُلُّ هَؤُلَاءِ الْمُتَعَصِّبِينَ بِالْبَاطِلِ، الْمُتَّبِعِينَ الظَّنَّ، وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ الْمُتَّبِعِينَ لِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ، مُسْتَحِقُّونَ لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَا تَحْتَمِلُ هَذِهِ الْفُتْيَا لِبَسْطِهِ؛ فَإِنَّ الِاعْتِصَامَ بِالْجَمَاعَةِ وَالِائْتِلَافَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَالْفَرْعُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مِنْ الْفُرُوعِ الْخَفِيَّةِ، فَكَيْفَ يُقْدَحُ فِي الْأَصْلِ بِحِفْظِ الْفَرْعِ، وَجُمْهُورُ الْمُتَعَصِّبِينَ لَا يَعْرِفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، بَلْ يَتَمَسَّكُونَ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ، أَوْ آرَاءٍ فَاسِدَةٍ أَوْ حِكَايَاتٍ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَالشُّيُوخِ قَدْ تَكُونُ صِدْقًا، وَقَدْ تَكُونُ كَذِبًا، وَإِنْ كَانَتْ صِدْقًا فَلَيْسَ صَاحِبُهَا مَعْصُومًا يَتَمَسَّكُونَ بِنَقْلٍ غَيْرِ مُصَدَّقٍ، عَنْ قَائِلٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ، وَيَدَعُونَ النَّقْلَ الْمُصَدَّقَ عَنْ الْقَائِلِ الْمَعْصُومِ وَهُوَ مَا نَقَلَهُ الثِّقَاتُ الْأَثْبَاتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَدَوَّنُوهُ فِي الْكُتُبِ الصِّحَاحِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِنَّ النَّاقِلِينَ لِذَلِكَ مُصَدَّقُونَ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ، وَالْمَنْقُولُ عَنْهُ مَعْصُومٌ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى، إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى، قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ طَاعَتَهُ

إمام شافعي يقول الله أكبر يكرر التكبير مرات عديدة

وَاتِّبَاعَهُ. قَالَ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] وَاَللَّهُ تَعَالَى يُوَفِّقُنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُؤْمِنِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَالْهُدَى وَالنِّيَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ. [إمَام شَافِعِيّ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ يُكَرِّرُ التَّكْبِيرَ مَرَّاتٍ عَدِيدَةً] 146 - 62 سُئِلَ: عَنْ إمَامٍ شَافِعِيٍّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، يُكَرِّرُ التَّكْبِيرَ مَرَّاتٍ عَدِيدَةً وَالنَّاسُ وُقُوفٌ خَلْفَهُ. أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. تَكْرِيرُ اللَّفْظِ بِالنِّيَّةِ، وَالتَّكْبِيرُ، وَالْجَهْرُ بِلَفْظِ النِّيَّةِ أَيْضًا مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَفَاعِلُ ذَلِكَ مُسِيءٌ. وَإِنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ دِينًا فَقَدْ خَرَجَ عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجِبُ نَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ عُزِلَ عَنْ الْإِمَامَةِ إذَا لَمْ يَنْتَهِ كَانَ لَهُ وَجْهٌ، فَإِنَّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِعَزْلِ إمَامٍ لِأَجْلِ بُزَاقِهِ فِي الْقِبْلَةِ» فَإِنَّ الْإِمَامَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ. كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي؛ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ الْمُنْفَرِدُ بَلْ يُنْهَى عَنْ التَّطْوِيلِ وَالتَّقْصِيرِ، فَكَيْفَ إذَا أَصَرَّ عَلَى مَا يُنْهَى عَنْهُ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ وَالْمُنْفَرِدُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [إذَا صَلَّى بِاللَّيْلِ يَنْوِي وَيَقُولُ أُصَلِّي نَصِيبَ اللَّيْلِ] 147 - 63 سُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ إذَا صَلَّى بِاللَّيْلِ يَنْوِي، وَيَقُولُ: أُصَلِّي نَصِيبَ اللَّيْلِ. أَجَابَ: هَذِهِ الْعِبَارَةُ أُصَلِّي نَصِيبَ اللَّيْلِ، لَمْ تُنْقَلْ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَأَئِمَّتِهَا، وَالْمَشْرُوعُ أَنْ يَنْوِيَ الصَّلَاةَ لِلَّهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِاللَّيْلِ أَوْ النَّهَارِ: وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ، فَإِنْ تَلَفَّظَ بِهَا. وَقَالَ: أُصَلِّي صَلَاةَ اللَّيْلِ، أَوْ أُصَلِّي قِيَامَ اللَّيْلِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ جَازَ، وَلَمْ يُسْتَحَبَّ ذَلِكَ بَلْ الِاقْتِدَاءُ بِالسُّنَّةِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة الاقتداء بالمأموم

[مَسْأَلَةٌ الِاقْتِدَاءُ بِالْمَأْمُومِ] مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أَدْرَكَ مَعَ الْجَمَاعَةِ رَكْعَةً، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ لِيُتِمَّ صَلَاتَهُ فَجَاءَ آخَرُ فَصَلَّى مَعَهُ، فَهَلْ يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهَذَا الْمَأْمُومِ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِي صَلَاتِهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا جَائِزٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، إذَا كَانَ الْإِمَامُ قَدْ نَوَى الْإِمَامَةَ، وَالْمُؤْتَمُّ قَدْ نَوَى الِائْتِمَامَ. فَإِنْ نَوَى الْمَأْمُومُ الِائْتِمَامَ وَلَمْ يَنْوِ الْإِمَامُ الْإِمَامَةَ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَصِحُّ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَالثَّانِي: لَا تَصِحُّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ كَانَ مُؤْتَمًّا فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ، وَصَارَ مُنْفَرِدًا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، فَإِذَا ائْتَمَّ بِهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ صَارَ الْمُنْفَرِدُ إمَامًا، كَمَا «صَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إمَامًا بِابْنِ عَبَّاسٍ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مُنْفَرِدًا» . وَهَذَا يَصِحُّ فِي النَّفْلِ كَمَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ ذُكِرَ فِي مَذْهَبِهِ قَوْلٌ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا فِي الْفَرْضِ فَنِزَاعٌ مَشْهُورٌ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ الْتَزَمَ بِالْإِمَامَةِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَلْزَمُهُ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ، فَلَيْسَ بِمَصِيرِ الْمُنْفَرِدِ إمَامًا مَحْذُورًا أَصْلًا، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ صفة الْمَشْي إلَى الصَّلَاة] 149 - 65 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مَشَى إلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مُسْتَعْجِلًا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ، وَقَالَ: امْشِ عَلَى رِسْلِك. فَرَدَّ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَقَالَ: قَدْ قَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] فَمَا الصَّوَابُ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّعْيِ الْمَأْمُورِ بِهِ الْعَدْوَ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعُونَ، وَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ

وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» - وَرُوِيَ «فَاقْضُوا» . وَلَكِنْ قَالَ الْأَئِمَّةُ: السَّعْيُ فِي كِتَابِ اللَّهِ هُوَ الْعَمَلُ وَالْفِعْلُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} [البقرة: 205] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] وَقَالَ عَنْ فِرْعَوْنَ: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} [النازعات: 22] وَقَدْ قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ) فَالسَّعْيُ الْمَأْمُورُ بِهِ إلَى الْجُمُعَةِ هُوَ الْمُضِيُّ إلَيْهَا. وَالذَّهَابُ إلَيْهَا. وَلَفْظُ السَّعْيِ فِي الْأَصْلِ اسْمُ جِنْسٍ، وَمِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْعُرْفِ إذَا كَانَ الِاسْمُ عَامًّا لِنَوْعَيْنِ، فَإِنَّهُمْ يُفْرِدُونَ أَحَدَ نَوْعَيْهِ بِاسْمٍ، وَيَبْقَى الِاسْمُ الْعَامُّ مُخْتَصًّا بِالنَّوْعِ الْآخَرِ، كَمَا فِي لَفْظِ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَإِنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَقَارِبِ، مَنْ يَرِثُ بِفَرْضٍ وَتَعْصِيبٍ، وَمَنْ لَا فَرْضَ لَهُ وَلَا تَعْصِيبَ، فَلَمَّا مُيِّزَ ذُو الْفَرْضِ وَالْعَصَبَةِ، صَارَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ ذَوَوْا الْأَرْحَامِ مُخْتَصًّا بِمَنْ لَا فَرْضَ لَهُ وَلَا تَعْصِيبَ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْجَائِزِ يَعُمُّ مَا وَجَبَ وَلَزِمَ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْعُقُودِ وَمَا لَمْ يَلْزَمْ، فَلَمَّا خُصَّ بَعْضُ الْأَعْمَالِ بِالْوُجُوبِ، وَبَعْضُ الْعُقُودِ بِاللُّزُومِ بَقِيَ اسْمُ الْجَائِزِ فِي عُرْفِهِمْ مُخْتَصًّا بِالنَّوْعِ الْآخَرِ. وَكَذَلِكَ اسْمُ الْخَمْرِ هُوَ عَامٌّ لِكُلِّ شَرَابٍ، لَكِنْ لَمَّا أَفْرَدَ مَا يُصْنَعُ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ بِاسْمِ النَّبِيذِ صَارَ اسْمُ الْخَمْرِ فِي الْعُرْفِ مُخْتَصًّا بِعَصِيرِ الْعِنَبِ، حَتَّى ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ

مسألة التأخر عن الصف الأول

الْعُلَمَاءِ أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ. وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعُمُومِهِ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ. وَبِسَبَبِ هَذَا الِاشْتِرَاكِ الْحَادِثِ غَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي فَهْمِ الْخِطَابِ بِلَفْظِ السَّعْيِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ عَامٌّ فِي كُلِّ ذَهَابٍ وَمُضِيٍّ، وَهُوَ السَّعْيُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ يُخَصُّ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ بِاسْمِ الْمَشْيِ، فَيَبْقَى لَفْظُ السَّعْيِ مُخْتَصًّا بِالنَّوْعِ الْآخَرِ، وَهَذَا هُوَ السَّعْيُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ: «إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعُونِ، وَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ» وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَقْرَأُ: (فَامْضُوا) وَيَقُولُ: لَوْ قَرَأْتهَا فَاسْعَوْا لَعَدَوْت حَتَّى يَكُونَ كَذَا، وَهَذَا إنْ صَحَّ عَنْهُ فَيَكُونُ قَدْ اعْتَقَدَ أَنَّ لَفْظَ السَّعْيِ هُوَ الْخَاصُّ. وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا: السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُهَرْوِلُ فِي بَطْنِ الْوَادِي بَيْنَ الْمِيلَيْنِ. ثُمَّ لَفْظُ السَّعْيِ يُخَصُّ بِهَذَا. وَقَدْ يُجْعَلُ لَفْظُ السَّعْيِ عَامًّا لِجَمِيعِ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، لَكِنْ هَذَا كَأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَعْضَهُ سَعْيٌ خَاصٌّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ التَّأَخُّرُ عَنْ الصَّفِّ الْأَوَّلِ] 150 - 66 مَسْأَلَةٌ: فِي أَقْوَامٍ يَبْتَدِرُونَ الصَّلَاةَ قَبْلَ النَّاسِ، وَقَبْلَ تَكْمِيلِ الصُّفُوفِ وَيَتَّخِذُونَ لَهُمْ مَوَاضِعَ دُونَ الصَّفِّ، فَهَلْ يَجُوزُ التَّأَخُّرُ عَنْ الصَّفِّ الْأَوَّلِ؟ الْجَوَابُ: قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا تُصَفُّونَ كَمَا تُصَفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ كَيْفَ تُصَفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: يَسُدُّونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ، وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ» وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا

مسألة تسوية الصفوف في الصلاة

آخِرُهَا» وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ السُّنَنِ الَّتِي يَنْبَغِي فِيهَا لِلْمُصَلِّينَ أَنْ يُتِمُّوا الصَّفَّ الْأَوَّلَ، ثُمَّ الثَّانِيَ. فَمَنْ جَاءَ أَوَّلَ النَّاسِ، وَصَفَّ فِي غَيْرِ الْأَوَّلِ، فَقَدْ خَالَفَ الشَّرِيعَةَ وَإِذَا ضَمَّ إلَى ذَلِكَ إسَاءَةَ الصَّلَاةِ، أَوْ فُضُولَ الْكَلَامِ، أَوْ مَكْرُوهَهُ، أَوْ مُحَرَّمَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ: مِمَّا يُصَانُ الْمَسْجِدُ عَنْهُ، فَقَدْ تَرَكَ تَعْظِيمَ الشَّرَائِعِ، وَخَرَجَ عَنْ الْحُدُودِ الْمَشْرُوعَةِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ نَقْصَ مَا فَعَلَهُ، وَيَلْتَزِمْ اتِّبَاعَ أَمْرِ اللَّهِ: اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ الَّتِي تَحْمِلُهُ وَأَمْثَالَهُ عَلَى أَدَاءِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَسْوِيَة الصُّفُوف فِي الصَّلَاة] 151 - 67 مَسْأَلَةٌ: فِي الْمُصَلِّينَ إذَا لَمْ يُسَوُّوا صُفُوفَهُمْ، بَلْ كُلُّ إنْسَانٍ يُصَلِّي مُنْفَرِدًا وَهُوَ تَجُوزُ صَلَاتُهُمْ هَكَذَا فِي الْأَسْوَاقِ، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ: بَلْ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُصَلُّوا مُصْطَفِّينَ. وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِفَذٍّ خَلْفَ الصَّفِّ» وَلَا يَصِحُّ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِي السُّوقِ حَتَّى تَتَّصِلَ الصُّفُوفُ؛ بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَارِبُوا الصُّفُوفَ، وَيَسُدُّوا الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْجَهْر بِالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ] 152 - 68 مَسْأَلَةٌ: فِيمَا يَشْتَبِهُ عَلَى الطَّالِبِ لِلْعِبَادَةِ مِنْ جِهَةِ الْأَفْضَلِيَّةِ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَئِمَّةُ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي أَذْكُرُهَا: وَهِيَ أَيُّمَا أَفْضَلُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ تَرْكُ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ أَوْ الْجَهْرُ بِهَا؟ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْقُنُوتِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، أَمْ تَرْكُهُ، أَمْ فِعْلُهُ أَحْيَانًا بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ؟ وَكَذَلِكَ فِي الْوِتْرِ، وَأَيُّمَا أَفْضَلُ طُولُ الصَّلَاةِ وَمُنَاسَبَةُ أَبْعَاضِهَا فِي الْكَمْيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، أَوْ تَخْفِيفُهَا بِحَسَبِ مَا اعْتَادُوهُ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ؟ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْوُضُوءِ أَمْ تَرْكُ الْمُدَاوَمَةِ؟ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ مَعَ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي

السَّفَرِ مُدَاوَمَةُ الْجَمْعِ، أَمْ فِعْلُهُ أَحْيَانًا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ؟ وَهَلْ قِيَامُ اللَّيْلِ كُلِّهِ بِدْعَةٌ أَمْ سُنَّةٌ، أَمْ قِيَامُ بَعْضِهِ أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِهِ كُلِّهِ؟ وَكَذَلِكَ سَرْدُ الصَّوْمِ أَفْضَلُ، أَمْ صَوْمُ بَعْضِ الْأَيَّامِ وَإِفْطَارُ بَعْضِهَا؟ وَفِي الْمُوَاصَلَةِ أَيْضًا؟ وَهَلْ لُبْسُ الْخَشِنِ وَأَكْلُهُ دَائِمًا أَفْضَلُ، أَمْ لَا؟ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ فِعْلُ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ فِي السَّفَرِ، أَمْ تَرْكُهَا؟ أَمْ فِعْلُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ. وَكَذَلِكَ التَّطَوُّعُ بِالنَّوَافِلِ فِي السَّفَرِ، وَأَيُّمَا أَفْضَلُ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَمْ الْفِطْرُ؟ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ لِلْجُنُبِ أَنْ يَنَامَ عَلَى وُضُوءٍ أَمْ يُكْرَهُ لَهُ النَّوْمُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ النَّوْمُ فِي الْمَسْجِدِ إذَا تَوَضَّأَ أَمْ لَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؟ وَإِذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً أَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ لِمَرَضٍ، أَوْ يَخَافُ مِنْهُ الضَّرَرَ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، فَهَلْ يَتَيَمَّمُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَقُومُ التَّيَمُّمُ مَقَامَ الْوُضُوءِ فِيمَا ذُكِرَ أَمْ لَا؟ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ فِي إغْمَاءِ هِلَالِ رَمَضَانَ الصَّوْمُ أَمْ الْفِطْرُ؟ أَمْ يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا؟ أَمْ يُسْتَحَبُّ فِعْلُ أَحَدِهِمَا؟ وَهَلْ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، هَلْ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ سُنَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ؟ أَمْ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَرَاتِبِ وَالرَّاتِبِينَ؟ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ لِلسَّالِكِ الْعُزْلَةُ أَمْ الْخُلْطَةُ. وَإِذَا قُدِّرَ أَحَدُهُمَا فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَمْ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ، وَأَيُّمَا أَفْضَلُ تَرْكُ السَّبَبِ مَعَ الْجَمْعِ عَلَى اللَّهِ أَمْ السَّبَبُ مَعَ التَّفْرِقَةِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ إلَّا أَحَدُهُمَا وَإِذَا قُدِّرَ أَحَدُهُمَا فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مُطْلَقًا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذِهِ الْمَسَائِلُ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا النِّزَاعُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِ الْعِبَادَاتِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: مِنْهَا: مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ أَحَدَهُمَا لَمْ يَأْثَمْ بِذَلِكَ، لَكِنْ قَدْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْأَفْضَلِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِأَيِّ قِرَاءَةٍ شَاءَ مِنْهَا، كَالْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَهَذِهِ يَقْرَأُ الْمُسْلِمُ بِمَا شَاءَ مِنْهَا، وَإِنْ اخْتَارَ بَعْضَهَا لِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الِاسْتِفْتَاحَاتُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهَا فِي قِيَامِ

اللَّيْلِ، وَأَنْوَاعُ الْأَدْعِيَةِ الَّتِي كَانَ يَدْعُو بِهَا فِي صَلَاتِهِ فِي آخِرِ التَّشَهُّدِ، فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّابِتَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهَا سَائِغَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلُ لَنَا مِمَّا فَعَلَهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي التَّشَهُّدِ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ. وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» . فَالدُّعَاءُ بِهَذَا أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت، وَمَا أَخَّرْت، وَمَا أَسْرَرْت، وَمَا أَعْلَنْت، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إلَه إلَّا أَنْتَ» وَهَذَا أَيْضًا قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَمَرَ بِهِ. وَمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِهِ فَهُوَ أَوْكَدُ مِمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَمْ يَتَنَازَعْ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِهِ. وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي كَانَ يُكَرِّرُهُ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] أَوْكَدُ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا فَعَلَ كُلًّا مِنْ الْأَمْرَيْنِ كَانَتْ عِبَادَتُهُ صَحِيحَةً، وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ: لَكِنْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْأَفْضَلِ. وَفِيمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ، وَمَسْأَلَةُ الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ، مِنْ جَهْرٍ بِالْبَسْمَلَةِ، وَصِفَةِ الِاسْتِعَاذَةِ وَنَحْوِهَا، مِنْ هَذَا الْبَابِ. فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ جَهَرَ بِالْبَسْمَلَةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَمَنْ خَافَتْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَعَلَى أَنَّ مَنْ قَنَتَ فِي الْفَجْرِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَمَنْ لَمْ يَقْنُتْ فِيهَا صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَكَذَلِكَ الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ. وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ، وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّ قِرَاءَتَهَا لَا تَجِبُ، وَتَنَازَعُوا أَيْضًا فِي اسْتِحْبَابِ قِرَاءَتِهَا وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّ قِرَاءَتَهَا مُسْتَحَبَّةٌ. وَتَنَازَعُوا فِيمَا إذَا تَرَكَ الْإِمَامُ مَا يَعْتَقِدُ الْمَأْمُومُ وُجُوبَهُ، مِثْلَ أَنْ يَتْرُكَ قِرَاءَةَ الْبَسْمَلَةِ

وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا، أَوْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ وَلَا يَتَوَضَّأَ، وَالْمَأْمُومُ يَرَى وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ يُصَلِّي فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغَةِ، وَالْمَأْمُومُ يَرَى أَنَّ الدِّبَاغَ لَا يُطَهِّرُ، أَوْ يَحْتَجِمَ وَلَا يَتَوَضَّأُ وَالْمَأْمُومُ يَرَى الْوُضُوءَ مِنْ الْحِجَامَةِ. وَالصَّحِيحُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ صَحِيحَةٌ خَلْفَ إمَامِهِ، وَإِنْ كَانَ إمَامُهُ مُخْطِئًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ: لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ» . وَكَذَلِكَ إذَا اقْتَدَى الْمَأْمُومُ بِمَنْ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ، أَوْ الْوِتْرِ، قَنَتَ مَعَهُ. سَوَاءٌ قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ، أَوْ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْنُتُ، لَمْ يَقْنُتْ مَعَهُ. وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ يَرَى اسْتِحْبَابَ شَيْءٍ، وَالْمَأْمُومُونَ لَا يَسْتَحِبُّونَهُ، فَتَرَكَهُ لِأَجْلِ الِاتِّفَاقِ وَالِائْتِلَافِ: كَانَ قَدْ أَحْسَنَ. مِثَالُ ذَلِكَ الْوِتْرُ فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِثَلَاثٍ مُتَّصِلَةٍ. كَالْمَغْرِبِ: كَقَوْلِ مَنْ قَالَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا رَكْعَةً مَفْصُولَةً عَمَّا قَبْلَهَا، كَقَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَمْرَيْنِ جَائِزَانِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ يَخْتَارُونَ فَصْلَهُ عَمَّا قَبْلَهُ، فَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ يَرَى الْفَصْلَ، فَاخْتَارَ الْمَأْمُومُونَ أَنْ يُصَلِّيَ الْوِتْرَ كَالْمَغْرِبِ فَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ تَأْلِيفًا لِقُلُوبِهِمْ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ: «لَوْلَا أَنَّ قَوْمَك حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَنَقَضْت الْكَعْبَةَ، وَلَأَلْصَقْتهَا بِالْأَرْضِ؛ وَلَجَعَلْت لَهَا بَابَيْنِ، بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ، وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ» . فَتَرَكَ الْأَفْضَلَ عِنْدَهُ؛ لِئَلَّا يَنْفِرَ النَّاسُ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ رَجُلٌ يَرَى الْجَهْرَ بِالْبَسْمَلَةِ فَأَمَّ بِقَوْمٍ لَا يَسْتَحِبُّونَهُ أَوْ بِالْعَكْسِ

وَوَافَقَهُمْ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْأَفْضَلِ، فَهُوَ بِحَسَبِ مَا اعْتَقَدُوهُ مِنْ السُّنَّةِ. وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ اعْتَقَدَتْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْنُتْ إلَّا شَهْرًا، ثُمَّ تَرَكَهُ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ لَهُ، فَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْقُنُوتَ فِي الْمَكْتُوبَاتِ مَنْسُوخٌ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ اعْتَقَدُوا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا زَالَ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ. وَالصَّوَابُ هُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَكَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهُوَ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ ثُمَّ تَرَكَ هَذَا الْقُنُوتَ، ثُمَّ أَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ بَعْدَ خَيْبَرَ، وَبَعْدَ إسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَنَتَ، وَكَانَ يَقُولُ فِي قُنُوتِهِ: اللَّهُمَّ، أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَك عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» . فَلَوْ كَانَ قَدْ نُسِخَ الْقُنُوتُ لَمْ يَقْنُتْ هَذِهِ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ قَنَتَ فِي الْمَغْرِبِ، وَفِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ» . وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ «كَانَ يَقْنُتُ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَأَكْثَرُ قُنُوتِهِ كَانَ فِي الْفَجْرِ» ، وَلَمْ يَكُنْ يُدَاوِمُ عَلَى الْقُنُوتِ لَا فِي الْفَجْرِ وَلَا غَيْرِهَا: بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَمْ يَقْنُتْ بَعْدَ الرُّكُوعِ إلَّا شَهْرًا» . فَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَا زَالَ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا» إنَّمَا قَالَهُ فِي سِيَاقِ الْقُنُوتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ عَارَضَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ، فَإِنَّ الرَّبِيعَ بْنَ أَنَسٍ لَيْسَ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ، فَكَيْفَ وَهُوَ لَمْ يُعَارِضْهُ. وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يُطِيلُ الْقِيَامَ فِي الْفَجْرِ دَائِمًا، قَبْلَ الرُّكُوعِ. وَأَمَّا أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو فِي الْفَجْرِ دَائِمًا قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ بِدُعَاءٍ يُسْمَعُ مِنْهُ أَوْ لَا يُسْمَعُ فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا، وَكُلُّ مَنْ تَأَمَّلَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ عَلِمَ هَذَا بِالضَّرُورَةِ، وَعَلِمَ

أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ وَاقِعًا لَنَقَلَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَلَمَا أَهْمَلُوا قُنُوتَهُ الرَّاتِبَ الْمَشْرُوعَ لَنَا، مَعَ أَنَّهُمْ نَقَلُوا قُنُوتَهُ الَّذِي لَا يُشْرَعُ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا يُشْرَعُ نَظِيرُهُ؛ فَإِنَّ دُعَاءَهُ لِأُولَئِكَ الْمُعَيَّنِينَ، وَعَلَى أُولَئِكَ الْمُعَيَّنِينَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ إنَّمَا يُشْرَعُ نَظِيرُهُ. فَيُشْرَعُ أَنْ يُقْنَتَ عِنْدَ النَّوَازِلِ يَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَدْعُو عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْفَجْرِ، وَفِي غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ، وَهَكَذَا كَانَ عُمَرُ يَقْنُتُ لَمَّا حَارَبَ النَّصَارَى بِدُعَائِهِ الَّذِي فِيهِ: " اللَّهُمَّ الْعَنْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ " إلَى آخِرِهِ. وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا حَارَبَ قَوْمًا قَنَتَ يَدْعُو عَلَيْهِمْ وَيَنْبَغِي لِلْقَانِتِ أَنْ يَدْعُوَ عِنْدَ كُلِّ نَازِلَةٍ بِالدُّعَاءِ الْمُنَاسِبِ لِتِلْكَ النَّازِلَةِ، وَإِذَا سَمَّى مَنْ يَدْعُو لَهُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ يَدْعُو عَلَيْهِمْ مِنْ الْكَافِرِينَ الْمُحَارِبِينَ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا. وَأَمَّا قُنُوتُ الْوِتْرِ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ: لَا يُسْتَحَبُّ بِحَالٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَنَتَ فِي الْوِتْرِ. وَقِيلَ: بَلْ يُسْتَحَبُّ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، كَمَا يُنْقَلُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ فِي السُّنَنِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - دُعَاءً يَدْعُو بِهِ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ» ، وَقِيلَ: بَلْ يَقْنُتُ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ. كَمَا كَانَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ يَفْعَلُ. وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ قُنُوتَ الْوِتْرِ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ السَّائِغِ فِي الصَّلَاةِ، مَنْ شَاءَ فَعَلَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ. كَمَا يُخَيَّرُ الرَّجُلُ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ، أَوْ خَمْسٍ، أَوْ سَبْعٍ، وَكَمَا يُخَيَّرُ إذَا أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ إنْ شَاءَ فَصَلَ، وَإِنْ شَاءَ وَصَلَ. وَكَذَلِكَ يُخَيَّرُ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ إنْ شَاءَ فَعَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَإِذَا صَلَّى بِهِمْ قِيَامَ رَمَضَانَ فَإِنْ قَنَتَ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَإِنْ قَنَتَ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَإِنْ لَمْ يَقْنُتْ بِحَالٍ فَقَدْ أَحْسَنَ. كَمَا أَنَّ نَفْسَ قِيَامِ رَمَضَانَ لَمْ يُوَقِّتْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ عَدَدًا مُعَيَّنًا؛ بَلْ كَانَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، لَكِنْ كَانَ يُطِيلُ الرَّكَعَاتِ، فَلَمَّا جَمَعَهُمْ عُمَرُ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ، وَكَانَ يُخِفُّ الْقِرَاءَةَ بِقَدْرِ مَا زَادَ مِنْ الرَّكَعَاتِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَخَفُّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ مِنْ تَطْوِيلِ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ، ثُمَّ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ يَقُومُونَ بِأَرْبَعِينَ رَكْعَةً، وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ،

وَآخَرُونَ قَامُوا بِسِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَأَوْتَرُوا بِثَلَاثٍ، وَهَذَا كُلُّهُ سَائِغٌ، فَكَيْفَمَا قَامَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَقَدْ أَحْسَنَ. وَالْأَفْضَلُ يُخْتَلَفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُصَلِّينَ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ احْتِمَالٌ لِطُولِ الْقِيَامِ، فَالْقِيَامُ بِعَشْرِ رَكَعَاتٍ وَثَلَاثٍ بَعْدَهَا. كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي لِنَفْسِهِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ هُوَ الْأَفْضَلُ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَحْتَمِلُونَهُ فَالْقِيَامُ بِعِشْرِينَ هُوَ الْأَفْضَلُ، وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَ الْعَشْرِ وَبَيْنَ الْأَرْبَعِينَ، وَإِنْ قَامَ بِأَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا جَازَ ذَلِكَ وَلَا يُكْرَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ فِيهِ عَدَدٌ مُوَقَّتٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ السَّعَةُ فِي نَفْسِ عَدَدِ الْقِيَامِ، فَكَيْفَ الظَّنُّ بِزِيَادَةِ الْقِيَامِ لِأَجْلِ دُعَاءِ الْقُنُوتِ أَوْ تَرْكِهِ، كُلُّ ذَلِكَ سَائِغٌ حَسَنٌ. وَقَدْ يَنْشَطُ الرَّجُلُ فَيَكُونُ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ تَطْوِيلَ الْعِبَادَةِ، وَقَدْ لَا يَنْشَطُ فَيَكُونُ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ تَخْفِيفُهَا. وَكَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعْتَدِلَةً. إذَا أَطَالَ الْقِيَامَ أَطَالَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَإِذَا خَفَّفَ الْقِيَامَ خَفَّفَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ فِي الْمَكْتُوبَاتِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ، هَلْ الْأَفْضَلُ طُولُ الْقِيَامِ؟ أَمْ كَثْرَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؟ أَوْ كِلَاهُمَا سَوَاءٌ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَصَحُّهَا أَنَّ كِلَيْهِمَا سَوَاءٌ، فَإِنَّ الْقِيَامَ اخْتَصَّ بِالْقِرَاءَةِ، وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَالسُّجُودُ نَفْسُهُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِيَامِ، فَيَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا طَوَّلَ الْقِيَامَ أَنْ يُطِيلَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَهَذَا هُوَ طُولُ الْقُنُوتِ الَّذِي أَجَابَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا «قِيلَ لَهُ: أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: طُولُ الْقُنُوتِ» فَإِنَّ الْقُنُوتَ هُوَ إدَامَةُ الْعِبَادَةِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالِ الْقِيَامِ، أَوْ الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9]

فَسَمَّاهُ قَانِتًا فِي حَالِ سُجُودِهِ، كَمَا سَمَّاهُ قَانِتًا فِي حَالِ قِيَامِهِ. وَأَمَّا الْبَسْمَلَةُ: فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ يَجْهَرُ بِهَا، وَفِيهِمْ مَنْ كَانَ لَا يَجْهَرُ بِهَا، بَلْ يَقْرَؤُهَا سِرًّا، أَوْ لَا يَقْرَؤُهَا وَاَلَّذِينَ كَانُوا يَجْهَرُونَ بِهَا أَكْثَرُهُمْ كَانَ يَجْهَرُ بِهَا تَارَةً، وَيُخَافِتُ بِهَا أُخْرَى وَهَذَا لِأَنَّ الذِّكْرَ قَدْ تَكُونُ السُّنَّةُ الْمُخَافَتَةَ بِهِ، وَيَجْهَرُ بِهِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ مِثْلَ تَعْلِيمِ الْمَأْمُومِينَ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ «ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ جَهَرَ بِالْفَاتِحَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ، لِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّهَا سُنَّةٌ» . وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ عَلَى ثَلَاثِهِ أَقْوَالٍ: قِيلَ: لَا تُسْتَحَبُّ بِحَالٍ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. وَقِيلَ: بَلْ يَجِبُ فِيهَا الْقِرَاءَةُ بِالْفَاتِحَةِ. كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. وَقِيلَ: بَلْ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا سُنَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ بَلْ دَعَا بِلَا قِرَاءَةٍ جَازَ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: " اللَّهُ أَكْبَرُ، سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، وَتَبَارَكَ اسْمُك، وَتَعَالَى جَدُّك، وَلَا إلَهَ غَيْرُك " يَجْهَرُ بِذَلِكَ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَهْرَ بِذَلِكَ لَيْسَ بِسُنَّةٍ رَاتِبَةٍ: لَكِنْ جَهَرَ بِهِ لِلتَّعْلِيمِ، وَلِذَلِكَ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ أَحْيَانًا بِالتَّعَوُّذِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ جَهَرَ بِالِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ مَعَ إقْرَارِ الصَّحَابَةِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَالْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. وَأَنْ يُشْرَعَ الْجَهْرُ بِهَا أَحْيَانًا لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ. لَكِنْ لَا نِزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَجْهَرْ بِالِاسْتِفْتَاحِ. وَلَا بِالِاسْتِعَاذَةِ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ «أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَاذَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَعِّدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ، كَمَا بَعَّدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ

مِنْ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ» . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ «كَانَ يَسْتَعِيذُ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ» ، وَالْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ أَقْوَى مِنْ الْجَهْرِ بِالِاسْتِعَاذَةِ؛ لِأَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِهَا، وَإِنْ كَانُوا قَدْ تَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ الِاسْتِفْتَاحِ، وَالِاسْتِعَاذَةِ. وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ أَضْعَفُ مِنْ النِّزَاعِ فِي وُجُوبِ الْبَسْمَلَةِ. وَالْقَائِلُونَ بِوُجُوبِهَا مِنْ الْعُلَمَاءِ أَفْضَلُ وَأَكْثَرُ، لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِهَا، وَلَيْسَ فِي الصِّحَاحِ وَلَا السُّنَنِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ بِالْجَهْرِ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّرِيحَةُ بِالْجَهْرِ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ؛ بَلْ مَوْضُوعَةٌ؛ وَلِهَذَا لَمَّا صَنَّفَ الدَّارَقُطْنِيُّ مُصَنَّفًا فِي ذَلِكَ، قِيلَ لَهُ: هَلْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ صَحِيحٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا، وَأَمَّا عَنْ الصَّحَابَةِ فَمِنْهُ صَحِيحٌ، وَمِنْهُ ضَعِيفٌ. وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْهَرُ بِهَا دَائِمًا، لَكَانَ الصَّحَابَةُ يَنْقُلُونَ ذَلِكَ. وَلَكَانَ الْخُلَفَاءُ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَلَمَا كَانَ النَّاسُ يَحْتَاجُونَ أَنْ يَسْأَلُوا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَصْرِ الْخُلَفَاءِ، وَلَمَا كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ ثُمَّ خُلَفَاءُ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي الْعَبَّاسِ كُلُّهُمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى تَرْكِ الْجَهْرِ، وَلَمَا كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ - وَهُمْ أَعْلَمُ أَهْلِ الْمَدَائِنِ بِسُنَّتِهِ - يُنْكِرُونَ قِرَاءَتَهَا بِالْكُلِّيَّةِ سِرًّا، وَجَهْرًا، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَلَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ، وَلَا غَيْرِهَا. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ هِيَ آيَةٌ، أَوْ بَعْضُ آيَةٍ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ أَوْ لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا فِي سُورَةِ النَّمْلِ؟ أَوْ هِيَ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ حَيْثُ كُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ، وَلَيْسَتْ مِنْ السُّوَرِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: هُوَ أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ، وَبِهِ تَجْتَمِعُ الْأَدِلَّةُ، فَإِنَّ كِتَابَةَ الصَّحَابَةِ لَهَا فِي الْمَصَاحِفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. وَكَوْنَهُمْ فَصَلُوهَا عَنْ السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ

النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «نَزَلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] إلَى آخِرِهَا» . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ أَوَّلُ مَا جَاءَ الْمَلَكُ بِالْوَحْيِ قَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2] {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق: 3] {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 4] {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5] » ، فَهَذَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ، وَلَمْ يَنْزِلْ قَبْلَ ذَلِكَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَثَبَتَ عَنْهُ فِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ: «سُورَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ، وَهِيَ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] » . وَهِيَ ثَلَاثُونَ آيَةً بِدُونِ الْبَسْمَلَةِ. وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، نِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] قَالَ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] قَالَ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ. وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قَالَ اللَّهُ: هَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» فَهَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ، وَلَمْ يُعَارِضْهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ. وَأَجْوَدُ مَا يُرَى فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْحَدِيثِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُقْرَأُ بِهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْهَا، وَلِهَذَا كَانَ الْقُرَّاءُ مِنْهُمْ مَنْ يَقْرَأُ بِهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْرَأُ بِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ سَائِغٌ، لَكِنْ مَنْ قَرَأَ بِهَا كَانَ

قَدْ أَتَى بِالْأَفْضَلِ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَرَّرَ قِرَاءَتَهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ كَانَ أَحْسَنَ مِمَّنْ تَرَكَ قِرَاءَتَهَا؛ لِأَنَّهُ قَرَأَ مَا كَتَبَتْهُ الصَّحَابَةُ فِي الْمَصَاحِفِ، فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ كَتَبُوهَا عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّكِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُقْرَأَ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّكِ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَكْتُبُونَ فِي الْمُصْحَفِ مَا لَا يُشْرَعُ قِرَاءَتُهُ، وَهُمْ قَدْ جَرَّدُوا الْمُصْحَفَ عَمَّا لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ، حَتَّى أَنَّهُمْ لَمْ يَكْتُبُوا التَّأْمِينَ، وَلَا أَسْمَاءَ السُّوَرِ وَلَا التَّخْمِيسَ، وَالتَّعْشِيرَ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ. مَعَ أَنَّ السُّنَّةَ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقُولَ عَقِبَ الْفَاتِحَةِ: آمِينَ، فَكَيْفَ يَكْتُبُونَ مَا لَا يُشْرَعُ أَنْ يَقُولَهُ، وَهُمْ لَمْ يَكْتُبُوا مَا يُشْرَعُ أَنْ يَقُولَهُ الْمُصَلِّي مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ، فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَلَيْسَتْ مِنْ السُّورَةِ وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْ أَنَسٍ لَيْسَ فِيهِ نَفْيُ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ «فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» أَوْ «فَلَمْ يَكُونُوا يَجْهَرُونَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى «فَلَمْ يَكُونُوا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا آخِرِهَا» إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْجَهْرِ، لِأَنَّ أَنَسًا لَمْ يَنْفِ إلَّا مَا عَلِمَ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا كَانَ يَقُولُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِرًّا. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَسْكُتُ، بَلْ يَصِلُ التَّكْبِيرَ بِالْقِرَاءَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ «أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لَهُ: أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، مَاذَا تَقُولُ» وَمَنْ تَأَوَّلَ حَدِيثَ أَنَسٍ عَلَى نَفْيِ قِرَاءَتِهَا سِرًّا فَهُوَ مُقَابِلٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ مُرَادُ أَنَسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَبْلَ غَيْرِهَا مِنْ السُّوَرِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْعِلْمِ الْعَامِّ الَّذِي مَا زَالَ النَّاسُ يَفْعَلُونَهُ، وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ صَلَّى خَلْفَهُمْ أَنَسٌ يَقْرَءُونَ الْفَاتِحَةَ قَبْلَ السُّورَةِ، وَلَمْ يُنَازِعْ فِي ذَلِكَ أَحْمَدُ وَلَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَحَدٌ لَا أَنَسٌ وَلَا غَيْرُهُ، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَرْوِيَ أَنَسٌ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبَيْهِ، وَمَنْ رَوَى عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ شَكَّ هَلْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ الْبَسْمَلَةَ أَوْ لَا يَقْرَأهَا، فَرِوَايَتُهُ تُوَافِقُ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ، لِأَنَّ أَنَسًا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ هَلْ قَرَأَهَا سِرًّا أَمْ لَا، وَإِنَّمَا نَفَى الْجَهْرَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الَّذِي اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ الْأَمْرَانِ: فِعْلُ الرَّوَاتِبِ فِي

السَّفَرِ، فَإِنَّهُ مَنْ شَاءَ فَعَلَهَا، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهَا، بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَالصَّلَاةُ الَّتِي يَجُوزُ فِعْلُهَا وَتَرْكُهَا، قَدْ يَكُونُ فِعْلُهَا أَحْيَانًا أَفْضَلَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إلَيْهَا، وَقَدْ يَكُونُ تَرْكُهَا أَفْضَلَ إذَا كَانَ مُشْتَغِلًا عَنْ النَّافِلَةِ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا؛ لَكِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّفَرِ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي مِنْ الرَّوَاتِبِ إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ» ، «وَلَمَّا نَامَ عَنْ الْفَجْرِ صَلَّى السُّنَّةَ وَالْفَرِيضَةَ بَعْدَمَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ» ، «وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا» ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ وَهَذَا كُلُّهُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ. فَأَمَّا الصَّلَاةُ قَبْلَ الظُّهْرِ وَبَعْدَهَا، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ، فَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرِيضَةِ. فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُوَقِّتْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا. وَمِنْهُمْ مَنْ وَقَّتَ أَشْيَاءَ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ؛ بَلْ أَحَادِيثَ يَعْلَمُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ، كَمَا يُوَقِّتُ سِتًّا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا، وَأَرْبَعًا قَبْلَ الْعَصْرِ، وَأَرْبَعًا قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْبَابِ الْقَوْلُ بِمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ دُونَ مَا عَارَضَهَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ» وَحَدِيثُ عَائِشَةَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا» ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا، وَسَائِرُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَهَكَذَا فِي الصَّحِيحِ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحَّحَهَا التِّرْمِذِيُّ «صَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ» . وَحَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» . وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَنِ تَفْسِيرُهَا: «أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ» فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِيهِ أَنَّهُ رَغَّبَ بِقَوْلِهِ فِي ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً.

وَفِي الْحَدِيثَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ الْمَكْتُوبَةِ إمَّا عَشْرَ رَكَعَاتٍ، وَإِمَّا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً» ، «وَكَانَ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً» ، فَكَانَ مَجْمُوعُ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ نَحْوُ أَرْبَعِينَ رَكْعَةً، كَانَ يُوتِرُ صَلَاةَ النَّهَارِ بِالْمَغْرِبِ، وَيُوتِرُ صَلَاةَ اللَّيْلِ بِوِتْرِ اللَّيْلِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، بَيْنَ كُلّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، وَقَالَ: فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ» كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ «أَصْحَابَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ بَيْنَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ وَإِقَامَتِهَا رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ يَرَاهُمْ وَلَا يَنْهَاهُمْ» ، فَإِذَا كَانَ التَّطَوُّعُ بَيْنَ أَذَانَيْ الْمَغْرِبِ مَشْرُوعًا، فَلَأَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا بَيْنَ أَذَانَيْ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ السُّنَّةَ تَعْجِيلُ الْمَغْرِبِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَقَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَقَبْلَ الْعِشَاءِ: مِنْ التَّطَوُّعِ الْمَشْرُوعِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا بِقَوْلِهِ، وَلَا دَاوَمَ عَلَيْهَا بِفِعْلِهِ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ كَانَ لَهُ سُنَّةٌ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْعَصْرِ قَضَاهَا بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَدْ غَلِطَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تِلْكَ رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ لَمَّا فَاتَتْهُ قَضَاهَا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَمَا يُفْعَلُ بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُوَ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَلَمْ يَقْضِ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَّا الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ. وَالتَّطَوُّعُ الْمَشْرُوعُ كَالصَّلَاةِ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ، وَكَالصَّلَاةِ وَقْتَ الضُّحَى، وَنَحْوَ ذَلِكَ، هُوَ كَسَائِرِ التَّطَوُّعَاتِ مِنْ الذِّكْرِ الْقِرَاءَةُ وَالدُّعَاءُ مِمَّا قَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا لِمَنْ لَا يَشْتَغِلُ عَنْهُ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَلَا يَكُونُ مُسْتَحَبًّا لِمَنْ اشْتَغَلَ عَنْهُ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْقَلِيلِ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرٍ لَا يُدَاوَمُ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِيمَةً. وَاسْتَحَبَّ الْأَئِمَّةُ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ عَدَدٌ مِنْ الرَّكَعَاتِ يَقُومُ بِهَا مِنْ اللَّيْلِ لَا يَتْرُكُهَا، فَإِنْ نَشِطَ أَطَالَهَا، وَإِنْ كَسِلَ خَفَّفَهَا، وَإِذَا نَامَ عَنْهَا صَلَّى بَدَلَهَا مِنْ النَّهَارِ، كَمَا كَانَ

«النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا نَامَ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ صَلَّى فِي النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً» ، وَقَالَ: «مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ فَقَرَأَهُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ» . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ صَلَاةُ الضُّحَى فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسُنَّتِهِ، وَمَنْ زَعَمَ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ رَكْعَتَيْ الضُّحَى كَانَتَا وَاجِبَتَيْنِ عَلَيْهِ، فَقَدْ غَلِطَ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ «ثَلَاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرِيضَةٌ، وَلَكُمْ تَطَوُّعٌ: الْوِتْرُ، وَالْفَجْرُ، وَرَكْعَتَا الضُّحَى» حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ: بَلْ ثَبَتَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي وَقْتَ الضُّحَى لِسَبَبٍ عَارِضٍ؛ لَا لِأَجْلِ الْوَقْتِ: مِثْلُ أَنْ يَنَامَ مِنْ اللَّيْلِ، فَيُصَلِّي مِنْ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَمِثْلُ أَنْ يَقْدَمَ مِنْ سَفَرٍ وَقْتَ الضُّحَى، فَيَدْخُلَ الْمَسْجِدَ فَيُصَلِّيَ فِيهِ. وَمِثْلُ مَا «صَلَّى لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ» ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ كَانُوا يُسَمُّونَهَا صَلَاةَ الْفَتْحِ؛ وَكَانَ مِنْ الْأُمَرَاءِ مَنْ يُصَلِّيهَا إذَا فَتَحَ مِصْرًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا صَلَّاهَا لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ. وَلَوْ كَانَ سَبَبُهَا مُجَرَّدَ الْوَقْتِ كَقِيَامِ اللَّيْلِ، لَمْ يَخْتَصَّ بِفَتْحِ مَكَّةَ؛ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ لَا يُصَلِّي الضُّحَى؛ لَكِنْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ: صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى كُلَّ يَوْمٍ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ

فصل الصوم والفطر للمسافر في رمضان

رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَهْلِ قُبَاءَ وَهُمْ يُصَلُّونَ الضُّحَى، فَقَالَ: صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ إذَا رَمِضَتْ الْفِصَالُ مِنْ الضُّحَى» . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَأَمْثَالُهَا تُبَيِّنُ أَنَّ الصَّلَاةَ وَقْتَ الضُّحَى حَسَنَةٌ مَحْبُوبَةٌ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَهَلْ الْأَفْضَلُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا؟ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ الْأَفْضَلُ تَرْكُ الْمُدَاوَمَةِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ هَذَا مِمَّا تَنَازَعُوا فِيهِ. وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُقَالَ: مَنْ كَانَ مُدَاوِمًا عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ أَغْنَاهُ عَنْ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ، وَمَنْ كَانَ يَنَامُ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ فَصَلَاةُ الضُّحَى بَدَلٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ أَوْصَاهُ أَنْ يُوتِرَ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ» ، وَهَذَا إنَّمَا يُوصَى بِهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَادَتُهُ قِيَامَ اللَّيْلِ، وَإِلَّا فَمَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ قِيَامَ اللَّيْلِ، وَهُوَ يَسْتَيْقِظُ غَالِبًا مِنْ اللَّيْلِ، فَالْوِتْرُ آخِرَ اللَّيْلِ أَفْضَلُ لَهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ خَشِيَ أَنْ لَا يَسْتَيْقِظَ آخِرَ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَسْتَيْقِظَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَهُ، فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ» وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ؟ فَقَالَ: قِيَامُ اللَّيْلِ» . [فَصْلٌ الصَّوْمُ وَالْفِطْرُ لِلْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ] فَصْلٌ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ أَنَّهُ سَنَّ الْأَمْرَيْنِ، لَكِنْ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ حَرَّمَ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ، أَوْ كَرِهَهُ، لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْلُغْهُ، أَوْ تَأَوَّلَ الْحَدِيثَ تَأْوِيلًا ضَعِيفًا، وَالصَّوَابُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمَّتِهِ فَهُوَ مَسْنُونٌ، لَا يُنْهَى عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنْوَاعُ التَّشَهُّدَاتِ: فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَشَهُّدُ

ابْنِ مَسْعُودٍ، وَثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ تَشَهُّدُ أَبِي مُوسَى، وَأَلْفَاظُهُ قَرِيبَةٌ مِنْ أَلْفَاظِهِ. وَثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ تَشَهُّدُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِي السُّنَنِ تَشَهُّدُ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَجَابِرٍ، وَثَبَتَ فِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ تَشَهُّدًا عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ لِيُعَلِّمَهُمْ تَشَهُّدًا يُقِرُّونَهُ عَلَيْهِ إلَّا وَهُوَ مَشْرُوعٌ، فَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ التَّشَهُّدَ بِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ جَائِزٌ، لَا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْإِتْيَانَ بِأَلْفَاظِ تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَاجِبٌ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، فَقَدْ أَخْطَأَ. وَمِنْ ذَلِكَ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ: فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيح عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ بِلَالًا أُمِرَ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ» وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ عَلَّمَ أَبَا مَحْذُورَةَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ، فَرَجَّعَ فِي الْأَذَانِ، وَثَنَّى الْإِقَامَةَ» وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ «أَنَّهُ كَبَّرَ فِي أَوَّلِهِ أَرْبَعًا» ، كَمَا فِي السُّنَنِ، وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّهُ كَبَّرَ مَرَّتَيْنِ» ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَفِي السُّنَنِ أَنَّ أَذَانَ بِلَالٍ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ لَيْسَ فِيهِ تَرْجِيعٌ لِلْأَذَانِ، وَلَا تَثْنِيَةٌ لِلْإِقَامَةِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَذَانِ بِلَالٍ وَأَبِي مَحْذُورَةَ سُنَّةٌ، فَسَوَاءٌ رَجَّعَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْأَذَانِ، أَوْ لَمْ يُرَجِّعْ، وَسَوَاءٌ أَفْرَدَ الْإِقَامَةَ، أَوْ ثَنَّاهَا، فَقَدْ أَحْسَنَ، وَاتَّبَعَ السُّنَّةَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ التَّرْجِيعَ وَاجِبٌ، لَا بُدَّ مِنْهُ، أَوْ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَكِلَاهُمَا مُخْطِئٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: إنَّ إفْرَادَ الْإِقَامَةِ مَكْرُوهٌ أَوْ تَثْنِيَتَهَا مَكْرُوهٌ، فَقَدْ أَخْطَأَ. وَأَمَّا اخْتِيَارُ أَحَدِهِمَا فَهَذَا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، كَاخْتِيَارِ بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ عَلَى بَعْضٍ، وَاخْتِيَارِ بَعْضِ التَّشَهُّدَاتِ عَلَى بَعْضٍ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَنْوَاعُ " صَلَاةِ الْخَوْفِ " الَّتِي صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُ " الِاسْتِسْقَاءِ " فَإِنَّهُ اسْتَسْقَى مَرَّةً فِي مَسْجِدِهِ بِلَا صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَمَرَّةً خَرَجَ إلَى

الصَّحْرَاءِ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانُوا يَسْتَسْقُونَ بِالدُّعَاءِ بِلَا صَلَاةٍ، كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ، فَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ جَائِزٌ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الصَّوْمُ وَالْفِطْرُ لِلْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ: فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ، وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا الْفِطْرُ، وَأَنَّهُ لَوْ صَامَ لَمْ يُجْزِئْهُ. وَزَعَمُوا أَنَّ الْإِذْنَ لَهُمْ فِي الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» وَالصَّحِيحُ مَا عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ. وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يُنَافِي إذْنَهُ لَهُمْ فِي الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَإِنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْبِرِّ، وَلَمْ يَنْفِ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا مُبَاحًا، وَالْفَرْضُ يَسْقُطُ بِفِعْلِ النَّوْعِ الْجَائِزِ الْمُبَاحِ، إذَا أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ كَوْنُهُ فِي السَّفَرِ لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ، كَمَا لَوْ صَامَ وَعَطَّشَ نَفْسَهُ بِأَكْلِ الْمَالِحِ، أَوْ صَامَ وَأَضْحَى لِلشَّمْسِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي الشَّمْسِ، وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَعْنَاهُ لَيْسَ مَنْ صَامَ بِأَبَرَّ مِمَّنْ لَمْ يَصُمْ. فَفِي هَذَا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَ أَفْضَلُ، فَإِنَّهُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ صَامَ أَوَّلًا فِي السَّفَرِ؛ ثُمَّ أَفْطَرَ فِيهِ. وَمَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ نَقْصٌ فِي الدِّينِ، فَهَذَا مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ وَإِذَا صَامَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُعْتَقِدًا وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَيْهِ، وَتَحْرِيمَ الْفِطْرِ، فَقَدْ أَمَرَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِالْإِعَادَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو سَأَلَهُ؛ فَقَالَ: إنَّنِي رَجُلٌ أُكْثِرُ الصَّوْمَ، أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: إنْ أَفْطَرْت فَحَسَنٌ، وَإِنْ صُمْت فَلَا بَأْسَ» فَإِذَا فَعَلَ الرَّجُلُ فِي السَّفَرِ أَيْسَرَ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهِ مِنْ تَعْجِيلِ الصَّوْمِ أَوْ تَأْخِيرِهِ، فَقَدْ أَحْسَنَ فَإِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ بِنَا الْيُسْرَ، وَلَا يُرِيدُ بِنَا الْعُسْرَ. أَمَّا إذَا كَانَ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَشَقَّ عَلَيْهِ مِنْ تَأْخِيرِهِ، فَالتَّأْخِيرُ أَفْضَلُ، فَإِنَّ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» وَأَخْرَجَهُ بَعْضُهُمْ إمَّا ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَإِمَّا غَيْرُهُ فِي صَحِيحِهِ وَهَذِهِ الصِّحَاحُ مَرْتَبَتُهَا دُونَ مَرْتَبَةِ صَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ

وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ الْغَيْمِ: إذَا حَالَ دُونَ مَنْظَرِ الْهِلَالِ غَيْمٌ، أَوْ قَتَرٌ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ، فَكَانَ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ يَصُومُهُ احْتِيَاطًا، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُفْطِرُ، وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مِنْهُمْ أَوْجَبَ صَوْمَهُ، بَلْ الَّذِينَ صَامُوهُ إنَّمَا صَامُوهُ عَلَى طَرِيقِ التَّحَرِّي وَالِاحْتِيَاطِ، وَالْآثَارُ الْمَنْقُولَةُ عَنْهُمْ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ، كَمَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَمُعَاوِيَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَغَيْرِهِمْ. وَالْعُلَمَاءُ مُتَنَازِعُونَ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ: مِنْهُمْ مَنْ نَهَى عَنْ صَوْمِهِ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُهُ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْرَعُ فِيهِ الْأَمْرَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْإِمْسَاكِ إذَا غَمَّ مَطْلَعُ الْفَجْرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ اتِّبَاعًا لِابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، لَا عَلَى طَرِيقِ الْإِيجَابِ، كَسَائِرِ مَا يُشَكُّ فِي وُجُوبِهِ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ احْتِيَاطًا مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ. وَإِذَا صَامَهُ الرَّجُلُ بِنِيَّةٍ مُعَلَّقَةٍ بِأَنْ يَنْوِيَ إنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ وَإِلَّا فَلَا، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ النِّيَّةَ تَتْبَعُ الْعِلْمَ، فَمَنْ عَلِمَ مَا يُرِيدُ فِعْلَهُ نَوَاهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الشَّيْءَ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقْصِدَهُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقْصِدَ صَوْمَ رَمَضَانَ جَزْمًا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ. وَقَدْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَاَلَّذِي مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ، فَلَا يُصَلِّي الرُّبَاعِيَّةَ فِي السَّفَرِ إلَّا رَكْعَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الشَّيْخَانِ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ. وَمَا كَانَ يَجْمَعُ فِي السَّفَرِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إلَّا أَحْيَانًا عِنْدَ الْحَاجَةِ، لَمْ يَكُنْ جَمْعُهُ كَقَصْرِهِ، بَلْ الْقَصْرُ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ، وَالْجَمْعُ رُخْصَةٌ عَارِضَةٌ، فَمَنْ نَقَلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ رَبَّعَ فِي السَّفَرِ الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ أَوْ الْعِشَاءَ فَهَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْهُ أَحَدٌ لَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَلَا ضَعِيفٍ. وَلَكِنْ رَوَى بَعْضُ النَّاسِ حَدِيثًا عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّفَرِ يَقْصُرُ، وَتُتِمُّ، وَيُفْطِرُ، وَتَصُومُ فَسَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَحْسَنْت يَا عَائِشَةُ» فَتَوَهَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ هُوَ كَانَ الَّذِي يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَيُتِمُّ،

وَهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ، وَنَفْسُ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي فِعْلِهَا بَاطِلٌ، وَلَمْ تَكُنْ عَائِشَةُ وَلَا أَحَدَ غَيْرُهَا مِمَّنْ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي إلَّا كَصَلَاتِهِ، وَلَمْ يُصَلِّ مَعَهُ أَحَدٌ أَرْبَعًا قَطُّ لَا بِعَرَفَةَ وَلَا بِمُزْدَلِفَةَ وَلَا غَيْرِهِمَا، لَا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ، بَلْ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَهُ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ يُقِيمُ بِمِنًى أَيَّامَ الْمَوْسِمِ يُصَلِّي بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي أَوَّلِ خِلَافَتِهِ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعًا لِأُمُورٍ رَآهَا تَقْتَضِي ذَلِكَ، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ وَافَقَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَالَفَهُ. وَلَمْ يَجْمَعْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إلَّا بِعَرَفَةَ وَبِمُزْدَلِفَةَ خَاصَّةً، لَكِنَّهُ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْفَارِهِ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ إلَى بَعْدِ الْعِشَاءِ، ثُمَّ صَلَّاهُمَا جَمِيعًا، ثُمَّ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ فَصَلَّاهُمَا جَمِيعًا؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ يَجُوزُ، سَوَاءٌ نَوَى الْقَصْرَ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ سَوَاءٌ نَوَاهُ مَعَ الصَّلَاةِ الْأُولَى، أَوْ لَمْ يَنْوِهِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا صَلَّوْا خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَةَ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَأْمُرْهُمْ عِنْدَ افْتِتَاحِ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِأَنْ يَنْوُوا الْجَمْعَ، وَلَا كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَجْمَعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي غَيْرِ سَفْرَتِهِ تِلْكَ، وَلَا أَمَرَ أَحَدًا خَلْفَهُ لَا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَلَا غَيْرِهِمْ أَنْ يَنْفَرِدَ عَنْهُ، لَا بِتَرْبِيعِ الصَّلَاتَيْنِ، وَلَا بِتَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعَصْرِ، بَلْ صَلَّوْهَا مَعَهُ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ، وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ الْأَفْضَلُ إلَّا قَوْلًا شَاذًّا لِبَعْضِهِمْ، وَاتَّفَقُوا أَنَّ فِعْلَ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبَبٌ يُوجِبُ الْجَمْعَ، إلَّا قَوْلًا شَاذًّا لِبَعْضِهِمْ. وَالْقَصْرُ سَبَبُهُ السَّفَرُ خَاصَّةً لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ السَّفَرِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ فَسَبَبُهُ الْحَاجَةُ وَالْعُذْرُ، فَإِذَا احْتَاجَ إلَيْهِ جَمَعَ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ، وَالطَّوِيلِ وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ لِلْمَطَرِ وَنَحْوِهِ، وَلِلْمَرَضِ وَنَحْوِهِ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ رَفْعُ الْحَرَجِ عَنْ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ جَمَعَ فِي السَّفَرِ وَهُوَ نَازِلٌ إلَّا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْمُجَوِّزُونَ لِلْجَمْعِ. كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: هَلْ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمُسَافِرِ النَّازِلِ؟ فَمَنَعَ مِنْهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَجَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ الْجَمْعَ إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ.

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ التَّمَتُّعُ وَالْإِفْرَادُ وَالْقِرَانُ فِي الْحَجِّ. فَإِنَّ مَذْهَبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الْأُمَّةِ جَوَازُ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ. وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا التَّمَتُّعُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالشِّيعَةِ، وَكَانَ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْ الْمُتْعَةِ، وَيُعَاقِبُونَ مَنْ تَمَتَّعَ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي حَجِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ تَمَتَّعَ فِيهِ، أَوْ أَفْرَدَ أَوْ قَرَنَ؟ وَتَنَازَعُوا أَيُّ الثَّلَاثَةِ أَفْضَلُ؟ فَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ تَظُنُّ أَنَّهُ تَمَتَّعَ تَمَتُّعًا حَلَّ فِيهِ مِنْ إحْرَامِهِ. وَطَائِفَةٌ أُخْرَى تَظُنُّ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، وَلَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ حَتَّى طَافَ وَسَعَى لِلْعُمْرَةِ. وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، تَظُنُّ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ وَاعْتَمَرَ عَقِيبَ ذَلِكَ. وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ تَظُنُّ أَنَّهُ قَرَنَ قِرَانًا طَافَ فِيهِ طَوَافَيْنِ، وَسَعَى فِيهِ سَعْيَيْنِ. وَطَائِفَةٌ تَظُنُّ أَنَّهُ أَحْرَمَ مُطْلَقًا. وَكُلُّ ذَلِكَ خَطَأٌ لَمْ تَرْوِهِ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -؛ بَلْ عَامَّةُ رِوَايَاتِ الصَّحَابَةِ مُتَّفِقَةٌ، وَمَنْ نَسَبَهُمْ إلَى الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ فَلِعَدَمِ فَهْمِهِ أَحْكَامَهُمْ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ نَقَلُوا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ، هَكَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ، وَنَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ قَرَنَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، وَأَنَّهُ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا، كَمَا نَقَلُوا أَنَّهُ اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ الْحَجِّ، بَلْ لَمْ يَعْتَمِرْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ بَعْدَ الْحَجِّ إلَّا عَائِشَةَ؛ لِأَجْلِ حَيْضَتِهَا. وَلَفْظُ " الْمُتَمَتِّعِ " فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ اسْمٌ لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، سَوَاءٌ أَحْرَمَ بِهِمَا جَمِيعًا، أَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ، أَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ تَحَلُّلِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ، وَهَذَا هُوَ التَّمَتُّعُ الْخَاصُّ فِي عُرْفِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ قَضَاءِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنْهَا لِكَوْنِهِ سَاقَ الْهَدْيَ، أَوْ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَسُقْهُ، وَهَذَا قَدْ يُسَمُّونَهُ مُتَمَتِّعًا التَّمَتُّعَ الْخَاصَّ، وَقَارِنًا. وَقَدْ يَقُولُونَ: لَا يَدْخُلُ فِي التَّمَتُّعِ الْخَاصِّ، بَلْ هُوَ قَارِنٌ. وَمَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ الْقِرَانَ يُسَمُّونَهُ تَمَتُّعًا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ؛ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَقَلُوا أَنَّهُ تَمَتَّعَ نَقَلَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ، فَإِنَّهُ أَفْرَدَ أَعْمَالَ الْحَجِّ، وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ لِأَجْلِ سَوْقِهِ الْهَدْيَ، فَهُوَ لَمْ يَتَمَتَّعْ مُتْعَةً حَلَّ فِيهَا مِنْ إحْرَامِهِ؛ فَلِهَذَا صَارَ كَالْمُفْرِدِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

وَأَمَّا الْأَفْضَلُ لِمَنْ قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ: فَالتَّحَلُّلُ مِنْ إحْرَامِهِ بِعُمْرَةٍ أَفْضَلُ لَهُ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَإِنَّهُ «أَمَرَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ بِالتَّمَتُّعِ» ، وَمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ لَهُ أَفْضَلُ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ اعْتَمَرَ فِي سَفْرَةٍ، وَحَجَّ فِي سَفْرَةٍ، أَوْ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَقَامَ حَتَّى يَحُجَّ فَهَذَا الْإِفْرَادُ لَهُ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: فَهُوَ مِمَّا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ: فَأَوْجَبَ أَحَدُهُمْ شَيْئًا أَوْ اسْتَحَبَّهُ وَحَرَّمَهُ الْآخَرُ، وَالسُّنَّةُ لَا تَدُلُّ إلَّا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ تُسَوِّغْهُمَا جَمِيعًا، فَهَذَا هُوَ أَشْكَلُ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ. وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَالسُّنَّةُ قَدْ سَوَّغَتْ الْأَمْرَيْنِ. وَهَذَا مِثْلُ تَنَازُعِهِمْ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ حَالَ الْجَهْرِ، فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ. قِيلَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ حَالَ جَهْرِ الْإِمَامِ إذَا كَانَ يَسْمَعُ، لَا بِالْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: بَلْ يَجُوزُ الْأَمْرَانِ، وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَهْلِ الشَّامِ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: بَلْ الْقِرَاءَةُ وَاجِبَةٌ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ. وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] قَالَ أَحْمَدُ: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصَّلَاةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ. فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا، وَإِذَا كَبَّرَ وَرَكَعَ فَكَبِّرُوا وَارْكَعُوا، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ، وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ، فَتِلْكَ بِتِلْكَ» الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ. وَرُوِيَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، وَذَكَرَ مُسْلِمٌ أَنَّهُ ثَابِتٌ: فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالْإِنْصَاتِ لِلْإِمَامِ إذَا قَرَأَ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الِائْتِمَامِ بِهِ، فَمَنْ لَمْ يُنْصِتْ لَهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ ائْتَمَّ بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِمَامَ يَجْهَرُ لِأَجْلِ الْمَأْمُومِ، وَلِهَذَا يُؤَمِّنُ الْمَأْمُومُ عَلَى دُعَائِهِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَمِعْ لِقِرَاءَتِهِ ضَاعَ جَهْرُهُ، وَمَصْلَحَةُ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ

مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْمُنْفَرِدُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ فَعَلَ كَمَا يَفْعَلُ، فَيَتَشَهَّدُ عَقِيبَ الْوِتْرِ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ إذَا وَجَدَهُ سَاجِدًا، كُلُّ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْمُتَابَعَةِ، فَكَيْفَ لَا يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ، مَعَ أَنَّهُ بِالِاسْتِمَاعِ يَحْصُلُ لَهُ مَصْلَحَةُ الْقِرَاءَةِ، فَإِنَّ الْمُسْتَمِعَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الْقَارِئِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا اتِّفَاقُهُمْ كُلِّهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ مَعَهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ إذَا جَهَرَ، فَلَوْلَا أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ الْقِرَاءَةِ بِإِنْصَاتِهِ لَهُ لَكَانَتْ قِرَاءَتُهُ لِنَفْسِهِ أَفْضَلَ مِنْ اسْتِمَاعِهِ لِلْإِمَامِ، وَإِذَا كَانَ يَحْصُلُ لَهُ بِالْإِنْصَاتِ أَجْرُ الْقَارِئِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى قِرَاءَتِهِ، فَلَا يَكُونُ فِيهَا مَنْفَعَةٌ، بَلْ فِيهَا مَضَرَّةٌ شَغَلَتْهُ عَنْ الِاسْتِمَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَقَدْ تَنَازَعُوا إذَا لَمْ يُسْمَعْ الْإِمَامُ لِكَوْنِ الصَّلَاةِ صَلَاةَ مُخَافَتَةٍ، أَوْ لِبُعْدِ الْمَأْمُومِ، أَوْ طَرَشِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ هَلْ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَقْرَأَ أَوْ يَسْكُتَ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَمِعُ قِرَاءَةً يَحْصُلُ لَهُ بِهَا مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ، فَإِذَا قَرَأَ لِنَفْسِهِ حَصَلَ لَهُ أَجْرُ الْقِرَاءَةِ وَإِلَّا بَقِيَ سَاكِتًا لَا قَارِئًا وَلَا مُسْتَمِعًا، وَمَنْ سَكَتَ غَيْرَ مُسْتَمِعٍ وَلَا قَارِئٍ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِذَلِكَ، وَلَا مَحْمُودًا؛ بَلْ جَمِيعُ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى: كَالْقِرَاءَةِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالدُّعَاءِ، أَوْ الِاسْتِمَاعِ لِلذِّكْرِ. وَإِذَا قِيلَ: بِأَنَّ الْإِمَامَ يَحْمِلُ عَنْهُ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ، فَقِرَاءَتُهُ لِنَفْسِهِ أَكْمَلُ لَهُ، وَأَنْفَعُ لَهُ، وَأَصْلَحُ لِقَلْبِهِ، وَأَرْفَعُ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ، وَالْإِنْصَاتُ لَا يُؤْمَرُ بِهِ إلَّا حَالَ الْجَهْرِ، فَأَمَّا حَالُ الْمُخَافَتَةِ فَلَيْسَ فِيهِ صَوْتٌ مَسْمُوعٌ، حَتَّى يُنْصِتَ لَهُ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: فِعْلُ الصَّلَاةِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ، مِثْلُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَالْعَصْرِ، فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْرَهُهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ. وَالسُّنَّةُ إمَّا أَنْ تَسْتَحِبَّهُ، وَإِمَّا أَنْ تَكْرَهَهُ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ مَنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ فَإِنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مِثْلُ قَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ» عُمُومٌ مَخْصُوصٌ، خُصَّ مِنْهَا صَلَاةُ

الْجَنَائِزِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَخُصَّ مِنْهَا قَضَاءُ الْفَوَائِتِ بِقَوْلِهِ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ» . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَضَى رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَقَالَ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ رَآهُمَا لَمْ يُصَلِّيَا بَعْدَ الْفَجْرِ فِي مَسْجِدِ الْخِيفِ: «إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ، فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ» . وَقَدْ قَالَ: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ، وَصَلَّى فِيهِ أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» فَهَذَا الْمَنْصُوصُ يُبَيِّنُ أَنَّ ذَلِكَ الْعُمُومَ خَرَجَتْ مِنْهُ صُورَةٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» فَهُوَ أَمْرٌ عَامٌّ لَمْ يُخَصَّ مِنْهُ صُورَةٌ، فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِعُمُومٍ مَخْصُوصٍ؛ بَلْ الْعُمُومُ الْمَحْفُوظُ أَوْلَى مِنْ الْعُمُومِ الْمَخْصُوصِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَشَدُّ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» فَلَمَّا أَمَرَ بِالرَّكْعَتَيْنِ فِي وَقْتِ هَذَا النَّهْيِ، فَكَذَلِكَ فِي وَقْتِ ذَلِكَ النَّهْيِ، وَأَوْلَى. وَلِأَنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ فِي بَعْضِهَا «لَا تَتَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ» فَنَهَى عَنْ التَّحَرِّي لِلصَّلَاةِ ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَلِأَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إنَّ النَّهْيَ فِيهَا نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ. وَمِنْ السَّلَفِ مَنْ جَوَّزَ التَّطَوُّعَ بَعْدَ الْعَصْرِ مُطْلَقًا وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الصَّلَاةِ إنَّمَا كَانَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ إلَى التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ وَمَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِلذَّرِيعَةِ،

فصل قيام الليل وصيام النهار

فَإِنَّهُ يُفْعَلُ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ. كَالصَّلَاةِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ تَفُوتُ بِفَوَاتِ السَّبَبِ، فَإِنْ لَمْ تُفْعَلْ فِيهِ وَإِلَّا فَاتَتْ الْمَصْلَحَةُ، وَالتَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ لَا يُحْتَاجُ إلَى فِعْلِهِ وَقْتَ النَّهْيِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْتَغْرِقُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ بِالصَّلَاةِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي النَّهْيِ تَفْوِيتُ مَصْلَحَةٍ، وَفِي فِعْلِهِ فِيهِ مَفْسَدَةٌ؛ بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ الَّذِي لَهُ سَبَبٌ يَفُوتُ: كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ، ثُمَّ إنَّهُ إذَا جَازَ رَكْعَتَا الطَّوَافِ مَعَ إمْكَانِ تَأْخِيرِ الطَّوَافِ، فَمَا يَفُوتُ أَوْلَى أَنْ يَجُوزَ. وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يُجَوِّزُونَ قَضَاءَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ دُونَ غَيْرِهَا، لِكَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي قَضَاءِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، فَيُقَالُ: إذَا جَازَ قَضَاءُ السُّنَّةِ الرَّاتِبَةِ مَعَ إمْكَانِ تَأْخِيرِهَا، فَمَا يَفُوتُ كَالْكُسُوفِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ أَوْلَى أَنْ يَجُوزَ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَضَاءُ الْفَرِيضَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ قَضَائِهَا، كَمَا «أَخَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَاءَ الْفَجْرِ لَمَّا نَامَ عَنْهَا فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ. وَقَالَ: أَنَّ هَذَا وَادٍ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ» فَإِذَا جَازَ فَعَلَ مَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُهُ. فَمَا لَا يُمْكِنُ وَلَا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ أَوْلَى. وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَا يُمْكِنُ فِي هَذَا الْجَوَابِ. [فَصْلٌ قِيَامُ اللَّيْلِ وَصِيَامُ النَّهَارِ] فَصْلٌ وَأَمَّا قِيَامُ اللَّيْلِ وَصِيَامُ النَّهَارِ فَالْأَفْضَلُ فِي ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ فَعَلَهُ. وَقَالَ: «أَفْضَلُ الْقِيَامِ قِيَامُ دَاوُد كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُد. كَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلَا يَفِرُّ إذَا لَاقَى» وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ: لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ، وَلَأَقْرَأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّ يَوْمٍ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَفْعَلْ فَإِنَّك إذَا فَعَلْت ذَلِكَ هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْنُ أَيْ غَارَتْ، وَنَفِهَتْ لَهُ النَّفْسُ - أَيْ سَئِمَتْ - وَلَكِنْ صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَذَلِكَ صِيَامُك الدَّهْرَ يَعْنِي الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَقَالَ: إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَمَا زَالَ يُزَايِدُهُ، حَتَّى قَالَ: صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا قَالَ: إنِّي أُطِيقُ

أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ لَهُ فِي الْقِرَاءَةِ: اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ، فَمَا زَالَ يُزَايِدُهُ حَتَّى قَالَ اقْرَأْ فِي سَبْعٍ. وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ أَفْضَلَ الْقِيَامِ قِيَامُ دَاوُد، وَقَالَ لَهُ: إنَّ لِنَفْسِك عَلَيْك حَقًّا، وَلِأَهْلِك عَلَيْك حَقًّا وَلِزَوْجِك عَلَيْك حَقًّا، فَآتِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ» فَبَيَّنَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ تُغَيِّرُ الْبَدَنَ وَالنَّفْسَ وَتَمْنَعُ مِنْ فِعْلِ مَا هُوَ أَجْرٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْقِيَامِ لِحَقِّ النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالزَّوْجِ. وَأَفْضَلُ الْجِهَادِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَا كَانَ أَطْوَعَ لِلرَّبِّ، وَأَنْفَعَ لِلْعَبْدِ، فَإِذَا كَانَ يَضُرُّهُ وَيَمْنَعُهُ مِمَّا هُوَ أَنْفَعُ مِنْهُ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صَالِحًا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ رِجَالًا قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ لَا أُفْطِرُ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ لَا أَنَامُ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ كَيْتَ وَكَيْتَ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَقُومُ وَأَنَامُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَآكُلُ اللَّحْمَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» فَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مِثْلَ هَذَا الزُّهْدِ الْفَاسِدِ، وَالْعِبَادَةِ الْفَاسِدَةِ لَيْسَتْ مِنْ سُنَّتِهِ، فَمَنْ رَغِبَ فِيهَا عَنْ سُنَّتِهِ فَرَآهَا خَيْرًا مِنْ سُنَّتِهِ فَلَيْسَ مِنْهُ. وَقَدْ قَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ: " عَلَيْكُمْ بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، إلَّا تَحَاتَتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ، كَمَا يَتَحَاتُّ الْوَرَقُ الْيَابِسُ عَنْ الشَّجَرِ، وَمَا مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا. فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ إلَّا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ أَبَدًا، وَإِنْ اقْتِصَادًا فِي سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي خِلَافِ سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ، فَاحْرِصُوا أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُكُمْ إنْ كَانَتْ اجْتِهَادًا أَوْ اقْتِصَادًا عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ وَسُنَّتِهِمْ ". وَكَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: " اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ ". وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي سَرْدِ الصَّوْمِ: إذَا أَفْطَرَ يَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ، وَأَيَّامَ مِنًى، فَاسْتَحَبَّ

ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْعُبَّادِ، فَرَأَوْهُ أَفْضَلَ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ، وَفِطْرِ يَوْمٍ، وَطَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يَرَوْهُ أَفْضَلَ، بَلْ جَعَلُوهُ سَائِغًا بِلَا كَرَاهَةٍ، وَجَعَلُوا صَوْمَ شَطْرِ الدَّهْرِ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَحَمَلُوا مَا وَرَدَ فِي تَرْكِ صَوْمِ الدَّهْرِ عَلَى مَنْ صَامَ أَيَّامَ النَّهْيِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الصَّوَابُ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ تَرْكًا لِلْأَوْلَى، أَوْ كَرِهَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَنَهْيِهِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ ذَلِكَ، وَقَوْلِهِ: «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ فَلَا صَامَ، وَلَا أَفْطَرَ» وَغَيْرِهَا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ. وَمَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صَوْمُ الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ فَقَدْ غَلِطَ، فَإِنَّ صَوْمَ الدَّهْرِ لَا يُرَادُ بِهِ صَوْمُ خَمْسَةِ أَيَّامٍ فَقَطْ، وَتِلْكَ الْخَمْسَةُ صَوْمُهَا مُحَرَّمٌ، وَلَوْ أَفْطَرَ غَيْرَهَا فَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا لِكَوْنِ ذَلِكَ صَوْمًا لِلدَّهْرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنْ صَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ يَوْمٍ، وَالْمُرَادُ خَمْسَةٌ، بَلْ مِثَالُ هَذَا مِثَالُ مَنْ قَالَ: ائْتِنِي بِكُلِّ مَنْ فِي الْجَامِعِ، وَأَرَادَ بِهِ خَمْسَةً مِنْهُمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عَلَّلَ ذَلِكَ بِإِنَّك إذَا فَعَلْت ذَلِكَ: هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْنُ، وَنَفِهَتْ لَهُ النَّفْسُ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي سَرْدِ الصَّوْمِ، لَا فِي صَوْمِ الْخَمْسَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ سَائِلًا سَأَلَهُ عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ. فَقَالَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ فَلَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ، قَالَ: فَمَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا، فَقَالَ: وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ؟ ، قَالَ: فَمَنْ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ، فَقَالَ: وَدِدْت أَنِّي طُوِّقْت ذَلِكَ، فَقَالَ: فَمَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، فَقَالَ: ذَلِكَ أَفْضَلُ الصَّوْمِ» فَسَأَلُوهُ عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ، ثُمَّ عَنْ صَوْمِ ثُلُثَيْهِ، ثُمَّ عَنْ صَوْمِ ثُلُثِهِ، ثُمَّ عَنْ صَوْمِ شَطْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: «صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ يَعْدِلُ صِيَامَ الدَّهْرِ» وَقَوْلُهُ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ. الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا» وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَمُرَادُهُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا يَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ صِيَامِ الدَّهْرِ بِتَضْعِيفِ الْأَجْرِ، مِنْ غَيْرِ حُصُولِ الْمَفْسَدَةِ، فَإِذَا صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ حَصَلَ لَهُ أَجْرُ صَوْمِ الدَّهْرِ بِدُونِ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَإِذَا صَامَ رَمَضَانَ وَسِتًّا مِنْ شَوَّالٍ حَصَلَ بِالْمَجْمُوعِ أَجْرُ صَوْمِ الدَّهْرِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ اسْتِغْرَاقُ الزَّمَانِ بِالصَّوْمِ عِبَادَةً، لَوْلَا مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمُعَارِضِ

الرَّاجِحِ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّاجِحَ، وَهُوَ إضَاعَةُ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْ الصَّوْمِ، وَحُصُولُ الْمَفْسَدَةِ رَاجِحَةٌ فَيَكُونُ قَدْ فَوَّتَ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً، مَعَ حُصُولِ مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ عَلَى مَصْلَحَةِ الصَّوْمِ. وَقَدْ بَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِكْمَةَ النَّهْيِ، فَقَالَ: «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ فَلَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ» . فَإِنَّهُ يَصِيرُ الصِّيَامُ لَهُ عَادَةً، كَصِيَامِ اللَّيْلِ، فَلَا يَنْتَفِعُ بِهَذَا الصَّوْمِ، وَلَا يَكُونُ صَامَ، وَلَا هُوَ أَيْضًا أَفْطَرَ. وَمَنْ نَقَلَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ سَرَدَ الصَّوْمَ فَقَدْ ذَهَبَ إلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَكَذَلِكَ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ جَمِيعَ اللَّيْلِ دَائِمًا، أَوْ أَنَّهُ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، كَذَا كَذَا سُنَّةٌ، مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَنْقُولِ مِنْ ذَلِكَ ضَعِيفٌ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لِأَصْحَابِهِ: أَنْتُمْ أَكْثَرُ صَوْمًا وَصَلَاةً مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، وَهُمْ كَانُوا خَيْرًا مِنْكُمْ، قَالُوا: لِمَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، قَالَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا وَأَرْغَبَ فِي الْآخِرَةِ. فَأَمَّا سَرْدُ الصَّوْمِ بَعْضَ الْعَامِ، فَهَذَا قَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ، قَدْ كَانَ يَصُومُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: لَا يَصُومُ. وَكَذَلِكَ قِيَامُ بَعْضِ اللَّيَالِي جَمِيعِهَا، كَالْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، أَوْ قِيَامِ غَيْرِهَا أَحْيَانًا، فَهَذَا مِمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَنُ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ، فَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ مِنْ رَمَضَانَ شَدَّ الْمِئْزَرَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ كُلَّهُ» . وَفِي السُّنَنِ «أَنَّهُ قَامَ بِآيَةٍ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] » . وَلَكِنْ غَالِبُ قِيَامِهِ كَانَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَكَانَ يُصَلِّي بِمَنْ حَضَرَ عِنْدَهُ، كَمَا صَلَّى لَيْلَةً بِابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَيْلَةً بِابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَيْلَةً بِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ. وَقَدْ كَانَ أَحْيَانًا يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ بِالْبَقَرَةِ، وَالنِّسَاءِ وَآلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ يَرْكَعُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: " سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ "، وَيَرْفَعُ نَحْوًا مِنْ رُكُوعِهِ، يَقُولُ: " لِرَبِّي الْحَمْدُ، لِرَبِّي الْحَمْدُ " وَيَسْجُدُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ يَقُولُ: " سُبْحَانَ رَبِّي

الْأَعْلَى، سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى " وَيَجْلِسُ نَحْوًا مِنْ سُجُودِهِ يَقُولُ: " رَبِّي اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي " وَيَسْجُدُ. وَأَمَّا الْوِصَالُ فِي الصِّيَامِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ أَصْحَابَهُ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ إلَّا فِي الْوِصَالِ إلَى السَّحَرَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ كَأَحَدِهِمْ. وَقَدْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ يُوَاصِلُونَ، مِنْهُمْ مَنْ يَبْقَى شَهْرًا لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْقَى شَهْرَيْنِ وَأَكْثَرَ وَأَقَلَّ، وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ نَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَ، وَظَهَرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِهِمْ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِطَرِيقِ اللَّهِ، وَأَنْصَحُ الْخَلْقِ لِعِبَادِ اللَّهِ، وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَطْوَعُهُمْ لَهُ، وَأَتْبَعُهُمْ لِسُنَّتِهِ. وَالْأَحْوَالُ الَّتِي تَحْصُلُ عَنْ أَعْمَالٍ فِيهَا مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ أَحْوَالٌ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ. وَإِنْ كَانَ فِيهَا مُكَاشَفَاتٌ، وَفِيهَا تَأْثِيرَاتٌ، فَمَنْ كَانَ خَبِيرًا بِهَذَا الْبَابِ عَلِمَ أَنَّ الْأَحْوَالَ الْحَاصِلَةَ عَنْ عِبَادَاتٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ كَالْأَمْوَالِ الْمَكْسُوبَةِ بِطَرِيقٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ، وَالْمِلْكِ الْحَاصِلِ بِطَرِيقٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ: فَإِنْ لَمْ يَتَدَارَكْ اللَّهُ عَبْدَهُ بِتَوْبَةٍ، يَتَّبِعُ بِهَا الطَّرِيقَ الشَّرْعِيَّةَ، وَإِلَّا كَانَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ سَبَبًا لِضَرَرٍ يَحْصُلُ لَهُ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ، وَقَدْ يَكُونُ مُذْنِبًا ذَنْبًا مَغْفُورًا لِحَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ، وَقَدْ يَكُونُ مُبْتَلًى بِمَصَائِبَ تُكَفِّرُ عَنْهُ، وَقَدْ يُعَاقَبُ بِسَلْبِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ، وَإِذَا أَصَرَّ عَلَى تَرْكِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ السُّنَّةِ، وَفِعْلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ، فَقَدْ يُعَاقَبُ بِسَلْبِ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ، حَتَّى قَدْ يَصِيرُ فَاسِقًا أَوْ دَاعِيًا إلَى بِدْعَةٍ وَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْكَبَائِرِ، فَقَدْ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يُسْلَبَ الْإِيمَانَ، فَإِنَّ الْبِدَعَ لَا تَزَالُ تُخْرِجُ الْإِنْسَانَ مِنْ صَغِيرٍ إلَى كَبِيرٍ، حَتَّى تُخْرِجَهُ إلَى الْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ، كَمَا وَقَعَ هَذَا لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِمَّنْ كَانَ لَهُمْ أَحْوَالٌ مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرَاتِ، وَقَدْ عَرَفْنَا مِنْ هَذَا مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ. فَالسُّنَّةُ مِثَالُ سَفِينَةِ نُوحٍ: مَنْ رَكِبَهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ عُلَمَائِنَا يَقُولُونَ: الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ وَعَامَّةُ مَنْ تَجِدُ لَهُ حَالًا مِنْ مُكَاشَفَةٍ أَوْ تَأْثِيرٍ أَعَانَ بِهِ الْكُفَّارَ أَوْ الْفُجَّارَ أَوْ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعْصِيَةٍ، فَإِنَّمَا ذَاكَ نَتِيجَةُ عِبَادَاتٍ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ، كَمَنْ اكْتَسَبَ أَمْوَالًا مُحَرَّمَةً فَلَا يَكَادُ يُنْفِقُهَا إلَّا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ.

وَالْبِدَعُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ فِي الْأَقْوَالِ وَالِاعْتِقَادَاتِ، وَنَوْعٌ فِي الْأَفْعَالِ وَالْعِبَادَاتِ. وَهَذَا الثَّانِي يَتَضَمَّنُ الْأَوَّلَ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ يَدْعُو إلَى الثَّانِي. فَالْمُنْتَسِبُونَ إلَى الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ يُخَافُ عَلَيْهِمْ إذَا لَمْ يَعْتَصِمُوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَالْمُنْتَسِبُونَ إلَى الْعِبَادَةِ وَالنَّظَرِ وَالْإِرَادَةِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ يُخَافُ عَلَيْهِمْ إذَا لَمْ يَعْتَصِمُوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي. وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] آمِينَ. وَصَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ، وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ» . قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كَانُوا يَقُولُونَ: مَنْ فَسَدَ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ الْيَهُودِ، وَمَنْ فَسَدَ مِنْ الْعُبَّادِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ النَّصَارَى، وَكَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ: احْذَرُوا فِتْنَةَ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ، وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ؛ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ، فَطَالِبُ الْعِلْمِ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِطَلَبِهِ فِعْلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَتَرْكُ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِلَّا وَقَعَ فِي الضَّلَالِ. وَأَهْلُ الْإِرَادَةِ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِإِرَادَتِهِمْ طَلَبُ الْعِلْمِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِلَّا وَقَعُوا فِي الضَّلَالِ وَالْبَغْيِ، وَلَوْ اعْتَصَمَ رَجُلٌ بِالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ بِالْوَاجِبِ، كَانَ غَاوِيًا، وَإِذَا اعْتَصَمَ بِالْعِبَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِالْوَاجِبِ كَانَ ضَالًّا، وَالضَّلَالُ سِمَةُ النَّصَارَى، وَالْبَغْيُ سِمَةُ الْيَهُودِ، مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْأُمَّتَيْنِ فِيهَا الضَّلَالُ وَالْبَغْيُ، وَلِهَذَا تَجِدُ مَنْ انْحَرَفَ عَنْ الشَّرِيعَةِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالسُّلُوكِ وَالطَّرِيقِ يَنْتَهُونَ إلَى الْفَنَاءِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُونَ فِيهِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ، فَيَكُونُونَ فِيهِ مُتَّبِعِينَ أَهْوَاءَهُمْ. وَإِنَّمَا الْفَنَاءُ الشَّرْعِيُّ أَنْ يَفْنَى بِعِبَادَةِ اللَّهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، وَبِطَاعَتِهِ عَنْ طَاعَةِ مَا سِوَاهُ وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ عَنْ التَّوَكُّلِ عَلَى مَا سِوَاهُ. وَبِسُؤَالِهِ عَنْ سُؤَالِ مَا سِوَاهُ، وَبِخَوْفِهِ عَنْ خَوْفِ مَا سِوَاهُ، وَهَذَا هُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ وَعِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ.

وَتَجِدُ أَيْضًا مَنْ انْحَرَفَ عَنْ الشَّرِيعَةِ مِنْ الْجَبْرِ وَالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ وَالْكَلَامِ وَالْبَحْثِ يَنْتَهِي أَمْرُهُمْ إلَى الشَّكِّ وَالْحِيرَةِ، كَمَا يَنْتَهِي الْأَوَّلُونَ إلَى الشَّطْحِ وَالطَّامَّاتِ، فَهَؤُلَاءِ لَا يُصَدِّقُونَ بِالْحَقِّ، وَأُولَئِكَ يُصَدِّقُونَ بِالْبَاطِلِ. وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الدِّينُ بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ، وَطَاعَتِهِ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ، وَفِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ. وَمَنْ عَظَّمَ مُطْلَقَ السَّهَرِ وَالْجُوعِ وَأَمَرَ بِهِمَا مُطْلَقًا فَهُوَ مُخْطِئٌ، بَلْ الْمَحْمُودُ السَّهَرُ الشَّرْعِيُّ، وَالْجُوعُ الشَّرْعِيُّ، فَالسَّهَرُ الشَّرْعِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ كِتَابَةِ عِلْمٍ أَوْ نَظَرٍ فِيهِ أَوْ دَرْسِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَالْأَفْضَلُ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ النَّاسِ، فَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: كِتَابَةُ الْحَدِيثِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ، وَبَعْضُ الشُّيُوخِ يَقُولُ: رَكْعَتَانِ أُصَلِّيهِمَا بِاللَّيْلِ حَيْثُ لَا يَرَانِي أَحَدٌ أَفْضَلُ مِنْ كِتَابَةِ مِائَةِ حَدِيثٍ، وَآخَرُ مِنْ الْأَئِمَّةِ يَقُولُ: بَلْ الْأَفْضَلُ فِعْلُ هَذَا وَهَذَا، وَالْأَفْضَلُ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ أَحْوَالِ النَّاسِ، فَمِنْ الْأَعْمَالِ مَا يَكُونُ جِنْسُهُ أَفْضَلَ، ثُمَّ يَكُونُ تَارَةً مَرْجُوحًا أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ. كَالصَّلَاةِ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ، وَالذِّكْرُ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ، ثُمَّ الصَّلَاةُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ - كَمَا بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَوَقْتِ الْخُطْبَةِ - مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَالِاشْتِغَالُ حِينَئِذٍ إمَّا بِقِرَاءَةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ اسْتِمَاعٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ، ثُمَّ الذِّكْرُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ هُوَ الْمَشْرُوعُ. دُونَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ هُوَ الْمَشْرُوعُ دُونَ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ، وَقَدْ يَكُونُ الشَّخْصُ يَصْلُحُ دِينُهُ عَلَى الْعَمَلِ الْمَفْضُولِ دُونَ الْأَفْضَلِ، فَيَكُونُ أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ، كَمَا أَنَّ الْحَجَّ فِي حَقِّ النِّسَاءِ أَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ الْقِرَاءَةُ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ الصَّلَاةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ الذِّكْرُ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ اجْتِهَادُهُ فِي الدُّعَاءِ لِكَمَالِ ضَرُورَتِهِ أَفْضَلَ لَهُ مِنْ ذِكْرٍ هُوَ فِيهِ غَافِلٌ، وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ يَكُونُ تَارَةً هَذَا أَفْضَلَ لَهُ، وَتَارَةً هَذَا أَفْضَلَ لَهُ، وَمَعْرِفَةُ حَالِ كُلِّ شَخْصٍ شَخْصٍ، وَبَيَانُ الْأَفْضَلِ لَهُ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ فِي كِتَابٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ هِدَايَةٍ يَهْدِي اللَّهُ بِهَا عَبْدَهُ إلَى مَا هُوَ أَصْلَحُ، وَمَا صَدَقَ اللَّهَ عَبْدٌ إلَّا صَنَعَ لَهُ وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ

فصل الأكل واللباس

عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» . [فَصْلٌ الْأَكْلُ وَاللِّبَاسُ] فَصْلٌ وَأَمَّا الْأَكْلُ وَاللِّبَاسُ: فَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ خُلُقُهُ فِي الْأَكْلِ أَنَّهُ يَأْكُلُ مَا تَيَسَّرَ إذَا اشْتَهَاهُ، وَلَا يَرُدُّ مَوْجُودًا، وَلَا يَتَكَلَّفُ مَفْقُودًا، فَكَانَ إنْ حَضَرَ خُبْزٌ وَلَحْمٌ أَكَلَهُ، وَإِنْ حَضَرَ فَاكِهَةٌ وَخُبْزٌ وَلَحْمٌ أَكَلَهُ، وَإِنْ حَضَرَ تَمْرٌ وَحْدَهُ أَوْ خُبْزٌ وَحْدَهُ أَكَلَهُ، وَإِنْ حَضَرَ حُلْوٌ أَوْ عَسَلٌ طَعِمَهُ أَيْضًا، وَكَانَ أَحَبُّ الشَّرَابِ إلَيْهِ الْحُلْوُ الْبَارِدُ، وَكَانَ يَأْكُلُ الْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ، فَلَمْ يَكُنْ إذَا حَضَرَ لَوْنَانِ مِنْ الطَّعَامِ يَقُولُ: " لَا آكُلُ لَوْنَيْنِ "، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ طَعَامٍ لِمَا فِيهِ مِنْ اللَّذَّةِ وَالْحَلَاوَةِ. وَكَانَ أَحْيَانًا يَمْضِي الشَّهْرَانِ وَالثَّلَاثَةُ لَا يُوقَدُ فِي بَيْتِهِ نَارٌ، وَلَا يَأْكُلُونَ إلَّا التَّمْرَ وَالْمَاءَ، وَأَحْيَانًا يَرْبِطُ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنْ الْجُوعِ، وَكَانَ لَا يَعِيبُ طَعَامًا، فَإِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِلَّا تَرَكَهُ. «وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ لَحْمُ ضَبٍّ فَامْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهِ، وَقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» . وَكَذَلِكَ اللِّبَاسُ كَانَ يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَالْعِمَامَةَ، وَيَلْبَسُ الْإِزَارَ وَالرِّدَاءَ وَيَلْبَسُ الْجُبَّةَ وَالْفَرُّوجَ، وَكَانَ يَلْبَسُ مِنْ الْقُطْنِ وَالصُّوفِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. لَبِسَ فِي السَّفَرِ جُبَّةَ صُوفٍ، وَكَانَ يَلْبَسُ مِمَّا يُجْلَبُ مِنْ الْيَمَنِ وَغَيْرِهَا، وَغَالِبُ ذَلِكَ مَصْنُوعٌ مِنْ الْقُطْنِ، وَكَانُوا يَلْبَسُونَ مِنْ قَبَاطِيِّ مِصْرَ، وَهِيَ مَنْسُوجَةٌ مِنْ الْكَتَّانِ. فَسُنَّتُهُ فِي ذَلِكَ تَقْتَضِي أَنْ يَلْبَسَ الرَّجُلُ وَيَطْعَمَ مِمَّا يَسَّرَهُ اللَّهُ بِبَلَدِهِ، مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ. وَهَذَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْأَمْصَارِ. وَقَدْ كَانَ «اجْتَمَعَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ وَنَحْوِهِ، وَعَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَزَوُّجِ النِّسَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87] {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 88] » . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ «بَلَغَهُ أَنَّ رِجَالًا قَالَ

أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ لَا أُفْطِرُ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ لَا أَنَامُ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ. فَقَالَ: لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَقُومُ وَأَنَامُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَآكُلُ اللَّحْمَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] فَأَمَرَ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ، وَالشُّكْرِ لِلَّهِ، فَمَنْ حَرَّمَ الطَّيِّبَاتِ كَانَ مُعْتَدِيًا، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ كَانَ مُفَرِّطًا مُضَيِّعًا لِحَقِّ اللَّهِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» . وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ» . فَهَذِهِ الطَّرِيقُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ أَعْدَلُ الطُّرُقِ وَأَقْوَمُهَا. وَالِانْحِرَافُ عَنْهَا إلَى وَجْهَيْنِ: قَوْمٌ يُسْرِفُونَ فِي تَنَاوُلِ الشَّهَوَاتِ، مَعَ إعْرَاضِهِمْ عَنْ الْقِيَامِ بِالْوَاجِبَاتِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] وَقَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] . وَقَوْمٌ يُحَرِّمُونَ الطَّيِّبَاتِ، وَيَبْتَدِعُونَ رَهْبَانِيَّةً، لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ» وَكُلُّ حَلَالٍ طَيِّبٌ، وَكُلُّ طَيِّبٍ حَلَالٌ، فَإِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ لَنَا الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ، لَكِنْ جِهَةُ طَيِّبِهِ كَوْنُهُ نَافِعًا لَذِيذًا. وَاَللَّهُ حَرَّمَ عَلَيْنَا كُلَّ مَا يَضُرُّنَا، وَأَبَاحَ لَنَا كُلَّ مَا يَنْفَعُنَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ بِظُلْمٍ مِنْهُمْ: حَرَّمَ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ، فَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْنَا شَيْئًا مِنْ الطَّيِّبَاتِ، وَالنَّاسُ تَتَنَوَّعُ أَحْوَالُهُمْ فِي الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالْجُوعِ وَالشِّبَعِ، وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ يَتَنَوَّعُ حَالُهُ، وَلَكِنْ خَيْرُ الْأَعْمَالِ مَا كَانَ لِلَّهِ أَطْوَعَ، وَلِصَاحِبِهِ أَنْفَعَ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أَيْسَرَ الْعَمَلَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ أَشَدَّهُمَا، فَلَيْسَ كُلُّ شَدِيدٍ فَاضِلًا، وَلَا كُلُّ يَسِيرٍ مَفْضُولًا. بَلْ الشَّرْعُ إذَا أَمَرَنَا بِأَمْرٍ شَدِيدٍ، فَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، لَا لِمُجَرَّدِ تَعْذِيبِ النَّفْسِ. كَالْجِهَادِ الَّذِي قَالَ فِيهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] . وَالْحَجُّ هُوَ الْجِهَادُ الصَّغِيرُ؛ وَلِهَذَا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي الْعُمْرَةِ: أَجْرُك عَلَى قَدْرِ نَصَبِك» . وَقَالَ تَعَالَى فِي الْجِهَادِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120]

وَأَمَّا مُجَرَّدُ تَعْذِيبِ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ رَاجِحَةٍ، فَلَيْسَ هَذَا مَشْرُوعًا لَنَا؛ بَلْ أَمَرَنَا اللَّهُ بِمَا يَنْفَعُنَا، وَنَهَانَا عَمَّا يَضُرُّنَا. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» . «وَقَالَ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى لَمَّا بَعَثَهُمَا إلَى الْيَمَنِ: يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا» . وَقَالَ «هَذَا الدِّينُ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ، فَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ، وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا» وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَحَبُّ الدِّينِ إلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ» . فَالْإِنْسَانُ إذَا أَصَابَهُ فِي الْجِهَادِ وَالْحَجِّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَرٌّ أَوْ بَرْدٌ أَوْ جُوعٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَهُوَ مِمَّا يُحْمَدُ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81] . وَكَذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْكَفَّارَاتُ: إسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَى إلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ» . وَأَمَّا مُجَرَّدُ بُرُوزِ الْإِنْسَانِ لِلْحَرِّ وَالْبَرْدِ. بِلَا مَنْفَعَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَاحْتِفَاؤُهُ وَكَشْفُ رَأْسِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ مِنْ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ، فَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ

فصل الجنب إذا أراد أن يأكل أو ينام أو يعاود الوطء

مَنْفَعَةٌ لِلْإِنْسَانِ، وَطَاعَةٌ لِلَّهِ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا أَبُو إسْرَائِيلَ، نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ. فَقَالَ: مُرُوهُ فَلْيَجْلِسْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» . وَلِهَذَا نَهَى عَنْ الصَّمْتِ الدَّائِمِ، بَلْ الْمَشْرُوعُ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» . فَالتَّكَلُّمُ بِالْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ عَنْهُ، وَالسُّكُوتُ عَنْ الشَّرِّ خَيْرٌ مِنْ التَّكَلُّمِ بِهِ. [فَصْلٌ الْجُنُبُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنَامَ أَوْ يُعَاوِدَ الْوَطْءَ] فَصْلٌ وَالْجُنُبُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْوُضُوءُ، إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ أَوْ يَنَامَ أَوْ يُعَاوِدَ الْوَطْءَ، لَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ النَّوْمُ إذَا لَمْ يَتَوَضَّأْ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ: هَلْ يَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إذَا تَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ» . وَيُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ عِنْدَ النَّوْمِ لِكُلِّ أَحَدٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِرَجُلٍ: «إذَا أَخَذْت مَضْجَعَك فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْلَمْتُ نَفْسِي إلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إلَيْك، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إلَّا إلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْت وَنَبِيِّك الَّذِي أَرْسَلْت» . وَلَيْسَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَلْبَثَ فِي الْمَسْجِدِ، لَكِنْ إذَا تَوَضَّأَ جَازَ لَهُ اللُّبْثُ فِيهِ، عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِمَا ذَكَرَهُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ «أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ وَهُمْ جُنُبٌ، ثُمَّ يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَيَتَحَدَّثُونَ» وَهَذَا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْجُنُبَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ النَّوْمِ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ كَرَاهَةُ أَنْ تُقْبَضَ رُوحُهُ

وَهُوَ نَائِمٌ فَلَا تَشْهَدُ الْمَلَائِكَةُ جِنَازَتَهُ، فَإِنَّ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ» . وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِنَهْيِهِ عَنْ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ بُيُوتُ الْمَلَائِكَةِ كَمَا نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: «إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى بِمَا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» . فَلَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُنُبَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ النَّوْمِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ يَرْفَعُ الْجَنَابَةَ الْغَلِيظَةَ، وَتَبْقَى مَرْتَبَةٌ بَيْنَ الْمُحْدِثِ وَبَيْنَ الْجُنُبِ لَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِيمَا يُرَخِّصُ فِيهِ لِلْحَدَثِ مِنْ الْقِرَاءَةِ، وَلَمْ يُمْنَعْ مِمَّا يُمْنَعُ مِنْهُ الْجُنُبُ مِنْ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ وُضُوءُهُ عِنْدَ النَّوْمِ يَقْتَضِي شُهُودَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَدْخُلُ الْمَكَانَ الَّذِي هُوَ فِيهِ إذَا تَوَضَّأَ. وَلِهَذَا يُجَوِّزُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ لِلْجُنُبِ الْمُرُورَ فِي الْمَسْجِدِ بِخِلَافِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَعُلِمَ أَنَّ مَنْعَهُ مِنْ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ مِنْ مَنْعِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي مَنْعِ الْكُفَّارِ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْمُسْلِمُونَ خَيْرٌ مِنْ الْكُفَّارِ، وَلَوْ كَانُوا جُنُبًا، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا لَقِيَهُ وَهُوَ جُنُبٌ، فَانْخَنَسَ مِنْهُ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ: أَيْنَ كُنْت؟ قَالَ: إنِّي كُنْت جُنُبًا فَكَرِهْت أَنْ أُجَالِسَك إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ» . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] فَلُبْثُ الْمُؤْمِنِ الْجُنُبِ إذَا تَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى مِنْ لُبْثِ الْكَافِرِ فِيهِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ، وَمَنْ مَنَعَ الْكَافِرَ لَمْ يُحِبَّ أَنْ يَمْنَعَ الْمُؤْمِنَ الْمُتَوَضِّئَ، كَمَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ، فَإِذَا كَانَ الْجُنُبُ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ النَّوْمِ. وَالْمَلَائِكَةُ تَشْهَدُ جِنَازَتَهُ، حِينَئِذٍ عُلِمَ أَنَّ النَّوْمَ لَا يُبْطِلُ الطَّهَارَةَ

الْحَاصِلَةَ بِذَلِكَ، وَهُوَ تَخْفِيفُ الْجَنَابَةِ وَحِينَئِذٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ حَيْثُ يَنَامُ غَيْرُهُ. وَإِذَا كَانَ النَّوْمُ الْكَثِيرُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَذَاكَ هُوَ الْوُضُوءُ الَّذِي يَرْفَعُ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ، وَوُضُوءُ الْجُنُبِ هُوَ تَخْفِيفُ الْجَنَابَةِ، وَإِلَّا فَهَذَا الْوُضُوءُ لَا يُبِيحُ لَهُ مَا يَمْنَعُهُ الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ، وَالتَّيَمُّمُ يَقُومُ مَقَامَ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ، فَمَا يُبِيحُهُ الِاغْتِسَالُ وَالْوُضُوءُ مِنْ الْمَمْنُوعَاتِ يُبِيحُهُ التَّيَمُّمُ وَهُوَ جَائِزٌ إذَا عُدِمَ الْمَاءُ وَخَافَ الْوُضُوءَ بِاسْتِعْمَالِهِ. كَمَا نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ الْمَرِيضِ وَذِكْرِ مَنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ، فَمَنْ كَانَ الْمَاءُ يَضُرُّهُ بِزِيَادَةٍ فِي مَرَضِهِ لِأَجْلِ جُرْحٍ بِهِ أَوْ مَرَضٍ أَوْ لِخَشْيَةِ الْبَرْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ سَوَاءٌ كَانَ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا وَيُصَلِّي. وَإِذَا جَازَ لَهُ الصَّلَاةُ جَازَ لَهُ الطَّوَافُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَمَسُّ الْمُصْحَفِ وَاللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، إذَا صَلَّى سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحَضَرِ أَوْ فِي السَّفَرِ، فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ وَلَا عُدْوَانٍ، فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا فِي الصِّيَامِ وَلَا الْحَجِّ، وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا يَصُومَ شَهْرَيْنِ فِي عَام، وَلَا يَحُجَّ حَجَّيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ تَفْرِيطٌ أَوْ عُدْوَانٌ فَإِنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا إذَا ذَكَرَهَا، وَكَذَلِكَ إذَا نَسِيَ بَعْضَ فَرَائِضِهَا كَالطَّهَارَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْمَفْرُوضِ، كَمَنْ صَلَّى عُرْيَانًا لِعَدَمِ السُّتْرَةِ، أَوْ صَلَّى بِلَا قِرَاءَةٍ لِانْعِقَادِ لِسَانِهِ، أَوْ لَمْ يُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ لِمَرَضِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعُذْرِ النَّادِرِ وَالْمُعْتَادِ وَمَا يَدُومُ وَمَا لَا يَدُومُ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. وَعَلَى أَنَّ الْعُرْيَانَ إذَا لَمْ يَجِدْ سُتْرَةً صَلَّى وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ يُصَلِّي بِحَسَبِ حَالِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ: «صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ» .

فصل الأفضل للإمام أن يتحرى صلاة رسول الله

[فَصْلٌ الْأَفْضَلُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَحَرَّى صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ] فَصْلٌ وَالْأَفْضَلُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَحَرَّى صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي كَانَ يُصَلِّيهَا بِأَصْحَابِهِ، بَلْ هَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ الْأَئِمَّةُ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ «قَالَ لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَصَاحِبِهِ: إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا، وَلْيَؤُمَّكُمَا أَحَدُكُمَا، وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ «كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِمَا بَيْنَ السِّتِّينَ آيَةً إلَى مِائَةِ آيَةٍ» ، وَهَذَا بِالتَّقْرِيبِ نَحْوُ ثُلُثِ جُزْءٍ، إلَى نِصْفِ جُزْءٍ مِنْ تَجْزِئَةِ ثَلَاثِينَ. فَكَانَ يَقْرَأُ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ. يَقْرَأُ بِقَافٍ، وَيَقْرَأُ أَلَمْ تَنْزِيلٌ، وَتَبَارَكَ، وَيَقْرَأُ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَقْرَأُ الصَّافَّاتِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ بِنَحْوِ ثَلَاثِينَ آيَةً، وَيَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَيَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، مِثْلَ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ. وَفِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِنَحْوِ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] وَ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] ، وَنَحْوِهِمَا. وَكَانَ أَحْيَانًا يُطِيلُ الصَّلَاةَ، وَيَقْرَأُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَقْرَأَ فِي الْمَغْرِبِ (بِالْأَعْرَافِ) وَيَقْرَأَ فِيهَا (بِالطُّورِ) ، وَيَقْرَأَ فِيهَا (بِالْمُرْسَلَاتِ) . وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ قَرَأَ مَرَّةً فِي الْفَجْرِ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَعُمَرُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ: (بِسُورَةِ هُودٍ) (وَسُورَةِ يُوسُفَ) وَنَحْوِهِمَا، وَأَحْيَانًا يُخَفِّفُ إمَّا لِكَوْنِهِ فِي السَّفَرِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ. كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطِيلَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأُخَفِّفُ لِمَا أَعْلَمُ مِنْ وَجْدِ أُمِّهِ بِهِ» حَتَّى رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْفَجْرِ (سُورَةَ التَّكْوِيرِ) (وَسُورَةَ الزَّلْزَلَةِ) ؛ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَحَرَّى الِاقْتِدَاءَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُونَ لَمْ يَعْتَادُوا لِصَلَاتِهِ، وَرُبَّمَا نَفَرُوا عَنْهَا دَرَّجَهُمْ إلَيْهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَلَا يَبْدَؤُهُمْ بِمَا يُنَفِّرُهُمْ عَنْهَا، بَلْ يَتْبَعُ السُّنَّةَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ

فصل الوضوء عند كل حدث

يُطِيلَ عَلَى الْقَدْرِ الْمَشْرُوعِ، إلَّا أَنْ يَخْتَارُوا ذَلِكَ. كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ بِهِمْ، فَإِنَّ مِنْهُمْ السَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ، وَذَا الْحَاجَةِ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَالَ: «إذَا أَمَّ أَحَدُكُمْ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ، وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ» . وَكَانَ يُطِيلُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ؛ وَالِاعْتِدَالَيْنِ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ يَقُومُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ قَدْ نَسِيَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ يَقْعُدُ، حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: قَدْ نَسِيَ» . وَفِي السُّنَنِ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ شَبَّهَ صَلَاةَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِصَلَاتِهِ وَكَانَ عُمَرُ يُسَبِّحُ فِي الرُّكُوعِ نَحْوَ عَشْرِ تَسْبِيحَاتٍ، وَفِي السُّجُودِ نَحْوَ عَشْرِ تَسْبِيحَاتٍ، فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ فِي الْغَالِبِ مَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ فِي الْغَالِبِ، وَإِذَا اقْتَضَتْ الْمَصْلَحَةُ أَنْ يُطِيلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ يُقْصِرُ عَنْ ذَلِكَ فَعَلَ ذَلِكَ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْيَانًا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَحْيَانًا يُنْقِصُ عَنْ ذَلِكَ. [فَصْلٌ الْوُضُوءُ عِنْدَ كُلِّ حَدَثٍ] فَصْلٌ وَأَمَّا الْوُضُوءُ عِنْدَ كُلِّ حَدَثٍ فَفِيهِ حَدِيثُ بِلَالٍ الْمَعْرُوفُ عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ حَصِيبٍ، قَالَ: «أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَا بِلَالًا فَقَالَ: يَا بِلَالُ بِمَ سَبَقْتَنِي إلَى الْجَنَّةِ؟ ، فَمَا دَخَلْت الْجَنَّةَ قَطُّ إلَّا سَمِعْت خَشْخَشَتَك أَمَامِي، دَخَلْت الْبَارِحَةَ الْجَنَّةَ فَسَمِعْت خَشْخَشَتَك أَمَامِي، فَأَتَيْت عَلَى قَصْرٍ مُرَبَّعٍ مُشْرِفٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقُلْت: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالُوا: لِرَجُلٍ عَرَبِيٍّ، فَقُلْت: أَنَا عَرَبِيٌّ، لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالُوا: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، قُلْت: أَنَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالُوا: لِرَجُلٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، فَقُلْت أَنَا مُحَمَّدٌ، لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: بِلَالٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَذَّنْت قَطُّ إلَّا صَلَّيْت رَكْعَتَيْنِ، وَمَا أَصَابَنِي حَدَثٌ قَطُّ إلَّا تَوَضَّأْت عِنْدَهَا، فَرَأَيْت أَنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْك بِهِمَا» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

فصل المواظبة على ما واظب عليه النبي في عبادته وعادته

وَهَذَا يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ حَدَثٍ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجَاءَ مِنْ الْغَائِطِ فَأُتِيَ بِطَعَامٍ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَتَوَضَّأُ؟ قَالَ: لَمْ أُصَلِّ، فَأَتَوَضَّأُ» فَإِنَّ هَذَا يَنْفِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ، وَيَنْفِي أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالْوُضُوءِ لِأَجْلِ مُجَرَّدِ الْأَكْلِ، وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا اسْتَحَبَّ الْوُضُوءَ لِلْأَكْلِ إلَّا إذَا كَانَ جُنُبًا، وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الْأَكْلِ هَلْ يُكْرَهُ أَوْ يُسْتَحَبُّ عَلَى قَوْلَيْنِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. فَمَنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ احْتَجَّ بِحَدِيثِ «سَلْمَانَ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَرَأْت فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءَ قَبْلَهُ، وَالْوُضُوءَ بَعْدَهُ» وَمَنْ كَرِهَهُ قَالَ: لِأَنَّ هَذَا خِلَافُ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَوَضَّئُونَ قَبْلَ الْأَكْلِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْيَهُودِ، فَيُكْرَهُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ. وَأَمَّا حَدِيثُ سَلْمَانَ فَقَدْ ضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَدْ يُقَالُ: كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ، وَلِهَذَا كَانَ يَسْدُلُ شَعْرَهُ مُوَافَقَةً، ثُمَّ فَرَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا صَامَ عَاشُورَاءَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ إنَّهُ قَالَ قَبْلَ مَوْتِهِ: «لَئِنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» يَعْنِي مَعَ الْعَاشِرِ؛ لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ الْيَهُودِ. [فَصْلٌ الْمُوَاظَبَة عَلَى مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ فِي عِبَادَتِهِ وَعَادَتِهِ] فَصْلٌ وَأَمَّا سُؤَالُ السَّائِلِ عَنْ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عِبَادَتِهِ وَعَادَتِهِ هَلْ هِيَ سُنَّةٌ؟ أَمْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الرَّاتِبِينَ؟ فَيُقَالُ: الَّذِي نَحْنُ مَأْمُورُونَ بِهِ هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا أَمَرَنَا بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ ذَكَرَ طَاعَتَهُ فِي أَكْثَرِ مِنْ ثَلَاثِينَ مَوْضِعًا مِنْ كِتَابِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] . وَقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64] . وَقَدْ أَوْجَبَ السَّعَادَةَ لِمَنْ أَطَاعَهُ بِقَوْلِهِ: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] وَعَلَّقَ السَّعَادَةَ

وَالشَّقَاوَةَ بِطَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13] {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: «مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إلَّا نَفْسَهُ، وَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا» . وَجَمِيعُ الرُّسُلِ دَعَوْا إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ وَخَشْيَتِهِ وَإِلَى طَاعَتِهِمْ، كَمَا قَالَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح: 3] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] وَقَالَ كُلٌّ مِنْ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 108] . وَطَاعَةُ الرَّسُولِ فِيمَا أَمَرَنَا بِهِ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَمِدَهُ، وَهُوَ سَبَبُ السَّعَادَةِ، كَمَا أَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ سَبَبُ الشَّقَاوَةِ وَطَاعَتُهُ فِي أَمْرِهِ أَوْلَى بِنَا مِنْ مُوَافَقَتِهِ فِي فِعْلٍ لَمْ يَأْمُرْنَا بِمُوَافَقَتِهِ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَتَنَازَعْ الْعُلَمَاءُ أَنَّ أَمْرَهُ أَوْكَدُ مِنْ فِعْلِهِ؛ فَإِنَّ فِعْلَهُ قَدْ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، وَأَمَّا أَمْرُهُ لَنَا فَهُوَ مِنْ دِينِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَنَا بِهِ، وَمِنْ أَفْعَالِهِ مَا قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ أَمَرَنَا أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَهُ، كَقَوْلِهِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَقَوْلِهِ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ عَلَى الْمِنْبَرِ: «إنَّمَا فَعَلْت هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلْتَعْلَمُوا صَلَاتِي» وَقَوْلِهِ لَمَّا حَجَّ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ مَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ فَهُوَ مُبَاحٌ لَنَا، إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37]

فَأَبَاحَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةَ دَعِيِّهِ لِيَرْفَعَ الْحَرَجَ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ كَانَ لَنَا مُبَاحًا أَنْ نَفْعَلَهُ. وَلَمَّا خَصَّهُ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ قَالَ: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 50] . فَلَمَّا أَحَلَّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ الْمَوْهُوبَةَ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ خَالِصٌ لَهُ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْكِحَ امْرَأَةً بِلَا مَهْرٍ غَيْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ؟ فَقَالَ لَهُ: سَلْ هَذِهِ - لِأُمِّ سَلَمَةَ - فَأَخْبَرَتْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا وَاَللَّهِ إنَّنِي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَخْشَاكُمْ لَهُ» . فَلَمَّا أَجَابَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِعْلِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْأُمَّةِ مَا أُبِيحَ لَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ إذَا أَمَرَهُ بِأَمْرٍ، أَوْ نَهَاهُ عَنْ شَيْءٍ، كَانَتْ أُمَّتُهُ أُسْوَةً لَهُ فِي ذَلِكَ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ. فَمِنْ خَصَائِصِهِ: مَا كَانَ مِنْ خَصَائِصِ نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ، فَهَذَا لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَهَذَا مِثْلُ كَوْنِهِ يُطَاعُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ، وَيَنْهَى عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ جِهَةَ أَمْرِهِ، حَتَّى يُقْتَلَ كُلُّ مَنْ أَمَرَ بِقَتْلِهِ، وَلَيْسَ هَذَا لِأَحَدٍ بَعْدَهُ، فَوُلَاةُ الْأُمُورِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ يُطَاعُونَ إذَا لَمْ يَأْمُرُوا بِخِلَافِ أَمْرِهِ؛ وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ طَاعَتَهُمْ فِي ضِمْنِ طَاعَتِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] . فَقَالَ: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ} [النساء: 59] لِأَنَّ أُولِي الْأَمْرِ يُطَاعُونَ طَاعَةً تَابِعَةً لِطَاعَتِهِ، فَلَا يُطَاعُونَ اسْتِقْلَالًا، وَلَا طَاعَةً مُطْلَقَةً، وَأَمَّا الرَّسُولُ فَيُطَاعُ طَاعَةً مُطْلَقَةً مُسْتَقِلَّةً، فَإِنَّهُ:

{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] فَقَالَ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] فَإِذَا أَمَرَنَا الرَّسُولُ كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَهُ، وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ جِهَةَ أَمْرِهِ، وَطَاعَتُهُ طَاعَةُ اللَّهِ، لَا تَكُونُ طَاعَتُهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ قَطُّ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّاسُ مِنْ خَصَائِصِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَيُكْرَمُ بِهِ، مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِهِ. وَبَعْضُ ذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهُ مُتَنَازَعٌ فِيهِ. وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إمَامُ الْأُمَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْضِي بَيْنَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يُقَسِّمُ، وَهُوَ الَّذِي يَغْزُو بِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي يُقِيمُ الْحُدُودَ، وَهُوَ الَّذِي يَسْتَوْفِي الْحُقُوقَ، وَهُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِهِمْ فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ بِحَسَبِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ، فَإِمَامُ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ يَقْتَدِي بِهِ فِي ذَلِكَ، وَأَمِيرُ الْغَزْوِ يَقْتَدِي بِهِ فِي ذَلِكَ، وَاَلَّذِي يُقِيمُ الْحُدُودَ يَقْتَدِي بِهِ فِي ذَلِكَ. وَاَلَّذِي يَقْضِي أَوْ يُفْتِي يَقْتَدِي بِهِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي أُمُورٍ فَعَلَهَا: هَلْ هِيَ مِنْ خَصَائِصِهِ أَمْ لِلْأُمَّةِ فِعْلُهَا؟ كَدُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ إمَامًا، بَعْدَ أَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ غَيْرُهُ، وَكَتَرْكِهِ الصَّلَاةَ عَلَى الْغَالِّ وَالْقَاتِلِ. وَأَيْضًا فَإِذَا فَعَلَ فِعْلًا لِسَبَبٍ، وَقَدْ عَلِمْنَا ذَلِكَ السَّبَبَ، أَمْكَنَنَا أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ فِيهِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ نَعْلَمْ السَّبَبَ، أَوْ كَانَ السَّبَبُ أَمْرًا اتِّفَاقِيًّا، فَهَذَا مِمَّا يَتَنَازَعُ فِيهِ النَّاسُ: مِثْلَ نُزُولِهِ فِي مَكَان فِي سَفَرِهِ. فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَنْزِلَ حَيْثُ نَزَلَ، كَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ نَفْسُ مُوَافَقَتِهِ فِي الْفِعْلِ هُوَ حَسَنٌ، وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ هُوَ اتِّفَاقًا، وَنَحْنُ فَعَلْنَاهُ لِقَصْدِ التَّشَبُّهِ بِهِ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: إنَّمَا تُسْتَحَبُّ الْمُتَابَعَةُ إذَا فَعَلْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ، فَأَمَّا إذَا فَعَلَهُ اتِّفَاقًا لَمْ يُشْرَعْ لَنَا أَنْ نَقْصِدَ مَا لَمْ يَقْصِدْهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يَفْعَلُونَ، كَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ. وَأَيْضًا فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ، يَكُونُ تَارَةً فِي نَوْعِ الْفِعْلِ، وَتَارَةً فِي جِنْسِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِمَعْنًى يَعُمُّ ذَلِكَ النَّوْعَ وَغَيْرَهُ، لَا لِمَعْنًى يَخُصُّهُ، فَيَكُونُ الْمَشْرُوعُ هُوَ الْأَمْرُ الْعَامُّ. مِثَالُ ذَلِكَ احْتِجَامُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ لِحَاجَتِهِ إلَى إخْرَاجِ الدَّمِ الْفَاسِدِ، ثُمَّ التَّأَسِّي هَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِالْحِجَامَةِ؟ أَوْ الْمَقْصُودُ إخْرَاجُ الدَّمِ عَلَى الْوَجْهِ النَّافِعِ؟

وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّأَسِّي هُوَ الْمَشْرُوعُ، فَإِذَا كَانَ الْبَلَدُ حَارًّا يَخْرُجُ فِيهِ الدَّمُ إلَى الْجِلْدِ كَانَتْ الْحِجَامَةُ هِيَ الْمَصْلَحَةُ وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ بَارِدًا يَغُورُ فِيهِ الدَّمُ إلَى الْعُرُوقِ كَانَ إخْرَاجُهُ بِالْفَصْدِ هُوَ الْمَصْلَحَةُ. وَكَذَلِكَ إدْهَانُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ الْمَقْصُودُ خُصُوصُ الدَّهْنِ، أَوْ الْمَقْصُودُ تَرْجِيلُ الشَّعْرِ؟ فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ رَطْبًا وَأَهْلُهُ يَغْتَسِلُونَ بِالْمَاءِ الْحَارِّ الَّذِي يُغْنِيهِمْ عَنْ الدَّهْنِ، وَالدَّهْنُ يُؤْذِي شُعُورَهُمْ وَجُلُودَهُمْ، يَكُونُ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّهِمْ تَرْجِيلُ الشَّعْرِ بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْأَشْبَهُ. وَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ يَأْكُلُ الرُّطَبَ وَالتَّمْرَ وَخُبْزَ الشَّعِيرِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ قُوتِ بَلَدِهِ، فَهَلْ التَّأَسِّي بِهِ أَنْ يَقْصِدَ خُصُوصَ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ مَنْ يَكُونُ فِي بِلَادٍ لَا يَنْبُتُ فِيهَا التَّمْرُ، وَلَا يَقْتَاتُونَ الشَّعِيرَ، بَلْ يَقْتَاتُونَ الْبُرَّ أَوْ الرُّزَّ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْمَشْرُوعُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا فَتَحُوا الْأَمْصَارَ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَأْكُلُ مِنْ قُوتِ بَلَدِهِ، وَيَلْبَسُ مِنْ لِبَاسِ بَلَدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ أَقْوَاتَ الْمَدِينَةِ وَلِبَاسَهَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا الثَّانِي هُوَ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِمْ، لَكَانُوا أَوْلَى بِاخْتِيَارِ الْأَفْضَلِ. وَعَلَى هَذَا يُبْنَى نِزَاعُ الْعُلَمَاءِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: إذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلُ الْبَلَدِ يَقْتَاتُونَ التَّمْرَ وَالشَّعِيرَ. فَهَلْ يُخْرِجُونَ مِنْ قُوتِهِمْ كَالْبُرِّ وَالرُّزِّ، أَوْ يُخْرِجُونَ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضَ ذَلِكَ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، مِنْ الْمُسْلِمِينَ» . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُخْرِجُ مِنْ قُوتِ بَلَدِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الْكَفَّارَةِ بِقَوْلِهِ: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: إنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْتَزِرُونَ وَيَرْتَدُونَ؛

فَهَلْ الْأَفْضَلُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَرْتَدِيَ وَيَأْتَزِرَ وَلَوْ مَعَ الْقَمِيصِ؟ أَوْ الْأَفْضَلُ إنْ يَلْبَسَ مَعَ الْقَمِيصِ السَّرَاوِيلَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ، هَذَا أَيْضًا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. وَهَذَا النَّوْعُ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ أَصْحَابِهِ، بَلْ وَبِكَثِيرٍ مِمَّا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ، وَهَذَا سَمَّتْهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ: " تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ " وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ قَدْ ثَبَتَ فِي عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ، وَلَيْسَ مَخْصُوصًا بِهَا، بَلْ الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا، فَيَحْتَاجُ أَنْ يَعْرِفَ " مَنَاطَ الْحُكْمِ ". مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ» . فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِتِلْكَ الْفَأْرَةِ، وَذَلِكَ السَّمْنِ؛ بَلْ الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُمَا. فَبَقِيَ الْمَنَاطُ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ مَا هُوَ؟ فَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْحُكْمَ مُخْتَصٌّ بِفَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ، فَيُنَجِّسُونَ مَا كَانَ كَذَلِكَ مُطْلَقًا، وَلَا يُنَجِّسُونَ السَّمْنَ إذَا وَقَعَ فِيهِ الْكَلْبُ، وَالْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ، وَلَا يُنَجِّسُونَ الزَّيْتَ وَنَحْوَهُ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ قَطْعًا. وَلَيْسَ هَذَا مَبْنِيًّا عَلَى كَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً. فَإِنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي يَكُونُ النِّزَاعُ فِيهِ هُوَ تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ، وَهُوَ أَنْ يَجُوزَ اخْتِصَاصُ مَوْرِدِ النَّصِّ بِالْحُكْمِ، فَإِذَا جَازَ اخْتِصَاصُهُ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَوْرِدِ النَّصِّ وَغَيْرِهِ احْتَاجَ مُعْتَبِرُ الْقِيَاسِ، إلَى أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تَبِيعُوا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ» فَلَمَّا نَهَى عَنْ التَّفَاضُلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِمَعْنًى مُشْتَرَكٍ، وَلِمَعْنًى مُخْتَصٍّ.

وَلَمَّا سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ، فَأَجَابَ: عَنْ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِهَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ قَضَايَا الْأَعْيَانِ، كَالْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ لَهُ: إنِّي وَقَعْت عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً، أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَإِنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ الْأَعْرَابِيِّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. لَكِنْ هَلْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ أَفْطَرَ، أَوْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَ، أَوْ أَفْطَرَ فِيهِ بِالْجِمَاعِ، أَوْ أَفْطَرَ بِالْجِنْسِ الْأَعْلَى، هَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ. وَكَذَلِكَ لَمَّا سَأَلَهُ سَائِلٌ عَمَّنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ، وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِالْخَلُوقِ. فَقَالَ: «انْزِعْ عَنْك الْجُبَّةَ، وَاغْسِلْ عَنْك أَثَرَ الْخَلُوقِ وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا كُنْت صَانِعًا فِي حَجَّتِك» . فَهِيَ أَمَرَهُ بِغُسْلِ الْخَلُوقِ لِكَوْنِهِ طَيِّبًا، حَتَّى يُؤْمَرَ الْمُحْرِمُ بِغَسْلِ كُلِّ طَيِّبٍ كَانَ عَلَيْهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ خَلُوقًا لِرَجُلٍ؟ وَقَدْ نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ، فَيَنْهَى عَنْ الْخَلُوقِ لِلرَّجُلِ سَوَاءٌ كَانَ مُحْرِمًا أَوْ غَيْرَ مُحْرِمٍ. وَكَذَلِكَ لَمَّا عَتَقَتْ بَرِيرَةُ فَخَيَّرَهَا، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ زَوْجَهَا كَانَ عَبْدًا، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَصُّ بِهَا؛ لَكِنْ هَلْ التَّخْيِيرُ لِكَوْنِهَا عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَكَمُلَتْ تَحْتَ نَاقِصٍ؟ وَلَا تُخَيَّرُ إذَا عَتَقَتْ تَحْتَ الْحُرِّ، أَوْ الْحُكْمُ لِكَوْنِهَا مَلَكَتْ نَفْسَهَا فَتُخَيَّرُ، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا؟ هَذَا مِمَّا تَنَازَعُوا فِيهِ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ، وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا فَيُحْتَاجُ أَنْ يُعْرَفَ الْمَنَاطُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ، وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمِّيهِ بَعْضُ النَّاسِ قِيَاسًا؛ وَبَعْضُهُمْ لَا يُسَمِّيهِ قِيَاسًا؛ وَلِهَذَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يَسْتَعْمِلُونَ فِيهَا الْقِيَاسَ. وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْقِيَاسِ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ النِّزَاعُ، كَمَا أَنَّ تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ لَيْسَ مِمَّا يَقْبَلُ النِّزَاعَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ " تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ " " وَتَنْقِيحُ الْمَنَاطِ " " وَتَخْرِيجُ الْمَنَاطِ " هِيَ جِمَاعُ الِاجْتِهَادِ.

فَالْأَوَّلُ: أَنْ يُعْمَلَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِوَصْفٍ يَحْتَاجُ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْمُعَيَّنِ إلَى أَنْ يُعْلَمَ ثُبُوتُ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِيهِ، كَمَا يُعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِإِشْهَادِ ذَوَيْ عَدْلٍ مِنَّا، وَمِمَّنْ نَرْضَى مِنْ الشُّهَدَاءِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ تَعْيِينُ كُلِّ شَاهِدٍ، فَيُحْتَاجُ أَنْ يُعْلَمَ فِي الشُّهُودِ الْمُعَيَّنِينَ: هَلْ هُمْ مِنْ ذَوَيْ الْعَدْلِ الْمَرَضِيِّينَ أَمْ لَا؟ وَكَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِعِشْرَةِ الزَّوْجَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ، «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِلنِّسَاءِ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» وَلَمْ يَكُنْ تَعْيِينُ كُلِّ زَوْجٍ، فَيُحْتَاجُ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْأَعْيَانِ. ثُمَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ، وَالصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ مَرْدُودٌ إلَى الْعُرْفِ كَمَا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدَ: خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» . وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34] . وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي تَسْلِيمِهِ إلَى هَذَا التَّاجِرِ، بِجُزْءٍ مِنْ الرِّبْحِ. هَلْ هُوَ مِنْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَمْ لَا؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] يَبْقَى هَذَا الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ هَلْ هُوَ مِنْ الْفُقَرَاءِ الْمَسَاكِينِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ أَمْ لَا؟ وَكَمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَالرِّبَا عُمُومًا يَبْقَى الْكَلَامُ فِي الشَّرَابِ الْمُعَيَّنِ. هَلْ هُوَ خَمْرٌ أَمْ لَا؟ وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، بَلْ الْعُقَلَاءُ: بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنُصَّ الشَّارِعُ عَلَى حُكْمِ كُلِّ شَخْصٍ، إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ عَامٍّ، وَكَانَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: الَّذِي يُسَمُّونَهُ " تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ " بِأَنْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمِ أَعْيَانٍ مُعَيَّنَةٍ؛ لَكِنْ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَصُّ بِهَا، فَالصَّوَابُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ، لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى النَّصِّ بَلْ الْمُعَيَّنُ هُنَا نَصَّ عَلَى نَوْعِهِ، وَلَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُعْرَفَ نَوْعُهُ، وَمَسْأَلَةُ الْفَأْرَةِ فِي السَّمْنِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِتِلْكَ الْفَأْرَةِ، وَذَلِكَ السَّمْنِ. وَلَا بِفَأْرِ الْمَدِينَةِ وَسَمْنِهَا، وَلَكِنَّ السَّائِلَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ؛ فَأَجَابَهُ: لَا أَنَّ الْجَوَابَ يَخْتَصُّ بِهِ، وَلَا بِسُؤَالِهِ. كَمَا أَجَابَ غَيْرُهُ وَلَفْظُ الْفَأْرَةِ وَالسَّمْنِ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي عُلِّقَ الْحُكْمُ

بِهَا، بَلْ مِنْ كَلَامِ السَّائِلِ الَّذِي أَخْبَرَ بِمَا وَقَعَ لَهُ، كَمَا قَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ: إنَّهُ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ، وَلَوْ وَقَعَ عَلَى سُرِّيَّتِهِ لَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَكَمَا قَالَ لَهُ الْآخَرُ: رَأَيْت بَيَاضَ خَلْخَالِهَا فِي الْقَمَرِ، فَوَثَبْت عَلَيْهَا، وَلَوْ وَطِئَهَا بِدُونِ ذَلِكَ، كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ. فَالصَّوَابُ فِي هَذَا مَا عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْمَشْهُورُونَ: أَنَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ مُعَلَّقٌ بِالْخَبِيثِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ، إذَا وَقَعَ فِي السَّمْنِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمَائِعَاتِ لِأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ، فَإِذَا عَلَّقْنَا الْحُكْمَ بِهَذَا الْمَعْنَى كُنَّا قَدْ اتَّبَعْنَا كِتَابَ اللَّهِ، فَإِذَا وَقَعَ الْخَبِيثُ فِي الطَّيِّبِ أُلْقِيَ الْخَبِيثُ وَمَا حَوْلَهُ، وَأُكِلَ الطَّيِّبُ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ مَوْضِعَ بَسْطٍ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. وَلَكِنْ نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَفْعَالِهِ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا. وَحِينَئِذٍ هَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِاجْتِهَادِ النَّاسِ، وَاسْتِدْلَالِهِمْ وَمَا يُؤْتِيهِمْ اللَّهُ مِنْ الْفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ، وَأَحَقُّ النَّاسِ بِالْحَقِّ مَنْ عَلَّقَ الْأَحْكَامَ بِالْمَعَانِي، الَّتِي عَلَّقَهَا بِهَا الشَّارِعُ. وَهَذَا مَوْضِعُ تَفَاوَتَ فِيهِ النَّاسُ وَتَنَازَعُوا: هَلْ يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْ خِطَابِ الشَّارِعِ؟ أَوْ مِنْ الْمَعَانِي الْقِيَاسِيَّةِ؟ فَقَوْمٌ زَعَمُوا أَنَّ أَكْثَرَ أَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَا يَتَنَاوَلُهَا خِطَابُ الشَّارِعِ، بَلْ تَحْتَاجُ إلَى الْقِيَاسِ. وَقَوْمٌ زَعَمُوا أَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِهَا ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ، وَأَسْرَفُوا فِي تَعَلُّقِهِمْ بِالظَّاهِرِ، حَتَّى أَنْكَرُوا فَحْوَى الْخِطَابِ وَتَنْبِيهَهُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] ، وَقَالُوا: إنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى النَّهْيِ عَنْ التَّأْفِيفِ، لَا يُفْهَمُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ، وَأَنْكَرُوا " تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ " وَادَّعَوْا فِي الْأَلْفَاظِ مِنْ الظُّهُورِ مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَوْمٌ يُقَدِّمُونَ الْقِيَاسَ تَارَةً، لِكَوْنِ دَلَالَةِ النَّصِّ غَيْرَ تَامَّةٍ، أَوْ لِكَوْنِهِ خَبَرَ الْوَاحِدِ، وَأَقْوَامٌ يُعَارِضُونَ بَيْنَ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ وَيُقَدِّمُونَ النَّصَّ وَيَتَنَاقَضُونَ، وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ لَا تَتَنَاقَضُ، فَلَا تَتَنَاقَضُ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالشَّرْعِيَّةُ وَلَا تَتَنَاقَضُ دَلَالَةُ الْقِيَاسِ إذَا كَانَتْ صَحِيحَةً، وَدَلَالَةُ الْخِطَابِ إذَا كَانَتْ صَحِيحَةً. فَإِنَّ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ حَقِيقَةُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ الَّذِي أَنْزَلَ

اللَّهُ بِهِ الْكُتُبَ، وَأَرْسَلَ بِهِ الرُّسُلَ، وَالرَّسُولُ لَا يَأْمُرُ بِخِلَافِ الْعَدْلِ، وَلَا يَحْكُمُ فِي شَيْئَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلَا يُحَرِّمُ الشَّيْءَ وَيُحِلُّ نَظِيرَهُ. وَقَدْ تَأَمَّلْنَا عَامَّةَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي قِيلَ: إنَّ الْقِيَاسَ فِيهَا عَارَضَ النَّصَّ وَإِنَّ حُكْمَ النَّصِّ فِيهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. فَوَجَدْنَا مَا خَصَّهُ الشَّارِعُ بِحُكْمٍ عَنْ نَظَائِرِهِ، فَإِنَّمَا خَصَّهُ بِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِوَصْفٍ أَوْجَبَ اخْتِصَاصَهُ بِالْحُكْمِ، كَمَا خَصَّ الْعَرَايَا بِجَوَازِ بَيْعِهَا بِمِثْلِهَا خَرْصًا، لِتَعَذُّرِ الْكَيْلِ مَعَ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيْعِ، وَالْحَاجَةُ تُوجِبُ الِانْتِقَالَ إلَى الْبَدَلِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْأَصْلِ. فَالْخَرْصُ عِنْدَ الْحَاجَةِ قَامَ مَقَامَ الْكَيْلِ، كَمَا يَقُومُ التُّرَابُ مَقَامَ الْمَاءِ، وَالْمَيْتَةُ مَقَامَ الْمُذَكَّى عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْقَرْضُ أَوْ الْإِجَارَةُ أَوْ الْقِرَاضُ أَوْ الْمُسَاقَاةُ أَوْ الْمُزَارَعَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ اخْتَصَّتْ بِصِفَاتٍ أَوْجَبَتْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا مُخَالِفًا لِحُكْمِ مَا لَيْسَ مِثْلَهَا، فَقَدْ صَدَقَ. وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْفِعْلَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ حَكَمَ فِيهِمَا بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَهَذَا خَطَأٌ، يُنَزَّهُ عَنْهُ مَنْ هُوَ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. وَلَكِنْ هَذِهِ الْأَقْيِسَةُ الْمُعَارِضَةُ هِيَ الْفَاسِدَةُ، كَقِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَقِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا " أَتَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ، وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّهُ؟ " يَعْنُونَ الْمَيْتَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] . وَلَعَلَّ مِنْ رَزَقَهُ اللَّهُ فَهْمًا، وَآتَاهُ مِنْ لَدُنْه عِلْمًا، يَجِدَ عَامَّةِ الْأَحْكَام الَّتِي تُعْلَمُ بِقِيَاسِ شَرْعِيٍّ صَحِيحٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْخِطَابُ الشَّرْعِيُّ، كَمَا أَنَّ غَايَةَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ الشَّرْعِيُّ هُوَ مُوَافِقٌ لِلْعَدْلِ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ: فَالْكَلَامُ فِي أَعْيَانِ أَحْوَالِ الرَّجُلِ السَّالِكِ يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ خَاصٍّ، وَاسْتِهْدَاءٍ مِنْ اللَّهِ، وَاَللَّهُ قَدْ أَمَرَ الْعَبْدَ أَنْ يَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] .

فصل هل الأفضل للسالك العزلة أو الخلطة

فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الدُّعَاءِ، لِيَصِيرَ مِنْ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. [فَصْلٌ هَلْ الْأَفْضَلُ لِلسَّالِكِ الْعُزْلَةُ أَوْ الْخُلْطَةُ] فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَلْ الْأَفْضَلُ لِلسَّالِكِ الْعُزْلَةُ أَوْ الْخُلْطَةُ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَإِنْ كَانَ النَّاسُ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا، إمَّا نِزَاعًا كُلِّيًّا، وَإِمَّا حَالِيًّا، فَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ: أَنَّ الْخُلْطَةَ تَارَةً تَكُونُ وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً، وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ قَدْ يَكُونُ مَأْمُورًا بِالْمُخَالَطَةِ تَارَةً، وَبِالِانْفِرَادِ تَارَةً. وَجِمَاعُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُخَالَطَةَ إنْ كَانَ فِيهَا تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، فَهِيَ مَأْمُورٌ بِهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهَا تَعَاوُنٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، فَالِاخْتِلَاطُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي جِنْسِ الْعِبَادَاتِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. وَكَذَلِكَ الِاخْتِلَاطُ بِهِمْ فِي الْحَجِّ وَفِي غَزْوِ الْكُفَّارِ وَالْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ وَإِنْ كَانَ أَئِمَّةُ ذَلِكَ فُجَّارًا، وَإِنْ كَانَ فِي تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ فُجَّارٌ. وَكَذَلِكَ الِاجْتِمَاعُ الَّذِي يَزْدَادُ الْعَبْدُ بِهِ إيمَانًا إمَّا لِانْتِفَاعِهِ بِهِ وَإِمَّا لِنَفْعِهِ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْ أَوْقَاتٍ يَنْفَرِدُ بِهَا بِنَفْسِهِ فِي دُعَائِهِ وَذِكْرِهِ وَصَلَاتِهِ وَتَفَكُّرِهِ وَمُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ وَإِصْلَاحِ قَلْبِهِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يُشْرِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ فَهَذِهِ يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى انْفِرَادِهِ بِنَفْسِهِ إمَّا فِي بَيْتِهِ، كَمَا قَالَ طَاوُسٌ: " نَعَمْ صَوْمَعَةُ الرَّجُلِ بَيْتُهُ، يَكُفُّ فِيهَا بَصَرَهُ وَلِسَانَهُ "، وَإِمَّا فِي غَيْرِ بَيْتِهِ، فَاخْتِيَارُ الْمُخَالَطَةِ مُطْلَقًا خَطَأٌ وَاخْتِيَارُ الِانْفِرَادِ مُطْلَقًا خَطَأٌ. وَأَمَّا مِقْدَارُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْ هَذَا وَهَذَا وَمَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ فَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ خَاصٍّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ السَّبَبُ وَتَرْكُ السَّبَبِ، فَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى السَّبَبِ وَلَا يَشْغَلُهُ عَمَّا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ فِي دِينِهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ، مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، وَهَذَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ النَّاسِ وَلَوْ جَاءَهُ بِغَيْرِ سُؤَالٍ وَسَبَبٍ مِثْلُ هَذَا عِبَادَةٌ لِلَّهِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَسَبَّبَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ صَالِحَةٍ أَوْ لَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ مُطِيعٌ فِي هَذَا وَهَذَا. وَهَذِهِ طَرِيقُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ

اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ، فَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ أَوْ قَادِرًا عَلَيْهِ، بِتَفْوِيتِ مَا هُوَ فِيهِ أَطْوَعُ لِلَّهِ مِنْ الْكَسْبِ فَفِعْلُ مَا هُوَ فِيهِ أَطْوَعُ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّهِ، وَهَذَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَفْضَلَ يَتَنَوَّعُ تَارَةً بِحَسَبِ أَجْنَاسِ الْعِبَادَاتِ كَمَا أَنَّ جِنْسَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْقِرَاءَةِ وَجِنْسَ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الذِّكْرِ وَجِنْسَ الذِّكْرِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ. وَتَارَةً يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ كَمَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ وَالذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ هُوَ الْمَشْرُوعُ دُونَ الصَّلَاةِ وَتَارَةً بِاخْتِلَافِ عَمَلِ الْإِنْسَانِ الظَّاهِرِ كَمَا أَنَّ الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ هُوَ الْمَشْرُوعُ دُونَ الْقِرَاءَةِ وَكَذَلِكَ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ فِي الطَّوَافِ مَشْرُوعٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الطَّوَافِ فَفِيهَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ وَتَارَةً بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ كَمَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَعِنْدَ الْجِمَارِ وَعِنْدَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ هُوَ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ دُونَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ لِلْوَارِدِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ لِلْمُقِيمِينَ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ. وَتَارَةً بِاخْتِلَافِ مَرْتَبَةِ جِنْسِ الْعِبَادَةِ، فَالْجِهَادُ لِلرِّجَالِ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ وَأَمَّا النِّسَاءُ فَجِهَادُهُنَّ الْحَجُّ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ طَاعَتُهَا لِزَوْجِهَا أَفْضَلُ مِنْ طَاعَتِهَا لِأَبَوَيْهَا بِخِلَافِ الْأَيِّمَةِ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِطَاعَةِ أَبَوَيْهَا. وَتَارَةً يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَعَجْزِهِ، فَمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الْمَعْجُوزِ عَنْهُ أَفْضَلَ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَغْلُو فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَيَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ، فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ، لِمُنَاسَبَةٍ لَهُ وَلِكَوْنِهِ أَنْفَعَ لِقَلْبِهِ وَأَطْوَعَ لِرَبِّهِ، يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَهُ أَفْضَلَ لِجَمِيعِ النَّاسِ وَيَأْمُرُهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَجَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْعِبَادِ وَهِدَايَةً لَهُمْ يَأْمُرُ كُلَّ إنْسَانٍ بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُ. فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ نَاصِحًا لِلْمُسْلِمِينَ يَقْصِدُ لِكُلِّ إنْسَانٍ مَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ لَك أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ تَطَوُّعُهُ بِالْعِلْمِ أَفْضَلَ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ تَطَوُّعُهُ بِالْجِهَادِ أَفْضَلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ تَطَوُّعُهُ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ أَفْضَلَ لَهُ، وَالْأَفْضَلُ الْمُطْلَقُ مَا كَانَ أَشْبَهَ بِحَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاطِنًا وَظَاهِرًا، فَإِنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

مسألة استفتاح الصلاة

[مَسْأَلَةٌ اسْتِفْتَاح الصَّلَاةِ] مَسْأَلَةٌ: فِي اسْتِفْتَاحِ الصَّلَاةِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ؟ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ وَمَا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: الِاسْتِفْتَاحُ عَقِبَ التَّكْبِيرِ مَسْنُونٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ، كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: مِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي» وَذَكَرَ الدُّعَاءَ. فَبَيَّنَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ سُكُوتًا يَدْعُو فِيهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَتِهِ أَنْوَاعٌ، وَغَالِبُهَا فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، فَمَنْ اسْتَفْتَحَ بِقَوْلِهِ: «سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، وَتَبَارَكَ اسْمُك، وَتَعَالَى جَدُّك، وَلَا إلَهَ غَيْرُك» فَقَدْ أَحْسَنَ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَجْهَرُ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ بِذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي السُّنَنِ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَنْ اسْتَفْتَحَ بِقَوْلِهِ: «وَجَّهْت وَجْهِي» إلَخْ فَقَدْ أَحْسَنَ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِهِ، وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْفَرْضِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَاسْتَفْتَحَ: بِ «سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك» إلَى آخِرِهِ. وَ «وَجَّهْت وَجْهِي» ، فَقَدْ أَحْسَنَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ. وَالْأَوَّلُ: اخْتِيَارُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ. وَالثَّانِي: اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّالِثُ: اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ. وَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ بِمَنْزِلَةِ أَنْوَاعِ التَّشَهُّدَاتِ، وَبِمَنْزِلَةِ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ الَّتِي يَقْرَأُ الْإِنْسَانُ مِنْهَا بِمَا اخْتَارَ. وَأَمَّا كَوْنُهُ وَاجِبًا: فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَفِي مَذْهَبِهِ قَوْلٌ آخَرُ يَذْكُرُهُ بَعْضُهُمْ رِوَايَةً عَنْهُ أَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ وَاجِبٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة الإمام الذي يجهر بالتعوذ بعد تكبيرة الإحرام

[مَسْأَلَةٌ الْإِمَام الَّذِي يَجْهَرُ بِالتَّعَوُّذِ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ] مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ يَؤُمُّ النَّاسَ، وَبَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ يَجْهَرُ بِالتَّعَوُّذِ، ثُمَّ يُسَمِّي وَيَقْرَأُ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ؟ الْجَوَابُ: إذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَحْيَانًا لِلتَّعْلِيمِ وَنَحْوِهِ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَجْهَرُ بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ مُدَّةً، وَكَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَجْهَرَانِ بِالِاسْتِعَاذَةِ أَحْيَانًا. وَأَمَّا الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْجَهْرِ بِذَلِكَ فَبِدْعَةٌ، مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَجْهَرُونَ بِذَلِكَ دَائِمًا، بَلْ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ جَهَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قِرَاءَة الْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ] 155 - 71 مَسْأَلَةٌ: فِي حَدِيثِ «نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ قَالَ: كُنْت وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْكِتَابِ، حَتَّى بَلَغَ {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] . قَالَ: آمِينَ، وَقَالَ النَّاسُ: آمِينَ، وَيَقُولُ كُلَّمَا سَجَدَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَشْبَهَكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَكَانَ «الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَبْلَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَبَعْدَهَا، وَيَقُولُ: مَا آلُو أَنْ أَقْتَدِيَ بِصَلَاةِ أَبِي، وَقَالَ أَبِي: مَا آلُو أَنْ أَقْتَدِيَ بِصَلَاةِ أَنَسٍ، وَقَالَ أَنَسٌ: مَا آلُو أَنْ أَقْتَدِيَ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، فَهَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ فِي الْجَهْرِ بِهَا. ذَكَرَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رُوَاةَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ آخِرِهِمْ ثِقَاتٌ، فَهَلْ يُحْمَلُ مَا قَالَهُ أَنَسٌ: وَهُوَ صَلَّيْت خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَذْكُرُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَلَى عَدَمِ السَّمَاعِ؟ وَمَا التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالصَّوَابُ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فِي نَفْيِ الْجَهْرِ فَهُوَ صَرِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ، فَإِنَّهُ قَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ فَقَالَ فِيهِ: «صَلَّيْت خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ، وَلَا فِي آخِرِهَا» وَهَذَا النَّفْيُ لَا يَجُوزُ

إلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، لَا يَجُوزُ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ لَمْ يَسْمَعْ مَعَ إمْكَانِ الْجَهْرِ بِلَا سَمَاعٍ. وَاللَّفْظُ الْآخَرُ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «صَلَّيْت خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَجْهَرُ، أَوْ قَالَ: يُصَلِّي بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ، فَهَذَا نُفِيَ فِيهِ السَّمَاعُ، وَلَوْ لَمْ يُرْوَ إلَّا هَذَا اللَّفْظُ لَمْ يَجُزْ تَأْوِيلُهُ، بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ جَهْرًا، وَلَا يَسْمَعُ أَنَسٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَنَسًا إنَّمَا رَوَى هَذَا لِيُبَيِّنَ لَهُمْ مَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ، إذْ لَا غَرَضَ لِلنَّاسِ فِي مَعْرِفَةِ كَوْنِ أَنَسٍ سَمِعَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ، إلَّا لِيَسْتَدِلُّوا بِعَدَمِ سَمَاعِهِ عَلَى عَدَمِ الْمَسْمُوعِ، فَلَوْ لَوْ يَكُنْ مَا ذَكَرَهُ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَنَسٌ لِيَرْوِيَ شَيْئًا لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِيهِ، وَلَا كَانُوا يَرْوُونَ مِثْلَ هَذَا الَّذِي لَا يُفِيدُهُمْ. الثَّانِي: أَنَّ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ صَارَ دَالًّا فِي الْعُرْفِ عَلَى عَدَمِ مَا لَمْ يُدْرَكْ، فَإِذَا قَالَ: مَا سَمِعْنَا، أَوْ مَا رَأَيْنَا، لِمَا شَأْنُهُ أَنْ يَسْمَعَهُ وَيَرَاهُ، كَانَ مَقْصُودُهُ بِذَلِكَ نَفْيَ وُجُودِهِ، وَذِكْرُ نَفْيِ الْإِدْرَاكِ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ دَلِيلٌ فِيمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِدْرَاكِهِ. وَهَذَا يَظْهَرُ بِالْوَجْهِ الثَّالِثِ وَهُوَ: أَنَّ أَنَسًا كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حِينِ قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ إلَى أَنْ مَاتَ، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى نِسَائِهِ قَبْلَ الْحِجَابِ، وَيَصْحَبُهُ حَضَرًا وَسَفَرًا وَكَانَ حِينَ حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْتَ نَاقَتِهِ يَسِيلُ عَلَيْهِ لُعَابُهَا أَفَيُمْكِنُ مَعَ هَذَا الْقُرْبِ الْخَاصِّ، وَالصُّحْبَةِ الطَّوِيلَةِ أَنْ لَا يَسْمَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْهَرُ بِهَا، مَعَ كَوْنِهِ يَجْهَرُ بِهَا هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ بُطْلَانُهُ فِي الْعَادَةِ. ثُمَّ إنَّهُ صَحِبَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَتَوَلَّى لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وِلَايَاتٍ، وَلَا كَانَ يُمْكِنُ مَعَ طُولِ مُدَّتِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْهَرُونَ، وَهُوَ لَا يَسْمَعُ ذَلِكَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا تَحْرِيفٌ لَا تَأْوِيلٌ، لَوْ لَمْ يُرْوَ إلَّا هَذَا اللَّفْظُ، فَكَيْفَ وَالْآخَرُ صَرِيحٌ فِي نَفْيِ الذِّكْرِ بِهَا، وَهُوَ يَفْضُلُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى. وَكِلَا الرِّوَايَتَيْنِ يَنْفِي تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ (بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَنَّهُ أَرَادَ السُّورَةَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: يَفْتَتِحُونَ، (بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لَا يَذْكُرُونَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ، وَلَا فِي آخِرِهَا، صَرِيحٌ أَنَّهُ فِي قَصْدِ الِافْتِتَاحِ بِالْآيَةِ، لَا بِسُورَةِ الْفَاتِحَةِ الَّتِي أَوَّلُهَا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إذْ لَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ ذَلِكَ لَتَنَاقَضَ حَدِيثَاهُ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ بِالْفَاتِحَةِ قَبْلَ السُّورَةِ، هُوَ مِنْ الْعِلْمِ الظَّاهِرِ الْعَامِّ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، كَمَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الرُّكُوعَ قَبْلَ السُّجُودِ وَجَمِيعُ الْأَئِمَّةِ غَيْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ يَفْعَلُونَ هَذَا، لَيْسَ فِي نَقْلِ مِثْلِ هَذَا فَائِدَةٌ، وَلَا هَذَا مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى نَقْلِ أَنَسٍ، وَهُمْ قَدْ سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ، وَجَمِيعُ الْأَئِمَّةِ مِنْ أُمَرَاءِ الْأَمْصَارِ وَالْجُيُوشِ، وَخُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَبَنِي الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَدْرَكَهُ أَنَسٌ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ بِالْفَاتِحَةِ، وَلَمْ يَشْتَبِهْ هَذَا عَلَى أَحَدٍ، وَلَا شَكَّ؛ فَكَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ أَنَسًا قَصَدَ تَعْرِيفَهُمْ بِهَذَا، وَأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْهُ. وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: فَكَانُوا يُصَلُّونَ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ أَرْبَعًا، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثًا، أَوْ يَقُولَ: فَكَانُوا يَجْهَرُونَ فِي الْعِشَاءَيْنِ وَالْفَجْرِ، وَيُخَافِتُونَ فِي صَلَاتَيْ الظُّهْرَيْنِ، أَوْ يَقُولَ: فَكَانُوا يَجْهَرُونَ فِي الْأُولَيَيْنِ، دُونَ الْأَخِيرَتَيْنِ. وَمِثْلُ حَدِيثِ أَنَسٍ حَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةِ بِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] » إلَى آخِرِهِ، وَقَدْ رُوِيَ «يَفْتَحُ الْقِرَاءَةَ بِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] » . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إرَادَةِ الْآيَةِ؛ لَكِنْ مَعَ هَذَا لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ نَفْيٌ لِقِرَاءَتِهَا سِرًّا؛ لِأَنَّهُ رَوَى «فَكَانُوا لَا يَجْهَرُونَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وَهَذَا إنَّمَا نَفَى هُنَا الْجَهْرَ. وَأَمَّا اللَّفْظُ الْآخَرُ: " لَا يَذْكُرُونَ " فَهُوَ إنَّمَا يَنْفِي مَا يُمْكِنُهُ الْعِلْمُ بِانْتِفَائِهِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْجَهْرِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَسْمَعْ مَعَ الْقُرْبِ، عُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْهَرُوا. وَأَمَّا كَوْنُ الْإِمَامِ لَمْ يَقْرَأْهَا فَهَذَا لَا يُمْكِنُ إدْرَاكُهُ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ سَكْتَةٌ يُمْكِنُ فِيهَا الْقِرَاءَةُ سِرًّا؛ وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَنَسٍ عَلَى عَدَمِ الْقِرَاءَةِ، مَنْ لَمْ يَرَ هُنَاكَ سُكُوتًا، كَمَالِكٍ وَغَيْرِهِ؛ لَكِنْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ «أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، مَاذَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ» : كَذَا وَكَذَا " إلَى آخِرِهِ. وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ وَأُبَيُّ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّهُ

كَانَ يَسْكُتُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ. وَفِيهَا أَنَّهُ كَانَ يَسْتَعِيذُ، وَإِذَا كَانَ لَهُ سُكُوتٌ لَمْ يُمْكِنْ أَنَسًا أَنْ يَنْفِيَ قِرَاءَتَهَا فِي ذَلِكَ السُّكُوتِ، فَيَكُونُ نَفْيُهُ لِلذِّكْرِ، وَإِخْبَارُهُ بِافْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ بِهَا إنَّمَا هُوَ فِي الْجَهْرِ، وَكَمَا أَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنْ الْجَهْرِ مَعَ الذِّكْرِ سِرًّا يُسَمَّى سُكُوتًا، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَيَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَقْرَأْهَا، وَلَمْ يَذْكُرْهَا؛ أَيْ جَهْرًا؛ فَإِنَّ لَفْظَ السُّكُوتِ، وَلَفْظَ نَفْيِ الذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ: مَدْلُولُهُمَا هُنَا وَاحِدٌ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ. الَّذِي فِي السُّنَنِ: أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَهُ يَجْهَرُ بِهَا فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ إيَّاكَ وَالْحَدَثَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمْ يَكُونُوا يَجْهَرُونَ بِهَا، فَهَذَا مُطَابِقٌ لِحَدِيثِ أَنَسٍ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ اللَّذَيْنِ فِي الصَّحِيحِ. وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْجَهْرَ بِهَا مِمَّا تَتَوَافَرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ فَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْهَرُ بِهَا كَالْجَهْرِ بِسَائِرِ الْفَاتِحَةِ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَادَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ تَرْكُ نَقْلِ ذَلِكَ، بَلْ لَوْ انْفَرَدَ بِنَقْلِ مِثْلِ هَذَا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ لَقُطِعَ بِكَذِبِهِمَا، إذْ التَّوَاطُؤُ فِيمَا تَمْنَعُ الْعَادَةُ وَالشَّرْعُ كِتْمَانَهُ، كَالتَّوَاطُؤِ عَلَى الْكَذِبِ فِيهِ. وَيُمَثَّلُ هَذَا بِكَذِبِ دَعْوَى الرَّافِضَةِ فِي النَّصِّ عَلَى عَلِيٍّ فِي الْخِلَافَةِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَهْرِ بِهَا حَدِيثٌ صَرِيحٌ، وَلَمْ يَرْوِ أَهْلُ السُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ كَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ الْجَهْرُ بِهَا صَرِيحًا فِي أَحَادِيثَ مَوْضُوعَةٍ، يَرْوِيهَا الثَّعْلَبِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَأَمْثَالُهُمَا فِي التَّفْسِيرِ. أَوْ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْمَوْضُوعِ وَغَيْرِهِ، بَلْ يَحْتَجُّونَ بِمِثْلِ حَدِيثِ الْحُمَيْرَاءِ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَفَاضِلِ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَمْ يَعْزُ فِي كِتَابِهِ حَدِيثًا إلَى الْبُخَارِيِّ إلَّا حَدِيثًا فِي الْبَسْمَلَةِ، وَذَلِكَ الْحَدِيثُ لَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ، وَمَنْ هَذَا مَبْلَغُ عِلْمِهِ فِي الْحَدِيثِ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ، أَوْ يَرْوِيهَا مَنْ جَمَعَ هَذَا الْبَابَ كَالدَّارَقُطْنِيِّ، وَالْخَطِيبِ، وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّهُمْ جَمَعُوا مَا رُوِيَ، وَإِذَا سُئِلُوا عَنْ صِحَّتِهَا

قَالُوا: بِمُوجَبِ عِلْمِهِمْ. كَمَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ لَمَّا دَخَلَ مِصْرَ. وَسُئِلَ أَنْ يَجْمَعَ أَحَادِيثَ الْجَهْرِ بِهَا فَجَمَعَهَا، فَقِيلَ لَهُ: هَلْ فِيهَا شَيْءٌ صَحِيحٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا، وَأَمَّا عَنْ الصَّحَابَةِ فَمِنْهُ صَحِيحٌ، وَمِنْهُ ضَعِيفٌ. وَسُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، فَذَكَرَ حَدِيثَيْنِ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ لَمَّا صَلَّى بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّى مُعَاوِيَةُ بِالْمَدِينَةِ فَجَهَرَ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ، فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَقْرَأْ بِهَا لِلسُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَلَمْ يُكَبِّرْ حِينَ يَهْوِي حَتَّى قَضَى تِلْكَ الصَّلَاةَ، فَلَمَّا سَلَّمَ نَادَاهُ مَنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ كُلِّ مَكَان يَا مُعَاوِيَةُ أَسَرَقْت الصَّلَاةَ أُمّ نَسِيت؟ فَلَمَّا صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِلسُّورَةِ الَّتِي بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ، وَكَبَّرَ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَنْبَأَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ خُثَيْمٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَصَلَّى بِهِمْ، وَلَمْ يَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَلَمْ يُكَبِّرْ إذَا خَفَضَ، وَإِذَا رَفَعَ فَنَادَاهُ الْمُهَاجِرُونَ حِينَ سَلَّمَ وَالْأَنْصَارُ: أَيْ مُعَاوِيَةَ؟ سَرَقْت الصَّلَاةَ؟ وَذَكَرَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِمِثْلِهِ، أَوْ مِثْلِ مَعْنَاهُ، لَا يُخَالِفُهُ وَأَحْسَبُ هَذَا الْإِسْنَادَ أَحْفَظَ مِنْ الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ فِي كِتَابِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ. وَذَكَرَ الْخَطِيبُ أَنَّهُ أَقْوَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ. كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ. فَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَهْرِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَلَا صَرِيحٌ، فَضْلًا أَنْ يَكُونَ فِيهَا أَخْبَارٌ مُسْتَفِيضَةٌ أَوْ مُتَوَاتِرَةٌ، امْتَنَعَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْهَرُ بِهَا، كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَانَ يَجْهَرُ بِالِاسْتِفْتَاحِ وَالتَّعَوُّذِ ثُمَّ لَا يُنْقَلُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُعَارَضٌ بِتَرْكِ الْجَهْرِ بِهَا، فَإِنَّهُ مِمَّا تَتَوَافَرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، ثُمَّ هُوَ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ مَنْقُولًا بِالتَّوَاتُرِ، بَلْ قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، كَمَا أَنَّ تَرْكَ الْجَهْرِ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ كَانَ يُدَاوِمُ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَمْ يُنْقَلْ نَقْلًا قَاطِعًا، بَلْ وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ.

قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِي تَتَوَافَرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ فِي الْعَادَةِ، وَيَجِبُ نَقْلُهُ شَرْعًا: هُوَ الْأُمُورُ الْوُجُودِيَّةُ، فَأَمَّا الْأُمُورُ الْعَدَمِيَّةُ فَلَا خَبَرَ لَهَا، وَلَا يُنْقَلُ مِنْهَا إلَّا مَا ظُنَّ وُجُودُهُ، أَوْ اُحْتِيجَ إلَى مَعْرِفَتِهِ، فَيُنْقَلُ لِلْحَاجَةِ؛ وَلِهَذَا قَالُوا لَوْ نَقَلَ نَاقِلٌ افْتِرَاضَ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ، أَوْ زِيَادَةً عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ، أَوْ حَجًّا غَيْرَ حَجِّ الْبَيْتِ، أَوْ زِيَادَةً فِي الْقُرْآنِ، أَوْ زِيَادَةً فِي رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ، أَوْ فَرَائِضِ الزَّكَاةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، لَقَطَعْنَا بِكَذِبِهِ، فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ لَوَجَبَ نَقْلُهُ نَقْلًا قَاطِعًا عَادَةً وَشَرْعًا، وَإِنْ عُدِمَ النَّقْلُ [يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ] لَمْ يُنْقَلْ نَقْلًا قَاطِعًا عَادَةً وَشَرْعًا؛ بَلْ يُسْتَدَلُّ بِعَدَمِ نَقْلِهِ مَعَ تَوَافُرِ الْهِمَمِ وَالدَّوَاعِي فِي الْعَادَةِ وَالشَّرْعِ عَلَى نَقْلِهِ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ. وَقَدْ مَثَّلَ النَّاسُ ذَلِكَ بِمَا لَوْ نَقَلَ نَاقِلٌ: أَنَّ الْخَطِيبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَقَطَ مِنْ الْمِنْبَرِ، وَلَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ أَوْ أَنَّ قَوْمًا اقْتَتَلُوا فِي الْمَسْجِدِ بِالسُّيُوفِ، فَإِنَّهُ إذَا نَقَلَ هَذَا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ دُونَ بَقِيَّةِ النَّاسِ عَلِمْنَا كَذِبَهُمْ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا تَتَوَافَرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ فِي الْعَادَةِ؛ وَإِنْ كَانُوا لَا يَنْقُلُونَ عَدَمَ الِاقْتِتَالِ وَلَا غَيْرَهُ مِنْ الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَنْقُلُوا الْجَهْرَ بِالِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ، وَاسْتَدَلَّتْ الْأُمَّةُ عَلَى عَدَمِ جَهْرِهِ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُنْقَلْ نَقْلًا عَامًّا عَدَمُ الْجَهْرِ بِذَلِكَ، فَبِالطَّرِيقِ الَّذِي يُعْلَمُ عَدَمُ جَهْرِهِ بِذَلِكَ، يُعْلَمُ عَدَمُ جَهْرِهِ بِالْبَسْمَلَةِ وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَمَّا يُورِدُهُ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ كَوْنُ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَوَافَرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا يَمْتَنِعُ تَرْكُ نَقْلِهَا، فَإِنَّهُمْ عَارَضُوا أَحَادِيثَ الْجَهْرِ وَالْقُنُوتِ وَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، فَأَمَّا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ فَقَدْ نُقِلَ فِعْلُ هَذَا وَهَذَا، وَأَمَّا الْقُنُوتُ فَإِنَّهُ قَنَتَ تَارَةً وَتَرَكَ تَارَةً، وَأَمَّا الْجَهْرُ فَإِنَّ الْخَبَرَ عَنْهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ، وَلَمْ يُنْقَلْ فَيَدْخُلُ فِي الْقَاعِدَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأُمُورَ الْعَدَمِيَّةَ لَمَّا اُحْتِيجَ إلَى نَقْلِهَا نُقِلَتْ، فَلَمَّا انْقَرَضَ عَصْرُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَصَارَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ يَجْهَرُ بِهَا كَابْنِ الزُّبَيْرِ وَنَحْوِهِ، سَأَلَ بَعْضُ النَّاسِ بَقَايَا الصَّحَابَةِ كَأَنَسٍ، فَرَوَى لَهُمْ أَنَسٌ تَرْكَ الْجَهْرِ بِهَا، وَأَمَّا مَعَ وُجُودِ الْخُلَفَاءِ فَكَانَتْ السُّنَّةُ ظَاهِرَةً مَشْهُورَةً وَلَمْ يَكُنْ فِي الْخُلَفَاءِ مَنْ يَجْهَرُ بِهَا، فَلَمْ يُحْتَجْ إلَى السُّؤَالِ عَنْ الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ حَتَّى يُنْقَلَ.

الثَّالِثُ: أَنَّ نَفْيَ الْجَهْرِ قَدْ نُقِلَ نَقْلًا صَحِيحًا صَرِيحًا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْجَهْرُ بِهَا لَمْ يُنْقَلْ نَقْلًا صَحِيحًا صَرِيحًا، مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ وَالشَّرْعَ يَقْتَضِي أَنَّ الْأُمُورَ الْوُجُودِيَّةَ أَحَقُّ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ مِنْ الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ. وَهَذِهِ الْوُجُوهُ مَنْ تَدَبَّرَهَا، وَكَانَ عَالِمًا بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، قَطَعَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهَا، بَلْ وَمَنْ لَمْ يَتَدَرَّبْ فِي مَعْرِفَةِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ مِنْ غَيْرِهَا يَقُولُ أَيْضًا: إذَا كَانَ الْجَهْرُ بِهَا لَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْهَرُ بِهَا وَلَمْ تَنْقُلْ الْأُمَّةُ هَذِهِ السُّنَّةَ، بَلْ أَهْمَلُوهَا وَضَيَّعُوهَا؟ وَهَلْ هَذِهِ إلَّا بِمَثَابَةِ أَنْ يَنْقُلَ نَاقِلٌ: أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِالِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ، كَمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ، وَمَعَ هَذَا فَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِالِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ، كَمَا كَانَ يَجْهَرُ بِالْفَاتِحَةِ، كَذَلِكَ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ، كَمَا كَانَ يَجْهَرُ بِالْفَاتِحَةِ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِهَا أَحْيَانًا، أَوْ أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِهَا قَدِيمًا ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ، كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْهَرُ بِهَا بِمَكَّةَ، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ إذَا سَمِعُوهَا سَبُّوا الرَّحْمَنَ، فَتَرَكَ الْجَهْرَ، فَمَا جَهَرَ بِهَا حَتَّى مَاتَ» فَهَذَا مُحْتَمَلٌ. وَأَمَّا الْجَهْرُ الْعَارِضُ: فَمِثْلُ مَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِالْآيَةِ أَحْيَانًا، وَمِثْلُ جَهْرِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ خَلْفَهُ بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، وَمِثْلُ جَهْرِ عُمَرَ بِقَوْلِهِ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وَتَبَارَكَ اسْمُك وَتَعَالَى جَدُّك وَلَا إلَهَ غَيْرُك، وَمِثْلُ جَهْرِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ بِالِاسْتِعَاذَةِ، وَمِثْلُ جَهْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ جَهْرُ مَنْ جَهَرَ بِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لِيَعْرِفُوا أَنَّ قِرَاءَتَهَا سُنَّةٌ؛ لَا لِأَنَّ الْجَهْرَ بِهَا سُنَّةٌ. وَمَنْ تَدَبَّرَ عَامَّةَ الْآثَارِ الثَّابِتَةِ فِي هَذَا الْبَابِ عَلِمَ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ قَرَءُوهَا لِبَيَانِ ذَلِكَ، لَا لِبَيَانِ كَوْنِهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ، وَأَنَّ الْجَهْرَ بِهَا سُنَّةٌ، مِثْلُ مَا ذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ

وَابْنِ شِهَابٍ: مِثْلَهُ بِغَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا، قَالَ: وَكَانَ أَهْلُ الْفِقْهِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَعْرُوفٌ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إذَا صَلَّى جَهَرَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَإِذَا قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ هُوَ أَعْلَمُ أَهْلِ زَمَانِهِ بِالسُّنَّةِ يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ الْحَالِ، فَإِنَّ الْعُمْدَةَ فِي الْآثَارِ فِي قِرَاءَتِهَا، إنَّمَا هِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ. وَقَدْ عَرَفَ حَقِيقَةَ حَالِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ بِالْحَدِيثِ مِمَّنْ يَرْوِي الْجَهْرَ بِهَا لَيْسَ مَعَهُ حَدِيثٌ صَرِيحٌ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ تِلْكَ أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ مَكْذُوبَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا يَتَمَسَّكُ بِلَفْظٍ مُحْتَمَلٍ، مِثْلَ اعْتِمَادِهِمْ عَلَى حَدِيثِ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ. وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيّ. فَإِنَّ الْعَارِفِينَ بِالْحَدِيثِ يَقُولُونَ: إنَّهُ عُمْدَتُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ. فَإِنَّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَظْهَرُ دَلَالَةٍ عَلَى نَفْيِ قِرَاءَتِهَا مِنْ دَلَالَةِ هَذَا عَلَى الْجَهْرِ بِهَا؛ فَإِنَّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ: نِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] قَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي - أَوْ قَالَ فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي - فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قَالَ: فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ سُلَيْمَانَ - وَهُوَ كَذَّابٌ - أَنَّهُ قَالَ: فِي أَوَّلِهِ «فَإِذَا قَالَ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ ذَكَرَنِي عَبْدِي» وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى كَذِبِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَإِنَّمَا كَثُرَ الْكَذِبُ فِي أَحَادِيثِ الْجَهْرِ؛ لِأَنَّ الشِّيعَةَ تَرَى الْجَهْرَ، وَهُمْ أَكْذَبُ الطَّوَائِفِ، فَوَضَعُوا فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ لَبَّسُوا بِهَا عَلَى النَّاسِ دِينَهُمْ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مِنْ الْكُوفِيِّينَ كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ مِنْ السُّنَّةِ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَتَرْكَ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ، كَمَا يَذْكُرُونَ تَقْدِيمَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ مِنْ شِعَارِ الرَّافِضَةِ. وَلِهَذَا ذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى تَرْكِ الْجَهْرِ بِهَا، قَالَ: لِأَنَّ الْجَهْرَ بِهَا صَارَ مِنْ شِعَارِ الْمُخَالِفِينَ، كَمَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى تَسْنِمَةِ الْقُبُورِ؛ لِأَنَّ التَّسْطِيحَ صَارَ مِنْ شِعَارِ أَهْلِ الْبِدَعِ. فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ، وَلَا مِنْ الْقِرَاءَةِ الْمَقْسُومَةِ، وَهُوَ عَلَى نَفْيِ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا أَظْهَرُ مِنْ دَلَالَةِ حَدِيثِ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ عَلَى الْجَهْرِ؛ فَإِنَّ فِي حَدِيثِ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ «أَنَّهُ قَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ قَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ» ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي فِي مُسْلِمٍ يُصَدِّقُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ؛ فَهِيَ خِدَاجٌ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَنَا أَحْيَانًا أَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِك يَا فَارِسِيُّ؛ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ» الْحَدِيثَ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ أُمَّ الْقُرْآنِ الَّتِي يَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ هِيَ الْقِرَاءَةُ الْمَقْسُومَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا مَعَ دَلَالَةِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ يَنْفِي وُجُوبَ قِرَاءَتِهَا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيَكُونُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَإِنْ كَانَ قَرَأَ بِهَا؛ قَرَأَ بِهَا اسْتِحْبَابًا لَا وُجُوبًا. وَالْجَهْرُ بِهَا مَعَ كَوْنِهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ؛ وَلَا أَعْلَمُ بِهِ قَائِلًا؛ لَكِنْ هِيَ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَإِيجَابُ قِرَاءَتِهَا مَعَ الْمُخَافَتَةِ بِهَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ؛ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ؛ وَإِذَا كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ إنَّمَا قَرَأَهَا اسْتِحْبَابًا لَا وُجُوبًا؛ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا تُشْرَعُ

الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْجَهْرِ بِهَا؛ كَانَ جَهْرُهُ بِهَا أَوْلَى أَنْ يَثْبُتَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لِيُعَرِّفَهُمْ اسْتِحْبَابَ قِرَاءَتِهَا؛ وَأَنَّ قِرَاءَتَهَا مَشْرُوعَةٌ؛ كَمَا جَهَرَ عُمَرُ بِالِاسْتِفْتَاحِ: وَكَمَا جَهَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْجِنَازَةِ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ: وَيَكُونُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَصَدَ تَعْرِيفَهُمْ أَنَّهَا تُقْرَأُ فِي الْجُمْلَةِ؛ وَإِنْ لَمْ يَجْهَرْ بِهَا وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ هَذَا مُخَالِفًا لِحَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ: وَحَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ: وَغَيْرِ ذَلِكَ. هَذَا إنْ كَانَ الْحَدِيثُ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ جَهَرَ بِهَا؛ فَإِنَّ لَفْظَهُ لَيْسَ صَرِيحًا بِذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ قَرَأَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ثُمَّ قَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ، وَلَفْظُ الْقِرَاءَةِ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ قَرَأَهَا سِرًّا، وَيَكُونُ نُعَيْمٌ عَلِمَ ذَلِكَ بِقُرْبِهِ مِنْهُ؛ فَإِنَّ قِرَاءَةَ السِّرِّ إذَا قَوِيَتْ يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِي الْقَارِئَ، وَيُمْكِنُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ بِقِرَاءَتِهَا، وَقَدْ أَخْبَرَ أَبُو قَتَادَةَ بِأَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَسُورَةٍ، وَفِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ، وَهِيَ قِرَاءَةُ سِرٍّ، كَيْفَ وَقَدْ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ، فَأَرَادَ بِذَلِكَ وُجُوبَ قِرَاءَتِهَا، فَضْلًا عَنْ كَوْنِ الْجَهْرِ بِهَا سُنَّةً، فَإِنَّ النِّزَاعَ فِي الثَّانِي أَضْعَفُ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَرَأَهَا قَبْلَ أُمِّ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ: إنِّي لَأَشْبَهَكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَمَّنَ وَكَبَّرَ فِي الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ، وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا كَانَ يَتْرُكُهُ الْأَئِمَّةُ، فَيَكُونُ أَشْبَهَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي فِيهَا مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَرَكُوهُ هُمْ، وَلَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ أَشْبَهَهُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُ مِثْلَ صَلَاتِهِ، مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَعَلَّ قِرَاءَتَهَا مَعَ الْجَهْرِ أَمْثَلُ مِنْ تَرْكِ قِرَاءَتِهَا بِالْكُلِّيَّةِ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ وَكَانَ أُولَئِكَ لَا يَقْرَءُونَهَا أَصْلًا؛ فَيَكُونُ قِرَاءَتُهَا مَعَ الْجَهْرِ أَشْبَهَ عِنْدَهُ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ؛ فَيُعْلَمُ أَوَّلًا: أَنَّ تَصْحِيحَ الْحَاكِمِ وَحْدَهُ وَتَوْثِيقَهُ وَحْدَهُ لَا يُوثَقُ بِهِ فِيمَا دُونَ هَذَا؛ فَكَيْفَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي يُعَارَضُ فِيهِ بِتَوْثِيقِ الْحَاكِمِ. وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الصَّحِيحِ عَلَى خِلَافِهِ، وَمَنْ لَهُ أَدْنَى خِبْرَةٍ فِي الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ لَا يُعَارِضُ بِتَوْثِيقِ الْحَاكِمِ مَا قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ خِلَافُهُ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ فِيهِ مِنْ التَّسَاهُلِ وَالتَّسَامُحِ فِي بَابِ التَّصْحِيحِ، حَتَّى أَنَّ تَصْحِيحَهُ دُونَ تَصْحِيحِ التِّرْمِذِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَأَمْثَالِهِمَا بِلَا نِزَاعٍ.

فَكَيْفَ بِتَصْحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. بَلْ تَصْحِيحُهُ دُونَ تَصْحِيحِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبِي حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ الْبُسْتِيِّ، وَأَمْثَالِهِمَا، بَلْ تَصْحِيحُ الْحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَقْدِسِيَّ فِي مُخْتَارِهِ خَيْرٌ مِنْ تَصْحِيحِ الْحَاكِمِ فَكِتَابُهُ فِي هَذَا الْبَابِ خَيْرٌ مِنْ كِتَابِ الْحَاكِمِ بِلَا رَيْبٍ، عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ الْحَدِيثَ، وَتَحْسِينُ التِّرْمِذِيِّ أَحْيَانًا يَكُونُ مِثْلَ تَصْحِيحِهِ أَوْ أَرْجَحَ، وَكَثِيرًا مَا يُصَحِّحُ الْحَاكِمُ أَحَادِيثَ يَجْزِمُ بِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا، فَهَذَا هَذَا. وَالْمَعْرُوفُ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ وَابْنِهِ مُعْتَمِرٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَجْهَرَانِ بِالْبَسْمَلَةِ، لَكِنْ نَقْلُهُ عَنْ أَنَسٍ هُوَ الْمُنْكَرُ، كَيْفَ وَأَصْحَابُ أَنَسٍ الثِّقَاتُ الْأَثْبَاتُ يَرْوُونَ عَنْهُ خِلَافَ ذَلِكَ، حَتَّى أَنَّ شُعْبَةَ سَأَلَ قَتَادَةَ عَنْ هَذَا قَالَ: أَنْتَ سَمِعْت أَنَسًا يَذْكُرُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَخْبَرَهُ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ الْمُنَافِي لِلْجَهْرِ. وَنَقْلُ شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ مَا سَمِعَهُ مِنْ أَنَسٍ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ، وَأَرْفَعُ دَرَجَاتِ الصَّحِيحِ عِنْدَ أَهْلِهِ، إذْ قَتَادَةُ أَحْفَظُ أَهْلِ زَمَانِهِ، أَوْ مِنْ أَحْفَظِهِمْ وَكَذَلِكَ إتْقَانُ شُعْبَةَ وَضَبْطُهُ هُوَ الْغَايَةُ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا مِمَّا يَرُدُّ بِهِ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ رَوَى حَدِيثَ أَنَسٍ بِالْمَعْنَى الَّذِي فَهِمَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ إلَّا قَوْلُهُ: يَسْتَفْتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَفَهِمَ بَعْضُ الرُّوَاةِ مِنْ ذَلِكَ نَفْيَ قِرَاءَتِهَا، فَرَوَاهُ مِنْ عِنْدِهِ، فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَقُولُهُ إلَّا مَنْ هُوَ أَبْعَدُ النَّاسِ عِلْمًا بِرُوَاةِ الْحَدِيثِ، وَأَلْفَاظِ رِوَايَتِهِمْ الصَّرِيحَةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، وَبِأَنَّهُمْ مِنْ الْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ فِي الْغَايَةِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْمُجَازَفَةَ، أَوْ أَنَّهُ مُكَابِرٌ صَاحِبُ هَوًى يَتْبَعُ هَوَاهُ، وَيَدَعُ مُوجِبَ الْعِلْمِ وَالدَّلِيلِ. ثُمَّ يُقَالُ: هَبْ أَنَّ الْمُعْتَمِرَ أَخَذَ صَلَاتَهُ عَنْ أَبِيهِ، وَأَبُوهُ عَنْ أَنَسٍ وَأَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَذَا مُجْمَلٌ وَمُحْتَمَلٌ؛ إذْ لَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ كُلُّ حُكْمٍ جُزْئِيٍّ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ بِمِثْلِ هَذَا الْإِسْنَادِ الْمُجْمَلِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ وَتَعَدُّدِ الْإِسْنَادِ لَا تُضْبَطُ الْجُزْئِيَّاتُ فِي أَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ حَقَّ الضَّبْطِ؛ إلَّا بِنَقْلٍ مُفَصَّلٍ لَا مُجْمَلٍ، وَإِلَّا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مِثْلَ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالْأَعْمَشِ، وَغَيْرَهُمْ أَخَذُوا صَلَاتَهُمْ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَذَوِيهِ، وَإِبْرَاهِيمُ أَخَذَهَا عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَنَحْوِهِمَا، وَهُمْ أَخَذُوهَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهَذَا الْإِسْنَادُ أَجَلُّ رِجَالًا مِنْ ذَلِكَ الْإِسْنَادِ، وَهَؤُلَاءِ أَخَذَ الصَّلَاةَ عَنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ نَفْسُ صَلَاةِ هَؤُلَاءِ هِيَ

صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الْإِسْنَادِ، حَتَّى فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ، فَإِنْ جَازَ هَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَا يَجْهَرُونَ، وَلَا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ، إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، وَيُسْفِرُونَ بِالْفَجْرِ، وَأَنْوَاعُ ذَلِكَ مِمَّا عَلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ. وَنَظِيرُ هَذِهِ احْتِجَاجُ بَعْضِهِمْ عَلَى الْجَهْرِ بِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ جُرَيْجٍ كَانُوا يَجْهَرُونَ، وَأَنَّهُمْ أَخَذُوا صَلَاتَهُمْ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَهُوَ أَخَذَهَا عَنْ عَطَاءٍ، وَعَطَاءٌ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوَّلُ مَا أَخَذَ الْفِقْهَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهَا عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ جُرَيْجٍ، كَسَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ الْقَدَّاحِ، وَمُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزِّنْجِيِّ، لَكِنْ مِثْلُ هَذِهِ الْأَسَانِيدِ الْمُجْمَلَةِ لَا يَثْبُتُ بِهَا أَحْكَامٌ مُفَصَّلَةٌ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَا. وَلَئِنْ جَازَ ذَلِكَ لَيَكُونَنَّ مَالِكٌ أَرْجَحَ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَرِيبُ عَاقِلٌ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ أَجَلُّ قَدْرًا، وَأَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ، وَأَتْبَعُ لَهَا مِمَّنْ كَانَ بِالْكُوفَةِ وَمَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ. وَقَدْ احْتَجَّ أَصْحَابُ مَالِكٍ عَلَى تَرْكِ الْجَهْرِ بِالْعَمَلِ الْمُسْتَمِرِّ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: هَذَا الْمِحْرَابُ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ الْأَئِمَّةُ، وَهَلُمَّ جَرًّا. وَنَقْلُهُمْ لِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقْلٌ مُتَوَاتِرٌ، كُلُّهُمْ شَهِدُوا صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ صَلَاةَ خُلَفَائِهِ، وَكَانُوا أَشَدَّ مُحَافَظَةً عَلَى السُّنَّةِ، وَأَشَدَّ إنْكَارًا عَلَى مَنْ خَالَفَهَا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُغَيِّرُوا صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا الْعَمَلُ يَقْتَرِنُ بِهِ عَمَلُ الْخُلَفَاءِ كُلِّهِمْ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَبَنِي الْعَبَّاسِ، فَإِنَّهُمْ كُلُّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَجْهَرُونَ، وَلَيْسَ لِجَمِيعِ هَؤُلَاءِ غَرَضٌ بِالْأَطْبَاقِ عَلَى تَغْيِيرِ السُّنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا. وَلَا يُمْكِنُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ كُلَّهُمْ أَقَرَّتْهُمْ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ، بَلْ نَحْنُ نَعْلَمُ ضَرُورَةَ أَنَّ خُلَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَمُلُوكَهُمْ لَا يُبَدِّلُونَ سُنَّةً لَا تَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ مُلْكِهِمْ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ الْأَهْوَاءِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا لِلْمُلُوكِ فِيهَا غَرَضٌ. وَهَذِهِ الْحُجَّةُ إذَا احْتَجَّ بِهَا الْمُحْتَجُّ لَمْ تَكُنْ دُونَ تِلْكَ، بَلْ نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهَا أَقْوَى مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَا يَشُكُّ مُسْلِمٌ أَنَّ الْجَزْمَ بِكَوْنِ صَلَاةِ التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ أَشْبَهَ بِصَلَاةِ الصَّحَابَةِ بِهَا، وَالصَّحَابَةُ بِهَا أَشْبَهَ صَلَاةً بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْرَبُ مِنْ الْجَزْمِ بِكَوْنِ صَلَاةِ شَخْصٍ أَوْ شَخْصَيْنِ أَشْبَهَ بِصَلَاةِ آخَرَ، حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْهَبْ ذَاهِبٌ قَطُّ إلَى أَنَّ عَمَلَ غَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةً، وَإِنَّمَا تُنُوزِعَ فِي

عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَإِجْمَاعِهِمْ: هَلْ هُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ نِزَاعًا لَا يَقْصُرُ عَنْ عَمَلِ غَيْرِهِمْ، وَإِجْمَاعِ غَيْرِهِمْ إنْ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ. فَتَبَيَّنَ دَفْعُ ذَلِكَ الْعَمَلِ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَأَمْثَالِهِمَا بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَنْقُولُ نَقْلًا صَحِيحًا صَرِيحًا عَنْ أَنَسٍ يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ وَأَصَحُّ وَأَثْبَتُ مِنْ أَنْ يُعَارَضَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْمُجْمَلِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ، وَإِنَّمَا صَحَّحَهُ مِثْلُ الْحَاكِمِ، وَأَمْثَالُهُ. وَمِثْلُ هَذَا أَيْضًا يُظْهِرُ ضَعْفَ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ صَلَّى بِالصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ، فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ تَرْكَ قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَأَوَّلِ السُّورَةِ حَتَّى عَادَ يَعْمَلُ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَإِنْ كَانَ الدَّارَقُطْنِيُّ قَالَ: إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ، وَقَالَ الْخَطِيبُ: هُوَ أَجْوَدُ مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ، فَهَذَا الْحَدِيثُ يُعْلَمُ ضَعْفُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُرْوَى عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ الْمُسْتَفِيضَةَ الَّذِي يَرُدُّ هَذَا. الثَّانِي: أَنَّ مَدَارَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ وَقَدْ ضَعَّفَهُ طَائِفَةٌ، وَقَدْ اضْطَرَبُوا فِي رِوَايَتِهِ إسْنَادًا وَمَتْنًا، كَمَا تَقَدَّمَ. وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إسْنَادٌ مُتَّصِلُ السَّمَاعِ؛ بَلْ فِيهِ مِنْ الضَّعَفَةِ وَالِاضْطِرَابِ مَا لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ الِانْقِطَاعُ أَوْ سُوءُ الْحِفْظِ الرَّابِعُ: أَنَّ أَنَسًا كَانَ مُقِيمًا بِالْبَصْرَةِ، وَمُعَاوِيَةُ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ عَلِمْنَاهُ أَنَّ أَنَسًا كَانَ مَعَهُ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْخَامِسُ: أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ بِتَقْدِيرِ وُقُوعِهَا كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَالرَّاوِي لَهَا أَنَسٌ وَكَانَ بِالْبَصْرَةِ، وَهِيَ مِمَّا تَتَوَافَرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَصْحَابَ أَنَسٍ الْمَعْرُوفِينَ بِصُحْبَتِهِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ ذَلِكَ؛ بَلْ الْمَنْقُولُ عَنْ أَنَسٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ نَقِيضُ ذَلِكَ، وَالنَّاقِلُ لَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا مِنْ هَؤُلَاءِ. السَّادِسُ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَوْ كَانَ رَجَعَ إلَى الْجَهْرِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ، لَكَانَ

هَذَا أَيْضًا مَعْرُوفًا مِنْ أَمْرِهِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ الَّذِينَ صَحِبُوهُ، وَلَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ؛ بَلْ الشَّامِيُّونَ كُلُّهُمْ: خُلَفَاؤُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ كَانَ مَذْهَبُهُمْ تَرْكَ الْجَهْرِ بِهَا؛ بَلْ الْأَوْزَاعِيُّ مَذْهَبُهُ فِيهَا مَذْهَبُ مَالِكٍ لَا يَقْرَؤُهَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ وَأَمْثَالُهَا إذَا تَدَبَّرَهَا الْعَالِمُ قَطَعَ بِأَنَّ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ إمَّا بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَإِمَّا مُغَيَّرٌ عَنْ وَجْهِهِ، وَأَنَّ الَّذِي حَدَّثَ بِهِ بَلَغَهُ مِنْ وَجْهٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَحَصَلَتْ الْآفَةُ مِنْ انْقِطَاعِ إسْنَادِهِ وَقِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَوْ كَانَ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ لَكَانَ شَاذًّا؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا رَوَاهُ النَّاسُ الثِّقَاتُ الْأَثْبَاتُ عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلِ الشَّامِ، وَمِنْ شَرْطِ الْحَدِيثِ الثَّابِتِ أَنْ لَا يَكُونَ شَاذًّا وَلَا مُعَلَّلًا وَهَذَا شَاذٌّ مُعَلَّلٌ، إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ سُوءِ حِفْظِ بَعْضِ رُوَاتِهِ. وَالْعُمْدَةُ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الْمُصَنِّفُونَ فِي الْجَهْرِ بِهَا وَوُجُوبِ قِرَاءَتِهَا إنَّمَا هُوَ كِتَابَتُهَا فِي الْمُصْحَفِ بِقَلَمِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ جَرَّدُوا الْقُرْآنَ عَمَّا لَيْسَ مِنْهُ. وَاَلَّذِينَ نَازَعُوهُمْ دَفَعُوا هَذِهِ الْحُجَّةَ بِلَا حَقٍّ، كَقَوْلِهِمْ: الْقُرْآنُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَاطِعٍ، وَلَوْ كَانَ هَذَا قَاطِعًا لَكَفَرَ مُخَالِفُهُ. وَقَدْ سَلَكَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ الْبَاقِلَّانِيُّ وَغَيْرُهُ هَذَا الْمَسْلَكَ، وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ بِخَطَأِ الشَّافِعِيِّ فِي كَوْنِهِ جَعَلَ الْبَسْمَلَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، مُعْتَمَدِينَ عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْقُرْآنِ إلَّا بِالتَّوَاتُرِ، وَلَا تَوَاتُرَ هُنَا، فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِنَفْيِ كَوْنِهَا مِنْ الْقُرْآنِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ مُقَابَلَةٌ بِمِثْلِهَا، فَيُقَالُ لَهُمْ: بَلْ يُقْطَعُ بِكَوْنِهَا مِنْ الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَتْ، كَمَا قَطَعْتُمْ بِنَفْيِ كَوْنِهَا لَيْسَتْ مِنْهُ. وَمِثْلُ هَذَا النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْ الصَّحَابَةِ بِأَنَّ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ قُرْآنٌ، فَإِنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ آيَةٍ وَآيَةٍ يَرْفَعُ الثِّقَةَ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ الْمَكْتُوبِ بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ كَلَامَ اللَّهِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ كَتَبُوا الْمَصَاحِفَ نَقَلُوا إلَيْنَا أَنَّ مَا كَتَبُوهُ بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكْتُبُوا فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ. فَإِنْ قَالَ الْمُنَازِعُ: إنْ قَطَعْتُمْ بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنْ الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَتْ، فَكَفِّرُوا النَّافِيَ، قِيلَ لَهُمْ: وَهَذَا يُعَارِضُ حُكْمَهُ إذَا قَطَعْتُمْ بِنَفْيِ كَوْنِهَا مِنْ الْقُرْآنِ، فَكَفِّرُوا مُنَازِعَكُمْ. وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى نَفْيِ التَّكْفِيرِ فِي هَذَا الْبَابِ، مَعَ دَعْوَى كَثِيرٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ

الْقَطْعَ بِمَذْهَبِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ قَطْعِيًّا عِنْدَ شَخْصٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا ادَّعَتْ طَائِفَةٌ أَنَّهُ قَطْعِيٌّ عِنْدَهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ قَدْ يَقَعُ الْغَلَطُ فِي دَعْوَى الْمُدَّعِي الْقَطْعَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْقَطْعِ، كَمَا يَغْلَطُ فِي سَمْعِهِ وَفَهْمِهِ وَنَقْلِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِ، كَمَا قَدْ يَغْلَطُ الْحِسُّ الظَّاهِرُ فِي مَوَاضِعَ، وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ: الْأَقْوَالُ فِي كَوْنِهَا مِنْ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةٌ: طَرَفَانِ، وَوَسَطٌ. الطَّرَفُ الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا فِي سُورَةِ النَّمْلِ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ، وَطَائِفَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ. مُدَّعِيًا أَنَّهُ مَذْهَبُهُ، أَوْ نَاقِلًا لِذَلِكَ رِوَايَةً عَنْهُ. وَالطَّرَفُ الْمُقَابِلُ لَهُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ آيَةٌ أَوْ بَعْضُ آيَةٍ، كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ، وَإِنَّمَا يُسْتَفْتَحُ بِهَا فِي السُّوَرِ تَبَرُّكًا بِهَا، وَأَمَّا كَوْنُهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ فِيهِ دَلِيلٌ. وَالْقَوْلُ الْوَسَطُ: أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَتْ، وَأَنَّهَا مَعَ ذَلِكَ لَيْسَتْ مِنْ السُّوَرِ، بَلْ كُتِبَتْ آيَةً فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، وَكَذَلِكَ تُتْلَى آيَةً مُنْفَرِدَةً فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، كَمَا تَلَاهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. كَمَا فِي قَوْلِهِ: «إنَّ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ هِيَ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ، وَهِيَ سُورَةُ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] » رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ أَنَّ هَذَا مُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ سَائِرِ مَنْ حَقَّقَ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَتَوَسَّطَ فِيهَا جَمْعٌ مِنْ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ، وَكِتَابَتِهَا سَطْرًا مَفْصُولًا عَنْ السُّورَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى تَنْزِلَ عَلَيْهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ فِي الْفَاتِحَةِ قَوْلَانِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ:

أَحَدُهُمَا: إنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ دُونَ غَيْرِهَا، تَجِبُ قِرَاءَتُهَا حَيْثُ تَجِبُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ قِرَاءَتَهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ كَقِرَاءَتِهَا فِي أَوَّلِ السُّوَرِ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ، لَا تُخَالِفُهُ. وَحِينَئِذٍ الْخِلَافُ أَيْضًا فِي قِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وُجُوبَ الْفَاتِحَةِ، كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: قِرَاءَتُهَا مَكْرُوهَةٌ سِرًّا وَجَهْرًا، كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ قِرَاءَتَهَا جَائِزَةٌ؛ بَلْ مُسْتَحَبَّةٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَطَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يُسَوِّي بَيْنَ قِرَاءَتِهَا وَتَرْكِ قِرَاءَتِهَا، وَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مُعْتَقِدِينَ أَنَّ هَذَا عَلَى إحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ، وَذَلِكَ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى. ثُمَّ مَعَ قِرَاءَتِهَا هَلْ يُسَنُّ الْجَهْرُ أَوْ لَا يُسَنُّ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: قِيلَ: يُسَنُّ الْجَهْرُ بِهَا. كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُ. وَقِيلَ: لَا يُسَنُّ الْجَهْرُ بِهَا، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالرَّأْيِ، وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَقِيلَ: يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا. كَمَا يُرْوَى عَنْ إِسْحَاقَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ. وَمَعَ هَذَا فَالصَّوَابُ أَنَّ مَا لَا يُجْهَرُ بِهِ قَدْ يُشْرَعُ الْجَهْرُ بِهِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ، فَيُشْرَعُ لِلْإِمَامِ أَحْيَانًا لِمِثْلِ تَعْلِيمِ الْمَأْمُومِينَ، وَيَسُوغُ لِلْمُصَلِّينَ أَنْ يَجْهَرُوا بِالْكَلِمَاتِ الْيَسِيرَةِ أَحْيَانًا، وَيَسُوغُ أَيْضًا أَنْ يَتْرُكَ الْإِنْسَانُ الْأَفْضَلَ لِتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ، وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ خَوْفًا مِنْ التَّنْفِيرِ، عَمَّا يَصْلُحُ كَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَاءَ الْبَيْتِ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ؛ لِكَوْنِ قُرَيْشٍ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ، وَخَشِيَ تَنْفِيرَهُمْ بِذَلِكَ. وَرَأَى أَنَّ مَصْلَحَةَ الِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِلَافِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ الْبِنَاءِ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - لَمَّا أَكْمَلَ الصَّلَاةَ خَلْفَ عُثْمَانَ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ فِي

مسألة في بسم الله الرحمن الرحيم هل هي آية من كل سورة

ذَلِكَ، فَقَالَ - الْخِلَافُ شَرٌّ؛ وَلِهَذَا نَصَّ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَلَى ذَلِكَ بِالْبَسْمَلَةِ، وَفِي وَصْلِ الْوِتْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ الْعُدُولُ عَنْ الْأَفْضَلِ إلَى الْجَائِزِ الْمَفْضُولِ، مُرَاعَاةَ ائْتِلَافِ الْمَأْمُومِينَ، أَوْ لِتَعْرِيفِهِمْ السُّنَّةَ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ] 156 - 72 مَسْأَلَةٌ: فِي {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] وَتَنَازَعُوا فِيهَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ حَيْثُ كُتِبَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا كُتِبَتْ تَبَرُّكًا بِهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَطَائِفَةٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَيُحْكَى هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ قَوْلًا فِي مَذْهَبِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ، إمَّا آيَةٌ، وَإِمَّا بَعْضُ آيَةٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَتْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، وَلَيْسَتْ مِنْ السُّورَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِمَا. وَذَكَرَ الرَّازِيّ أَنَّهُ مُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَهُ. وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ. فَإِنَّ كِتَابَتَهَا فِي الْمُصْحَفِ بِقَلَمِ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ، وَكِتَابَتَهَا مُفْرَدَةً مَفْصُولَةً عَمَّا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ السُّورَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ ثَلَاثِينَ آيَةً، شَفَعَتْ لِرَجُلٍ، حَتَّى غُفِرَ لَهُ. وَهِيَ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] » . وَهَذَا لَا يُنَافِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَغْفَى إغْفَاءَةً فَقَالَ: لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ. وَقَرَأَ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] » ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ أَنَّهَا مِنْ السُّورَةِ، بَلْ فِيهِ أَنَّهَا تُقْرَأُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَهَذَا سُنَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْرَأُ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ السُّورَةِ. وَمِثْلُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى تَنْزِلَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، فَفِيهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ لِلْفَصْلِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْهَا، وَ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] ثَلَاثُونَ آيَةً بِدُونِ الْبَسْمَلَةِ؛ وَلِأَنَّ الْعَادِّينَ لِآيَاتِ الْقُرْآنِ لَمْ يَعُدَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ الْبَسْمَلَةَ مِنْ السُّورَةِ، لَكِنْ هَؤُلَاءِ تَنَازَعُوا فِي الْفَاتِحَةِ: هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْهَا دُونَ غَيْرِهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ أَحَدُهُمَا: إنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، أَظُنُّهُ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدٍ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِالْآثَارِ الَّتِي رُوِيَتْ فِي أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنْ الْفَاتِحَةِ، وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ تَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ، وَهَؤُلَاءِ يُوجِبُونَ قِرَاءَتَهَا وَإِنْ لَمْ يَجْهَرُوا بِهَا. وَالثَّانِي: إنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ، كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ غَيْرِهَا، وَهَذَا أَظْهَرُ. فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لَهُ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. يَقُولُ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] يَقُولُ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] يَقُولُ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] يَقُولُ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . يَقُولُ اللَّهُ: فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. يَقُولُ الْعَبْدُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] إلَى آخِرِهَا. يَقُولُ اللَّهُ: فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» . فَلَوْ كَانَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ لَذَكَرَهَا كَمَا ذَكَرَ غَيْرَهَا. وَقَدْ رُوِيَ ذِكْرُهَا فِي حَدِيثٍ مَوْضُوعٍ، رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ سَمْعَانَ فَذِكْرُهُ مِثْلُ الثَّعْلَبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَمِثْلُ مَنْ جَمَعَ أَحَادِيثَ الْجَهْرِ، وَأَنَّهَا كُلَّهَا ضَعِيفَةٌ، أَوْ

مَوْضُوعَةٌ. وَلَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَمَا كَانَ لِلرَّبِّ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَنِصْفٌ، وَلِلْعَبْدِ ثَلَاثٌ وَنِصْفٌ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْقِسْمَةَ وَقَعَتْ عَلَى الْآيَاتِ، فَإِنَّهُ قَالَ: «فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي» . وَهَؤُلَاءِ إشَارَةٌ إلَى جَمْعٍ، فَعُلِمَ أَنَّ مِنْ قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] إلَى آخِرِهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَعُدُّ الْبَسْمَلَةَ آيَةً مِنْهَا، وَمَنْ عَدَّهَا آيَةً مِنْهَا جَعَلَ هَذَا آيَتَيْنِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَاتِحَةَ سُورَةٌ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَالْبَسْمَلَةُ مَكْتُوبَةٌ فِي أَوَّلِهَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنْ السُّوَرِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَتُلِيَتْ فِي الصَّلَاةِ جَهْرًا، كَمَا تُتْلَى آيَاتُ السُّورَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى الْجَهْرَ بِهَا كَالشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْمَكِّيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْفَاتِحَةِ يُجْهَرُ بِهَا: كَسَائِرِ آيَاتِ الْفَاتِحَةِ، وَاعْتَمَدَ عَلَى آثَارٍ مَنْقُولَةٍ بَعْضُهَا عَنْ الصَّحَابَةِ، وَبَعْضُهَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَأَمَّا الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ: كَابْنِ الزُّبَيْرِ وَنَحْوِهِ، فَفِيهِ صَحِيحٌ، وَفِيهِ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ ضَعِيفٌ، أَوْ مَوْضُوعٌ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ حُفَّاظُ الْحَدِيثِ كَالدَّارَقُطْنِيِّ، وَغَيْرِهِ. وَلِهَذَا لَمْ يَرْوِ أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَهْرِ بِهَا حَدِيثًا وَاحِدًا؛ وَإِنَّمَا يَرْوِي أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَنْ لَا يُمَيِّزُ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: كَالثَّعْلَبِيِّ وَنَحْوِهِ، وَكَبَعْضِ مَنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، كَمَا يَذْكُرُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَقَدْ حُكِيَ الْقَوْلُ بِالْجَهْرِ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ مِنْ أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ، فَيُجْهَرُ بِهَا كَمَا يُجْهَرُ بِسَائِرِ الْفَاتِحَةِ، وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَهُ، بَلْ يُخَافَتُ بِهَا عِنْدَهُ. وَإِنْ قَالَ: هِيَ مِنْ الْفَاتِحَةِ لَكِنْ يُجْهَرُ بِهَا عِنْدَهُ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ. مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلُّونَ لَا يَقْرَءُونَهَا بِحَالٍ، فَيَجْهَرُ بِهَا لِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ قِرَاءَتَهَا سُنَّةٌ، كَمَا جَهَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْفَاتِحَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ، وَكَمَا جَهَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِالِاسْتِفْتَاحِ، وَكَمَا نُقِلَ عَنْ «أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَرَأَ بِهَا، ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْكِتَابِ، وَقَالَ: أَنَا أَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَهُوَ أَجْوَدُ مَا احْتَجُّوا بِهِ. وَكَذَلِكَ فَسَّرَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ خِلَافَهُ، أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِهَا إذَا كَانَ الْمَأْمُومُونَ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ لَمْ يَجْهَرْ بِهَا، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْجَهْرَ بِهَا وَالْمُخَافَتَةَ سُنَّةٌ، فَلَوْ جَهَرَ بِهَا الْمُخَافِتُ صَحَّتْ صَلَاتُهُ بِلَا رَيْبٍ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ

مسألة صلاة من يلحن في الفاتحة

وَالْأَوْزَاعِيُّ لَا يَرَوْنَ الْجَهْرَ؛ لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ يَقْرَؤُهَا سِرًّا: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْرَؤُهَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا كَمَالِكٍ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا لَا يَجْهَرُونَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ، وَفِي لَفْظٍ «لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ، وَلَا آخِرِهَا» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ صَلَاةُ مَنْ يَلْحَنُ فِي الْفَاتِحَةِ] 157 - 73 مَسْأَلَةٌ: هَلْ مَنْ يَلْحَنُ فِي الْفَاتِحَةِ تَصِحُّ صَلَاتُهُ أَمْ لَا الْجَوَابُ: أَمَّا اللَّحْنُ فِي الْفَاتِحَةِ الَّذِي لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى فَتَصِحُّ صَلَاةُ صَاحِبِهِ، إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالضَّالِّينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا قُرِئَ بِهِ مِثْلُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبَّ، وَرَبِّ، وَرَبُّ. وَمِثْلُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالْحَمْدِ لِلَّهِ، بِضَمِّ اللَّامِ، أَوْ بِكَسْرِ الدَّالِ. وَمِثْلُ عَلَيْهِمْ، وَعَلَيْهِمْ، وَعَلَيْهِمْ. وَمِثْلُ ذَلِكَ، فَهَذَا لَا يُعَدُّ لَحْنًا. وَأَمَّا اللَّحْنُ الَّذِي يُحِيلُ الْمَعْنَى: إذَا عَلِمَ صَاحِبُهُ مَعْنَاهُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتُ عَلَيْهِمْ) وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ، لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يُحِيلُ الْمَعْنَى وَاعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ فَفِيهِ نِزَاعٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَا عِنْدَهُ أَحَدٌ يَسْأَلُهُ عَنْ اللَّحْنِ] 158 - 74 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَا عِنْدَهُ أَحَدٌ يَسْأَلُهُ عَنْ اللَّحْنِ إلَخْ؟ وَإِذَا وَقَفَ عَلَى شَيْءٍ يَطَّلِعُ فِي الْمُصْحَفِ هَلْ يَلْحَقُهُ إثْمٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إنْ احْتَاجَ إلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ قَرَأَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَرَجَعَ إلَى الْمُصْحَفِ فِيمَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ، وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا، وَلَا يَتْرُكُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَيَنْتَهِي بِهِ مِنْ الْقِرَاءَةِ، لِأَجْلِ مَا يَعْرِضُ مِنْ الْغَلَطِ أَحْيَانًا، إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة إذا نصب المخفوض في صلاته

[مَسْأَلَةٌ إذَا نَصَبَ الْمَخْفُوضَ فِي صَلَاتِهِ] مَسْأَلَةٌ: فِيمَا إذَا نَصَبَ الْمَخْفُوضَ فِي صَلَاتِهِ؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ عَالِمًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَلَاعِبٌ فِي صَلَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا لَمْ تَبْطُلْ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. 160 - 76 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ يُصَلِّي بِقَوْمٍ وَهُوَ يَقْرَأُ بِقِرَاءَةِ الشَّيْخِ أَبِي عَمْرٍو، فَهَلْ إذَا قَرَأَ لِوَرْشٍ أَوْ لِنَافِعٍ بِاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ. مَعَ حَمْلِهِ قِرَاءَتَهُ لِأَبِي عَمْرٍو يَأْثَمُ، أَوْ تَنْقُصُ صَلَاتُهُ أَوْ تُرَدُّ؟ الْجَوَابُ: يَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَ بَعْضَ الْقُرْآنِ بِحَرْفِ أَبِي عَمْرٍو، وَبَعْضَهُ بِحَرْفِ نَافِعٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي رَكْعَةٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ أَوْ دَاخِلَهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ إطَالَة الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة] 161 - 77 مَسْأَلَةٌ: هَلْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ صَلَّى بِالْأَعْرَافِ أَوْ بِالْأَنْعَامِ جَمِيعًا فِي الْمَغْرِبِ، أَوْ فِي صَلَاةٍ غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. نَعَمْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّهُ «صَلَّى فِي الْمَغْرِبِ بِالْأَعْرَافِ» ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ يُدَاوِمُ عَلَى ذَلِكَ، وَمَرَّةً أُخْرَى قَرَأَ فِيهَا بِالْمُرْسَلَاتِ وَمَرَّةً أُخْرَى قَرَأَ فِيهَا بِالطُّورِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الصَّحِيحِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَفْع الْأَيْدِي بَعْدَ الرُّكُوعِ] 162 - 78 مَسْأَلَةٌ: فِي رَفْعِ الْأَيْدِي بَعْدَ الرُّكُوعِ، هَلْ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ بَلْ أَكْثَرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَحِبُّونَ هَذَا. كَمَا اسْتَفَاضَتْ بِهِ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، وَوَائِلِ بْنِ حُجْرٌ، وَأَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، وَأَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ، فِي عَشَرَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَحَدِيثِ عَلِيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمْ.

مسألة التأخر حين السجود

وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَمَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: إنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ، وَلَمْ يَقُلْ: إنَّهُ يُبْطِلُ صَلَاتَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ التَّأَخُّرُ حِينَ السُّجُودِ] 163 - 79 سُئِلَ: إذَا أَرَادَ إنْسَانٌ أَنْ يَسْجُدَ فِي الصَّلَاةِ يَتَأَخَّرُ خُطْوَتَيْنِ: هَلْ يُكْرَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: وَأَمَّا التَّأَخُّرُ حِينَ السُّجُودِ فَلَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَلَا يَنْبَغِي فِعْلُ ذَلِكَ. إلَّا إذَا كَانَ الْمَوْضِعُ ضَيِّقًا، فَيَتَأَخَّرُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ السُّجُودِ. [مَسْأَلَةٌ اتِّقَاء الْأَرْضِ بِوَضْعِ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ فِي الصَّلَاة] 164 - 80 مَسْأَلَةٌ: فِي الصَّلَاةِ، وَاتِّقَاءِ الْأَرْضِ بِوَضْعِ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، أَوْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ الْجَوَابُ: أَمَّا الصَّلَاةُ بِكِلَيْهِمَا فَجَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، إنْ شَاءَ الْمُصَلِّي يَضَعُ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ وَضَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ رُكْبَتَيْهِ، وَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ فِي الْحَالَتَيْنِ، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي الْأَفْضَلِ. فَقِيلَ: الْأَوَّلُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَقِيلَ: الثَّانِي، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَقَدْ رُوِيَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا حَدِيثٌ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَفِي السُّنَنِ عَنْهُ: «أَنَّهُ كَانَ إذَا صَلَّى وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ رُكْبَتَيْهِ» . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكُ بُرُوكَ الْجَمَلِ، وَلَكِنْ يَضَعُ يَدَيْهِ ثُمَّ رُكْبَتَيْهِ» وَقَدْ رُوِيَ ضِدُّ ذَلِكَ، وَقِيلَ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة أعضاء السجود

[مَسْأَلَةٌ أَعْضَاء السُّجُود] مَسْأَلَةٌ: فِيمَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، وَأَنْ لَا أَكُفَّ لِي ثَوْبًا، وَلَا شَعْرًا» - وَفِي رِوَايَةٍ - «وَأَنْ لَا أَكْفِتَ لِي ثَوْبًا، وَلَا شَعْرًا» فَمَا هُوَ الْكَفُّ؟ وَمَا هُوَ الْكَفْتُ؟ وَهَلْ ضَفْرُ الشَّعْرِ مِنْ الْكَفْتِ؟ الْجَوَابُ: الْكَفْتُ: الْجَمْعُ وَالضَّمُّ، وَالْكَفُّ: قَرِيبٌ مِنْهُ، وَهُوَ مَنْعُ الشَّعْرِ وَالثَّوْبِ مِنْ السُّجُودِ، وَيُنْهَى الرَّجُلُ أَنْ يُصَلِّيَ وَشَعْرُهُ مَغْرُوزٌ فِي رَأْسِهِ، أَوْ مَعْقُوصٌ. وَفِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَعْقُوصٌ كَمَثَلِ الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ» لِأَنَّ الْمَكْتُوفَ لَا يَسْجُدُ ثَوْبُهُ، وَالْمَعْقُوصَ لَا يَسْجُدُ شَعْرُهُ، وَأَمَّا الضَّفْرُ مَعَ إرْسَالِهِ فَلَيْسَ مِنْ الْكَفْتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ يُصَلِّي مَأْمُومًا وَيَجْلِسُ بَيْنَ الرَّكَعَاتِ جِلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ] 166 - 82 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ يُصَلِّي مَأْمُومًا، وَيَجْلِسُ بَيْنَ الرَّكَعَاتِ جِلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ الْإِمَامُ، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ؟ وَإِذَا جَازَ: هَلْ يَكُونُ مُنْقِصًا لِأَجْرِهِ لِأَجْلِ كَوْنِهِ لَمْ يُتَابِعْ الْإِمَامَ فِي سُرْعَةِ الْإِمَامِ؟ الْجَوَابُ: جِلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ، قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَلَسَهَا؛ لَكِنْ تَرَدَّدَ الْعُلَمَاءُ هَلْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ لِلْحَاجَةِ، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ. فَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي: اسْتَحَبَّهَا كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ: لَمْ يَسْتَحِبَّهَا إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ

مسألة رفع اليدين بعد القيام من الجلسة بعد الركعتين الأوليين

فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. وَمَنْ فَعَلَهَا لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا؛ لِكَوْنِ التَّأَخُّرِ بِمِقْدَارِ مَا لَيْسَ هُوَ مِنْ التَّخَلُّفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِاسْتِحْبَابِهَا، وَهَلْ هَذَا إلَّا فِعْلٌ فِي مَحَلِّ اجْتِهَادٍ فَإِنَّهُ قَدْ تَعَارَضَ فِعْلُ هَذِهِ السُّنَّةِ عِنْدَهُ، وَالْمُبَادَرَةُ إلَى مُوَافَقَةِ الْإِمَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ التَّخَلُّفِ، لَكِنَّهُ يَسِيرٌ، فَصَارَ مِثْلَ مَا إذَا قَامَ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يُكْمِلَهُ الْمَأْمُومُ، وَالْمَأْمُومُ يَرَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، أَوْ مِثْلَ أَنْ يُسَلِّمَ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ يَسِيرٌ مِنْ الدُّعَاءِ، هَلْ يُسَلِّمُ أَوْ يُتِمُّهُ؟ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ هِيَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَالْأَقْوَى أَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ أَوْلَى مِنْ التَّخَلُّفِ، لِفِعْلٍ مُسْتَحَبٍّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَفَعَ الْيَدَيْنِ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنْ الْجِلْسَةِ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ] 167 - 83 مَسْأَلَةٌ: فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنْ الْجِلْسَةِ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ: هَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ؟ وَهَلْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أَوْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ؟ فَأَجَابَ: نَعَمْ، هُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ عِنْدَ مُحَقِّقِي الْعُلَمَاءِ الْعَالِمِينَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ. فَفِي الْبُخَارِيِّ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ نَافِعٍ: «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَيَصْنَعُ مِثْلَ ذَلِكَ إذَا قَضَى قِرَاءَتَهُ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ، وَيَصْنَعُهُ إذَا رَفَعَ مِنْ الرُّكُوعِ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ قَاعِدٌ وَإِذَا قَامَ مِنْ

الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ كَذَلِكَ وَكَبَّرَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَهَذَا لَفْظُهُ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ صِفَةَ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ «إذَا قَامَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، كَمَا صَنَعَ حِينَ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ. فَهَذِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ، وَلَيْسَ لَهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا مُقَاوِمًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ رَاجِحًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 168 - 84 مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ» الْحَدِيثَ. وَقَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ» هَلْ الْحَدِيثَانِ فِي الصِّحَّةِ سَوَاءٌ؟ وَمَا الْحُكْمُ فِي ذِكْرِ الْآلِ دُونَ إبْرَاهِيمَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصِّحَاحِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَشْهَرُهَا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَك هَدِيَّةً؟ «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَا: قَدْ عَرَفْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْك، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ - وَفِي لَفْظٍ - وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ» رَوَاهُ أَهْلُ الصِّحَاحِ، وَالسُّنَنِ، وَالْمَسَانِيدِ. كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ، وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا لَفْظُ الْجَمَاعَةِ إلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ قَالَ فِيهِ: عَلَى

إبْرَاهِيمَ، فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يَذْكُرْ آلَهُ وَذَلِكَ رِوَايَةٌ لِأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ: «كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ» . وَقَالَ: «كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ» ذَكَرَ لَفْظَ الْآلِ فِي الْأَوَّلِ، وَلَفْظَ إبْرَاهِيمَ فِي الْآخِرِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ الثَّلَاثَةِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ. وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ» هَذَا هُوَ اللَّفْظُ الْمَشْهُورُ، وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ: «كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ» ، وَكَمَا «بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ» بِدُونِ لَفْظِ الْآلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا السَّلَامُ عَلَيْك، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْك؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِك وَرَسُولِك، كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْك فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك؟ قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَالسَّلَامُ كَمَا عَلِمْتُمْ» وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا غَيْرُ مُسْلِمٍ كَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيِّ بِلَفْظٍ آخَرَ. وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ «كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ، وَكَمَا

بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ» لَمْ يَذْكُرْ " الْآلُ " وَفِي رِوَايَةٍ «كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ، وَكَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ» . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِي الصِّحَاح: لَمْ أَجِدْ فِيهَا وَلَا فِيمَا نُقِلَ لَفْظُ «إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ» بَلْ الْمَشْهُورُ فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ وَالطُّرُقِ لَفْظُ " آلِ إبْرَاهِيمَ "، وَفِي بَعْضِهَا لَفْظُ " إبْرَاهِيمَ " وَقَدْ يَجِيءُ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ لَفْظُ " آلِ إبْرَاهِيمَ " وَفِي الْآخِرِ لَفْظُ " إبْرَاهِيمَ ". وَقَدْ رُوِيَ لَفْظُ " إبْرَاهِيمَ، وَآلِ إبْرَاهِيمَ " فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ السَّنَاوِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَارْحَمْ مُحَمَّدًا كَمَا صَلَّيْت وَبَارَكْت وَتَرَحَّمْت عَلَى إبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ» وَهَذَا إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ لَكِنْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا قَالَ: إذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَحْسِنُوا الصَّلَاةَ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلَّ ذَلِكَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَقُولُوا لَهُ فَعَلِّمْنَا: قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِك، وَرَحْمَتَك، وَبَرَكَاتِك عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ عَبْدِك وَرَسُولِك: إمَامِ الْخَيْرِ، وَقَائِدِ الْخَيْرِ، وَرَسُولِ الرَّحْمَةِ، اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ ". وَلَا يَحْضُرُنِي إسْنَادَ هَذَا الْأَثَرِ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي إلَى السَّاعَةِ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ بِإِسْنَادٍ ثَابِتٍ «كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ، وَكَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ» بَلْ أَحَادِيثُ السُّنَنِ تُوَافِقُ أَحَادِيثَ الصَّحِيحَيْنِ، كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى إذَا صَلَّى عَلَيْنَا أَهْلُ الْبَيْتِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُومِنِينَ، وَذُرِّيَّتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك؟ يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ. قَالَ: تَقُولُونَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى

مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ، ثُمَّ تُسَلِّمُونَ عَلَيَّ» . وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ سَلَكَ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ وَالْأَذْكَارِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُهَا وَيَعْمَلُهَا بِأَلْفَاظٍ مُتَنَوِّعَةٍ - وَرُوِيَتْ بِأَلْفَاظٍ مُتَنَوِّعَةٍ - طَرِيقَةً مُحْدَثَةً بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ، وَاسْتَحَبَّ ذَلِكَ، وَرَأَى ذَلِكَ أَفْضَلَ مَا يُقَالُ فِيهَا. مِثَالُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ «أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي قَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدَك، وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» . قَدْ رُوِيَ " كَثِيرًا " وَرُوِيَ " كَبِيرًا " فَيَقُولُ هَذَا الْقَائِلُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ " كَثِيرًا، كَبِيرًا ". وَكَذَلِكَ إذَا رُوِيَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ» وَرُوِيَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ» وَأَمْثَالُ ذَلِكَ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مُحْدَثَةٌ لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَعْرُوفِينَ. وَطَرْدُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنْ يَذْكُرَ التَّشَهُّدَ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمَأْثُورَةِ، وَأَنْ يُقَالَ: الِاسْتِفْتَاحُ بِجَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمَأْثُورَةِ، وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَسْتَحِبَّهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ، بَلْ عَمِلُوا بِخِلَافِهِ، فَهُوَ بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ، فَاسِدٌ فِي الْعَقْلِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ تَنَوُّعَ أَلْفَاظِ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ كَتَنَوُّعِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ مِثْلَ (تَعْلَمُونَ) وَ (يَعْلَمُونَ) وَ (بَاعَدُوا) وَ (بَعُدُوا) وَ (أَرْجُلِكُمْ) وَ (أَرْجُلِكُمْ) وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِلْقَارِئِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْقَارِئِ عِبَادَةً وَتَدَبُّرًا خَارِجَ الصَّلَاةِ: أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْحُرُوفِ، إنَّمَا يَفْعَلُ الْجَمْعَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ لِيَمْتَحِنَ بِحِفْظِهِ لِلْحُرُوفِ، وَتَمْيِيزِهِ لِلْقِرَاءَاتِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي هَذَا. وَأَمَّا الْجَمْعُ فِي كُلِّ الْقِرَاءَةِ الْمَشْرُوعَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا فَغَيْرُ مَشْرُوعٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ يُخَيَّرُ بَيْنَ تِلْكَ الْحُرُوفِ، وَإِذَا قَرَأَ بِهَذِهِ تَارَةً وَبِهَذِهِ تَارَةً كَانَ حَسَنًا، كَذَلِكَ الْإِذْكَارُ إذَا قَالَ تَارَةً " ظُلْمًا كَثِيرًا " وَتَارَةً " ظُلْمًا كَبِيرًا " كَانَ حَسَنًا. كَذَلِكَ إذَا قَالَ

تَارَةً " عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ " وَتَارَةً " عَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ " كَانَ حَسَنًا. كَمَا أَنَّهُ فِي التَّشَهُّدِ إذَا تَشَهَّدَ تَارَةً بِتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَتَارَةً بِتَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتَارَةً بِتَشَهُّدِ عُمَرَ كَانَ حَسَنًا، وَفِي الِاسْتِفْتَاحِ إذَا اسْتَفْتَحَ تَارَةً بِاسْتِفْتَاحِ عُمَرَ، وَتَارَةً بِاسْتِفْتَاحِ عَلِيٍّ، وَتَارَةً بِاسْتِفْتَاحِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ كَانَ حَسَنًا. وَقَدْ احْتَجَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ عَلَى جَوَازِ الْأَنْوَاعِ الْمَأْثُورَةِ فِي التَّشَهُّدَاتِ وَنَحْوِهَا بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلُّهَا شَافٍ كَافٍ، فَاقْرَءُوا بِمَا تَيَسَّرَ» قَالُوا: فَإِذَا كَانَ الْقُرْآنُ قَدْ رُخِّصَ فِي قِرَاءَتِهِ سَبْعَةُ أَحْرُفٍ، فَغَيْرُهُ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ أَوْلَى أَنْ يُرَخَّصَ فِي أَنْ يُقَالَ عَلَى عِدَّةِ أَحْرُفٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي ذَلِكَ أَنْ يَقْرَأَ أَحَدَهَا، أَوْ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً، لَا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي آنٍ وَاحِدٍ؛ بَلْ قَالَ هَذَا تَارَةً، وَهَذَا تَارَةً، إذَا كَانَ قَدْ قَالَهُمَا. وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي لَفْظٍ فَقَدْ يُمْكِنُ أَنَّهُ قَالَهُمَا، أَوْ يُمْكِنُ أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِمَا، وَيُمْكِنُ أَنَّ أَحَدَ الرَّاوِيَيْنِ حَفِظَ اللَّفْظَ دُونَ الْآخَرِ وَهَذَا يَجِيءُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ " كَبِيرًا " " كَثِيرًا ". وَأَمَّا مِثْلُ قَوْلِهِ: " وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ " وَقَوْلِهِ فِي الْأُخْرَى " وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ " فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَالَ هَذَا تَارَةً، وَهَذَا تَارَةً؛ وَلِهَذَا احْتَجَّ مَنْ احْتَجَّ بِذَلِكَ عَلَى تَفْسِيرِ الْآلِ [أَيْ آلِ مُحَمَّدٍ] ، وَلِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ الَّذِينَ حُرِمُوا الصَّدَقَةَ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَعَلَى هَذَا فَفِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى أَزْوَاجِهِ وَكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: إحْدَاهُمَا: لَسْنَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ. وَالثَّانِيَةُ: هُنَّ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، لِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ قَالَ: " وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] وَقَوْلُهُ فِي قِصَّةِ إبْرَاهِيمَ: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73] وَقَدْ دَخَلَتْ

سَارَةُ، وَلِأَنَّهُ اسْتَثْنَى امْرَأَةَ لُوطٍ مِنْ آلِهِ فَدَلَّ عَلَى دُخُولِهَا فِي الْآلِ، وَحَدِيثُ الكسا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا أَحَقُّ بِالدُّخُولِ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ مِنْ غَيْرِهِمْ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْمَسْجِدِ الْمُؤَسَّسِ عَلَى التَّقْوَى: " هُوَ مَسْجِدِي هَذَا " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِذَلِكَ، وَأَنَّ مَسْجِدَ قُبَاءَ أَيْضًا مُؤَسَّسٌ عَلَى التَّقْوَى؛ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ نُزُولُ الْآيَةِ وَسِيَاقُهَا، وَكَمَا أَنَّ أَزْوَاجَهُ دَاخِلَاتٌ فِي آلِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ نُزُولُ الْآيَةِ وَسِيَاقُهَا، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ دُخُولَ أَزْوَاجِهِ فِي آلِ بَيْتِهِ أَصَحُّ، وَإِنْ كَانَ مَوَالِيهِنَّ لَا يَدْخُلُونَ فِي مَوَالِي آلِهِ بِدَلِيلِ الصَّدَقَةِ عَلَى بَرِيرَةَ مَوْلَاةِ عَائِشَةَ، وَنَهْيُهُ عَنْهَا أَبَا رَافِعٍ مَوْلَى الْعَبَّاسِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَآلَ الْمُطَّلِبِ هَلْ هُمْ مِنْ آلِهِ وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ الَّذِينَ تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ: إحْدَاهُمَا: إنَّهُمْ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِيَةُ: لَيْسُوا مِنْهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ هُمْ أُمَّتُهُ أَوْ الْأَتْقِيَاءُ مِنْ أُمَّتِهِ، وَهَذَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ إنْ صَحَّ، وَقَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ يَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَى الْخَلَّالُ، وَتَمَامُ هَذِهِ أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ آلِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: كُلُّ مُؤْمِنٍ تَقِيٌّ» وَهَذَا الْحَدِيثُ مَوْضُوعٌ لَا أَصْلَ لَهُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ أَحْيَانًا " وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ " وَكَانَ يَقُولُ أَحْيَانًا: " وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ " فَمَنْ قَالَ أَحَدَهُمَا، أَوْ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً، فَقَدْ أَحْسَنَ. وَأَمَّا مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ خَالَفَ السُّنَّةَ. ثُمَّ إنَّهُ فَاسِدٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ أَيْضًا، فَإِنَّ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ بَدَلٌ عَنْ الْآخَرِ، فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ، وَمَنْ تَدَبَّرَ مَا يَقُولُ وَفَهِمَهُ عَلِمَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ فَيُقَالُ: لَفْظُ آلِ فُلَانٍ إذَا أُطْلِقَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَخَلَ فِيهِ فُلَانٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]

وَقَوْلِهِ: {إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر: 34] وَقَوْلِهِ: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] . وَقَوْلِهِ: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] . وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» . وَكَذَلِكَ لَفْظُ: " أَهْلَ الْبَيْتِ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73] فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ دَاخِلٌ فِيهِمْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ. الْأَوْفَى إذَا صَلَّى عَلَيْنَا أَهْلُ الْبَيْتِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ» الْحَدِيثَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ " الْآلِ " أَصْلُهُ أَوْلُ، تَحَرَّكَتْ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا، فَقِيلَ: آلُ، وَمِثْلُهُ بَابٌ، وَنَابٌ. وَفِي الْأَفْعَالِ قَالَ وَعَادَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ أَصْلُهُ أَهْلٌ قُلِبَتْ الْهَاءُ أَلِفًا فَقَدْ غَلِطَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَادَّعَى الْقَلْبَ الشَّاذَّ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْأَصْلِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ لَفْظَ الْأَهْلِ يُضِيفُونَهُ إلَى الْجَمَادِ، وَإِلَى غَيْرِ الْمُعَظَّمِ، كَمَا يَقُولُونَ: أَهْلُ الْبَيْتِ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلُ الْفَقِيرِ، وَأَهْلُ الْمِسْكِينِ وَأَمَّا الْآلُ فَإِنَّمَا يُضَافُ إلَى مُعَظَّمٍ مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَئُولَ غَيْرَهُ، أَوْ يَسُوسُهُ فَيَكُونُ مَآلُهُ إلَيْهِ، وَمِنْهُ الْإِيَالَةُ: وَهِيَ السِّيَاسَةُ فَآلُ الشَّخْصِ هُمْ مَنْ يَئُولُهُ، وَيَئُولُ إلَيْهِ، وَيَرْجِعُ إلَيْهِ، وَنَفْسُهُ هِيَ أَوَّلٌ وَأَوْلَى مَنْ يَسُوسُهُ، وَيَئُولُ إلَيْهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَفْظُ آلِ فُلَانٍ مَتْنًا وَلَا لَهُ، وَلَا يُقَالُ هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ، بَلْ يَتَنَاوَلُهُ وَيَتَنَاوَلُ مَنْ يَئُولُهُ، فَلِهَذَا جَاءَ فِي أَكْثَرِ الْأَلْفَاظِ «كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، وَكَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ» وَجَاءَ فِي بَعْضِهَا " إبْرَاهِيمَ " نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَسَائِرُ أَهْلِ بَيْتِهِ إنَّمَا يَحْصُلُ لَهُمْ ذَلِكَ تَبَعًا. وَجَاءَ فِي بَعْضِهَا ذِكْرُ هَذَا، وَهَذَا تَنْبِيهًا عَلَى هَذَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قِيلَ: «صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ» ، فَذَكَرَ هُنَا مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ، وَذَكَرَ هُنَاكَ لَفْظَ " آلِ إبْرَاهِيمَ، أَوْ إبْرَاهِيمَ ".

قِيلَ: لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ ذُكِرَتْ فِي مَقَامِ الطَّلَبِ وَالدُّعَاءِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى إبْرَاهِيمَ فَفِي مَقَامِ الْخَبَرِ وَالْقِصَّةِ؛ إذْ قَوْلُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ " جُمْلَةٌ طَلَبِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ " صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ " جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ الطَّلَبِيَّةُ إذَا بُسِطَتْ كَانَ مُنَاسِبًا؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الطَّلَبِ، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَهُوَ خَبَرٌ عَنْ أَمْرٍ قَدْ وَقَعَ وَانْقَضَى، لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، فَلَمْ يُمْكِنْ فِي زِيَادَةِ اللَّفْظِ زِيَادَةُ الْمَعْنَى، فَكَانَ الْإِيجَازُ فِيهِ وَالِاخْتِصَارُ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ وَأَحْسَنَ؛ وَلِهَذَا جَاءَ بِلَفْظِ آلِ إبْرَاهِيمَ تَارَةً، وَبِلَفْظِ إبْرَاهِيمَ أُخْرَى؛ لِأَنَّ كِلَا اللَّفْظَيْنِ يَدُلُّ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْآخَرُ، وَهُوَ الصَّلَاةُ الَّتِي وَقَعَتْ وَمَضَتْ، إذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى إبْرَاهِيمَ الَّتِي وَقَعَتْ هِيَ الصَّلَاةُ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، وَالصَّلَاةُ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ صَلَاةٌ عَلَى إبْرَاهِيمَ، فَكَانَ الْمُرَادُ بِاللَّفْظَيْنِ وَاحِدًا مَعَ الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ. وَأَمَّا فِي الطَّلَبِ، فَلَوْ قِيلَ: " صَلِّ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ " لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، إذْ هُوَ طَلَبٌ وَدُعَاءٌ يَنْشَأُ بِهَذَا اللَّفْظِ لَيْسَ خَبَرًا عَنْ أَمْرٍ قَدْ وَقَعَ وَاسْتَقَرَّ، وَلَوْ قِيلَ: صَلِّ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، لَكَانَ إنَّمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ فِي الْعُمُومِ. فَقِيلَ: عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ، وَبِالصَّلَاةِ عَلَى آلِهِ. ثُمَّ إنْ قِيلَ: إنَّهُ دَاخِلٌ فِي آلِهِ مَعَ الِاقْتِرَانِ، كَمَا هُوَ دَاخِلٌ مَعَ الْإِطْلَاقِ، فَقَدْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ خُصُوصًا وَعُمُومًا، وَهَذَا يَنْشَأُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْعَامُّ الْمَعْطُوفُ عَلَى الْخَاصِّ يَتَنَاوَلُ الْخَاصَّ. وَلَوْ قِيلَ: إنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ لَمْ يَضُرَّ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ خُصُوصًا تُغْنِي. وَأَيْضًا فَفِي ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى سَائِرِ الْآلِ إنَّمَا طُلِبَتْ تَبَعًا لَهُ وَأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي بِسَبَبِهِ طُلِبَتْ الصَّلَاةُ عَلَى آلِهِ، وَهَذَا يَتِمُّ بِجَوَابِ السُّؤَالِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: " كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ " يُشْعِرُ بِفَضِيلَةِ إبْرَاهِيمَ، لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ دُونَ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَقَدْ أَجَابَ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ ضَعِيفَةٍ. فَقِيلَ: التَّشْبِيهُ عَائِدٌ إلَى الصَّلَاةِ عَلَى الْأَوَّلِ فَقَطْ، فَقَوْلُهُ: " صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ " كَلَامٌ مُنْقَطِعٌ، وَقَوْلُهُ: " وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ " كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، وَهَذَا

نَقَلَهُ الْعِمْرَانِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا بَاطِلٌ عَنْ الشَّافِعِيِّ قَطْعًا لَا يَلِيقُ بِعِلْمِهِ وَفَصَاحَتِهِ، فَإِنَّ هَذَا كَلَامٌ رَكِيكٌ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَفِيهِ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ بُحُوثٌ لَا تَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ. الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ مَنَعَ كَوْنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ أَعْلَى مِنْ الْمُشَبَّهِ، وَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مُتَمَاثِلَيْنِ، قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ: وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْضُلُ عَلَى إبْرَاهِيمَ مِنْ وُجُوهٍ غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَهُمَا مُتَمَاثِلَانِ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ، أَوْ أَعْلَاهَا، وَمُحَمَّدٌ أَفْضَلُ الْخَلْقِ فِيهَا، فَكَيْفَ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَاَللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ الْخَيْرِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مُعَلِّمِي الْخَيْرِ، وَالْأَدِلَّةُ كَثِيرَةٌ لَا يَتَّسِعُ لَهَا هَذَا الْجَوَابُ. الثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: آلُ إبْرَاهِيمَ فِيهِمْ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ لَيْسَ مِثْلُهُمْ فِي آلِ مُحَمَّدٍ، فَإِذَا طُلِبَ مِنْ الصَّلَاةِ مِثْلَمَا صَلَّى عَلَى هَؤُلَاءِ حَصَلَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَلِيقُ بِهِمْ، فَإِنَّهُمْ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَصَلَ لَهُ بِذَلِكَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَزِيَّةٌ لَيْسَتْ لِإِبْرَاهِيمَ، وَلَا لِغَيْرِهِ، وَهَذَا الْجَوَابُ أَحْسَنُ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَأَحْسَنُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ: مُحَمَّدٌ هُوَ مِنْ آلِ إبْرَاهِيمَ، كَمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُحَمَّدٌ مِنْ آلِ إبْرَاهِيمَ. وَهَذَا بَيِّنٌ؛ فَإِنَّهُ إذَا دَخَلَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فِي آلِ إبْرَاهِيمَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالدُّخُولِ فِيهِمْ، فَيَكُونُ قَوْلُنَا: كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ مُتَنَاوِلًا لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27] ، ثُمَّ أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ خُصُوصًا بِقَدْرِ مَا صَلَّيْنَا عَلَيْهِ مَعَ سَائِرِ آلِ إبْرَاهِيمَ عُمُومًا، ثُمَّ لِأَهْلِ بَيْتِهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَلِيقُ بِهِمْ، وَالْبَاقِي لَهُ، فَيُطْلَبُ لَهُ مِنْ الصَّلَاةِ هَذَا الْأَمْرُ الْعَظِيمُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ أَعْظَمُ مِمَّا لِإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ بِالدُّعَاءِ إنَّمَا هُوَ مِثْلُ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَلَهُ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ الْمُشَبَّهِ، وَلَهُ أَكْثَرُ

مسألة الصلاة على النبي هل الأفضل فيها سرا أم جهرا

الْمَطْلُوبِ، صَارَ لَهُ مِنْ الْمُشَبَّهِ وَحْدَهُ أَكْثَرُ مِمَّا لِإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ جُمْلَةُ الْمَطْلُوبِ مِثْلَ الْمُشَبَّهِ، وَانْضَافَ إلَى ذَلِكَ مَالَهُ مِنْ الْمُشَبَّهِ بِهِ، فَظَهَرَ بِهَذَا مِنْ فَضْلِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْ النَّبِيِّينَ مَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْلِيمًا كَثِيرًا، وَجَزَاهُ عَنَّا أَفْضَلَ مَا جَزَى رَسُولًا عَنْ أُمَّتِهِ. «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ» . [مَسْأَلَةٌ الصَّلَاة عَلَى النَّبِيِّ هَلْ الْأَفْضَلُ فِيهَا سِرًّا أَمْ جَهْرًا] 169 - 85 مَسْأَلَةٌ: فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ الْأَفْضَلُ فِيهَا سِرًّا أَمْ جَهْرًا؟ وَهَلْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ازْعَجُوا أَعْضَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ» أَمْ لَا؟ وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْجَهْرِ لِيَسْمَعَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ» أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ الْجَوَابُ: أَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فَهُوَ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ، بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يُرْوَى فِي رَفْعِ الصَّوْتِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، مِثْلَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَرْوِيهَا الْبَاعَةُ لِتَنْفِيقِ السِّلَعِ، أَوْ يَرْوِيهَا السُّؤَالُ مِنْ قَصَّاصٍ وَغَيْرِهِمْ لِجَمْعِ النَّاسِ وَجِبَايَتِهِمْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ هِيَ دُعَاءٌ مِنْ الْأَدْعِيَةِ، كَمَا عَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّتَهُ حِينَ قَالُوا: قَدْ عَلِمْنَا السَّلَامَ عَلَيْك، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْك فَقَالَ: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ. وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَالسُّنَّةُ فِي الدُّعَاءِ كُلِّهِ الْمُخَافَتَةُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ سَبَبٌ يُشْرَعُ لَهُ الْجَهْرُ قَالَ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] . وَقَالَ تَعَالَى عَنْ زَكَرِيَّا: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3] .

بَلْ السُّنَّةُ فِي الذِّكْرِ كُلِّهِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الأعراف: 205] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ «أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا مَعَهُ فِي سَفَرٍ. فَجَعَلُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ، وَلَا غَائِبًا، وَإِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ» وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ، مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، فَكُلُّهُمْ يَأْمُرُونَ الْعَبْدَ إذَا دَعَا أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يَدْعُو، لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ الدُّعَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي صَلَاةٍ، كَالصَّلَاةِ التَّامَّةِ، وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، أَوْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ، حَتَّى عَقِيبَ التَّلْبِيَةِ فَإِنَّهُ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ، ثُمَّ عَقِيبَ ذَلِكَ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدْعُو سِرًّا، وَكَذَلِكَ بَيْنَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ إذَا ذَكَرَ اللَّهَ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ وَإِنْ جَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ لَا يَجْهَرُ بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَارِجَ الصَّلَاةِ مِثْلَ أَنْ يَذْكُرَ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَحِبَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ رَفْعَ الصَّوْتِ بِذَلِكَ، فَقَائِلُ ذَلِكَ مُخْطِئٌ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالصَّلَاةِ أَوْ الرِّضَى الَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُؤَذِّنِينَ قُدَّامَ بَعْضِ الْخُطَبَاءِ فِي الْجُمَعِ، فَهَذَا مَكْرُوهٌ أَوْ مُحَرَّمٌ، بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يُصَلِّي عَلَيْهِ سِرًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَسْكُتُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 170 - 86 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ صَلَاتِك شَيْءٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ بَرَكَاتِك شَيْءٌ، وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ رَحْمَتِك شَيْءٌ، وَسَلِّمْ عَلَى

مسألة من قال إن الصلاة على النبي فرض واجب في كل وقت

مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ سَلَامِك شَيْءٌ "؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَيْسَ هَذَا الدُّعَاءُ مَأْثُورًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ صَلَاتِك شَيْءٌ، وَرَحْمَتِك شَيْءٌ - إنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ يَنْفَدَ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ: فَهَذَا جَاهِلٌ. فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْخَيْرِ لَا نَفَادَ لَهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ بِدُعَائِهِ مُعْطِيهِ جَمِيعَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْطَاهُ: فَهَذَا أَيْضًا جَهْلٌ: فَإِنَّ دُعَاءَهُ لَيْسَ هُوَ السَّبَبُ الْمُمَكِّنُ مِنْ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ قَالَ إنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ فَرْضٌ وَاجِبٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ] 171 - 87 مَسْأَلَةٌ: فِي أَقْوَامٍ حَصَلَ بَيْنَهُمْ كَلَامٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا فَرْضٌ وَاجِبٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ. وَمَنْ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ يَأْثَمُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، لِأَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَغَيْرُ فَرْضٍ؛ لَكِنْ مَوْعُودُ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ بِكُلِّ مَرَّةٍ عَشَرَةٌ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا تَجِبُ فِي غَيْرِهَا، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: تَجِبُ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تَجِبُ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي يُذْكَرُ فِيهِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 172 - 88 مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا، وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ عَشْرًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ مِائَةً، وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ مِائَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أَلْفَ مَرَّةٍ، وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ يَبْقَى فِي قَلْبِهِ حَسَرَاتٌ وَلَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ» . إذَا صَلَّى الْعَبْدُ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْعَبْدِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ:

مسألة الصلاة على غير النبي

«مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا» . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي مَجْلِسٍ فَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا فِيهِ عَلَيَّ، إلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَالتِّرَةُ النَّغْصُ وَالْحَسْرَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الصَّلَاة عَلَى غَيْر النَّبِيّ] 173 - 89 مَسْأَلَةٌ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِأَنْ يُقَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى فُلَانٍ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ لِغَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُفْرَدًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَاخْتِيَارِ جَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، وَاخْتِيَارِ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ: كَالْقَاضِي، وَابْنِ عَقِيلٍ، وَالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك. وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا أَعْلَمُ الصَّلَاةَ تَنْبَغِي مِنْ أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ، إلَّا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَهُ لَمَّا ظَهَرَتْ الشِّيعَةُ، وَصَارَتْ تُظْهِرُ الصَّلَاةَ عَلَى عَلِيٍّ دُونَ غَيْرِهِ، فَهَذَا مَكْرُوهٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ: فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْغُلُوِّ وَجُعِلَ ذَلِكَ شِعَارًا لِغَيْرِ الرَّسُولِ، فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الدُّعَاءِ، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ» . وَفِي حَدِيثِ قَبْضِ الرُّوحِ: «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك وَعَلَى جَسَدٍ كُنْت تَعْمُرِينَهُ» .

مسألة هل الدعاء عقيب الفرائض أم السنن أم بعد التشهد

وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي عَلَى غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» وَأَنَّهُ يُصَلِّي عَلَى غَيْرِهِ تَبَعًا لَهُ، كَقَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ الدُّعَاءُ عَقِيبَ الْفَرَائِضِ أَمْ السُّنَنِ أَمْ بَعْدَ التَّشَهُّدِ] 174 - 90 مَسْأَلَةٌ: هَلْ الدُّعَاءُ عَقِيبَ الْفَرَائِضِ، أَمْ السُّنَنِ، أَمْ بَعْدَ التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ؟ الْجَوَابُ: السُّنَّةُ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهَا وَيَأْمُرُ بِهَا أَنْ يَدْعُوَ فِي التَّشَهُّدِ قَبْلَ السَّلَامِ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّهُ أَمَرَ بِهَذَا الدُّعَاءِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ قَبْلَ السَّلَامِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ» وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي. فَقَالَ: قُلْ اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدَك، وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» . وَفِي الصَّحِيحِ أَحَادِيثُ غَيْرُ هَذِهِ، أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَقَبْلَ السَّلَامِ، وَكَانَ يَدْعُو فِي سُجُودِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ يَدْعُو إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، وَكَانَ يَدْعُو فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ عَنْهُ: إنَّهُ كَانَ هُوَ وَالْمَأْمُومُونَ يَدْعُونَ بَعْدَ السَّلَامِ، بَلْ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة العبد إذا دعا يقول يا الله يا رحمن

[مَسْأَلَةٌ الْعَبْدُ إذَا دَعَا يَقُولُ يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ] سُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ قَالَ: إذَا دَعَا الْعَبْدُ لَا يَقُولُ: يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا دَعَا رَبَّهُ يَقُولُ: يَا اللَّهُ، يَا رَحْمَنُ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] . وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ فِي دُعَائِهِ يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: مُحَمَّدٌ يَنْهَانَا أَنْ نَدْعُوَ إلَهَيْنِ، وَهُوَ يَدْعُو إلَهَيْنِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] » . أَيْ الْمَدْعُوُّ إلَهٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ أَسْمَاؤُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] . وَمَنْ أَنْكَرَ أَنْ يُقَالَ: يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ، فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قَوْلُهُ بَعْد السَّلَام عَنْ الْيَمِين أَسألك الْفَوْز بِالْجَنَّةِ] 176 - 92 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ: إذَا سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، أَسْأَلُك الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ. وَعَنْ شِمَالِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَسْأَلُك النَّجَاةَ مِنْ النَّارِ، فَهَلْ هَذَا مَكْرُوهٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى كَرَاهَتِهِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَعَمْ، يُكْرَهُ هَذَا؛ لِأَنَّ هَذَا بِدْعَةٌ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَاثُ دُعَاءٍ فِي الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ، يَفْصِلُ بِأَحَدِهِمَا بَيْنَ التَّسْلِيمَتَيْنِ، وَيَصِلُ التَّسْلِيمَةَ بِالْآخَرِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فَصْلُ الصِّفَةِ الْمَشْرُوعَةِ بِمِثْلِ هَذَا، كَمَا لَوْ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ أَسْأَلُك الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ، رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ أَسْأَلُك النَّجَاةَ مِنْ النَّارِ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 177 - 93 سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ سَمِعَتْ فِي الْحَدِيثِ «اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك

مسألة حديث أمرني رسول الله أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة

نَاصِيَتِي بِيَدِك» إلَى آخِرِهِ فَدَاوَمَتْ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ، فَقِيلَ لَهَا: قَوْلِي: اللَّهُمَّ إنِّي أَمَتُك، بِنْتُ أَمَتِك، إلَى آخِرِهِ. فَأَبَتْ إلَّا الْمُدَاوَمَةَ عَلَى اللَّفْظِ، فَهَلْ هِيَ مُصِيبَةٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: بَلْ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَمَتُك، بِنْتُ عَبْدِك، ابْنُ أَمَتِك، فَهُوَ أَوْلَى وَأَحْسَنُ. وَإِنْ كَانَ قَوْلُهَا: عَبْدُك ابْنُ عَبْدِك لَهُ مَخْرَجٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، كَلَفْظِ الزَّوْجِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ حَدِيثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ أَنْ أَقْرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ] 178 - 94 مَسْأَلَةٌ: فِي حَدِيثِ «عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَقْرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ» وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: جَوْفَ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ» وَعَنْ «مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ، وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبُّك، فَلَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك» فَهَلْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ سُنَّةٌ. أَفْتُونَا وَأَبْسِطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مَأْجُورِينَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الْأَحَادِيثُ الْمَعْرُوفَةُ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْعُو فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْهَا، وَكَانَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا صَلَّى بِالنَّاسِ يَدْعُو بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ هُوَ وَالْمَأْمُومُونَ جَمِيعًا لَا فِي الْفَجْرِ، وَلَا فِي الْعَصْرِ، وَلَا فِي غَيْرِهِمَا مِنْ الصَّلَوَاتِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقْبِلُ أَصْحَابَهُ، وَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيُعَلِّمُهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ عَقِيبَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ.

فَفِي الصَّحِيحِ: «أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ يَسْتَغْفِرُ ثَلَاثًا، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ، تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ» . وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُهَلِّلُ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ، وَلَهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ «ابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ رَفْعَ النَّاسِ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي لَفْظٍ كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاتِهِ بِالتَّكْبِيرِ» . وَالْأَذْكَارُ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُهَا الْمُسْلِمِينَ عَقِيبَ الصَّلَاةِ أَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: «أَنَّهُ يُسَبِّحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيَحْمَدُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ. فَتِلْكَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ وَيَقُولُ تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَالثَّانِي: يَقُولُهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَيَضُمُّ إلَيْهَا «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالثَّالِثُ: يَقُولُ: الثَّلَاثَةَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ كُلَّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ كُلَّ وَاحِدَةٍ إحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً، وَالثَّلَاثُ وَالثَّلَاثُونَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَالْخَامِسُ: يُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ لِيُتِمَّ مِائَةً. وَالسَّادِسُ: يَقُولُ: الثَّلَاثَةَ عَشْرًا عَشْرًا. فَهَذَا هُوَ الَّذِي مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ. فَدُعَاؤُهُ لَهُ، وَمَسْأَلَتُهُ إيَّاهُ، وَهُوَ يُنَاجِيهِ أَوْلَى بِهِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ وَدُعَائِهِ بَعْدَ انْصِرَافِهِ عَنْهُ.

وَأَمَّا الذِّكْرُ بَعْدَ الِانْصِرَافِ، فَكَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - هُوَ مِثْلُ مَسْحِ الْمِرْآةِ بَعْدَ صِقَالِهَا، فَإِنَّ الصَّلَاةَ نُورٌ، فَهِيَ تَصْقُلُ الْقَلْبَ كَمَا تُصْقَلُ الْمِرْآةُ، ثُمَّ الذِّكْرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَسْحِ الْمِرْآةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] قِيلَ: إذَا فَرَغْت مِنْ أَشْغَالِ الدُّنْيَا فَانْصَبْ فِي الْعِبَادَةِ، وَإِلَى رَبِّك فَارْغَبْ. وَهَذَا أَشْهَرُ الْقَوْلَيْنِ. وَخَرَجَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْحَاكَةِ يَوْمَ عِيدٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فَقَالَ: مَا لَكُمْ تَلْعَبُونَ؟ قَالُوا: إنَّا تَفَرَّغْنَا. قَالَ: أَوَ بِهَذَا أَمْرُ الْفَارِغِ؟ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] . وَيُنَاسِبُ هَذَا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] إلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} [المزمل: 6] {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا} [المزمل: 7] أَيْ ذَهَابًا وَمَجِيئًا، وَبِاللَّيْلِ تَكُونُ فَارِغًا. وَنَاشِئَةُ اللَّيْلِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ: إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ النَّوْمِ، يُقَالُ نَشَأَ إذَا قَامَ بَعْدَ النَّوْمِ؛ فَإِذَا قَامَ بَعْدَ النَّوْمِ كَانَتْ مُوَاطَأَةُ قَلْبِهِ لِلِسَانِهِ أَشَدَّ لِعَدَمِ مَا يَشْغَلُ الْقَلْبَ، وَزَوَالِ أَثَرِ حَرَكَةِ النَّهَارِ بِالنَّوْمِ، وَكَانَ قَوْلُهُ أَقَوْمُ. وَقَدْ قِيلَ: إذَا فَرَغْت مِنْ الصَّلَاةِ فَانْصَبْ فِي الدُّعَاءِ {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] . وَهَذَا الْقَوْلُ سَوَاءٌ كَانَ صَحِيحًا أَوْ لَمْ يَكُنْ. فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الدُّعَاءَ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، لَا سِيَّمَا وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْمَأْمُورُ بِهَذَا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَمْتَثِلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ. وَدُعَاؤُهُ فِي الصَّلَاةِ الْمَنْقُولُ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا إنَّمَا كَانَ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَقَدْ قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الصَّحِيحِ لَمَّا ذَكَرَ التَّشَهُّدَ قَالَ: «ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إلَيْهِ» وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ وَغَيْرُهَا دُعَاءَهُ فِي صَلَاتِهِ بِاللَّيْلِ، وَأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ.

فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إذَا فَرَغْت مِنْ الصَّلَاةِ فَانْصَبْ فِي الدُّعَاءِ، يُشْبِهُ قَوْلَ مَنْ قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا ذَكَرَ التَّشَهُّدَ، فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ فَقَدْ قَضَيْت صَلَاتَك، فَإِنْ شِئْت أَنْ تَقُومَ فَقُمْ، وَإِنْ شِئْت أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ مِنْ كَلَامِ مَنْ أَدْرَجَهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. فَفِيهَا أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ جَعَلَ ذَلِكَ قَضَاءً لِلصَّلَاةِ، فَهَكَذَا جَعَلَهُ هَذَا الْمُفَسِّرُ فَرَاغًا مِنْ الصَّلَاةِ، مَعَ أَنَّ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7] أَيْ فَرَغْت مِنْ الصَّلَاةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: إذَا فَرَغْت مُطْلَقٌ وَلِأَنَّ الْفَارِغَ إنْ أُرِيدَ بِهِ الْفَارِغُ مِنْ الْعِبَادَةِ، فَالدُّعَاءُ أَيْضًا عِبَادَةٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْفَرَاغُ مِنْ أَشْغَالِ الدُّنْيَا بِالصَّلَاةِ، فَلَيْسَ كَذَلِكَ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الصَّلَاةَ يُدْعَى فِيهَا، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو فِيهَا، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» . وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ. أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُك، ظَلَمْت نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي. فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، فَإِنَّهُ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا فَإِنَّهُ لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ» . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، وَثَبَتَ عَنْهُ الدُّعَاءُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي النَّفْلِ أَوْ فِي الْفَرْضِ وَتَوَاتَرَ عَنْهُ الدُّعَاءُ آخِرَ الصَّلَاةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي فَقَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِك، وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» فَإِذَا كَانَ الدُّعَاءُ مَشْرُوعًا فِي الصَّلَاةِ لَا سِيَّمَا فِي آخِرِهَا، فَكَيْفَ يَقُولُ: إذَا فَرَغْت مِنْ الصَّلَاةِ فَانْصَبْ فِي الدُّعَاءِ، وَاَلَّذِي فَرَغَ مِنْهُ هُوَ نَظِيرُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، فَهُوَ فِي الصَّلَاةِ كَانَ نَاصِبًا فِي الدُّعَاءِ، لَا فَارِغًا. ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَقُلْ مُسْلِمٌ إنَّ الدُّعَاءَ بَعْدَ

الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ يَكُونُ أَوْكَدَ وَأَقْوَى مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ: فَانْصَبْ فِي الدُّعَاءِ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى قَوْلِهِ: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الدُّعَاءَ إنَّمَا يَكُونُ لِلَّهِ. فَعُلِمَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِشَيْئَيْنِ: أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْعِبَادَةِ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ أَشْغَالِهِ، وَأَنْ تَكُونَ رَغْبَتُهُ إلَى رَبِّهِ لَا إلَى غَيْرِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فَقَوْلُهُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] ، مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ {فَانْصَبْ} [الشرح: 7] . وَقَوْلُهُ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] وَقَوْلُهُ: {هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30] . وَقَوْلُ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] وَمِنْهُ الَّذِي يُرْوَى عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَوْجَهِ مَنْ تَوَجَّهَ إلَيْك، وَأَقْرَبَ مَنْ تَقَرَّبَ إلَيْك، وَأَفْضَلَ مَنْ سَأَلَك وَرَغِبَ إلَيْك» ، وَالْأَثَرُ الْآخَرُ وَإِلَيْك الرَّغْبَاءُ وَالْعَمَلُ، وَذَلِكَ أَنَّ دُعَاءَ اللَّهِ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ نَوْعَانِ: دُعَاءُ عِبَادَةٍ، وَدُعَاءُ مَسْأَلَةٍ وَرَغْبَةٍ، فَقَوْلُهُ: {فَانْصَبْ} [الشرح: 7] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] يَجْمَعُ نَوْعَيْ دُعَاءِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون: 117] الْآيَةَ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا لَفْظُ دُبُرَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ يُرَادُ بِهِ آخِرَ جُزْءٍ مِنْهُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يَلِي آخِرَ جُزْءٍ مِنْهُ. كَمَا فِي دُبُرِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ آخِرُ جُزْءٍ مِنْهُ، وَمِثْلُهُ لَفْظُ " الْعَقِبِ " قَدْ يُرَادُ بِهِ الْجُزْءُ الْمُؤَخَّرُ مِنْ الشَّيْءِ، كَعَقِبِ الْإِنْسَانِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يَلِي ذَلِكَ. فَالدُّعَاءُ الْمَذْكُورُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ آخِرُ جُزْءٍ مِنْهَا لِيُوَافِقَ بَقِيَّةَ الْأَحَادِيثِ، أَوْ يُرَادَ بِهِ مَا يَلِي آخِرَهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ كَمَا سُمِّيَ ذَلِكَ قَضَاءً لِلصَّلَاةِ وَفَرَاغًا مِنْهَا حَيْثُ لَمْ يَبْقَ إلَّا السَّلَامُ الْمُنَافِي لِلصَّلَاةِ؛ بِحَيْثُ لَوْ فَعَلَهُ عَمْدًا فِي الصَّلَاةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَا تَبْطُلُ سَائِرُ الْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ يَكُونُ مُطْلَقًا أَوْ مُجْمَلًا. وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَا يَجُوزُ

أَنْ يُخَصَّ بِهِ مَا بَعْدَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرَعَ سُنَّةً بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ يُخَالِفُ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ بِالْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ. وَالنَّاسُ لَهُمْ فِي هَذِهِ فِيمَا بَعْدَ السَّلَامِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى قُعُودَ الْإِمَامِ مُسْتَقْبِلَ الْمَأْمُومِ لَا بِذِكْرٍ وَلَا دُعَاءٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، وَحُجَّتُهُمْ مَا يُرْوَى عَنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَدِيمَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ بَعْدَ السَّلَامِ، فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ قِيَامَهُ مِنْ مَكَانِهِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ انْصِرَافَهُ مُسْتَقْبِلَ الْمَأْمُومِينَ بِوَجْهِهِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ وَهَذَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَفْعَلُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى دُعَاءَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ بَعْدَ السَّلَامِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى ذَلِكَ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ مَعَ هَؤُلَاءِ بِذَلِكَ سُنَّةٌ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُمْ التَّمَسُّكُ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ، أَوْ بِقِيَاسٍ، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ مَا بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ لَيْسَ بِوَقْتِ صَلَاةٍ، فَيُسْتَحَبُّ فِيهِ الدُّعَاءُ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَا تَقَدَّمَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتَةُ الصَّحِيحَةُ، بَلْ الْمُتَوَاتِرَةُ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُجْمَلٍ، وَلَا إلَى قِيَاسٍ. وَأَمَّا قَوْلُ «عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَقْرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ» فَهَذَا بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ، وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ» فَهَذَا يَجِبُ أَنْ لَا يَخُصَّ مَا بَعْدَ السَّلَامِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَلَ مَا قَبْلَ السَّلَامِ. وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ يَعُمُّ مَا قَبْلَ السَّلَامِ وَمَا بَعْدَهُ، لَكِنْ ذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ جَمِيعًا بَعْدَ السَّلَامِ سُنَّةً، كَمَا لَا يَلْزَمُ مِثْلُ ذَلِكَ قَبْلَ السَّلَامِ، بَلْ إذَا دَعَا كُلُّ وَاحِدٍ وَحْدَهُ بَعْدَ السَّلَامِ، فَهَذَا لَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: «لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك، وَشُكْرِك، وَحُسْنِ عِبَادَتِك» يَتَنَاوَلُ مَا قَبْلَ السَّلَامِ. وَيَتَنَاوَلُ مَا بَعْدَهُ أَيْضًا

كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي إمَامًا بِقَوْمِهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي إمَامًا، وَقَدْ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ مُعَلِّمًا لَهُمْ، فَلَوْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ مُجْتَمِعَيْنِ عَلَى ذَلِكَ، كَدُعَاءِ الْقُنُوتِ لَكَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك، فَلَمَّا ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ ذَلِكَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ «الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ، يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، قَالَ: فَسَمِعْته يَقُولُ: رَبِّ قِنِي عَذَابَك يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَك، أَوْ يَوْمَ تَجْمَعُ عِبَادَك» فَهَذَا فِيهِ دُعَاؤُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ، كَمَا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَكِلَاهُمَا إمَامٌ. وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقْبِلُ الْمَأْمُومِينَ، وَأَنَّهُ لَا يَدْعُو بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَقَدْ ذَكَرَ حَدِيثَ مُعَاذٍ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي الْأَحْكَامِ: فِي الْأَدْعِيَةِ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ السَّلَامِ، مُوَافَقَةً لِسَائِرِ الْأَحَادِيثِ، كَمَا فِي مُسْلِمٍ، وَالسُّنَنِ الثَّلَاثَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «إذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» . فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّم، وَأَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» . وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَجُلٍ: مَا تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: أَتَشَهَّدُ، ثُمَّ أَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ النَّارِ، أَمَا وَاَللَّهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَك، وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَوْلَهُمَا نُدَنْدِنُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ دَنْدَنَتَهُمَا أَيْضًا بَعْدَ التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ، لِيَكُونَ نَظِيرَ مَا قَالَهُ. وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُك شُكْرَ نِعْمَتِك، وَحُسْنَ عِبَادَتِك، وَأَسْأَلُك قَلْبًا سَلِيمًا،

وَلِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُك مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُك لِمَا تَعْلَمُ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْمَغْرَمِ وَالْمَأْتَمِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ الْمَغْرَمِ، قَالَ: إنَّ الرَّجُلَ إذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ» . قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَحْكَامِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ. يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ، كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَّهُ يُقَالُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ: وَقَدْ رُوِيَ فِي لَفْظِ الدُّبُرِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَةَ، وَيَقُولُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبُرَ الصَّلَاةِ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْبُخْلِ، وَأَعُوذ بِك مِنْ الْجُبْنِ، وَأَعُوذ بِك أَنْ أُرَدَّ إلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» . وَفِي النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْكُفْرِ، وَالْفَقْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ» . وَفِي النَّسَائِيّ أَيْضًا عَنْ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنْ الْيَهُودِ. فَقَالَتْ: إنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ مِنْ الْبَوْلِ، فَقُلْت: كَذَبْت فَقَالَتْ: بَلَى، إنَّا لَنَقْرِضُ مِنْهُ الْجُلُودَ وَالثَّوْبَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الصَّلَاةِ وَقَدْ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا، فَقَالَ: مَا هَذَا فَأَخْبَرْته بِمَا قَالَتْ، قَالَ: صَدَقَتْ» فَمَا صَلَّى

مسألة قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة في جماعة

بَعْدَ يَوْمَئِذٍ، إلَّا قَالَ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ: «اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ أَجِرْنِي مِنْ حَرِّ النَّارِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ» . قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي " الْأَحْكَامِ ": وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِدُبُرِ الصَّلَاةِ فِي الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ قَبْلَ السَّلَامِ تَوْفِيقًا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. قُلْت: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ، فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ، فَقَالَتْ لَهَا: أَعَاذَك اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَقَالَ: نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدُ صَلَّى صَلَاةً إلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ يُوَافِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَتُبَيِّنُ مَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قِرَاءَةُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ فِي جَمَاعَةٍ] 179 - 95 مَسْأَلَةٌ: فِي قِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ فِي جَمَاعَةٍ، هَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ أَمْ لَا؟ وَمَا كَانَ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ؟ وَقَوْلُهُ: " دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ "؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَدْ رُوِيَ فِي قِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ عَقِيبَ الصَّلَاةِ حَدِيثٌ، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ وَخُلَفَاؤُهُ يَجْهَرُونَ بَعْدَ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَلَا غَيْرِهَا مِنْ الْقُرْآنِ، فَجَهْرُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ بِذَلِكَ، وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ بِلَا رَيْبٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ إحْدَاثُ شِعَارٍ، بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَحْدُثَ آخِرَ جَهْرِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ دَائِمًا، أَوْ خَوَاتِيمِ الْبَقَرَةِ، أَوْ أَوَّلِ الْحَدِيدِ، أَوْ آخِرِ الْحَشْرِ، أَوْ بِمَنْزِلَةِ اجْتِمَاعِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ دَائِمًا عَلَى صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ عَقِيبَ الْفَرِيضَةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا رَيْبَ أَنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ. وَأَمَّا إذَا قَرَأَ الْإِمَامُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي نَفْسِهِ، أَوْ قَرَأَهَا أَحَدُ الْمَأْمُومِينَ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ إذْ قِرَاءَتُهَا عَمَلٌ صَالِحٌ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِشَعَائِرِ الْإِسْلَامِ. كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ وِرْدٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَالدُّعَاءُ وَالذِّكْرُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ.

مسألة الابتداع في الأذكار

وَأَمَّا الَّذِي ثَبَتَ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الذِّكْرِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ، فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ، وَلَهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ سَبَّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَحَمِدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . وَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ يَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَيَزِيدُ فِيهَا التَّهْلِيلَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ عَشْرٌ، وَيُرْوَى أَحَدَ عَشَرَ مَرَّةً، وَرُوِيَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ، كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْت أَعْلَمُ إذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إذَا سَمِعْتُهُ، وَفِي لَفْظٍ: مَا كُنْت أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ إلَّا بِالتَّكْبِيرِ» . فَهَذِهِ هِيَ الْأَذْكَارُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ فِي أَدْبَارِ الصَّلَاةِ. [مَسْأَلَةٌ الِابْتِدَاع فِي الْأَذْكَار] 180 - 96 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ يَقُولُ: أَنَا أَعْتَقِدُ أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ شَيْئًا مِنْ الْأَذْكَارِ غَيْرَ مَا شَرَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَدْ أَسَاءَ وَأَخْطَأَ، إذْ لَوْ ارْتَضَى أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ نَبِيَّهُ وَإِمَامَهُ وَدَلِيلَهُ لَاكْتَفَى بِمَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ الْأَذْكَارِ، فَعُدُولُهُ إلَى رَأْيِهِ وَاخْتِرَاعِهِ جَهْلٌ، وَتَزْيِينٌ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَخِلَافٌ لِلسُّنَّةِ إذْ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتْرُكْ خَيْرًا إلَّا دَلَّنَا عَلَيْهِ وَشَرَعَهُ لَنَا، وَلَمْ يَدَّخِرْ اللَّهُ عَنْهُ خَيْرًا؛ بِدَلِيلِ إعْطَائِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ إذْ هُوَ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ فَهَلْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَا رَيْبَ أَنَّ الْأَذْكَارَ وَالدَّعَوَاتِ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ،

مسألة الدعاء عقيب الصلاة

وَالْعِبَادَاتُ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوْقِيفِ، وَالِاتِّبَاعِ، لَا عَلَى الْهَوَى وَالِابْتِدَاعِ، فَالْأَدْعِيَةُ وَالْأَذْكَارُ النَّبَوِيَّةُ هِيَ أَفْضَلُ مَا يَتَحَرَّاهُ الْمُتَحَرِّي مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَسَالِكُهَا عَلَى سَبِيلِ أَمَانٍ وَسَلَامَةٍ، وَالْفَوَائِدُ وَالنَّتَائِجُ الَّتِي تَحْصُلُ لَا يُعَبِّرُ عَنْهُ لِسَانٌ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ إنْسَانٌ، وَمَا سِوَاهَا مِنْ الْأَذْكَارِ قَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا، وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ شِرْكٌ مِمَّا لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ يَطُولُ تَفْصِيلُهَا. وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسُنَّ لِلنَّاسِ نَوْعًا مِنْ الْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ غَيْرَ الْمَسْنُونِ وَيَجْعَلَهَا عِبَادَةً رَاتِبَةً يُوَاظِبُ النَّاسُ عَلَيْهَا كَمَا يُوَاظِبُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؛ بَلْ هَذَا ابْتِدَاعُ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهِ؛ بِخِلَافِ مَا يَدْعُو بِهِ الْمَرْءُ أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَهُ لِلنَّاسِ سُنَّةً، فَهَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنًى مُحَرَّمًا لَمْ يَجُزْ الْجَزْمُ بِتَحْرِيمِهِ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ ذَلِكَ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَشْعُرُ بِهِ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ يَدْعُو بِأَدْعِيَةٍ تُفْتَحُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ قَرِيبٌ. وَأَمَّا اتِّخَاذُ وِرْدٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ، وَاسْتِنَانُ ذِكْرٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ: فَهَذَا مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ، وَمَعَ هَذَا فَفِي الْأَدْعِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَذْكَارِ الشَّرْعِيَّةِ غَايَةُ الْمَطَالِبِ الصَّحِيحَةِ، وَنِهَايَةُ الْمَقَاصِدِ الْعَلِيَّةِ، وَلَا يَعْدِلُ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَذْكَارِ الْمُحْدَثَةِ الْمُبْتَدَعَةِ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُفَرِّطٌ أَوْ مُتَعَدٍّ. [مَسْأَلَةٌ الدُّعَاء عَقِيبَ الصَّلَاةِ] 181 - 97 مَسْأَلَةٌ: فِي الدُّعَاءِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَمْ لَا؟ وَمَنْ أَنْكَرَ عَلَى إمَامٍ لَمْ يَدْعُ عَقِيبَ صَلَاةِ الْعَصْرِ هَلْ هُوَ مُصِيبٌ أَمْ مُخْطِئٌ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو هُوَ وَالْمَأْمُومُونَ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ عَقِيبَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ؛ وَلَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَمَنْ نَقَلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ الْمَوْجُودُ فِي كُتُبِهِ يُنَافِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَمْ يَسْتَحِبُّوا ذَلِكَ. وَلَكِنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا اسْتَحَبُّوا الدُّعَاءَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ. قَالُوا: لِأَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ لَا صَلَاةَ بَعْدَهُمَا، فَتُعَوَّضُ بِالدُّعَاءِ عَنْ الصَّلَاةِ.

وَاسْتَحَبَّ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ الدُّعَاءَ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ، لَا أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ، فِي هَذَا الْمَوْطِنِ، وَالْمُنْكِرُ عَلَى التَّارِكِ أَحَقُّ بِالْإِنْكَارِ مِنْهُ؛ بَلْ الْفَاعِلُ أَحَقُّ بِالْإِنْكَارِ، فَإِنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُدَاوِمُ عَلَيْهِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَيْسَ مَشْرُوعًا؛ بَلْ مَكْرُوهٌ، كَمَا لَوْ دَاوَمَ عَلَى الدُّعَاءِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَوَاتِ، أَوْ دَاوَمَ عَلَى الْقُنُوتِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، أَوْ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، أَوْ دَاوَمَ عَلَى الْجَهْرِ بِالِاسْتِفْتَاحِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَانَ الْقُنُوتُ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْيَانًا، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَجْهَرُ بِالِاسْتِفْتَاحِ أَحْيَانًا، وَجَهَرَ رَجُلٌ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَحْوِ ذَلِكَ، فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ كُلُّ مَا يُشْرَعُ فِعْلُهُ أَحْيَانًا تُشْرَعُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ. وَلَوْ دَعَا الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ أَحْيَانًا عَقِيبَ الصَّلَاةِ لِأَمْرٍ عَارِضٍ لَمْ يُعَدَّ هَذَا مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ، كَاَلَّذِي يُدَاوِمُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْعُو دُبُرَ الصَّلَاةِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ. كَمَا قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ، وَذَكَرْنَا مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَمَا يُظَنُّ أَنَّ فِيهِ حُجَّةً لِلْمُنَازِعِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَإِذَا سَلَّمَ انْصَرَفَ عَنْ مُنَاجَاتِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُؤَالَ السَّائِلِ لِرَبِّهِ حَالَ مُنَاجَاتِهِ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ، دُونَ سُؤَالِهِ بَعْدَ انْصِرَافِهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ كَانَ يُخَاطِبُ مَلِكًا أَوْ غَيْرَهُ فَإِنَّ سُؤَالَهُ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَى مُخَاطَبَتِهِ، أَوْلَى مِنْ سُؤَالِهِ لَهُ بَعْدَ انْصِرَافِهِ. 182 - 98 مَسْأَلَةٌ: فِي هَذَا الَّذِي يَفْعَلُهُ النَّاسُ بَعْدَ كُلِّ صَلَاةٍ مِنْ الدُّعَاءِ: هَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ؟ وَهَلْ وَرَدَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ فِعْلُ ذَلِكَ؟ وَيَتْرُكُونَ أَيْضًا الذِّكْرَ الَّذِي صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُهُ، وَيَشْتَغِلُونَ بِالدُّعَاءِ؟ فَهَلْ [الْأَفْضَلُ] الِاشْتِغَالُ بِالذِّكْرِ الْوَارِدِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ هَذَا الدُّعَاءِ؟ وَهَلْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَمْسَحُ وَجْهَهُ أَمْ لَا؟ .

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الَّذِي نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ إنَّمَا هُوَ الذِّكْرُ الْمَعْرُوفُ. كَالْأَذْكَارِ الَّتِي فِي الصِّحَاحِ، وَكُتُبِ السُّنَنِ وَالْمَسَانِدِ، وَغَيْرِهَا، مِثْلَ مَا فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنْ الصَّلَاةِ يَسْتَغْفِرُ ثَلَاثًا، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» . وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ» . وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ كَانَ يُهَلِّلُ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فِي دُبُرِ الْمَكْتُوبَةِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ، وَلَهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» . وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ عَقِيبَ انْصِرَافِ النَّاسِ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ» ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ سَبَّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَتِلْكَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّهُ يَقُولُ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ» . وَفِي السُّنَن أَنْوَاعٌ أُخَرُ. وَالْمَأْثُورُ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَقُولُ: هَذِهِ الْكَلِمَاتُ عَشْرًا عَشْرًا: فَالْمَجْمُوعُ ثَلَاثُونَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: كُلُّ وَاحِدَةٍ إحْدَى عَشْرَةَ، فَالْمَجْمُوعُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ: كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَالْمَجْمُوعُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَخْتِمَ ذَلِكَ بِالتَّوْحِيدِ التَّامِّ، فَالْمَجْمُوعُ مِائَةٌ. وَالسَّادِسُ: أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، فَالْمَجْمُوعُ مِائَةٌ.

وَأَمَّا قِرَاءَةُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ فَقَدْ رُوِيَتْ بِإِسْنَادٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ سُنَّةٌ. وَأَمَّا دُعَاءُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ جَمِيعًا عَقِيبَ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ نُقِلَ عَنْهُ «أَنَّهُ أَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَقُولَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك» وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَلَفْظُ دُبُرَ الصَّلَاةِ قَدْ يُرَادُ بِهِ آخِرَ جُزْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ. كَمَا يُرَادُ بِدُبُرِ الشَّيْءِ مُؤَخِّرُهُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا بَعْدَ انْقِضَائِهَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40] وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ، وَبَعْضُ الْأَحَادِيثِ يُفَسِّرُ بَعْضًا لِمَنْ تَتَبَّعَ ذَلِكَ وَتَدَبَّرَهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهُنَا شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: دُعَاءُ الْمُصَلِّي الْمُنْفَرِدِ، كَدُعَاءِ الْمُصَلِّي صَلَاةَ الِاسْتِخَارَةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ، وَدُعَاءُ الْمُصَلِّي وَحْدَهُ، إمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا. وَالثَّانِي: دُعَاءُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ جَمِيعًا، فَهَذَا الثَّانِي لَا رَيْبَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْهُ فِي أَعْقَابِ الْمَكْتُوبَاتِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ الْأَذْكَارَ الْمَأْثُورَةَ عَنْهُ، إذْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَنَقَلَهُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ التَّابِعُونَ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ، كَمَا نَقَلُوا مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ: مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ عَقِيبَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا، وَإِنَّمَا احْتَجُّوا بِكَوْنِ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ لَا صَلَاةَ بَعْدَهُمَا. وَمِنْهُمْ: مَنْ اسْتَحَبَّهُ أَدْبَارَ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا، وَقَالَ: لَا يُجْهَرُ بِهِ، إلَّا إذَا قُصِدَ التَّعْلِيمُ. كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَغَيْرُهُمْ وَلَيْسَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ، إلَّا مُجَرَّدَ كَوْنِ الدُّعَاءِ مَشْرُوعًا، وَهُوَ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ قَدْ اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ فِي صُلْبِ الصَّلَاةِ، فَالدُّعَاءُ فِي آخِرِهَا قَبْلَ الْخُرُوجِ مَشْرُوعٌ مَسْنُونٌ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَبِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ قَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّ الدُّعَاءَ فِي آخِرِهَا وَاجِبٌ، وَأَوْجَبُوا الدُّعَاءَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخِرَ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: «إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَغَيْرُهُ، وَكَانَ طَاوُسٌ يَأْمُرُ مَنْ لَمْ يَدْعُ بِهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ

مسألة الطمأنينة في الصلاة

أَحْمَدَ، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إلَيْهِ» وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو فِي هَذَا الْمَوْطِنِ، وَالْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَالْمُنَاسَبَةُ الِاعْتِبَارِيَّةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَمَا دَامَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَنْصَرِفْ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَالدُّعَاءُ حِينَئِذٍ مُنَاسِبٌ لِحَالِهِ، أَمَّا إذَا انْصَرَفَ إلَى النَّاسِ مِنْ مُنَاجَاةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مَوْطِنَ مُنَاجَاةٍ لَهُ، وَدُعَاءٍ. وَإِنَّمَا هُوَ مَوْطِنُ ذِكْرٍ لَهُ، وَثَنَاءٍ عَلَيْهِ، فَالْمُنَاجَاةُ وَالدُّعَاءُ حِينَ الْإِقْبَالِ وَالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ. أَمَّا حَالَ الِانْصِرَافِ مِنْ ذَلِكَ فَالثَّنَاءُ وَالذِّكْرُ أَوْلَى. وَكَمَا أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ اسْتَحَبَّ عَقِبَ الصَّلَاةِ مِنْ الدُّعَاءِ مَا لَمْ تَرِدْ بِهِ السُّنَّةُ: فَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ تُقَابِلُ هَذِهِ لَا يَسْتَحِبُّونَ الْقُعُودَ الْمَشْرُوعَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَلَا يَسْتَعْمِلُونَ الذِّكْرَ الْمَأْثُورَ، بَلْ قَدْ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ، وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ، فَهَؤُلَاءِ مُفَرِّطُونَ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمَشْرُوعِ، وَأُولَئِكَ مُجَاوِزُونَ الْأَمْرَ بِغَيْرِ الْمَشْرُوعِ، وَالدِّينُ إنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَشْرُوعِ دُونَ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ. وَأَمَّا رَفْعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ: فَقَدْ جَاءَ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ، وَأَمَّا مَسْحُهُ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ فَلَيْسَ عَنْهُ فِيهِ إلَّا حَدِيثٌ، أَوْ حَدِيثَانِ، لَا يَقُومُ بِهِمَا حُجَّةٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الطُّمَأْنِينَةُ فِي الصَّلَاةِ] 183 - 99 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَا يَطْمَئِنُّ فِي صَلَاتِهِ؟ الْجَوَابُ: الطُّمَأْنِينَةُ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبَةٌ، وَتَارِكُهَا مُسِيءٌ، بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ بَلْ جُمْهُورِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ: كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي يُوسُفَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ، لَا يُخَالِفُونَ فِي أَنَّ تَارِكَ ذَلِكَ مُسِيءٌ غَيْرُ مُحْسِنٍ، بَلْ هُوَ آثِمٌ عَاصٍ، تَارِكٌ لِلْوَاجِبِ. وَغَيْرُهُمْ يُوجِبُونَ الْإِعَادَةَ عَلَى مَنْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ. وَدَلِيلُ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ رَجُلًا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

مسألة الوسواس في الصلاة

فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - فَقَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ، مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا. فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي فِي صَلَاتِي، فَقَالَ: إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِك كُلِّهَا» فَهَذَا كَانَ رَجُلًا جَاهِلًا، وَمَعَ هَذَا فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ، فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ، فَقَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالْإِعَادَةِ. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ رَجُلٍ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» . يَعْنِي يُقِيمُ صُلْبَهُ: إذَا رَفَعَ مِنْ الرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ مِنْ السُّجُودِ. وَفِي الصَّحِيحِ: " أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى رَجُلًا لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَقَالَ: مُنْذُ كَمْ تُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: أَمَا إنَّك لَوْ مِتّ لَمُتّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". وَقَدْ رَوَى هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَأَنَّهُ قَالَ لِمَنْ نَقَرَ فِي الصَّلَاةِ: أَمَا إنَّك لَوْ مِتّ عَلَى هَذَا مِتّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» أَوْ نَحْوَ هَذَا. وَقَالَ: «مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي وَلَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ، مَثَلُ الَّذِي يَأْكُلُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، فَمَا تُغْنِي عَنْهُ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا» وَقَدْ كَتَبْنَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ هُنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْوَسْوَاسُ فِي الصَّلَاةِ] 184 - 100 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ يَحْصُلُ لَهُ الْحُضُورُ فِي الصَّلَاةِ تَارَةً، وَيَحْصُلُ لَهُ الْوَسْوَاسُ تَارَةً، فَمَا الَّذِي يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى دَوَامِ الْحُضُورِ فِي الصَّلَاةِ؟ وَهَلْ تَكُونُ تِلْكَ الْوَسَاوِسُ مُبْطِلَةً لِلصَّلَاةِ؟ أَوْ مُنْقِصَةً لَهَا أَمْ لَا؟ وَفِي قَوْلِ عُمَرَ: إنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ. هَلْ كَانَ ذَلِكَ يَشْغَلُهُ عَنْ حَالِهِ فِي جَمْعِيَّتِهِ أَوْ لَا؟

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الْوَسْوَاسُ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ إذَا كَانَ قَلِيلًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، بَلْ يُنْقِصُ الْأَجْرَ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْت مِنْهَا. وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ، وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا، إلَّا ثُلُثُهَا، إلَّا رُبُعُهَا، إلَّا خُمُسُهَا، إلَّا سُدُسُهَا، إلَّا سُبُعُهَا، إلَّا ثُمُنُهَا، إلَّا تُسْعُهَا، إلَّا عُشْرُهَا» . وَيُقَالُ: إنَّ النَّوَافِلَ شُرِعَتْ لِجَبْرِ النَّقْصِ الْحَاصِلِ فِي الْفَرَائِضِ، كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ الصَّلَاةُ، فَإِنْ أَكْمَلَهَا، وَإِلَّا قِيلَ: اُنْظُرُوا هَلْ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَتْ بِهِ الْفَرِيضَةُ، ثُمَّ يُصْنَعُ بِسَائِرِ أَعْمَالِهِ» . وَهَذَا الْإِكْمَالُ يَتَنَاوَلُ مَا نَقَصَ مُطْلَقًا. وَأَمَّا الْوَسْوَاسُ الَّذِي يَكُونُ غَالِبًا عَلَى الصَّلَاةِ فَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ - مِنْهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ - وَغَيْرُهُمَا: إنَّهُ يُوجِبُ الْإِعَادَةَ أَيْضًا، لِمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قَضَى التَّأْذِينَ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، فَإِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، فَيَقُولُ: اُذْكُرْ كَذَا، اُذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرْ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ» . وَقَدْ «صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الصَّلَاةُ مَعَ الْوَسْوَاسِ مُطْلَقًا» . وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْوَسْوَاسَ كُلَّمَا قَلَّ فِي الصَّلَاةِ كَانَ أَكْمَلَ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُحَدِّثْ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِوَجْهِهِ، وَقَلْبِهِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَمَا زَالَ فِي الْمُصَلِّينَ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ، كَمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فِي ثَلَاثِ خِصَالٍ، لَوْ كُنْت فِي سَائِرِ أَحْوَالِي أَكُونُ فِيهِنَّ: كُنْت أَنَا أَنَا؛ إذَا كُنْت فِي الصَّلَاةِ لَا أُحَدِّثُ نَفْسِي بِغَيْرِ مَا أَنَا فِيهِ، وَإِذَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثًا لَا يَقَعُ

فِي قَلْبِي رَيْبٌ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَإِذَا كُنْت فِي جِنَازَةٍ لَمْ أُحَدِّثْ نَفْسِي بِغَيْرِ مَا تَقُولُ، وَيُقَالُ لَهَا. وَكَانَ مَسْلَمَةُ بْنُ بَشَّارٍ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَانْهَدَمَ طَائِفَةٌ مِنْهُ وَقَامَ النَّاسُ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَشْعُرْ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَسْجُدُ، فَأَتَى الْمَنْجَنِيقُ فَأَخَذَ طَائِفَةً مِنْ ثَوْبِهِ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ. وَقَالُوا لِعَامِرِ بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ: أَتُحَدِّثُ نَفْسَك بِشَيْءٍ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: أَوَ شَيْءٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ أُحَدِّثُ بِهِ نَفْسِي؟ قَالُوا: إنَّا لَنُحَدِّثُ أَنْفُسَنَا فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: أَبِالْجَنَّةِ وَالْحُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: لَا، وَلَكِنْ بِأَهْلِينَا وَأَمْوَالِنَا، فَقَالَ: لَأَنْ تَخْتَلِفَ الْأَسِنَّةُ فِي أَحَبُّ إلَيَّ وَأَمْثَالُ هَذَا مُتَعَدِّدٌ. وَاَلَّذِي يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئَانِ: قُوَّةُ الْمُقْتَضِي، وَضَعْفُ الشَّاغِلِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَاجْتِهَادُ الْعَبْدِ فِي أَنْ يَعْقِلَ مَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلَهُ، وَيَتَدَبَّرَ الْقِرَاءَةَ وَالذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ، وَيَسْتَحْضِرَ أَنَّهُ مُنَاجٍ لِلَّهِ تَعَالَى، كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا كَانَ قَائِمًا فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ. وَالْإِحْسَانُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك، ثُمَّ كُلَّمَا ذَاقَ الْعَبْدُ حَلَاوَةَ الصَّلَاةِ كَانَ انْجِذَابُهُ إلَيْهَا أَوْكَدَ، وَهَذَا يَكُونُ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ. وَالْأَسْبَابُ الْمُقَوِّيَةُ لِلْإِيمَانِ كَثِيرَةٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ: النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ قَالَ: «أَرِحْنَا يَا بِلَالُ بِالصَّلَاةِ» وَلَمْ يَقُلْ: أَرِحْنَا مِنْهَا. وَفِي أَثَرٍ آخَرَ «لَيْسَ بِمُسْتَكْمِلٍ لِلْإِيمَانِ مَنْ لَمْ يَزَلْ مَهْمُومًا حَتَّى يَقُومَ إلَى الصَّلَاةِ» أَوْ كَلَامٍ يُقَارِبُ هَذَا. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. فَإِنَّ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَخَشْيَتِهِ، وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ، وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَالتَّصْدِيقِ بِأَخْبَارِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا يَتَبَايَنُ النَّاسُ فِيهِ، وَيَتَفَاضَلُونَ تَفَاضُلًا عَظِيمًا، وَيُقَوِّي ذَلِكَ كُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تَدَبُّرًا لِلْقُرْآنِ. وَفَهْمًا، وَمَعْرِفَةً بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَتَفَقُّرِهِ إلَيْهِ فِي عِبَادَتِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِهِ، بِحَيْثُ يَجِدُ اضْطِرَارَهُ إلَى أَنْ يَكُونَ تَعَالَى مَعْبُودَهُ وَمُسْتَغَاثَهُ أَعْظَمَ مِنْ اضْطِرَارِهِ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاحَ لَهُ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ مَعْبُودُهُ الَّذِي يَطْمَئِنُّ إلَيْهِ، وَيَأْنَسُ بِهِ، وَيَلْتَذُّ بِذِكْرِهِ، وَيَسْتَرِيحُ بِهِ، وَلَا حُصُولَ لِهَذَا إلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ، وَمَتَى كَانَ لِلْقَلْبِ إلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ فَسَدَ وَهَلَكَ هَلَاكًا لَا صَلَاحَ مَعَهُ، وَمَتَى لَمْ يُعِنْهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُصْلِحْهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ، وَلَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ.

وَلِهَذَا يُرْوَى: أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ، جَمَعَ عِلْمَهَا فِي الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ، وَجَمَعَ الْكُتُبَ الْأَرْبَعَةَ فِي الْقُرْآنِ، وَجَمَعَ عِلْمَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ، وَجَمَعَ عِلْمَ الْمُفَصَّلِ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَجَمَعَ عِلْمَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] . وَقَوْلُهُ: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30] وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2 - 3] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَبَسْطُ هَذَا طَوِيلٌ لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ. وَأَمَّا زَوَالُ الْعَارِضِ: فَهُوَ الِاجْتِهَادُ فِي دَفْعِ مَا يَشْغَلُ الْقَلْبَ مِنْ تَفَكُّرِ الْإِنْسَانِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَتَدَبُّرِ الْجَوَاذِبِ الَّتِي تَجْذِبُ الْقَلْبَ عَنْ مَقْصُودِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا فِي كُلِّ عَبْدٍ بِحَسْبِهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْوَسْوَاسِ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَتَعْلِيقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبَاتِ الَّتِي يَنْصَرِفُ الْقَلْبُ إلَى طَلَبِهَا، وَالْمَكْرُوهَاتِ الَّتِي يَنْصَرِفُ الْقَلْبُ إلَى دَفْعِهَا. وَالْوَسَاوِسُ: إمَّا مِنْ قَبِيلِ الْحُبِّ، مِنْ أَنْ يَخْطِرَ بِالْقَلْبِ مَا قَدْ كَانَ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الطَّلَبِ، وَهُوَ أَنْ يَخْطِرَ فِي الْقَلْبِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ. وَمِنْ الْوَسَاوِسِ مَا يَكُونُ مِنْ خَوَاطِرِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، فَيَتَأَلَّمُ لَهَا قَلْبُ الْمُؤْمِنِ تَأَلُّمًا شَدِيدًا، كَمَا قَالَ الصَّحَابَةُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَأَنْ يَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ: أَوَجَدْتُمُوهُ؟ ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ» . وَفِي لَفْظٍ: «إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا يَتَعَاظَمُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ» . قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: فَكَرَاهَةُ ذَلِكَ وَبُغْضُهُ، وَفِرَارُ الْقَلْبِ مِنْهُ، هُوَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَانَ غَايَةُ كَيْدِ الشَّيْطَانِ الْوَسْوَسَةَ، فَإِنَّ شَيْطَانَ الْجِنِّ إذَا غَلَبَ وَسْوَسَ، وَشَيْطَانَ الْإِنْسِ إذَا غَلَبَ كَذَبَ، وَالْوَسْوَاسُ يَعْرِضُ لِكُلِّ مَنْ تَوَجَّهَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِذِكْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَثْبُتَ وَيَصْبِرَ، وَيُلَازِمَ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ، وَلَا يَضْجَرُ، فَإِنَّهُ بِمُلَازَمَةِ ذَلِكَ يَنْصَرِفُ عَنْهُ كَيْدُ الشَّيْطَانِ،

{إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76] . وَكُلَّمَا أَرَادَ الْعَبْدُ تَوَجُّهًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَلْبِهِ جَاءَ مِنْ الْوَسْوَاسِ أُمُورٌ أُخْرَى، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ بِمَنْزِلَةِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ، كُلَّمَا أَرَادَ الْعَبْدُ يَسِيرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرَادَ قَطْعَ الطَّرِيقِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قِيلَ لِبَعْضِ السَّلَفِ: إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ: لَا نُوَسْوَسُ، فَقَالَ: صَدَقُوا، وَمَا يَصْنَعُ الشَّيْطَانُ بِالْبَيْتِ الْخَرَابِ. وَتَفَاصِيلُ مَا يَعْرِضُ لِلسَّالِكِينَ طَوِيلٌ مَوْضِعُهُ. وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ قَوْلِهِ: إنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي، وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ. فَذَاكَ لِأَنَّ عُمَرَ كَانَ مَأْمُورًا بِالْجِهَادِ، وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ أَمِيرُ الْجِهَادِ. فَصَارَ بِذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُصَلِّي الَّذِي يُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ حَالَ مُعَايَنَةِ الْعَدُوِّ، إمَّا حَالَ الْقِتَالِ، وَإِمَّا غَيْرَ حَالِ الْقِتَالِ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ، وَمَأْمُورٌ بِالْجِهَادِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَيْنِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ حَالَ الْجِهَادِ لَا تَكُونُ كَطُمَأْنِينَتِهِ حَالَ الْأَمْنِ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ نَقَصَ مِنْ الصَّلَاةِ شَيْءٌ لِأَجْلِ الْجِهَادِ لَمْ يَقْدَحْ هَذَا فِي كَمَالِ إيمَانِ الْعَبْدِ وَطَاعَتِهِ، وَلِهَذَا تُخَفَّفُ صَلَاةُ الْخَوْفِ عَنْ صَلَاةِ الْأَمْنِ. وَلَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صَلَاةَ الْخَوْفِ قَالَ: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] فَالْإِقَامَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا حَالَ الطُّمَأْنِينَةِ لَا يُؤْمَرُ بِهَا حَالَ الْخَوْفِ. وَمَعَ هَذَا: فَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا قَوِيَ إيمَانُ الْعَبْدِ كَانَ حَاضِرَ الْقَلْبِ فِي الصَّلَاةِ، مَعَ تَدَبُّرِهِ لِلْأُمُورِ بِهَا، وَعُمَرُ قَدْ ضَرَبَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ، وَهُوَ الْمُحَدِّثُ الْمُلْهَمُ، فَلَا يُنْكَرُ لِمِثْلِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعَ تَدْبِيرِهِ جَيْشَهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْحُضُورِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، لَكِنْ لَا رَيْبَ أَنَّ حُضُورَهُ مَعَ عَدَمِ ذَلِكَ يَكُونُ أَقْوَى، وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَالَ أَمْنِهِ كَانَتْ أَكْمَلَ مِنْ صَلَاتِهِ حَالَ الْخَوْفِ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ عَفَا حَالَ الْخَوْفِ عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ، فَكَيْفَ بِالْبَاطِنَةِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَتَفَكُّرُ الْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ فِي أَمْرٍ يَجِبُ عَلَيْهِ قَدْ يَضِيقُ وَقْتُهُ لَيْسَ

كَتَفَكُّرِهِ فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، أَوْ فِيمَا لَمْ يَضِقْ وَقْتُهُ، وَقَدْ يَكُونُ عُمَرُ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّفَكُّرُ فِي تَدْبِيرِ الْجَيْشِ إلَّا فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَهُوَ إمَامُ الْأُمَّةِ وَالْوَارِدَاتُ عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ. وَمِثْلُ هَذَا يَعْرِضُ لِكُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِ مَرْتَبَتِهِ، وَالْإِنْسَانُ دَائِمًا يَذْكُرُ فِي الصَّلَاةِ مَا لَا يَذْكُرُهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ، كَمَا يُذْكَرُ أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ ذَكَرَ لَهُ رَجُلٌ أَنَّهُ دَفَنَ مَالًا وَقَدْ نَسِيَ مَوْضِعَهُ، فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّ، فَقَامَ فَصَلَّى، فَذَكَرَهُ، فَقِيلَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ عَلِمْت ذَلِكَ؟ قَالَ: عَلِمْت أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَدَعُهُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يُذَكِّرَهُ بِمَا يُشْغِلُهُ، وَلَا أَهَمَّ عِنْدَهُ مِنْ ذِكْرِ مَوْضِعِ الدَّفْنِ. لَكِنَّ الْعَبْدَ الْكَيِّسَ يَجْتَهِدُ فِي كَمَالِ الْحُضُورِ، مَعَ كَمَالِ فِعْلِ بَقِيَّةِ الْمَأْمُورِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. 185 - 101 مَسْأَلَةٌ: فِي وَسْوَاسِ الرَّجُلِ فِي صَلَاتِهِ، وَمَا حَدُّ الْمُبْطِلِ لِلصَّلَاةِ؟ وَمَا حَدُّ الْمَكْرُوهِ مِنْهُ؟ وَهَلْ يُبَاحُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ؟ وَهَلْ يُعَذَّبُ الرَّجُلُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ؟ وَمَا حَدُّ الْإِخْلَاصِ فِي الصَّلَاةِ؟ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ لِأَحَدِكُمْ مِنْ صَلَاتِهِ إلَّا مَا عَقَلَ مِنْهَا» ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ: الْوَسْوَاسُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَمْنَعُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ مَنْ تَدَبُّرِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي فِي الصَّلَاةِ، بَلْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْخَوَاطِرِ، فَهَذَا لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ؛ لَكِنْ مَنْ سَلِمَتْ صَلَاتُهُ مِنْهُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ لَمْ تَسْلَمْ مِنْهُ صَلَاتُهُ. الْأَوَّلُ شَبَهُ حَالِ الْمُقَرَّبِينَ. وَالثَّانِي: شَبَهُ حَالِ الْمُقْتَصِدِينَ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَهُوَ مَا مَنَعَ الْفَهْمَ وَشُهُودَ الْقَلْبِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ الرَّجُلُ غَافِلًا، فَهَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ يَمْنَعُ الثَّوَابَ، كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا، إلَّا ثُلُثُهَا؛ إلَّا رُبْعُهَا إلَّا خُمُسُهَا إلَّا سُدُسُهَا، حَتَّى قَالَ: إلَّا عُشْرُهَا» فَأَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَدْ لَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إلَّا الْعُشْرُ.

مسألة المصلي إذا أحدث قبل السلام

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْت مِنْهَا، وَلَكِنْ هَلْ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَيُوجِبُ الْإِعَادَةَ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ. فَإِنَّهُ إنْ كَانَتْ الْغَفْلَةُ فِي الصَّلَاةِ أَقَلَّ مِنْ الْحُضُورِ، وَالْغَالِبُ الْحُضُورُ، لَمْ تَجِبْ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ كَانَ الثَّوَابُ نَاقِصًا، فَإِنَّ النُّصُوصَ قَدْ تَوَاتَرَتْ بِأَنَّ السَّهْوَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَإِنَّمَا يُجْبِرُ بَعْضُهُ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ، وَأَمَّا إنْ غَلَبَتْ الْغَفْلَةُ عَلَى الْحُضُورِ، فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْبَاطِنِ، وَإِنْ صَحَّتْ فِي الظَّاهِرِ، كَحَقْنِ الدَّمِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الصَّلَاةِ لَمْ يَحْصُلْ، فَهُوَ شَبِيهُ صَلَاةِ الْمُرَائِي، فَإِنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ لَا يَبْرَأُ بِهَا فِي الْبَاطِنِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَالثَّانِي: تَبْرَأُ الذِّمَّةُ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ كَانَ لَا أَجْرَ لَهُ فِيهَا، وَلَا ثَوَابَ، بِمَنْزِلَةِ صَوْمِ الَّذِي لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ. وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّأْذِينُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، فَإِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اُذْكُرْ كَذَا اُذْكُرْ كَذَا، مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الشَّيْطَانَ يُذَكِّرُهُ بِأُمُورٍ حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى، وَأَمَرَهُ بِسَجْدَتَيْنِ لِلسَّهْوِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ وَأَعْدَلُ؛ فَإِنَّ النُّصُوصَ وَالْآثَارَ إنَّمَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ مَشْرُوطٌ بِالْحُضُورِ، لَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ، لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْمُصَلِّي إذَا أَحْدَثَ قَبْلَ السَّلَامِ] 186 - 102 مَسْأَلَةٌ: فِيمَا إذَا أَحْدَثَ الْمُصَلِّي قَبْلَ السَّلَامِ؟ الْجَوَابُ: إذَا أَحْدَثَ الْمُصَلِّي قَبْلَ السَّلَامِ بَطَلَتْ، مَكْتُوبَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَكْتُوبَةٍ. [مَسْأَلَةٌ الضَّحِكُ فِي الصَّلَاةِ] 187 - 103 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ ضَحِكَ فِي الصَّلَاةِ. فَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا؟ .

مسألة النحنحة والسعال والنفخ والأنين في الصلاة

الْجَوَابُ: أَمَّا التَّبَسُّمُ فَلَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَأَمَّا إذَا قَهْقَهَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَبْطُلُ، وَلَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ؛ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِي أَقْوَى الْوَجْهَيْنِ، لِكَوْنِهِ أَذْنَبَ ذَنْبًا، وَلِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ، فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ النَّحْنَحَةُ وَالسُّعَالُ وَالنَّفْخُ وَالْأَنِينُ فِي الصَّلَاةِ] 188 - 104 - مَسْأَلَةٌ: فِي النَّحْنَحَةِ، وَالسُّعَالِ، وَالنَّفْخِ، وَالْأَنِينِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ: فَهَلْ تَبْطُلُ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَأَيُّ شَيْءٍ الَّذِي تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهِ مِنْ هَذَا أَوْ غَيْرِهِ؟ وَفِي أَيِّ مَذْهَبٍ؟ وَأَيْشٍ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ» . وَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَمِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ» قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ، وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ. وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ: عَلَى أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ عَامِدًا وَهُوَ لَا يُرِيدُ إصْلَاحَ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهَا أَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ، وَالْعَامِدُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي صَلَاةٍ، وَأَنَّ الْكَلَامَ مُحَرَّمٌ. قُلْتُ: وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي النَّاسِي وَالْجَاهِلِ وَالْمُكْرَهِ وَالْمُتَكَلِّمِ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ، وَفِي ذَلِكَ كُلُّهُ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ. إذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَاللَّفْظُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنًى بِالْوَضْعِ إمَّا بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا مَعَ لَفْظٍ غَيْرِهِ، كَفِي، وَعَنْ، فَهَذَا الْكَلَامُ مِثْلُ: يَدٍ، وَدَمٍ، وَفَمٍ، وَخُذْ. الثَّانِي: أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنًى بِالطَّبْعِ كَالتَّأَوُّهِ، وَالْأَنِينِ، وَالْبُكَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى مَعْنًى لَا بِالطَّبْعِ وَلَا بِالْوَضْعِ، كَالنَّحْنَحَةِ فَهَذَا الْقِسْمُ

كَانَ أَحْمَدُ يَفْعَلُهُ فِي صَلَاتِهِ، وَذَكَرَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالنَّحْنَحَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: تَبْطُلُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ فَوَجْهَانِ. فَصَارَتْ الْأَقْوَالُ فِيهَا ثَلَاثَةً: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِحَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ؛ بَلْ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ. وَالثَّانِي: تَبْطُلُ بِكُلِّ حَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ. وَالثَّالِثُ: إنْ فَعَلَهُ لِعُذْرٍ لَمْ تَبْطُلْ وَإِلَّا بَطَلَتْ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَغَيْرِهِمَا، وَقَالُوا: إنْ فَعَلَهُ لِتَحْسِينِ الصَّوْتِ وَإِصْلَاحِهِ، لَمْ تَبْطُلْ، قَالُوا: لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ كَثِيرًا، فَرُخِّصَ فِيهِ لِلْحَاجَةِ. وَمَنْ أَبْطَلَهَا قَالَ: إنَّهُ يَتَضَمَّنُ حَرْفَيْنِ، وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَ الْقَهْقَهَةَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا حَرَّمَ التَّكَلُّمَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ: «إنَّهُ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ» وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ، الَّتِي تَتَنَاوَلُ الْكَلَامَ. وَالنَّحْنَحَةِ لَا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ أَصْلًا، فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ بِنَفْسِهَا، وَلَا مَعَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَعْنًى، وَلَا يُسَمَّى فَاعِلُهَا مُتَكَلِّمًا وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مُرَادُهُ بِقَرِينَةٍ، فَصَارَتْ كَالْإِشَارَةِ. وَأَمَّا الْقَهْقَهَةُ وَنَحْوُهَا فَفِيهَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَدُلَّ عَلَى مَعْنًى بِالطَّبْعِ. وَالثَّانِي: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تِلْكَ أَبْطَلَتْ لِأَجْلِ كَوْنِهَا كَلَامًا. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْقَهْقَهَةَ تُبْطِلُ بِالْإِجْمَاعِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ فِيهَا نِزَاعٌ، بَلْ قَدْ يُقَالُ: إنَّ الْقَهْقَهَةَ فِيهَا أَصْوَاتٌ عَالِيَةٌ تُنَافِي حَالَ الصَّلَاةِ، وَتُنَافِي الْخُشُوعَ الْوَاجِبَ فِي الصَّلَاةِ، فَهِيَ كَالصَّوْتِ الْعَالِي الْمُمْتَدِّ، الَّذِي لَا حَرْفَ مَعَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالصَّلَاةِ وَالتَّلَاعُبِ بِهَا مَا يُنَاقِضُ مَقْصُودَهَا، فَأُبْطِلَتْ لِذَلِكَ لَا لِكَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا. وَبُطْلَانُهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى كَوْنِهِ كَلَامًا، وَلَيْسَ مُجَرَّدُ الصَّوْتِ كَلَامًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ «عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ لِي مِنْ

رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَدْخَلَانِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَكُنْت إذَا دَخَلْت عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي يَتَنَحْنَحُ لِي» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى طَبْعًا لَا وَضْعًا فَمِنْهُ النَّفْخُ وَفِيهِ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ رِوَايَتَانِ أَيْضًا: إحْدَاهُمَا: لَا تَبْطُلُ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ السَّلَفِ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَإِسْحَاقَ. وَالثَّانِيَةُ: إنَّهَا تَبْطُلُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُبْطِلُ فِيهِ مَا أَبَانَ حَرْفَيْنِ. وَقَدْ قِيلَ عَنْ أَحْمَدَ: إنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْكَلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَبْنِ حَرْفَيْنِ. وَاحْتَجُّوا لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَفَخَ فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ» رَوَاهُ الْخَلَّالُ؛ لَكِنْ مِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ لَا يَصِحُّ مَرْفُوعًا، فَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، لَكِنْ حَكَى أَحْمَدُ هَذَا اللَّفْظَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ: النَّفْخُ فِي الصَّلَاةِ كَلَامٌ، رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ تَضَمَّنَ حَرْفَيْنِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ جِنْسِ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَ الْقَهْقَهَةَ، وَالْحُجَّةُ مَعَ الْقَوْلِ، كَمَا فِي النَّحْنَحَةِ، وَالنِّزَاعُ كَالنِّزَاعِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى كَلَامًا فِي اللُّغَةِ الَّتِي خَاطَبَنَا بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَتَنَاوَلُهُ عُمُومُ النَّهْيِ عَنْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ لَمْ يَحْنَثْ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَلَوْ حَلَفَ لَيَتَكَلَّمَنَّ لَمْ يَبْرَأْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَالْكَلَامُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ لَفْظٍ دَالٍّ عَلَى الْمَعْنَى، دَلَالَةً وَضْعِيَّةً، تُعْرَفُ بِالْعَقْلِ، فَأَمَّا مُجَرَّدُ الْأَصْوَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَحْوَالِ الْمُصَوِّتِينَ، فَهُوَ دَلَالَةٌ طَبْعِيَّةٌ حِسِّيَّةٌ، فَهُوَ وَإِنْ شَارَكَ الْكَلَامَ الْمُطْلَقَ فِي الدَّلَالَةِ فَلَيْسَ كُلُّ مَا دَلَّ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ، كَالْإِشَارَةِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ وَتَقُومُ مَقَامَ الْعِبَارَةِ، بَلْ تَدُلُّ بِقَصْدِ الْمُشِيرِ، وَهِيَ تُسَمَّى كَلَامًا، وَمَعَ هَذَا لَا تَبْطُلُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا سَلَّمُوا عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِالْإِشَارَةِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْ كُلِّ مَا يُدِلُّ وَيُفْهِمُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَصَدَ التَّنْبِيهَ بِالْقُرْآنِ وَالتَّسْبِيحَ جَازَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ.

وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا كَانَ مَشْرُوعًا فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَبْطُلْ، فَإِذَا كَانَ قَدْ قَصَدَ إفْهَامَ الْمُسْتَمِعِ وَمَعَ هَذَا لَمْ تَبْطُلْ، فَكَيْفَ بِمَا دَلَّ بِالطَّبْعِ، وَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ إفْهَامَ أَحَدٍ، وَلَكِنَّ الْمُسْتَمِعَ يَعْلَمُ مِنْهُ، كَمَا يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ حَرَكَتِهِ، وَمِنْ سُكُوتِهِ، فَإِذَا رَآهُ يَرْتَعِشُ أَوْ يَضْطَرِبُ أَوْ يَدْمَعُ أَوْ يَبْتَسِمُ عَلِمَ، وَإِنَّمَا امْتَازَ هَذَا بِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الصَّوْتِ، وَهَذَا لَوْ لَمْ يَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ، فَكَيْفَ، وَفِي الْمُسْنَدِ، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ، فَجَعَلَ يَنْفُخُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: إنَّ النَّارَ أُدْنِيَتْ مِنِّي حَتَّى نَفَخْت حَرَّهَا عَنْ وَجْهِي» . وَفِي الْمُسْنَدِ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ كُسُوفِ الشَّمْسِ نَفَخَ فِي آخِرِ سُجُودِهِ، فَقَالَ: أُفٍّ أُفٍّ أُفٍّ، رَبِّ، أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لَا تُعَذِّبَهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ» ؟ ، وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ، أَوْ فَعَلَهُ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ، أَوْ مِنْ النَّارِ. قَالُوا: فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ عِنْدَنَا، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. كَالتَّأَوُّهِ وَالْأَنِينِ عِنْدَهُ، وَالْجَوَابَانِ ضَعِيفَانِ: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ كَانَتْ فِي آخِرِ حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ مَاتَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ، وَإِبْرَاهِيمُ كَانَ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ، وَمَارِيَةُ أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقَسُ، بَعْدَ أَنْ أَرْسَلَ إلَيْهِ الْمُغِيرَةَ، وَذَلِكَ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فَإِنَّهُ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرْسَلَ رُسُلَهُ إلَى الْمُلُوكِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلَامَ حُرِّمَ قَبْلَ هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَنْكَرَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ قِصَّةَ ذِي الْيَدَيْنِ كَانَتْ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ شَهِدَهَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِمِثْلِ هَذَا فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ، بَلْ قَدْ قِيلَ: الشَّمْسُ كَسَفَتْ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ. وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنْ الْخَشْيَةِ: فَفِيهِ أَنَّهُ نَفَخَ حَرَّهَا عَنْ وَجْهِهِ، وَهَذَا نَفْخٌ لِدَفْعِ مَا يُؤْذِي مِنْ خَارِجٍ، كَمَا يَنْفُخُ الْإِنْسَانُ فِي الْمِصْبَاحِ لِيُطْفِئَهُ، أَوْ يَنْفُخُ فِي التُّرَابِ. وَنَفْخُ الْخَشْيَةِ مِنْ نَوْعِ الْبُكَاءِ وَالْأَنِينِ، وَلَيْسَ هَذَا ذَاكَ. وَأَمَّا السُّعَالُ وَالْعُطَاسُ وَالتَّثَاؤُبُ وَالْبُكَاءُ الَّذِي يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَالتَّأَوُّهُ وَالْأَنِينُ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ هِيَ كَالنَّفْخِ. فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى طَبْعًا، وَهِيَ أَوْلَى بِأَنْ لَا تُبْطِلَ؛ فَإِنَّ النَّفْخَ أَشْبَهُ بِالْكَلَامِ مِنْ هَذِهِ، إذْ النَّفْخُ يُشْبِهُ التَّأْفِيفَ كَمَا قَالَ:

{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] لَكِنْ الَّذِينَ ذَكَرُوا هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ كَأَبِي الْخَطَّابِ وَمُتَّبِعِيهِ، ذَكَرُوا أَنَّهَا تُبْطِلُ، إذَا أَبَانَ حَرْفَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا خِلَافًا. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ نَصَّهُ فِي النَّحْنَحَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى عَنْهُ فِي النَّفْخِ، فَصَارَ ذَلِكَ مُوهِمًا أَنَّ النِّزَاعَ فِي ذَلِكَ فَقَطْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذِهِ تُبْطِلُ، وَالنَّفْخُ لَا يُبْطِلُ. وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ فِي التَّأَوُّهِ وَالْأَنِينِ: لَا يُبْطِلُ مُطْلَقًا عَلَى أَصْلِهِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَمَالِكٌ مَعَ الِاخْتِلَافِ عَنْهُ فِي النَّحْنَحَةِ وَالنَّفْخِ قَالَ: الْأَنِينُ لَا يَقْطَعُ صَلَاةَ الْمَرِيضِ، وَأَكْرَهُهُ لِلصَّحِيحِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَنِينَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مَكْرُوهٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَرَهُ مُبْطِلًا. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَجَرَى عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي وَافَقَهُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَهُوَ أَنَّ مَا أَبَانَ حَرْفَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْأَصْوَاتِ كَانَ كَلَامًا مُبْطِلًا، وَهُوَ أَشَدُّ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَبْعَدُهَا عَنْ الْحُجَّةِ، فَإِنَّ الْإِبْطَالَ إنْ أَثْبَتُوهُ بِدُخُولِهَا فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ فِي لَفْظِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمِنْ الْمَعْلُومِ الضَّرُورِيِّ أَنَّ هَذِهِ لَا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ بِالْقِيَاسِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ، فَإِنَّ فِي الْكَلَامِ يَقْصِدُ الْمُتَكَلِّمُ مَعَانِيَ يُعَبِّرُ عَنْهَا بِلَفْظٍ، وَذَلِكَ يَشْغَلُ الْمُصَلِّي. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» وَأَمَّا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ فَهِيَ طَبِيعِيَّةٌ كَالتَّنَفُّسِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ زَادَ فِي التَّنَفُّسِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَإِنَّمَا تُفَارِقُ التَّنَفُّسَ بِأَنَّ فِيهَا صَوْتًا، وَإِبْطَالُ الصَّلَاةِ بِمُجَرَّدِ الصَّوْتِ إثْبَاتُ حُكْمٍ بِلَا أَصْلٍ، وَلَا نَظِيرَ. وَأَيْضًا فَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ بِالنَّحْنَحَةِ وَالنَّفْخِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَيْضًا فَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ بِيَقِينٍ، فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهَا بِالشَّكِّ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الْكَلَامِ، هُوَ مَا يُدْعَى مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، بَلْ هَذَا إثْبَاتُ حُكْمٍ بِالشَّكِّ الَّذِي لَا دَلِيلَ مَعَهُ، وَهَذَا النِّزَاعُ إذَا فُعِلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَإِنْ فُعِلَ ذَلِكَ لِخَشْيَةِ اللَّهِ فَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَبْطُلُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِنَّ هَذَا إذَا كَانَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ كَانَ مِنْ جِنْسِ ذِكْرِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ، فَإِنَّهُ كَلَامٌ يَقْتَضِي الرَّهْبَةَ مِنْ اللَّهِ

وَالرَّغْبَةَ إلَيْهِ، وَهَذَا خَوْفُ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُ أَوَّاهٌ، وَقَدْ فُسِّرَ بِاَلَّذِي يَتَأَوَّهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. وَلَوْ صَرَّحَ بِمَعْنَى ذَلِكَ بِأَنْ اسْتَجَارَ مِنْ النَّارِ أَوْ سَأَلَ الْجَنَّةَ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِخِلَافِ الْأَنِينِ وَالتَّأَوُّهِ فِي الْمَرَضِ وَالْمُصِيبَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِمَعْنَاهُ كَانَ كَلَامًا مُبْطِلًا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ «عَائِشَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إذَا قَرَأَ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ، قَالَ: مُرُوهُ فَلْيُصَلِّ، إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ» وَكَانَ عُمَرُ يَسْمَعُ نَشِيجَهُ مِنْ وَرَاءِ الصُّفُوفِ لَمَّا قَرَأَ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] . وَالنَّشِيجُ: رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ، كَمَا فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَنْ عُمَرَ، ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَغَيْرُهُمَا، وَهَذَا النِّزَاعُ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا. فَأَمَّا مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْمُصَلِّي مِنْ عُطَاسٍ وَبُكَاءٍ وَتَثَاؤُبٍ، فَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ، وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إنَّهُ يُبْطِلُ، وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا: كَالنَّاسِي، وَكَلَامُ النَّاسِي فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُبْطِلُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ، وَهَذَا أَظْهَرُ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ النَّاسِي، لِأَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ مُعْتَادَةٌ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «التَّثَاؤُبُ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ» . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ حَدِيثُ «الَّذِي عَطَسَ فِي الصَّلَاةِ وَشَمَّتَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ، فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَاوِيَةَ عَنْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ» ؛ وَلَمْ يَقُلْ لِلْعَاطِسِ شَيْئًا. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْعُطَاسَ يُبْطِلُ تَكْلِيفٌ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا عَنْ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْوَاتَ الْحَلْقِيَّةَ الَّتِي لَا تَدُلُّ بِالْوَضْعِ فِيهَا نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَأَنَّ الْأَظْهَرَ فِيهَا جَمِيعًا أَنَّهَا لَا تُبْطِلُ فَإِنَّ الْأَصْوَاتَ مِنْ جِنْسِ

مسألة فيما إذا قرأ القرآن ويعد في الصلاة بسبحة

الْحَرَكَاتِ، وَكَمَا أَنَّ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ، لَا يُبْطِلُ فَالصَّوْتُ الْيَسِيرُ لَا يُبْطِلُ، بِخِلَافِ صَوْتِ الْقَهْقَهَةِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ وَذَلِكَ يُنَافِي الصَّلَاةَ، بَلْ الْقَهْقَهَةُ تُنَافِي مَقْصُودَ الصَّلَاةِ أَكْثَرَ؛ وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ فِيهَا بِحَالٍ، بِخِلَافِ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ، فَإِنَّهُ يُرَخَّصُ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَا إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ وَيَعُدُّ فِي الصَّلَاةِ بِسَبْحَةٍ] 189 - 105 مَسْأَلَةٌ: فِيمَا إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَيَعُدُّ فِي الصَّلَاةِ بِسَبْحَةٍ، هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَذَا السُّؤَالِ أَنْ يَعُدَّ الْآيَاتِ، أَوْ يَعُدَّ تَكْرَارَ السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] بِالسَّبْحَةِ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالسُّؤَالِ شَيْءٌ آخَرُ، فَلْيُبَيِّنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ أَيَجْهَرَ بِالسَّلَامِ] 190 - 106 مَسْأَلَةٌ: هَلْ لِلْإِنْسَانِ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَجْهَرَ بِالسَّلَامِ أَوْ لَا؟ خَشْيَةَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ جَاهِلٌ بِالسَّلَامِ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إنْ كَانَ الْمُصَلِّي يُحْسِنُ الرَّدَّ بِالْإِشَارَةِ، فَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِالْإِشَارَةِ، وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ الرَّدَّ بَلْ قَدْ يَتَكَلَّمُ فَلَا يَنْبَغِي إدْخَالُهُ فِيمَا يَقْطَعُ صَلَاتَهُ، أَوْ يَتْرُكُ بِهِ الرَّدَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيْ الْمَأْمُومِ] 191 - 107 مَسْأَلَةٌ: فِي الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْ الْمَأْمُومِ: هَلْ هُوَ فِي النَّهْيِ كَغَيْرِهِ مِثْلَ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ بَيْنَ يَدَيْ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [مَسْأَلَةٌ صَلَّى بِجَمَاعَةٍ رُبَاعِيَّةٍ فَسَهَا عَنْ التَّشَهُّدِ] .

مسألة إمام قام إلى خامسة فسبح به فلم يلتفت

مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ صَلَّى بِجَمَاعَةٍ رُبَاعِيَّةٍ فَسَهَا عَنْ التَّشَهُّدِ، وَقَامَ، فَسَبَّحَ بَعْضُهُمْ، فَلَمْ يَقْعُدْ، وَكَمَّلَ صَلَاتَهُ وَسَجَدَ وَسَلَّمَ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ: كَانَ يَنْبَغِي إقْعَادُهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَوْ قَعَدَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، فَأَيُّهُمَا عَلَى الصَّوَابِ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا الْإِمَامُ الَّذِي فَاتَهُ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ حَتَّى قَامَ، فَسَبَّحَ بِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، فَقَدْ أَحْسَنَ فِيمَا فَعَلَ، هَكَذَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَنْ قَالَ: كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْعُدَ أَخْطَأَ، بَلْ الَّذِي فَعَلَهُ هُوَ الْأَحْسَنُ. وَمَنْ قَالَ: لَوْ رَجَعَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: لَوْ رَجَعَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ. وَالثَّانِي: إذَا رَجَعَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ إمَامٌ قَامَ إلَى خَامِسَةٍ فَسُبِّحَ بِهِ فَلَمْ يَلْتَفِتْ] 193 - 109 مَسْأَلَةٌ: فِي إمَامٍ قَامَ إلَى خَامِسَةٍ، فَسُبِّحَ بِهِ فَلَمْ يَلْتَفِتْ لِقَوْلِهِمْ، وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَسْهُ. فَهَلْ يَقُومُونَ مَعَهُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إنْ قَامُوا مَعَهُ جَاهِلِينَ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُمْ، لَكِنْ مَعَ الْعِلْمِ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُتَابِعُوهُ، بَلْ يَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يُسَلِّمَ بِهِمْ، أَوْ يُسَلِّمُوا قَبْلَهُ، وَالِانْتِظَارُ أَحْسَنُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ طَلَبُ الْقُرْآنِ أَوْ الْعِلْمِ أَفْضَلُ] 194 - 110 مَسْأَلَةٌ: أَيُّمَا طَلَبُ الْقُرْآنِ أَوْ الْعِلْمِ أَفْضَلُ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا الْعِلْمُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ عَيْنًا كَعِلْمِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى حِفْظِ مَا لَا يَجِبُ مِنْ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ الْأَوَّلَ وَاجِبٌ، وَطَلَبَ الثَّانِي مُسْتَحَبٌّ، وَالْوَاجِبُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُسْتَحَبِّ.

مسألة تكرار القرآن والفقه أيهما أفضل وأكثر أجرا

وَأَمَّا طَلَبُ حِفْظِ الْقُرْآنِ: فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّا تُسَمِّيهِ النَّاسُ عِلْمًا: وَهُوَ إمَّا بَاطِلٌ، أَوْ قَلِيلُ النَّفْعِ. وَهُوَ أَيْضًا مُقَدَّمٌ فِي التَّعَلُّمِ فِي حَقِّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَتَعَلَّمَ عِلْمَ الدِّينِ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ فِي حَقِّ مِثْلِ هَذَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ أَنْ يَبْدَأَ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ أَصْلُ عُلُومِ الدِّينِ، بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْأَعَاجِمِ وَغَيْرِهِمْ، حَيْثُ يَشْتَغِلُ أَحَدُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ فُضُولِ الْعِلْمِ، مِنْ الْكَلَامِ، أَوْ الْجِدَالِ، وَالْخِلَافِ، أَوْ الْفُرُوعِ النَّادِرَةِ، وَالتَّقْلِيدِ الَّذِي لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، أَوْ غَرَائِبِ الْحَدِيثِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا، وَكَثِيرٍ مِنْ الرِّيَاضِيَّاتِ الَّتِي لَا تَقُومُ عَلَيْهَا حُجَّةٌ، وَيَتْرُكُ حِفْظَ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ أَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَلَا بُدَّ فِي مِثْلِ [هَذِهِ] الْمَسْأَلَةِ مِنْ التَّفْصِيلِ. وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْقُرْآنِ هُوَ فَهْمُ مَعَانِيهِ، وَالْعَمَلُ بِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ هِمَّةَ حَافِظِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالدِّينِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَكْرَار الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ وَأَكْثَرُ أَجْرًا] 195 - 111 سُئِلَ: عَنْ تَكْرَارِ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ وَأَكْثَرُ أَجْرًا. أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَلَامُ اللَّهِ لَا يُقَاسُ بِهِ كَلَامُ الْخَلْقِ، فَإِنَّ فَضْلَ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ. وَأَمَّا الْأَفْضَلُ فِي حَقِّ الشَّخْصِ: فَهُوَ بِحَسَبِ حَاجَتِهِ، وَمَنْفَعَتِهِ، فَإِنْ كَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى تَعَلُّمِ غَيْرِهِ، فَتَعَلُّمُهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَفْضَلُ مِنْ تَكْرَارِ التِّلَاوَةِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ إلَى تَكْرَارِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ حَفِظَ مِنْ الْقُرْآنِ مَا يَكْفِيهِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى عِلْمٍ آخَرَ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَدْ حَفِظَ الْقُرْآنَ، أَوْ بَعْضَهُ، وَهُوَ لَا يَفْهَمُ مَعَانِيه فَتَعَلُّمُهُ لِمَا يَفْهَمُهُ مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ تِلَاوَةِ مَا لَا يَفْهَمُ مَعَانِيَهُ. وَأَمَّا مَنْ تَعَبَّدَ بِتِلَاوَةِ الْفِقْهِ فَتَعَبُّدُهُ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ، وَتَدَبُّرُهُ لِمَعَانِي الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ تَدَبُّرِهِ لِكَلَامٍ لَا يَحْتَاجُ لِتَدَبُّرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة أيما أفضل قارئ القرآن الذي لا يعمل أو العابد

[مَسْأَلَةٌ أَيُّمَا أَفْضَلُ قَارِئُ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَعْمَلُ أَوْ الْعَابِدُ] سُئِلَ: أَيُّمَا أَفْضَلُ قَارِئُ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَعْمَلُ، أَوْ الْعَابِدُ؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ الْعَابِدُ يَعْبُدُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَقَدْ يَكُونُ شَرًّا مِنْ الْعَالِمِ الْفَاسِقِ، وَقَدْ يَكُونُ الْعَالِمُ الْفَاسِقُ شَرًّا مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ بِعِلْمٍ فَيُؤَدِّي الْوَاجِبَاتِ، وَيَتْرُكُ الْمُحَرَّمَاتِ، فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الْفَاسِقِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْعَالِمِ الْفَاسِقِ حَسَنَاتٌ تَفْضُلُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، بِحَيْثُ يَفْضُلُ لَهُ مِنْهَا أَكْثَرُ مِنْ حَسَنَاتِ ذَلِكَ الْعَابِدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [أَيُّمَا أَفْضَلُ اسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ أَوْ صَلَاةُ النَّفْلِ] 197 - 113 سُئِلَ: أَيُّمَا أَفْضَلُ اسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ؟ أَوْ صَلَاةُ النَّفْلِ؟ وَهَلْ تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الصَّلَاةِ غَيْرَ الْفَرْضِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: مَنْ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ تَطَوُّعًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْهَرَ جَهْرًا يَشْغَلُهُمْ بِهِ؛ فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يُصَلُّونَ مِنْ السَّحَرِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ» . وَالْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ النَّافِلَةِ أَفْضَلُ فِي الْجُمْلَةِ؛ لَكِنْ قَدْ تَكُونُ الْقِرَاءَةُ وَسَمَاعُهَا أَفْضَلَ لِبَعْضِ النَّاسِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أَيُّمَا أَفْضَلُ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ الصَّلَاةُ أَمْ الْقِرَاءَةُ] 198 - 114 مَسْأَلَةٌ: أَيُّمَا أَفْضَلُ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ الصَّلَاةُ أَمْ الْقِرَاءَةُ؟ الْجَوَابُ: بَلْ الصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ قَالَ: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إلَّا مُؤْمِنٌ» لَكِنْ مَنْ حَصَلَ لَهُ نَشَاطٌ وَتَدَبُّرٌ، وَفَهْمٌ لِلْقِرَاءَةِ دُونَ الصَّلَاةِ، فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ مَا كَانَ أَنْفَعَ لَهُ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ الْأَفْضَلُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَوْ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ] 199 - 115 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أَرَادَ تَحْصِيلَ الثَّوَابِ: هَلْ الْأَفْضَلُ لَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ؟ أَوْ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ؟ الْجَوَابُ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ، وَالذِّكْرُ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ مِنْ حَيْثُ

مسألة من يجهر بالقراءة والناس يصلون في المسجد

الْجُمْلَةُ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الْمَفْضُولُ أَفْضَلَ مِنْ الْفَاضِلِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَمَعَ هَذَا فَالْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ كَالْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ، وَوَقْتِ الْخُطْبَةِ، هِيَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالتَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ، وَالتَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ. وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ النَّاسِ انْتِفَاعُهُ بِالْمَفْضُولِ أَكْثَرُ بِحَسَبِ حَالِهِ، إمَّا لِاجْتِمَاعِ قَلْبِهِ عَلَيْهِ، وَانْشِرَاحِ صَدْرِهِ لَهُ، وَوُجُودِ قُوَّتِهِ لَهُ، مِثْلَ مَنْ يَجِدُ ذَلِكَ فِي الذِّكْرِ أَحْيَانًا، دُونَ الْقِرَاءَةِ، فَيَكُونُ الْعَمَلُ الَّذِي أَتَى بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْكَامِلِ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ عَلَى الْوَجْهِ النَّاقِصِ، وَإِنْ كَانَ جِنْسَ هَذَا، وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ عَاجِزًا عَنْ الْأَفْضَلِ فَيَكُونُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ أَفْضَلَ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ] 200 - 116 مَسْأَلَةٌ: مَا يَقُولُ سَيِّدُنَا: فِيمَنْ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ، وَالنَّاسُ يُصَلُّوا فِي الْمَسْجِدِ السُّنَّةَ أَوْ التَّحِيَّةَ، فَيَحْصُلُ لَهُمْ بِقِرَاءَتِهِ جَهْرًا أَذًى. فَهَلْ يُكْرَهُ جَهْرُ هَذَا بِالْقِرَاءَةِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ لَا فِي الصَّلَاةِ، وَلَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، إذَا كَانَ غَيْرُهُ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يُؤْذِيهِمْ بِجَهْرِهِ؛ بَلْ قَدْ خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يُصَلُّونَ فِي رَمَضَانَ، وَيَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ. فَقَالَ «أَيُّهَا النَّاسُ كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ» . [مَسْأَلَةٌ الْوِتْرُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ] 201 - 117 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَمْ يُصَلِّ وِتْرَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ: فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، الْوِتْرُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى تَرْكِهِ فَإِنَّهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ.

مسألة صلاة التطوع في جماعة

وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِهِ، فَأَوْجَبَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَالْجُمْهُورُ لَا يُوجِبُونَهُ: كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَالْوَاجِبُ لَا يُفْعَلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ؛ لَكِنْ هُوَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ تَرْكُهُ. وَالْوِتْرُ أَوْكَدُ مِنْ سُنَّةِ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَالْوِتْرُ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ تَطَوُّعَاتِ النَّهَارِ، كَصَلَاةِ الضُّحَى؛ بَلْ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ قِيَامُ اللَّيْلِ. وَأَوْكَدُ ذَلِكَ الْوِتْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فِي جَمَاعَةٍ] 202 - 118 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ جَمَعَ جَمَاعَةً عَلَى نَافِلَةٍ وَأَمَّهُمْ مِنْ أَوَّلِ رَجَبٍ إلَى آخِرِ رَمَضَانَ يُصَلِّي بِهِمْ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ عِشْرِينَ رَكْعَةً بِعَشْرِ تَسْلِيمَاتٍ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيَتَّخِذُ ذَلِكَ شِعَارًا، وَيَحْتَجُّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَالْأَنْصَارِيَّ الَّذِي قَالَ لَهُ: السُّيُولُ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَك فَهَلْ هَذَا مُوَافِقٌ لِلشَّرِيعَةِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فِي جَمَاعَةٍ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ الرَّاتِبَةُ كَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَقِيَامِ رَمَضَانَ، فَهَذَا يُفْعَلُ فِي الْجَمَاعَةِ دَائِمًا كَمَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ. الثَّانِي: مَا لَا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ الرَّاتِبَةُ: كَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، وَصَلَاةِ الضُّحَى، وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا إذَا فُعِلَ جَمَاعَةً أَحْيَانًا جَازَ. وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ الرَّاتِبَةُ فِي ذَلِكَ فَغَيْرُ مَشْرُوعَةٍ بَلْ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَادُونَ الِاجْتِمَاعَ لِلرَّوَاتِبِ عَلَى مَا دُونَ هَذَا. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا تَطَوَّعَ فِي ذَلِكَ فِي جَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ أَحْيَانًا فَإِنَّهُ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ وَحْدَهُ؛ لَكِنْ لَمَّا بَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَهُ صَلَّى مَعَهُ، وَلَيْلَةً أُخْرَى صَلَّى مَعَهُ حُذَيْفَةُ، وَلَيْلَةً أُخْرَى صَلَّى

مسألة من يقصر الصلاة هل عليه أن يصلي الوتر

مَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَكَذَلِكَ صَلَّى عِنْدَ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ فِي مَكَان يَتَّخِذُهُ مُصَلًّى صَلَّى مَعَهُ، وَكَذَلِكَ صَلَّى بِأَنَسٍ وَأُمِّهِ وَالْيَتِيمِ. وَعَامَّةُ تَطَوُّعَاتِهِ إنَّمَا كَانَ يُصَلِّيهَا مُفْرِدًا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي التَّطَوُّعَاتِ الْمَسْنُونَةِ فَأَمَّا إنْشَاءُ صَلَاةٍ بِعَدَدٍ مُقَدَّرٍ وَقِرَاءَةٍ مُقَدَّرَةٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ تُصَلَّى جَمَاعَةً رَاتِبَةً كَهَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا: كَصَلَاةِ الرَّغَائِبِ فِي أَوَّلِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ وَالْأَلْفِيَّةِ فِي أَوَّلِ رَجَبٍ وَنِصْفِ شَعْبَانَ. وَلَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ فَهَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ الْمُعْتَبَرُونَ وَلَا يُنْشِئُ مِثْلَ هَذَا إلَّا جَاهِلٌ مُبْتَدِعٌ، وَفَتْحُ مِثْلِ هَذَا الْبَابِ يُوجِبُ تَغْيِيرَ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَأَخْذَ نَصِيبٍ مِنْ حَالِ الَّذِينَ شَرَّعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ هَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الْوِتْرَ] 203 - 119 مَسْأَلَةٌ: فِيمَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُسَافِرًا وَهُوَ يَقْصُرُ: هَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الْوِتْرَ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. الْجَوَابُ: نَعَمْ، يُوتِرُ فِي السَّفَرِ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوتِرُ سَفَرًا وَحَضَرًا، " وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ ". [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةِ الْوِتْرِ] 204 - 120 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةِ الْوِتْرِ؟ الْجَوَابُ: يُصَلِّي مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ، كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ، وَغَيْرُهُمَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرِهِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إذَا أَصْبَحَ، أَوْ ذَكَرَ» . وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، هَلْ يَقْضِي شَفْعَهُ مَعَهُ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقْضِي شَفْعَهُ مَعَهُ. وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا. فَإِنَّ

مسألة الوتر بثلاث بسلام واحد

ذَلِكَ وَقْتُهَا» . وَهَذَا يَعُمُّ الْفَرْضَ، وَقِيَامَ اللَّيْلِ، وَالْوِتْرَ، وَالسُّنَنَ الرَّاتِبَةَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا مَنَعَهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ نَوْمٌ، أَوْ وَجَعٌ، صَلَّى مِنْ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ مِنْ اللَّيْلِ، أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَقَرَأَهُ بَيْنَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَصَلَاةِ الظُّهْرِ. كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَهَكَذَا السُّنَنُ الرَّاتِبَةُ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ لَمَّا نَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي السَّفَرِ، صَلَّى سُنَّةَ الصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ» «وَلَمَّا فَاتَتْهُ سُنَّةُ الظُّهْرِ الَّتِي بَعْدَهَا صَلَّاهَا بَعْدَ الْعَصْرِ» . وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا لَمْ يُصَلِّ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، صَلَّاهُنَّ بَعْدَهَا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، فَلْيُصَلِّهِمَا بَعْدَ مَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: إنَّ الْوِتْرَ لَا يُقْضَى، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَقَدْ ذَهَبَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالْوِتْرُ» قَالُوا: فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوِتْرِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَمَلِ اللَّيْلِ، كَمَا أَنَّ وِتْرَ عَمَلِ النَّهَارِ الْمَغْرِبُ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا فَاتَهُ عَمَلُ اللَّيْلِ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَلَوْ كَانَ الْوِتْرُ فِيهِنَّ لَكَانَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوِتْرَ يُقْضَى قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَإِنَّهُ إذَا صُلِّيَتْ لَمْ يَبْقَ فِي قَضَائِهِ الْفَائِدَةُ الَّتِي شُرِعَ لَهَا؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْوِتْرُ بِثَلَاثٍ بِسَلَامٍ وَاحِدٍ] 205 - 121 مَسْأَلَةٌ: فِي إمَامٍ شَافِعِيٍّ يُصَلِّي بِجَمَاعَةٍ: حَنَفِيَّةٍ وَشَافِعِيَّةٍ، وَعِنْدَ الْوِتْرِ الْحَنَفِيَّةُ وَحْدَهُمْ؟ الْجَوَابُ: قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى،

مسألة صلاة ركعتين بعد الوتر

مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيت الصُّبْحَ فَصَلِّ وَاحِدَةً تُوتِرُ لَك مَا صَلَّيْت» وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ مَفْصُولَةٍ عَمَّا قَبْلَهَا، وَأَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِخَمْسٍ، وَسَبْعٍ لَا يُسَلِّمُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ» . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ جَائِزٌ، وَأَنَّ الْوِتْرَ بِثَلَاثٍ بِسَلَامٍ وَاحِدٍ جَائِزٌ أَيْضًا، كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ. وَلَكِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَمْ تَبْلُغْ جَمِيعَ الْفُقَهَاءِ، فَكَرِهَ بَعْضُهُمْ الْوِتْرَ بِثَلَاثٍ. مُتَّصِلَةٍ، كَصَلَاةِ الْمَغْرِبِ، كَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ. وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ الْوِتْرَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ الْوِتْرَ بِخَمْسٍ، وَسَبْعٍ، وَتِسْعٍ مُتَّصِلَةٍ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَمَالِكٍ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَأَوْتَرَ عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ، يَتْبَعُهُ الْمَأْمُومُ فِي ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ] 206 - 122 مَسْأَلَةٌ: فِي صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ؟ الْجَوَابُ: وَأَمَّا صَلَاةُ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ: فَهَذِهِ رَوَى فِيهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ» . وَرُوِيَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ: «أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا أَوْتَرَ بِتِسْعٍ» فَإِنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِإِحْدَى عَشْرَةَ، ثُمَّ كَانَ يُوتِرُ بِتِسْعٍ، وَيُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ رَكْعَتَيْنِ. وَهُوَ جَالِسٌ. وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ مَا سَمِعُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ؛ وَلِهَذَا يُنْكِرُونَ هَذِهِ. وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُ سَمِعُوا هَذَا وَعَرَفُوا صِحَّتَهُ. وَرَخَّصَ أَحْمَدُ أَنْ تُصَلَّى هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ، كَمَا فَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَيْسَتْ وَاجِبَةً بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا يُذَمُّ مَنْ تَرَكَهَا، وَلَا تُسَمَّى " زَحَّافَةً " فَلَيْسَ لِأَحَدٍ إلْزَامُ النَّاسِ بِهَا، وَلَا الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ فَعَلَهَا. وَلَكِنَّ الَّذِي يُنْكَرُ مَا يَفْعَلُهُ طَائِفَةٌ مِنْ سَجْدَتَيْنِ مُجَرَّدَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ، فَإِنَّ هَذَا يَفْعَلُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَنْسُوبِينَ إلَى الْعِلْمِ، وَالْعِبَادَةِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ،

وَمُسْتَنَدُهُمْ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ سَجْدَتَيْنِ» رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ، وَغَيْرُهُ. فَظَنُّوا أَنَّ الْمُرَادَ سَجْدَتَانِ مُجَرَّدَتَانِ، وَغَلِطُوا. فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنَّ السَّجْدَةَ يُرَادُ بِهَا الرَّكْعَةُ، كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: «حَفِظْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ» الْحَدِيثَ. وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ رَكْعَتَانِ، كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «مَنْ أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْفَجْرَ» أَرَادَ بِهِ رَكْعَةً. كَمَا جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ. وَظَنَّ بَعْضٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا سَجْدَةٌ مُجَرَّدَةٌ، وَهُوَ غَلَطٌ. فَإِنَّ تَعْلِيقَ الْإِدْرَاكِ بِسَجْدَةٍ مُجَرَّدَةٍ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ؛ بَلْ لَهُمْ فِيمَا تُدْرَكُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَةُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَصَحُّهَا: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ وَلَا الْجَمَاعَةِ إلَّا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ، لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجَمَاعَةِ بِتَكْبِيرَةٍ. وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْجُمُعَةِ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ صَلَّى أَرْبَعًا. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» . وَعَلَى هَذَا إذَا أَدْرَكَ الْمُسَافِرُ خَلْفَ الْمُقِيمِ رَكْعَةً: فَهَلْ يُتِمُّ، أَوْ يَقْصُرُ؟ فِيهَا قَوْلَانِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ لَفْظَ " السَّجْدَةِ " الْمُرَادُ بِهِ الرَّكْعَةُ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِأَبْعَاضِهَا، فَتُسَمَّى قِيَامًا، وَقُعُودًا، وَرُكُوعًا، وَسُجُودًا وَتَسْبِيحًا وَقُرْآنًا. وَأَنْكَرُ مِنْ هَذَا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ سَجْدَةً مُفْرَدَةً، فَإِنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ. وَالْعِبَادَاتُ مَبْنَاهَا عَلَى الشَّرْعِ وَالِاتِّبَاعِ، لَا عَلَى الْهَوَى وَالِابْتِدَاعِ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَأَنْ نَعْبُدَهُ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا نَعْبُدُهُ بِالْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الصَّلَاةُ " الزَّحَّافَةُ " وَقَوْلُهُمْ: مَنْ لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهَا فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ: وَمُرَادُهُمْ الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْوِتْرِ جَالِسًا، فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً، وَإِنْ تَرَكَهَا طُولَ عُمْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا وَلَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمْرِهِ. لَا يَكُونُ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ

الْبِدَعِ، وَلَا مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ، وَلَا يُهْجَرُ، وَلَا يُوسَمُ بِمِيسَمٍ مَذْمُومٍ أَصْلًا؛ بَلْ لَوْ تَرَكَ الرَّجُلُ مَا هُوَ أَثْبَتُ مِنْهَا كَتَطْوِيلِ قِيَامِ اللَّيْلِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُطَوِّلُهُ، وَكَقِيَامِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً. كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ خَارِجًا عَنْ السُّنَّةِ، وَلَا مُبْتَدِعًا وَلَا مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ، مَعَ اتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً طَوِيلَةً. كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ أَفْضَلُ، مِنْ أَنْ يَدَعَ ذَلِكَ وَيُصَلِّيَ بَعْدَ الْوِتْرِ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ. فَإِنَّ الَّذِي ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ صَارَ يُصَلِّي تِسْعًا يَجْلِسُ عَقِيبَ الثَّامِنَةِ - وَالتَّاسِعَةِ، وَلَا يُسَلِّمُ إلَّا عَقِيبَ التَّاسِعَةِ، ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ، ثُمَّ صَارَ يُوتِرُ بِسَبْعٍ، وَبِخَمْسٍ، فَإِذَا أَوْتَرَ بِخَمْسٍ لَمْ يَجْلِسْ إلَّا عَقِيبَ الْخَامِسَةِ، ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ» . وَإِذَا أَوْتَرَ بِسَبْعٍ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْلِسُ إلَّا عَقِيبَ السَّابِعَةِ، وَرُوِيَ: أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ عَقِيبَ السَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ وَهُوَ جَالِسٌ. وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا، فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّ مَنْ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهَا فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَالْعُلَمَاءُ مُتَنَازِعُونَ فِيهَا: هَلْ تُشْرَعُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: إنَّهَا لَا تُشْرَعُ بِحَالٍ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ تَأَوَّلَ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْوِتْرِ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لَكِنَّ الْأَحَادِيثَ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ بِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ، غَيْرَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ. وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: أَنْ كَانَ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ، فَظَنَّ بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنَّ الْمُرَادَ سَجْدَتَانِ مُجَرَّدَتَانِ فَكَانُوا يَسْجُدُونَ بَعْدَ الْوِتْرِ سَجْدَتَيْنِ مُجَرَّدَتَيْنِ، وَهَذِهِ بِدْعَةٌ لَمْ يَسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ وَلَا فَعَلَهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ. وَإِنَّمَا غَرَّهُمْ لَفْظُ السَّجْدَتَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّجْدَتَيْنِ الرَّكْعَتَانِ، كَمَا قَالَ «ابْنُ عُمَرَ: حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَسَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ» : أَيْ رَكْعَتَيْنِ. وَلَعَلَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ: هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ اللَّتَانِ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْوِتْرِ جَالِسًا، نِسْبَتُهَا إلَى وِتْرِ اللَّيْلِ: نِسْبَةُ رَكْعَتَيْ الْمَغْرِبِ إلَى وِتْرِ النَّهَارِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ

مسألة قنوت رسول الله هل كان في العشاء الآخرة أو الصبح

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمَغْرِبُ وِتْرُ النَّهَارِ، فَأَوْتِرُوا صَلَاةَ اللَّيْلِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ. فَإِذَا كَانَتْ الْمَغْرِبُ وِتْرَ النَّهَارِ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يَخْرُجْ الْمَغْرِبُ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ وِتْرًا لِأَنَّ تِلْكَ الرَّكْعَتَيْنِ هُمَا تَكْمِيلُ الْفَرْضِ وَجَبْرٌ لِمَا يَحْصُلُ مِنْهُ مِنْ سَهْوٍ وَنَقْصٍ، كَمَا جَاءَتْ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ، وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا، إلَّا ثُلُثُهَا، إلَّا رُبْعُهَا، إلَّا خُمُسُهَا - حَتَّى قَالَ - إلَّا عُشْرُهَا» فَشُرِعَتْ السُّنَنُ جَبْرًا لِنَقْصِ الْفَرَائِضِ. فَالرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ لَمَّا كَانَتَا جَبْرًا لِلْفَرْضِ لَمْ يُخْرِجْهَا عَنْ كَوْنِهَا وِتْرًا، كَمَا لَوْ سَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، فَكَذَلِكَ وِتْرُ اللَّيْلِ جَبَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهُ. وَلِهَذَا كَانَ يُجْبِرُهُ إذَا أَوْتَرَ بِتِسْعٍ أَوْ سَبْعٍ أَوْ خَمْسٍ لِنَقْصِ عَدَدِهِ عَنْ إحْدَى عَشْرَةَ. فَهُنَا نَقْصُ الْعَدَدِ، نَقْصٌ ظَاهِرٌ. وَإِنْ كَانَ يُصَلِّيهِمَا إذَا أَوْتَرَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ كَانَ هُنَاكَ جَبْرًا لِصِفَةِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ يُصَلِّيهِمَا جَالِسًا. لِأَنَّ وِتْرَ اللَّيْلِ دُونَ وِتْرِ النَّهَارِ، فَيَنْقُصُ عَنْهُ فِي الصِّفَةِ، وَهِيَ مَرْتَبَةٌ بَيْنَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، وَبَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ الْكَامِلَتَيْنِ، فَيَكُونُ الْجَبْرُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، جَبْرٌ لِلسَّهْوِ سَجْدَتَانِ. لَكِنْ ذَاكَ نَقْصٌ فِي قَدْرِ الصَّلَاةِ ظَاهِرٌ، فَهُوَ وَاجِبٌ مُتَّصِلٌ بِالصَّلَاةِ. وَأَمَّا الرَّكْعَتَانِ الْمُسْتَقِلَّتَانِ فَهُمَا جَبْرٌ لِمَعْنَاهَا الْبَاطِلِ، فَلِهَذَا كَانَتْ صَلَاتُهُ تَامَّةً. كَمَا فِي السُّنَنِ: «أَنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ الصَّلَاةُ فَإِنْ أَكْمَلَهَا، وَإِلَّا قِيلَ: اُنْظُرُوا هَلْ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ» ثُمَّ يُصْنَعُ بِسَائِرِ أَعْمَالِهِ كَذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قُنُوتُ رَسُولِ اللَّهِ هَلْ كَانَ فِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ أَوْ الصُّبْحِ] 207 - 123 مَسْأَلَةٌ: فِي قُنُوتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ كَانَ فِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ؟ أَوْ الصُّبْحِ؟ وَمَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ الصَّحَابَةِ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا الْقُنُوتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ. فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ فِي النَّوَازِلِ» . «قَنَتَ مَرَّةً شَهْرًا يَدْعُو عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْكُفَّارِ قَتَلُوا طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ تَرَكَهُ» . وَقَنَتَ مَرَّةً أُخْرَى يَدْعُو لِأَقْوَامٍ مِنْ أَصْحَابِهِ كَانُوا مَأْسُورِينَ عِنْدَ أَقْوَامٍ يَمْنَعُونَهُمْ مِنْ الْهِجْرَةِ إلَيْهِ.

مسألة هل قنوت الصبح دائما سنة

وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ كَانُوا يَقْنُتُونَ نَحْوَ هَذَا الْقُنُوتِ، فَمَا كَانَ يُدَاوِمُ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ يَدَعُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ: إنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ سُنَّةٌ. وَقِيلَ: الْقُنُوتُ مَنْسُوخٌ. وَأَنَّهُ كُلَّهُ بِدْعَةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنْ يُسَنَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، كَمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ. وَأَمَّا الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ، فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ لَمْ يَقْنُتْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَنَتَ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَنَتَ السَّنَةَ كُلَّهَا. وَالْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ الْأَوَّلَ كَمَالِكٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ الثَّانِيَ كَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ الثَّالِثَ كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَالْجَمِيعُ جَائِزٌ. فَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ قُنُوتُ الصُّبْحِ دَائِمًا سُنَّةٌ] 208 - 124 مَسْأَلَةٌ: هَلْ قُنُوتُ الصُّبْحِ دَائِمًا سُنَّةٌ؟ وَمَنْ يَقُولُ: إنَّهُ مِنْ أَبْعَاضِ الصَّلَاةِ الَّتِي تُجْبَرُ بِالسُّجُودِ، وَمَا يُجْبَرُ إلَّا النَّاقِصُ، وَالْحَدِيثُ «مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا» فَهَلْ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ؟ وَهَلْ هُوَ هَذَا الْقُنُوتُ؟ وَمَا أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ؟ وَمَا حُجَّةُ كُلٍّ مِنْهُمْ؟ وَإِنْ قَنَتَ لِنَازِلَةٍ: فَهَلْ يَتَعَيَّنُ قَوْلُهُ، أَوْ يَدْعُو بِمَا شَاءَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ ثُمَّ تَرَكَهُ» . وَكَانَ ذَلِكَ لَمَّا قَتَلُوا الْقُرَّاءَ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَنَتَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَفَتْحِ خَيْبَرَ، يَدْعُو لِلْمُسْتَضْعَفَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ، وَيَقُولُ فِي قُنُوتِهِ: «اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ

وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَك عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» . وَكَانَ يَقْنُتُ يَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ، وَكَانَ قُنُوتُهُ فِي الْفَجْرِ. وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ قَنَتَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَفِي الظُّهْرِ» وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَنَتَ فِي الْعَصْرِ أَيْضًا. فَتَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْقُنُوتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، فَلَا يُشْرَعُ بِحَالٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَنَتَ، ثُمَّ تَرَكَ، وَالتَّرْكُ نَسْخٌ لِلْفِعْلِ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَقُومُ لِلْجِنَازَةِ، ثُمَّ قَعَدَ، جَعَلَ الْقُعُودَ نَاسِخًا لِلْقِيَامِ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقُنُوتَ مَشْرُوعٌ دَائِمًا، وَأَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ سُنَّةٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْفَجْرِ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: السُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الرُّكُوعِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ سِرًّا، وَأَنْ لَا يَقْنُتَ بِسِوَى: " اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك " إلَى آخِرِهَا " وَاَللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ " - إلَى آخِرِهَا - كَمَا يَقُولُهُ: مَالِكٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: السُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الرُّكُوعِ جَهْرًا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْنُتَ بِدُعَاءِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قُنُوتِهِ: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْت» إلَى آخِرِهِ. وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُجَوِّزُونَ الْقُنُوتَ قَبْلُ وَبَعْدُ. وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] . وَيَقُولُونَ: الْوُسْطَى: هِيَ الْفَجْرُ، وَالْقُنُوتُ فِيهَا. وَكِلْتَا الْمُقَدَّمَتَيْنِ ضَعِيفَةٌ: أَمَّا الْأُولَى: فَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ الْعَصْرُ» ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ عَرَفَ الْأَحَادِيثَ الْمَأْثُورَةَ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ وَغَيْرُهُمْ. وَإِنْ كَانَ لِلصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ مَقَالَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ. فَإِنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ.

وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَالْقُنُوتُ هُوَ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَهَذَا يَكُونُ فِي الْقِيَامِ، وَالسُّجُودِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ} [الزمر: 9] وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ إدَامَةُ الْقِيَامِ كَمَا قِيلَ: فِي قَوْلِهِ: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} [آل عمران: 43] فَحَمْلُ ذَلِكَ عَلَى إطَالَتِهِ الْقِيَامَ لِلدُّعَاءِ، دُونَ غَيْرِهِ، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْقِيَامِ لَهُ قَانِتِينَ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَقِيَامُ الدُّعَاءِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ لَا يَجِبُ بِالْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّ الْقَائِمَ فِي حَالِ قِرَاءَتِهِ هُوَ قَانِتٌ لِلَّهِ أَيْضًا؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: " أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ أُمِرُوا بِالسُّكُوتِ، وَنُهُوا عَنْ الْكَلَامِ ". فَعُلِمَ أَنَّ السُّكُوتَ هُوَ مِنْ تَمَامِ الْقُنُوتِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْقِيَامِ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] لَا يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ الْوُسْطَى. سَوَاءٌ كَانَتْ الْفَجْرَ أَوْ الْعَصْرَ؛ بَلْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] فَيَكُونُ أَمْرًا بِالْقُنُوتِ مَعَ الْأَمْرِ بِالْمُحَافَظَةِ، وَالْمُحَافَظَةُ تَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ، فَالْقِيَامُ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا: بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا زَالَ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا» قَالُوا: وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " ثُمَّ تَرَكَهُ " أَرَادَ تَرَكَ الدُّعَاءَ عَلَى تِلْكَ الْقَبَائِلِ، لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَ الْقُنُوتِ. وَهَذَا بِمُجَرَّدِهِ لَا يَثْبُتُ بِهِ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ، وَتَصْحِيحُ الْحَاكِمِ دُونَ تَحْسِينِ التِّرْمِذِيِّ. وَكَثِيرًا مَا يُصَحِّحُ الْمَوْضُوعَاتِ فَإِنَّهُ مَعْرُوفٌ بِالتَّسَامُحِ فِي ذَلِكَ، وَنَفْسُ هَذَا الْحَدِيثِ لَا يَخُصُّ الْقُنُوتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ، فَقَالَ: «مَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الرُّكُوعِ إلَّا شَهْرًا» فَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ لَمْ يَقْنُتْ بَعْدَ الرُّكُوعِ إلَّا شَهْرًا، فَبَطَلَ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ.

وَالْقُنُوتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ قَدْ يُرَادُ بِهِ طُولُ الْقِيَامِ قَبْلَ الرُّكُوعِ، سَوَاءٌ كَانَ هُنَاكَ دُعَاءٌ زَائِدٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ. فَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ دَالًّا عَلَى قُنُوتِ الدُّعَاءِ، وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْقُنُوتُ الدَّائِمُ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَنَتَ فِيهَا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الرَّاتِبِ وَالْعَارِضِ، وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ قَنَتَ لِسَبَبٍ نَزَلَ بِهِ ثُمَّ تَرَكَهُ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ السَّبَبِ النَّازِلِ بِهِ، فَيَكُونُ الْقُنُوتُ مَسْنُونًا عِنْدَ النَّوَازِلِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ فُقَهَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَمَّا حَارَبَ النَّصَارَى قَنَتَ عَلَيْهِمْ الْقُنُوتَ الْمَشْهُورَ: اللَّهُمَّ عَذِّبْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ. إلَى آخِرِهِ. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ سُنَّةً فِي قُنُوتِ رَمَضَانَ، وَلَيْسَ هَذَا الْقُنُوتُ سُنَّةً رَاتِبَةً. لَا فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ، بَلْ عُمَرُ قَنَتَ لَمَّا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ النَّازِلَةِ وَدَعَا فِي قُنُوتِهِ دُعَاءً يُنَاسِبُ تِلْكَ النَّازِلَةَ، كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَنَتَ أَوَّلًا عَلَى قَبَائِلِ بَنِي سُلَيْمٍ الَّذِينَ قَتَلُوا الْقُرَّاءَ، دَعَا عَلَيْهِمْ بِاَلَّذِي يُنَاسِبُ مَقْصُودَهُ، ثُمَّ لَمَّا قَنَتَ يَدْعُو لِلْمُسْتَضْعَفَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ دَعَا بِدُعَاءٍ يُنَاسِبُ مَقْصُودَهُ. فَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ تَدُلُّ عَلَى شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ دُعَاءَ الْقُنُوتِ مَشْرُوعٌ عِنْدَ السَّبَبِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ، لَيْسَ بِسُنَّةٍ دَائِمَةٍ فِي الصَّلَاةِ. الثَّانِي: أَنَّ الدُّعَاءَ فِيهِ لَيْسَ دُعَاءً رَاتِبًا، بَلْ يَدْعُو فِي كُلِّ قُنُوتٍ بِاَلَّذِي يُنَاسِبُهُ. كَمَا دَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلًا، وَثَانِيًا. وَكَمَا دَعَا عُمَرُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمَّا حَارَبَ مَنْ حَارَبَهُ فِي الْفِتْنَةِ، فَقَنَتَ وَدَعَا بِدُعَاءٍ يُنَاسِبُ مَقْصُودَهُ، وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْنُتُ دَائِمًا، وَيَدْعُو بِدُعَاءٍ رَاتِبٍ، لَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَنْقُلُونَ هَذَا عَنْ نَبِيِّهِمْ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا، وَهُمْ الَّذِينَ نَقَلُوا عَنْهُ فِي قُنُوتِهِ مَا لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ رَاتِبَةٍ، كَدُعَائِهِ عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَهُ، وَدُعَائِهِ لِلْمُسْتَضْعَفَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَنَقَلُوا قُنُوتَ عُمَرَ وَعَلِيٍّ عَلَى مَنْ كَانُوا يُحَارِبُونَهُمْ. فَكَيْفَ يَكُونُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْنُتُ دَائِمًا فِي الْفَجْرِ أَوْ غَيْرِهَا، وَيَدْعُو بِدُعَاءٍ رَاتِبٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا فِي خَبَرٍ صَحِيحٍ، وَلَا ضَعِيفٍ؟ ، بَلْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِسُنَّتِهِ، وَأَرْغَبُ النَّاسِ فِي اتِّبَاعِهَا، كَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ أَنْكَرُوا،

حَتَّى قَالَ ابْنُ عُمَرَ: " مَا رَأَيْنَا وَلَا سَمِعْنَا " وَفِي رِوَايَةٍ «أَرَأَيْتُكُمْ قِيَامَكُمْ هَذَا: تَدْعُونَ. مَا رَأَيْنَا وَلَا سَمِعْنَا» أَفَيَقُولُ مُسْلِمٌ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْنُتُ دَائِمًا؟ ، وَابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: مَا رَأَيْنَا، وَلَا سَمِعْنَا. وَكَذَلِكَ غَيْرُ ابْنِ عُمَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ، عَدُّوا ذَلِكَ مِنْ الْأَحْدَاثِ الْمُبْتَدَعَةِ. وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلِمَ عِلْمًا يَقِينًا قَطْعِيًّا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَقْنُتُ دَائِمًا فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ، كَمَا يُعْلَمُ عِلْمًا [يَقِينِيًّا] أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُدَاوِمُ عَلَى الْقُنُوتِ فِي الظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ وَالْمَغْرِبِ، فَإِنَّ مَنْ جَعَلَ الْقُنُوتَ فِي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ سُنَّةً رَاتِبَةً يَحْتَجْ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ حُجَّةِ الْجَاعِلِينَ لَهُ فِي الْفَجْرِ سُنَّةً رَاتِبَةً. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَنَتَ فِي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ؛ لَكِنَّ الصَّحَابَةَ بَيَّنُوا الدُّعَاءَ الَّذِي كَانَ يَدْعُو بِهِ، وَالسَّبَبَ الَّذِي قَنَتَ لَهُ، وَأَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ عِنْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، نَقَلُوا ذَلِكَ فِي قُنُوتِ الْفَجْرِ، وَفِي قُنُوتِ الْعِشَاءِ أَيْضًا. وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ جَعَلُوا مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ أَنْ يَقْنُتَ دَائِمًا بِقُنُوتِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، أَوْ بِسُورَتَيْ أُبَيٍّ لَيْسَ مَعَهُمْ إلَّا دُعَاءٌ عَارِضٌ وَالْقُنُوتُ فِيهَا إذَا كَانَ مَشْرُوعًا: كَانَ مَشْرُوعًا لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ؛ بَلْ وَأَوْضَحُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ جَاعِلٌ قُنُوتَ الْحَسَنِ، أَوْ سُورَتَيْ أُبَيٍّ سُنَّةً رَاتِبَةً فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، لَكَانَ حَالُهُ شَبِيهًا بِحَالِ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ سُنَّةً رَاتِبَةً فِي الْفَجْرِ. إذْ هَؤُلَاءِ لَيْسَ مَعَهُمْ فِي الْفَجْرِ إلَّا قُنُوتٌ عَارِضٌ بِدُعَاءٍ يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْعَارِضَ، وَلَمْ يَنْقُلْ مُسْلِمٌ دُعَاءً فِي قُنُوتٍ غَيْرَ هَذَا، كَمَا لَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي الْفَجْرِ؛ لِأَنَّ الْقُنُوتَ فِيهَا كَانَ أَكْثَرَ، وَهِيَ أَطْوَلُ. وَالْقُنُوتُ يَتْبَعُ الصَّلَاةَ، وَبَلَغَهُمْ أَنَّهُ دَاوَمَ عَلَيْهِ، فَظَنُّوا أَنَّ السُّنَّةَ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا مَعَهُمْ سُنَّةً بِدُعَائِهِ. فَسَنُّوا هَذِهِ الْأَدْعِيَةَ الْمَأْثُورَةَ فِي الْوِتْرِ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ سُنَّةً رَاتِبَةً فِي الْوِتْرِ. وَهَذَا النِّزَاعُ الَّذِي وَقَعَ فِي الْقُنُوتِ لَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ: فَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَبَبٍ، فَيَجْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ سُنَّةً، وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ السُّنَّةِ الدَّائِمَةِ وَالْعَارِضَةِ.

وَبَعْضُ النَّاسِ يَرَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ فِي أَغْلِبْ الْأَوْقَاتِ، فَيَرَاهُ بِدْعَةً، وَيَجْعَلُ فِعْلَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مَخْصُوصًا أَوْ مَنْسُوخًا، إنْ كَانَ قَدْ بَلَغَهُ ذَلِكَ، مِثْلَ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فِي جَمَاعَةٍ. فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّهُ صَلَّى بِاللَّيْلِ وَخَلْفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مَرَّةً، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ مَرَّةً» . وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا. وَكَذَلِكَ «صَلَّى بِعِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ فِي بَيْتِهِ التَّطَوُّعَ جَمَاعَةً: وَصَلَّى بِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأُمِّهِ وَالْيَتِيمِ فِي دَارِهِ» ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ هَذَا فِيمَا يَحْدُثُ مِنْ " صَلَاةِ الْأَلْفِيَّةِ " لَيْلَةَ نِصْفِ شَعْبَانَ، وَالرَّغَائِبِ، وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يُدَاوِمُونَ فِيهِ عَلَى الْجَمَاعَاتِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكْرَهُ التَّطَوُّعَ؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إنَّمَا سُنَّتْ فِي الْخَمْسِ، كَمَا أَنَّ الْأَذَانَ إنَّمَا سُنَّ فِي الْخَمْسِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، فَلَا يُكْرَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ فِي جَمَاعَةٍ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ سُنَّةً رَاتِبَةً، كَمَنْ يُقِيمُ لِلْمَسْجِدِ إمَامًا رَاتِبًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ، أَوْ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، كَمَا يُصَلِّي بِهِمْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ لِلْعِيدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَذَانًا كَأَذَانِ الْخَمْسِ؛ وَلِهَذَا أَنْكَرَ الصَّحَابَةُ عَلَى مَنْ فَعَلَ هَذَا مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ إذْ ذَاكَ. وَيُشْبِهُ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ تَنَازُعَ الْعُلَمَاءِ فِي مِقْدَارِ الْقِيَامِ فِي رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ كَانَ يَقُومُ بِالنَّاسِ عِشْرِينَ رَكْعَةً فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، وَيُوتِرُ بِثَلَاثٍ. فَرَأَى كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ السُّنَّةُ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ. وَاسْتَحَبَّ آخَرُونَ: تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً؛ بُنِيَ عَلَى أَنَّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْقَدِيمُ. وَقَالَ طَائِفَةٌ: قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً» . وَاضْطَرَبَ قَوْمٌ فِي هَذَا الْأَصْلِ، لَمَّا ظَنُّوهُ مِنْ مُعَارَضَةِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِمَا ثَبَتَ مِنْ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَعَمَلِ الْمُسْلِمِينَ. وَالصَّوَابُ أَنَّ ذَلِكَ جَمِيعَهُ حَسَنٌ، كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّتُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ عَدَدٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُوَقِّتْ فِيهَا عَدَدًا، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ تَكْثِيرُ الرَّكَعَاتِ وَتَقْلِيلُهَا، بِحَسَبِ طُولِ الْقِيَامِ وَقِصَرِهِ. فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُطِيلُ الْقِيَامَ بِاللَّيْلِ، حَتَّى إنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: «أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ بِالْبَقَرَةِ، وَالنِّسَاءِ، وَآلِ عِمْرَانَ، فَكَانَ طُولُ الْقِيَامِ يُغْنِي عَنْ تَكْثِيرِ الرَّكَعَاتِ» . وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ لَمَّا قَامَ بِهِمْ. وَهُمْ جَمَاعَةٌ وَاحِدَةٌ -

لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُطِيلَ بِهِمْ الْقِيَامَ، فَكَثَّرَ الرَّكَعَاتِ لِيَكُونَ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ ضِعْفَ عَدَدِ رَكَعَاتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُومُ بِاللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ النَّاسُ بِالْمَدِينَةِ ضَعُفُوا عَنْ طُولِ الْقِيَامِ فَكَثَّرُوا الرَّكَعَاتِ حَتَّى بَلَغَتْ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ. وَمِمَّا يُنَاسِبُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا فَرَضَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِمَكَّةَ: فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أُقِرَّتْ فِي السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ، وَجُعِلَتْ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ ثَلَاثًا، لِأَنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ، وَأَمَّا صَلَاةُ الْفَجْرِ فَأُقِرَّتْ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَجْلِ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ تَكْثِيرِ الرَّكَعَاتِ» . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: أَيُّمَا أَفْضَلُ: إطَالَةُ الْقِيَامِ؟ أَمْ تَكْثِيرُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؟ أَمْ هُمَا سَوَاءٌ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: وَهِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَدَ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ «أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: طُولُ الْقُنُوتِ» . وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّك لَنْ تَسْجُدَ لِلَّهِ سَجْدَةً إلَّا رَفَعَك اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً؛ وَحَطَّ عَنْك بِهَا خَطِيئَةً» . «وَقَالَ لِرَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ. أَعِنِّي عَلَى نَفْسِك بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ السُّجُودَ فِي نَفْسِهِ أَفْضَلُ مِنْ الْقِيَامِ، وَلَكِنَّ ذِكْرَ الْقِيَامِ أَفْضَلُ، وَهُوَ الْقِرَاءَةُ، وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ تَكُونَ مُعْتَدِلَةً. فَإِذَا أَطَالَ الْقِيَامَ يُطِيلُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، كَمَا رَوَاهُ حُذَيْفَةُ وَغَيْرُهُ. وَهَكَذَا كَانَتْ صَلَاتُهُ الْفَرِيضَةَ، وَصَلَاةُ الْكُسُوفِ، وَغَيْرُهُمَا: كَانَتْ صَلَاتُهُ مُعْتَدِلَةً، فَإِنْ فَضَّلَ مُفَضِّلٌ إطَالَةَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعَ تَقْلِيلِ الرَّكَعَاتِ وَتَخْفِيفِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعَ تَكْثِيرِ الرَّكَعَاتِ: فَهَذَانِ مُتَقَارِبَانِ. وَقَدْ يَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ فِي حَالٍ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا صَلَّى الضُّحَى يَوْمَ الْفَتْحِ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ يُخَفِّفُهُنَّ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ. وَكَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ لَمَّا شَقَّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ إطَالَةُ الْقِيَامِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْقُنُوتَ يَكُونُ عِنْدَ النَّوَازِلِ، وَأَنَّ الدُّعَاءَ فِي الْقُنُوتِ لَيْسَ شَيْئًا مُعَيَّنًا، وَلَا يَدْعُو بِمَا خَطَرَ لَهُ، بَلْ يَدْعُو مِنْ الدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ بِمَا يُنَاسِبُ سَبَبَ

مسألة يؤم قوما فيخص نفسه بالدعاء دونهم

الْقُنُوتِ، كَمَا أَنَّهُ إذَا دَعَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ دَعَا بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقْصُودَ، فَكَذَلِكَ إذَا دَعَا فِي الِاسْتِنْصَارِ دَعَا بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقْصُودَ، كَمَا لَوْ دَعَا خَارِجَ الصَّلَاةِ لِذَلِكَ السَّبَبِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقْصُودَ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ مِنْ أَبْعَاضِ الصَّلَاةِ الَّتِي يُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ، فَإِنَّهُ بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ يُسَنُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَنَحْوِهِ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَلَيْسَ بِسُنَّةٍ رَاتِبَةٍ، وَلَا يَسْجُدُ لَهُ، لَكِنْ مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلًا فِي ذَلِكَ لَهُ تَأْوِيلُهُ، كَسَائِرِ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ. وَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَتْبَعَ إمَامَهُ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، فَإِذَا قَنَتَ قَنَتَ مَعَهُ، وَإِنْ تَرَكَ الْقُنُوتَ لَمْ يَقْنُتْ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ» وَقَالَ: «لَا تَخْتَلِفُوا عَلَى أَئِمَّتِكُمْ» . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ، وَلَهُمْ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ، وَعَلَيْهِمْ» . أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ قَرَأَ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِسُورَةٍ مَعَ الْفَاتِحَةِ وَطَوَّلَهُمَا عَلَى الْأُولَيَيْنِ: لَوَجَبَتْ مُتَابَعَتُهُ فِي ذَلِكَ. فَأَمَّا مُسَابَقَةُ الْإِمَامِ فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ. فَإِذَا قَنَتَ لَمْ يَكُنْ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُسَابِقَهُ: فَلَا بُدَّ مِنْ مُتَابَعَتِهِ، وَلِهَذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَدْ أَنْكَرَ عَلَى عُثْمَانَ التَّرْبِيعَ بِمِنًى، ثُمَّ إنَّهُ صَلَّى خَلْفَهُ أَرْبَعًا، فَقِيلَ لَهُ: فِي ذَلِكَ؟ ، فَقَالَ: الْخِلَافُ شَرٌّ. وَكَذَلِكَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ لَمَّا سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ وَقْتِ الرَّمْيِ، فَأَخْبَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ إمَامُك، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ يَؤُمُّ قَوْمًا فَيَخُصُّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ دُونَهُمْ] 209 - 125 مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يَؤُمُّ قَوْمًا فَيَخُصُّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ دُونَهُمْ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ خَانَهُمْ» . فَهَلْ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنَّهُ كُلَّمَا دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُشْرِكَ الْمَأْمُومِينَ؟ وَهَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَخُصُّ نَفْسَهُ بِدُعَائِهِ فِي صَلَاتِهِ دُونَهُمْ؟ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ؟

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ «أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ. مَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» فَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ دَعَا لِنَفْسِهِ خَاصَّةً، وَكَانَ إمَامًا. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي الِاسْتِفْتَاحِ الَّذِي أَوَّلُهُ: «وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» - فِيهِ - «فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا فَإِنَّهُ لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ» . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ الرُّكُوعِ بَعْدَ قَوْلِهِ: «لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت» : «اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ» . وَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ فِي دُعَائِهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ مِنْ فِعْلِهِ، وَمِنْ أَمْرِهِ، لَمْ يُنْقَلْ فِيهَا إلَّا لَفْظُ الْإِفْرَادِ. كَقَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» . وَكَذَا دُعَاؤُهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَهُوَ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكِلَاهُمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ إمَامًا أَحَدُهُمَا بِحُذَيْفَةَ، وَالْآخَرُ بِابْنِ عَبَّاسٍ. وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ «رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي» وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ «اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي» وَنَحْوَ هَذَا، فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَدْعُو فِي هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ. وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، حَيْثُ يَرَوْنَ أَنَّهُ يُشْرَعُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ. وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ إنْ صَحَّ فَالْمُرَادُ بِهِ الدُّعَاءُ الَّذِي يُؤَمِّنُ عَلَيْهِ الْمَأْمُومُ: كَدُعَاءِ الْقُنُوتِ، فَإِنَّ الْمَأْمُومَ إذَا أَمَّنَ كَانَ دَاعِيًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى

مسألة صلاة التراويح بعد المغرب

وَهَارُونَ: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] وَكَانَ أَحَدُهُمَا يَدْعُو، وَالْآخَرُ يُؤَمِّنُ. وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ مُؤَمِّنًا عَلَى دُعَاءِ الْإِمَامِ، فَيَدْعُو بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، كَمَا فِي دُعَاءِ الْفَاتِحَةِ فِي قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] فَإِنَّ الْمَأْمُومَ إنَّمَا أَمَّنَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْإِمَامَ يَدْعُو لَهُمَا جَمِيعًا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ خَانَ الْإِمَامُ الْمَأْمُومَ. فَأَمَّا الْمَوَاضِعُ الَّتِي يَدْعُو فِيهَا كُلُّ إنْسَانٍ لِنَفْسِهِ كَالِاسْتِفْتَاحِ، وَمَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَكَمَا أَنَّ الْمَأْمُومَ يَدْعُو لِنَفْسِهِ، فَالْإِمَامُ يَدْعُو لِنَفْسِهِ، كَمَا يُسَبِّحُ الْمَأْمُومُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، إذَا سَبَّحَ الْإِمَامُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَكَمَا يَتَشَهَّدُ إذَا تَشَهَّدَ، وَيُكَبِّرُ إذَا كَبَّرَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ الْمَأْمُومُ ذَلِكَ فَهُوَ الْمُفَرِّطُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا صَرِيحًا مُعَارِضًا لِلْأَحَادِيثِ الْمُسْتَفِيضَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَلِعَمَلِ الْأُمَّةِ، وَالْأَئِمَّةِ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ، فَكَيْفَ وَلَيْسَ مِنْ الصَّحِيحِ، وَلَكِنْ قَدْ قِيلَ: إنَّهُ حَسَنٌ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ دَلَالَةٌ لَكَانَ عَامًّا، وَتِلْكَ خَاصَّةٌ، وَالْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ. ثُمَّ لَفْظُهُ «فَيَخُصُّ نَفْسَهُ بِدَعْوَةٍ دُونَهُمْ» يُرَادُ بِمِثْلِ هَذَا إذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ دُعَاءٌ، وَهَذَا لَا يَكُونُ مَعَ تَأْمِينِهِمْ. وَأَمَّا مَعَ كَوْنِهِمْ مُؤَمِّنِينَ عَلَى الدُّعَاءِ كُلَّمَا دَعَا، فَيَحْصُلُ لَهُمْ كَمَا حَصَلَ لَهُ بِفِعْلِهِمْ، وَلِهَذَا جَاءَ دُعَاءُ الْقُنُوتِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ: «اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك، وَنَسْتَهْدِيك» إلَى آخِرِهِ. فَفِي مِثْلِ هَذَا يَأْتِي بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَيَتْبَعُ السُّنَّةَ عَلَى وَجْهِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ] 210 - 126 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ: هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَمْ بِدْعَةٌ؟ وَذَكَرُوا أَنَّ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ صَلَّاهَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَتَمَّمَهَا بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. السُّنَّةُ فِي التَّرَاوِيحِ أَنْ تُصَلَّى بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ. وَالنَّقْلُ الْمَذْكُورُ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَاطِلٌ؛ فَمَا كَانَ الْأَئِمَّةُ يُصَلُّونَهَا إلَّا بَعْدَ الْعِشَاءِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَعَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ، لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ تَعَمَّدَ صَلَاتَهَا قَبْلَ

مسألة قراءة سورة الأنعام في رمضان في ركعة ليلة الجمعة

الْعِشَاءِ، فَإِنَّ هَذِهِ تُسَمَّى قِيَامَ رَمَضَانَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ صِيَامَ رَمَضَانَ، وَسَنَنْت لَكُمْ قِيَامَهُ، فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَقِيَامُ اللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْعِشَاءِ. وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي السُّنَنِ: «إنَّهُ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ قِيَامَ رَمَضَانَ صَلَّى بَعْدَ الْعِشَاءِ» . «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِ رَمَضَانَ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، لَكِنْ كَانَ يُصَلِّيهَا [طِوَالًا] » . فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ قَامَ بِهِمْ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عِشْرِينَ رَكْعَةً، يُوتِرُ بَعْدَهَا، وَيُخَفِّفُ فِيهَا الْقِيَامَ، فَكَانَ تَضْعِيفُ الْعَدَدِ عِوَضًا عَنْ طُولِ الْقِيَامِ. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُومُ أَرْبَعِينَ رَكْعَةً فَيَكُونُ قِيَامُهَا أَخَفَّ، وَيُوتِرُ بَعْدَهَا بِثَلَاثٍ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُومُ بِسِتٍّ وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً يُوتِرُ بَعْدَهَا، وَقِيَامُهُمْ الْمَعْرُوفُ عَنْهُمْ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ. وَلَكِنْ الرَّافِضَةُ تَكْرَهُ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ. فَإِذَا صَلَّوْهَا قَبْلَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ لَا تَكُونُ هِيَ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ، كَمَا أَنَّهُمْ إذَا تَوَضَّئُوا يَغْسِلُونَ أَرْجُلَهُمْ أَوَّلَ الْوُضُوءِ. وَيَمْسَحُونَهَا فِي آخِرِهِ. فَمَنْ صَلَّاهَا قَبْلَ الْعِشَاءِ. فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ الْمُبْتَدِعَةِ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قِرَاءَة سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي رَمَضَانَ فِي رَكْعَةٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ] 211 - 127 مَسْأَلَةٌ: فِيمَا يَصْنَعُهُ أَئِمَّةُ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي رَمَضَانَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ هَلْ هِيَ بِدْعَةٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ بِدْعَةٌ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُمْ تَحَرَّوْا ذَلِكَ وَإِنَّمَا عُمْدَةُ مَنْ يَفْعَلُهُ مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ جُمْلَةً. مُشَيَّعَةً بِسَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ فَاقْرَءُوهَا جُمْلَةً لِأَنَّهَا نَزَلَتْ جُمْلَةً وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ وَفِي قِرَاءَتِهَا جُمْلَةً مِنْ الْوُجُوهِ الْمَكْرُوهَةِ أُمُورٌ. مِنْهَا: أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْأُولَى تَطْوِيلًا فَاحِشًا.

مسألة قوم يصلون مائة ركعة في آخر الليل ويسمون ذلك صلاة القدر

وَالسُّنَّةُ تَطْوِيلُ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ كَمَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْهَا تَطْوِيلُ قِيَامِ آخِرِ اللَّيْلِ عَلَى أَوَّلِهِ، وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ فَإِنَّهُ كَانَ يُطَوِّلُ أَوَائِلَ مَا كَانَ يُصَلِّيهِ مِنْ الرَّكَعَاتِ عَلَى أَوَاخِرِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قَوْم يُصَلُّونَ مِائَة رَكْعَة فِي آخِر اللَّيْل وَيُسْمون ذَلِكَ صَلَاةَ الْقَدَرِ] 212 - 128 مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْمٍ يُصَلُّوا بَعْدَ التَّرَاوِيحِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْجَمَاعَةِ، ثُمَّ فِي آخِرِ اللَّيْلِ يُصَلُّوا تَمَامَ مِائَةِ رَكْعَةٍ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ صَلَاةَ الْقَدْرِ. وَقَدْ امْتَنَعَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ مِنْ فِعْلِهَا: فَهَلْ الصَّوَابُ مَعَ مَنْ يَفْعَلُهَا؟ أَوْ مَعَ مَنْ يَتْرُكُهَا؟ وَهَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَوْ مَكْرُوهَةٌ؟ وَهَلْ يَنْبَغِي فِعْلُهَا وَالْأَمْرُ بِهَا، أَوْ تَرْكُهَا وَالنَّهْيُ عَنْهَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ الْمُصِيبُ هَذَا الْمُمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِهَا، وَاَلَّذِي تَرَكَهَا فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَمْ يَسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ هِيَ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَلَا فَعَلَ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا التَّابِعِينَ، وَلَا يَسْتَحِبُّهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ تُتْرَكَ وَيَنْهَى عَنْهَا. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي التَّرَاوِيحِ فَمُسْتَحَبٌّ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ مِنْ أَجَلِّ مَقْصُودِ التَّرَاوِيحِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِيهَا لِيَسْمَعَ الْمُسْلِمُونَ كَلَامَ اللَّهِ. فَإِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ فِيهِ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَفِيهِ كَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ، «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ» . [مَسْأَلَةٌ سُنَّة الْعَصْرِ هَلْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ فِيهَا حَدِيثٌ] 213 - 129 مَسْأَلَةٌ: فِي سُنَّةِ الْعَصْرِ: هَلْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا حَدِيثٌ؟ وَالْخِلَافُ الَّذِي فِيهَا مَا الصَّحِيحُ مِنْهُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَمَّا الَّذِي صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ. وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ» . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ

مسألة هل للعصر سنة راتبة أم لا

النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» وَجَاءَ فِي السُّنَنِ تَفْسِيرُهُ: «أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ» . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ» كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ، وَقَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَقَبْلَ الْعِشَاءِ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يُصَلُّونَ بَيْنَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ وَإِقَامَتِهَا رَكْعَتَيْنِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرَاهُمْ فَلَا يَنْهَاهُمْ، وَلَمْ يَكْرَهْ فِعْلَ ذَلِكَ. فَمِثْلُ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ حَسَنَةٌ لَيْسَ سُنَّةً، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهَ أَنْ تُتَّخَذَ سُنَّةً. وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ، وَقَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَقَبْلَ الْعِشَاءِ، فَلَا تُتَّخَذُ سُنَّةً، وَلَا يُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا؛ بِخِلَافِ مَا فَعَلَهُ وَرَغَّبَ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَوْكَدُ مِنْ هَذَا. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا» وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَرُوِيَ «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ» . وَالْمُرَادُ بِهِ الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الظُّهْرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ لِلْعَصْرِ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ أَمْ لَا] 214 - 130 مَسْأَلَةٌ: هَلْ لِلْعَصْرِ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ أَمْ لَا أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ الْمَكْتُوبَاتِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ أَوْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعًا وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ وَقَبْلَ الْفَجْرِ رَكْعَتَيْنِ» وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» وَرُوِيَتْ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ " وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحِ

مسألة هل سنة العصر مستحبة

سِوَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ. وَأَمَّا قَبْلَ الْعَصْرِ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ إلَّا وَفِيهِ ضَعْفٌ بَلْ خَطَأٌ كَحَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ سِتَّ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا قَبْلَ الْعَصْرِ وَهُوَ مَطْعُونٌ فِيهِ فَإِنَّ الَّذِينَ اعْتَنَوْا بِنَقْلِ تَطَوُّعَاتِهِ كَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ بَيَّنُوا مَا كَانَ يُصَلِّيهِ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ قَبْلَ الْمَغْرِبِ وَقَبْلَ الْعِشَاءِ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّيهَا لَكِنْ كَانَ أَصْحَابُهُ يُصَلُّونَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَهُوَ يَرَاهُمْ فَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ» ، كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً. فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ حَسَنَةٌ وَلَيْسَتْ بِسُنَّةٍ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ الْعَصْرِ كَمَا يُصَلِّي قَبْلَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَحَسَنٌ وَأَمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ كَانَ يُصَلِّيهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ وَبَعْدَهَا وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ فَهَذَا خَطَأٌ. وَالصَّلَاةُ مَعَ الْمَكْتُوبَةِ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ. إحْدَاهَا: سُنَّةُ الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ فَهَاتَانِ أَمَرَ بِهِمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَأْمُرْ بِغَيْرِهِمَا وَهُمَا سُنَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّيهِمَا فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَلَمْ يَجْعَلْ مَالِكٌ سُنَّةً رَاتِبَةً غَيْرَهَا. وَالثَّانِيَةُ مَا كَانَ يُصَلِّيهِ مَعَ الْمَكْتُوبَةِ فِي الْحَضَرِ وَهُوَ عَشْرُ رَكَعَاتٍ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَقَدْ أَثْبَتَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ مَعَ الْمَكْتُوبَاتِ سُنَّةً مُقَدَّرَةً بِخِلَافِ مَالِكٍ. وَالثَّالِثَةُ: التَّطَوُّعُ الْجَائِزُ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْعَلَ سُنَّةً لِكَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ وَلَا قَدَّرَ فِيهِ عَدَدًا وَالصَّلَاةُ قَبْلَ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَقَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ صَلَاةُ الضُّحَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ سُنَّةُ الْعَصْرِ مُسْتَحَبَّةٌ] 215 - 131 مَسْأَلَةٌ: هَلْ سُنَّةُ الْعَصْرِ مُسْتَحَبَّةٌ؟ الْجَوَابُ: لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ شَيْئًا وَإِنَّمَا كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ

مسألة هل تقضى السنن الرواتب

الظُّهْرِ: إمَّا رَكْعَتَيْنِ، وَإِمَّا أَرْبَعًا، وَبَعْدَهَا. وَكَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَقَبْلَ الْفَجْرِ رَكْعَتَيْنِ. وَأَمَّا قَبْلَ الْعَصْرِ، وَقَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَقَبْلَ الْعِشَاءِ، فَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي؛ لَكِنْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ» ، كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ تَطَوُّعًا قَبْلَ الْعَصْرِ فَهُوَ حَسَنٌ. لَكِنْ لَا يَتَّخِذُ ذَلِكَ سُنَّةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ تُقْضَى السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ] الْجَوَابُ: أَمَّا إذَا فَاتَتْ السُّنَّةُ الرَّاتِبَةُ مِثْلُ سُنَّةِ الظُّهْرِ فَهَلْ تُقْضَى بَعْدَ الْعَصْرِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: أَحَدُهُمَا: لَا تُقْضَى، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ. وَالثَّانِي: تُقْضَى، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَقْوَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ لَا يُوَاظِبُ عَلَى السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ] 217 - 133 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ لَا يُوَاظِبُ عَلَى السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ؟ الْجَوَابُ: مَنْ أَصَرَّ عَلَى تَرْكِهَا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى قِلَّةِ دِينِهِ، وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِمَا. [مَسْأَلَةٌ صَلَاة الْمُسَافِرِ هَلْ لَهَا سُنَّةٌ] 218 - 134 - مَسْأَلَةٌ: فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ: هَلْ لَهَا سُنَّةٌ؟ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ رَحْمَةً مِنْهُ عَلَى عِبَادِهِ، فَمَا حُجَّةُ مَنْ يَدَّعِي السُّنَّةَ؟ وَقَدْ أَنْكَرَ عُمَرُ عَلَى مَنْ سَبَّحَ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ. فَهَلْ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ تَأَكَّدَ فِي السُّنَّةِ فِي السَّفَرِ كَأَبِي حَنِيفَةَ؟ وَهَلْ نُقِلَ هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَمْ لَا؟

مسألة الصلاة بعد أذان المغرب وقبل الصلاة

الْجَوَابُ: أَمَّا الَّذِي ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ مِنْ التَّطَوُّعِ، فَهُوَ رَكْعَتَا الْفَجْرِ، حَتَّى إنَّهُ لَمَّا نَامَ عَنْهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ مُنْصَرَفُهُ مِنْ خَيْبَرَ قَضَاهُمَا مَعَ الْفَرِيضَةِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَكَذَلِكَ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَالْوِتْرِ. فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ» . وَأَمَّا الصَّلَاةُ قَبْلَ الظُّهْرِ وَبَعْدَهَا: فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ، وَلَمْ يُصَلِّ مَعَهَا شَيْئًا، وَكَذَلِكَ كَانَ يُصَلِّي بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ أَنَّهُ صَلَّى مَعَهَا شَيْئًا. وَابْنُ عُمَرَ كَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالسُّنَّةِ، وَأَتْبَعَهُمْ لَهَا، وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَقَدْ تَنَازَعُوا فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الصَّلَاة بَعْدَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ وَقَبْلَ الصَّلَاةِ] 219 - 135 - مَسْأَلَةٌ: فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ، وَقَبْلَ الصَّلَاةِ؟ الْجَوَابُ: كَانَ «بِلَالٌ كَمَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْصِلُ بَيْنَ أَذَانِهِ وَإِقَامَتِهِ، حَتَّى يَتَّسِعَ لِرَكْعَتَيْنِ، فَكَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ يُصَلِّي بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرَاهُمْ وَيُقِرُّهُمْ» ، وَقَالَ «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ» . مَخَافَةَ أَنْ تُتَّخَذَ سُنَّةً.

مسألة هل صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم

فَإِذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ مِقْدَارَ ذَلِكَ، فَهَذِهِ صَلَاةٌ حَسَنَةٌ، وَأَمَّا إنْ كَانَ يَصِلُ الْأَذَانَ بِالْإِقَامَةِ، فَالِاشْتِغَالُ بِإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ هُوَ السُّنَّةُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ» . وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَعَ إجَابَةَ الْمُؤَذِّنِ، وَيُصَلِّي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ لِمَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يَقُولَ: مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَقُولُ: " اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ " إلَى آخِرِهِ - يَدْعُو بَعْدَ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ صَلَاة الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ] 220 - 136 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ لَهَا وِرْدٌ بِاللَّيْلِ تُصَلِّيهِ، فَتَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. فَقِيلَ لَهَا: إنَّ صَلَاةَ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ، فَهَلْ هُوَ صَحِيحٌ؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ» . لَكِنْ إذَا كَانَ عَادَتُهُ أَنَّهُ يُصَلِّي قَائِمًا، وَإِنَّمَا قَعَدَ لِعَجْزِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِيهِ أَجْرَ الْقَائِمِ. لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ» . فَلَوْ عَجَزَ عَنْ الصَّلَاةِ كُلِّهَا لِمَرَضٍ كَانَ اللَّهُ يَكْتُبُ لَهُ أَجْرَهَا كُلَّهُ؛ لِأَجْلِ نِيَّتِهِ وَفِعْلِهِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ إذَا عَجَزَ عَنْ أَفْعَالِهَا؟ ، [مَسْأَلَةٌ صَلَاة الرَّغَائِبِ هَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ أَمْ لَا] 221 - 137 - مَسْأَلَةٌ: فِي صَلَاةِ الرَّغَائِبِ هَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ الصَّلَاةُ لَمْ يُصَلِّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا التَّابِعِينَ، وَلَا أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا رَغَّبَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ، وَلَا

مسألة صلاة نصف شعبان

الْأَئِمَّةُ وَلَا ذَكَرُوا لِهَذِهِ اللَّيْلَةِ فَضِيلَةً تَخُصُّهَا. وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذِبٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إنَّهَا مَكْرُوهَةٌ غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ صَلَاة نِصْفِ شَعْبَانَ] 222 - 138 - مَسْأَلَةٌ: فِي صَلَاةِ نِصْفِ شَعْبَانَ؟ الْجَوَابُ: إذَا صَلَّى الْإِنْسَانُ لَيْلَةَ النِّصْفِ وَحْدَهُ، أَوْ فِي جَمَاعَةٍ خَاصَّةٍ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ، فَهُوَ أَحْسَنُ. وَأَمَّا الِاجْتِمَاعُ فِي الْمَسَاجِدِ عَلَى صَلَاةٍ مُقَدَّرَةٍ. كَالِاجْتِمَاعِ عَلَى مِائَةِ رَكْعَةٍ، بِقِرَاءَةِ أَلِفِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] دَائِمًا. فَهَذَا بِدْعَةٌ، لَمْ يَسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ سُجُودُ التِّلَاوَةِ قَائِمًا أَفْضَلُ مِنْهُ قَاعِدًا] 223 - 139 - مَسْأَلَةٌ: فِي الرَّجُلِ إذَا كَانَ يَتْلُو الْكِتَابَ الْعَزِيزَ بَيْنَ جَمَاعَةٍ، فَقَرَأَ سَجْدَةً، فَقَامَ عَلَى قَدَمَيْهِ وَسَجَدَ فَهَلْ قِيَامُهُ أَفْضَلُ مِنْ سُجُودِهِ وَهُوَ قَاعِدٌ؟ أَمْ لَا؟ وَهَلْ فِعْلُهُ ذَلِكَ رِيَاءٌ وَنِفَاقٌ؟ الْجَوَابُ: بَلْ سُجُودُ التِّلَاوَةِ قَائِمًا أَفْضَلُ مِنْهُ قَاعِدًا، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، وَكَمَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ، بَلْ وَكَذَلِكَ سُجُودُ الشُّكْرِ، كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سُجُودِهِ لِلشُّكْرِ قَائِمًا، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الِاعْتِبَارِ، فَإِنَّ صَلَاةَ الْقَائِمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْقَاعِدِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ أَحْيَانًا يُصَلِّي قَاعِدًا فَإِذَا قَرُبَ مِنْ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَهُوَ قَائِمٌ، وَأَحْيَانًا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَهَذَا قَدْ يَكُونُ لِلْعُذْرِ، أَوْ لِلْجَوَازِ، وَلَكِنْ تَحَرِّيهِ مَعَ قُعُودِهِ أَنْ يَقُومَ لِيَرْكَعَ وَيَسْجُدَ وَهُوَ قَائِمٌ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ. إذْ هُوَ أَكْمَلُ وَأَعْظَمُ خُشُوعًا لِمَا فِيهِ مِنْ هُبُوطِ رَأْسِهِ وَأَعْضَائِهِ السَّاجِدَةِ لِلَّهِ مِنْ الْقِيَامِ.

وَمَنْ كَانَ لَهُ وِرْدٌ مَشْرُوعٌ مِنْ صَلَاةِ الضُّحَى، أَوْ قِيَامِ لَيْلٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُصَلِّيهِ حَيْثُ كَانَ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدَعَ وِرْدَهُ الْمَشْرُوعَ لِأَجْلِ كَوْنِهِ بَيْنَ النَّاسِ، إذَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ سِرًّا لِلَّهِ مَعَ اجْتِهَادِهِ فِي سَلَامَتِهِ مِنْ الرِّيَاءِ، وَمُفْسِدَاتِ الْإِخْلَاصِ، وَلِهَذَا قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: تَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ، وَالْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ. وَفِعْلُهُ فِي مَكَانِهِ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ مَعِيشَتُهُ الَّتِي يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَفْعَلَهُ حَيْثُ تَتَعَطَّلُ مَعِيشَتُهُ، وَيَشْتَغِلُ قَلْبُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ كُلَّمَا كَانَتْ أَجْمَعَ لِلْقَلْبِ وَأَبْعَدَ مِنْ الْوَسْوَاسِ كَانَتْ أَكْمَلَ. وَمَنْ نَهَى عَنْ أَمْرٍ مَشْرُوعٍ بِمُجَرَّدِ زَعْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ رِيَاءٌ، فَنَهْيُهُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَعْمَالَ الْمَشْرُوعَةَ لَا يُنْهَى عَنْهَا خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ، بَلْ يُؤْمَرُ بِهَا وَبِالْإِخْلَاصِ فِيهَا، وَنَحْنُ إذَا رَأَيْنَا مَنْ يَفْعَلُهَا أَقْرَرْنَاهُ، وَإِنْ جَزَمْنَا أَنَّهُ يَفْعَلُهَا رِيَاءً، فَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 142] . فَهَؤُلَاءِ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ يُقِرُّونَهُمْ عَلَى مَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ الدِّينِ، وَإِنْ كَانُوا مُرَائِينَ، وَلَا يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي تَرْكِ إظْهَارِ الْمَشْرُوعِ أَعْظَمُ مِنْ الْفَسَادِ فِي إظْهَارِهِ رِيَاءً، كَمَا أَنَّ فَسَادَ تَرْكِ إظْهَارِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَوَاتِ أَعْظَمُ مِنْ الْفَسَادِ فِي إظْهَارِ ذَلِكَ رِيَاءً؛ وَلِأَنَّ الْإِنْكَارَ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْفَسَادِ فِي إظْهَارِ ذَلِكَ رِئَاءَ النَّاسِ. الثَّانِي: لِأَنَّ الْإِنْكَارَ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَا أَنْكَرَتْهُ الشَّرِيعَةُ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَنْ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ» . وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَجَبْنَاهُ، وَوَالَيْنَاهُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا شَرًّا أَبْغَضْنَاهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ سَرِيرَتَهُ صَالِحَةٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ تَسْوِيغَ مِثْلِ هَذَا يُفْضِي إلَى أَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ يُنْكِرُونَ عَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ إذَا رَأَوْا مَنْ يُظْهِرُ أَمْرًا مَشْرُوعًا مَسْنُونًا، قَالُوا: هَذَا مُرَاءٍ، فَيَتْرُكُ أَهْلُ

مسألة من صلى بلا وضوء فيما تشترط له الطهارة

الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ إظْهَارَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ، حَذَرًا مِنْ لَمْزِهِمْ وَذَمِّهِمْ، فَيَتَعَطَّلُ الْخَيْرُ، وَيَبْقَى لِأَهْلِ الشِّرْكِ شَوْكَةٌ يُظْهِرُونَ الشَّرَّ، وَلَا أَحَدَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ. الرَّابِعُ: أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ شَعَائِرِ الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ يَطْعَنُ عَلَى مَنْ يُظْهِرُ الْأَعْمَالَ الْمَشْرُوعَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79] . فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَضَّ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَامَ تَبُوكَ جَاءَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ يَدُهُ تَعْجِزُ مِنْ حَمْلِهَا، فَقَالُوا: هَذَا مُرَاءٍ، وَجَاءَ بَعْضُهُمْ بِصَاعٍ، فَقَالُوا: لَقَدْ كَانَ اللَّهُ غَنِيًّا عَنْ صَاعِ فُلَانٍ، فَلَمَزُوا هَذَا وَهَذَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَصَارَ عِبْرَةً فِيمَنْ يَلْمِزُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ صَلَّى بِلَا وُضُوءٍ فِيمَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ] 224 - 140 - مَسْأَلَةٌ: فِي الرَّجُلِ إذَا تُلِيَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِيهِ سَجْدَةٌ سَجَدَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، فَهَلْ يَأْثَمُ؟ أَوْ يَكْفُرُ؛ أَوْ تَطْلُقُ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ؟ الْجَوَابُ: لَا يَكْفُرُ، وَلَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ، وَلَكِنْ يَأْثَمُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنْ ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ صَلَّى بِلَا وُضُوءٍ فِيمَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ بِالْإِجْمَاعِ. كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ، وَإِذَا كَفَرَ كَانَ مُرْتَدًّا. وَالْمُرْتَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ، وَلَكِنْ تَكْفِيرُ هَذَا لَيْسَ مَنْقُولًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسِهِ، وَلَا عَنْ صَاحِبَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ أَتْبَاعِهِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُعَزَّرُ، وَلَا يُكَفَّرُ إلَّا إذَا اسْتَحَلَّ ذَلِكَ وَاسْتَهْزَأَ بِالصَّلَاةِ. وَأَمَّا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ: فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهَا تَجُوزُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، وَمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِهِ لَا يَكْفُرُ فَاعِلُهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا تَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ إلَّا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى الْإِسْلَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة دعاء الاستخارة هل يدعو به في الصلاة أم بعد السلام

[مَسْأَلَةٌ دُعَاء الِاسْتِخَارَةِ هَلْ يَدْعُو بِهِ فِي الصَّلَاةِ أَمْ بَعْدَ السَّلَامِ] مَسْأَلَةٌ فِي دُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ، هَلْ يَدْعُو بِهِ فِي الصَّلَاةِ؟ أَمْ بَعْدَ السَّلَامِ؟ الْجَوَابُ: يَجُوزُ الدُّعَاءُ فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ، وَغَيْرِهَا: قَبْلَ السَّلَامِ، وَبَعْدَهُ، وَالدُّعَاءُ قَبْلَ السَّلَامِ أَفْضَلُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرُ دُعَائِهِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَالْمُصَلِّي قَبْلَ السَّلَامِ لَمْ يَنْصَرِفْ، فَهَذَا أَحْسَنُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ رَأَى رَجُلًا يَتَنَفَّلُ فِي وَقْتِ نَهْيٍ] 226 - 142 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ رَأَى رَجُلًا يَتَنَفَّلُ فِي وَقْتِ نَهْيٍ فَقَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَذَكَرَ لَهُ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي الْكَرَاهَةِ فَقَالَ هَذَا لَا أَسْمَعُهُ، وَأُصَلِّي كَيْفَ شِئْت، فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَمَّا التَّطَوُّعُ الَّذِي لَا سَبَبَ لَهُ: فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَضْرِبُ مَنْ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ. فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ اتِّبَاعًا لِمَا سَنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، إذْ قَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَالَهُ سَبَبٌ: كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ، فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ، وَتَأْوِيلٌ: فَإِنْ كَانَ يُصَلِّي صَلَاةً يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ لَمْ يُعَاقَبْ. وَأَمَّا رَدُّهُ الْأَحَادِيثَ بِلَا حُجَّةٍ، وَشَتْمُ النَّاهِي، وَقَوْلُهُ لِلنَّاهِي: أُصَلِّي كَيْفَ شِئْت، فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ، إذْ الرَّجُلُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ كَمَا يُشْرَعُ لَهُ، لَا كَمَا يَشَاءُ هُوَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَحِيَّة الْمَسْجِدِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ] 227 - 143 - مَسْأَلَةٌ: فِي الرَّجُلِ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فِي وَقْتِ النَّهْيِ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ؟ .

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ: أَنَّهُ لَا يُصَلِّيهَا. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ يُصَلِّيهَا وَهَذَا أَظْهَرُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» . وَهَذَا أَمْرٌ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ صُورَةً مِنْ الصُّوَرِ: وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَبَعْدَ غُرُوبِهَا، فَقَدْ خُصَّ مِنْهُ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةً. مِنْهَا قَضَاءُ الْفَوَائِتِ. وَمِنْهَا رَكْعَتَا الطَّوَافِ. وَمِنْهَا الْمُعَادَةُ مَعَ إمَامِ الْحَيِّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَالْعَامُّ الْمَحْفُوظُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَقْتَ الْخُطْبَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، كَالنَّهْيِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، أَوْكَدُ، ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ وَالْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» . فَإِذَا كَانَ قَدْ أَمَرَ بِالتَّحِيَّةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَهُوَ وَقْتُ نَهْيٍ. فَكَذَلِكَ الْوَقْتُ الْآخَرُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ أَحْمَدَ فِي هَذَا لِمَجِيءِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ بِهِ، بِخِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فَإِنَّ مَذْهَبَهُمَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ النَّهْيُ، فَإِنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُمَا هَذِهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 228 - 144 - مَسْأَلَةٌ: فِي تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ " هَلْ تُفْعَلُ " فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ؟ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» . فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ نَهْيٍ فَهَلْ يُصَلِّي؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ؛ لَكِنْ أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ يُصَلِّي، فَإِنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ قَدْ خَصَّ مِنْ صُوَرٍ كَثِيرَةٍ. وَخَصَّ مِنْ نَظِيرِهِ وَهُوَ وَقْتُ الْخُطْبَةِ، بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ

مسألة حكم صلاة الجماعة

الْمَسْجِدَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» . فَإِذَا أُمِرَ بِالتَّحِيَّةِ وَقْتَ الْخُطْبَةِ، فَفِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 229 - 145 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ إذَا تَوَضَّأَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وَقَدْ صَلَّى الْفَجْرَ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ شُكْرًا لِلْوُضُوءِ؟ . الْجَوَابُ: هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَفْعَلَ لِحَدِيثِ بِلَالٍ. [مَسْأَلَةٌ حُكْم صَلَاة الْجَمَاعَةِ] 230 - 146 - مَسْأَلَةٌ: فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ هَلْ هِيَ فَرْضُ عَيْنٍ أَمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، أَمْ سُنَّةٌ فَإِنْ كَانَتْ فَرْضَ عَيْنٍ وَصَلَّى وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ أَمْ لَا؟ وَمَا أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ؟ وَمَا حُجَّةُ كُلٍّ مِنْهُمْ؟ وَمَا الرَّاجِحُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ أَوْكَدِ الْعِبَادَاتِ، وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَأَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى مَا ثَبَتَ مِنْ فَضْلِهَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ: «تَفْضُلُ صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» هَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَالثَّلَاثَةُ فِي الصَّحِيحِ. وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا: بِأَنَّ الْحَدِيثَ الْخَمْسَ وَالْعِشْرِينَ، ذُكِرَ فِيهِ الْفَضْلُ الَّذِي بَيْنَ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ وَالصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَالْفَضْلُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ. وَحَدِيثُ السَّبْعَةِ وَالْعِشْرِينَ ذُكِرَ فِيهِ صَلَاتُهُ مُنْفَرِدًا وَصَلَاتُهُ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفَضْلُ بَيْنَهُمَا، فَصَارَ الْمَجْمُوعُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ، وَمَنْ ظَنَّ مِنْ الْمُتَنَسِّكَةِ أَنَّ صَلَاتَهُ وَحْدَهُ أَفْضَلُ، إمَّا فِي خَلْوَتِهِ، وَإِمَّا فِي غَيْرِ خَلْوَتِهِ، فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ، وَأَضَلُّ مِنْهُ مَنْ لَمْ يَرَ الْجَمَاعَةَ إلَّا خَلْفَ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ، فَعَطَّلَ الْمَسَاجِدَ عَنْ الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ، وَعَمَّرَ

الْمَسَاجِدَ بِالْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا وَرَسُولُهُ، وَصَارَ مُشَابِهًا لِمَنْ نَهَى عَنْ عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ، وَأَمَرَ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَعَ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا فِي الْمَسَاجِدِ. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29] . وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: 17] إلَى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18] وَقَالَ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36] {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] . الْآيَةُ وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40] . وَأَمَّا مَشَاهِدُ الْقُبُورِ وَنَحْوِهَا: فَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنْ تُخَصَّ بِصَلَاةٍ أَوْ دُعَاءٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ وَالذِّكْرَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْمَسَاجِدِ، فَقَدْ كَفَرَ. بَلْ قَدْ تَوَاتَرَتْ السُّنَنُ فِي النَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِهَا لِذَلِكَ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا: قَالَتْ عَائِشَةُ: " وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ كَنِيسَةٌ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَمَا

فِيهَا مِنْ الْحُسْنِ وَالتَّصَاوِيرِ، فَقَالَ: «أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبٍ أَنَّهُ قَالَ: قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ: «أَنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ» . وَفِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي» . وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ إقَامَةَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْمَسَاجِدِ هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ، وَأَجَلِّ الْقُرُبَاتِ، وَمِنْ فَضَّلَ تَرْكَهَا عَلَيْهَا إيثَارًا لِلْخَلْوَةِ وَالِانْفِرَادِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْجَمَاعَاتِ، أَوْ جَعَلَ الدُّعَاءَ وَالصَّلَاةَ فِي الْمَشَاهِدِ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ، فَقَدْ انْخَلَعَ مِنْ رِبْقَةِ الدِّينِ، وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] . وَلَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهَا وَاجِبَةً عَلَى الْأَعْيَانِ، أَوْ عَلَى الْكِفَايَةِ، أَوْ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقِيلَ: هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فَقَطْ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَيُذْكَرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ.

وَقِيلَ: هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَجَّحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَقِيلَ: هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ: وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ، وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، وَغَيْرِهِمْ. وَهَؤُلَاءِ تَنَازَعُوا فِيمَا إذَا صَلَّى مُنْفَرِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ، هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ عَنْهُمْ، وَبَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ كَابْنِ عَقِيلٍ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ. وَالثَّانِي: تَصِحُّ مَعَ إثْمِهِ بِالتَّرْكِ، وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ. وَاَلَّذِينَ نَفَوْا الْوُجُوبَ احْتَجُّوا بِتَفْضِيلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ تَصِحَّ صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَفْضِيلٌ، وَحَمَلُوا مَا جَاءَ مِنْ هَمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّحْرِيقِ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ، أَوْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجَمَاعَةِ مَعَ النِّفَاقِ، وَأَنَّ تَحْرِيقَهُمْ كَانَ لِأَجْلِ النِّفَاقِ لَا لِأَجْلِ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ. مَعَ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ. وَأَمَّا الْمُوجِبُونَ: فَاحْتَجُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ. أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] الْآيَةَ. وَفِيهَا دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مَعَهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا حَالَ الْخَوْفِ، وَهُوَ يَدُلُّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى وُجُوبِهَا حَالَ الْأَمْنِ. الثَّانِي: أَنَّهُ سَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ جَمَاعَةً، وَسَوَّغَ فِيهَا مَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، كَاسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ، وَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ عُذْرٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ مُفَارَقَةُ الْإِمَامِ قَبْلَ السَّلَامِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَذَلِكَ التَّخَلُّفُ عَنْ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ، كَمَا يَتَأَخَّرُ

الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بَعْدَ رُكُوعِهِ مَعَ الْإِمَامِ إذَا كَانَ الْعَدُوُّ أَمَامَهُمْ. قَالُوا: هَذِهِ الْأُمُورُ تُبْطِلُ الصَّلَاةَ لَوْ فُعِلَتْ بِغَيْرِ عُذْرٍ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةً بَلْ مُسْتَحَبَّةً لَكَانَ قَدْ الْتَزَمَ فِعْلَ مَحْظُورٍ مُبْطِلٍ لِلصَّلَاةِ، وَتُرِكَتْ الْمُتَابَعَةُ الْوَاجِبَةُ فِي الصَّلَاةِ لِأَجْلِ فِعْلِ مُسْتَحَبٍّ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يُصَلُّوا وُحْدَانًا صَلَاةً تَامَّةً فَعُلِمَ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُقَارَنَةُ بِالْفِعْلِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً. وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا يُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] فَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي، لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: صَلُّوا مَعَ الْمُصَلِّينَ، وَصُومُوا مَعَ الصَّائِمِينَ، {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] ، وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ الرُّكُوعِ بِذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَالصَّلَاةُ كُلُّهَا تُفْعَلُ مَعَ الْجَمَاعَةِ. قِيلَ: خَصَّ الرُّكُوعَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ تُدْرَكُ بِهِ الصَّلَاةُ، فَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ، فَأُمِرَ بِمَا يُدْرِكُ بِهِ الرَّكْعَةَ، كَمَا قَالَ لِمَرْيَمَ: {اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: اُقْنُتِي مَعَ الْقَانِتِينَ لَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ إدْرَاكِ الْقِيَامِ، وَلَوْ قِيلَ: اُسْجُدِي لَمْ يَدُلَّ عَلَى وُجُوبِ إدْرَاكِ الرُّكُوعِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ وَمَا بَعْدَهُ دُونَ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَالْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَةُ فِي الْبَابِ: مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ: فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ» فَهَمَّ بِتَحْرِيقِ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الصَّلَاةَ، وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ

الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ» الْحَدِيثُ. وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ: «لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، لَأَمَرْت أَنْ تُقَامَ الصَّلَاةُ» الْحَدِيثُ. فَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ هَمَّ بِتَحْرِيقِ الْبُيُوتِ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الصَّلَاةَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ فِيهَا مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ. فَإِنَّهُمْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ شُهُودُ الصَّلَاةِ، وَفِي تَحْرِيقِ الْبُيُوتِ قَتْلُ مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْحُبْلَى. وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25] . وَمَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ شُهُودِ الْجُمُعَةِ، فَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يُبَيِّنُ ضَعْفَ قَوْلِهِ حَيْثُ ذَكَرَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِهَمِّهِ بِتَحْرِيقِ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الصَّلَاةَ. وَأَمَّا مَنْ حَمَلَ الْعُقُوبَةَ عَلَى النِّفَاقِ، لَا عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ لِأَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ يُقِيلُ الْمُنَافِقِينَ إلَّا عَلَى الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ، وَإِنَّمَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ مِنْ تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ، فَلَوْلَا أَنَّ فِي ذَلِكَ تَرْكَ وَاجِبٍ لَمَا حَرَّقَهُمْ. الثَّانِي: أَنَّهُ رَتَّبَ الْعُقُوبَةَ عَلَى تَرْكِ شُهُودِ الصَّلَاةِ، فَيَجِبُ رَبْطُ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ الَّذِي ذَكَرَهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ سَيَأْتِي - إنْ شَاءَ اللَّهُ - حَدِيثُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ حَيْثُ اسْتَأْذَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ خِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ، أَثْنَى عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَخْلِفُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ يُؤَذِّنُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الرَّابِعُ: إنَّ ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى وُجُوبِهَا أَيْضًا: كَمَا قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلِيُصَلِّ هَذِهِ

الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّهِ سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي يُنَادَى بِهِنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَإِنَّكُمْ لَوْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا صَلَّى هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ. فَقَدْ أَخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِقْرَارِ وُجُوبِهَا عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ لَوْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مُسْتَحَبَّةً كَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَالتَّطَوُّعَاتِ الَّتِي مَعَ الْفَرَائِضِ، وَصَلَاةِ الضُّحَى وَنَحْوِ ذَلِكَ. كَانَ مِنْهُمْ مِنْ يَفْعَلُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَفْعَلُهَا مَعَ إيمَانِهِ، كَمَا قَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ: وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ. فَقَالَ: «أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ كَانَ لَا يَخْتَلِفُ عَنْهُ إلَّا مُنَافِقٌ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْأَعْيَانِ، كَخُرُوجِهِمْ إلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا، لَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ فِي التَّخَلُّفِ، إلَّا مَنْ ذَكَرَ أَنَّ لَهُ عُذْرًا فَأَذِنَ لَهُ لِأَجْلِ عُذْرِهِ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ كَشَفَ اللَّهُ أَسْرَارَ الْمُنَافِقِينَ، وَهَتَكَ أَسْتَارَهُمْ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ تَخَلَّفُوا لِغَيْرِ عُذْرٍ. وَاَلَّذِينَ تَخَلَّفُوا لِغَيْرِ عُذْرٍ مَعَ الْإِيمَانِ عُوقِبُوا بِالْهَجْرِ، حَتَّى هِجْرَانِ نِسَائِهِمْ لَهُمْ، حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ الْيَوْمَ تَحْكُمُونَ بِنِفَاقِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا، وَتُجَوِّزُونَ تَحْرِيقَ الْبُيُوتِ عَلَيْهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا ذُرِّيَّةٌ. قِيلَ لَهُ: مِنْ الْأَفْعَالِ مَا يَكُونُ وَاجِبًا، وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ الْمُتَأَوِّلِ يُسْقِطُ الْحَدَّ عَنْهُ، وَقَدْ صَارَ الْيَوْمَ كَثِيرٌ مِمَّنْ هُوَ مُؤْمِنٌ لَا يَرَاهَا وَاجِبَةً عَلَيْهِ، فَيَتْرُكُهَا مُتَأَوِّلًا، وَفِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ تَأْوِيلٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ بَاشَرَهُمْ بِالْإِيجَابِ. وَأَيْضًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ: «أَنَّ أَعْمَى اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: فَأَجِبْ» فَأَمَرَهُ بِالْإِجَابَةِ إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ؛ وَلِهَذَا أَوْجَبَ أَحْمَدُ الْجَمَاعَةَ عَلَى مَنْ

سَمِعَ النِّدَاءَ. وَفِي لَفْظٍ فِي السُّنَنِ «أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنِّي رَجُلٌ شَاسِعُ الدَّارِ وَإِنَّ الْمَدِينَةَ كَثِيرَةُ الْهَوَامِّ، وَلِي قَائِدٌ لَا يُلَائِمُنِي، فَهَلْ تَجِدُ لِي رُخْصَةً أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي؟ فَقَالَ: هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَا أَجِدُ لَك رُخْصَةً» . وَهَذَا نَصٌّ فِي الْإِيجَابِ لِلْجَمَاعَةِ، مَعَ كَوْنِ الرَّجُلِ مُؤْمِنًا. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِتَفْضِيلِ صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ فَعَنْهُ جَوَابَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَمَنْ صَحَّحَ صَلَاتَهُ قَالَ: الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ، كَالْوَقْتِ فَإِنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الْعَصْرَ إلَى وَقْتِ الِاصْفِرَارِ كَانَ آثِمًا، مَعَ كَوْنِ الصَّلَاةِ صَحِيحَةً، بَلْ وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَّرَهَا إلَى أَنْ يَبْقَى مِقْدَارُ رَكْعَةٍ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ» قَالَ: وَالتَّفْضِيلُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَفْضُولَ جَائِزٌ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [الجمعة: 9] فَجَعَلَ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ خَيْرًا مِنْ الْبَيْعِ؛ وَالسَّعْيُ وَاجِبٌ وَالْبَيْعُ حَرَامٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30] . وَمَنْ قَالَ: لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ إلَّا لِعُذْرٍ، احْتَجَّ بِأَدِلَّةِ الْوُجُوبِ قَالَ: وَمَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ فِي الصَّلَاةِ كَانَ شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ، كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ. وَأَمَّا الْوَقْتُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَلَافِيهِ، فَإِذَا مَاتَ لَمْ يَكُنْ فِعْلُ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَنَظِيرُ ذَلِكَ فَوْتُ الْجُمُعَةِ، وَفَوْتُ الْجَمَاعَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا، فَإِذَا فَوَّتَ الْجُمُعَةَ الْوَاجِبَةَ كَانَ آثِمًا وَعَلَيْهِ الظُّهْرُ، إذْ لَا يُمْكِنُ سِوَى ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَنْ فَوَّتَ الْجَمَاعَةَ الْوَاجِبَةَ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهِ شُهُودُهَا، وَلَيْسَ هُنَاكَ جَمَاعَةٌ أُخْرَى، فَإِنَّهُ يُصَلِّي مُنْفَرِدًا وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ هُنَا لِعَدَمِ إمْكَانِ صَلَاتِهِ جَمَاعَةً، كَمَا تَصِحُّ الظُّهْرُ مِمَّنْ تَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ. وَلَيْسَ وُجُوبُ الْجَمَاعَةِ بِأَعْظَمَ مِنْ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَنْ صَلَّى فِي

بَيْتِهِ مُنْفَرِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ، ثُمَّ أُقِيمَتْ الْجَمَاعَةُ، فَهَذَا عِنْدَهُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ، كَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمُعَةَ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ ثُمَّ لَمْ يُجِبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَا صَلَاةَ لَهُ» . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» فَإِنَّ هَذَا مَعْرُوفٌ مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوَّى ذَلِكَ لِبَعْضِ الْحُفَّاظِ. قَالُوا: وَلَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَرْفُ النَّفْيِ دَخَلَ عَلَى فِعْلٍ شَرْعِيٍّ إلَّا لِتَرْكِ وَاجِبٍ فِيهِ كَقَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ» «وَلَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ» . وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَأَجَابَ هَؤُلَاءِ عَنْ حَدِيثِ التَّفْضِيلِ. بِأَنْ قَالُوا: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْذُورِ كَالْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ، وَصَلَاةُ النَّائِمِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَاعِدِ» وَأَنَّ تَفْضِيلَهُ صَلَاةَ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ كَتَفْضِيلِهِ صَلَاةَ الْقَائِمِ عَلَى صَلَاةِ الْقَاعِدِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقِيَامَ وَاجِبٌ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ، كَمَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ. وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ: هَلْ الْمُرَادُ بِهِمَا الْمَعْذُورُ، أَوْ غَيْرُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ الْمُرَادُ بِهِمَا غَيْرُ الْمَعْذُورِ. قَالُوا: لِأَنَّ الْمَعْذُورَ أَجْرُهُ تَامٌّ، بِدَلِيلِ مَا

ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ» قَالُوا: فَإِذَا كَانَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ يُكْتَبُ لَهُمَا مَا كَانَا يَعْمَلَانِ فِي الصِّحَّةِ، وَالْإِقَامَةِ. فَكَيْفَ تَكُونُ صَلَاةُ الْمَعْذُورِ قَاعِدًا أَوْ مُنْفَرِدًا دُونَ صَلَاتِهِ فِي الْجَمَاعَةِ قَاعِدًا؟ ، وَحَمَلَ هَؤُلَاءِ تَفْضِيلَ صَلَاةِ الْقَائِمِ عَلَى النَّفْلِ دُونَ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ فِي الْفَرْضِ وَاجِبٌ. وَمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لَزِمَهُ أَنْ يُجَوِّزَ تَطَوُّعَ الصَّحِيحِ مُضْطَجِعًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ: «وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ» . وَقَدْ طَرَدَ هَذَا الدَّلِيلَ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَتَطَوَّعَ الرَّجُلُ مُضْطَجِعًا، لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلِتَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى الْمَرِيضِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ، وَعَدُّوهُ بِدْعَةً، وَحَدَثًا فِي الْإِسْلَامِ. وَقَالُوا: لَا يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا قَطُّ صَلَّى فِي الْإِسْلَامِ، عَلَى جَنْبِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَفَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ بَعْدَهُ، وَلَفَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ مَرَّةً لِتَبْيِينِ الْجَوَازِ، فَقَدْ كَانَ يَتَطَوَّعُ قَاعِدًا، وَيُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ، فَلَوْ كَانَ هَذَا سَائِغًا لَفَعَلَهُ، وَلَوْ مَرَّةً. أَوْ لَفَعَلَهُ أَصْحَابُهُ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا هَذَا مَعَ ظُهُورِ حُجَّتِهِمْ قَدْ تَنَاقَضَ مَنْ لَمْ يُوجِبْ الْجَمَاعَةَ مِنْهُمْ، حَيْثُ حَمَلُوا قَوْلَهُ: «تَفْضُلُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَ الْمَعْذُورِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: لِمَ كَانَ التَّفْضِيلُ هُنَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَعْذُورِ، وَالتَّفْضِيلُ هُنَاكَ فِي حَقِّ الْمَعْذُورِ، وَهَلْ هَذَا إلَّا تَنَاقُضٌ؟ ،. وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ الْجَمَاعَةَ وَحَمَلَ التَّفْضِيلَ عَلَى الْمَعْذُورِ، فَطَرَدَ دَلِيلَهُ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ فِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ. وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ مُنَازِعُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: «إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ» فَجَوَابُهُمْ عَنْهُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ

يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ الثَّوَابِ الَّذِي كَانَ يُكْتَبُ لَهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ؛ لِأَجْلِ نِيَّتِهِ لَهُ، وَعَجْزِهِ عَنْهُ بِالْعُذْرِ. وَهَذِهِ " قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ " أَنَّ مَنْ كَانَ عَازِمًا عَلَى الْفِعْلِ عَزْمًا جَازِمًا وَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ، فَهَذَا الَّذِي كَانَ لَهُ عَمَلٌ فِي صِحَّتِهِ وَإِقَامَتِهِ عَزْمُهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَقَدْ فَعَلَ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ مَا أَمْكَنَهُ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ. كَمَا جَاءَ فِي السُّنَنِ: فِيمَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ ذَهَبَ إلَى الْمَسْجِدِ يُدْرِكُ الْجَمَاعَةَ فَوَجَدَهَا قَدْ فَاتَتْ أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَكَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ، قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ» . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [النساء: 95] الْآيَةُ. فَهَذَا وَمِثْلُهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَعْذُورَ يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ ثَوَابِ الصَّحِيحِ، إذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ يَفْعَلَ، وَقَدْ عَمِلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَفْسُ عَمَلِهِ مِثْلَ عَمَلِ الصَّحِيحِ، فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ صَلَاةَ الْمَرِيضِ نَفْسَهَا فِي الْأَجْرِ مِثْلُ صَلَاةِ الصَّحِيحِ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ وَالْمَعْذُورِ فِي نَفْسِهَا مِثْلُ صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ، كَمَا يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ إذَا فَاتَتْهُ مَعَ قَصْدِهِ لَهَا. وَأَيْضًا فَلَيْسَ كُلُّ مَعْذُورٍ يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ عَمَلِ الصَّحِيحِ، وَإِنَّمَا يُكْتَبُ لَهُ إذَا كَانَ يَقْصِدُ عَمَلَ الصَّحِيحِ، وَلَكِنْ عَجَزَ عَنْهُ. فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ عَادَتُهُ الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ وَالصَّلَاةُ قَائِمًا، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ لِمَرَضِهِ، فَإِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ. وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَطَوَّعَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ، وَقَدْ كَانَ يَتَطَوَّعُ فِي الْحَضَرِ، قَائِمًا يُكْتَبُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي الْإِقَامَةِ. فَأَمَّا مَنْ لَمْ تَكُنْ عَادَتُهُ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، وَلَا الصَّلَاةَ قَائِمًا إذَا مَرِضَ، فَصَلَّى وَحْدَهُ، أَوْ صَلَّى قَاعِدًا، فَهَذَا لَا يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ صَلَاةِ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ. وَمَنْ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى غَيْرِ الْمَعْذُورِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ صَلَاةَ هَذَا قَاعِدًا مِثْلَ

مسألة رجل يقتدى به في ترك صلاة الجماعة

صَلَاةِ الْقَائِمِ، وَصَلَاتَهُ مُنْفَرِدًا مِثْلَ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ، وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ، وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ. وَأَيْضًا فَيُقَالُ: تَفْضِيلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ، وَلِصَلَاةِ الْقَائِمِ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَاعِدِ عَلَى الْمُضْطَجِعِ، إنَّمَا دَلَّ عَلَى فَضْلِ هَذِهِ الصَّلَاةِ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ، حَيْثُ يَكُونُ كُلٌّ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ صَحِيحَةً. أَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الصَّلَاةِ الْمَفْضُولَةِ تَصِحُّ حَيْثُ تَصِحُّ تِلْكَ، أَوْ لَا تَصِحُّ فَالْحَدِيثُ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ، وَلَا سِيقَ الْحَدِيثُ لِأَجْلِ بَيَانِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَفَاسِدِهَا؛ بَلْ وُجُوبُ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، وَسُقُوطِ ذَلِكَ، وَوُجُوبِ الْجَمَاعَةِ وَسُقُوطِهَا: يُلْتَقَى مِنْ أَدِلَّةٍ أُخَرَ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا كَوْنُ هَذَا الْمَعْذُورِ يُكْتَبُ لَهُ تَمَامُ عَمَلِهِ أَوْ لَا يُكْتَبُ لَهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ، بَلْ يُلْتَقَى مِنْ أَحَادِيثَ أُخَرَ، وَقَدْ بَيَّنَتْ سَائِرُ النُّصُوصِ أَنَّ تَكْمِيلَ الثَّوَابِ هُوَ لِمَنْ كَانَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الْفَاضِلَ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ، لَا لِكُلِّ أَحَدٍ. وَأَثْبَتَتْ نُصُوصٌ أُخَرُ وُجُوبَ الْقِيَامِ فِي الْفَرْضِ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» . وَبَيَّنَ جَوَازَ التَّطَوُّعِ قَاعِدًا لَمَّا رَآهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ قُعُودًا، فَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ يُصَلِّي قَاعِدًا مَعَ كَوْنِهِ كَانَ يَتَطَوَّعُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ. كَذَلِكَ تُثْبِتُ نُصُوصٌ أُخَرُ وُجُوبَ الْجَمَاعَةِ فَيُعْطِي كُلَّ حَدِيثٍ حَقَّهُ، فَلَيْسَ بَيْنَهَا تَعَارُضٌ وَلَا تَنَافٍ، وَإِنَّمَا يُظَنُّ التَّعَارُضُ وَالتَّنَافِي مَنْ حَمَّلَهَا مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُعْطِهَا حَقَّهَا بِسُوءِ نَظَرِهِ وَتَأْوِيلِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُل يُقْتَدَى بِهِ فِي تَرْكِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ] 231 - 147 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ يُقْتَدَى بِهِ فِي تَرْكِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ؟ فَأَجَابَ: مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ؛ إمَّا فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ وَإِمَّا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.

مسألة جار للمسجد ولم يحضر مع الجماعة الصلاة

وَالْأَدِلَّةُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَمْ يُوجِبْهَا، فَإِنَّهُ يَذُمُّ مَنْ دَاوَمَ عَلَى تَرْكِهَا، حَتَّى أَنَّ مَنْ دَاوَمَ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ الَّتِي هِيَ دُونَ الْجَمَاعَةِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ عَنْهُمْ، وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ يُدَاوِمُ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ؟ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُلَامُ عَلَى تَرْكِهَا، فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ حُكْمٍ وَلَا شَهَادَةٍ وَلَا فُتْيَا مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ، الَّتِي هِيَ دُونَ الْجَمَاعَةِ، فَكَيْفَ بِالْجَمَاعَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [مَسْأَلَةٌ جَار لِلْمَسْجِدِ وَلَمْ يَحْضُرْ مَعَ الْجَمَاعَةِ الصَّلَاةَ] 232 - 148 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ جَارٍ لِلْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَحْضُرْ مَعَ الْجَمَاعَةِ الصَّلَاةَ وَيَحْتَجُّ بِدُكَّانِهِ: الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ لَا يُصَلِّي فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا قُتِلَ. وَإِذَا ظَهَرَ مِنْهُ الْإِهْمَالُ لِلصَّلَاةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ: إذَا فَرَغْت صَلَّيْت، بَلْ مَنْ ظَهَرَ كَذِبُهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَيُلْزَمُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ صَلَّى جَمَاعَةً فِي بَيْتِهِ] 233 - 149 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي " صَلَاةِ الْفَذِّ " فَقَالَ أَحَدُهُمَا: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ» ، قَالَ الْآخَرُ: " مَتَى كَانَتْ الْجَمَاعَةُ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ فَهِيَ كَصَلَاةِ الْفَذِّ "؟ الْجَوَابُ: لَيْسَتْ الْجَمَاعَةُ كَصَلَاةِ الْفَذِّ؛ بَلْ الْجَمَاعَةُ أَفْضَلُ وَلَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ؛ لَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ صَلَّى جَمَاعَةً فِي بَيْتِهِ، هَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ حُضُورُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ؟ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ؟ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَنْ

مسألة فيمن أدرك آخر جماعة وبعد هذه الجماعة جماعة أخرى

لَا يَتْرُكَ حُضُورَ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا لِعُذْرٍ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ السُّنَنُ وَالْآثَارُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ أَدْرَكَ آخِرَ جَمَاعَةٍ وَبَعْدَ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ جَمَاعَةٌ أُخْرَى] 234 - 150 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أَدْرَكَ آخِرَ جَمَاعَةٍ، وَبَعْدَ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ جَمَاعَةٌ أُخْرَى، فَهَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ مُتَابَعَةُ هَؤُلَاءِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ؟ أَوْ يَنْتَظِرُ الْجَمَاعَةَ الْأُخْرَى؟ . الْجَوَابُ: أَمَّا إذَا أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ، فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجَمَاعَةِ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ إدْرَاكِ الرَّكْعَةِ؟ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ يَكُونُ مُدْرِكًا، وَطَرَدَ قِيَاسَهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ فِي الْجُمُعَةِ: يَكُونُ مُدْرِكًا لَهَا بِإِدْرَاكِ الْقَعْدَةِ فَيُتِمُّهَا جُمُعَةً. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا إلَّا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ، وَطَرَدَ الْمَسْأَلَةَ فِي ذَلِكَ حَتَّى فِيمَنْ أَدْرَكَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ. فَإِنَّ الْمَوَاضِعَ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: الْجُمُعَةُ. وَالثَّانِي: فَضْلُ الْجَمَاعَةِ. وَالثَّالِثُ: إدْرَاكُ الْمُسَافِرِ مِنْ صَلَاةِ الْمُقِيمِ. وَالرَّابِعُ: إدْرَاكُ بَعْضِ الصَّلَاةِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، كَإِدْرَاكِ بَعْضِ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَالْخَامِسُ: إدْرَاكُ آخِرِ الْوَقْتِ، كَالْحَائِضِ تَطْهُرُ، وَالْمَجْنُونُ يُفِيقُ، وَالْكَافِرُ يُسْلِمُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ. وَالسَّادِسُ: إدْرَاكُ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْوُجُوبَ بِذَلِكَ، فَإِنَّ فِي هَذَا الْأَصْلِ السَّادِسِ نِزَاعًا. وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فَقَالَا فِي الْجُمُعَةِ بِقَوْلِ مَالِكٍ، لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً يُصَلِّي إلَيْهَا أُخْرَى، وَمَنْ أَدْرَكَهُمْ فِي التَّشَهُّدِ صَلَّى أَرْبَعًا. وَأَمَّا سَائِرُ الْمَسَائِلِ فَفِيهَا نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُمَا قَوْلَانِ

لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِمَا يُرَجِّحُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْأَظْهَرُ هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، كَمَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» فَهَذَا نَصٌّ عَامٌّ فِي جَمِيعِ صُوَرِ إدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ، سَوَاءٌ كَانَ إدْرَاكَ جَمَاعَةٍ أَوْ إدْرَاكَ الْوَقْتِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْفَجْرَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ» . وَهَذَا نَصٌّ فِي رَكْعَةٍ فِي الْوَقْتِ. وَقَدْ عَارَضَ هَذَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ: «مَنْ أَدْرَكَ سَجْدَةً» وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ مَا إذَا أَدْرَكَ السَّجْدَةَ الْأُولَى، وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّجْدَةِ الرَّكْعَةُ، كَمَا فِي حَدِيثِ «ابْنِ عُمَرَ: حَفِظْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَهَا وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ» إلَى آخِرِهِ. وَفِي اللَّفْظِ الْمَشْهُورِ " رَكْعَتَيْنِ " وَكَمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ سَجْدَتَيْنِ» وَهُمَا رَكْعَتَانِ، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَمَنْ سَجَدَ الْوِتْرَ سَجْدَتَيْنِ مُجَرَّدَتَيْنِ عَمَلًا بِهَذَا فَهُوَ غَالِطٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحُكْمَ عِنْدَهُمْ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِإِدْرَاكِ سَجْدَةٍ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا بِالْحَدِيثِ. فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الْمُدْرَكُ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ وَكَانَ بَعْدَهَا جَمَاعَةٌ أُخْرَى فَصَلَّى مَعَهُمْ فِي جَمَاعَةٍ صَلَاةً تَامَّةً فَهَذَا أَفْضَلُ، فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ مُصَلِّيًا فِي جَمَاعَةٍ؛ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ الْمُدْرَكُ رَكْعَةً أَوْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ، وَقُلْنَا: إنَّهُ يَكُونُ بِهِ مُدْرِكًا لِلْجَمَاعَةِ، فَهُنَا قَدْ تَعَارَضَ إدْرَاكُهُ لِهَذِهِ الْجَمَاعَةِ، وَإِدْرَاكُهُ لِلثَّانِيَةِ مِنْ أَوَّلِهَا، فَإِنَّ إدْرَاكَ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَوَّلِهَا أَفْضَلُ. كَمَا جَاءَ فِي إدْرَاكِهَا بِحَدِّهَا، فَإِنْ كَانَتْ الْجَمَاعَتَانِ سَوَاءً فَالثَّانِيَةُ أَفْضَلُ، وَإِنْ تَمَيَّزَتْ الْأُولَى بِكَمَالِ الْفَضِيلَةِ، أَوْ كَثْرَةِ الْجَمْعِ، أَوْ فَضْلِ الْإِمَامِ، أَوْ كَوْنِهَا الرَّاتِبَةَ، فَهِيَ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ أَفْضَلُ، وَتِلْكَ مِنْ جِهَةِ إدْرَاكِهَا بِحَدِّهَا أَفْضَلُ، وَقَدْ يَتَرَجَّحُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً. وَأَمَّا إنْ قُدِّرَ أَنَّ الثَّانِيَةَ أَكْمَلُ أَفْعَالًا، وَإِمَامًا، أَوْ جَمَاعَةً، فَهُنَا قَدْ تَرَجَّحَتْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.

مسألة فيمن صلى فرضه ثم أتى مسجد جماعة فوجدهم يصلون

وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ فِي السَّلَفِ إلَّا إذَا كَانَ مُدْرِكًا لِمَسْجِدٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ إمَامَانِ رَاتِبَانِ، وَكَانَتْ الْجَمَاعَةُ تَتَوَفَّرُ مَعَ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَلَاتَهُ مَعَ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً وَلَوْ رَكْعَةً خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَلَوْ كَانَ جَمَاعَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ صَلَّى فَرْضَهُ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَوَجَدَهُمْ يُصَلُّونَ] 235 - 151 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ صَلَّى فَرْضَهُ، ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَوَجَدَهُمْ يُصَلُّوا، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْجَمَاعَةِ مِنْ الْفَائِتِ؟ . الْجَوَابُ: إذَا صَلَّى الرَّجُلُ الْفَرِيضَةَ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدًا تُقَامُ فِيهِ تِلْكَ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّهَا مَعَهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ لِرَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَ النَّاسِ: فَقَالَ: «مَا لَكُمَا لَمْ تُصَلِّيَا؟ أَلَسْتُمَا مُسْلِمَيْنِ؟ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا، فَقَالَ: إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ، فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ» . وَمَنْ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُبَادِرَ إلَى قَضَائِهَا عَلَى الْفَوْرِ، سَوَاءٌ فَاتَتْهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ الرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا إذَا فَاتَتْ عَمْدًا كَانَ قَضَاؤُهَا وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ. وَإِذَا صَلَّى مَعَ الْجَمَاعَةِ نَوَى بِالثَّانِيَةِ مُعَادَةً، وَكَانَتْ الْأُولَى فَرْضًا وَالثَّانِيَةُ نَفْلًا عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: الْفَرْضُ أَكْمَلُهُمَا، وَقِيلَ: ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ إعَادَة الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ] 236 - 152 - مَسْأَلَةٌ: فِي حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: «شَهِدْت حَجَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَلَّيْتُ مَعَهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي مَسْجِدِ الْخِيفِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ وَانْحَرَفَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّيَا، فَقَالَ: عَلَيَّ بِهِمَا، فَإِذَا بِهِمَا تَرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا،

فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا كُنَّا صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا، قَالَ: فَلَا تَفْعَلَا، إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ، فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ» . وَالثَّانِي: عَنْ «سُلَيْمَانَ بْنِ سَالِمٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ جَالِسًا عَلَى الْبَلَاطِ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ، فَقُلْت: يَا عَبْدَ اللَّهِ، مَالَك لَا تُصَلِّي؟ فَقَالَ: إنِّي قَدْ صَلَّيْتُ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا تُعَادُ صَلَاةٌ مَرَّتَيْنِ» فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا، وَهَذَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَهُوَ فِي الْإِعَادَةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَأَنَّهُ يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْصِدَ إعَادَةَ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يَقْتَضِي الْإِعَادَةَ، إذْ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لِلصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ، كَانَ يُمْكِنُ الْإِنْسَانَ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ مَرَّاتٍ، وَالْعَصْرَ مَرَّاتٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا لَا رَيْبَ فِي كَرَاهَتِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ الْأَسْوَدِ: فَهُوَ إعَادَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِسَبَبٍ اقْتَضَى الْإِعَادَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ: «إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا، ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ، فَصَلِّيَا مَعَهُمْ، فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ» فَسَبَبُ الْإِعَادَةِ هُنَا حُضُورُ الْجَمَاعَةِ الرَّاتِبَةِ، وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَلَّى ثُمَّ حَضَرَ جَمَاعَةً رَاتِبَةً أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُمْ. لَكِنْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ الْإِعَادَةَ مُطْلَقًا، كَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّهَا إذَا كَانَتْ الثَّانِيَةُ أَكْمَلَ، كَمَالِكٍ. فَإِذَا أَعَادَهَا فَالْأُولَى هِيَ الْفَرِيضَةُ، عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. لِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ» وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّهُ سَيَكُونُ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، ثُمَّ اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً» وَهَذَا أَيْضًا يَتَضَمَّنُ إعَادَتَهَا لِسَبَبٍ، وَيَتَضَمَّنُ أَنَّ الثَّانِيَةَ نَافِلَةٌ. وَقِيلَ الْفَرِيضَةُ أَكْمَلُهُمَا. وَقِيلَ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ. وَمِمَّا جَاءَ فِي الْإِعَادَةِ لِسَبَبٍ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا يُصَلِّي مَعَهُ» . فَهُنَا هَذَا الْمُتَصَدِّقُ قَدْ أَعَادَ الصَّلَاةَ لِيَحْصُلَ لِذَلِكَ الْمُصَلِّي فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ، ثُمَّ الْإِعَادَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا مَشْرُوعَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَقْتَ النَّهْيِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُشْرَعُ وَقْتَ النَّهْيِ. وَأَمَّا الْمَغْرِبُ: فَهَلْ تُعَادُ عَلَى صِفَتِهَا؟ أَمْ تُشْفَعُ بِرَكْعَةٍ؟ أَمْ لَا تُعَادُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ لِلْفُقَهَاءِ. وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ الْإِعَادَةُ لِسَبَبٍ مَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ صَلَوَاتِ الْخَوْفِ صَلَّى بِهِمْ الصَّلَاةَ مَرَّتَيْنِ، صَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى بِطَائِفَةٍ أُخْرَى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، وَمِثْلُ هَذَا حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ لَمَّا كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُنَا إعَادَةٌ أَيْضًا، وَصَلَاةٌ مَرَّتَيْنِ. وَالْعُلَمَاءُ الْمُتَنَازِعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا: وَهِيَ مَسْأَلَةُ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ. وَقِيلَ: يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ مِثْلَ حَالِ الْخَوْفِ، وَالْحَاجَةِ إلَى الِائْتِمَامِ بِالْمُتَطَوِّعِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهَا كَرِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ عَنْ أَحْمَدَ. وَيُشْبِهُ هَذَا إعَادَةُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا أَوَّلًا؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُشْرَعُ بِغَيْرِ سَبَبٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، بَلْ لَوْ صَلَّى عَلَيْهَا مَرَّةً ثَانِيَةً ثُمَّ حَضَرَ مَنْ لَمْ يُصَلِّ فَهَلْ يُصَلِّي عَلَيْهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ: قِيلَ: يُصَلِّي عَلَيْهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَيُصَلِّي عِنْدَهُمَا عَلَى الْقَبْرِ، لِمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، أَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ بَعْدَ مَا صَلَّى عَلَيْهَا غَيْرُهُمْ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، كَمَا يَنْهَيَانِ عَنْ إقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، قَالُوا: لِأَنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ بِالصَّلَاةِ الْأُولَى، فَتَكُونُ الثَّانِيَةُ نَافِلَةً، وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ لَا يُتَطَوَّعُ بِهَا. وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ يُصَلِّي الْفَرِيضَةَ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ يُجِيبُونَ بِجَوَابَيْنِ:

مسألة فيمن يجد الصلاة قد أقيمت

أَحَدُهُمَا أَنَّ الثَّانِيَةَ تَقَعُ فَرْضًا عَمَّنْ فَعَلَهَا، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي سَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ: أَنَّ مَنْ فَعَلَهَا أَسْقَطَ بِهَا فَرْضَ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ قَدْ فَعَلَهَا فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِإِسْقَاطِ ذَلِكَ، وَبَيْنَ أَنْ يُسْقِطَ الْفَرْضَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ. وَقِيلَ: بَلْ هِيَ نَافِلَةٌ، وَيَمْنَعُونَ قَوْلَ الْقَائِلِ: إنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا يُتَطَوَّعُ بِهَا، بَلْ قَدْ يُتَطَوَّعُ بِهَا، إذَا كَانَ هُنَاكَ سَبَبٌ يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَيْنِ الْمَأْخَذَيْنِ أَنَّهُ إذَا حَضَرَ الْجِنَازَةَ مَنْ لَمْ يُصَلِّ أَوَّلًا: فَهَلْ لِمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا أَوَّلًا أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ تَبَعًا؟ كَمَا يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا فِي الْمَكْتُوبَةِ، عَلَى وَجْهَيْنِ. قِيلَ: لَا يَجُوزُ هُنَا؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ هُنَا نَفْلٌ بِلَا نِزَاعٍ. وَهِيَ لَا يُنْتَفَلُ بِهَا. وَقِيلَ: بَلْ لَهُ الْإِعَادَةُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ، صَلَّى خَلْفَهُ مَنْ كَانَ قَدْ صَلَّى أَوَّلًا. وَهَذَا أَقْرَبُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْإِعَادَةَ بِسَبَبٍ اقْتَضَاهُ، لَا إعَادَةً مَقْصُودَةً وَهَذَا سَائِغٌ فِي الْمَكْتُوبَةِ وَالْجِنَازَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ يَجِدُ الصَّلَاةَ قَدْ أُقِيمَتْ] 237 - 153 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ يَجِدُ الصَّلَاةَ قَدْ أُقِيمَتْ فَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ صَلَاةُ الْفَرِيضَةِ؟ أَوْ يَأْتِي بِالسُّنَّةِ وَيَلْحَقُ الْإِمَامَ وَلَوْ فِي التَّشَهُّدِ؟ وَهَلْ رَكْعَتَا الْفَجْرِ سُنَّةٌ لِلصُّبْحِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَلَا صَلَاةَ إلَّا الَّتِي أُقِيمَتْ» فَإِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا يَشْتَغِلُ بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَلَا بِسُنَّةِ الْفَجْرِ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ عَنْهَا بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ الْإِقَامَةَ فَلَا يُصَلِّي السُّنَّةَ لَا فِي بَيْتِهِ وَلَا فِي غَيْرِ بَيْتِهِ. بَلْ يَقْضِيهَا إنْ شَاءَ بَعْدَ الْفَرْضِ. وَالسُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ رَكْعَتَيْنِ سُنَّةً، وَالْفَرِيضَةُ رَكْعَتَانِ، وَلَيْسَ بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْفَرِيضَةِ سُنَّةٌ إلَّا رَكْعَتَانِ، وَالْفَرِيضَةُ تُسَمَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ. وَصَلَاةُ الْغَدَاةِ وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ تُسَمَّى سُنَّةَ الْفَجْرِ وَسُنَّةَ الصُّبْحِ، وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة القراءة خلف الإمام

[مَسْأَلَةٌ الْقِرَاءَة خَلْفَ الْإِمَامِ] مَسْأَلَةٌ: فِي الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ نِزَاعٌ وَاضْطِرَابٌ مَعَ عُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَأُصُولُ الْأَقْوَالِ ثَلَاثَةٌ: طَرَفَانِ، وَوَسَطٌ. فَأَحَدُ الطَّرَفَيْنِ أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ بِحَالٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ بِكُلِّ حَالٍ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ؛ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ أَنْصَتَ، وَلَمْ يَقْرَأْ، فَإِنَّ اسْتِمَاعَهُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَتِهِ، وَإِذَا لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَتَهُ قَرَأَ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّ قِرَاءَتَهُ خَيْرٌ مِنْ سُكُوتِهِ، فَالِاسْتِمَاعُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ، وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ مِنْ السُّكُوتِ، هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِمَا، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ؛ فَهَلْ الْقِرَاءَةُ حَالَ مُخَافَتَةِ الْإِمَامَ بِالْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَأْمُومِ؟ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. أَشْهَرُهُمَا أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمُ، وَالِاسْتِمَاعُ حَالَ جَهْرِ الْإِمَامِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ وَالْقِرَاءَةُ إذَا سَمِعَ الْإِمَامَ هَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ؟ وَهَلْ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ إذَا قَرَأَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ الْقِرَاءَةَ حِينَئِذٍ مُحَرَّمَةٌ، وَإِذَا قَرَأَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَنَظِيرُ هَذَا إذَا قَرَأَ حَالَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: هَلْ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا» . وَاَلَّذِينَ قَالُوا: يَقْرَأُ حَالَ الْجَهْرِ، وَالْمُخَافَتَةِ، إنَّمَا يَأْمُرُونَهُ أَنْ يَقْرَأَ حَالَ الْجَهْرِ بِالْفَاتِحَةِ خَاصَّةً، وَمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُسْتَمِعًا لَا قَارِئًا.

وَهَلْ قِرَاءَتُهُ لِلْفَاتِحَةِ مَعَ الْجَهْرِ وَاجِبَةٌ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ. وَالثَّانِي: إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَاخْتِيَارُ جَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الِاحْتِيَاطِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، كَمَا لَا سَبِيلَ إلَى الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، وَفِي فَسْخِ الْحَجِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ. يَتَعَيَّنُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ النَّظَرُ فِيمَا يُوجِبُهُ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ، وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: صَلَاةُ الْعَصْرِ يَخْرُجُ وَقْتُهَا إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، كَالْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: حِينَئِذٍ يَدْخُلُ وَقْتُهَا، وَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى وَقْتٍ تَجُوزُ فِيهِ صَلَاةُ الْعَصْرِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ بَعْدَ الزَّوَالِ بَعْدَ مَصِيرِ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، سِوَى ظِلِّ الزَّوَالِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَالْمَغْرِبُ أَيْضًا تُجْزِئُ بِاتِّفَاقِهِمْ إذَا صَلَّى بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَالْعِشَاءُ تُجْزِئُ بِاتِّفَاقِهِمْ إذَا صَلَّى بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ، إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَالْفَجْرُ تُجْزِئُ بِاتِّفَاقِهِمْ إذَا صَلَّاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الْإِسْفَارِ الشَّدِيدِ، وَأَمَّا الْعَصْرُ فَهَذَا يَقُولُ: تُصَلَّى إلَى الْمِثْلَيْنِ، وَهَذَا يَقُولُ: لَا تُصَلَّى إلَّا بَعْدَ الْمِثْلَيْنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تُصَلَّى مِنْ حِينِ يَصِيرُ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ إلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ، فَوَقْتُهَا أَوْسَعُ، كَمَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءِ، وَعَلَى هَذَا تَدُلُّ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمَدَنِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مِنْ الْمَسَائِلِ مَسَائِلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْمَلَ فِيهَا بِقَوْلٍ يَجْمَعُ، لَكِنْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ عَلَيْهِ دَلَائِلُ شَرْعِيَّةٌ تُبَيِّنُ الْحَقَّ. وَمِنْ ذَلِكَ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ، فَإِنَّ الْحَجَّ الَّذِي اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى جَوَازِهِ أَنْ يُهِلَّ مُتَمَتِّعًا يَحْرُمُ بِعُمْرَةٍ ابْتِدَاءً، وَيُهِلَّ قَارِنًا وَقَدْ سَاقَ الْهَدْيَ، فَأَمَّا إنْ أَفْرَدَ أَوْ قَرَنَ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ فَفِي حَجِّهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ فَنَقُولُ: إذَا جَهَرَ الْإِمَامُ اسْتَمَعَ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَسْمَعُ لِبُعْدِهِ فَإِنَّهُ يَقْرَأُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا

يَسْمَعُ لِصَمَمِهِ، أَوْ كَانَ يَسْمَعُ هَمْهَمَةَ الْإِمَامِ وَلَا يَفْقَهُ مَا يَقُولُ: فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَقْرَأُ؛ لِأَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ إمَّا مُسْتَمِعًا، وَإِمَّا قَارِئًا، وَهَذَا لَيْسَ بِمُسْتَمِعٍ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُ السَّمَاعِ، فَقِرَاءَتُهُ أَفْضَلُ مِنْ سُكُوتِهِ، فَنَذْكُرُ الدَّلِيلَ عَلَى الْفَصْلَيْنِ عَلَى أَنَّهُ فِي حَالِ الْجَهْرِ يَسْتَمِعُ، وَأَنَّهُ فِي حَالِ الْمُخَافَتَةِ يَقْرَأُ. فَالدَّلِيلُ عَلَى الْأَوَّلِ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالِاعْتِبَارُ: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْخُطْبَةِ، وَذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمَأْمُومِ حَالَ الْجَهْرِ. ثُمَّ يَقُولُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] لَفْظٌ عَامٌّ، فَإِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ فِي الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، أَوْ يَعُمَّهُمَا. وَالثَّانِي بَاطِلٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: إنَّهُ يَجِبُ الِاسْتِمَاعُ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَلَا يَجِبُ فِي الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ اسْتِمَاعَ الْمُسْتَمِعِ إلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ الَّذِي يَأْتَمُّ بِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مُتَابَعَتُهُ أَوْلَى مِنْ اسْتِمَاعِهِ إلَى قِرَاءَةِ مَنْ يَقْرَأُ خَارِجَ الصَّلَاةِ دَاخِلَةً فِي الْآيَةِ، إمَّا عَلَى سَبِيلِ الْخُصُوصِ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَمْرِ الْمَأْمُومِ بِالْإِنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ، وَسَوَاءٌ كَانَ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ. فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ أَوْلَى مِنْ الْقِرَاءَةِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَالْمُنَازِعُ يُسَلِّمُ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ مَأْمُورٌ بِهِ دُونَ الْقِرَاءَةِ، فِيمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ. وَالْآيَةُ أَمَرَتْ بِالْإِنْصَاتِ إذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ. وَالْفَاتِحَةُ أُمُّ الْقُرْآنِ، وَهِيَ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ قِرَاءَتِهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَالْفَاتِحَةُ أَفْضَلُ سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَهِيَ الَّتِي لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا، فَيُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ

بِالْآيَةِ الِاسْتِمَاعُ إلَى غَيْرِهَا دُونَهَا، مَعَ إطْلَاقِ لَفْظِ الْآيَةِ وَعُمُومِهَا، مَعَ أَنَّ قِرَاءَتَهَا أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ، وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا. فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} [الأعراف: 204] يَتَنَاوَلُهَا، كَمَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهَا، وَشُمُولُهُ لَهَا أَظْهَرُ لَفْظًا وَمَعْنًى. وَالْعَادِلُ عَنْ اسْتِمَاعِهَا إلَى قِرَاءَتِهَا إنَّمَا يَعْدِلُ لِأَنَّ قِرَاءَتَهَا عِنْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ الِاسْتِمَاعِ، وَهَذَا غَلَطٌ يُخَالِفُ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ، فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَمَرَتْ الْمُؤْتَمَّ بِالِاسْتِمَاعِ دُونَ الْقِرَاءَةِ، وَالْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ اسْتِمَاعَهُ لِمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَتِهِ لِمَا زَادَ عَلَيْهَا. فَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ لِمَا يَقْرَأُ الْإِمَامُ أَفْضَلَ مِنْ الِاسْتِمَاعِ لِقِرَاءَتِهِ لَكَانَ قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَتِهِ لِمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ. وَإِنَّمَا نَازَعَ مَنْ نَازَعَ فِي الْفَاتِحَةِ لِظَنِّهِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَأْمُومِ مَعَ الْجَهْرِ، أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ لَهُ حِينَئِذٍ. وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْحَاصِلَةَ لَهُ بِالْقِرَاءَةِ يَحْصُلُ بِالِاسْتِمَاعِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا، بِدَلِيلِ اسْتِمَاعِهِ لِمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِالِاسْتِمَاعِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَفْعَلَ أَفْضَلَ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِمَاعَ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ، عُلِمَ أَنَّ الْمُسْتَمِعَ يَحْصُلُ لَهُ أَفْضَلُ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْقَارِئِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا، فَالْمُسْتَمِعُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ يَحْصُلُ لَهُ أَفْضَلُ مِمَّا يَحْصُلُ بِالْقِرَاءَةِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْأَدْنَى وَيُنْهَى عَنْ الْأَعْلَى. وَثَبَتَ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ جَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ. وَفِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» وَهَذَا الْحَدِيثُ رُوِيَ مُرْسَلًا، وَمُسْنَدًا لَكِنْ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ الثِّقَات رَوَوْهُ مُرْسَلًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَسْنَدَهُ بَعْضُهُمْ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مُسْنَدًا، وَهَذَا الْمُرْسَلُ قَدْ عَضَّدَهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَقَالَ بِهِ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمُرْسِلُهُ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ، وَمِثْلُ هَذَا الْمُرْسَلِ يُحْتَجُّ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ،

وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى جَوَازِ الِاحْتِجَاجِ بِمِثْلِ هَذَا الْمُرْسَلِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ إلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ أَمْرٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ دَلَالَةً قَاطِعَةً؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا جَمِيعُ الْأُمَّةِ، فَكَانَ بَيَانُهَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّنْ يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْبَيَانِ، وَجَاءَتْ السُّنَّةُ مُوَافِقَةً لِلْقُرْآنِ. فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَنَا، فَبَيَّنَ لَنَا سُنَّتَنَا، وَعَلَّمَنَا صَلَاتَنَا، فَقَالَ: أُقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» وَهَذَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الطَّوِيلِ بِالْمَشْهُورِ لَكِنْ بَعْضُ الرُّوَاةِ زَادَ فِيهِ عَلَى بَعْضٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ: «وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهَا، وَهِيَ زِيَادَةٌ فِي الثِّقَةِ، لَا تُخَالِفُ الْمَزِيدَ، بَلْ تُوَافِقُ مَعْنَاهُ، وَلِهَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. فَإِنَّ الْإِنْصَاتَ إلَى الْقَارِئِ مِنْ تَمَامِ الِائْتِمَامِ بِهِ فَإِنَّ مَنْ قَرَأَ عَلَى قَوْمٍ لَا يَسْتَمِعُونَ لِقِرَاءَتِهِ لَمْ يَكُونُوا مُؤْتَمِّينَ بِهِ، وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ حِكْمَةَ سُقُوطِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ، فَإِنَّ مُتَابَعَتَهُ لِإِمَامِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا، حَتَّى فِي الْأَفْعَالِ، فَإِذَا أَدْرَكَهُ سَاجِدًا سَجَدَ مَعَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَهُ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ تَشَهَّدَ عَقِبَ الْوِتْرِ، وَهَذَا لَوْ فَعَلَهُ مُنْفَرِدًا لَمْ يَجُزْ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ لِأَجْلِ الِائْتِمَامِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِائْتِمَامَ يَجِبُ بِهِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُنْفَرِدِ وَيَسْقُطُ بِهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُنْفَرِدِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. قِيلَ لِمُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحِيحٌ، يَعْنِي «وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» قَالَ هُوَ عِنْدِي صَحِيحٌ فَقِيلَ لَهُ: لِمَا لَا تَضَعُهُ هَاهُنَا؟ يَعْنِي فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدِي صَحِيحٌ وَضَعْتُهُ هَاهُنَا، إنَّمَا وَضَعْتُ هَاهُنَا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ ابْنِ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ «أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا، فَقَالَ: هَلَّا قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا؟ فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ. يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعَ الْقُرْآنَ. قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا جَهَرَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ، حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ

رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ، يَقُولُ: قَوْلُهُ " فَانْتَهَى النَّاسُ " مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ وَرُوِيَ عَنْ الْبُخَارِيِّ نَحْوَ ذَلِكَ، فَقَالَ: فِي الْكُنَى مِنْ التَّارِيخِ، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُوسُفُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ سَمِعْت ابْنَ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيَّ يُحَدِّثُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ سَمِعَ «أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: صَلَّى لَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةً جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ ثُمَّ قَالَ: هَلْ قَرَأَ مِنْكُمْ أَحَدٌ مَعِي؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: إنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِيمَا جَهَرَ الْإِمَامُ» ، قَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ وَلَمْ يَقُلْ: فَانْتَهَى النَّاسُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ قَوْلُ ابْنِ أُكَيْمَةَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَهَذَا إذَا كَانَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ فَهُوَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَقْرَءُونَ فِي الْجَهْرِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ مِنْ أَعْلَمِ أَهْلِ زَمَانِهِ، أَوْ أَعْلَمِ أَهْلِ زَمَانِهِ بِالسُّنَّةِ، وَقِرَاءَةُ الصَّحَابَةِ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا كَانَتْ مَشْرُوعَةً وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً تَكُونُ مِنْ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ، الَّتِي يَعْرِفُهَا عَامَّةُ الصَّحَابَةِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَيَكُونُ الزُّهْرِيُّ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهَا، فَلَوْ لَمْ يُبَيِّنْهَا لَاسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى انْتِفَائِهَا، فَكَيْفَ إذَا قَطَعَ الزُّهْرِيُّ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَقْرَءُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَهْرِ فَإِنْ قِيلَ: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: ابْنُ أُكَيْمَةَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ لَمْ يُحَدِّثْ إلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ عَنْهُ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ قِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ قَدْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ فِيهِ: صَحِيحُ الْحَدِيثِ، حَدِيثُهُ مَقْبُولٌ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ الْبُسْتِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ، وَابْنُ أَبِيهِ عُمَرُ، وَسَالِمٌ بْنُ عَمَّارِ بْنِ أُكَيْمَةَ بْنِ عُمَرَ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: " مَنْ صَلَّى رَكْعَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا، لَمْ يُصَلِّ إلَّا وَرَاء الْإِمَامِ " وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا سُئِلَ: هَلْ يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ؟ يَقُولُ: إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ خَلْفَ

الْإِمَامِ تُجْزِئُهُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ، وَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيَقْرَأْ. قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ ، وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ عَنْ الْقِرَاءَة مَعَ الْإِمَامِ، فَقَالَ: لَا قِرَاءَةَ مَعَ الْإِمَامِ فِي شَيْءٍ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي وَائِلٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ، فَقَالَ: أَنْصِتْ لِلْقُرْآنِ، فَإِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا، وَسَيَكْفِيك ذَلِكَ الْإِمَامُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ هُمَا فَقِيهًا أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَفِي كَلَامِهِمَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ إنْصَاتُهُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ. وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي " كِتَابِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ " عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: وَرَوَى الْحَارِثُ عَنْ عَلِيٍّ يُسَبِّحُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، قَالَ: وَلَمْ يَصِحَّ، وَخَالَفَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، حَدَّثَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: إذَا لَمْ يَجْهَرْ الْإِمَامُ فِي الصَّلَوَاتِ، فَاقْرَأْ بِأُمِّ الْكِتَابِ، وَسُورَةٍ أُخْرَى فِي الْأُولَيَيْنِ، مِنْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنْ الْمَغْرِبِ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ، مِنْ الْعِشَاءِ. وَأَيْضًا: فَفِي إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ يُؤْمَرُ بِالِاسْتِمَاعِ دُونَ الْقِرَاءَةِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اسْتِمَاعَهُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ قِرَاءَتِهِ مَعَهُ بَلْ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاسْتِمَاعِ دُونَ الْقِرَاءَةِ مَعَ الْإِمَامِ. وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الْجَهْرِ وَاجِبَةً عَلَى الْمَأْمُومِ لَلَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَقْرَأَ مَعَ الْإِمَامِ، وَإِمَّا أَنْ يَجِبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ لَهُ حَتَّى يَقْرَأَ وَلَمْ نَعْلَمْ نِزَاعًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ لِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ بِالْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا، وَقِرَاءَتُهُ مَعَهُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ مَعَهُ فِي حَالِ الْجَهْرِ، بَلْ نَقُولُ: لَوْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ فِي حَالِ الْجَهْرِ وَالِاسْتِمَاعِ مُسْتَحَبَّةً، لَاسْتُحِبَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ لِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ السُّكُوتُ لِيَقْرَأَ الْمَأْمُومُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ. وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَسْكُتُ لِيَقْرَأَ الْمَأْمُومُونَ، وَلَا نَقَلَ هَذَا

أَحَدٌ عَنْهُ، بَلْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ سُكُوتُهُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ لِلِاسْتِفْتَاحِ، وَفِي السُّنَنِ: «أَنَّهُ كَانَ لَهُ سَكْتَتَانِ سَكْتَةٌ. فِي أَوَّلِ الْقِرَاءَةِ، وَسَكْتَةٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِرَاءَةِ» . وَهِيَ سَكْتَةٌ لَطِيفَةٌ لِلْفَصْلِ لَا تَتَّسِعُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ السَّكْتَةَ كَانَتْ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّهُ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ سَكَتَاتٍ، وَلَا أَرْبَعُ سَكَتَاتٍ، فَمَنْ نَقَلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ سَكَتَاتٍ أَوْ أَرْبَعَ فَقَدْ قَالَ قَوْلًا لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَالسَّكْتَةُ الَّتِي عَقِبَ قَوْلِهِ: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] مِنْ جِنْسِ السَّكَتَاتِ الَّتِي عِنْدَ رُءُوسِ الْآيِ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يُسَمَّى سُكُوتًا؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ يَقْرَأُ فِي مِثْلِ هَذَا. وَكَانَ بَعْضُ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَصْحَابِنَا يَقْرَأُ عَقِبَ السُّكُوتِ عِنْدَ رُءُوسِ الْآيِ. فَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] وَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سُكُوتِ الْإِمَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقِيلَ: لَا سُكُوتَ فِي الصَّلَاةِ بِحَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقِيلَ: فِيهَا سَكْتَةٌ وَاحِدَةٌ لِلِاسْتِفْتَاحِ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ فِيهَا: سَكْتَتَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا لِحَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَهُ سَكْتَتَانِ: سَكْتَةٌ حِينَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ، وَسَكْتَةٌ إذَا فَرَغَ مِنْ السُّورَةِ الثَّانِيَةِ. قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ» فَذَكَرَ ذَلِكَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، فَقَالَ: كَذَبَ سَمُرَةُ فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إلَى الْمَدِينَةِ إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَقَالَ: صَدَقَ سَمُرَةُ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: «سَكْتَةٌ إذَا كَبَّرَ. وَسَكْتَةٌ إذَا فَرَغَ مِنْ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] » وَأَحْمَدُ رَجَّحَ الرِّوَايَةَ الْأُولَى وَاسْتَحَبَّ السَّكْتَةَ الثَّانِيَةَ؛ لِأَجْلِ الْفَصْلِ، وَلَمْ يَسْتَحِبَّ أَحْمَدُ أَنْ يَسْكُتَ الْإِمَامُ لِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كَانَ يَسْكُتُ سَكْتَةً تَتَّسِعُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، لَكَانَ هَذَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ. وَالسَّكْتَةُ الثَّانِيَةُ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ قَدْ نَفَاهَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَذَلِكَ أَنَّهَا سَكْتَةٌ يَسِيرَةٌ، قَدْ لَا يَنْضَبِطُ مِثْلُهَا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَسْكُتْ إلَّا

سَكْتَتَيْنِ، فَعُلِمَ أَنَّ إحْدَاهُمَا طَوِيلَةٌ وَالْأُخْرَى بِكُلِّ حَالٍ لَمْ تَكُنْ طَوِيلَةً مُتَّسِعَةً لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ يَقْرَءُونَ الْفَاتِحَةَ خَلْفَهُ إمَّا فِي السَّكْتَةِ الْأُولَى وَإِمَّا فِي الثَّانِيَةِ لَكَانَ هَذَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، فَكَيْفَ وَلَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي السَّكْتَةِ الثَّانِيَةِ خَلْفَهُ يَقْرَءُونَ الْفَاتِحَةَ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَكَانَ الصَّحَابَةُ أَحَقَّ النَّاسِ بِعِلْمِهِ، وَعَمَلِهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ. وَأَيْضًا فَالْمَقْصُودُ بِالْجَهْرِ اسْتِمَاعُ الْمَأْمُومِينَ، وَلِهَذَا يُؤَمِّنُونَ عَلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فِي الْجَهْرِ دُونَ السِّرِّ، فَإِذَا كَانُوا مَشْغُولِينَ عَنْهُ بِالْقِرَاءَةِ فَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى قَوْمٍ لَا يَسْتَمِعُونَ لِقِرَاءَتِهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُحَدِّثَ مَنْ لَمْ يَسْتَمِعْ لِحَدِيثِهِ، وَيَخْطُبَ مَنْ لَمْ يَسْتَمِعْ لِخُطْبَتِهِ، وَهَذَا سَفَهٌ تُنَزَّهُ عَنْهُ الشَّرِيعَةُ. وَلِهَذَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «مَثَلُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا» فَهَكَذَا إذَا كَانَ يَقْرَأُ وَالْإِمَامُ يَقْرَأُ عَلَيْهِ. فَصْلٌ وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ مَأْمُورًا بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ، لَمْ يَشْتَغِلْ عَنْ ذَلِكَ بِغَيْرِهَا، لَا بِقِرَاءَةٍ، وَلَا ذِكْرٍ، وَلَا دُعَاءٍ، فَفِي حَالِ جَهْرِ الْإِمَامِ لَا يَسْتَفْتِحُ، وَلَا يَتَعَوَّذُ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ. وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَدَ. قِيلَ: إنَّهُ حَالَ الْجَهْرِ يَسْتَفْتِحُ وَيَتَعَوَّذُ، وَلَا يَقْرَأُ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِمَاعِ يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ؛ بِخِلَافِ الِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُهُمَا. وَقِيلَ: يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَتَعَوَّذُ، لِأَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ تَابِعٌ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ التَّعَوُّذِ فَإِنَّهُ تَابِعٌ لِلْقِرَاءَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ لَا يَتَعَوَّذُ. وَقِيلَ: لَا يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَتَعَوَّذُ حَالَ الْجَهْرِ، وَهَذَا أَصَحُّ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُ عَنْ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ عَمَّا أُمِرَ بِهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي حَالِ

سُكُوتِ الْإِمَامِ، هَلْ يَشْتَغِلُ بِالِاسْتِفْتَاحِ، أَوْ الِاسْتِعَاذَةِ، أَوْ بِأَحَدِهِمَا أَوْ لَا يَشْتَغِلُ إلَّا بِالْقِرَاءَةِ لِكَوْنِهَا مُخْتَلَفًا فِي وُجُوبِهَا. وَأَمَّا فِي حَالِ الْجَهْرِ فَلَا يَشْتَغِلُ بِغَيْرِ الْإِنْصَاتِ وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّ هَذَا النِّزَاعَ هُوَ فِي حَالِ الْجَهْرِ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّعْلِيلِ، وَأَمَّا فِي حَالِ الْمُخَافَتَةِ فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِحَ، وَاسْتِفْتَاحُهُ حَالَ سُكُوتِ الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَتِهِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ يُعْتَاضُ عَنْهَا بِالِاسْتِمَاعِ، بِخِلَافِ الِاسْتِفْتَاحِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ قِرَاءَةَ الْمَأْمُومِ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهَا، فَيُقَالُ: وَكَذَلِكَ الِاسْتِفْتَاحُ هَلْ يَجِبُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ: إنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ الْقِرَاءَةُ فِي حَالِ الْجَهْرِ، وَاخْتَارَ ابْنُ بَطَّةَ وُجُوبَ الِاسْتِفْتَاحِ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِهِ كَأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الْقِرَاءَةَ حَالَ الْمُخَافَتَةِ أَفْضَلُ فِي مَذْهَبِهِ مِنْ الِاسْتِفْتَاحِ، فَقَدْ غَلَطَ عَلَى مَذْهَبِهِ. وَلَكِنْ هَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَ مَنْ اسْتَحَبَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ حَالَ الْجَهْرِ، وَهَذَا مَا عَلِمْتُ أَحَدًا قَالَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، قَبْلَ جَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ، وَلَيْسَ هُوَ مَذْهَبَ أَحْمَدَ وَلَا عَامَّةِ أَصْحَابِهِ، مَعَ أَنَّ تَعْلِيلَ الْأَحْكَامِ بِالْخِلَافِ عِلَّةٌ بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي يُعَلِّقُ الشَّارِعُ بِهَا الْأَحْكَامَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ حَادِثٌ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ يَسْلُكُهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لِطَلَبِ الِاحْتِيَاطِ. وَعَلَى هَذَا فَفِي حَالِ الْمُخَافَتَةِ هَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ مَعَ الِاسْتِفْتَاحِ الِاسْتِعَاذَةُ إذَا لَمْ يَقْرَأْ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ لَا تُشْرَعُ إلَّا لِمَنْ قَرَأَ، فَإِنْ اتَّسَعَ الزَّمَانُ لِلْقِرَاءَةِ اسْتَعَاذَ وَقَرَأَ، وَإِلَّا أَنْصَتَ. وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْقِرَاءَةُ إذَا لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ كَحَالِ مُخَافَتَةِ الْإِمَامِ وَسُكُوتِهِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْقِرَاءَةِ وَالتَّرْغِيبَ فِيهَا يَتَنَاوَلُ الْمُصَلِّيَ أَعْظَمَ مِمَّا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ، فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ الْفَضْلِ لِقَارِئِ الْقُرْآنِ يَتَنَاوَلُ

الْمُصَلِّيَ أَعْظَمَ مِمَّا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، أَمَا إنِّي لَا أَقُولُ: الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلْفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي خُصُوصِ الصَّلَاةِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ «أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ - ثَلَاثًا أَيْ: غَيْرُ تَمَامٍ فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إنِّي أَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ. فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِك فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] قَالَ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي - فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ «عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الظُّهْرَ، فَجَعَلَ رَجُلٌ يَقْرَأُ خَلْفَهُ: بِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: أَيُّكُمْ قَرَأَ أَوْ أَيُّكُمْ الْقَارِئُ - قَالَ رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ: قَدْ ظَنَنْتُ أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَهَذَا قَدْ قَرَأَ خَلْفَهُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَلَمْ يَنْهَهُ وَلَا غَيْرَهُ عَنْ الْقِرَاءَةِ، لَكِنْ قَالَ: «قَدْ ظَنَنْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا» أَيْ نَازَعَنِيهَا. كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «إنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ» . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ «ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانُوا يَقْرَءُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: خَلَطْتُمْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ» فَهَذَا كَرَاهَةٌ مِنْهُ لِمَنْ نَازَعَهُ وَخَالَجَهُ، وَخَلَطَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، وَهَذَا لَا يَكُونُ مِمَّنْ قَرَأَ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ أَسْمَعَ غَيْرَهُ، وَهَذَا مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُنَازَعَةِ لِغَيْرِهِ، لَا لِأَجْلِ كَوْنِهِ قَارِئًا خَلْفَ الْإِمَامِ، وَأَمَّا مَعَ مَخَافَتِهِ

الْإِمَامَ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ: " أَيُّكُمْ الْقَارِئُ؟ ". أَيْ الْقَارِئُ الَّذِي نَازَعَنِي، لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ الْقَارِئَ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَازِعُ، وَلَا يُعْرَفُ أَنَّهُ خَالَجَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَرَاهَةُ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ إنَّمَا هِيَ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْصَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَوْ إذَا نَازَعَ غَيْرَهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إنْصَاتٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَلَا مُنَازَعَةٌ فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ. وَالْقَارِئُ هُنَا لَمْ يَعْتَضْ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِاسْتِمَاعٍ، فَيَفُوتُهُ الِاسْتِمَاعُ وَالْقِرَاءَةُ جَمِيعًا، مَعَ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي وَحُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ، فَخِلَافُ وُجُوبِهَا فِي حَالِ الْجَهْرِ، فَإِنَّهُ شَاذٌّ حَتَّى نَقَلَ أَحْمَدُ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِهِ. وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ: «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] » أَنَّ ذَلِكَ يَعُمُّ الْإِمَامَ وَالْمَأْمُومَ. وَأَيْضًا فَجَمِيعُ الْأَذْكَارِ الَّتِي يُشْرَعُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقُولَهَا سِرًّا يُشْرَعُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقُولَهَا سِرًّا كَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَكَالتَّشَهُّدِ وَالدُّعَاءِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقِرَاءَةَ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، فَلِأَيِّ مَعْنًى لَا تُشْرَعُ الْقِرَاءَةُ فِي السِّرِّ وَهُوَ لَا يَسْمَعُ قِرَاءَةَ السِّرِّ، وَلَا يُؤَمِّنُ عَلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فِي السِّرِّ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] . وَقَالَ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205] . وَهَذَا أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأُمَّتِهِ، فَإِنَّهُ مَا خُوطِبَ بِهِ خُوطِبَتْ بِهِ الْأُمَّةُ مَا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِالتَّخْصِيصِ. كَقَوْلِهِ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] . وَقَوْلِهِ: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] . وَقَوْلِهِ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] . وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَهَذَا أَمْرٌ يَتَنَاوَلُ الْإِمَامَ وَالْمَأْمُومَ وَالْمُنْفَرِدَ بِأَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَيَكُونُ الْمَأْمُومُ مَأْمُورًا بِذِكْرِ رَبِّهِ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ إذَا كَانَ مُسْتَمِعًا كَانَ مَأْمُورًا بِالِاسْتِمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَمِعًا كَانَ مَأْمُورًا بِذِكْرِ رَبِّهِ فِي نَفْسِهِ. وَالْقُرْآنُ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} [طه: 99] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] . وَقَالَ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] . وَأَيْضًا: فَالسُّكُوتُ بِلَا قِرَاءَةٍ وَلَا ذِكْرٍ وَلَا دُعَاءٍ لَيْسَ عِبَادَةً، وَلَا مَأْمُورًا بِهِ، بَلْ يَفْتَحُ بَابَ الْوَسْوَسَةِ، فَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ السُّكُوتِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مِنْ أَفْضَلِ الْخَيْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالذِّكْرُ بِالْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ - وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ - سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي مِنْهُ، فَقَالَ: قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا لِلَّهِ فَمَا لِي، قَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي، وَارْزُقْنِي، وَعَافِنِي، وَاهْدِنِي فَلَمَّا قَامَ قَالَ: هَكَذَا بِيَدَيْهِ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَّا هَذَا فَقَدْ مَلَأَ يَدَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوا الْقِرَاءَةَ فِي الْجَهْرِ: احْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ عُبَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا كُنْتُمْ وَرَائِي فَلَا تَقْرَءُوا إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ

قراءة المؤتم خلف الإمام

لَمْ يَقْرَأْ بِهَا» وَهَذَا الْحَدِيثُ مُعَلَّلٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ، ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى ضَعْفِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ» فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عُبَادَةَ وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَغَلِطَ فِيهِ بَعْضُ الشَّامِيِّينَ وَأَصْلُهُ أَنَّ عُبَادَةَ كَانَ يَؤُمُّ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ هَذَا فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ الْمَرْفُوعُ بِالْمَوْقُوفِ عَلَى عُبَادَةَ. وَأَيْضًا: فَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبَسَطُوا الْقَوْلَ فِيهَا، وَفِي غَيْرِهَا، مِنْ الْمَسَائِلِ. وَتَارَةً أَفْرَدُوا الْقَوْلَ فِيهَا فِي مُصَنَّفَاتٍ مُفْرَدَةٍ، وَانْتَصَرَ طَائِفَةٌ لِلْإِثْبَاتِ فِي مُصَنَّفَاتٍ مُفْرَدَةٍ: كَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ. وَطَائِفَةٌ لِلنَّفْيِ: كَأَبِي مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ، وَكَرَّامٍ، وَغَيْرِهِمَا. وَمَنْ تَأَمَّلَ مُصَنَّفَاتِ الطَّوَائِفِ تَبَيَّنَ لَهُ الْقَوْلُ الْوَسَطُ. فَإِنَّ عَامَّةَ الْمُصَنَّفَاتِ الْمُفْرَدَةِ تَتَضَمَّنُ صُوَرَ كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ، قَوْلِ مَنْ يَنْهَى عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ، حَتَّى فِي صَلَاةِ السِّرِّ. وَقَوْلِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْقِرَاءَةِ خَلْفَهُ مَعَ سَمَاعِ جَهْرِ الْإِمَامِ، وَالْبُخَارِيُّ مِمَّنْ بَالَغَ فِي الِانْتِصَارِ لِلْإِثْبَاتِ بِالْقِرَاءَةِ حَتَّى مَعَ جَهْرِ الْإِمَامِ؛ بَلْ يُوجِبُ ذَلِكَ، كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَابْنُ حَزْمٍ، وَمَعَ هَذَا فَحُجَجُهُ وَمُصَنَّفُهُ إنَّمَا تَتَضَمَّنُ تَضْعِيفَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَوَابِعِهَا، مِثْلَ كَوْنِهِ. [قِرَاءَة الْمُؤْتَمِّ خَلْفَ الْإِمَامِ] 239 - 155 - سُئِلَ: فِي قِرَاءَةِ الْمُؤْتَمِّ خَلْفَ الْإِمَامِ: جَائِزَةٌ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قَرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ: هَلْ عَلَيْهِ إثْمٌ فِي ذَلِكَ، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ لَا تَبْطُلُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ؟ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: أَنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي حَالِ سُكُوتِ

ما تدرك به الجمعة والجماعة

الْإِمَامِ: كَصَلَاةِ الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ، وَالْأَخِيرَتَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَكَذَلِكَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ إذَا لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَتَهُ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ لَا يَقْرَأَ خَلْفَهُ بِحَالٍ، وَالسَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقْرَأُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ. وَأَمَّا إذَا سَمِعَ الْمَأْمُومُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَمِعُ وَلَا يَقْرَأُ بِحَالٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَقْرَأُ حَالَ الْجَهْرِ بِالْفَاتِحَةِ خَاصَّةً، وَمَذْهَبُ طَائِفَةٍ كَالْأَوْزَاعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الشَّامِيِّينَ يَقْرَؤُهَا اسْتِحْبَابًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ جَدِّنَا. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِ الْجَهْرِ وَحَالِ الْمُخَافَتَةِ، فَيَقْرَأُ فِي حَالِ السِّرِّ، وَلَا يَقْرَأُ فِي حَالِ الْجَهْرِ، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، قَالَ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] فَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ فَلْيَسْتَمِعْ، وَإِذَا سَكَتَ فَلْيَقْرَأْ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ الَّذِي لَا اسْتِمَاعَ مَعَهُ. وَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَفُوتُ هَذَا الْأَجْرُ بِلَا فَائِدَةٍ بَلْ يَكُونُ إمَّا مُسْتَمِعًا، وَإِمَّا قَارِئًا. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [مَا تُدْرَكُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَةُ] 240 - 156 - سُئِلَ: [عَمَّا تُدْرَكُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَةُ؟] الْجَوَابُ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا تُدْرَكُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا لَا يُدْرَكَانِ إلَّا بِرَكْعَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ اخْتَارَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَيْضًا كَأَبِي الْمَحَاسِنِ الرَّيَّانِيِّ، وَغَيْرِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا يُدْرَكَانِ بِتَكْبِيرَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تُدْرَكُ إلَّا بِرَكْعَةٍ، وَالْجَمَاعَةُ تُدْرَكُ بِتَكْبِيرَةٍ، وَهَذَا

الْقَوْلُ هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ؛ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَدْرَ التَّكْبِيرَةِ لَمْ يُعَلِّقْ بِهِ الشَّارِعُ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ، لَا فِي الْوَقْتِ، وَلَا فِي الْجُمُعَةِ، وَلَا الْجَمَاعَةِ، وَلَا غَيْرِهَا. فَهُوَ وَصْفٌ مُلْغًى فِي نَظَرِ الشَّارِعِ، فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ. الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا عَلَّقَ الْأَحْكَامَ بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ، فَتَعْلِيقُهَا بِالتَّكْبِيرَةِ إلْغَاءٌ لِمَا اعْتَبَرَهُ، وَاعْتِبَارٌ لِمَا أَلْغَاهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ فَاسِدٌ فِيمَا اُعْتُبِرَ فِيهِ الرَّكْعَةُ - وَعَلَّقَ الْإِدْرَاكَ بِهَا فِي الْوَقْتِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ» . وَأَمَّا مَا فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: «إذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً» فَالْمُرَادُ بِهَا الرَّكْعَةُ التَّامَّةُ، كَمَا فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ؛ وَلِأَنَّ الرَّكْعَةَ التَّامَّةَ تُسَمَّى بِاسْمِ الرُّكُوعِ، فَيُقَالُ: رَكْعَةٌ، وَبِاسْمِ السُّجُودِ فَيُقَالُ سَجْدَةٌ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ، مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّقَ الْإِدْرَاكَ مَعَ الْإِمَامِ بِرَكْعَةٍ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» وَهَذَا نَصٌّ رَافِعٌ لِلنِّزَاعِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تُدْرَكُ إلَّا بِرَكْعَةٍ، كَمَا أَفْتَى بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَنَسٌ وَغَيْرُهُمْ. وَلَا يُعْلَمُ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ. وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ ذَلِكَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ وَلِهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ طَرَدَ أَصْلَهُ، وَسَوَّى بَيْنَهُمَا، وَلَكِنَّ الْأَحَادِيثَ الثَّابِتَةَ، وَآثَارَ الصَّحَابَةِ تُبْطِلُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ. الْخَامِسُ: أَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُهَا جَمِيعَهَا مُنْفَرِدًا، فَلَا يَكُونُ قَدْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ شَيْئًا يُحْتَسَبُ لَهُ بِهِ، فَلَا يَكُونُ قَدْ اجْتَمَعَ هُوَ وَالْإِمَامُ فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ يُعْتَدُّ لَهُ بِهِ، فَتَكُونُ صَلَاتُهُ جَمِيعًا صَلَاةَ مُنْفَرِدٍ.

يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ إلَّا إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ، وَإِذَا أَدْرَكَهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ لَمْ يَعْتَدَّ لَهُ بِمَا فَعَلَهُ مَعَهُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ مَعَهُ الْقِيَامَ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودَ، وَجَلْسَةَ الْفَصْلِ، وَلَكِنْ لَمَّا فَاتَهُ مُعْظَمُ الرَّكْعَةِ وَهُوَ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ فَاتَتْهُ الرَّكْعَةُ، فَكَيْفَ يُقَالُ مَعَ هَذَا أَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ لَمْ يُدْرِكْ مَعَهُمْ مَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِهِ، فَإِدْرَاكُ الصَّلَاةِ بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ، نَظِيرُ إدْرَاكِ الرَّكْعَةِ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَوْضُوعَيْنِ قَدْ أَدْرَكَ مَا يُعْتَدُّ لَهُ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يُدْرِكْ مِنْ الصَّلَاةِ رَكْعَةً كَانَ كَمَنْ لَا يُدْرِكُ الرُّكُوعَ مَعَ الْإِمَامِ فِي فَوْتِ الرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يُدْرِكْ مَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِهِ، وَهَذَا مِنْ أَصَحِّ الْقِيَاسِ. السَّادِسُ: أَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى هَذَا: أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ وَأَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً فَمَا فَوْقَهَا فَإِنَّهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ، وَإِنْ أَدْرَكَ مَعَهُ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ صَلَّاهَا مَقْصُورَةً، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ قَدْ ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ فِي جُزْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ فَلَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، وَإِذَا لَمْ يُدْرِكْ مَعَهُ رَكْعَةً فَصَلَاتُهُ صَلَاةُ مُنْفَرِدٍ فَيُصَلِّيهَا مَقْصُورَةً. وَيُبْنَى عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْمَرْأَةَ الْحَائِضَ إذَا طَهُرَتْ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِقَدْرِ رَكْعَةٍ لَزِمَهَا الْعَصْرُ، وَإِنْ طَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ بِقَدْرِ رَكْعَةٍ لَزِمَهَا الْعِشَاءُ. وَإِنْ حَصَلَ ذَلِكَ بِأَقَلَّ مِنْ مِقْدَارِ رَكْعَةٍ لَمْ يَلْزَمْهَا شَيْءٌ. وَأَمَّا الظُّهْرُ وَالْمَغْرِبُ، فَهَلْ يَلْزَمُهَا بِذَلِكَ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ؟ فَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: يَلْزَمُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِيمَا تَلْزَمُ بِهِ الصَّلَاةُ الْأُولَى عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ بِمَا تَجِبُ بِهِ الثَّانِيَةُ، وَهَلْ هُوَ رَكْعَةٌ؟ أَوْ تَكْبِيرَةٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ، إلَّا بِأَنْ تُدْرِكَ زَمَنًا يَتَّسِعُ لِفِعْلِهَا، وَهُوَ أَصَحُّ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا الْوَقْتُ وَهِيَ طَاهِرَةٌ ثُمَّ حَاضَتْ، هَلْ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ الصَّلَاةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهَا، كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ.

فيمن يرفع قبل الإمام ويخفض ونهي فلم ينته

وَالثَّانِي: يَلْزَمُهَا، كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُوجِبُونَ عَلَيْهَا الصَّلَاةَ فِيمَا يَسْتَقِرُّ بِهِ الْوُجُوبُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْرُ تَكْبِيرَةٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا زَمَنٌ تَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الطَّهَارَةِ وَفِعْلِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ: هَلْ يَلْزَمُهَا فِعْلُ الثَّانِيَةِ مِنْ الْمَجْمُوعَتَيْنِ مَعَ الْأُولَى؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَالْأَظْهَرُ فِي الدَّلِيلِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ أَنَّهَا لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، وَلَا أَمْرَ هُنَا يَلْزَمُهَا بِالْقَضَاءِ، وَلِأَنَّهَا أَخَّرَتْ تَأْخِيرًا جَائِزًا فَهِيَ غَيْرُ مُفَرِّطَةٍ، وَأَمَّا النَّائِمُ أَوْ النَّاسِي - وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُفَرِّطٍ أَيْضًا - فَإِنَّ مَا يَفْعَلُهُ لَيْسَ قَضَاءً، بَلْ ذَلِكَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِ حِينَ يَسْتَيْقِظُ وَيَذْكُرُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ وَاحِدٌ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ بَعْدَ وَقْتِهَا، وَإِنَّمَا وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِالْإِعَادَةِ فِي الْوَقْتِ لِمَنْ تَرَكَ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ كَأَمْرِهِ لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ بِالْإِعَادَةِ لَمَّا تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا، وَكَأَمْرِهِ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ مُنْفَرِدًا بِالْإِعَادَةِ لَمَّا تَرَكَ الْمُصَافَّةَ الْوَاجِبَةَ، وَكَأَمْرِهِ لِمَنْ تَرَكَ لُمْعَةً مِنْ قَدَمِهِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ بِالْإِعَادَةِ لَمَّا تَرَكَ الْوُضُوءَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَأَمَرَ النَّائِمَ وَالنَّاسِيَ بِأَنْ يُصَلِّيَا إذَا ذَكَرَا، وَذَلِكَ هُوَ الْوَقْتُ فِي حَقِّهِمَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فِيمَنْ يَرْفَعُ قَبْلَ الْإِمَامِ وَيَخْفِضُ وَنُهِيَ فَلَمْ يَنْتَهِ] 241 - 157 - سُئِلَ: فِيمَنْ يَرْفَعُ قَبْلَ الْإِمَامِ وَيَخْفِضُ وَنُهِيَ فَلَمْ يَنْتَهِ، فَمَا حُكْمُ صَلَاتِهِ؟ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا مُسَابَقَةُ الْإِمَامِ فَحَرَامٌ، بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْكَعَ قَبْلَ إمَامِهِ، وَلَا يَرْفَعَ قَبْلَهُ، وَلَا يَسْجُدَ قَبْلَهُ. وَقَدْ اسْتَفَاضَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّهْيِ

عَنْ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ، وَلَا بِالسُّجُودِ، فَإِنِّي مَهْمَا أَسْبِقُكُمْ بِهِ إذَا رَكَعْتُ تُدْرِكُونِي بِهِ إذَا رَفَعْتُ، إنِّي قَدْ بَدَّنْتُ» . وَقَوْلُهُ «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ، وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَتِلْكَ بِتِلْكَ، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ، يَسْمَعْ اللَّهُ لَكُمْ، وَإِذَا كَبَّرَ وَسَجَدَ فَكَبِّرُوا، وَاسْجُدُوا، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَسْجُدُ قَبْلَكُمْ، وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ، فَتِلْكَ بِتِلْكَ» . وَكَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ» وَهَذَا لِأَنَّ الْمُؤْتَمَّ مُتَّبِعٌ لِلْإِمَامِ مُقْتَدٍ بِهِ، وَالتَّابِعُ الْمُقْتَدِي لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى مَتْبُوعِهِ، وَقُدْوَتِهِ، فَإِذَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ كَانَ كَالْحِمَارِ الَّذِي لَا يَفْقَهُ مَا يُرَادُ بِعَمَلِهِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَثَلُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا» . وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ وَالتَّعْزِيرَ الَّذِي يُرْدِعُهُ، وَأَمْثَالَهُ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يُسَابِقُ الْإِمَامَ، فَضَرَبَهُ، وَقَالَ: لَا وَحْدَك صَلَّيْت، وَلَا بِإِمَامِك اقْتَدَيْت. وَإِذَا سَبَقَ الْإِمَامَ سَهْوًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، لَكِنْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ بِقَدْرِ مَا سَبَقَ بِهِ الْإِمَامَ كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ مُقَدَّرَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، وَمَا فَعَلَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ سَهْوًا لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّهُ زَادَ فِي الصَّلَاةِ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا سَهْوًا، فَكَانَ كَمَا لَوْ زَادَ رُكُوعًا أَوْ سُجُودًا سَهْوًا، وَذَلِكَ لَا يَبْطُلُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَلَكِنْ مَا يَفْعَلُهُ قَبْلَ الْإِمَامِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ فِعْلِ الْإِمَامِ لَيْسَ وَقْتًا لِفِعْلِ الْمَأْمُومِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ، أَوْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَبَّرَ قَبْلَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يُجْزِئُهُ عَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُحْرِمَ إذَا حَلَّ الْوَقْتُ لَا قَبْلَهُ، وَأَنْ يُحْرِمَ الْمَأْمُومُ إذَا أَحْرَمَ الْإِمَامُ لَا قَبْلَهُ. فَكَذَلِكَ الْمَأْمُومُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ رُكُوعُهُ وَسُجُودُهُ إذَا رَكَعَ الْإِمَامُ وَسَجَدَ، لَا قَبْلَ ذَلِكَ فَمَا فَعَلَهُ سَابِقًا وَهُوَ سَاهٍ عُفِيَ

المصافحة عقيب الصلاة

لَهُ عَنْهُ، وَلَمْ يُعْتَدَّ لَهُ بِهِ، فَلِهَذَا أَمَرَهُ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ أَنْ يَتَخَلَّفَ بِمِقْدَارِهِ لِيَكُونَ فِعْلُهُ بِقَدْرِ فِعْلِ الْإِمَامِ. وَأَمَّا إذَا سَبَقَ الْإِمَامَ عَمْدًا فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَمَنْ أَبْطَلَهَا قَالَ: إنَّ هَذَا زَادَ فِي الصَّلَاةِ عَمْدًا فَتَبْطُلُ، كَمَا لَوْ فَعَلَ قَبْلَهُ رُكُوعًا أَوْ سُجُودًا عَمْدًا، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ بِلَا رَيْبٍ، وَكَمَا لَوْ زَادَ فِي الصَّلَاةِ رُكُوعًا أَوْ سُجُودًا عَمْدًا. وَقَدْ قَالَ الصَّحَابَةُ لِلْمُسَابِقِ: لَا وَحْدَك صَلَّيْت، وَلَا بِإِمَامِك اقْتَدَيْت، وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ وَحْدَهُ، وَلَا مُؤْتَمًّا، فَلَا صَلَاةَ لَهُ. وَعَلَى هَذَا [فَعَلَى] الْمُصَلِّي أَنْ يَتُوبَ مِنْ الْمُسَابَقَةِ، وَيَتُوبَ مِنْ نَقْرِ الصَّلَاةِ وَتَرْكِ الطُّمَأْنِينَةِ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ فَعَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ أَنْ يَأْمُرُوهُ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وَيَنْهَوْهُ عَنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنْ قَامَ بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَإِلَّا أَثِمُوا كُلُّهُمْ. وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى تَعْزِيرِهِ وَتَأْدِيبِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، فَعَلَ ذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا هَجْرُهُ وَكَانَ ذَلِكَ مُؤَثِّرًا فِيهِ هَجَرَهُ، حَتَّى يَتُوبَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمُصَافَحَةُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ] 242 - 158 - سُئِلَ: الْمُصَافَحَةُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ: هَلْ هِيَ سُنَّةٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. الْمُصَافَحَةُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ لَيْسَتْ مَسْنُونَةً، بَلْ هِيَ بِدْعَةٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْإِمَامَةُ هَلْ فِعْلُهَا أَفْضَلُ أَمْ تَرْكُهَا] 243 - 159 - سُئِلَ: عَنْ الْإِمَامَةِ هَلْ فِعْلُهَا أَفْضَلُ أَمْ تَرْكُهَا؟ أَجَابَ: بَلْ يُصَلِّي بِهِمْ وَلَهُ أَجْرٌ بِذَلِكَ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. «ثَلَاثَةٌ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ رَاضُونَ» الْحَدِيثُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة الأولى بالإمامة

[مَسْأَلَةٌ الْأَوْلَى بِالْإِمَامَةِ] مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَافِظٌ لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ وَاعِظٌ، يَحْضُرُ الدُّفَّ وَالشَّبَّابَةَ، وَالْآخَرُ عَالِمٌ مُتَوَرِّعٌ. فَأَيُّهُمَا أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ؟ الْجَوَابُ: ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَأُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ. فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا» . فَإِذَا كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَةِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَعْلَمَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْآخَرِ مُتَعَيِّنًا، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فَاجِرًا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالْكَذِبِ، وَالْخِيَانَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْفُسُوقِ، وَالْآخَرُ مُؤْمِنًا مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى فَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ، إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَقْرَأَ وَأَعْلَمَ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْفَاسِقِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَنَهْيَ تَنْزِيهٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَا يَؤُمَّنَّ فَاجِرٌ مُؤْمِنًا، إلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ بِسَوْطٍ أَوْ عَصًا» . وَلَا يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الْفَاسِقِ مَعَ إمْكَانِ تَوْلِيَةِ الْبَرِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الصَّلَاةُ خَلْفَ الْمَرَازِقَةِ] 245 - 161 - سُئِلَ: الصَّلَاةُ خَلْفَ الْمَرَازِقَةِ، وَعَنْ بِدْعَتِهِمْ. أَجَابَ: يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَالْجُمُعَةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ خَلْفَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْهُ بِدْعَةً، وَلَا فِسْقًا، بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الِائْتِمَامِ أَنْ يَعْلَمَ الْمَأْمُومُ اعْتِقَادَ إمَامِهِ، وَلَا أَنْ يَمْتَحِنَهُ، فَيَقُولُ: مَاذَا تَعْتَقِدُ؟ بَلْ يُصَلِّي خَلْفَ مَسْتُورِ الْحَالِ. وَلَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ فَاسِقٌ أَوْ مُبْتَدِعٌ فَفِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَمَالِكٍ. وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ الصِّحَّةُ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ لَا أُسَلِّمُ مَالِي إلَّا لِمَنْ أَعْرِفُ. وَمُرَادُهُ لَا أُصَلِّي خَلْفَ مَنْ لَا أَعْرِفُهُ، كَمَا لَا أُسَلِّمُ مَالِي إلَّا لِمَنْ أَعْرِفُهُ، كَلَامُ جَاهِلٍ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ

الْمَالَ إذَا أَوْدَعَهُ الرَّجُلَ الْمَجْهُولَ فَقَدْ يَخُونُهُ فِيهِ، وَقَدْ يُضَيِّعُهُ. وَأَمَّا الْإِمَامُ فَلَوْ أَخْطَأَ أَوْ نَسِيَ لَمْ يُؤَاخَذْ بِذَلِكَ الْمَأْمُومِ، كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَئِمَّتُكُمْ يُصَلُّونَ لَكُمْ وَلَهُمْ. فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ» . فَجَعَلَ خَطَأَ الْإِمَامِ عَلَى نَفْسِهِ دُونَهُمْ، وَقَدْ صَلَّى عُمَرُ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ جُنُبٌ نَاسِيًا لِلْجَنَابَةِ، فَأَعَادَ وَلَمْ يَأْمُرْ الْمَأْمُومِينَ بِالْإِعَادَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ الْإِمَامُ مَا يَسُوغُ عِنْدَهُ، وَهُوَ عِنْدَ الْمَأْمُومِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، مِثْلَ أَنْ يَفْتَصِدَ وَيُصَلِّيَ وَلَا يَتَوَضَّأَ، أَوْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ، أَوْ يَتْرُكَ الْبَسْمَلَةَ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ صَلَاتَهُ تَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ، وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ، بَلْ فِي أَنَصِّهِمَا عَنْهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، اخْتَارَهُ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ. وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِمَامَ صَلَّى بِلَا وُضُوءٍ مُتَعَمِّدًا، وَالْمَأْمُومُ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى مَاتَ الْمَأْمُومُ، لَمْ يُطَالِبْ اللَّهُ الْمَأْمُومَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُصَلِّي بِلَا وُضُوءٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَهُ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُصَلٍّ: بَلْ لَاعِبٌ، وَلَوْ عَلِمَ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَنَّهُ صَلَّى بِلَا وُضُوءٍ فَفِي الْإِعَادَةِ نِزَاعٌ. وَلَوْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ أَنَّ الْإِمَامَ مُبْتَدِعٌ يَدْعُو إلَى بِدْعَتِهِ، أَوْ فَاسِقٌ ظَاهِرُ الْفِسْقِ، وَهُوَ الْإِمَامُ الرَّاتِبُ الَّذِي لَا تُمْكِنُ الصَّلَاةُ إلَّا خَلْفَهُ، كَإِمَامِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، وَالْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْحَجِّ بِعَرَفَةَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يُصَلِّي خَلْفَهُ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَلِهَذَا قَالُوا فِي الْعَقَائِدِ: إنَّهُ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَ خَلْفَ كُلِّ إمَامٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقَرْيَةِ إلَّا إمَامٌ وَاحِدٌ، فَإِنَّهَا تُصَلِّي خَلْفَهُ الْجَمَاعَاتُ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فَاسِقًا. هَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ: أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِمَا، بَلْ الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَمَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ الْفَاجِرِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَغَيْرِهِ، مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ. كَمَا ذَكَرَهُ فِي رِسَالَةِ؟ عَبْدُوسٍ. وَابْنُ مَالِكٍ، وَالْعَطَّارُ.

فصل الصلاة خلف المبتدع

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا، وَلَا يُعِيدُهَا، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ خَلْفَ الْأَئِمَّةِ الْفُجَّارِ، وَلَا يُعِيدُونَ كَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ يُصَلُّونَ خَلْفَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حَتَّى إنَّهُ صَلَّى بِهِمْ مَرَّةً الصُّبْحَ أَرْبَعًا ثُمَّ قَالَ: أَزِيدُكُمْ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا زِلْنَا مَعَك مُنْذُ الْيَوْمِ فِي زِيَادَةٍ؟ وَلِهَذَا رَفَعُوهُ إلَى عُثْمَانَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا حُصِرَ صَلَّى بِالنَّاسِ شَخْصٌ، فَسَأَلَ سَائِلٌ عُثْمَانَ. فَقَالَ: إنَّك إمَامُ عَامَّةٍ، وَهَذَا الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ إمَامُ فِتْنَةٍ. فَقَالَ: يَا بْنَ أَخِي، إنَّ الصَّلَاةَ مِنْ أَحْسَنِ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنُوا فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إسَاءَتَهُمْ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. وَالْفَاسِقُ وَالْمُبْتَدِعُ صَلَاتُهُ فِي نَفْسِهِ صَحِيحَةٌ، فَإِذَا صَلَّى الْمَأْمُومُ خَلْفَهُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، لَكِنْ إنَّمَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ بِدْعَةً أَوْ فُجُورًا لَا يُرَتَّبُ إمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ حَتَّى يَتُوبَ، فَإِذَا أَمْكَنَ هَجْرُهُ حَتَّى يَتُوبَ كَانَ حَسَنًا، وَإِذَا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ وَصَلَّى خَلْفَ غَيْرِهِ أَثَّرَ ذَلِكَ حَتَّى يَتُوبَ، أَوْ يُعْزَلَ، أَوْ يَنْتَهِيَ النَّاسُ عَنْ مِثْلِ ذَنْبِهِ. فَمِثْلُ هَذَا إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ كَانَ فِي مَصْلَحَةٍ، وَلَمْ يَفُتْ الْمَأْمُومَ جُمُعَةٌ وَلَا جَمَاعَةٌ. وَأَمَّا إذَا كَانَ تَرَكَ الصَّلَاةَ يُفَوِّتُ الْمَأْمُومَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ، فَهُنَا لَا يَتْرُكُ الصَّلَاةَ خَلْفَهُمْ إلَّا مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْإِمَامُ قَدْ رَتَّبَهُ وُلَاةُ الْأُمُورِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ مَصْلَحَةٌ، فَهُنَا لَيْسَ عَلَيْهِ تَرْكُ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ، بَلْ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْإِمَامِ الْأَفْضَلِ أَفْضَلُ، وَهَذَا كُلُّهُ يَكُونُ فِيمَنْ ظَهَرَ مِنْهُ فِسْقٌ، أَوْ بِدْعَةٌ، تَظْهَرُ مُخَالَفَتُهَا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَبِدْعَةِ الرَّافِضَةِ، وَالْجَهْمِيَّةِ، وَنَحْوِهِمْ. وَمَنْ أَنْكَرَ مَذْهَبَ الرَّوَافِضِ وَهُوَ لَا يُصَلِّي الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ، بَلْ يُكَفِّرُ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ وَقَعَ فِي مِثْلِ مَذْهَبِ الرَّوَافِضِ، فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا أَنْكَرَهُ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَيْهِمْ تَرْكَهُمْ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَتَكْفِيرَ الْجُمْهُورِ. [فَصْلٌ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ] فَصْلٌ وَأَمَّا " الصَّلَاةُ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ " فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ؛ وَتَفْصِيلٌ. فَإِذَا لَمْ تَجِدْ

مسألة الصلاة خلف من يأكل الحشيشة

إمَامًا غَيْرَهُ كَالْجُمُعَةِ الَّتِي لَا تُقَامُ إلَّا بِمَكَانٍ وَاحِدٍ، وَكَالْعِيدَيْنِ وَكَصَلَوَاتِ الْحَجِّ، خَلْفَ إمَامِ الْمَوْسِمِ فَهَذِهِ تُفْعَلُ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ، وَإِنَّمَا تَدَعُ مِثْلَ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ خَلْفَ الْأَئِمَّةِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ، مِمَّنْ لَا يَرَى الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقَرْيَةِ إلَّا مَسْجِدٌ وَاحِدٌ، فَصَلَاتُهُ فِي الْجَمَاعَةِ خَلْفَ الْفَاجِرِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ مُنْفَرِدًا؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ مُطْلَقًا. وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ غَيْرِ الْمُبْتَدِعِ فَهُوَ أَحْسَنُ، وَأَفْضَلُ بِلَا رَيْبٍ. لَكِنْ إنْ صَلَّى خَلْفَهُ فَفِي صَلَاتِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ تَصِحُّ صَلَاتُهُ. وَأَمَّا مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، فَفِي مَذْهَبِهِمَا نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ. وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِي الْبِدْعَةِ الَّتِي يُعْلَمُ أَنَّهَا تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، مِثْلَ بِدَعِ الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، وَنَحْوِهِمْ. فَأَمَّا مَسَائِلُ الدِّينِ الَّتِي يَتَنَازَعُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ، مِثْلَ مَسْأَلَةِ الْحَرْفِ، وَالصَّوْتِ وَنَحْوِهَا، فَقَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْمُتَنَازِعَيْنِ مُبْتَدِعًا، وَكِلَاهُمَا جَاهِلٌ مُتَأَوِّلٌ، فَلَيْسَ امْتِنَاعُ هَذَا مِنْ الصَّلَاةِ خَلْفَ هَذَا بِأَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ، فَأَمَّا إذَا ظَهَرَتْ السُّنَّةُ وَعُلِمَتْ فَخَالَفَهَا وَاحِدٌ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي فِيهِ النِّزَاعُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. [مَسْأَلَةٌ الصَّلَاة خَلْف مِنْ يَأْكُل الْحَشِيشَة] 246 - 162 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ اسْتَفَاضَ عَنْهُ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْحَشِيشَةَ، وَهُوَ إمَامٌ فَقَالَ رَجُلٌ: لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَجُلٌ وَقَالَ: تَجُوزُ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ» فَهَذَا الَّذِي أَنْكَرَ مُصِيبٌ أَمْ مُخْطِئٌ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِآكِلِ الْحَشِيشَةِ أَنْ يَؤُمَّ بِالنَّاسِ؟ وَإِذَا كَانَ الْمُنْكِرُ مُصِيبًا، فَمَا يَجِبُ عَلَى الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ فِي الْمَكَانِ أَنْ يَعْزِلَهُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَلَّى فِي الْإِمَامَةِ بِالنَّاسِ مَنْ يَأْكُلُ الْحَشِيشَةَ، أَوْ يَفْعَلُ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْمُحَرَّمَةِ، مَعَ إمْكَانِ تَوْلِيَةِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ. كَيْفَ وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ قَلَّدَ رَجُلًا عَمَلًا عَلَى عِصَابَةٍ، وَهُوَ يَجِدُ فِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ، وَخَانَ رَسُولَهُ، وَخَانَ الْمُؤْمِنِينَ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «اجْعَلُوا أَئِمَّتَكُمْ خِيَارَكُمْ، فَإِنَّهُمْ

وَفْدُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْقَوْمَ. وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، لَمْ يَزَالُوا فِي سَفَالٍ» وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَأُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا» فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَقْدِيمِ الْأَفْضَلِ بِالْعِلْمِ بِالْكِتَابِ، ثُمَّ بِالسُّنَّةِ، ثُمَّ الْأَسْبَقُ إلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ يُصَلِّي بِقَوْمٍ إمَامًا فَبَصَقَ فِي الْقِبْلَةِ فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَعْزِلُوهُ عَنْ الْإِمَامَةِ، وَلَا يُصَلُّوا خَلْفَهُ، فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ هَلْ أَمَرَهُمْ بِعَزْلِهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ إنَّك آذَيْت اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . فَإِذَا كَانَ الْمَرْءُ يُعْزَلُ لِأَجْلِ إسَاءَتِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَبُصَاقِهِ فِي الْقِبْلَةِ، فَكَيْفَ الْمُصِرُّ عَلَى أَكْلِ الْحَشِيشَةِ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا لِلْمُسْكِرِ مِنْهَا، كَمَا عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، إذْ السُّكْرُ مِنْهَا حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَاسْتِحْلَالُ ذَلِكَ كُفْرٌ بِلَا نِزَاعٍ. وَأَمَّا احْتِجَاجُ الْمُعَارِضِ بِقَوْلِهِ: «تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ» فَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْهُ: «لَا يَؤُمَّنَّ فَاجِرٌ مُؤْمِنًا إلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ بِسَوْطٍ أَوْ بِعَصًا» . وَفِي إسْنَادِ الْآخَرِ مَقَالٌ أَيْضًا. الثَّانِي: " أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ مَنْ وَلِيَ، وَإِنْ كَانَ تَوْلِيَةُ ذَلِكَ الْمَوْلَى لَا تَجُوزُ، فَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يُوَلُّوا عَلَيْهِمْ الْفَاسِقَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْفُذُ حُكْمُهُ، أَوْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْفَاسِقِ، لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّتِهَا: فَقِيلَ: لَا تَصِحُّ. كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا. وَقِيلَ: بَلْ تَصِحُّ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُمَا، وَلَمْ يَتَنَازَعُوا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي تَوْلِيَتُهُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي وُجُوبِ الْإِنْكَارِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ، الَّذِينَ يُسْكِرُونَ مِنْ الْحَشِيشَةِ؛ بَلْ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ قَلِيلَهَا وَكَثِيرَهَا حَرَامٌ،

مسألة خطيب لصلاة الجمعة امتنعوا عن الصلاة خلفه

بَلْ الصَّوَابُ أَنَّ آكِلَهَا يُحَدُّ، وَأَنَّهَا نَجِسَةٌ، فَإِذَا كَانَ آكِلُهَا لَمْ يَغْسِلْ مِنْهَا فَمَهُ كَانَتْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً، وَلَوْ غَسَلَ فَمَهُ مِنْهَا أَيْضًا فَهِيَ خَمْرٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ فَشَرِبَهَا لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ فَشَرِبَهَا فِي - الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ - كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ قَالَ: عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ» . وَإِذَا كَانَتْ صَلَاتُهُ تَارَةً بَاطِلَةً وَتَارَةً غَيْرَ مَقْبُولَةٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَمَنْ مَنَعَ الْمُنْكِرَ عَلَيْهِ فَقَدْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ؛ وَمَنْ قَالَ: فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ، حُبِسَ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ، وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ» فَالْمُخَاصِمُونَ [عَنْهُ مُخَاصِمُونَ] فِي بَاطِلٍ، وَهُمْ فِي سَخَطِ اللَّهِ، وَالْحَائِلُونَ ذَلِكَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ مُضَادُّونَ لِلَّهِ فِي أَمْرِهِ، وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ خَطِيب لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ امْتَنَعُوا عَنْ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ] 247 - 163 - مَسْأَلَةٌ: فِي خَطِيبٍ قَدْ حَضَرَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ، فَامْتَنَعُوا عَنْ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ، لِأَجْلِ بِدْعَةٍ فِيهِ، فَمَا هِيَ الْبِدْعَةُ الَّتِي تَمْنَعُ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا أَحَدًا مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فَاسِقًا. وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُمْ تَرْكُ الْجُمُعَةِ وَنَحْوِهَا لِأَجْلِ فِسْقِ الْإِمَامِ، بَلْ عَلَيْهِمْ فِعْلُ ذَلِكَ خَلْفَ الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا، وَإِنْ عَطَّلُوهَا لِأَجْلِ فِسْقِ الْإِمَامِ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا. وَإِنَّمَا تَنَازَعُ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِمَامِ إذَا كَانَ فَاسِقًا، أَوْ مُبْتَدِعًا، وَأَمْكَنَ أَنْ يُصَلِّي خَلْفَ عَدْلٍ. فَقِيلَ: تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: لَا تَصِحُّ خَلْفَ الْفَاسِقِ، إذَا أَمْكَنَ

مسألة إمام يقول يوم الجمعة إن الله تكلم بكلام أزلي قديم

الصَّلَاةَ خَلْفَ الْعَدْلِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ إمَام يَقُولُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ أَزَلِيٍّ قَدِيمٍ] 248 - 164 مَسْأَلَةٌ: فِي إمَامٍ يَقُولُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي خُطْبَتِهِ: إنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ أَزَلِيٍّ قَدِيمٍ. لَيْسَ بِحَرْفٍ، وَلَا صَوْتٍ، فَهَلْ تَسْقُطُ الْجُمُعَةُ خَلْفَهُ أَمْ لَا؟ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ الْجَوَابُ: الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ النَّاسُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، يَقْرَؤُهُ النَّاسُ بِأَصْوَاتِهِمْ. فَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي، وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ، وَالْقُرْآنُ جَمِيعُهُ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ. وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ مُبْتَدِعًا، فَإِنَّهُ يُصَلِّي خَلْفَهُ الْجُمُعَةَ؛ وَتَسْقُطُ بِذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ إمَام قَتَلَ ابْنَ عَمِّهِ] 249 - 165 - مَسْأَلَةٌ: فِي إمَامٍ قَتَلَ ابْنَ عَمِّهِ: فَهَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ. أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ قَتَلَ مُسْلِمًا مُتَعَمِّدًا بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْزَلَ عَنْ الْإِمَامَةِ، وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ، مِثْلَ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ إمَامٌ غَيْرَهُ؛ لَكِنْ إذَا تَابَ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ. فَإِذَا تَابَ التَّوْبَةَ الشَّرْعِيَّةَ جَازَ أَنْ يُقَرَّ عَلَى إمَامَتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ إمَام مَسْجِدٍ قَتَلَ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى خَلْفَهُ] 250 - 166 مَسْأَلَةٌ: عَنْ إمَامِ مَسْجِدٍ قَتَلَ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى خَلْفَهُ؟ أَجَابَ: إذَا كَانَ قَدْ قَتَلَ الْقَاتِلُ أَوَّلًا، ثُمَّ عَمَدَ أَقَارِبُ الْمَقْتُولِ إلَى أَقَارِبِ الْقَاتِلِ فَقَتَلُوهُمْ، فَهَؤُلَاءِ عُدَاةٌ مِنْ أَظْلِمْ النَّاسِ، وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] .

إمام المسلمين خبب امرأة على زوجها حتى فارقته

وَلِهَذَا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: إنَّ هَؤُلَاءِ الْقَاتِلِينَ يَقْتُلُهُمْ السُّلْطَانُ حَدًّا، وَلَا يُعْفَى عَنْهُمْ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَجْعَلُونَ أَمْرَهُمْ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ الْخُطَبَاءِ يَدْخُلُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الدِّمَاءِ فَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ. الَّذِينَ يَتَعَيَّنُ عَزْلُهُمْ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ يَكُونُ إمَامًا لِلظَّالِمِينَ الْمُعْتَدِينَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [إمَام الْمُسْلِمِينَ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى فَارَقَتْهُ] 251 - 167 - سُئِلَ: عَنْ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى فَارَقَتْهُ، وَصَارَ يَخْلُو بِهَا. فَهَلْ يُصَلَّى خَلْفَهُ؟ وَمَا حُكْمُهُ؟ الْجَوَابُ: فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا، أَوْ عَبْدًا عَلَى مَوَالِيهِ» فَسَعْيُ الرَّجُلِ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا مِنْ الذُّنُوبِ الشَّدِيدَةِ، وَهُوَ مِنْ فِعْلِ السَّحَرَةِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ فِعْلِ الشَّيَاطِينِ. لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ يُخَبِّبُهَا عَلَى زَوْجِهَا لِيَتَزَوَّجَهَا هُوَ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الْخَلْوَةِ بِهَا، وَلَا سِيَّمَا إذَا دَلَّتْ الْقَرَائِنُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوَلَّى إمَامَةَ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنْ يَتُوبَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَمْكَنَ الصَّلَاةُ خَلْفَ عَدْلٍ مُسْتَقِيمِ السِّيرَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى خَلْفَهُ، فَلَا يُصَلَّى خَلْفَ مَنْ ظَهَرَ فُجُورُهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ إمَام يَقْرَأُ عَلَى الْجَنَائِزِ هَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ] 252 - 168 - مَسْأَلَةٌ: فِي إمَامٍ يَقْرَأُ عَلَى الْجَنَائِزِ. هَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ؟ الْجَوَابُ: إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي صَلَاةً كَامِلَةً، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْوَرَعِ فَالصَّلَاةُ خَلْفَهُ أَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ خَلْفَ مَنْ يَقْرَأُ عَلَى الْجَنَائِزِ، فَإِنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ وَجْهٍ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْجَنَائِزِ مَكْرُوهَةٌ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ. وَأَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا أَعْظَمُ كَرَاهَةً، فَإِنَّ الِاسْتِئْجَارَ عَلَى التِّلَاوَةِ لَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة إمام يبصق في المحراب هل تجوز الصلاة خلفه

[مَسْأَلَةٌ إمَام يَبْصُقُ فِي الْمِحْرَابِ هَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ] 253 - 169 - مَسْأَلَةٌ: فِي إمَامٍ يَبْصُقُ فِي الْمِحْرَابِ هَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. يَنْبَغِي أَنْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ عَزَلَ إمَامًا لِأَجْلِ بُصَاقِهِ فِي الْقِبْلَةِ، وَقَالَ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ: لَا تُصَلُّوا خَلْفَهُ، فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْتَ نَهَيْتهمْ أَنْ يُصَلُّوا خَلْفِي، قَالَ: نَعَمْ، إنَّك قَدْ آذَيْت اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . فَإِنْ عُزِلَ عَنْ الْإِمَامَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، أَوْ انْتَهَى الْجَمَاعَةُ أَنْ يُصَلُّوا خَلْفَهُ؛ لِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ سَائِغًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ إمَامَة أَقْطَع الْيَدَيْنِ] 254 - 170 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ فَقِيهٍ عَالِمٍ خَاتِمٍ لِلْقُرْآنِ، وَبِهِ عُذْرٌ، يَدُهُ الشِّمَالُ خَلْفَهُ مِنْ حَدِّ الْكَتِفِ، وَلَهُ أَصَابِعُ لَحْمٍ، وَقَدْ قَالُوا: إنَّ الصَّلَاةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ خَلْفَهُ. الْجَوَابُ: إذَا كَانَتْ يَدَاهُ يَصِلَانِ إلَى الْأَرْضِ فِي السُّجُودِ، فَإِنَّهُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ بِلَا نِزَاعٍ. وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا إذَا كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَهُ السُّجُودُ عَلَى الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةِ، الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمَ: الْجَبْهَةِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ» . فَإِنَّ السُّجُودَ تَامٌّ، وَصَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ تَامَّةٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْخَصِيّ هَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ] 255 - 171 - مَسْأَلَةٌ: فِي الْخَصِيِّ هَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ تَصِحُّ خَلْفَهُ كَمَا تَصِحُّ خَلْفَ الْفَحْلِ، بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ، فَإِذَا كَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ فِي الْإِمَامَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَفْضُولُ فَحْلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة رجل ما عنده ما يكفيه وهو يصلي بالأجرة

[مَسْأَلَةٌ رَجُل مَا عِنْدَهُ مَا يَكْفِيه وَهُوَ يُصَلِّي بِالْأُجْرَةِ] مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مَا عِنْدَهُ مَا يَكْفِيه، وَهُوَ يُصَلِّي بِالْأُجْرَةِ. فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْإِمَامَةِ لَا يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ. وَقِيلَ: يَجُوزُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَالْخِلَافُ فِي الْأَذَانِ أَيْضًا. لَكِنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الِاسْتِئْجَارَ يَجُوزُ عَلَى الْأَذَانِ، وَعَلَى الْإِمَامَةِ مَعَهُ وَمُنْفَرِدَةً، وَفِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى هَذَا وَنَحْوِهِ كَالتَّعْلِيمِ عَلَى قَوْلٍ ثَالِثٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْحَاجَةِ، وَلَا يَجُوزُ بِدُونِ حَاجَةٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 257 - 173 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مُعَرَّفٍ عَلَى الْمَرَاكِبِ، وَبَنَى مَسْجِدًا، وَجَعَلَ لِلْإِمَامِ فِي كُلِّ شَهْرٍ أُجْرَةً مِنْ عِنْدِهِ، فَهَلْ هُوَ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ؟ وَهَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ يُعْطِي هَذِهِ الدَّرَاهِمَ مِنْ أُجْرَةِ الْمَرَاكِبِ الَّتِي جَازَ أَخْذُهَا، وَإِنْ كَانَ يُعْطِيهَا مِمَّا يَأْخُذُ مِنْ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ إمَام بَلَدٍ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ] 258 - 174 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ إمَامِ بَلَدٍ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ، وَفِي الْبَلَدِ رَجُلٌ آخَرُ يَكْرَهُ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ. فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ خَلْفَهُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا لَمْ يُصَلِّ خَلْفَهُ، وَتَرَكَ الصَّلَاةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ هَلْ يَأْثَمُ بِذَلِكَ؟ وَاَلَّذِي يَكْرَهُ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ، يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يُصَحِّحُ الْفَاتِحَةَ، وَفِي الْبَلَدِ مَنْ هُوَ أَقْرَأُ مِنْهُ، وَأَفْقَهُ. الْجَوَابُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْحَمْدُ لِلَّهِ أَمَّا كَوْنُهُ لَا يُصَحِّحُ الْفَاتِحَةَ، فَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، فَإِنَّ عَامَّةَ الْخَلْقِ مِنْ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ يَقْرَءُونَ الْفَاتِحَةَ قِرَاءَةً تُجْزِئُ بِهَا الصَّلَاةُ، فَإِنَّ

مسألة صلى بغير وضوء إماما وهو لا يعلم

اللَّحْنَ الْخَفِيَّ وَاللَّحْنَ الَّذِي لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَفِي الْفَاتِحَةِ قِرَاءَاتٌ كَثِيرَةٌ قَدْ قُرِئَ بِهَا. فَلَوْ قَرَأَ: {عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] وَعَلَيْهِمْ} . أَوْ قَرَأَ: الصِّرَاطَ، وَالسِّرَاطَ، وَالزِّرَاطَ. فَهَذِهِ قِرَاءَاتٌ مَشْهُورَةٌ. وَلَوْ قَرَأَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] ،: {وَالْحَمْدِ لِلَّهِ} ، أَوْ قَرَأَ: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] أَوْ: {رَبُّ الْعَالَمِينَ} . أَوْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. لَكَانَتْ قِرَاءَاتٍ قَدْ قُرِئَ بِهَا. وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَ مَنْ قَرَأَ بِهَا. وَلَوْ قَرَأَ: رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالضَّمِّ، أَوْ قَرَأَ: مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ بِالْفَتْحِ، لَكَانَ هَذَا لَحْنًا لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى، وَلَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ. وَإِنْ كَانَ إمَامًا رَاتِبًا وَفِي الْبَلَدِ مَنْ هُوَ أَقْرَأُ مِنْهُ صَلَّى خَلْفَهُ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُؤَمَّنَّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ» . وَإِنْ كَانَ مُتَظَاهِرًا بِالْفِسْقِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يُقِيمُ الْجَمَاعَةَ غَيْرَهُ صَلَّى خَلْفَهُ أَيْضًا، وَلَمْ يَتْرُكْ الْجَمَاعَةَ، وَإِنْ تَرَكَهَا فَهُوَ آثِمٌ، مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ. [مَسْأَلَةٌ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ إمَامًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ] 259 - 175 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ إمَامًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، أَوْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ لَا يَعْلَمُ بِهَا، فَهَلْ صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، أَمْ لَا؟ وَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً، فَهَلْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ خَلْفَهُ تَصِحُّ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. الْجَوَابُ: أَمَّا الْمَأْمُومُ، إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَدَثِ الْإِمَامِ، أَوْ النَّجَاسَةِ الَّتِي عَلَيْهِ حَتَّى قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ غَيْرَ عَالِمٍ، وَيُعِيدُ وَحْدَهُ إذَا كَانَ مُحْدِثًا. وَبِذَلِكَ مَضَتْ سُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، فَإِنَّهُمْ صَلَّوْا بِالنَّاسِ، ثُمَّ رَأَوْا الْجَنَابَةَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَأَعَادُوا، وَلَمْ يَأْمُرُوا النَّاسَ بِالْإِعَادَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مِنْ يَؤُمُّ قَوْمًا وَأَكْثَرُهُمْ لَهُ كَارِهُونَ] 260 - 176 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ يَؤُمُّ قَوْمًا وَأَكْثَرُهُمْ لَهُ كَارِهُونَ؟

مسألة أهل المذاهب الأربعة هل تصح صلاة بعضهم خلف بعض

الْجَوَابُ: إنْ كَانُوا يَكْرَهُونَ هَذَا الْإِمَامَ لِأَمْرٍ فِي دِينِهِ: مِثْلَ كَذِبِهِ أَوْ ظُلْمِهِ، أَوْ جَهْلِهِ، أَوْ بِدْعَتِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيُحِبُّونَ الْآخَرَ لِأَنَّهُ أَصْلَحُ فِي دِينِهِ مِنْهُ. مِثْلَ أَنْ يَكُونَ أَصْدَقَ وَأَعْلَمَ وَأَدْيَنَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُوَلَّى عَلَيْهِمْ هَذَا الْإِمَامُ الَّذِي يُحِبُّونَهُ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ الْإِمَامِ الَّذِي يَكْرَهُونَهُ أَنْ يَؤُمَّهُمْ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمْ: رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وَرَجُلٌ لَا يَأْتِي الصَّلَاةَ إلَّا دِبَارًا، وَرَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرًا» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أَهْل الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ هَلْ تَصِحُّ صَلَاةُ بَعْضِهِمْ خَلْفَ بَعْضٍ] 261 - 177 - مَسْأَلَةٌ: فِي أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ: هَلْ تَصِحُّ صَلَاةُ بَعْضِهِمْ خَلْفَ بَعْضٍ؟ أَمْ لَا؟ وَهَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّهُ لَا يُصَلِّي بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ؟ وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهَلْ هُوَ مُبْتَدِعٌ؟ أَمْ لَا؟ وَإِذَا فَعَلَ الْإِمَامُ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّ صَلَاتَهُ مَعَهُ صَحِيحَةٌ، وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ خِلَافَ ذَلِكَ. مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ تَقَيَّأَ أَوْ رَعَفَ، أَوْ احْتَجَمَ، أَوْ مَسَّ ذَكَرَهُ، أَوْ مَسَّ النِّسَاءِ بِشَهْوَةٍ أَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، أَوْ قَهْقَهَ فِي صَلَاتِهِ، أَوْ أَكَلَ لَحْمَ الْإِبِلِ، وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ الْإِمَامُ لَا يَقْرَأُ الْبَسْمَلَةَ، أَوْ لَمْ يَتَشَهَّدْ التَّشَهُّدَ الْآخَرَ، أَوْ لَمْ يُسَلِّمْ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ ذَلِكَ فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ وَالْحَالُ هَذِهِ؟ وَإِذَا شَرَطَ فِي إمَامِ الْمَسْجِدِ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فَكَانَ غَيْرُهُ أَعْلَمَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْهُ وَوَلِيَ. فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ وَهَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ؟ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَعَمْ، تَجُوزُ صَلَاةُ بَعْضِهِمْ خَلْفَ بَعْضٍ، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ يُصَلِّي بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ، مَعَ تَنَازُعِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ وَغَيْرِهَا. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّهُ لَا يُصَلِّي بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ، وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ، مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَأَئِمَّتِهَا. وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ: مِنْهُمْ مَنْ يَقْرَأُ الْبَسْمَلَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا

يَقْرَؤُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْهَرُ بِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَجْهَرُ بِهَا، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْنُتُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَضَّأُ مِنْ الْحِجَامَةِ وَالرُّعَافِ، وَالْقَيْءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَضَّأُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، وَمَسِّ النِّسَاءِ بِشَهْوَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَضَّأُ مِنْ الْقَهْقَهَةِ فِي صَلَاتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَضَّأُ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الْإِبِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُصَلِّي خَلْفَ بَعْضٍ. مِثْلَ مَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ يُصَلُّونَ خَلْفَ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَقْرَءُونَ الْبَسْمَلَةَ لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا، وَصَلَّى أَبُو يُوسُفَ خَلْفَ الرَّشِيدِ وَقَدْ احْتَجَمَ، وَأَفْتَاهُ مَالِكٌ بِأَنَّهُ لَا يَتَوَضَّأُ، فَصَلَّى خَلْفَهُ أَبُو يُوسُفَ وَلَمْ يُعِدْ. وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَرَى الْوُضُوءَ مِنْ الْحِجَامَةِ وَالرُّعَافِ، فَقِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ خَرَجَ مِنْهُ الدَّمُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. تُصَلِّي خَلْفَهُ؟ فَقَالَ: كَيْفَ لَا أُصَلِّي خَلْفَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَمَالِكٍ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لَهَا صُورَتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنْ لَا يَعْرِفَ الْمَأْمُومُ أَنَّ إمَامَهُ فَعَلَ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، فَهُنَا يُصَلِّي الْمَأْمُومُ خَلْفَهُ بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ، وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَغَيْرِهِمْ. وَلَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ مُتَقَدِّمٌ، وَإِنَّمَا خَالَفَ بَعْضُ الْمُتَعَصِّبِينَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: فَزَعَمَ أَنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْحَنَفِيِّ لَا تَصِحُّ، وَإِنْ أَتَى بِالْوَاجِبَاتِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا وَهُوَ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا، وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ إلَى أَنْ يُسْتَتَابَ كَمَا يُسْتَتَابُ أَهْلُ الْبِدَعِ أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى أَنْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ، فَإِنَّهُ مَازَالَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ يُصَلِّي بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَأَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْمَفْرُوضِ وَالْمَسْنُونِ، بَلْ يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ الشَّرْعِيَّةَ، وَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِهَذَا وَاجِبًا لَبَطَلَتْ صَلَوَاتُ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُمْكِنْ الِاحْتِيَاطُ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ فِيهِ نِزَاعٌ وَأَدِلَّةُ ذَلِكَ خَفِيَّةٌ، وَأَكْثَرُ مَا يُمْكِنُ الْمُتَدَيِّنُ أَنْ يَحْتَاطَ مِنْ الْخِلَافِ، وَهُوَ لَا يَجْزِمُ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنْ كَانَ الْجَزْمُ بِأَحَدِهِمَا وَاجِبًا فَأَكْثَرُ الْخَلْقِ لَا يُمْكِنُهُمْ الْجَزْمُ بِذَلِكَ، وَهَذَا الْقَائِلُ نَفْسُهُ لَيْسَ مَعَهُ إلَّا تَقْلِيدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَلَوْ طُولِبَ بِأَدِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ إمَامِهِ دُونَ غَيْرِهِ لَعَجَزَ عَنْ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ مِثْلِ هَذَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ.

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَيَقَّنَ الْمَأْمُومُ أَنَّ الْإِمَامَ فَعَلَ مَا لَا يَسُوغُ عِنْدَهُ: مِثْلَ أَنْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ، أَوْ النِّسَاءَ لِشَهْوَةٍ، أَوْ يَحْتَجِمَ، أَوْ يَفْتَصِدَ، أَوْ يَتَقَيَّأَ. ثُمَّ يُصَلِّيَ بِلَا وُضُوءٍ، فَهَذِهِ الصُّورَةُ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ: فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاةِ إمَامِهِ. كَمَا قَالَ ذَلِكَ مَنْ قَالَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَصِحُّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ؛ بَلْ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ نُصُوصِ أَحْمَدَ عَلَى هَذَا. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لَمَّا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ» . فَقَدْ بَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ خَطَأَ الْإِمَامِ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْمَأْمُومِ، وَلِأَنَّ الْمَأْمُومَ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ سَائِغٌ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا فَعَلَ، فَإِنَّهُ مُجْتَهِدٌ أَوْ مُقَلِّدُ مُجْتَهِدٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ خَطَأَهُ، فَهُوَ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ صَلَاتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَأْثَمُ إذَا لَمْ يُعِدْهَا، بَلْ لَوْ حَكَمَ بِمِثْلِ هَذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ نَقْضُ حُكْمِهِ، بَلْ كَانَ يُنْفِذُهُ. وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ قَدْ فَعَلَ بِاجْتِهَادِهِ، فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا، وَالْمَأْمُومُ قَدْ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ كَانَتْ صَلَاةُ كُلٍّ مِنْهُمَا صَحِيحَةً، وَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ أَدَّى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَقَدْ حَصَلَتْ مُوَافَقَةُ الْإِمَامِ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْمَأْمُومَ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، خَطَأٌ مِنْهُ، فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِمَامَ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا أَخْطَأَ فِيهِ، وَأَنْ لَا تَبْطُلَ صَلَاتُهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ. وَلَوْ أَخْطَأَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ فَسَلَّمَ الْإِمَامُ خَطَأً، وَاعْتَقَدَ الْمَأْمُومُ جَوَازَ مُتَابَعَتِهِ فَسَلَّمَ، كَمَا سَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَلَّمَ مِنْ اثْنَتَيْنِ سَهْوًا، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ إنَّمَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. كَمَا لَوْ صَلَّى خَمْسًا سَهْوًا فَصَلُّوا خَلْفَهُ خَمْسًا، كَمَا صَلَّى الصَّحَابَةُ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صَلَّى بِهِمْ خَمْسًا، فَتَابَعُوهُ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ صَلَّى خَمْسًا؛ لِاعْتِقَادِهِمْ جَوَازَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ تَصِحُّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ فِي هَذِهِ الْحَالِ.

صلاة المأموم خلف من يخالف مذهبه

فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْمُخْطِئُ هُوَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ. وَقَدْ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ سَلَّمَ خَطَأً لَمْ تَبْطُلْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ، إذَا لَمْ يُتَابِعْهُ، وَلَوْ صَلَّى خَمْسًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ إذَا لَمْ يُتَابِعْهُ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ خَطَأٌ لَا يَلْزَمُ فِيهِ بُطْلَانُ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [صَلَاةُ الْمَأْمُومِ خَلْفَ مَنْ يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ] 262 - 178 - سُئِلَ: هَلْ تَصِحُّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ خَلْفَ مَنْ يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ؟ أَجَابَ: وَأَمَّا صَلَاةُ الرَّجُلِ خَلْفَ مَنْ يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ، فَهَذِهِ تَصِحُّ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَكِنَّ النِّزَاعَ فِي صُورَتَيْنِ: إحْدَاهَا: خِلَافُهَا شَاذٌّ، وَهُوَ مَا إذَا أَتَى الْإِمَامُ بِالْوَاجِبَاتِ كَمَا يَعْتَقِدُهُ الْمَأْمُومُ، لَكِنْ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا مِثْلَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ إذَا فَعَلَهُ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَهُ، وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ، فَهَذَا فِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ. وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْخَلَفِ صِحَّةُ الصَّلَاةِ. وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ، إذَا تَرَكَ الْإِمَامُ مَا يَعْتَقِدُ الْمَأْمُومُ وُجُوبَهُ مِثْلَ أَنْ يَتْرُكَ قِرَاءَةَ الْبَسْمَلَةِ سِرًّا وَجَهْرًا، وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا. أَوْ مِثْلَ أَنْ يَتْرُكَ الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، أَوْ لَمْسِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْلِ لَحْمِ الْإِبِلِ، أَوْ الْقَهْقَهَةِ، أَوْ خُرُوجِ النَّجَاسَاتِ، أَوْ النَّجَاسَةِ النَّادِرَةِ، وَالْمَأْمُومُ يَرَى وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ، فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا صِحَّةُ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَصْرَحُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ هُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، بَلْ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ لَا يَقْرَءُونَ الْبَسْمَلَةَ، وَمَذْهَبُهُ وُجُوبُ قِرَاءَتِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ» فَجَعَلَ خَطَأَ الْإِمَامِ عَلَيْهِ دُونَ الْمَأْمُومِ. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ إنْ كَانَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ فِيهَا هُوَ الصَّوَابَ فَلَا نِزَاعَ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فَخَطَؤُهُ مُخْتَصٌّ بِهِ، وَالْمُنَازِعُ يَقُولُ: الْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاةِ إمَامِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِمَامَ يُصَلِّي بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ، إنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَهُوَ يُنْفِذُ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ اقْتِدَائِهِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ

هل يقلد الشافعي حنفيا في الصلاة الوترية وفي جمع المطر

الْمُجْتَهِدُ حُكْمُهُ بَاطِلًا لَمْ يَجُزْ إنْفَاذُ الْبَاطِلِ، وَلَوْ تَرَكَ الْإِمَامُ الطَّهَارَةَ نَاسِيًا لَمْ يُعِدْ الْمَأْمُومُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، كَمَا ثَبَتَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، مَعَ أَنَّ النَّاسِيَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ، وَالْمُتَأَوِّلُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. فَإِذَا صَحَّتْ الصَّلَاةُ خَلْفَ مَنْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، فَلَأَنْ تَصِحَّ خَلْفَ مَنْ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ أَوْلَى، وَالْإِمَامُ يُعِيدُ إذَا ذَكَرَ دُونَ الْمَأْمُومِ، وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْ الْإِمَامِ وَلَا مِنْ الْمَأْمُومِ تَفْرِيطٌ: لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَرْجِعُ عَنْ اعْتِقَادِهِ بِقَوْلِهِ. بِخِلَافِ مَا إذَا رَأَى عَلَى الْإِمَامِ نَجَاسَةً وَلَمْ يُحَذِّرْهُ مِنْهَا، فَإِنَّ الْمَأْمُومَ هُنَا مُفَرِّطٌ، فَإِذَا صَلَّى يُعِيدُ لِأَنَّ ذَلِكَ لِتَفْرِيطِهِ، وَأَمَّا الْإِمَامُ فَلَا يُعِيدُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَأَحْمَدَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَعِلْمُ الْمَأْمُومِ بِحَالِ الْإِمَامِ فِي صُورَةِ التَّأْوِيلِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ مَغْفُورٌ لَهُ خَطَؤُهُ، فَلَا تَكُونُ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [هَلْ يُقَلِّدُ الشَّافِعِيُّ حَنَفِيًّا فِي الصَّلَاةِ الْوِتْرِيَّةِ وَفِي جَمْعِ الْمَطَرِ] 263 - 179 - سُئِلَ: هَلْ يُقَلِّدُ الشَّافِعِيُّ حَنَفِيًّا، وَعَكْسُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الْوِتْرِيَّةِ، وَفِي جَمْعِ الْمَطَرِ؟ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. نَعَمْ يَجُوزُ لِلْحَنَفِيِّ وَغَيْرِهِ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ يُجَوِّزُ الْجَمْعَ مِنْ الْمَطَرِ، لَا سِيَّمَا وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَجْمَعُ مَعَ وُلَاةِ الْأُمُورِ بِالْمَدِينَةِ إذَا جَمَعُوا فِي الْمَطَرِ. وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يُقَلِّدَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ، وَيَنْهَى عَنْهُ، وَيَسْتَحِبُّهُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَازَالَ الْمُسْلِمُونَ يَسْتَفْتُونَ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ فَيُقَلِّدُونَ تَارَةً هَذَا وَتَارَةً هَذَا. فَإِذَا كَانَ الْمُقَلِّدُ فِي مَسْأَلَةٍ يَرَاهَا أَصْلَحَ فِي دِينِهِ أَوْ الْقَوْلُ بِهَا أَرْجَحُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، جَازَ هَذَا بِاتِّفَاقِ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ لَا أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا مَالِكٌ وَلَا الشَّافِعِيُّ وَلَا أَحْمَدَ. وَكَذَلِكَ الْوِتْرُ وَغَيْرُهُ يَنْبَغِي لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَتْبَعَ فِيهِ إمَامَهُ، فَإِنْ قَنَتَ قَنَتَ مَعَهُ، وَإِنْ

أدرك مع الإمام بعض الصلاة وقام ليتم ما فاته فائتم به آخرون

لَمْ يَقْنُتْ لَمْ يَقْنُتْ، وَإِنْ صَلَّى بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ مَوْصُولَةٍ فَعَلَ ذَلِكَ، وَإِنْ فَصَلَ فَصَلَ أَيْضًا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَخْتَارُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَصِلَ إذَا فَصَلَ إمَامُهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَام بَعْضَ الصَّلَاةِ وَقَامَ لِيُتِمّ مَا فَاتَهُ فَائْتَمَّ بِهِ آخَرُونَ] 264 - 180 - سُئِلَ: عَمَّا إذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ بَعْضَ الصَّلَاةِ وَقَامَ، لِيَأْتِيَ بِمَا فَاتَهُ، فَائْتَمَّ بِهِ آخَرُونَ، هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ بَعْضًا، وَقَامَ يَأْتِي بِمَا فَاتَهُ، فَائْتَمَّ بِهِ آخَرُونَ: جَازَ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. [إمَام يُصَلِّي صَلَاةَ الْفَرْضِ بِالنَّاسِ ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَهَا صَلَاةً أُخْرَى] 265 - 181 - سُئِلَ: عَنْ إمَامٍ يُصَلِّي صَلَاةَ الْفَرْضِ بِالنَّاسِ، ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَهَا صَلَاةً أُخْرَى وَيَقُولُ: هَذِهِ عَنْ صَلَاةٍ فَاتَتْكُمْ هَلْ يُسَوَّغُ هَذَا؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَيْسَ لِلْإِمَامِ الرَّاتِبِ أَنْ يَعْتَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ الْفَرِيضَةَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَلَمْ يَسْتَحِبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةِ، وَغَيْرِهِمْ. لَا أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا مَالِكٍ، وَلَا الشَّافِعِيِّ. وَلَا أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَعَادَ بِأُولَئِكَ الْمَأْمُومِينَ الصَّلَاةَ مَرَّتَيْنِ دَائِمًا أَنَّ هَذَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ كَانَ ضَالًّا. وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْإِمَامِ إذَا صَلَّى مَرَّةً ثَانِيَةً بِقَوْمٍ آخَرِينَ، غَيْرَ الْأَوَّلِينَ. مِنْهُمْ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ كَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَرِّمُ ذَلِكَ، كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ. وَمَنْ عَلَيْهِ فَوَائِتُ فَإِنَّهُ يَقْضِيهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، أَمَّا كَوْنُ الْإِمَامِ يُعِيدُ الصَّلَاةَ دَائِمًا مَعَ الصَّلَاةِ الْحَاضِرَةِ، وَأَنْ يُصَلُّوا خَلْفَهُ، فَهَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ. وَإِنْ قَالَ: إنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَجْلِ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْفَوَائِتِ. وَأَقَلُّ مَا فِي هَذَا أَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى أَنْ يَتَشَبَّهَ بِهِ الْأَئِمَّةُ، فَتَبْقَى بِهِ سُنَّةٌ، يَرْبُو عَلَيْهَا الصَّغِيرُ، وَتُغَيَّرُ بِسَبَبِهَا شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ فِي الْبَوَادِي، وَمَوَاضِعِ الْجَهْلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة صلى مع الإمام ثم حضر جماعة أخرى فصلى بهم إماما

[مَسْأَلَةٌ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ حَضَرَ جَمَاعَةً أُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ إمَامًا] مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ، ثُمَّ حَضَرَ جَمَاعَةً أُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ إمَامًا فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ مَسْأَلَةُ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فَإِنَّ الْإِمَامَ كَانَ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ، فَإِذَا صَلَّى بِغَيْرِهِ إمَامًا، فَهَذَا جَائِزٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْإِمَامُ هُوَ الْقَارِئُ، وَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ لِلْإِمَامَةِ دُونَهُمْ، فَفِعْلُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ حَسَنٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [إمَام مَسْجِدَيْنِ هَلْ يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ] 267 - 183 - سُئِلَ: عَنْ إمَامِ مَسْجِدَيْنِ. هَلْ يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ؟ أَمْ لَا؟ أَجَابَ: إذَا أَمْكَنَ أَنْ يُرَتَّبَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ إمَامٌ رَاتِبٌ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُرَتَّبَ إمَامٌ فِي مَسْجِدَيْنِ، فَإِذَا صَلَّى إمَامًا فِي مَوْضِعَيْنِ فَفِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ لِمَنْ يُؤَدِّي فَرِيضَتَهُ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَسْقُطُ عَنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الثَّانِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَنْ يُصَلِّي الْفَرْضَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي نَفْلًا] 268 - 184 - سُئِلَ: عَمَّنْ يُصَلِّي الْفَرْضَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي نَفْلًا؟ الْجَوَابُ: يَجُوزُ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. [مَا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ شَاكًّا فِي وُجُوبِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ] 269 - 185 - سُئِلَ عَمَّا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ شَاكًّا فِي وُجُوبِهِ، عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ. هَلْ يَأْتَمُّ بِهِ الْمُفْتَرِضُ؟ أَجَابَ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الشَّاكَّ يُؤَدِّيهَا بِنِيَّةِ الْوُجُوبِ إذًا، كَمَا قُلْنَا فِي نِيَّةِ الْإِغْمَاءِ، وَإِنْ لَمْ نَقُلْ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ. كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ شَكَّ فِي انْتِقَاضِ وُضُوئِهِ يَتَوَضَّأُ.

مسألة من وجد جماعة يصلون الظهر فأراد أن يقضي معهم الصبح

وَكَذَلِكَ صُوَرُ الشَّكِّ فِي وُجُوبِ طَهَارَةٍ أَوْ صِيَامٍ أَوْ زَكَاةٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ نُسُكٍ أَوْ كَفَّارَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ عَدَمُهُ، فَإِنَّ هَذِهِ خُرِّجَ فِيهَا خِلَافٌ؛ لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ نَفْلٌ لَكِنَّهَا فِي اعْتِقَادِهِ وَاجِبَةٌ، وَالْمَشْكُوكُ فِيهَا هِيَ فِي قَصْدِهِ وَاجِبَةٌ، وَالِاعْتِقَادُ مُتَرَدِّدٌ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ وَجَدَ جَمَاعَةً يُصَلُّونَ الظُّهْرَ فَأَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ مَعَهُمْ الصُّبْحَ] 270 - 186 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ وَجَدَ جَمَاعَةً يُصَلُّوا الظُّهْرَ. فَأَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ مَعَهُمْ الصُّبْحَ، فَلَمَّا قَامَ الْإِمَامُ لِلرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ فَارَقَهُ بِالسَّلَامِ، فَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ الصَّلَاةُ؟ وَعَلَى أَيِّ مَذْهَبٍ تَصِحُّ؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ الصَّلَاةُ لَا تَصِحُّ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَتَصِحُّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [نَوَى الِائْتِمَامَ وَظَنَّ أَنَّ إمَامَهُ زَيْدٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَمْرٌو] 271 - 187 - سُئِلَ: عَمَّنْ وَجَدَ الصَّلَاةَ قَائِمَةً فَنَوَى الِائْتِمَامَ، وَظَنَّ أَنَّ إمَامَهُ زَيْدٌ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَمْرٌو. هَلْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ ظَنَّ الْإِمَامُ فِي الْمَأْمُومِ مِثْلَ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ إمَامِ تِلْكَ الْجَمَاعَةِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَظَنَّ أَنَّهُ زَيْدٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَمْرٌو صَحَّتْ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَبْيَضُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَسْوَدُ، أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ عَلَيْهِ كِسَاءً فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَبَاءَةٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ خَطَأِ الظَّنِّ الَّذِي لَا يَقْدَحُ فِي الِائْتِمَامِ. وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ زَيْدٍ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ عَمْرٌو وَلَمْ يُصَلِّ خَلْفَهُ، وَكَانَ عَمْرٌو، فَهَذَا لَمْ يَأْتَمَّ بِهِ. وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. وَهَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ صَلَّى بِلَا ائْتِمَامٍ؟ أَوْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؟ فِيهِ نِزَاعٌ، كَمَا لَوْ كَانَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ بَاطِلَةً وَالْمَأْمُومُ لَا يَعْلَمُ. فَلَا يَضُرُّ الْمُؤْتَمَّ الْجَهْلُ بِعَيْنِ الْإِمَامِ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ الْإِمَامِ الَّذِي يُصَلِّي بِتِلْكَ الْجَمَاعَةِ، وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ لَمْ يَضُرَّهُ

مسألة من صلى خلف الصف منفردا

الْجَهْلُ بِعَيْنِ الْمَأْمُومِينَ بَلْ إذَا نَوَى الصَّلَاةَ بِمَنْ خَلْفَهُ جَازَ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ إذَا عَيَّنَ فَأَخْطَأَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ مُطْلَقًا. وَالصَّوَابُ: الْفَرْقُ بَيْنَ تَعْيِينِهِ بِالْقَصْدِ، بِحَيْثُ يَكُونُ قَصْدُهُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا خَلْفَهُ، وَبَيْنَ تَعْيِينِ الظَّنِّ بِحَيْثُ يَكُونُ قَصْدُهُ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْإِمَامِ مُطْلَقًا. لَكِنْ ظَنَّ أَنَّهُ زَيْدٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ مُنْفَرِدًا] 272 - 188 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ عَمَّنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ مُنْفَرِدًا. هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ أَمْ لَا؟ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ هَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ أَمْ لَا؟ وَالْأَئِمَّةُ الْقَائِلُونَ بِهَذَا مِنْ غَيْرِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ: كَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، قَدْ قَالَ عَنْهُمْ رَجُلٌ - أَعْنِي عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ - هَؤُلَاءِ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِمْ، فَصَاحِبُ هَذَا الْكَلَامِ مَا حُكْمُهُ؟ وَهَلْ يُسَوَّغُ تَقْلِيدُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ لِمَنْ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ؟ كَمَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؟ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «أَمَرَ الْمُصَلِّيَ خَلْفَ الصَّفِّ بِالْإِعَادَةِ» وَقَالَ: «لَا صَلَاةَ لِفَذٍّ خَلْفَ الصَّفِّ» وَقَدْ صَحَّحَ الْحَدِيثَيْنِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، وَأَسَانِيدُهُمَا مِمَّا تَقُومُ بِهِمَا الْحُجَّةُ؛ بَلْ الْمُخَالِفُونَ لَهُمَا يَعْتَمِدُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ عَلَى مَا هُوَ أَضْعَفُ إسْنَادًا مِنْهُمَا، وَلَيْسَ فِيهِمَا مَا يُخَالِفُ الْأُصُولَ، بَلْ مَا فِيهِمَا هُوَ مُقْتَضَى النُّصُوصِ الْمَشْهُورَةِ، وَالْأُصُولُ الْمُقَرَّرَةُ، فَإِنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ سُمِّيَتْ جَمَاعَةً لِاجْتِمَاعِ الْمُصَلِّينَ فِي الْفِعْلِ مَكَانًا وَزَمَانًا، فَإِذَا أَخَلُّوا بِالِاجْتِمَاعِ الْمَكَانِيِّ أَوْ الزَّمَانِيِّ مِثْلَ أَنْ يَتَقَدَّمُوا أَوْ بَعْضُهُمْ عَلَى الْإِمَامِ، أَوْ يَتَخَلَّفُوا عَنْهُ تَخَلُّفًا كَثِيرًا لِغَيْرِ عُذْرٍ، كَانَ ذَلِكَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ غَيْرَ مُنْتَظِمِينَ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا خَلْفَ هَذَا، وَهَذَا خَلْفَ هَذَا، كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ الْمُنْكَرَةِ، بَلْ قَدْ أُمِرُوا بِالِاصْطِفَافِ، بَلْ أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَقْوِيمِ الصُّفُوفِ وَتَعْدِيلِهَا، وَتَرَاصِّ الصُّفُوفِ، وَسَدِّ الْخَلَلِ؛ وَسَدِّ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، كُلُّ ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي تَحْقِيقِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ،

بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الِاصْطِفَافُ وَاجِبًا لَجَازَ أَنْ يَقِفَ وَاحِدٌ خَلْفَ وَاحِدٍ، وَهَلُمَّ جَرًّا. وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ عِلْمًا عَامًّا أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَجُوزُ لَفَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَوْ مَرَّةً؛ بَلْ وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلُوا الصَّفَّ غَيْرَ مُنْتَظِمٍ؛ مِثْلَ: أَنْ يَتَقَدَّمَ هَذَا عَلَى هَذَا، وَيَتَأَخَّرَ هَذَا عَنْ هَذَا، لَكَانَ ذَلِكَ شَيْئًا قَدْ عُلِمَ نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، بَلْ إذَا صَلَّوْا قُدَّامَ الْإِمَامِ كَانَ أَحْسَنَ مِنْ مِثْلِ هَذَا. فَإِذَا كَانَ الْجُمْهُورُ لَا يُصَحِّحُونَ الصَّلَاةَ قُدَّامَ الْإِمَامِ، إمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَكَيْفَ تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِ الِاصْطِفَافِ. فَقِيَاسُ الْأُصُولِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الِاصْطِفَافِ، وَإِنَّ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ لَا تَصِحُّ، كَمَا جَاءَ بِهِ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ، وَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُ هَذِهِ السُّنَّةُ مِنْ وَجْهِ مَنْ يَثِقُ بِهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ لَمْ يَسْمَعْهَا، وَقَدْ يَكُونُ ظَنَّ أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ. وَاَلَّذِينَ عَارَضُوهُ احْتَجُّوا بِصِحَّةِ صَلَاةِ الْمَرْأَةِ مُنْفَرِدَةً، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ أَنَسًا وَالْيَتِيمَ صَفَّا خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَفَّتْ الْعَجُوزُ خَلْفَهُمَا» . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّةِ وُقُوفِهَا مُنْفَرِدَةً إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْجَمَاعَةِ امْرَأَةٌ غَيْرَهَا، كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِوُقُوفِ الْإِمَامِ مُنْفَرِدًا. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ «أَبِي بَكْرَةَ لَمَّا رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ، ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّفِّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: زَادَك اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ» . وَهَذِهِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لَا تُقَاوِمُ حُجَّةَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ وُقُوفَ الْمَرْأَةِ خَلْفَ صَفِّ الرِّجَالِ سُنَّةٌ مَأْمُورٌ بِهَا، وَلَوْ وَقَفَتْ فِي صَفِّ الرِّجَالِ لَكَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا. وَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ يُحَاذِيهَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ. أَحَدُهُمَا: تَبْطُلُ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي حَفْصٍ. مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ. وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ. كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي، وَغَيْرِهِمَا، مَعَ تَنَازُعِهِمْ فِي الرَّجُلِ الْوَاقِفِ مَعَهَا: هَلْ يَكُونُ فَذًّا أَمْ لَا؟ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ بُطْلَانُ صَلَاةِ مَنْ يَلِيهَا فِي الْمَوْقِفِ.

وَأَمَّا وُقُوفُ الرَّجُلِ وَحْدَهُ خَلْفَ الصَّفِّ فَمَكْرُوهٌ، وَتَرْكٌ لِلسُّنَّةِ بِاتِّفَاقِهِمْ، فَكَيْفَ يُقَاسُ الْمَنْهِيُّ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَكَذَلِكَ وُقُوفُ الْإِمَامِ أَمَامَ الصَّفِّ هُوَ السُّنَّةُ، فَكَيْفَ يُقَاسُ الْمَأْمُورُ بِهِ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ إنَّمَا هُوَ قِيَاسُ الْمَسْكُوتِ عَلَى الْمَنْصُوصِ، أَمَّا قِيَاسُ الْمَنْصُوصِ عَلَى مَنْصُوصٍ يُخَالِفُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، كَقِيَاسِ الرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ وَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ وَقَفَتْ خَلْفَ الصَّفِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْ تُصَافُّهُ، وَلَمْ يُمْكِنْهَا مُصَافَّةُ الرِّجَالِ: وَلِهَذَا لَوْ كَانَ مَعَهَا فِي الصَّلَاةِ امْرَأَةٌ لَكَانَ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تَقُومَ مَعَهَا، وَكَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الرَّجُلِ الْمُنْفَرِدِ عَنْ صَفِّ الرِّجَالِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَجِدَ الرَّجُلُ مَوْقِفًا إلَّا خَلْفَ الصَّفِّ، فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْمُبْطِلِينَ لِصَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ، وَالْأَظْهَرُ صِحَّةُ صَلَاتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ جَمِيعَ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ. وَطَرَدَ هَذَا صِحَّةَ صَلَاةِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْإِمَامِ لِلْحَاجَةِ، كَقَوْلِ طَائِفَةٍ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَإِذَا كَانَ الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَإِتْمَامُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَسْقُطُ بِالْعَجْزِ. فَكَذَلِكَ الِاصْطِفَافُ وَتَرْكُ التَّقَدُّمِ. وَطَرَدَ هَذَا بَقِيَّةَ مَسَائِلِ الصُّفُوفِ، كَمَسْأَلَةِ مَنْ صَلَّى وَلَمْ يَرَ الْإِمَامَ، وَلَا مَنْ وَرَاءَهُ [مَعَ] سَمَاعِهِ لِلتَّكْبِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْإِمَامُ فَإِنَّمَا قُدِّمَ لِيَرَاهُ الْمَأْمُومُونَ فَيَأْتَمُّونَ بِهِ، وَهَذَا مُنْتَفٍ فِي الْمَأْمُومِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ صَلَّى مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَقَدْ أَدْرَكَ مِنْ الِاصْطِفَافِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقِفَ وَحْدَهُ ثُمَّ يَجِيءَ آخَرُ فَيُصَافُّهُ فِي الْقِيَامِ، فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ فِيهِ النَّهْيُ بِقَوْلِهِ: " وَلَا تَعُدْ " وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الرَّكْعَةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْفَذِّ، فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا مُبَيَّنٌ مُفَسَّرٌ، وَذَلِكَ مُجْمَلٌ حَتَّى لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ صَرَّحَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ بِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّفِّ بَعْدَ اعْتِدَالِ الْإِمَامِ - كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - لَكَانَ سَائِغًا فِي مِثْلِ هَذَا دُونَ مَا أُمِرَ فِيهِ بِالْإِعَادَةِ، فَهَذَا لَهُ وَجْهٌ، وَهَذَا لَهُ وَجْهٌ. وَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ، كَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ فَلَا يُسَوَّغُ، فَإِنَّ

الْمُصَلِّيَ الْمُنْفَرِدَ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالنَّهْيِ، وَقَدْ أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ كَمَا أَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ بِالْإِعَادَةِ. وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ الْمَذْكُورُونَ: فَمِنْ سَادَاتِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الثَّوْرِيَّ إمَامُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَهُوَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ أَجَلُّ مِنْ أَقْرَانِهِ: كَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حُيَيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِ، وَلَهُ مَذْهَبٌ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ بِأَرْضِ خُرَاسَانَ. وَالْأَوْزَاعِيِّ إمَامُ أَهْلِ الشَّامِ، وَمَازَالُوا عَلَى مَذْهَبِهِ إلَى الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ، بَلْ أَهْلُ الْمَغْرِبِ كَانُوا عَلَى مَذْهَبِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ إلَيْهِمْ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ: هُوَ شَيْخُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَعَ هَذَا فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَغَيْرِهِمَا، وَمَذْهَبُهُ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ، وَمَذْهَبُهُمْ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ، فَلَمْ يَجْمَعْ النَّاسَ الْيَوْمَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ، بَلْ الْقَائِلُونَ بِهِ كَثِيرٌ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَرْقٌ فِي الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ بَيْنَ شَخْصٍ وَشَخْصٍ، فَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، هَؤُلَاءِ أَئِمَّةٌ فِي زَمَانِهِمْ، وَتَقْلِيدُ كُلٍّ مِنْهُمْ كَتَقْلِيدِ الْآخَرِ، لَا يَقُولُ مُسْلِمٌ: إنَّهُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ هَذَا دُونَ هَذَا، وَلَكِنْ مَنْ مَنَعَ مِنْ تَقْلِيدِ أَحَدِ هَؤُلَاءِ فِي زَمَانِنَا فَإِنَّمَا مَنَعَهُ لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَنْ يَعْرِفُ مَذَاهِبَهُمْ، وَتَقْلِيدُ الْمَيِّتِ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ، فَمَنْ مَنَعَهُ قَالَ: هَؤُلَاءِ مَوْتَى، وَمَنْ سَوَّغَهُ قَالَ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَحْيَاءِ مِنْ يَعْرِفُ قَوْلَ الْمَيِّتِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ الْإِجْمَاعُ الْيَوْمَ قَدْ انْعَقَدَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ. وَيَنْبَنِي ذَلِكَ عَلَى مَسْأَلَةٍ مَعْرُوفَةٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهِيَ: أَنَّ الصَّحَابَةَ مَثَلًا أَوْ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ إذَا اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ، ثُمَّ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ أَوْ أَهْلُ الْعَصْرِ الثَّانِيَ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَهَلْ يَكُونُ هَذَا إجْمَاعًا يَرْفَعُ ذَلِكَ الْخِلَافَ؟ وَفِي الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ، فَمَنْ قَالَ: إنَّ مَعَ إجْمَاعِ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي لَا يُسَوَّغُ الْأَخْذُ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ؛ وَأَعْتَقِدَ أَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ يُرَكِّبُ مَعَ هَذَيْنِ الِاعْتِقَادَيْنِ الْمَنْعَ.

مسألة هل التبليغ وراء الإمام كان على عهد رسول الله

وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْخِلَافَ الْقَدِيمَ حُكْمُهُ بَاقٍ؛ لِأَنَّ الْأَقْوَالَ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ قَائِلِيهَا فَإِنَّهُ يُسَوِّغُ الذَّهَابَ إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ لِلْمُجْتَهِدِ الَّذِي وَافَقَ اجْتِهَادَهُ. وَأَمَّا التَّقْلِيدُ فَيَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ، وَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ أَيْضًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي يَقُولُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ أَوْ غَيْرُهُمْ قَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْبَاقِيَةُ مَذَاهِبُهُمْ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَهُ مُؤَيَّدٌ بِمُوَافَقَةِ هَؤُلَاءِ وَيَعْتَضِدُ بِهِ، وَيُقَابِلُ بِهَؤُلَاءِ مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ أَقْرَانِهِمْ. فَيُقَابِلُ بِالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا، إذْ الْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ دُونَ هَذَا إلَّا بِحُجَّةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ التَّبْلِيغُ وَرَاءَ الْإِمَامِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ] 273 - 189 - مَسْأَلَةٌ: هَلْ التَّبْلِيغُ وَرَاءَ الْإِمَامِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَمَعَ الْأَمْنِ مِنْ إخْلَالِ شَيْءٍ مِنْ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ وَالطُّمَأْنِينَةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَاتِّصَالِ الصُّفُوفِ، وَالِاسْتِمَاعِ لِلْإِمَامِ مِنْ وَرَائِهِ إنْ وَقَعَ خَلَلٌ مِمَّا ذُكِرَ، هَلْ يُطْلَقُ عَلَى فَاعِلِهِ الْبِدْعَةُ؟ وَهَلْ ذَهَبَ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ إلَى بُطْلَانِ صَلَاتِهِ بِذَلِكَ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ قُرْبَةً فَعَلَهُ أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ؟ الْجَوَابُ: لَمْ يَكُنْ التَّبْلِيغُ وَالتَّكْبِيرُ وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّحْمِيدِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَلَى عَهْدِ خُلَفَائِهِ، وَلَا بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ، إلَّا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً «صُرِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ فَرَسٍ رَكِبَهُ فَصَلَّى فِي بَيْتِهِ قَاعِدًا، فَبَلَّغَ أَبُو بَكْرٍ عَنْهُ التَّكْبِيرَ» . كَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَمَرَّةً أُخْرَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بَلَّغَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ، وَهَذَا مَشْهُورٌ. مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ مُؤْتَمًّا فِيهَا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ إمَامًا لِلنَّاسِ، فَيَكُونُ تَبْلِيغُ أَبِي بَكْرٍ إمَامًا لِلنَّاسِ، وَإِنْ كَانَ مُؤْتَمًّا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَكَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كَانَ النَّاسُ يَأْتَمُّونَ بِأَبِي بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ يَأْتَمُّ

مسألة الجهر بالتكبير خلف الإمام

بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ تَبْلِيغًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ: لِمَرَضِهِ. وَالْعُلَمَاءُ الْمُصَنِّفُونَ لَمَّا احْتَاجُوا أَنْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى جَوَازِ التَّبْلِيغِ لِحَاجَةٍ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا هَذَا، وَهَذَا يَعْلَمُهُ عِلْمًا يَقِينًا مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا التَّبْلِيغَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ، بَلْ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تَبْطُلُ صَلَاةُ فَاعِلِهِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا الْحَاجَةُ لِبُعْدِ الْمَأْمُومِ، أَوْ لِضَعْفِ الْإِمَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فِي هَذِهِ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِ أَحْمَدَ أَنَّهُ جَائِزٌ فِي هَذَا الْحَالِ، وَهُوَ أَصَحُّ قَوْلَيْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَبَلَغَنِي أَنَّ أَحْمَدَ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ، وَحَيْثُ جَازَ وَلَمْ يَبْطُلْ فَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُبَلِّغُ لَا يَطْمَئِنُّ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ، وَإِنْ كَانَ أَيْضًا يَسْبِقُ الْإِمَامَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَهُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ، وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ، وَإِنْ كَانَ يُخِلُّ بِالذِّكْرِ الْمَفْعُولِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتَّسْبِيحِ وَنَحْوِهِ فَفِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ خِلَافٌ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَبْطُلُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ التَّبْلِيغَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ بِدْعَةٌ، وَمَنْ اعْتَقَدَهُ قُرْبَةً مُطْلَقَةً فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إمَّا جَاهِلٌ، وَإِمَّا مُعَانِدٌ، وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الطَّوَائِفِ قَدْ ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ، حَتَّى فِي الْمُخْتَصَرَاتِ. قَالُوا: وَلَا يَجْهَرُ بِشَيْءٍ مِنْ التَّكْبِيرِ. إلَّا أَنْ يَكُونَ إمَامًا، وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى اعْتِقَادِ كَوْنِهِ قُرْبَةً فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ لِمُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ، هَذَا أَقَلُّ أَحْوَالِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ خَلْفَ الْإِمَامِ] 274 - 190 - مَسْأَلَةٌ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُكَبِّرَ خَلْفَ الْإِمَامِ؟ الْجَوَابُ: لَا يُشْرَعُ الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ خَلْفَ الْإِمَامِ الَّذِي هُوَ الْمُبَلِّغُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ: بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، فَإِنَّ بِلَالًا لَمْ يَكُنْ يُبَلِّغُ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، وَلَمْ يَكُنْ يُبَلِّغُ

مسألة التبليغ خلف الإمام

خَلْفَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، لَكِنْ لَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى بِالنَّاسِ مَرَّةً وَصَوْتُهُ ضَعِيفٌ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي إلَى جَنْبِهِ يُسْمِعُ النَّاسَ التَّكْبِيرَ» ، فَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ التَّكْبِيرُ عِنْدَ الْحَاجَةِ: مِثْلُ ضَعْفِ صَوْتِهِ، فَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ. وَتَنَازَعُوا فِي بُطْلَانِ صَلَاةِ مَنْ يَفْعَلُهُ. عَلَى قَوْلَيْنِ: وَالنِّزَاعُ فِي الصِّحَّةِ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمَا. غَيْرَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ التَّبْلِيغ خَلْفَ الْإِمَامِ] 275 - 191 - مَسْأَلَةٌ فِي التَّبْلِيغِ خَلْفَ الْإِمَامِ: هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ أَوْ بِدْعَةٌ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا التَّبْلِيغُ خَلْفَ الْإِمَامِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَهُوَ بِدْعَةٌ غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَإِنَّمَا يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ الْإِمَامُ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَاؤُهُ يَفْعَلُونَ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُبَلِّغُ خَلْفَ النَّبِيِّ، لَكِنْ «لَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَعُفَ صَوْتُهُ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُسْمِعُ بِالتَّكْبِيرِ» . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ تَبْطُلُ صَلَاةُ الْمُبَلِّغِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمَا. [مَسْأَلَةٌ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ قُدَّامَ الْإِمَامِ] 276 - 192 - مَسْأَلَةٌ: هَلْ تُجْزِئُ الصَّلَاةُ قُدَّامَ الْإِمَامِ أَوْ خَلْفَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَبَيْنَهُمَا حَائِلٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: أَمَّا صَلَاةُ الْمَأْمُومِ قُدَّامَ الْإِمَامِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهَا: إنَّهَا تَصِحُّ مُطْلَقًا، وَإِنْ قِيلَ: إنَّهَا تُكْرَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَصِحُّ مُطْلَقًا، كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِمَا.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تَصِحُّ مَعَ الْعُذْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِثْلَ مَا إذَا كَانَ زَحْمَةٌ فَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ أَوْ الْجِنَازَةَ إلَّا قُدَّامَ الْإِمَامِ، فَتَكُونُ صَلَاتُهُ قُدَّامَ الْإِمَامِ خَيْرًا لَهُ مِنْ تَرْكِهِ لِلصَّلَاةِ. وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ. وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَأَرْجَحُهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ تَرْكَ التَّقَدُّمِ عَلَى الْإِمَامِ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَالْوَاجِبَاتُ كُلُّهَا تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ. وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً فِي أَصْلِ الصَّلَاةِ، فَالْوَاجِبُ فِي الْجَمَاعَةِ أَوْلَى بِالسُّقُوطِ؛ وَلِهَذَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُصَلِّي مَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ الْقِيَامِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَاللِّبَاسِ، وَالطَّهَارَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَإِنَّهُ يَجْلِسُ فِي الْأَوْتَارِ لِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مُنْفَرِدًا عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ سَاجِدًا أَوْ قَاعِدًا كَبَّرَ وَسَجَدَ مَعَهُ، وَقَعَدَ مَعَهُ؛ لِأَجْلِ الْمُتَابَعَةِ. مَعَ أَنَّهُ لَا يَعْتَدُّ لَهُ بِذَلِكَ، وَيَسْجُدُ لِسَهْوِ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ لَمْ يَسْهُ. وَأَيْضًا فَفِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، وَيَعْمَلُ الْعُمْرَ الْكَثِيرَ وَيُفَارِقُ الْإِمَامَ قَبْلَ السَّلَامِ، وَيَقْضِي الرَّكْعَةَ الْأُولَى قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ لِأَجْلِ الْجَمَاعَةِ، وَلَوْ فَعَلَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَأَبْلَغُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ: أَنَّ الْإِمَامَ الرَّاتِبَ إذَا صَلَّى جَالِسًا صَلَّى الْمَأْمُومُونَ جُلُوسًا؛ لِأَجْلِ مُتَابَعَتِهِ، فَيَتْرُكُونَ الْقِيَامَ الْوَاجِبَ لِأَجْلِ الْمُتَابَعَةِ، كَمَا اسْتَفَاضَتْ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ» . وَالنَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: قِيلَ: لَا يَؤُمُّ الْقَاعِدُ الْقَائِمَ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَقِيلَ: بَلْ يَؤُمُّهُمْ، وَيَقُومُونَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ بِالْقُعُودِ مَنْسُوخٌ. كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: بَلْ ذَلِكَ مُحْكَمٌ، وَقَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فصل صلاة المأموم خلف الإمام

كَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَغَيْرِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَغَيْرِهِمَا. وَعَلَى هَذَا فَلَوْ صَلَّوْا قِيَامًا فَفِي صِحَّةِ صَلَاتِهِمْ قَوْلَانِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْجَمَاعَةَ تُفْعَلُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ لَا يُمْكِنُهُ الِائْتِمَامُ بِإِمَامِهِ إلَّا قُدَّامَهُ كَانَ غَايَةُ [مَا] فِي هَذَا أَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الْمَوْقِفَ لِأَجْلِ الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا أَخَفُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَمِثْلُ هَذَا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الصَّلَاةِ خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، فَلَوْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُصَافُّهُ وَلَمْ يَجْذِبْ أَحَدًا يُصَلِّي مَعَهُ صَلَّى وَحْدَهُ خَلْفَ الصَّفِّ، وَلَمْ يَدَعْ الْجَمَاعَةَ، كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا لَمْ تَجِدْ امْرَأَةً تُصَافُّهَا فَإِنَّهَا تَقِفُ وَحْدَهَا خَلْفَ الصَّفِّ، بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَهُوَ إنَّمَا أُمِرَ بِالْمُصَافَّةِ مَعَ الْإِمْكَانِ لَا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمُصَافَّةِ. [فَصْلٌ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ] فَصْلٌ وَأَمَّا صَلَاةُ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ: خَارِجَ الْمَسْجِدِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ وَبَيْنَهُمَا حَائِلٌ فَإِنْ كَانَتْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً جَازَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ، أَوْ نَهْرٌ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ، وَالِاسْتِطْرَاقَ، فَفِيهَا عِدَّةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. قِيلَ: يَجُوزُ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ فِي الْمَسْجِدِ دُونَ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ مَعَ الْحَاجَةِ، وَلَا يَجُوزُ بِدُونِ الْحَاجَةِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ مَعَ الْحَاجَةِ مُطْلَقًا: مِثْلَ أَنْ تَكُونَ أَبْوَابُ الْمَسْجِدِ مُغْلَقَةً، أَوْ تَكُونَ الْمَقْصُورَةُ الَّتِي فِيهَا الْإِمَامُ مُغْلَقَةً، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. فَهُنَا لَوْ كَانَتْ الرُّؤْيَةُ وَاجِبَةً لَسَقَطَتْ لِلْحَاجَةِ. كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ وَالْجَمَاعَةَ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاةِ الْإِنْسَانِ وَحْدَهُ بِكُلِّ حَالٍ.

من يصلي مع الإمام وبينه وبين الإمام حائل

[مَنْ يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ حَائِلٌ] سُئِلَ: عَمَّنْ يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ حَائِلٌ، بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ، وَلَا يَرَى مَنْ يَرَاهُ: هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ؟ أَمْ لَا؟ . أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَعَمْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ، عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْمِنْبَرَ لَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ وَالسُّنَّةُ فِي الصُّفُوفِ أَنْ يُتِمُّوا الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ. فَمَنْ صَلَّى فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ مَعَ خُلُوِّ مَا يَلِي الْإِمَامَ كَانَتْ صَلَاتُهُ مَكْرُوهَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [إمَام يُصَلِّي خَلْفَهُ جَمَاعَةٌ وَقُدَّامَهُ جَمَاعَةٌ] 278 - 194 - سُئِلَ: عَنْ إمَامٍ يُصَلِّي خَلْفَهُ جَمَاعَةٌ، وَقُدَّامَهُ جَمَاعَةٌ. فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاةُ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى الْإِمَامِ؟ أَمْ لَا؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا الَّذِينَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَصَلَاتُهُمْ صَحِيحَةٌ بِلَا رَيْبٍ. وَأَمَّا الَّذِينَ قُدَّامَهُ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. قِيلَ: تَصِحُّ. وَقِيلَ: لَا تَصِحُّ. وَقِيلَ: تَصِحُّ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ الصَّلَاةُ مَعَهُ إلَّا تَكَلُّفًا، وَهَذَا أَوْلَى الْأَقْوَالِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْحَوَانِيت الْمُجَاوِرَةِ لِلْجَامِعِ إذَا اتَّصَلَتْ بِهِمْ الصُّفُوفُ] 279 - 195 - مَسْأَلَةٌ: فِي الْحَوَانِيتِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْجَامِعِ مِنْ أَرْبَابِ الْأَسْوَاقِ. إذَا اتَّصَلَتْ بِهِمْ الصُّفُوفُ. فَهَلْ تَجُوزُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فِي حَوَانِيتِهِمْ؟ . الْجَوَابُ: أَمَّا صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا فَعَلَى النَّاسِ أَنْ يَسُدُّوا الْأَوَّلَ، فَالْأَوَّلَ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالُوا: وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: يَسُدُّونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» . فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسُدَّ الصُّفُوفَ الْمُؤَخَّرَةَ مَعَ خُلُوِّ الْمُقَدَّمَةِ، وَلَا يَصُفُّ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْحَوَانِيتِ مَعَ خُلُوِّ الْمَسْجِدِ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ التَّأْدِيبَ، وَلِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ تَخَطِّيهِ، وَيَدْخُلُ لِتَكْمِيلِ الصُّفُوفِ الْمُقَدَّمَةِ، فَإِنَّ هَذَا لَا حُرْمَةَ لَهُ. كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَدِّمَ مَا يُفْرَشُ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَتَأَخَّرَ هُوَ وَمَا فُرِشَ لَهُ لَمْ

مسألة صلاة الجمعة في الأسواق والدكاكين والطرقات اختيارا

يَكُنْ لَهُ حُرْمَةٌ، بَلْ يُزَالُ وَيُصَلِّي مَكَانَهُ عَلَى الصَّحِيحِ، بَلْ إذَا امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ بِالصُّفُوفِ صُفُّوا خَارِجَ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا اتَّصَلَتْ الصُّفُوفُ حِينَئِذٍ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْأَسْوَاقِ، صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ. وَأَمَّا إذَا صُفُّوا وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الصَّفِّ الْآخَرِ طَرِيقٌ يَمْشِي النَّاسُ فِيهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُمْ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الصُّفُوفِ حَائِطٌ بِحَيْثُ لَا يَرَوْنَ الصُّفُوفَ، وَلَكِنْ يَسْمَعُونَ التَّكْبِيرَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَإِنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُمْ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَكَذَلِكَ مَنْ صَلَّى فِي حَانُوتِهِ وَالطَّرِيقُ خَالٍ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْعُدَ فِي الْحَانُوتِ وَيَنْتَظِرَ اتِّصَالَ الصُّفُوفِ بِهِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ إلَى الْمَسْجِدِ فَيَسُدَّ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ صَلَاة الْجُمُعَةِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالدَّكَاكِينِ وَالطُّرُقَاتِ اخْتِيَارًا] 280 - 196 - مَسْأَلَةٌ: فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَفِي الدَّكَاكِينِ وَالطُّرُقَاتِ اخْتِيَارًا هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ؟ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إنْ اتَّصَلَتْ الصُّفُوفُ فَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ لِمَنْ تَأَخَّرَ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا ذَلِكَ. وَأَمَّا إذَا تَعَمَّدَ الرَّجُلُ أَنْ يَقْعُدَ هُنَاكَ وَيَتْرُكَ الدُّخُولَ إلَى الْمَسْجِدِ كَاَلَّذِينَ يَقْعُدُونَ فِي الْحَوَانِيتِ، فَهَؤُلَاءِ مُخْطِئُونَ مُخَالِفُونَ لِلسُّنَّةِ. فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالُوا: وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: يُكَلِّمُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» . وَقَالَ: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا» . وَأَمَّا إذَا لَمْ تَتَّصِلْ الصُّفُوفُ، بَلْ كَانَ بَيْنَ الصُّفُوفِ طَرِيقٌ، فَفِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ.

صلاة الجمعة في السوق

أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِي: تَصِحُّ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فِي السُّوقِ] 281 - 197 - سُئِلَ: عَنْ جَامِعٍ بِجَانِبِ السُّوقِ بِحَيْثُ يُسْمَعُ التَّكْبِيرُ مِنْهُ: هَلْ تَجُوزُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فِي السُّوقِ؟ أَوْ عَلَى سَطْحِ السُّوقِ؟ أَوْ فِي الدَّكَاكِينِ أَمْ لَا؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا امْتَلَأَ الْجَامِعُ جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الطُّرُقَاتِ فَإِذَا امْتَلَأَتْ صَلَّوْا فِيمَا بَيْنَهَا مِنْ الْحَوَانِيتِ، وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا إذَا لَمْ تَتَّصِلْ الصُّفُوفُ، فَلَا وَكَذَلِكَ فَوْقَ الْأَسْطِحَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [شَيْخ كَبِير قَدْ انْحَلَّتْ أَعْضَاؤُهُ كَيْفَ يُصَلِّي] 282 - 198 سُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ شَيْخٍ كَبِيرٍ وَقَدْ انْحَلَّتْ أَعْضَاؤُهُ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ، وَلَا يَتَحَرَّكَ، وَلَا يَسْتَنْجِيَ بِالْمَاءِ، وَإِذَا سَجَدَ مَا يَسْتَطِيعُ الرَّفْعَ، فَكَيْفَ يُصَلِّي؟ الْجَوَابُ: أَمَّا الصَّلَاةُ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَيُصَلِّي قَاعِدًا إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الْقِيَامَ، وَيُومِئُ بِرَأْسِهِ إيمَاءً بِحَسَبِ حَالِهِ، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى فَخِذِهِ جَازَ، وَيَمْسَحَ بِخِرْقَةٍ إذَا تَخَلَّى، وَيُوَضِّئُهُ غَيْرُهُ إذَا أَمْكَنَ، وَيَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَيُوَضِّئُهُ فِي آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ، فَيُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِلَا قَصْرٍ، ثُمَّ إذَا دَخَلَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَيُوَضِّئُهُ الْفَجْرَ. وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصَّلَاةَ قَاعِدًا صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ، وَوَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَنْ يُوَضِّئُهُ وَلَا يُيَمِّمُهُ صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى قَفَاهُ وَرِجْلَاهُ إلَى الْقِبْلَةِ، أَوْ عَلَى جَنْبِهِ وَوَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَنْ يُوَجِّهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ صَلَّى إلَى أَيِّ جِهَةٍ تَوَجَّهَ، شَرْقًا، أَوْ غَرْبًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [صَلَاةُ الْمَرْأَةِ قَاعِدَةً مَعَ قُدْرَتِهَا عَلَى الْقِيَامِ] 283 - 199 - سُئِلَ: هَلْ تَجُوزُ صَلَاةُ الْمَرْأَةِ قَاعِدَةً مَعَ قُدْرَتِهَا عَلَى الْقِيَامِ؟

القصر في السفر

أَجَابَ: وَأَمَّا صَلَاةُ الْفَرْضِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ فَلَا تَصِحُّ، لَا مِنْ رَجُلٍ وَلَا امْرَأَةٍ، بَلْ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِك» . وَلَكِنْ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ جَالِسًا، وَيَجُوزُ التَّطَوُّعُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ قِبَلَ أَيِّ جِهَةٍ تَوَجَّهَتْ بِصَاحِبِهَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ قِبَلَ أَيِّ جِهَةٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا» ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ. وَيَجُوزُ لِلْمَرِيضِ إذَا شَقَّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ رَجُلٌ لَا يُمْكِنُهُ النُّزُولُ إلَى الْأَرْضِ صَلَّى عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَالْخَائِفُ مِنْ عَدُوِّهِ إذَا نَزَلَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ] 284 - 200 - سُئِلَ: هَلْ الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ أَوْ عَزِيمَةٌ؟ وَعَنْ صِحَّةِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كُلُّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصَرَ الصَّلَاةَ وَأَتَمَّ» . أَجَابَ: أَمَّا الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ فَهُوَ سُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ قَطُّ إلَّا رَكْعَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنْ خِلَافَتِهِ، لَكِنَّهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَتَمَّهَا بِمِنًى لِأَعْذَارٍ مَذْكُورَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ خَطَأٌ عَلَى عَائِشَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ أَبِي يَحْيَى الْمَدَنِيُّ الْقَدَرِيُّ، وَهُوَ، وَطَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو الْمَكِّيُّ ضَعِيفَانِ، بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَا يُحْتَجُّ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا هُوَ دُونَ هَذَا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ ". وَقِيلَ لِعُرْوَةِ: فَلِمَ أَتَمَّتْ عَائِشَةُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: تَأَوَّلَتْ، كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ. فَهَذِهِ عَائِشَةُ تُخْبِرُ بِأَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، وَابْنُ أُخْتِهَا عُرْوَةُ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَا: يَذْكُرُ أَنَّهَا أَتَمَّتْ بِالتَّأْوِيلِ. لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا بِذَلِكَ سُنَّةٌ. وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْ

مسافة القصر

عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ، تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ» . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ نَقَلُوا بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ إلَّا رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا قَطُّ، وَلَكِنَّ الثَّابِتَ عَنْهُ أَنَّهُ صَامَ فِي السَّفَرِ وَأَفْطَرَ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ مِنْهُمْ الصَّائِمُ وَمِنْهُمْ الْمُفْطِرُ. وَأَمَّا الْقَصْرُ فَكُلُّ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَقْصُرُونَ، مِنْهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ، وَغَيْرُ أَهْلِ مَكَّةَ بِمِنًى وَعَرَفَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّرْبِيعِ: هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ؟ أَمْ مَكْرُوهٌ؟ أَوْ تَرْكٌ لِلْأَوْلَى؟ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ أَوْ هُمَا سَوَاءٌ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْإِتْمَامَ أَفْضَلُ. كَقَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا. كَبَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْقَصْرُ أَفْضَلُ: كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ الصَّحِيحِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَالرَّابِعُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْإِتْمَامُ مَكْرُوهٌ، كَقَوْلِ مَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. وَالْخَامِسُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقَصْرَ وَاجِبٌ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ سُنَّةٌ، وَإِنَّ الْإِتْمَامَ مَكْرُوهٌ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ نِيَّةُ الْقَصْرِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَنْهُ فِي مَذْهَبِهِ. [مَسَافَة الْقَصْرِ] 285 - 201 - سُئِلَ: هَلْ لِمَسَافَةِ الْقَصْرِ قَدْرٌ مَحْدُودٌ عَنْ الشَّارِعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ الْجَوَابُ: السُّنَّةُ أَنْ يَقْصُرَ الْمُسَافِرُ الصَّلَاةَ فَيُصَلِّي الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ، هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَمِيعِ أَسْفَارِهِ، هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَلَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا قَطُّ. وَمَا رُوِيَ عَنْهُ «أَنَّهُ صَلَّى فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا فِي حَيَاتِهِ» فَهُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُسَافِرِ إذَا صَلَّى أَرْبَعًا. فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَجُوزُ

أَنْ يُصَلِّيَ الْفَجْرَ وَالْجُمُعَةَ وَالْعِيدَ أَرْبَعًا، وَقِيلَ: يَجُوزُ، وَلَكِنَّ الْقَصْرَ أَفْضَلُ عِنْدَ عَامَّتِهِمْ - لَيْسَ فِيهِ إلَّا خِلَافٌ شَاذٌّ، وَلَا يَفْتَقِرُ الْقَصْرُ إلَى نِيَّةٍ؛ بَلْ لَوْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا - اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا حَجَّ بِالْمُسْلِمِينَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ يُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، إلَى أَنْ رَجَعَ، وَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، وَالْمُسْلِمُونَ خَلْفَهُ» ، وَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ جَمْعًا وَقَصْرًا، وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا أَنْ يَنْوِيَ لَا جَمْعًا وَلَا قَصْرًا. وَأَقَامَ بِمِنًى يَوْمَ الْعِيدِ، وَإِمَامُ مِنًى يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَالْمُسْلِمُونَ خَلْفَهُ يُصَلِّي بِصَلَاتِهِ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بَعْدَهُ وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا، لَا بِمِنًى وَلَا بِغَيْرِهَا، فَلِهَذَا كَانَ أَصَحَّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَجْمَعُونَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، وَيَقْصُرُونَ بِهَا وَبِمِنًى وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ، كَمَالِكٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَاخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، كَأَبِي الْخَطَّابِ فِي عِبَادَاتِهِ. وَقَدْ قِيلَ: يَجْمَعُونَ وَلَا يَقْصُرُونَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، وَقِيلَ: لَا يَقْصُرُونَ، وَلَا يَجْمَعُونَ. كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ. وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَقْصُرُونَ، وَيَجْمَعُونَ هُنَاكَ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ هُنَاكَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ هُنَاكَ أَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ، فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ؛ وَلَكِنْ نُقِلَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ دَاخِلَ مَكَّةَ، وَكَذَلِكَ كَانَ عُمَرُ يَأْمُرُ أَهْلَ مَكَّةَ بِالْإِتْمَامِ إذَا صَلَّى بِهِمْ فِي الْبَلَدِ، وَأَمَّا بِمِنًى فَلَمْ يَكُنْ يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَصْرِ أَهْلِ مَكَّةَ خَلْفَهُ فَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ النُّسُكِ، فَلَا يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ سَفَرًا قَصِيرًا هُنَاكَ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ السَّفَرِ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَصَرُوا لِأَجْلِ سَفَرِهِمْ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُونُوا يَقْصُرُونَ بِمَكَّةَ، وَكَانُوا مُحْرِمِينَ، وَالْقَصْرُ مُعَلَّقٌ بِالسَّفَرِ وُجُودًا وَعَدَمًا، فَلَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إلَّا مُسَافِرٌ، وَكُلُّ مُسَافِرٍ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ النَّحْرِ رَكْعَتَانِ،

الجمع والقصر في السفر القصير

وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ، تَمَامٌ غَيْرُ نَقْصٍ» : أَيْ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: " فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ، وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ ". وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يَخْتَصُّ بِسَفَرٍ دُونَ سَفَرٍ؟ أَمْ يَجُوزُ فِي كُلِّ سَفَرٍ؟ وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي كُلِّ سَفَرٍ قَصِيرًا كَانَ أَوْ طَوِيلًا، كَمَا قَصَرَ أَهْلُ مَكَّةَ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَةَ وَمِنًى، وَبَيْنَ مَكَّةَ وَعَرَفَةَ نَحْوَ بَرِيدِ أَرْبَعِ فَرَاسِخَ. وَأَيْضًا فَلَيْسَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَخُصَّانِ بِسَفَرٍ دُونَ سَفَرٍ، وَلَا تُقْصَرُ وَلَا يُفْطِرُ، وَلَا تَيَمُّمَ وَلَمْ يَحُدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَافَةَ الْقَصْرِ بِحَدٍّ، لَا زَمَانِيٍّ، وَلَا مَكَانِيٍّ، وَالْأَقْوَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي ذَلِكَ مُتَعَارِضَةٌ، لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةٌ، وَهِيَ مُتَنَاقِضَةٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَحُدَّ ذَلِكَ بِحَدٍّ صَحِيحٍ. فَإِنَّ الْأَرْضَ لَا تُذَرَّعُ بِذَرْعٍ مَضْبُوطٍ فِي عَامَّةِ الْأَسْفَارِ، وَحَرَكَةُ الْمُسَافِرِ تَخْتَلِفُ. وَالْوَاجِبُ أَنْ يُطْلَقَ مَا أَطْلَقَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيُقَيَّدَ مَا قَيَّدَهُ، فَيَقْصُرُ الْمُسَافِرُ الصَّلَاةَ فِي كُلِّ سَفَرٍ وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسَّفَرِ مِنْ الْقَصْرِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَمَنْ قَسَّمَ الْأَسْفَارَ إلَى قَصِيرٍ وَطَوِيلٍ، وَخَصَّ بَعْضُ الْأَحْكَامِ بِهَذَا وَبَعْضُهَا بِهَذَا، وَجَعَلَهَا مُتَعَلِّقَةً بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ، فَلَيْسَ مَعَهُ حُجَّةٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [الْجَمْعُ وَالْقَصْرُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ] 286 - 202 - سُئِلَ: إذَا سَافَرَ إنْسَانٌ سَفَرًا مِقْدَارَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ، هَلْ يُبَاحُ لَهُ الْجَمْعُ وَالْقَصْرُ أَمْ لَا؟ . أَجَابَ: وَأَمَّا الْجَمْعُ وَالْقَصْرُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ؛ بَلْ أَرْبَعَةٌ؛ بَلْ خَمْسَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ.

أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَا الْجَمْعُ، وَلَا الْقَصْرُ. وَالثَّانِي: يُبَاحُ الْجَمْعُ دُونَ الْقَصْرِ. وَالثَّالِثُ: يُبَاحُ الْجَمْعُ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ خَاصَّةً لِلْمَكِّيِّ، وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ قَصِيرًا. وَالرَّابِعُ: يُبَاحُ الْجَمْعُ وَالْقَصْرُ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ. وَالْخَامِسُ: يُبَاحُ ذَلِكَ مُطْلَقًا. وَاَلَّذِي يَجْمَعُ لِلسَّفَرِ هَلْ يُبَاحُ لَهُ الْجَمْعُ مُطْلَقًا، أَوْ لَا يُبَاحُ لَهُ إلَّا إذَا كَانَ مُسَافِرًا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا، وَلِهَذَا نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ يَجْمَعُ إذَا كَانَ لَهُ شُغْلٌ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى كُلُّ عُذْرٍ يُبِيحُ تَرْكَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ يُبِيحُ الْجَمْعَ، وَلِهَذَا يَجْمَعُ لِلْمَطَرِ، وَالْوَحْلِ، وَلِلرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ؛ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَيَجْمَعُ الْمَرِيضُ وَالْمُسْتَحَاضَةُ وَالْمُرْضِعُ، فَإِذَا جَدَّ السَّيْرُ بِالْمُسَافِرِ، جَمَعَ سَوَاءٌ كَانَ سَفَرُهُ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا، كَمَا مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. يَجْمَعُ النَّاسَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، الْمَكِّيَّ وَغَيْرَ الْمَكِّيِّ، مَعَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَفَرُهُمْ قَصِيرٌ. وَكَذَلِكَ جَمَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمَتَى قَصَرُوا يَقْصُرُ خَلْفَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُ أَهْلِ مَكَّةَ، وَعَرَفَةُ مِنْ مَكَّةَ بَرِيدٌ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ كَأَبِي الْخَطَّابِ فِي الْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ: إنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَقْصُرُونَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ بِخِلَافِهِ: أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ إنَّهُ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُوَقِّتْ لِلْقَصْرِ مَسَافَةً، وَلَا وَقْتًا، وَقَدْ قَصَرَ خَلْفَهُ أَهْلُ مَكَّةَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي الدَّلِيلِ. وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ سَفَرًا، مِثْلَ أَنْ يَتَزَوَّدَ لَهُ، وَيَبْرُزَ لِلصَّحْرَاءِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي مِثْلِ دِمَشْقَ، وَهُوَ يَنْتَقِلُ مِنْ قُرَاهَا الشَّجَرِيَّةِ مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ كَمَا يَنْتَقِلُ مِنْ الصَّالِحِيَّةِ إلَى دِمَشْقَ، فَهَذَا لَيْسَ بِمُسَافِرٍ، كَمَا أَنَّ مَدِينَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْقُرَى الْمُتَقَارِبَةِ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ نَخِيلُهُمْ وَمَقَابِرُهُمْ وَمَسَاجِدُهُمْ، قُبَاءَ وَغَيْرُ قُبَاءَ وَلَمْ يَكُنْ خُرُوجُ الْخَارِجِ إلَى قُبَاءَ سَفَرًا، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ يَقْصُرُونَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} [التوبة: 101]

سفر يوم من رمضان هل يجوز أن يقصر فيه ويفطر

فَجَمِيعُ الْأَبْنِيَةِ تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْمَدِينَةِ، وَمَا خَرَجَ عَنْ أَهْلِهَا فَهُوَ مِنْ الْأَعْرَابِ أَهْلِ الْعَمُودِ. وَالْمُنْتَقِلُ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ نَاحِيَةٍ إلَى نَاحِيَةٍ لَيْسَ بِمُسَافِرٍ، وَلَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ مَسَائِلُ اجْتِهَادٍ، فَمَنْ فَعَلَ مِنْهَا بِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُهْجَرْ. وَهَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ هَلْ يُشْتَرَطُ لَهُ نِيَّةٌ؟ فَالْجُمْهُورُ لَا يَشْتَرِطُونَ النِّيَّةَ، كَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَهُوَ مُقْتَضَى نُصُوصِهِ. وَالثَّانِي: تُشْتَرَطُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ كَالْخِرَقِيِّ وَغَيْرِهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَمَنْ عَمِلَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ. [سَفَر يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقْصُرَ فِيهِ وَيُفْطِرَ] 287 - 203 - سُئِلَ: عَنْ سَفَرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقْصُرَ فِيهِ وَيُفْطِرَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، كَمَا قَصَرَ أَهْلُ مَكَّةَ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَةَ، وَمُزْدَلِفَةَ، وَعَرَفَةَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَسِيرَةُ بَرِيدٍ؛ وَلِأَنَّ السَّفَرَ الْمُطْلَقَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. [مَسْأَلَةٌ مُسَافِر مَقْصُودُهُ أَنَّ يُقِيم شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ فَهَلْ يُتِمُّ الصَّلَاةَ] 288 - 204 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مُسَافِرٍ إلَى بَلَدٍ، وَمَقْصُودُهُ أَنَّهُ يُقِيمُ مُدَّةَ شَهْرٍ أَوْ أَكْثَرَ فَهَلْ يُتِمُّ الصَّلَاةَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إذَا نَوَى أَنْ يُقِيمَ بِالْبَلَدِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا قَصَرَ الصَّلَاةَ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ. فَإِنَّهُ أَقَامَ بِهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ،. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَفِيهِ نِزَاعٌ. وَالْأَحْوَطُ أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ. وَأَمَّا إنْ قَالَ غَدًا أُسَافِرُ، أَوْ بَعْدَ غَدٍ أُسَافِرُ، وَلَمْ يَنْوِ الْمُقَامَ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ أَبَدًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَقَامَ بِمَكَّةَ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَأَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصَّلَاةَ» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فيمن كان عنده شك في جواز القصر فأراد الاحتياط

[فِيمَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَكٌّ فِي جَوَازِ الْقَصْرِ فَأَرَادَ الِاحْتِيَاطَ] سُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ جُرِّدَ إلَى الْخَرِبَةِ لِأَجْلِ الْحُمَّى وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقِيمُ مُدَّةَ شَهْرَيْنِ. فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ؟ وَإِذَا جَازَ لَهُ الْقَصْرُ. فَالْإِتْمَامُ أَفْضَلُ أَمْ الْقَصْرُ؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ الْإِتْمَامَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ الْقَصْرَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ كِلَاهُمَا سَائِغٌ فَمَنْ قَصَرَ لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَتَمَّ لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي الْأَفْضَلِ: فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَكٌّ فِي جَوَازِ الْقَصْرِ فَأَرَادَ الِاحْتِيَاطَ، فَالْإِتْمَامُ أَفْضَلُ، وَأَمَّا مَنْ تَبَيَّنَتْ لَهُ السُّنَّةُ، وَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَشْرَعْ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَّا رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يَحُدَّ السَّفَرَ بِزَمَانٍ أَوْ بِمَكَانٍ، وَلَا حَدَّ الْإِقَامَةَ أَيْضًا بِزَمَنٍ مَحْدُودٍ، لَا ثَلَاثَةٌ، وَلَا أَرْبَعَةٌ، وَلَا اثْنَا عَشَرَ، وَلَا خَمْسَةَ عَشَرَ، فَإِنْ يَقْصُرْ. كَمَا كَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ يَفْعَلُ، حَتَّى كَانَ مَسْرُوقٌ قَدْ، وَلَّوْهُ وِلَايَةً لَمْ يَكُنْ يَخْتَارُهَا فَأَقَامَ سِنِينَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ. وَقَدْ أَقَامَ الْمُسْلِمُونَ بِنَهَاوَنْدَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ، وَكَانُوا يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ حَاجَتَهُمْ لَا تَنْقَضِي فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَلَا أَكْثَرَ. كَمَا أَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ، وَأَقَامُوا بِمَكَّةَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ يُفْطِرُونَ فِي رَمَضَانَ. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَتْحَ مَكَّةَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يُقِيمَ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. وَإِذَا كَانَ التَّحْدِيدُ لَا أَصْلَ لَهُ، فَمَا دَامَ الْمُسَافِرُ مُسَافِرًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَلَوْ أَقَامَ فِي مَكَان شُهُورًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، كَتَبَهُ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ. [مَسْأَلَةٌ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ أَمْ الْقَصْرُ] 290 - 206 - مَسْأَلَةٌ: هَلْ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ أَمْ الْقَصْرُ؟ وَمَا أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ؟ وَمَا حُجَّةُ كُلٍّ مِنْهُمْ؟ وَمَا الرَّاجِحُ مِنْ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. بَلْ فِعْلُ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا أَفْضَلُ، إذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَى الْجَمْعِ، فَإِنَّ غَالِبَ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي كَانَ يُصَلِّيهَا فِي السَّفَرِ إنَّمَا يُصَلِّيهَا فِي أَوْقَاتِهَا. وَإِنَّمَا كَانَ الْجَمْعُ مِنْهُ مَرَّاتٍ قَلِيلَةً.

وَفَرَّقَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ، وَظَنُّهُمْ أَنَّ هَذَا يُشْرَعُ سَنَةً ثَابِتَةً، وَالْجَمْعُ رُخْصَةٌ عَارِضَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَمِيعِ أَسْفَارِهِ كَانَ يُصَلِّي الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ صَلَّى فِي سَفَرِهِ الرُّبَاعِيَّةَ أَرْبَعًا؛ بَلْ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مَعَهُ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّهَا أَتَمَّتْ مَعَهُ وَأَفْطَرَتْ» حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ: " أَنَّ الصَّلَاةَ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ كَانَتْ رَكْعَتَيْنِ، رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ، وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ ". وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ، تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] . فَإِنَّ نَفْيَ الْجُنَاحِ لِبَيَانِ الْحُكْمِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ، لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْرُ هُوَ السُّنَّةُ. كَمَا قَالَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] نَفْيُ الْجُنَاحِ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ الَّتِي عَرَضَتْ لَهُمْ مِنْ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَجْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ كَرَاهَةِ بَعْضِهِمْ لِلطَّوَافِ بَيْنَهُمَا، وَالطَّوَافُ بَيْنَهُمَا مَأْمُورٌ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ إمَّا رُكْنٌ، وَإِمَّا وَاجِبٌ، وَإِمَّا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الْخَوْفَ وَالسَّفَرَ، لِأَنَّ الْقَصْرَ يَتَنَاوَلُ قَصْرَ الْعَدَدِ وَقَصْرَ الْأَرْكَانَ، فَالْخَوْفُ يُبِيحُ قَصْرَ الْأَرْكَانِ، وَالسَّفَرُ يُبِيحُ قَصْرَ الْعَدَدِ فَإِذَا اجْتَمَعَا أُبِيحَ الْقَصْرُ بِالْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ انْفَرَدَ السَّفَرُ أُبِيحَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْقَصْرِ، وَالْعُلَمَاءُ مُتَنَازِعُونَ فِي الْمُسَافِرِ: هَلْ فَرْضُهُ الرَّكْعَتَانِ؟ وَلَا يَحْتَاجُ قَصْرُهُ إلَى نِيَّةٍ؟ أَمْ لَا يَقْصُرُ إلَّا بِنِيَّةٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَالْأَوَّلُ: قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ، كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ.

وَالثَّانِي: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ اخْتَارَهُ الْخِرَقِيِّ وَغَيْرُهُ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ سُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ يَقْصُرُ بِأَصْحَابِهِ، وَلَا يُعْلِمُهُمْ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَقْصُرُ، وَلَا يَأْمُرُهُمْ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ. وَلِهَذَا لَمَّا سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ نَاسِيًا قَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: «أَقَصَرْت الصَّلَاةَ أَمْ نَسِيت؟ فَقَالَ: لَمْ أَنْسَ، وَلَمْ تَقْصُرْ، قَالَ: بَلَى؟ قَدْ نَسِيت» وَفِي رِوَايَةٍ: «لَوْ كَانَ شَيْءٌ لَأَخْبَرْتُكُمْ بِهِ» وَلَمْ يَقُلْ: لَوْ قَصُرَتْ لَأَمَرْتُكُمْ أَنْ تَنْوُوا الْقَصْرَ، وَكَذَلِكَ لَمَّا جَمَعَ بِهِمْ لَمْ يُعْلِمْهُمْ أَنَّهُ جَمَعَ قَبْلَ الدُّخُولِ، بَلْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَجْمَعُ حَتَّى يَقْضِيَ الصَّلَاةَ الْأُولَى، فَعَلِمَ أَيْضًا أَنَّ الْجَمْعَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى أَنْ يَنْوِيَ حِينَ الشُّرُوعِ فِي الْأُولَى، كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ يُوَافِقُ ذَلِكَ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّرْبِيعِ فِي السَّفَرِ: هَلْ هُوَ حَرَامٌ؟ أَوْ مَكْرُوهٌ؟ أَوْ تَرَكَ الْأَوْلَى؟ أَوْ هُوَ الرَّاجِحُ؟ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّ الْقَصْرَ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَأَحْمَدَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، بَلْ أَنَصُّهُمَا أَنَّ الْإِتْمَامَ مَكْرُوهٌ. وَمَذْهَبُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ: أَنَّ الْقَصْرَ هُوَ الْأَفْضَلُ، وَالتَّرْبِيعُ تَرْكُ الْأَوْلَى. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ أَنَّ التَّرْبِيعَ أَفْضَلُ، وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْخَوَارِجِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ إلَّا مَعَ الْخَوْفِ، وَيَذْكُرُ هَذَا قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ، وَمَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ آمَنَ مَا كَانَ النَّاسُ» . وَكَذَلِكَ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَكَذَلِكَ بَعْدَهُ عُمَرُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُسَوِّي بَيْنَ الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ؟ ، وَفِعْلُ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا أَفْضَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ كُلِّهِمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبَيْهِمَا، بَلْ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الْجَمْعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ الْمُسَافِرُ إذَا كَانَ نَازِلًا، وَإِنَّمَا يَجْمَعُ إذَا كَانَ سَائِرًا، بَلْ

عِنْدَ مَالِكٍ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ يَجْمَعُ الْمُسَافِرُ، وَإِنْ كَانَ نَازِلًا. وَسَبَبُ هَذَا النِّزَاعِ مَا بَلَغَهُمْ مِنْ أَحَادِيثِ الْجَمْعِ، فَإِنَّ أَحَادِيثَ الْجَمْعِ قَلِيلَةٌ، فَالْجَمْعُ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ بِالتَّوَاتُرِ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِيهِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَقُلْ بِغَيْرِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ وَقْتِهَا إلَّا صَلَاةَ الْفَجْرِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَصَلَاةَ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ جَمْعٍ» . وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: " فِي الْفَجْر لِغَيْرِ وَقْتِهَا " الَّتِي كَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِيهِ فَإِنَّهُ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ: «أَنَّهُ صَلَّى الْفَجْرَ بِمُزْدَلِفَةَ بَعْدَ أَنْ بَرِقَ الْفَجْرُ» وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْفَجْرَ لَا يُصَلَّى حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، لَا بِمُزْدَلِفَةَ وَلَا غَيْرِهَا، لَكِنْ بِمُزْدَلِفَةَ غَلَّسَ بِهَا تَغْلِيسًا شَدِيدًا. وَأَمَّا أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ فَبَلَغَتْهُمْ أَحَادِيثُ فِي الْجَمْعِ صَحِيحَةٌ، كَحَدِيثِ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَمُعَاذٍ وَكُلُّهَا مِنْ الصَّحِيحِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّاهُمَا جَمِيعًا، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ثُمَّ رَكِبَ» وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَهُمَا» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا عَجَّلَ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ» وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بَعْدَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ. وَيَقُولُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي سَفْرَةٍ سَافَرَهَا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ» . وَكَذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: «جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي

غَزْوَةِ تَبُوكَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. قَالَ: فَقُلْت: مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ» بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ جَمَعَ فِي الْمَدِينَةِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمْعًا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ. وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا، جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ» قَالَ أَيُّوبُ لَعَلَّهُ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ، وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَجْمَعُونَ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَيَجْمَعُ مَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهَذَا الْعَمَلُ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَقَوْلُهُمْ: " أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ " يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْجَمْعِ تَأْخِيرَ الْأُولَى إلَى آخِرِ وَقْتِهَا، وَتَقْدِيمَ الثَّانِيَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، فَإِنَّ مُرَاعَاةَ مِثْلِ هَذَا فِيهِ حَرَجٌ عَظِيمٌ. ثُمَّ إنَّ هَذَا جَائِزٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَرَفْعُ الْحَرَجِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَخَّصَ لِأَهْلِ الْأَعْذَارِ فِيمَا يَرْفَعُ بِهِ عَنْهُمْ الْحَرَجَ، دُونَ غَيْرِ أَرْبَابِ الْأَعْذَارِ. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ: أَنَّ الْمَوَاقِيتَ لِأَهْلِ الْأَعْذَارِ ثَلَاثَةٌ، وَلِغَيْرِهِمْ خَمْسَةٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] فَذَكَرَ ثَلَاثَةَ مَوَاقِيتَ وَالطَّرَفُ الثَّانِي يَتَنَاوَلُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ. وَالزُّلَفُ يَتَنَاوَلُ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ. وَكَذَلِكَ قَالَ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] وَالدُّلُوكُ هُوَ الزَّوَالُ، فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ. يُقَالُ: دَلَكَتْ الشَّمْسُ، وَزَالَتْ، وَزَاغَتْ، وَمَالَتْ. فَذَكَرَ الدُّلُوكَ وَالْغَسَقَ وَبَعْدَ الدُّلُوكِ يُصَلَّى الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَفِي الْغَسَقِ تُصَلَّى الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، ذَكَرَ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَهُوَ الدُّلُوكُ، وَآخِرَ الْوَقْتِ وَهُوَ الْغَسَقُ، وَالْغَسَقُ اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ. وَلِهَذَا قَالَ الصَّحَابَةُ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَغَيْرِهِ: إنَّ الْمَرْأَةَ الْحَائِضَ إذَا طَهُرَتْ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ صَلَّتْ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ. وَإِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ

الجمع وما كان النبي يفعله في الصلاة

صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ. وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَأَيْضًا فَجَمْعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بِغَيْرِهِمَا لِلْعُذْرِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَيُؤَخِّرَ الْعَصْرَ إلَى دُخُولِ وَقْتِهَا، وَلَكِنْ لِأَجْلِ النُّسُكِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْوُقُوفِ قَدَّمَ الْعَصْرَ. وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ الْمَرْضِيُّ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَجْمَعُ بِمُزْدَلِفَةَ وَعَرَفَةَ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صَلَّى مَعَهُ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ، وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِتَأْخِيرِ الْعَصْرِ، وَلَا بِتَقْدِيمِ الْمَغْرِبِ، فَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: إنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا يَجْمَعُونَ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ. مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْبَيِّنَةِ الْوَاضِحَةِ الَّتِي لَا رَيْبَ فِيهَا؛ وَعُذْرُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا أَنَّ سَبَبَ الْجَمْعِ هُوَ السَّفَرُ الطَّوِيلُ؛ وَالصَّوَابُ أَنَّ الْجَمْعَ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ، بَلْ يَجْمَعُ لِلْمَطَرِ، وَيَجْمَعُ لِلْمَرَضِ، كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ فِي جَمْعِ الْمُسْتَحَاضَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهَا بِالْجَمْعِ فِي حَدِيثَيْنِ. وَأَيْضًا فَكَوْنُ الْجَمْعِ يَخْتَصُّ بِالطَّوِيلِ، فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَهُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَحَدُهُمَا: يَجْمَعُ فِي الْقَصِيرِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِمَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْجَمْع وَمَا كَانَ النَّبِيُّ يَفْعَلُهُ فِي الصَّلَاةِ] 291 - 207 - سُئِلَ: عَنْ الْجَمْعِ، وَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ؟ أَجَابَ: وَأَمَّا الْجَمْعُ فَإِنَّمَا كَانَ يَجْمَعُ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ، وَكَانَ لَهُ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ كَمَا جَمَعَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، وَكَانَ يَجْمَعُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَحْيَانًا، كَانَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى الْعَصْرِ ثُمَّ صَلَّاهُمَا جَمِيعًا، وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ. وَأَمَّا إذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِعَرَفَةَ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي السُّنَنِ، وَهَذَا إذَا كَانَ لَا يَنْزِلُ إلَى وَقْتِ

صلاة الجمع في المطر بين العشاءين

الْمَغْرِبِ، كَمَا كَانَ بِعَرَفَةَ لَا يَفِيضُ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَأَمَّا إذَا كَانَ يَنْزِلُ وَقْتَ الْعَصْرِ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، فَلَيْسَ الْقَصْرُ كَالْجَمْعِ، بَلْ الْقَصْرُ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ، وَأَمَّا الْجَمْعُ فَإِنَّهُ رُخْصَةٌ عَارِضَةٌ، وَمَنْ سَوَّى مِنْ الْعَامَّةِ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ فَهُوَ جَاهِلٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِأَقْوَالِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا، وَالْعُلَمَاءُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا سُنَّةٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ، وَتَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الْآخَرِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ ، وَأَوْسَعُ الْمَذَاهِبِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْحَرَجِ، وَالشُّغْلِ، بِحَدِيثٍ رُوِيَ فِي ذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: يَعْنِي إذَا كَانَ هُنَاكَ شُغْلٌ يُبِيحُ لَهُ تَرْكَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ جَازَ لَهُ الْجَمْعُ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْجَمْعُ لِلْمَرَضِ، وَيَجُوزُ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ الْجَمْعُ لِلْمَطَرِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَفِي صَلَاتَيْ النَّهَارِ نِزَاعٌ بَيْنَهُمْ وَيَجُوزُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَمَالِكٍ الْجَمْعُ لِلْوَحْلِ، وَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ لِلْمُرْضِعِ أَنْ تَجْمَعَ إذَا كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهَا غَسْلُ الثَّوْبِ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ: هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ؟ فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ نُصُوصُهُ وَأُصُولُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: إنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَدْ بَسَطْت هَذَا الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [صَلَاة الْجَمْعِ فِي الْمَطَرِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ] 292 - 208 - سُئِلَ: عَنْ صَلَاةِ الْجَمْعِ فِي الْمَطَرِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ. هَلْ يَجُوزُ مِنْ الْبَرْدِ الشَّدِيدِ؟ أَوْ الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ؟ أَمْ لَا يَجُوزُ إلَّا مِنْ الْمَطَرِ خَاصَّةً؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ لِلْمَطَرِ، وَالرِّيحِ

مسألة يؤم قوما وقد وقع المطر فقالوا اجمع فقال لا أفعل

الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ، وَالْوَحْلِ الشَّدِيدِ. وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ يَؤُمُّ قَوْمًا وَقَدْ وَقَعَ الْمَطَرُ فَقَالُوا اجْمَعْ فَقَالَ لَا أَفْعَلُ] 293 - 209 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ يَؤُمُّ قَوْمًا. وَقَدْ وَقَعَ الْمَطَرُ وَالثَّلْجُ فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ الْمَغْرِبَ، فَقَالُوا لَهُ: يَجْمَعُ، فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ، فَهَلْ لِلْمَأْمُومِينَ أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. نَعَمْ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْوَحْلِ الشَّدِيدِ، وَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَطَرُ نَازِلًا فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ، بَلْ تَرْكُ الْجَمْعِ مَعَ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ بِدْعَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ، إذْ السُّنَّةُ أَنْ تُصَلَّى الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي الْمَسَاجِدِ جَمَاعَةً، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَالصَّلَاةُ جَمْعًا فِي الْمَسَاجِدِ أَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ مُفَرَّقَةً بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ الْجَمْعَ: كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [الْعَدَد الَّذِي تَنْعَقِد الْجُمُعَةَ] 294 - 210 - سُئِلَ: عَنْ قَوْمٍ مُقِيمِينَ بِقَرْيَةٍ، وَهُمْ دُونَ أَرْبَعِينَ، مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ؛ أَجُمُعَةٌ؟ أَمْ ظُهْرٌ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا إذَا كَانَ فِي الْقَرْيَةِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا، فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ ظُهْرًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ، لَكِنْ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: إذَا كَانُوا أَرْبَعِينَ صَلَّوْا جُمُعَةً.

مسألة الصلاة بعد الأذان الأول يوم الجمعة

[مَسْأَلَةٌ الصَّلَاة بَعْدَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ] مَسْأَلَةٌ: فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ هَلْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أَوْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ؟ أَمْ لَا؟ وَهَلْ هُوَ مَنْصُوصٌ فِي مَذْهَبٍ مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمْ؟ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ» هَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ أَمْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ؟ الْجَوَابُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْأَذَانِ شَيْئًا، وَلَا نَقَلَ هَذَا عَنْهُ أَحَدٌ، فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يُؤَذَّنُ عَلَى عَهْدِهِ إلَّا إذَا قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَيُؤَذِّنُ بِلَالٌ، ثُمَّ يَخْطُبُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُطْبَتَيْنِ، ثُمَّ يُقِيمُ بِلَالٌ فَيُصَلِّي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّاسِ» فَمَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الْأَذَانِ، لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا نُقِلَ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ صَلَّى فِي بَيْتِهِ قَبْلَ الْخُرُوجِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَا وَقَّتَ بِقَوْلِهِ: صَلَاةٌ مُقَدَّرَةٌ قَبْلَ الْجُمُعَةِ، بَلْ أَلْفَاظُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا التَّرْغِيبُ فِي الصَّلَاةِ إذَا قَدِمَ الرَّجُلُ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ. كَقَوْلِهِ: «مَنْ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَصَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ» . وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ، كَانُوا إذَا أَتَوْا الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُصَلُّونَ مِنْ حِينِ يَدْخُلُونَ مَا تَيَسَّرَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي عَشْرَ رَكَعَاتٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. وَلِهَذَا كَانَ جَمَاهِيرُ الْأَئِمَّةِ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ مُؤَقَّتَةٌ بِوَقْتٍ، مُقَدَّرَةٌ بِعَدَدٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ فِعْلِهِ. وَهُوَ لَمْ يَسُنَّ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، لَا بِقَوْلِهِ وَلَا فِعْلِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ قَبْلَهَا سُنَّةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا رَكْعَتَيْنِ، كَمَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا أَرْبَعًا، كَمَا نُقِلَ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ.

وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَحْتَجُّ بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هِيَ ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ، وَتَكُونُ سُنَّةُ الظُّهْرِ سُنَّتَهَا، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجُمُعَةَ مَخْصُوصَةٌ بِأَحْكَامٍ تُفَارِقُ بِهَا ظُهْرَ كُلِّ يَوْمٍ، بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ سُمِّيَتْ ظُهْرًا مَقْصُورَةً، فَإِنَّ الْجُمُعَةَ يُشْتَرَطُ لَهَا الْوَقْتُ، فَلَا تُقْضَى، وَالظُّهْرُ تُقْضَى، وَالْجُمُعَةُ يُشْتَرَطُ لَهَا الْعَدَدُ وَالِاسْتِيطَانُ، وَإِذْنُ الْإِمَامِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَالظُّهْرُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُتَلَقَّى أَحْكَامُ الْجُمُعَةِ مِنْ أَحْكَامِ الظُّهْرِ مَعَ اخْتِصَاصِ الْجُمُعَةِ بِأَحْكَامٍ تُفَارِقُ بِهَا الظُّهْرَ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ تُشَارِكُ الظُّهْرَ فِي حُكْمٍ، وَتُفَارِقُهَا فِي حُكْمٍ، لَمْ يُمْكِنْ إلْحَاقُ مَوْرِدِ النِّزَاعِ بِأَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلٍ، فَلَيْسَ جَعْلُ السُّنَّةِ مِنْ مَوَارِدِ الِاشْتِرَاكِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِهَا مِنْ مَوَارِدِ الِافْتِرَاقِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّهَا ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ، فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي فِي سَفَرِهِ سُنَّةَ الظُّهْرِ مَقْصُورَةً، لَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، وَإِنَّمَا كَانَ يُصَلِّيهَا إذَا أَتَمَّ الظُّهْرَ فَصَلَّى أَرْبَعًا، فَإِذَا كَانَتْ سُنَّتُهُ الَّتِي فَعَلَهَا فِي الظُّهْرِ مَقْصُورَةً خِلَافَ التَّامَّةِ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، وَكَانَ السَّبَبُ الْمُقْتَضِي لِحَذْفِ بَعْضِ الْفَرِيضَةِ أَوْلَى بِحَذْفِ السُّنَّةِ الرَّاتِبَةِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: لَوْ كُنْت مُتَطَوِّعًا لَأَتْمَمْت الْفَرِيضَةَ. فَإِنَّهُ لَوْ اُسْتُحِبَّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا لَكَانَتْ صَلَاتُهُ لِلظُّهْرِ أَرْبَعًا أَوْلَى مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَرْضًا، وَرَكْعَتَيْنِ سُنَّةً. وَهَذَا لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَوَاتِرَةِ أَنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي فِي السَّفَرِ إلَّا رَكْعَتَيْنِ: الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ، وَالْعِشَاءَ. وَكَذَلِكَ لَمَّا حَجَّ بِالنَّاسِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَمْ يُصَلِّ بِهِمْ بِمِنًى وَغَيْرِهَا إلَّا رَكْعَتَيْنِ. وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ لَمْ يُصَلِّ إلَّا رَكْعَتَيْنِ. وَكَذَلِكَ عُمَرُ بَعْدَهُ لَمْ يُصَلِّ إلَّا رَكْعَتَيْنِ. وَمَنْ نَقَلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «صَلَّى الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ أَوْ الْعِشَاءَ فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا» فَقَدْ أَخْطَأَ. وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ هُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ فِي الْأَصْلِ، مَعَ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ التَّحْرِيفِ. فَإِنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ: أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفَطَرْت وَصُمْت؟ وَقَصَرْت وَأَتْمَمْت؟ فَقَالَ: أَصَبْت يَا عَائِشَةُ» فَهَذَا مَعَ ضَعْفِهِ وَقِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ

بَاطِلٌ، رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُفْطِرُ وَيَصُومُ، وَيَقْصُرُ وَيُتِمُّ» . فَظَنَّ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْحَدِيثَ فِيهِ أَنَّهَا رَوَتْ الْأَمْرَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ السُّنَّةَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ، إلَّا قَوْلًا مَرْجُوحًا لِلشَّافِعِيِّ. وَأَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ يَكْرَهُونَ التَّرْبِيعَ لِلْمُسَافِرِ. كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي أَنَصِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ التَّرْبِيعُ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ. فَيُقَالُ: لَوْ كَانَ اللَّهُ يُحِبُّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، لَكَانَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ أَرْبَعًا، فَإِنَّ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ بِبَعْضِ الظُّهْرِ أَفْضَلُ مِنْ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِالتَّطَوُّعِ مَعَ الظُّهْرِ. وَلِهَذَا أَوْجَبَ عَلَى الْمُقِيمِ أَرْبَعًا، فَلَوْ أَرَادَ الْمُقِيمُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَرْضًا، وَرَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ وَيَنْهَاهُ عَنْ شَيْءٍ إلَّا وَاَلَّذِي أَمَرَهُ بِهِ خَيْرٌ مِنْ الَّذِي نَهَاهُ عَنْهُ، فَعُلِمَ أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُصَلِّيَهَا رَكْعَتَيْنِ مَعَ رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا. فَلَمَّا كَانَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَسْتَحِبَّ لِلْمُسَافِرِ التَّرْبِيعَ بِخَيْرِ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُ، فَلَأَنْ لَا يَسْتَحِبَّ التَّرْبِيعَ بِالْأَمْرِ الْمَرْجُوحِ عِنْدَهُ أَوْلَى. فَثَبَتَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ الصَّحِيحِ أَنَّ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أَكْمَلُ الْأُمُورِ، وَأَنَّ هَدْيَهُ خَيْرُ الْهَدْيِ، وَأَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا اقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَرْضِ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ مِنْ أَنْ يَقْرُنَ بِهِمَا رَكْعَتِي السُّنَّةِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْجُمُعَةَ إذَا كَانَتْ ظُهْرًا مَقْصُورَةً لَمْ يَكُنْ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَقْرُنَ بِهَا سُنَّةَ ظُهْرِ الْمُقِيمِ، بَلْ تُجْعَلُ كَظُهْرِ الْمُسَافِرِ الْمَقْصُورَةِ. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُصَلِّي فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ، وَيُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا» ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ. وَهَذَا لِأَنَّ الْفَجْرَ لَمْ تُقْصَرْ فِي السَّفَرِ، فَبَقِيَتْ سُنَّتُهَا عَلَى حَالِهَا، بِخِلَافِ الْمَقْصُورَاتِ فِي السَّفَرِ، وَالْوِتْرُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ كَسَائِرِ قِيَامِ اللَّيْلِ وَهُوَ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ، وَسُنَّةُ الْفَجْرِ تَدْخُلُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّيهِ فِي السَّفَرِ، لِاسْتِقْلَالِهِ وَقِيَامِ الْمُقْتَضِي لَهُ. وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَلَوْ كَانَ الْأَذَانَانِ عَلَى عَهْدِهِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ

صَلَاةٌ، بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ. ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ» كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً. فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَشْرُوعَةٌ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَقَبْلَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَقَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسُنَّةٍ رَاتِبَةٍ. وَكَذَلِكَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ بَيْنَ أَذَانَيْ الْمَغْرِبِ، وَهُوَ يَرَاهُمْ فَلَا يَنْهَاهُمْ، وَلَا يَأْمُرُهُمْ، وَلَا يَفْعَلُ هُوَ ذَلِكَ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِعْلٌ جَائِزٌ. وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى الصَّلَاةِ قَبْلَ الْجُمُعَةِ بِقَوْلِهِ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ» . وَعَارَضَهُ غَيْرُهُ فَقَالَ: الْأَذَانُ الَّذِي عَلَى الْمَنَائِرِ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ عُثْمَانُ أَمَرَ بِهِ لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَبْلُغُهُمْ الْأَذَانُ حِينَ خُرُوجِهِ وَقُعُودِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ. وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ هَذَا الْأَذَانُ لَمَّا سَنَّهُ عُثْمَانُ، وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، صَارَ آذَانًا شَرْعِيًّا، وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ الصَّلَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَذَانِ الثَّانِي جَائِزَةً حَسَنَةً، وَلَيْسَتْ سُنَّةً رَاتِبَةً، كَالصَّلَاةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ. وَحِينَئِذٍ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ. وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ، وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَحِينَئِذٍ فَقَدْ يَكُونُ تَرْكُهَا أَفْضَلَ إذَا كَانَ الْجُهَّالُ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ، أَوْ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، فَتُتْرَكُ حَتَّى يَعْرِفَ النَّاسُ أَنَّهَا لَيْسَتْ سُنَّةً رَاتِبَةً. وَلَا وَاجِبَةً. لَا سِيَّمَا إذَا دَاوَمَ النَّاسُ عَلَيْهَا فَيَنْبَغِي تَرْكُهَا أَحْيَانًا حَتَّى لَا تُشْبِهَ الْفَرْضَ، كَمَا اسْتَحَبَّ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنْ لَا يُدَاوَمَ عَلَى قِرَاءَةِ السَّجْدَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهَا، فَإِذَا كَانَ يُكْرَهُ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى ذَلِكَ فَتَرْكُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى مَا لَمْ يَسُنَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى. وَإِنْ صَلَّاهَا الرَّجُلُ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ أَحْيَانًا؛ لِأَنَّهَا تَطَوُّعٌ مُطْلَقٌ، أَوْ صَلَاةٌ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ، كَمَا يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ، لَا لِأَنَّهَا سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ فَهَذَا جَائِزٌ. وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مَعَ قَوْمٍ يُصَلُّونَهَا، فَإِنْ كَانَ مُطَاعًا إذَا تَرَكَهَا - وَبَيَّنَ لَهُمْ السُّنَّةَ - لَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ، بَلْ عَرَفُوا السُّنَّةَ فَتَرْكُهَا حَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطَاعًا وَرَأَى أَنَّ فِي صَلَاتِهَا تَأْلِيفًا لِقُلُوبِهِمْ إلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ، أَوْ دَفْعًا لِلْخِصَامِ وَالشَّرِّ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ بَيَانِ الْحَقِّ لَهُمْ، وَقَبُولِهِمْ لَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا أَيْضًا حَسَنٌ.

فَالْعَمَلُ الْوَاحِدُ يَكُونُ فِعْلُهُ مُسْتَحَبًّا تَارَةً، وَتَرْكُهُ تَارَةً، بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَجَّحُ مِنْ مَصْلَحَةِ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، بِحَسَبِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَالْمُسْلِمُ قَدْ يَتْرُكُ الْمُسْتَحَبَّ إذَا كَانَ فِي فِعْلِهِ فَسَادٌ رَاجِحٌ عَلَى مَصْلَحَتِهِ، كَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَاءَ الْبَيْتِ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ، وَقَالَ لِعَائِشَةَ: «لَوْلَا أَنَّ قَوْمَك حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ لَنَقَضْت الْكَعْبَةَ، وَلَأَلْصَقْتهَا بِالْأَرْضِ وَلَجَعَلْت لَهَا بَابَيْنِ، بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ، وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ» وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَتَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ لِلْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ، وَهُوَ حَدَثَانُ عَهْدِ قُرَيْشٍ بِالْإِسْلَامِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّنْفِيرِ لَهُمْ، فَكَانَتْ الْمَفْسَدَةُ رَاجِحَةً عَلَى الْمَصْلَحَةِ. وَلِذَلِكَ اسْتَحَبَّ الْأَئِمَّةُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ أَنْ يَدَعَ الْإِمَامُ مَا هُوَ عِنْدَهُ أَفْضَلُ، إذَا كَانَ فِيهِ تَأْلِيفُ الْمَأْمُومِينَ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ فَصْلُ الْوِتْرِ أَفْضَلَ، بِأَنْ يُسَلِّمَ فِي الشَّفْعِ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةَ الْوِتْرِ، وَهُوَ يَؤُمُّ قَوْمًا لَا يَرَوْنَ إلَّا وَصْلَ الْوِتْرِ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى الْأَفْضَلِ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ الْحَاصِلَةُ بِمُوَافَقَتِهِ لَهُمْ بِوَصْلِ الْوِتْرِ أَرْجَحَ مِنْ مَصْلَحَةِ فَصْلِهِ مَعَ كَرَاهَتِهِمْ لِلصَّلَاةِ خَلْفَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مِمَّنْ يَرَى الْمُخَافَتَةَ بِالْبَسْمَلَةِ أَفْضَلُ، أَوْ الْجَهْرُ بِهَا، وَكَانَ الْمَأْمُومُونَ عَلَى خِلَافِ رَأْيِهِ، فَفِعْلُ الْمَفْضُولِ عِنْدَهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُوَافَقَةِ وَالتَّأْلِيفِ الَّتِي هِيَ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ كَانَ جَائِزًا حَسَنًا. وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ خِلَافَ الْأَفْضَلِ لِأَجْلِ بَيَانِ السُّنَّةِ وَتَعْلِيمِهَا لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْهَا كَانَ حَسَنًا، مِثْلَ أَنْ يَجْهَرَ بِالِاسْتِفْتَاحِ أَوْ التَّعَوُّذِ أَوْ الْبَسْمَلَةِ لِيَعْرِفَ النَّاسُ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَهَرَ بِالِاسْتِفْتَاحِ، فَكَانَ يُكَبِّرُ وَيَقُولُ: " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، وَتَبَارَكَ اسْمُك، وَتَعَالَى جَدُّك، وَلَا إلَهَ غَيْرُك ". قَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ: صَلَّيْت خَلْفَ عُمَرَ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً، فَكَانَ يُكَبِّرُ؛ ثُمَّ يَقُولُ ذَلِكَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَلِهَذَا شَاعَ هَذَا الِاسْتِفْتَاحُ حَتَّى عَمِلَ بِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ. وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَجْهَرَانِ بِالِاسْتِعَاذَةِ، وَكَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ يَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ. وَهَذَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ الْجَهْرَ بِهَا سُنَّةً رَاتِبَةً كَانَ يُعَلِّمُ النَّاسَ أَنَّ قِرَاءَتَهَا فِي الصَّلَاةِ سُنَّةٌ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَقَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ جَهْرًا، وَذَكَرَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ أَنَّهَا سُنَّةٌ. وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

مِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى فِيهَا قِرَاءَةً بِحَالٍ، كَمَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْقِرَاءَةَ فِيهَا سُنَّةً، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا وَغَيْرِهِ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: الْقِرَاءَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ كَالصَّلَاةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هِيَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، لَيْسَتْ وَاجِبَةً. وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ؛ فَإِنَّ السَّلَفَ فَعَلُوا هَذَا وَهَذَا، وَكَانَ كِلَا الْفِعْلَيْنِ مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ، كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِقِرَاءَةٍ وَغَيْرِ قِرَاءَةٍ، كَمَا كَانُوا يُصَلُّونَ تَارَةً بِالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَتَارَةً بِغَيْرِ جَهْرٍ بِهَا، وَتَارَةً بِاسْتِفْتَاحٍ وَتَارَةً بِغَيْرِ اسْتِفْتَاحٍ، وَتَارَةً بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ، وَتَارَةً بِغَيْرِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ، وَتَارَةً يُسَلِّمُونَ تَسْلِيمَتَيْنِ، وَتَارَةً تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً، وَتَارَةً يَقْرَءُونَ خَلْفَ الْإِمَامِ بِالسِّرِّ، وَتَارَةً لَا يَقْرَءُونَ، وَتَارَةً يُكَبِّرُونَ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعًا، وَتَارَةً خَمْسًا، وَتَارَةً سَبْعًا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا، وَفِيهِمْ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا. كُلُّ هَذَا ثَابِتٌ عَنْ الصَّحَابَةِ. كَمَا ثَبَتَ عَنْهُمْ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُرَجِّعُ فِي الْأَذَانِ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُرَجِّعْ فِيهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُوتِرُ الْإِقَامَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَشْفَعُهَا، وَكِلَاهُمَا ثَابِتٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَهَذِهِ الْأُمُورُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهَا أَرْجَحَ مِنْ الْآخَرِ، فَمَنْ فَعَلَ الْمَرْجُوحَ فَقَدْ فَعَلَ جَائِزًا. وَقَدْ يَكُونُ فِعْلُ الْمَرْجُوحِ أَرْجَحَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، كَمَا يَكُونُ تَرْكُ الرَّاجِحِ أَرْجَحَ أَحْيَانًا لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ. وَهَذَا وَاقِعٌ فِي عَامَّةِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ الْعَمَلَ الَّذِي هُوَ فِي جِنْسِهِ أَفْضَلُ، قَدْ يَكُونُ فِي مَوَاطِنَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ، كَمَا أَنَّ جِنْسَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْقِرَاءَةِ، وَجِنْسُ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الذِّكْرِ، وَجِنْسُ الذِّكْرِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ. ثُمَّ الصَّلَاةُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَالْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ وَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَالذِّكْرُ هُنَاكَ أَفْضَلُ مِنْهَا، وَالدُّعَاءُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ، وَقَدْ يَكُونُ الْعَمَلُ الْمَفْضُولُ أَفْضَلَ بِحَسَبِ حَالِ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ؛ لِكَوْنِهِ عَاجِزًا عَنْ الْأَفْضَلِ، أَوْ لِكَوْنِ

فصل السنة بعد الجمعة

مَحَبَّتِهِ وَرَغْبَتِهِ وَاهْتِمَامِهِ وَانْتِفَاعِهِ بِالْمَفْضُولِ أَكْثَرَ، فَيَكُونُ أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ لِمَا يُقْتَرَنُ بِهِ مِنْ مَزِيدِ عَمَلِهِ وَحُبِّهِ وَإِرَادَتِهِ وَانْتِفَاعِهِ كَمَا أَنَّ الْمَرِيضَ يَنْتَفِعُ بِالدَّوَاءِ الَّذِي يَشْتَهِيهِ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِمَا لَا يَشْتَهِيهِ، وَإِنْ كَانَ جِنْسُ ذَلِكَ أَفْضَلَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ صَارَ الذِّكْرُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ خَيْرًا مِنْ الْقِرَاءَةِ، وَالْقِرَاءَةُ لِبَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ خَيْرًا مِنْ الصَّلَاةِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، لِكَمَالِ انْتِفَاعِهِ بِهِ، لَا لِأَنَّهُ فِي جِنْسِهِ أَفْضَلُ. وَهَذَا الْبَابُ بَابُ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ عَلَى بَعْضٍ إنْ لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ التَّفْضِيلُ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْأَحْوَالِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَعْمَالِ وَإِلَّا وَقَعَ فِيهَا اضْطِرَابٌ كَثِيرٌ. فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ إذَا اعْتَقَدَ اسْتِحْبَابَ فِعْلٍ وَرُجْحَانَهُ يُحَافِظُ عَلَيْهِ مَا لَا يُحَافِظُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ، حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى الْهَوَى وَالتَّعَصُّبِ وَالْحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا تَجِدُهُ فِيمَنْ يَخْتَارُ بَعْضَ هَذِهِ الْأُمُورِ فَيَرَاهَا شِعَارًا لِمَذْهَبِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ إذَا رَأَى تَرْكَ ذَلِكَ هُوَ الْأَفْضَلُ، يُحَافِظُ أَيْضًا عَلَى هَذَا التَّرْكِ أَعْظَمَ مِنْ مُحَافَظَتِهِ عَلَى تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا تَجِدُهُ فِيمَنْ يَرَى التَّرْكَ شِعَارًا لِمَذْهَبِهِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ. وَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَيُوَسِّعَ مَا وَسَّعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُؤَلِّفَ مَا أَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَرَسُولُهُ، وَيُرَاعِي فِي ذَلِكَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْمَصَالِحِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، بَعَثَهُ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فِي كُلِّ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِنْسَانِ مِنْ التَّفْصِيلِ مَا يَحْفَظُ بِهِ هَذَا الْإِجْمَالَ، وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَعْتَقِدُ هَذَا مُجْمَلًا، وَيَدَعُهُ عِنْدَ التَّفْصِيلِ: إمَّا جَهْلًا، وَإِمَّا ظُلْمًا، وَإِمَّا اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. [فَصْلٌ السُّنَّةُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ] فَصْلٌ وَأَمَّا السُّنَّةُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ» . كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْفَجْرِ

رَكْعَتَيْنِ: وَبَعْدَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ» . وَأَمَّا الظُّهْرُ فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَهَا رَكْعَتَيْنِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا» . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» . وَجَاءَ مُفَسَّرًا فِي السُّنَنِ: «أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ» . فَهَذِهِ هِيَ السُّنَنُ الرَّاتِبَةُ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ. مَدَارُهَا عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ: حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَأُمِّ حَبِيبَةَ. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُومُ بِاللَّيْلِ: إمَّا إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَإِمَّا ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَكَانَ مَجْمُوعُ صَلَاتِهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَرْضُهُ وَنَفْلُهُ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ رَكْعَةً. وَالنَّاسُ فِي هَذِهِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يُوَقِّتُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا. كَقَوْلِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ لَا يَرَى سُنَّةً إلَّا الْوِتْرَ، وَرَكْعَتِي الْفَجْرِ. وَكَانَ يَقُولُ إنَّمَا يُوَقِّتُ أَهْلُ الْعِرَاقِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّرُ فِي ذَلِكَ أَشْيَاءَ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ، بَلْ بَاطِلَةٍ، كَمَا يُوجَدُ فِي مَذَاهِبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَبَعْضِ مَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُوجَدُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْمُقَدَّرَةِ وَالْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ مَا يَعْلَمُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالسُّنَّةِ أَنَّهُ مَكْذُوبٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَنْ رَوَى عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا» أَوْ أَنَّهُ قَضَى سُنَّةَ الْعَصْرِ " أَوْ " أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ سِتًّا " أَوْ " بَعْدَهَا أَرْبَعًا " أَوْ " أَنَّهُ كَانَ يُحَافِظُ عَلَى الضُّحَى ". وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ فِي الرَّقَائِقِ وَالْفَضَائِلِ " فِي الصَّلَوَاتِ الْأُسْبُوعِيَّةِ، وَالْحَوْلِيَّةِ: كَصَلَاةِ يَوْمِ الْأَحَدِ، وَالِاثْنَيْنِ، وَالثُّلَاثَاءِ، وَالْأَرْبِعَاءِ، وَالْخَمِيسِ، وَالْجُمُعَةِ، وَالسَّبْتِ، الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبِي حَامِدٍ، وَعَبْدِ الْقَادِرِ،

وَغَيْرِهِمْ. وَكَصَلَاةِ " الْأَلْفِيَّةِ " الَّتِي فِي أَوَّلِ رَجَبٍ، وَنِصْفِ شَعْبَانَ، وَالصَّلَاةِ " الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ " الَّتِي فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَالصَّلَاةِ الَّتِي فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَصَلَوَاتٍ أُخَرَ تُذْكَرُ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ، وَصَلَاةِ لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ وَصَلَاةِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِحَدِيثِهِ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ بَلَغَ ذَلِكَ أَقْوَامًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، فَظَنُّوهُ صَحِيحًا، فَعَمِلُوا بِهِ، وَهُمْ مَأْجُورُونَ عَلَى حُسْنِ قَصْدِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ، لَا عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ. وَأَمَّا مَنْ تَبَيَّنَتْ لَهُ السُّنَّةُ فَظَنَّ أَنَّ غَيْرَهَا خَيْرٌ مِنْهَا فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ. بَلْ كَافِرٌ. وَالْقَوْلُ الْوَسَطُ الْعَدْلُ هُوَ مَا وَافَقَ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ الثَّابِتَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعًا» . وَقَدْ رَوَى السَّبْتُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ جَمْعًا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا. وَالسُّنَّةُ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ فِي الْجُمُعَةِ، وَغَيْرِهَا. كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ تُوصَلَ صَلَاةٌ بِصَلَاةٍ، حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَهُمَا بِقِيَامٍ أَوْ كَلَامٍ» فَلَا يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ. يَصِلُ السَّلَامَ بِرَكْعَتِي السُّنَّةِ، فَإِنَّ هَذَا رُكُوبٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي هَذَا مِنْ الْحِكْمَةِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَغَيْرِ الْفَرْضِ، كَمَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَغَيْرِ الْعِبَادَةِ. وَلِهَذَا اُسْتُحِبَّ تَعْجِيلُ الْفُطُورِ، وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ، وَالْأَكْلُ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَنُهِيَ عَنْ اسْتِقْبَالِ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، فَهَذَا كُلُّهُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الصِّيَامِ، وَغَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا. وَهَكَذَا تَتَمَيَّزُ الْجُمُعَةُ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ مِنْ غَيْرِهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ كَالرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ لَا يَنْوُونَ الْجُمُعَةَ بَلْ يَنْوُونَ الظُّهْرَ، وَيُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ سَلَّمُوا، وَمَا سَلَّمُوا، فَيُصَلُّونَ ظُهْرًا وَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ السُّنَّةَ، فَإِذَا حَصَلَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ كَانَ فِي هَذَا مَنْعٌ لِهَذِهِ الْبِدْعَةِ، وَهَذَا لَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

مسألة خرج إلى صلاة الجمعة بعد الإقامة فهل يجري

[مَسْأَلَةٌ خَرَجَ إلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بَعْد الْإِقَامَة فَهَلْ يَجْرِي] 296 - 212 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ خَرَجَ إلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ: فَهَلْ يَجْرِي إلَى أَنْ يَأْتِيَ الصَّلَاةَ، أَوْ يَأْتِيَ هَوْنًا وَلَوْ فَاتَتْهُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا خَشِيَ فَوْتَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ يُسْرِعُ حَتَّى يُدْرِكَ مِنْهَا رَكْعَةً فَأَكْثَرَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ يُدْرِكُهَا مَعَ الْمَشْيِ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ فَهَذَا أَفْضَلُ، بَلْ هُوَ السُّنَّةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الصَّلَاة يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالسَّجْدَةِ] 297 - 213 - مَسْأَلَةٌ: فِي الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالسَّجْدَةِ: هَلْ تَجِبُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَيْسَتْ قِرَاءَةُ {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] الَّتِي فِيهَا السَّجْدَةُ وَلَا غَيْرُهَا مِنْ ذَوَاتِ السُّجُودِ وَاجِبَةً فِي فَجْرِ الْجُمُعَةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ وَاجِبًا أَوْ ذَمَّ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَالٌّ مُخْطِئٌ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ مِنْ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ وَكَرَاهِيَتِهِ. فَعِنْدَ مَالِكٍ يُكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ بِالسَّجْدَةِ فِي الْجَهْرِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «سَجَدَ فِي الْعِشَاءِ بِ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] » وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] وَ {هَلْ أَتَى} [الإنسان: 1] » . وَعِنْدَ مَالِكٍ يُكْرَهُ أَنْ يَقْصِدَ سُورَةً بِعَيْنِهَا. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فَيَسْتَحِبُّونَ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، مِثْلَ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ، فِي الْجُمُعَةِ. وَالذَّارِيَاتِ وَاقْتَرَبَتْ فِي الْعِيدِ، والم تَنْزِيلُ وَهَلْ أَتَى فِي فَجْرِ الْجُمُعَةِ. لَكِنْ هُنَا مَسْأَلَتَانِ نَافِعَتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ بِسُورَةٍ فِيهَا سَجْدَةٌ أُخْرَى بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، فَلَيْسَ الِاسْتِحْبَابُ لِأَجْلِ السَّجْدَةِ، بَلْ لِلسُّورَتَيْنِ، وَالسَّجْدَةُ جَاءَتْ اتِّفَاقًا، فَإِنَّ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِيهِمَا ذِكْرُ مَا يَكُونُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ الْخَلْقِ وَالْبَعْثِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا، بِحَيْثُ يَتَوَهَّمُ الْجُهَّالُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَأَنَّ

مسألة أدرك ركعة من صلاة الجمعة ثم قام ليقضي ما عليه

تَارِكَهَا مُسِيءٌ، بَلْ يَنْبَغِي تَرْكُهَا أَحْيَانًا لِعَدَمِ وُجُوبِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 298 - 214 - سُئِلَ: عَمَّنْ قَرَأَ " سُورَةَ السَّجْدَةِ " يَوْمَ الْجُمُعَةِ: هَلْ الْمَطْلُوبُ السَّجْدَةُ فَيُجْزِئُ بَعْضُ السُّورَةِ، وَالسَّجْدَةُ فِي غَيْرِهَا؟ أَمْ الْمَطْلُوبُ السُّورَةُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. بَلْ الْمَقْصُودُ قِرَاءَةُ السُّورَتَيْنِ: {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] وَ: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] لِمَا فِيهِمَا مِنْ ذِكْرِ خَلْقِ آدَمَ، وَقِيَامِ السَّاعَةِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ السَّجْدَةَ، فَلَوْ قَصَدَ الرَّجُلُ قِرَاءَةَ سُورَةِ سَجْدَةٍ أُخْرَى كُرِهَ ذَلِكَ. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ السُّورَتَيْنِ كِلْتَاهُمَا، فَالسُّنَّةُ قِرَاءَتُهُمَا بِكَمَالِهِمَا. وَلَا يَنْبَغِي الْمُدَاوَمَةُ عَلَى ذَلِكَ، لِئَلَّا يَظُنَّ الْجَاهِلُ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ، بَلْ يَقْرَأُ أَحْيَانًا غَيْرَهُمَا مِنْ الْقُرْآنِ. وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدَ اللَّذَانِ يَسْتَحِبَّانِ قِرَاءَتَهُمَا. وَأَمَّا مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَعِنْدَهُمَا يُكْرَهُ قَصْدُ قِرَاءَتِهِمَا. [مَسْأَلَةٌ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ قَامَ لِيَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ] 299 - 215 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَامَ لِيَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ. فَهَلْ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: بَلْ يُخَافِتُ بِالْقِرَاءَةِ، وَلَا يَجْهَرُ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ إذَا قَامَ يَقْضِي فَإِنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يَقْضِيهِ، حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُنْفَرِدِ، وَهُوَ فِيمَا يُدْرِكُهُ فِي حُكْمِ الْمُؤْتَمِّ؛ وَلِهَذَا يَسْجُدُ الْمَسْبُوقُ إذَا سَهَا فِيمَا يَقْضِيهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَسْبُوقُ إنَّمَا يَجْهَرُ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ الْمُنْفَرِدُ، فَمَنْ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَذْهَبُهُ أَنْ يَجْهَرَ الْمُنْفَرِدُ فِي الْعِشَاءَيْنِ وَالْفَجْرِ، فَإِنَّهُ يَجْهَرُ إذَا قَضَى الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، وَمَنْ كَانَ مَذْهَبُهُ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ لَا يَجْهَرُ فَإِنَّهُ لَا يَجْهَرُ الْمَسْبُوقُ عِنْدَهُ. وَالْجُمُعَةُ لَا يُصَلِّيهَا أَحَدٌ مُنْفَرِدًا، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَجْهَرَ فِيهَا الْمُنْفَرِدُ. وَالْمَسْبُوقُ كَالْمُنْفَرِدِ فَلَا يَجْهَرُ، لَكِنَّهُ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ ضِمْنًا وَتَبَعًا، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي التَّابِعِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَتْبُوعِ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ لِمَا يَقْضِيهِ الْمَسْبُوقُ الْعَدَدُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. لَكِنْ مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ فَهُوَ

مسألة صلاة الجمعة في جامع القلعة

مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ، كَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهُ مُدْرِكٌ، وَإِنْ كَانَتْ بَقِيَّةُ الصَّلَاةِ فُعِلَتْ خَارِجَ الْوَقْتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ صَلَاة الْجُمُعَةِ فِي جَامِعِ الْقَلْعَةِ] 300 - 216 - مَسْأَلَةٌ: فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي جَامِعِ الْقَلْعَةِ: هَلْ هِيَ جَائِزَةٌ، مَعَ أَنَّ فِي الْبَلَدِ خُطْبَةً أُخْرَى، مَعَ وُجُودِ سُوَرِهَا، وَغَلْقِ أَبْوَابِهَا - أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ، يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا جُمُعَةً لِأَنَّهَا مَدِينَةٌ أُخْرَى. كَمِصْرِ وَالْقَاهِرَةِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ كَمَدِينَةٍ أُخْرَى فَإِقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي الْمَدِينَةِ الْكَبِيرَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ لِلْحَاجَةِ يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا بُنِيَتْ بَغْدَادُ وَلَهَا جَانِبَانِ أَقَامُوا فِيهَا جُمُعَةً فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَجُمُعَةً فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ. وَجَوَّزَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَدِينَتِهِ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَخْرُجُ بِالْمُسْلِمِينَ فَيُصَلِّي الْعِيدَ بِالصَّحْرَاءِ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ. فَلَمَّا تَوَلَّى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَصَارَ بِالْكُوفَةِ، وَكَانَ الْخَلْقُ بِهَا كَثِيرًا، قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ بِالْمَدِينَةِ شُيُوخًا وَضُعَفَاءَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ الْخُرُوجُ إلَى الصَّحْرَاءِ فَاسْتَخْلَفَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِيدَ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ خَارِجَ الصَّحْرَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا يُفْعَلُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَلِيٍّ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» . فَمَنْ تَمَسَّكَ بِسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَالْحَاجَةُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ وَفِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ تَدْعُو إلَى أَكْثَرَ مِنْ جُمُعَةٍ ، إذْ لَيْسَ لِلنَّاسِ جَامِعٌ وَاحِدٌ يَسَعُهُمْ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ جُمُعَةٌ وَاحِدَةٌ إلَّا بِمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ. وَهُنَا وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْقَلْعَةَ كَأَنَّهَا قَرْيَةٌ خَارِجَ الْمَدِينَةِ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ الْجُمُعَةَ تُقَامُ فِي الْقُرَى؛ لِأَنَّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ

مسألة الصلاة في جامع بني أمية

ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ جُمُعَةِ الْمَدِينَةِ جُمُعَةٌ بِجُوَاثَى قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ» . وَكَذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى الْمُسْلِمِينَ يَأْمُرُهُمْ بِالْجُمُعَةِ حَيْثُ كَانُوا. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِالْمِيَاهِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَهُمْ يُقِيمُونَ الْجُمُعَةَ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُخَالِفٌ لَجَازَ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّ كُلَّ قَرْيَةٍ مِصْرٌ جَامِعٌ كَمَا أَنَّ الْمِصْرَ الْجَامِعَ يُسَمَّى قَرْيَةً. وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ مَكَّةَ قَرْيَةً، بَلْ سَمَّاهَا أُمَّ الْقُرَى " بَلْ وَمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ مَكَّةَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد: 13] وَسَمَّى مِصْرَ الْقَدِيمَةَ قَرْيَةً بِقَوْلِهِ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82] . وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الصَّلَاة فِي جَامِعِ بَنِي أُمَيَّةَ] 301 - 217 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الصَّلَاةِ فِي جَامِعِ بَنِي أُمَيَّةَ، هَلْ هِيَ بِتِسْعِينَ صَلَاةٍ كَمَا زَعَمُوا أَمْ لَا؟ ذَكَرُوا أَنَّ فِيهِ ثَلَاثَمِائَةِ نَبِيٍّ مَدْفُونِينَ، فَهَلْ ذَلِكَ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ النَّائِمَ بِالشَّامِ كَالْقَائِمِ بِاللَّيْلِ بِالْعِرَاقِ، وَذَكَرُوا أَنَّ الصَّائِمَ الْمُتَطَوِّعَ بِالْعِرَاقِ كَالْمُفْطِرِ بِالشَّامِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْبَرَكَةَ أَحَدَ وَسَبْعِينَ جُزْءًا مِنْهَا جُزْءٌ وَاحِدٌ بِالْعِرَاقِ وَسَبْعُونَ بِالشَّامِ، فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَمْ يَرِدْ فِي جَامِعِ دِمَشْقَ فِي حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَضْعِيفِ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَلَكِنْ هُوَ مِنْ أَكْثَرِ الْمَسَاجِدِ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ عَدَدَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ. وَأَمَّا الْقَائِمُ بِالشَّامِ أَوْ غَيْرِهِ فَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، فَإِنَّ الْمُقِيمَ فِيهِ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ. وَكُلُّ مَكَان يَكُونُ فِيهِ الْعَبْدُ أَطْوَعَ لِلَّهِ فَمُقَامُهُ فِيهِ أَفْضَلُ. وَقَدْ جَاءَ فِي

مسألة العيد إذا وافق الجمعة

فَضْلِ الشَّامِ وَأَهْلِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ. وَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ الْبَرَكَةَ فِي أَرْبَعِ مَوَاضِعَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ ظُهُورَ الْإِسْلَامِ وَأَعْوَانِهِ فِيهِ بِالْقَلْبِ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ أَقْوَى مِنْهُ فِي غَيْرِهِ. وَفِيهِنَّ ظُهُورُ الْإِيمَانِ وَقَمْعُ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ الْفِطْرِ وَالصِّيَامِ وَأَنَّ الْبَرَكَةَ أَحَدٌ وَسَبْعُونَ جُزْءًا بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ عَلَى مَا ذُكِرَ فَهَذَا لَمْ نَسْمَعْهُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْعِيد إذَا وَافَقَ الْجُمُعَةَ] 302 - 218 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي الْعِيدِ إذَا وَافَقَ الْجُمُعَةَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَجِبُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِيدَ، وَلَا يُصَلِّي الْجُمُعَةَ؛ وَقَالَ الْآخَرُ: يُصَلِّيهَا. فَمَا الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إذَا اجْتَمَعَ الْجُمُعَةُ وَالْعِيدُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ شَهِدَ الْعِيدَ. كَمَا تَجِبُ سَائِرُ الْجُمَعِ لِلْعُمُومَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْجُمُعَةِ. وَالثَّانِي: تَسْقُطُ عَنْ أَهْلِ الْبَرِّ، مِثْلَ أَهْلِ الْعَوَالِي وَالشَّوَاذِّ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَرْخَصَ لَهُمْ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ الْعِيدَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ مَنْ شَهِدَ الْعِيدَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجُمُعَةُ، لَكِنْ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ الْجُمُعَةَ لِيَشْهَدَهَا مَنْ شَاءَ شُهُودَهَا، وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْعِيدَ. وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ: كَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ. وَلَا يُعْرَفُ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ. وَأَصْحَابُ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمِينَ لَمْ يَبْلُغْهُمْ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا اجْتَمَعَ فِي يَوْمِهِ عِيدَانِ صَلَّى الْعِيدَ ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ، وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ قَدْ أَصَبْتُمْ خَيْرًا، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمُعَةَ فَلْيَشْهَدْ، فَإِنَّا مُجَمِّعُونَ» . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا شَهِدَ الْعِيدَ حَصَلَ مَقْصُودُ الِاجْتِمَاعِ، ثُمَّ إنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ إذَا لَمْ

يَشْهَدْ الْجُمُعَةَ، فَتَكُونُ الظُّهْرُ فِي وَقْتِهَا، وَالْعِيدُ يُحَصِّلُ مَقْصُودَ الْجُمُعَةِ. وَفِي إيجَابِهَا عَلَى النَّاسِ تَضْيِيقٌ عَلَيْهِمْ، وَتَكْدِيرٌ لِمَقْصُودِ عِيدِهِمْ، وَمَا سُنَّ لَهُمْ مِنْ السُّرُورِ فِيهِ، وَالِانْبِسَاطِ. فَإِذَا حُبِسُوا عَنْ ذَلِكَ عَادَ الْعِيدُ عَلَى مَقْصُودِهِ بِالْإِبْطَالِ، وَلِأَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِيدٌ، وَيَوْمَ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ عِيدٌ، وَمِنْ شَأْنِ الشَّارِعِ إذَا اجْتَمَعَ عِبَادَتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَدْخَلَ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى. كَمَا يَدْخُلُ الْوُضُوءُ فِي الْغُسْلِ، وَأَحَدُ الْغُسْلَيْنِ فِي الْآخَرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 303 - 219 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَالَ: إذَا جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمَ الْعِيدِ، وَصَلَّى الْعِيدَ، إنْ اشْتَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ وَإِلَّا فَلَا. فَهَلْ هُوَ فِيمَا قَالَ مُصِيبٌ أَمْ مُخْطِئٌ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. إذَا اجْتَمَعَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَيَوْمُ الْعِيدِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْفُقَهَاءِ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْجُمُعَةَ عَلَى مَنْ صَلَّى الْعِيدَ، وَمَنْ لَمْ يُصَلِّهِ كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجُمُعَةَ سَقَطَتْ عَنْ السَّوَادِ الْخَارِجِ عَنْ الْمِصْرِ، كَمَا يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ صَلَّى الْعِيدَ، ثُمَّ أَذِنَ لِأَهْلِ الْقُرَى فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ، وَاتَّبَعَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ صَلَّى الْعِيدَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجُمُعَةُ، لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ الْجُمُعَةَ لِيَشْهَدَهَا مَنْ أَحَبَّ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي عَهْدِهِ عِيدَانِ فَصَلَّى الْعِيدَ ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ» . وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ صَلَّى الْعِيدَ وَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ قَدْ أَصَبْتُمْ خَيْرًا، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمُعَةَ فَلْيَشْهَدْ، فَإِنَّا مُجَمِّعُونَ» وَهَذَا الْحَدِيثُ رُوِيَ فِي السُّنَنِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَنَّهُ صَلَّى الْعِيدَ ثُمَّ خَيَّرَ النَّاسَ فِي شُهُودِ الْجُمُعَةِ. وَفِي السُّنَنِ حَدِيثٌ ثَالِثٌ فِي ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ عَلَى عَهْدِهِ عِيدَانِ فَجَمَعَهُمَا أَوَّلَ النَّهَارِ، ثُمَّ لَمْ

مسألة خطبة بين صلاتين كلاهما فرض لوقتها

يُصَلِّ إلَّا الْعَصْرَ. وَذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعَلَ ذَلِكَ، وَذُكِرَ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: قَدْ أَصَابَ السُّنَّةَ. وَهَذَا الْمَنْقُولُ هُوَ الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَنْ بَلَغَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَاَلَّذِينَ خَالَفُوهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ السُّنَنِ وَالْآثَارِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ خُطْبَة بَيْنَ صَلَاتَيْنِ كِلَاهُمَا فَرْضٌ لِوَقْتِهَا] 304 - 220 - مَسْأَلَةٌ: فِي خُطْبَةٍ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ. كِلَاهُمَا فَرْضٌ لِوَقْتِهَا، فِي سَاعَةٍ مُشْكِلَةِ الْعَيْنِ. وَاعْتِبَارُ الشَّرْطِ فِيهَا كَمَا فِي غَيْرِهَا مِنْ هَيْئَةِ الدِّينِ. كَالظُّهْرِ وَالسُّنَنِ، وَالْوَقْتِ، وَالْقِبْلَةِ أَيْضًا بِالتَّأْذِينِ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ تَنْزِلُ عَلَى عِدَّةِ مَسَائِلَ، بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا مُتَنَازَعٌ فِيهِ: مِنْهَا إذَا اجْتَمَعَ عِيدٌ وَجُمُعَةٌ فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْعِيدَ فَرْضٌ، يَقُولُ: إنَّ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ هِيَ خُطْبَةٌ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ كِلَاهُمَا فَرْضٌ، بِخِلَافِ خُطْبَةِ الْعِيدِ. فَإِنَّهُ يَقُولُ لَيْسَتْ فَرْضًا. وَإِمَّا أَنْ تَنْزِلَ عَلَى مَا إذَا اعْتَقَدَ جُمُعَتَانِ فِي مَوْضِعٍ لَا تَصِحُّ فِيهِ جُمُعَتَانِ، فَإِنَّهُ تَصِحُّ الْأُولَى وَتَبْطُلُ الثَّانِيَةُ، إذَا كَانَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ. فَإِنْ أَشْكَلَ عَيْنُ السَّابِقَةِ بَطَلَتَا جَمِيعًا، وَصَلَّوْا ظُهْرًا. فَالْخُطْبَةُ الَّتِي قَبْلَ الثَّانِيَةِ خُطْبَةٌ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ كِلَاهُمَا فَرْضٌ، إذَا كَانَ الْإِمَامُ قَدْ أَذِنَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تُقَامُ عِنْدَهُمْ، وَكِلَاهُمَا يَعْتَقِدُ أَنَّ جُمُعَتَهُ فَرْضٌ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ السَّائِلُ الْفَجْرَ وَالْجُمُعَةَ، فَإِنَّ الْفَجْرَ فَرْضٌ فِي وَقْتِهَا، وَالْجُمُعَةَ فَرْضٌ لِوَقْتِهَا، وَبَيْنَهُمَا خُطْبَةٌ هِيَ خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ. وَمِنْهَا خُطَبُ الْحَجِّ: فَإِنَّ خُطْبَةَ عَرَفَةَ تَكُونُ بَيْنَ الصَّلَاةِ بِعَرَفَةَ، وَبَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، فَكِلَاهُمَا فَرْضٌ، وَالْخُطْبَةُ يَوْمَ النَّحْرِ: تَكُونُ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ، فَكِلَاهُمَا فَرْضٌ.

مسألة قراءة الكهف بعد عصر الجمعة

[مَسْأَلَةٌ قِرَاءَةُ الْكَهْفِ بَعْدَ عَصْرِ الْجُمُعَةِ] 305 - 221 - مَسْأَلَةٌ: هَلْ قِرَاءَةُ الْكَهْفِ بَعْدَ عَصْرِ الْجُمُعَةِ، جَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. قِرَاءَةُ سُورَةِ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهَا آثَارٌ، ذَكَرَهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، لَكِنْ هِيَ مُطْلَقَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، مَا سَمِعْت أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فَرْش السَّجَّادَةِ فِي الرَّوْضَةِ الشَّرِيفَةِ] 306 - 222 - مَسْأَلَةٌ: عَنْ فَرْشِ السَّجَّادَةِ فِي الرَّوْضَةِ الشَّرِيفَةِ، هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ أَجَابَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْرِشَ شَيْئًا وَيَخْتَصَّ بِهِ مَعَ غَيْبَتِهِ، وَيَمْنَعَ بِهِ غَيْرَهُ. هَذَا غَصْبٌ لِتِلْكَ الْبُقْعَةِ، وَمَنْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا مَنْ يَتَقَدَّمُ بِسَجَّادَةٍ فَهُوَ ظَالِمٌ، يُنْهَى عَنْهُ وَيَجِبُ رَفْعُ تِلْكَ السَّجَاجِيدِ، وَيُمَكَّنُ النَّاسَ مِنْ مَكَانِهَا. هَذَا مَعَ أَنَّ أَصْلَ الْفَرْشِ بِدْعَةٌ، لَا سِيَّمَا فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْخُمْرَةُ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَغِيرَةٌ، لَيْسَتْ بِقَدْرِ السَّجَّادَةِ. قُلْت فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدٍ إلَّا عَلَى الْأَرْضِ، وَلَمَّا قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ مِنْ الْعِرَاقِ، وَفَرَشَ فِي الْمَسْجِدِ. أَمَرَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ بِحَبْسِهِ تَعْزِيرًا لَهُ، حَتَّى رُوجِعَ فِي ذَلِكَ، فَذَكَرَ أَنَّ فِعْلَ هَذَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَسْجِدِ بِدْعَةٌ يُؤَدَّبُ صَاحِبُهَا. وَعَلَى النَّاسِ الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَالْمَنْعُ مِنْهُ، لَا سِيَّمَا وُلَاةُ الْأَمْرِ الَّذِينَ لَهُمْ هُنَالِكَ وِلَايَةٌ عَلَى الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ رَفْعُ هَذِهِ السَّجَاجِيدِ، وَلَوْ عُوقِبَ أَصْحَابُهُ بِالصَّدَقَةِ بِهَا لَكَانَ هَذَا مِمَّا يَسُوغُ فِي الِاجْتِهَادِ، انْتَهَى.

قول المؤذن يوم الجمعة وقت دخول الإمام المسجد

[قَوْل الْمُؤَذِّنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقْتَ دُخُولِ الْإِمَامِ الْمَسْجِدَ] سُئِلَ: عَنْ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقْتَ دُخُولِ الْإِمَامِ الْمَسْجِدَ: " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَسَلِّمْ. وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ أَجْمَعِينَ ". وَفِي دُعَاءِ الْإِمَامِ بَعْدَ صُعُودِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَفِي قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ بَعْدَ الْأَذَانِ الثَّانِي: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قُلْت لِصَاحِبِك وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْت» أَذَلِكَ مَسْنُونٌ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ، أَوْ مَكْرُوهٌ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ لَيْسَ هَذَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْعُلَمَاءِ، لَكِنَّ تَبْلِيغَ الْحَدِيثِ فِعْلُهُ مِنْ فِعْلِهِ لِأَمْرِ النَّاسِ بِالْإِنْصَاتِ، وَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْخُطْبَةِ. وَأَمَّا دُعَاءُ الْإِمَامِ بَعْدَ صُعُودِهِ، وَرَفْعُ الْمُؤَذِّنِينَ أَصْوَاتَهُمْ بِالصَّلَاةِ، فَهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْعُلَمَاءُ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَفْعَلُهُ بِلَا أَصْلٍ شَرْعِيٍّ. وَأَمَّا رَفْعُ الْمُؤَذِّنِينَ أَصْوَاتَهُمْ وَقْتَ الْخُطْبَةِ بِالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، فَهَذَا مَكْرُوهٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. 308 - 224 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مُؤَذِّنٍ يَقُولُ عِنْدَ دُخُولِ الْخَطِيبِ إلَى الْجَامِعِ: " إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّوا عَلَى النَّبِيِّ ". فَقَالَ رَجُلٌ: هَذَا بِدْعَةٌ. فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ الْجَوَابُ: جَهْرُ الْمُؤَذِّنِ بِذَلِكَ، كَجَهْرِهِ بِالصَّلَاةِ وَالتَّرَضِّي عِنْدَ رُقِيِّ الْخَطِيبِ الْمِنْبَرَ، أَوْ جَهْرِهِ بِالدُّعَاءِ لِلْخَطِيبِ وَالْإِمَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ: لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ الْجَهْرُ بِنَحْوِ ذَلِكَ فِي الْخُطْبَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْقِرَاءَة فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ] 309 - 225 - مَسْأَلَةٌ: هَلْ يَتَعَيَّنُ قِرَاءَةٌ بِعَيْنِهَا فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ؟ وَمَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ؟

صفة التكبير في العيدين ووقته

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَهْمَا قَرَأَ بِهِ جَازَ. كَمَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ فِي نَحْوِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ. لَكِنْ إذَا قَرَأَ بِقَافٍ، وَاقْتَرَبَتْ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ فِي الْأَثَرِ، كَانَ حَسَنًا. وَأَمَّا بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ: فَإِنَّهُ يَحْمَدُ اللَّهَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ. هَكَذَا رَوَى نَحْوَ هَذَا الْعُلَمَاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. وَإِنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، كَانَ حَسَنًا. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مُؤَقَّتٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [صِفَة التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ وَوَقْتُهُ] 310 - 226 - سُئِلَ: عَنْ صِفَةِ التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ. وَمَتَى وَقْتُهُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي التَّكْبِيرِ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ: أَنْ يُكَبِّرَ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ، إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، عَقِبَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَيُشْرَعُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ الْخُرُوجِ إلَى الْعِيدِ. وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَصِفَةُ التَّكْبِيرِ الْمَنْقُولِ عِنْدَ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ: قَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ» . وَإِنْ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا جَازَ. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا فَقَطْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَمَّا التَّكْبِيرُ فِي الصَّلَاةِ فَيُكَبِّرُ الْمَأْمُومُ تَبَعًا لِلْإِمَامِ، وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالْأَئِمَّةِ يُكَبِّرُونَ سَبْعًا فِي الْأُولَى، وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ. وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَقُولَ بَيْنَ التَّكْبِيرَتَيْنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي. كَانَ حَسَنًا، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة هل التكبير يجب في عيد الفطر أكثر من عيد الأضحى

[مَسْأَلَةٌ هَلْ التَّكْبِيرُ يَجِبُ فِي عِيدِ الْفِطْرِ أَكْثَرُ مِنْ عِيدِ الْأَضْحَى] 311 - 227 - مَسْأَلَةٌ: هَلْ التَّكْبِيرُ يَجِبُ فِي عِيدِ الْفِطْرِ أَكْثَرُ مِنْ عِيدِ الْأَضْحَى؟ بَيِّنُوا لَنَا مَأْجُورِينَ الْجَوَابُ: أَمَّا التَّكْبِيرُ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي عِيدِ الْأَضْحَى بِالِاتِّفَاقِ. وَكَذَلِكَ هُوَ مَشْرُوعٌ فِي عِيدِ الْفِطْرِ: عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. وَذَكَرَ ذَلِكَ الطَّحْطَاوِيُّ مَذْهَبًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ. وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمْ خِلَافُهُ، لَكِنَّ التَّكْبِيرَ فِيهِ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، وَالتَّكْبِيرُ فِيهِ أَوْكَدُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ بِقَوْلِهِ: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] . وَالتَّكْبِيرُ فِيهِ: أَوَّلُهُ مِنْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَآخِرُهُ انْقِضَاءُ الْعِيدِ، وَهُوَ فَرَاغُ الْإِمَامِ مِنْ الْخُطْبَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَأَمَّا التَّكْبِيرُ فِي النَّحْرِ فَهُوَ أَوْكَدُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُشْرَعُ أَدْبَارَ الصَّلَوَاتِ وَأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّ عِيدَ النَّحْرِ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَكَانُ وَالزَّمَانُ، وَعِيدُ النَّحْرِ أَفْضَلُ مِنْ عِيدِ الْفِطْرِ، وَلِهَذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ فِيهِ النَّحْرُ مَعَ الصَّلَاةِ. وَالْعِبَادَةُ فِي ذَاكَ الصَّدَقَةُ مَعَ الصَّلَاةِ. وَالنَّحْرُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ، لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْعِبَادَتَانِ الْبَدَنِيَّةُ وَالْمَالِيَّةُ، فَالذَّبْحُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ فِي الْفِطْرِ تَابِعَةٌ لِلصَّوْمِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضَهَا طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ وَلِهَذَا سُنَّ أَنْ تَخْرُجَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] . وَأَمَّا النُّسُكُ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي الْيَوْمِ نَفْسِهِ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَلِهَذَا يُشْرَعُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] . فَصَلَاةُ النَّاسِ فِي الْأَمْصَارِ بِمَنْزِلَةِ رَمْيِ الْحُجَّاجِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَذَبْحُهُمْ فِي الْأَمْصَارِ بِمَنْزِلَةِ ذَبْحِ الْحُجَّاجِ هَدْيَهُمْ. وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ: «أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ

التهنئة في العيد

الْقَسْرِ» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِي السُّنَنِ وَقَدْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ «يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ مِنًى عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّهِ» وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَهْلَ الْأَمْصَارِ يُكَبِّرُونَ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلِحَدِيثٍ آخَرَ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِأَنَّهُ إجْمَاعٌ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [التَّهْنِئَةُ فِي الْعِيدِ] 312 - 228 - سُئِلَ: هَلْ التَّهْنِئَةُ فِي الْعِيدِ وَمَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ: " عِيدُك مُبَارَكٌ " وَمَا أَشْبَهَهُ، هَلْ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ، أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ، فَمَا الَّذِي يُقَالُ؟ أَفْتَوْنَا مَأْجُورِينَ. الْجَوَابُ: أَمَّا التَّهْنِئَةُ يَوْمَ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إذَا لَقِيَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَأَحَالَهُ اللَّهُ عَلَيْك، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا قَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَرَخَّصَ فِيهِ، الْأَئِمَّةُ، كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. لَكِنْ قَالَ أَحْمَدُ: أَنَا لَا أَبْتَدِئُ أَحَدًا، فَإِنْ ابْتَدَأَنِي أَحَدٌ أَجَبْته، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَوَابَ التَّحِيَّةِ وَاجِبٌ، وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِالتَّهْنِئَةِ فَلَيْسَ سُنَّةً مَأْمُورًا بِهَا، وَلَا هُوَ أَيْضًا مَا نُهِيَ عَنْهُ، فَمَنْ فَعَلَهُ فَلَهُ قُدْوَةٌ، وَمَنْ تَرَكَهُ فَلَهُ قُدْوَةٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الذكر والدعاء

[كِتَابُ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ] [مَسْأَلَةٌ الصَّلَاة عَلَيَّ النَّبِيّ] ِ مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا، وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ عَشْرًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ مِائَةً، وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ مِائَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أَلْفَ مَرَّةٍ، وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ حَسَرَاتٌ وَلَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ» - إذَا صَلَّى الْعَبْدُ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْعَبْدِ أَمْ لَا "؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا» . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي مَجْلِسٍ فَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا فِيهِ عَلَيَّ إلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَالتِّرَةُ: النَّقْصُ وَالْحَسْرَةُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ مُجَازِيًا مُكَافِئًا] 314 - 2 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مُجَازِيًا مُكَافِئًا، مَا وَجْهُ نَصْبِهَا؟ هَلْ هِيَ

مسألة من قال لا إله إلا الله دخل الجنة

حَالٌ؟ وَإِذَا كَانَتْ حَالًا فَحَالٌ مِمَّاذَا؟ وَفِي الْجُمْلَةِ: فَهَلْ تُبَاحُ مِثْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الْمُوهِمَةِ إذَا أَمْكَنَ وَجْهُ إعْرَابِهَا؟ وَمَا وَجْهُ إعْرَابِهَا الْمُتَوَجَّهُ إنْ كَانَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. هَذَا الْحَمْدُ لَا يُعْرَفُ مَأْثُورًا عَمَّنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ حَتَّى يَطْلُبَ تَوْجِيهَهُ. لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَعْنِيَ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ مَعْنًى صَحِيحًا؛ بِأَنْ يَكُونَ نَصْبُهَا عَلَى الْحَالِ مِنْ اسْمِ اللَّهِ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ الْعَامِلُ فِي صَاحِبِهَا. وَهُوَ مَا فِي الظَّرْفِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، وَالتَّقْدِيرُ: الْحَمْدُ مُسْتَقِرٌّ أَوْ اسْتَقَرَّ لِلَّهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُجَازِيًا مُكَافِئًا ". وَالْمَعْنَى: أُثْبِتُ الْحَمْدَ لِلَّهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَأَحْمَدُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ تَخْصِيصَ الْحَمْدِ لِلَّهِ بِهَذِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ. فَإِنَّهُ حَمِدَهُ عَلَى نِعْمَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَلَمْ يَقْصِدْ تَخْصِيصَ الْحَمْدِ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ هَادِيًا وَنَصِيرًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّ التَّخْصِيصَ قَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ اسْتِحْضَارَ الْحَالِ الَّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا وَاسْتِعْظَامُهَا، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ عَلَيْهَا، لَا نَفْيَ الْحَمْدِ عَلَى غَيْرِهَا، مَعَ أَنَّهُ بَعْدَ وُجُودِ الْخَلْقِ وَأَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ يَكُونُ مُجَازِيًا مُكَافِئًا، فَهُوَ حَالٌ لَازِمَةٌ لَا مُنْتَقِلَةٌ. فَالْحَمْدُ لِلَّهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ حَمْدٌ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ يُوصَفُ بِالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ أَزَلًا وَأَبَدًا، وَيَقُولُونَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ خَالِقًا وَرَازِقًا، وَإِنْ كَانَ مَا وُجِدَ مُنْفَصِلًا عَنْهُ فَهُوَ مُحْدَثٌ لَيْسَ بِقَدِيمٍ، فَعَلَى قَوْلِهِمْ لَا يَزَالُ مَحْمُودًا بِذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ] 315 - 3 - مَسْأَلَةٌ: قَالَ رَجُلٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» .

وَقَالَ آخَرُ: إذَا سَلَكَ الطَّرِيقَ الْحَمِيدَةَ وَاتَّبَعَ الشَّرْعَ دَخَلَ ضِمْنَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِذَا فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ وَلَمْ يُبَالِ مَا نَقَصَ مِنْ دِينِهِ وَزَادَ فِي دُنْيَاهُ، لَمْ يَدْخُلْ فِي ضِمْنِ هَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ لَهُ نَاقِلُ الْحَدِيثِ: أَمَّا لَوْ فَعَلْتُ كُلَّ مَا لَا يَلِيقُ وَقُلْتُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ وَلَمْ أَدْخُلْ النَّارَ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ تَلَفُّظِ الْإِنْسَانِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ بِحَالٍ: فَهُوَ ضَالٌّ، مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ قَدْ تَلَفَّظَ بِهَا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ، وَهُمْ كَثِيرُونَ، بَلْ الْمُنَافِقُونَ قَدْ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَلَكِنْ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 142] . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} [التوبة: 53] {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ} [التحريم: 8] وَقَوْلُهُ: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحديد: 15] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ» .

مسألة حقيقة الحمد والشكر

وَلِمُسْلِمٍ: «وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» . وَلَكِنْ إنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ، وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ، إذْ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ كَمَا صَحَّتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ مَنْ دَخَلَهَا مِنْ فُسَّاقِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِنْ أَهْلِ السَّرِقَةِ، وَالزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ، وَأَكْلِ الرِّبَا، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ إذَا عَذَّبَهُمْ فِيهَا عَذَّبَهُمْ عَلَى قَدْرِ ذُنُوبِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إلَى حِقْوَيْهِ؛ وَمَكَثُوا فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثُوا أُخْرِجُوا بَعْدَ ذَلِكَ كَالْحِمَمِ فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ الْحَيَاةُ فَيَنْبُتُونَ فِيهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ. وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مَكْتُوبٌ عَلَى رِقَابِهِمْ هَؤُلَاءِ الْجَهَنَّمِيُّونَ عُتَقَاءُ اللَّهِ مِنْ النَّارِ. وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ طَوِيلٌ لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ حَقِيقَةُ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ] 316 - 4 مَسْأَلَةٌ: فِي الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ، مَا حَقِيقَتُهُمَا؟ هَلْ هُمَا مَعْنًى وَاحِدٌ؟ أَوْ مَعْنَيَانِ؟ وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ الْحَمْدُ؟ وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ الشُّكْرُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الْحَمْدُ يَتَضَمَّنُ: الْمَدْحَ، وَالثَّنَاءَ عَلَى الْمَحْمُودِ بِذِكْرِ مَحَاسِنِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِحْسَانُ إلَى الْحَامِدِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ

إلَّا عَلَى إحْسَانِ الْمَشْكُورِ إلَى الشَّاكِرِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ: الْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ الشُّكْرِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْمَحَاسِنِ وَالْإِحْسَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْمَدُ عَلَى مَالَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالْمَثَلِ الْأَعْلَى، وَمَا خَلَقَهُ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] . وَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] . وَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ} [سبأ: 1] . وَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر: 1] . وَأَمَّا الشُّكْرُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى الْإِنْعَامِ، فَهُوَ أَخُصُّ مِنْ الْحَمْدِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لَكِنَّهُ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ، كَمَا قِيلَ: أَفَادَتْكُمْ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً ... يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَجَّبَا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: 13] . وَالْحَمْدُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ الشُّكْرُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ أَنْوَاعِهِ، وَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ أَسْبَابِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَأْسُ الشُّكْرِ» .

مسألة فيمن قال لا يجوز الدعاء إلا بالتسعة والتسعين اسما

فَمَنْ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ لَمْ يَشْكُرْهُ، وَفِي الصَّحِيحِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ قَالَ لَا يَجُوز الدُّعَاءُ إلَّا بِالتِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ اسْمًا] 317 - 5 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ الدُّعَاءُ إلَّا بِالتِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ اسْمًا، وَلَا يَقُولُ: يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ، وَلَا يَقُولُ: يَا دَلِيلَ الْحَائِرِينَ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ، وَغَيْرِهِ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ مَضَى سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا، وَهُوَ الصَّوَابُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ اسْمًا لَمْ يَرِدْ فِي تَعْيِينِهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَشْهَرُ مَا عِنْدَ النَّاسِ فِيهَا، حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ، الَّذِي رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، وَحُفَّاظُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِمَّا جَمَعَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ شُيُوخِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَفِيهَا حَدِيثٌ ثَانٍ أَضْعَفُ مِنْ هَذَا، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَقَدْ رُوِيَ فِي عَدَدِهَا غَيْرُ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنْ جَمْعِ بَعْضِ السَّلَفِ، وَهَذَا الْقَائِلُ الَّذِي حَصَرَ أَسْمَاءَ اللَّهِ فِي تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ لَمْ يُمْكِنْهُ اسْتِخْرَاجُهَا مِنْ الْقُرْآنِ. وَإِذَا لَمْ يَقُمْ عَلَى تَعْيِينِهَا دَلِيلٌ يَجِبُ الْقَوْلُ بِهِ، لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ هِيَ الَّتِي يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَمْيِيزِ الْمَأْمُورِ مِنْ الْمَحْظُورِ، فَكُلُّ اسْمٍ يُجْهَلُ حَالُهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَأْمُورِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَحْظُورِ، وَإِنْ قِيلَ: لَا تَدْعُوا إلَّا بِاسْمٍ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قِيلَ: هَذَا أَكْثَرُ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا قِيلَ تَعْيِينُهَا عَلَى مَا فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ مَثَلًا، فَفِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَسْمَاءٌ لَيْسَتْ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ، مِثْلَ اسْمِ (الرَّبِّ) فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ، وَأَكْثَرُ الدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ إنَّمَا هُوَ بِهَذَا الِاسْمِ، كَقَوْلِ آدَمَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] .

وَقَوْلُ نُوحٍ: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: 47] . وَقَوْلُ إبْرَاهِيمَ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح: 28] . وَقَوْلُ مُوسَى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16] . وَقَوْلُ الْمَسِيحِ: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 114] . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، حَتَّى أَنَّهُ يَذْكُرُ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يُقَالَ: يَا سَيِّدِي، بَلْ يُقَالُ: يَا رَبُّ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءُ النَّبِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ. وَكَذَلِكَ اسْمُ (الْمَنَّانِ) فَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَمِعَ دَاعِيًا يَدْعُو: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنَّ لَك الْمُلْكَ أَنْتَ اللَّهُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» . وَهَذَا رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِي أَسْمَائِهِ الْمَنَّانُ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِرَجُلٍ وَدَّعَهُ قُلْ: يَا دَلِيلَ الْحَائِرِينَ دُلَّنِي عَلَى طَرِيقِ الصَّادِقِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ عِبَادِك الصَّالِحِينَ. وَقَدْ أَنْكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي الْوَفَا بْنِ عَقِيلٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَسْمَائِهِ (الدَّلِيلُ) لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ الدَّلَالَةُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا، وَالصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْمُعَرِّفُ لِلْمَدْلُولِ، وَلَوْ كَانَ الدَّلِيلُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ فَالْعَبْدُ يُسْتَدَلُّ بِهِ أَيْضًا، فَهُوَ دَلِيلٌ مِنْ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» وَلَيْسَ هَذَا الِاسْمُ فِي هَذِهِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ.

وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» . وَلَيْسَ هُوَ فِيهَا. وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ» وَلَيْسَ هَذَا فِيهَا. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا» وَلَيْسَ هَذَا فِيهَا، وَتَتَبُّعُ هَذَا يَطُولُ. وَلَفْظُ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ النَّاسِ فِي التِّرْمِذِيِّ: اللَّهُ، الرَّحْمَنُ، الرَّحِيمُ، الْمَلِكُ، الْقُدُّوسُ، السَّلَامُ، الْمُؤْمِنُ، الْمُهَيْمِنُ، الْعَزِيزُ، الْجَبَّارُ، الْمُتَكَبِّرُ، الْخَالِقُ، الْبَارِئُ، الْمُصَوِّرُ، الْغَفَّارُ، الْقَهَّارُ، الْوَهَّابُ، الرَّزَّاقُ، الْفَتَّاحُ، الْعَلِيمُ، الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ، الْخَافِضُ، الرَّافِعُ، الْمُعِزُّ، الْمُذِلُّ، السَّمِيعُ، الْبَصِيرُ، الْحَكَمُ، الْعَدْلُ، اللَّطِيفُ، الْخَبِيرُ، الْحَلِيمُ، الْعَظِيمُ، الْغَفُورُ، الشَّكُورُ، الْعَلِيُّ، الْكَبِيرُ، الْحَفِيظُ، الْمُقِيتُ، الْحَسِيبُ، الْجَلِيلُ؛ الْجَمِيلُ، الْكَرِيمُ، الرَّقِيبُ، الْمُجِيبُ، الْوَاسِعُ، الْحَلِيمُ، الْوَدُودُ، الْمَجِيدُ، الْبَاعِثُ، الشَّهِيدُ، الْحَقُّ، الْوَكِيلُ، الْقَوِيُّ، الْمَتِينُ، الْوَلِيُّ، الْحَمِيدُ، الْمُحْصِي، الْمُبْدِئُ، الْمُعِيدُ، الْمُحَيِّي، الْمُمِيتُ، الْحَيُّ، الْقَيُّومُ، الْوَاجِدُ، الْمَاجِدُ، الْوَاحِدُ، الْأَحَدُ. وَيُرْوَى: الْوَاحِدُ، الصَّمَدُ، الْقَادِرُ، الْمُقْتَدِرُ، الْمُقَدِّمُ، الْمُؤَخِّرُ، الْأَوَّلُ، الْآخِرُ، الظَّاهِرُ، الْبَاطِنُ، الْوَلِيُّ، الْمُتَعَالِي، الْبَرُّ، التَّوَّابُ، الْمُنْتَقِمُ، الْعَفُوُّ، الرَّءُوفُ، مَالِكُ الْمُلْكِ، ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، الْمُقْسِطُ، الْجَامِعُ، الْغَنِيُّ، الْمُغْنِي، الْمُعْطِي، الْمَانِعُ، الضَّارُّ، النَّافِعُ، النُّورُ، الْهَادِي، الْبَدِيعُ، الْبَاقِي، الْوَارِثُ، الرَّشِيدُ، الصَّبُورُ، الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.

وَمِنْ أَسْمَائِهِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي هَذِهِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ اسْمُهُ: " السُّبُّوحُ ". وَفِي الْحَدِيثِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ» . وَاسْمُهُ: " الشَّافِي ". كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شَافِيَ إلَّا أَنْتَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» . وَكَذَلِكَ أَسْمَاؤُهُ الْمُضَافَةُ، مِثْلَ: أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَخَيْرُ الْغَافِرِينَ، وَرَبُّ الْعَالَمِينَ، وَمَالِك يَوْمِ الدِّينِ، وَأَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، وَجَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَمُقَلِّبُ الْقُلُوبِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَثَبَتَ فِي الدُّعَاءِ بِهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا احْتَجَّ بِهِ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَصَابَ عَبْدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُك، وَابْنُ عَبْدِك، وَابْنُ أَمَتِك نَاصِيَتِي بِيَدِك، مَاضٍ فِي حُكْمُك، عَدْلٌ فِي قَضَاؤُك، أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك، أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك، أَوْ أَعْلَمْته أَحَدًا مِنْ خَلْقِك، أَوْ اسْتَأْثَرَتْ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَشِفَاءَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حَزَنِي، وَذَهَابَ غَمِّي وَهَمِّي. إلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَتَعَلَّمُهُنَّ، قَالَ: بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، وَأَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَسْمَاءً اسْتَأْثَرَ بِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: «إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَإِنَّ فِي أَسْمَائِهِ تِسْعَةً

مسألة رجل ينكر على من يجهر بالذكر

وَتِسْعِينَ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» . كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: إنَّ لِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَعْدَدْتُهَا لِلصَّدَقَةِ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] . فَأَمَرَ أَنْ يُدْعَى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مُطْلَقًا، وَلَمْ يَقُلْ: لَيْسَتْ أَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى إلَّا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، وَالْحَدِيثُ قَدْ سَلِمَ مَعْنَاهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُل يُنْكِرُ عَلَى مِنْ يجهر بِالذِّكْرِ] 318 - 6 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ يُنْكِرُ عَلَى أَهْلِ الذِّكْرِ، يَقُولُ لَهُمْ: هَذَا الذِّكْرُ بِدْعَةٌ وَجَهْرُكُمْ فِي الذِّكْرِ بِدْعَةٌ، وَهُمْ يَفْتَتِحُونَ بِالْقُرْآنِ وَيَخْتَتِمُونَ، ثُمَّ يَدْعُونَ لِلْمُسْلِمِينَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، وَيَجْمَعُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّكْبِيرَ وَالْحَوْقَلَةَ، وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُنْكِرُ يَعْمَلُ السَّمَاعَ مَرَّاتٍ بِالتَّصْفِيقِ وَيَبْطُلُ الذِّكْرُ فِي وَقْتِ عَمَلِ السَّمَاعِ. الْجَوَابُ: الِاجْتِمَاعُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَاسْتِمْتَاعِ كِتَابِهِ وَالدُّعَاءُ عَمَلٌ صَالِحٌ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ وَالْعِبَادَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ، فَفِي الصَّحِيحِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ، فَإِذَا مَرُّوا بِقَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إلَى حَاجَتِكُمْ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: «وَجَدْنَاهُمْ يُسَبِّحُونَك وَيَحْمَدُونَك» . لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا أَحْيَانًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمْكِنَةِ، فَلَا يُجْعَلُ سُنَّةً رَاتِبَةً يُحَافِظُ عَلَيْهَا إلَّا مَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْجَمَاعَاتِ وَمِنْ الْجُمُعَاتِ وَالْأَعْيَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا مُحَافَظَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى أَوْرَادٍ لَهُ مِنْ الصَّلَاةِ أَوْ الْقِرَاءَةِ أَوْ الذِّكْرِ أَوْ الدُّعَاءِ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهَذَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَمَا سُنَّ عَمَلُهُ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِمَاعِ كَالْمَكْتُوبَاتِ، فُعِلَ كَذَلِكَ، وَمَا

مسألة من يذكر في جوفه إذا صلى بسم الله بابنا

سُنَّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الِانْفِرَادِ مِنْ الْأَوْرَادِ عُمِلَ كَذَلِكَ، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَجْتَمِعُونَ أَحْيَانًا يَأْمُرُونَ أَحَدَهُمْ يَقْرَأُ وَالْبَاقُونَ يَسْتَمِعُونَ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ يَا أَبَا مُوسَى ذَكِّرْنَا رَبَّنَا، فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ، وَكَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ يَقُولُ: " اجْلِسُوا بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً «وَصَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَصْحَابِهِ التَّطَوُّعَ فِي جَمَاعَةٍ مَرَّاتٍ» ، «وَخَرَجَ عَلَى الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَفِيهِمْ قَارِئٌ يَقْرَأُ فَجَلَسَ مَعَهُمْ يَسْتَمِعُ» . وَمَا يَحْصُلُ عِنْدَ السَّمَاعِ وَالذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ مِنْ وَجَلِ الْقَلْبِ، وَدَمْعِ الْعَيْنِ، وَاقْشِعْرَارِ الْجُسُومِ، فَهَذَا أَفْضَلُ الْأَحْوَالِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَأَمَّا الِاضْطِرَابُ الشَّدِيدُ وَالْغَشْيُ وَالْمَوْتُ وَالصَّيْحَاتُ، فَهَذَا إنْ كَانَ صَاحِبُهُ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ لَمْ يُلَمْ عَلَيْهِ، كَمَا قَدْ كَانَ يَكُونُ فِي التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَإِنَّ مَنْشَأَهُ قُوَّةُ الْوَارِدِ عَلَى الْقَلْبِ مَعَ ضَعْفِ الْقَلْبِ، وَالْقُوَّةُ وَالتَّمَكُّنُ أَفْضَلُ كَمَا هُوَ حَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ. وَأَمَّا السُّكُونُ قَسْوَةٌ وَجَفَاءٌ فَهَذَا مَذْمُومٌ لَا خَيْرَ فِيهِ. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ السَّمَاعِ فَالْمَشْرُوعُ الَّذِي تَصْلُحُ بِهِ الْقُلُوبُ وَيَكُونُ وَسِيلَتَهَا إلَى رَبِّهَا بِصِلَةِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا هُوَ سَمَاعُ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ سَمَاعُ خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» وَقَالَ: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» وَهُوَ السَّمَاعُ الْمَمْدُوحُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَكِنْ لَمَّا نَسِيَ بَعْضُ الْأُمَّةِ حَظًّا مِنْ هَذَا السَّمَاعِ الَّذِي ذُكِّرُوا بِهِ أُلْقِيَ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ، فَأَحْدَثَ قَوْمٌ سَمَاعَ الْقَصَائِدِ وَالتَّصْفِيقِ وَالْغِنَاءِ مُضَاهَاةً لِمَا ذَمَّهُ اللَّهُ مِنْ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ وَالْمُشَابَهَةِ لِمَا ابْتَدَعَهُ النَّصَارَى، وَقَابَلَهُمْ قَوْمٌ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ، وَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً مُضَاهَاةً لِمَا عَابَهُ اللَّهُ عَلَى الْيَهُودِ. وَالدِّينُ الْوَسَطُ هُوَ مَا عَلَيْهِ خِيَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مِنْ يَذْكُر فِي جَوْفِهِ إذَا صَلَّى بِسْمِ اللَّه بَابُنَا] 319 - 7 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ إذَا صَلَّى ذَكَرَ فِي جَوْفِهِ: " بِسْمِ اللَّه بَابُنَا، تَبَارَكَ حِيطَانُنَا، يس سَقْفُنَا ". فَقَالَ رَجُلٌ: هَذَا كُفْرٌ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى

مَا قَالَ هَذَا الْمُنْكَرَ رَدٌّ؟ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فَمَا حُكْمُ هَذَا الْقَوْلِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَيْسَ هَذَا كُفْرًا، فَإِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ وَأَمْثَالَهُ يُقْصَدُ بِهِ التَّحَصُّنُ وَالتَّحَرُّزُ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ، فَيَتَّقِي بِهَا مِنْ الشَّرِّ، كَمَا يَتَّقِي سَاكِنُ الْبَيْتِ بِالْبَيْتِ مِنْ الشَّرِّ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْعَدُوِّ. وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ الَّتِي قَامَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا فِي بَنِي إسْرَائِيلَ، قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ فَدَخَلَ حِصْنًا فَامْتَنَعَ بِهِ مِنْ الْعَدُوِّ» فَكَذَلِكَ ذِكْرُ اللَّهِ هُوَ حِصْنُ ابْنِ آدَمَ مِنْ الشَّيْطَانِ أَوْ كَمَا قَالَ. فَشَبَّهَ ذِكْرَ اللَّهِ فِي امْتِنَاعِ الْإِنْسَانِ بِهِ مِنْ الشَّيْطَانِ بِالْحِصْنِ الَّذِي يَمْتَنِعُ بِهِ مِنْ الْعَدُوِّ، وَالْحِصْنُ لَهُ بَابٌ وَسَقْفٌ وَحِيطَانٌ، وَنَحْوُ هَذَا أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَغَيْرُهُ تُسَمَّى جُنَّةً وَلِبَاسًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] . فِي أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ، وَكَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ: «خُذُوا جُنَّتَكُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ عَدُوٍّ حَضَرَ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ جُنَّتُكُمْ مِنْ النَّارِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ» وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَطِيبِ: " فَتَدَرَّعُوا جِنَنَ التَّقْوَى قَبْلَ جِنَنَ السَّابِرِيِّ وَفَوِّقُوا سِهَامَ الدُّعَاءِ قَبْلَ سِهَامِ الْقِسِيِّ ". وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ يُسَمَّى سُوَرًا، وَحِيطَانًا، وَدِرْعًا، وَجُنَّةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَلَكِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ الْمَسْئُولَ عَنْهُ لَيْسَ بِمَأْثُورٍ، وَالْمَشْرُوعُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدْعُوَ بِالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ، وَقَدْ نَهَانَا اللَّهُ عَنْ الِاعْتِدَاءِ فِيهِ، فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّبِعَ فِيهِ مَا شُرِعَ وَسُنَّ، كَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَنَا ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ،

مسألة تلاوة القرآن لمن يحفظه

وَاَلَّذِي يَعْدِلُ عَنْ الدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَحْزَابِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الْأَحْسَنُ لَهُ أَنْ لَا يَفُوتَهُ الْأَكْمَلُ الْأَفْضَلُ، وَهِيَ الْأَدْعِيَةُ النَّبَوِيَّةُ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَدْعِيَةِ الَّتِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَإِنْ قَالَهَا بَعْضُ الشُّيُوخِ، فَكَيْفَ يَكُونُ فِي عَيْنِ الْأَدْعِيَةِ مَا هُوَ خَطَأٌ أَوْ إثْمٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَمِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَيْبًا مَنْ يَتَّخِذُ حِزْبًا لَيْسَ بِمَأْثُورٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ حِزْبًا لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَيَدَعُ الْأَحْزَابَ النَّبَوِيَّةَ الَّتِي كَانَ يَقُولُهَا سَيِّدُ بَنِي آدَمَ، وَإِمَامُ الْخَلْقِ، وَحُجَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 320 - 8 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، هَلْ يَقْرَأُ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ مَرَّةً أَوْ ثَلَاثًا؟ وَمَا السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَهَا كَمَا فِي الْمُصْحَفِ مَرَّةً وَاحِدَةً، هَكَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ، لِئَلَّا يُزَادَ عَلَى مَا فِي الْمُصْحَفِ. وَأَمَّا إذَا قَرَأَهَا وَحْدَهَا، أَوْ مَعَ بَعْضِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ إذَا قَرَأَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَدَلَتْ الْقُرْآنَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تِلَاوَة الْقُرْآن لِمِنْ يحفظه] 321 - 9 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ لَهُ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّ النِّسْيَانَ أَوْ التَّسْبِيحُ وَمَا عَدَاهُ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ وَالْأَذْكَارِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، مَعَ عِلْمِهِ بِمَا وَرَدَ فِي الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، وَسَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَحْوِهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: فَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ جِنْسَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْأَذْكَارِ، كَمَا أَنَّ جِنْسَ الذِّكْرِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ النَّبِيِّ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ» . وَفِي التِّرْمِذِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ، فِي الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي فِي صَلَاتِي، قَالَ: قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ» . وَلِهَذَا كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبَةً، فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ لَا تَعْدِلُ عَنْهَا إلَى الذِّكْرِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ، وَالْبَدَلُ دُونَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ. وَأَيْضًا فَالْقِرَاءَةُ تُشْتَرَطُ لَهَا الطَّهَارَةُ الْكُبْرَى دُونَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ. وَمَا لَمْ يُشْرَعْ إلَّا عَلَى الْحَالِ الْأَكْمَلِ فَهُوَ أَفْضَلُ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا اُشْتُرِطَ لَهَا الطَّهَارَتَانِ كَانَتْ أَفْضَلَ مِنْ مُجَرَّدِ الْقِرَاءَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، اعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ» وَلِهَذَا نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ تَطَوُّعِ الْبَدَنِ الصَّلَاةُ. وَأَيْضًا: فَمَا يُكْتَبُ فِيهِ الْقُرْآنُ لَا يَمَسُّهُ إلَّا طَاهِرٌ، وَقَدْ حَكَى إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ أَفْضَلُ، لَكِنْ طَائِفَةٌ مِنْ الشُّيُوخِ رَجَّحُوا الذِّكْرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَرْجَحُ فِي حَقِّ الْمُنْتَهِي الْمُجْتَهِدِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ فِي كُتُبِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ أَرْجَحُ فِي حَقِّ الْمُبْتَدِئِ السَّالِكِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ. وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ يُذْكَرُ فِي الْأَصْلِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ الْمَفْضُولَ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهِ مَا يُصَيِّرُهُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا مَا هُوَ مَشْرُوعٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ. وَالثَّانِي: مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَمِثْلُ أَنْ يَقْتَرِنَ إمَّا بِزَمَانٍ، أَوْ بِمَكَانٍ، أَوْ عَمَلٍ يَكُونُ أَفْضَلَ، مِثْلَ مَا

بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَوْقَاتِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ وَالذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ أَفْضَلُ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْكِنَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا كَالْحَمَّامِ، وَأَعْطَانِ الْإِبِلِ، وَالْمَقْبَرَةِ، فَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ فِيهَا أَفْضَلُ، وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ الذِّكْرُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ، فَإِذَا كُرِهَ الْأَفْضَلُ فِي حَالِ حُصُولِ مَفْسَدَةٍ كَانَ الْمَفْضُولُ هُنَاكَ أَفْضَلَ بَلْ هُوَ الْمَشْرُوعُ. وَكَذَلِكَ حَالَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَتَنَازَعُوا فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، هُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَذَلِكَ تَشْرِيفًا لِلْقُرْآنِ، وَتَعْظِيمًا لَهُ أَنْ لَا يُقْرَأَ فِي حَالِ الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ، كَمَا كُرِهَ أَنْ يُقْرَأَ مَعَ الْجِنَازَةِ، وَكَمَا كَرِهَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ قِرَاءَتَهُ فِي الْحَمَّامِ. وَمَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ، هُوَ حَالُ الدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمْرِهِ. وَالدُّعَاءُ فِيهِ هُوَ أَفْضَلُ بَلْ هُوَ الْمَشْرُوعُ دُونَ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ، وَكَذَلِكَ بِالطَّوَافِ، وَبِعَرَفَةَ، وَمُزْدَلِفَةَ، وَعِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ. وَالْمَشْرُوعُ هُنَاكَ هُوَ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الطَّوَافِ: هَلْ تُكْرَهُ أَمْ لَا تُكْرَهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَاجِزًا عَنْ الْعَمَلِ الْأَفْضَلِ، إمَّا عَاجِزًا عَنْ أَصْلِهِ، كَمَنْ لَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَلَا يَسْتَطِيعُ حِفْظَهُ، كَالْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ عَاجِزًا عَنْ فِعْلِهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى فِعْلِ الْمَفْضُولِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ. وَمِنْ هُنَا قَالَ مَنْ قَالَ: إنَّ الذِّكْرَ أَفْضَلُ مِنْ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يُخْبِرُ عَنْ حَالِهِ، وَأَكْثَرُ السَّالِكِينَ، بَلْ الْعَارِفِينَ مِنْهُمْ إنَّمَا يُخْبِرُ أَحَدُهُمْ عَمَّا ذَاقَهُ وَوَجَدَهُ، لَا يَذْكُرُ أَمْرًا عَامًا لِلْخَلْقِ، إذْ الْمَعْرِفَةُ تَقْتَضِي أُمُورًا مُعَيَّنَةً جُزْئِيَّةً. وَالْعِلْمُ يَتَنَاوَلُ أَمْرًا عَامًّا كُلِّيًّا، فَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَجِدُ فِي الذِّكْرِ مِنْ اجْتِمَاعِ قَلْبِهِ، وَقُوَّةِ إيمَانِهِ، وَانْدِفَاعِ الْوَسْوَاسِ عَنْهُ، وَمَزِيدِ السَّكِينَةِ، وَالنُّورِ وَالْهُدَى، مَا لَا يَجِدُهُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، بَلْ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَا يَفْهَمُهُ، أَوْ

مسألة معنى الرضا

لَا يَحْضُرُ قَلْبُهُ وَفَهْمُهُ، وَيَلْعَبُ عَلَيْهِ الْوَسْوَاسُ وَالْفِكْرُ، كَمَا أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْتَمِعُ قَلْبُهُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَفَهْمِهِ وَتَدَبُّرِهِ مَا لَا يَجْتَمِعُ فِي الصَّلَاةِ، بَلْ يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ أَفْضَلَ يُشْرَعُ لِكُلِّ أَحَدٍ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يُشْرَعُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا هُوَ أَفْضَلُ لَهُ. فَمِنْ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ الصَّدَقَةُ أَفْضَلَ لَهُ مِنْ الصِّيَامِ وَبِالْعَكْسِ، وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الصَّدَقَةِ أَفْضَلَ، وَمِنْ النَّاسِ مِنْ يَكُونُ الْحَجُّ أَفْضَلَ لَهُ مِنْ الْجِهَادِ، كَالنِّسَاءِ، وَكَمَنْ يَعْجِزُ عَنْ الْجِهَادِ، وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الْجِهَادِ أَفْضَلَ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ» وَنَظَائِرُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ. إذَا عُرِفَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ عُرِفَ بِهِمَا جَوَابُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. إذَا عُرِفَ هَذَا، فَيُقَالُ الْأَذْكَارُ الْمَشْرُوعَةُ فِي أَوْقَاتٍ مُتَعَيِّنَةٍ مِثْلَ: مَا يُقَالُ عِنْدَ جَوَابِ الْمُؤَذِّنِ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَكَذَلِكَ مَا سَنَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يُقَالُ عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ، وَإِتْيَانِ الْمُضْطَجَعِ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ فَالْقِرَاءَةُ لَهُ أَفْضَلُ إذَا أَطَاقَهَا، وَإِلَّا فَلْيَعْمَلْ مَا يُطِيقُ، وَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْهُمَا، وَلِهَذَا نَقَلَهُمْ عِنْدَ نَسْخِ وُجُوبِ قِيَامِ اللَّيْلِ إلَى الْقِرَاءَةِ فَقَالَ: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] الْآيَةُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى الرِّضَا] 322 - 10 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَا ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْقُشَيْرِيُّ فِي بَابِ الرِّضَا، عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: الرِّضَا أَنْ لَا يَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَسْتَعِيذَ مِنْ النَّارِ، فَهَلْ هَذَا الْكَلَامُ صَحِيحٌ؟

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ ثُبُوتِهِ عَنْ الشَّيْخِ. وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ صِحَّتِهِ فِي نَفْسِهِ وَفَسَادِهِ. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأُسْتَاذَ أَبَا الْقَاسِمِ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ بِإِسْنَادٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مُرْسَلًا عَنْهُ، وَمَا يَذْكُرُهُ أَبُو الْقَاسِمِ فِي رِسَالَتِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ تَارَةً يَذْكُرُهُ بِإِسْنَادٍ، وَتَارَةً يُذْكَرُ مُرْسَلًا. وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ: وَقِيلَ كَذَا. ثُمَّ الَّذِي يَذْكُرُهُ بِالْإِسْنَادِ تَارَةً يَكُونُ إسْنَادُهُ صَحِيحًا، وَتَارَةً يَكُونُ ضَعِيفًا، بَلْ مَوْضُوعًا، وَمَا يَذْكُرُهُ مُرْسَلًا وَمَحْذُوفَ الْقَائِلِ أَوْلَى، وَهَذَا كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي مُصَنَّفَاتِ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ مَا هُوَ صَحِيحٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَعِيفٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَوْضُوعٌ، فَالْمَوْجُودُ فِي كُتُبِ الرَّقَائِقِ وَالتَّصَوُّفِ مِنْ الْآثَارِ الْمَنْقُولَةِ فِيهَا الصَّحِيحُ وَفِيهَا الضَّعِيفُ وَفِيهَا الْمَوْضُوعُ. وَهَذَا الْأَمْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، لَا يَتَنَازَعُونَ أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ فِيهَا هَذَا، وَفِيهَا هَذَا. بَلْ نَفْسُ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي التَّفْسِيرِ فِيهَا هَذَا، وَهَذَا، مَعَ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ أَقْرَبُ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَنْقُولَاتِ، وَفِي كُتُبِهِمْ هَذَا وَهَذَا، فَكَيْفَ غَيْرُهُمْ. وَالْمُصَنَّفُونَ قَدْ يَكُونُونَ أَئِمَّةً فِي الْفِقْهِ، أَوْ التَّصَوُّفِ، أَوْ الْحَدِيثِ، وَيَرْوُونَ هَذَا تَارَةً لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كَذِبٌ، وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الدِّينِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَحْتَجُّونَ بِمَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَذِبٌ، وَتَارَةً يَذْكُرُونَهُ، وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّهُ كَذِبٌ إذْ قَصْدُهُمْ رِوَايَةُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، وَرِوَايَةُ الْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ مَعَ بَيَانِ كَوْنِهَا كَذِبًا جَائِزٌ. وَأَمَّا رِوَايَتُهَا مَعَ الْإِمْسَاكِ عَنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ عَمَلٍ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي حَدِيثًا وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ» . وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، مُتَأَوِّلِينَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْذِبُوا، وَإِنَّمَا نَقَلُوا مَا رَوَاهُ غَيْرُهُمْ، وَهَذَا يَسْهُلُ إذَا رَوَوْهُ لِتَعْرِيفِ أَنَّهُ رُوِيَ، لَا لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ وَلَا الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَا يُوجَدُ فِي الرِّسَالَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ كُتُبِ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ، فِيهِ الصَّحِيحُ وَالضَّعِيفُ وَالْمَوْضُوعُ. فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِدْقِهِ. وَالْمَوْضُوعُ الَّذِي قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى كَذِبِهِ. وَالضَّعِيفُ الَّذِي رَوَاهُ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ صِدْقُهُ: إمَّا لِسُوءِ حِفْظِهِ، وَإِمَّا لِاتِّهَامِهِ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِيهِ، فَإِنَّ الْفَاسِقَ قَدْ يَصْدُقُ وَالْغَالِطُ قَدْ يَحْفَظُ. وَغَالِبُ أَبْوَابِ الرِّسَالَةِ فِيهَا الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ، وَمِنْ ذَلِكَ بَابُ الرِّضَا، فَإِنَّهُ ذَكَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا» . وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأُسْتَاذُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ مُسْلِمًا رَوَاهُ، لَكِنَّهُ رَوَاهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَذَكَرَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ حَدِيثًا ضَعِيفًا بَلْ مَوْضُوعًا، وَهُوَ حَدِيثُ جَابِرٍ الطَّوِيلُ، الَّذِي رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ عِيسَى الرَّقَاشِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَوَّلَ حَدِيثٍ ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ، فَإِنَّ حَدِيثَ الْفَضْلِ بْنِ عِيسَى مِنْ أَوْهَى الْأَحَادِيثِ وَأَسْقَطَهَا. وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا، وَلَا يُحْتَجُّ بِهَا، فَإِنَّ الضَّعْفَ ظَاهِرٌ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَعْتَمِدُ الْكَذِبَ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِمْ لِسُوءِ الْحِفْظِ لَا لِاعْتِمَادِ الْكَذِبِ، وَهَذَا الرَّقَاشِيُّ اتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِهِ، كَمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ أَئِمَّةُ هَذَا الشَّأْنِ، حَتَّى قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: " لَوْ وُلِدَ أَخْرَسُ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ "، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: " لَا شَيْءَ "، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ: " هُوَ ضَعِيفٌ "، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: " رَجُلُ سُوءٍ "، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ: " مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ". وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْآثَارِ فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ آثَارًا حَسَنَةً، بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ، مِثْلَ مَا رَوَاهُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا سَلَا الْعَبْدُ عَنْ الشَّهَوَاتِ فَهُوَ رَاضٍ» ، فَإِنَّ هَذَا رَوَاهُ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ بِإِسْنَادِهِ، وَالشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَتْ لَهُ عِنَايَةٌ بِجَمْعِ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ وَحِكَايَاتِهِمْ، وَصَنَّفَ فِي الْأَسْمَاءِ كِتَابَ " طَبَقَاتُ الصُّوفِيَّةِ ". وَكِتَابِ زُهَّادِ السَّلَفِ "، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَصَنَّفَ فِي الْأَبْوَابِ كِتَابَ " مَقَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ "، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَمُصَنَّفَاتُهُ تَشْتَمِلُ عَلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ.

وَذَكَرَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت النَّصْرَ آبَادِي يَقُولُ: " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْلُغَ مَحَلَّ الرِّضَا فَلْيَلْزَمْ مَا جَعَلَ اللَّهُ رِضَاهُ فِيهِ "، فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، فَإِنَّهُ مَنْ لَزِمَ مَا يُرْضِي اللَّهَ مِنْ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ لَا سِيَّمَا إذَا قَامَ بِوَاجِبِهَا وَمُسْتَحَبِّهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَرْضَى عَنْهُ، كَمَا أَنَّ مَنْ لَزِمَ مَحْبُوبَاتِ الْحَقِّ أَحَبَّهُ اللَّهُ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدٌ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته» الْحَدِيثَ. وَذَلِكَ أَنَّ الرِّضَا نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الرِّضَا بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَيَتَنَاوَلُ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ إلَى الْمَحْظُورِ كَمَا قَالَ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] . وَهَذَا الرِّضَا وَاجِبٌ، وَلِهَذَا ذُمَّ مَنْ تَرَكَهُ بِقَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] . وَالنَّوْعُ الثَّانِي: الرِّضَا بِالْمَصَائِبِ، كَالْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَالذُّلِّ، فَهَذَا الرِّضَا مُسْتَحَبٌّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ وَاجِبٌ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الصَّبْرُ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ: " الرِّضَا غَرِيزَةٌ، وَلَكِنَّ الصَّبْرَ مِعْوَلُ الْمُؤْمِنِ "، وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَعْمَلَ بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِينِ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا» . وَأَمَّا الرِّضَا بِالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، فَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الدِّينِ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَاهُ كَمَا قَالَ: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] . وَقَالَ: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]

، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 96] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] . وَقَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ} [التوبة: 68] . وَقَالَ تَعَالَى: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 80] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] . فَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَرْضَى لَهُمْ مَا عَمِلُوهُ، بَلْ يَسْخَطُهُ ذَلِكَ وَهُوَ يَسْخَطُ عَلَيْهِمْ وَيَغْضَبُ عَلَيْهِمْ، فَكَيْفَ يُشْرَعُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَرْضَى ذَلِكَ وَأَنْ لَا يَسْخَطَ وَيَغْضَبَ لِمَا يُسْخِطُ اللَّهَ وَيُغْضِبُهُ. وَإِنَّمَا ضَلَّ هُنَا فَرِيقَانِ مِنْ النَّاسِ: قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ فِي مُنَاظَرَةِ الْقَدَرِيَّةِ، ظَنُّوا أَنَّ مَحَبَّةَ الْحَقِّ وَرِضَاهُ وَغَضَبَهُ وَسَخَطَهُ يَرْجِعُ إلَى إرَادَتِهِ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ مُرِيدٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ. وَقَالُوا: " هُوَ أَيْضًا مُحِبٌّ لَهَا، مُرِيدٌ لَهَا "، ثُمَّ أَخَذُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، فَقَالُوا: " لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ "، بِمَعْنَى لَا يُرِيدُ الْفَسَادَ، أَيْ لَا يُرِيدُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ " وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ "، أَيْ لَا يُرِيدُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّ هَذَا عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: لَا يُحِبُّ الْإِيمَانَ، وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْإِيمَانَ أَيْ لَا يُرِيدُهُ لِلْكَافِرِينَ وَلَا يَرْضَاهُ لِلْكَافِرِينَ. وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا يُحِبُّهُ. ثُمَّ قَدْ

يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ وَاجِبًا، وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، سَوَاءٌ فَعَلَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ، وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي: مِنْ غَالِطِي الْمُتَصَوِّفَةِ، شَرِبُوا مِنْ هَذِهِ الْعَيْنِ، فَشَهِدُوا أَنَّ اللَّهَ رَبُّ الْكَائِنَاتِ جَمِيعًا، وَعَلِمُوا أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَشَاءَهُ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا يَكُونُوا رَاضِينَ حَتَّى يَرْضَوْا بِكُلِّ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَقْضِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: " الْمَحَبَّةُ نَارٌ تُحْرِقُ مِنْ الْقَلْبِ كُلَّ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ ". قَالُوا: " وَالْكَوْنُ كُلُّهُ مُرَادُ الْمَحْبُوبِ ". وَضَلَّ هَؤُلَاءِ ضَلَالًا عَظِيمًا، حَيْثُ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ، وَالْإِذْنِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ، وَالْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ، وَالْبَعْثِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ، وَالْإِرْسَالِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ، كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهَؤُلَاءِ يَئُولُ الْأَمْرُ بِهِمْ إلَى أَنْ لَا يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ. وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ، وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُتَّقِينَ، وَيَجْعَلُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، وَيَجْعَلُونَ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ وَيَجْعَلُونَ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، وَيُعَطِّلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَالشَّرَائِعَ، وَرُبَّمَا سَمَّوْا هَذِهِ حَقِيقَةً، وَلَعَمْرِي أَنَّهُ حَقِيقَةٌ كَوْنِيَّةٌ، لَكِنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ قَدْ عَرَفَهَا عُبَّادُ الْأَصْنَامِ، كَمَا قَالَ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 84] {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 85] . الْآيَاتُ. فَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، فَمَنْ كَانَ هَذَا مُنْتَهَى تَحْقِيقِهِ كَانَ أَقْرَبَ أَنْ يَكُونَ كَعُبَّادِ الْأَصْنَامِ. وَالْمُؤْمِنُ إنَّمَا فَارَقَ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ، وَبِتَصْدِيقِهِمْ فِيمَا أَخْبَرُوا وَطَاعَتُهُمْ فِيمَا أَمَرُوا، وَاتِّبَاعُ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَيُحِبُّهُ، دُونَ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَقْضِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَلَكِنْ يَرْضَى بِمَا أَصَابَهُ مِنْ الْمَصَائِبِ، لَا بِمَا فَعَلَهُ مِنْ الْمَعَائِبِ. فَهُوَ مِنْ الذُّنُوبِ يَسْتَغْفِرُ، وَعَلَى الْمَصَائِبِ يَصْبِرُ، فَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55]

فَيَجْمَعُ بَيْنَ طَاعَةِ الْأَمْرِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186] . وَقَالَ يُوسُفُ: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ عَنْ النَّصْرِ آبَادِي مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ، حَيْثُ قَالَ: " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْلُغَ مَحَلَّ الرِّضَا فَلْيَلْزَمْ مَا جَعَلَ اللَّهُ رِضَاهُ فِيهِ "، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ: " إذَا سَلَا الْعَبْدُ عَنْ الشَّهَوَاتِ فَهُوَ رَاضٍ "، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يَمْنَعُهُ مِنْ الرِّضَا وَالْقَنَاعَةِ طَلَبُ نَفْسِهِ لِفُضُولِ شَهَوَاتِهَا، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ سَخَطَ، فَإِذَا سَلَا عَنْ شَهَوَاتِ نَفْسِهِ رَضِيَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ الرِّزْقِ. وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ، عَنْ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أَنَّهُ قَالَ، لِبِشْرٍ الْحَافِي: " الرِّضَا أَفْضَلُ مِنْ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ الرَّاضِيَ لَا يَتَمَنَّى فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ "، كَلَامٌ حَسَنٌ، لَكِنْ أَشُكُّ فِي سَمَاعِ بِشْرٍ الْحَافِي مِنْ الْفُضَيْلِ. وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مُعَلَّقًا قَالَ: " قَالَ الشِّبْلِيُّ بَيْنَ يَدَيْ الْجُنَيْدِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، فَقَالَ: الْجُنَيْدُ: قَوْلُك ذَا ضَيِّقُ الصَّدْرِ، وَضِيقُ الصَّدْرِ لِتَرْكِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، " فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ. وَكَانَ الْجُنَيْدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَيِّدَ الطَّائِفَةِ وَمِنْ أَحْسَنِهِمْ تَعْلِيمًا وَتَأْدِيبًا وَتَقْوِيمًا. وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَلِمَةُ اسْتِعَانَةٍ لَا كَلِمَةُ اسْتِرْجَاعٍ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُهَا عِنْدَ الْمَصَائِبِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِرْجَاعِ، وَيَقُولُهَا جَزَعًا لَا صَبْرًا، فَالْجُنَيْدُ أَنْكَرَ عَلَى الشِّبْلِيِّ فِي سَبَبِ قَوْلِهِ لَهَا، إذْ كَانَتْ حَالًا يُنَافِي الرِّضَا، وَلَوْ قَالَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ. وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ آثَارٌ ضَعِيفَةٌ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ مُعَلَّقًا قَالَ: " وَقِيلَ: قَالَ مُوسَى: إلَهِي دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إذَا عَمِلْته رَضِيت عَنِّي، فَقَالَ: إنَّك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَخَرَّ مُوسَى سَاجِدًا

مُتَضَرِّعًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ: يَا بْنَ عِمْرَانَ رِضَائِي فِي رِضَاك عَنِّي ". فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ الْإِسْرَائِيلِيَّة فِيهَا نَظَرٌ، فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: لَا يَصْلُحُ أَنْ يُحْكَى مِثْلُهَا عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْإِسْرَائِيلِيَّات لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ، وَلَا يَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ إلَّا إذَا كَانَتْ مَنْقُولَةً لَنَا نَقْلًا صَحِيحًا، مِثْلَ مَا ثَبَتَ عَنْ نَبِيِّنَا أَنَّهُ حَدَّثَنَا بِهِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَلَكِنْ مِنْهُ مَا يُعْلَمُ كَذِبُهُ مِثْلَ هَذِهِ، فَإِنَّ مُوسَى مِنْ أَعْظَمِ أُولِي الْعَزْمِ وَأَكَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّهُ لَا يُطِيقُ أَنْ يَعْمَلَ مَا يَرْضَى اللَّهُ بِهِ عَنْهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى رَاضٍ عَنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ، أَفَلَا يَرْضَى عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ. كَلِيمِ الرَّحْمَنِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ - جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 7 - 8] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ أَفْضَلِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ مُوسَى بِمَزِيَّةٍ فَوْقَ الرِّضَا حَيْثُ قَالَ: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] . ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ فِي الْخِطَابِ: (يَا ابْنَ عُمْرَانِ) مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنْ خِطَابِهِ فِي الْقُرْآنِ حَيْثُ قَالَ: {يَا مُوسَى} [طه: 36] . وَذَلِكَ الْخِطَابُ فِيهِ نَوْعُ غَضٍّ مِنْهُ كَمَا يَظْهَرُ. وَمِثْلُ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ قِيلَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الرِّضَا، فَإِنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَرْضَى وَإِلَّا فَاصْبِرْ، فَهَذَا الْكَلَامُ كَلَامٌ حَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ إسْنَادُهُ. وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ فِيمَا ذَكَرَهُ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا وَمُعَلَّقًا مَا هُوَ صَحِيحٌ وَغَيْرُهُ، فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ إلَّا مُرْسَلَةً. وَبِمِثْلِ ذَلِكَ لَا تَثْبُتُ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ، فَهَذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْمُرْسَلَ هُوَ

مِثْلُ الضَّعِيفِ وَغَيْرُ الضَّعِيفِ، فَأَمَّا إذَا عَرَفَ ذَلِكَ فَلَا يَبْقَى حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، كَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَارَةً يَحْفَظُ الْإِسْنَادَ، وَتَارَةً يَغْلَطُ فِيهِ. وَالْكُتُبُ الْمُسْنَدَةُ فِي أَخْبَارِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ وَكَلَامِهِمْ، مِثْلُ كِتَابِ " حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ " لِأَبِي نُعَيْمٍ، " وَطَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ " لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، " وَصِفَةِ الصَّفْوَةِ " لِابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ لَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ، أَلَا تَرَى الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ مُسْنَدًا حَيْثُ قَالَ: " قَالَ لِأَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ: يَا أَحْمَدُ، لَقَدْ أُوتِيت مِنْ الرِّضَا نَصِيبًا لَوْ أَلْقَانِي فِي النَّارِ لَكُنْت بِذَلِكَ رَاضِيًا، فَهَذَا الْكَلَامُ مَأْثُورٌ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ بِالْإِسْنَادِ، وَلِهَذَا أَسْنَدَهُ عَنْهُ الْقُشَيْرِيُّ مِنْ طَرِيقِ شَيْخِهِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُسْنَدْ عَنْهُ، فَلَا أَصْلَ لَهَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ ". ثُمَّ إنَّ الْقُشَيْرِيَّ قَرَنَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الثَّانِيَةَ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ بِكَلِمَةٍ أَحْسَنَ مِنْهَا، فَإِنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَرْوِيَهَا قَالَ: " وَسُئِلَ أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَسْأَلُك الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَا» فَقَالَ: لِأَنَّ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَا هُوَ الرِّضَا "، فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو عُثْمَانَ كَلَامٌ حَسَنٌ سَدِيدٌ. ثُمَّ أَسْنَدَ بَعْدَ هَذَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: " أَرْجُو أَنْ أَكُونَ قَدْ عَرَفْت طُرُقًا مِنْ الرِّضَا، لَوْ أَنَّهُ أَدْخَلَنِي النَّارَ لَكُنْت بِذَلِكَ رَاضِيًا ". فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ لَيْسَ هُوَ رِضًا، وَإِنَّمَا هُوَ عَزْمٌ عَلَى الرِّضَا، وَإِنَّمَا الرِّضَا مَا يَكُونُ بَعْدَ الْقَضَا. وَإِنْ كَانَ هَذَا عَزْمًا، فَالْعَزْمُ قَدْ يَدُومُ، وَقَدْ يَنْفَسِخُ، وَمَا أَكْثَرَ انْفِسَاخِ الْعَزَائِمِ، خُصُوصًا عَزَائِمُ الصُّوفِيَّةِ، وَلِهَذَا قِيلَ لِبَعْضِهِمْ: " بِمَاذَا عَرَفْت رَبَّك، قَالَ: بِفَسْخِ الْعَزَائِمِ فِي بَعْضِ الْهِمَمِ ". وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] .

وَفِي التِّرْمِذِيِّ: أَنَّ «بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ عَلِمْنَا أَيَّ الْعَمَلِ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء: 77] » الْآيَةَ. فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى الْجِهَادِ وَأَحَبُّوهُ، فَلَمَّا اُبْتُلُوا بِهِ كَرِهُوهُ، وَفَرُّوا مِنْهُ، وَأَيْنَ أَلَمُ الْجِهَادِ مِنْ أَلَمِ النَّارِ وَعَذَابِ اللَّهِ الَّذِي لَا طَاقَةَ لِأَحَدٍ بِهِ. وَمِثْلُ هَذَا مَا يَذْكُرُونَهُ عَنْ سَمْنُونٍ الْمُحِبِّ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: وَلَيْسَ لِي فِي سِوَاك حَظٌّ ... فَكَيْفَمَا شِئْت فَاخْتَبِرْنِي فَأَخَذَ الْأَسْرُ مِنْ سَاعَتِهِ، أَيْ حُصِرَ بَوْلُهُ، فَكَانَ يَدُورُ عَلَى الْمَكَاتِبِ، وَيُفَرِّقُ الْجَوْزَ عَلَى الصِّبْيَانِ، وَيَقُولُ: اُدْعُوَا لِعَمِّكُمْ الْكَذَّابِ. وَحَكَى أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْوَاسِطِيُّ، أَنَّهُ قَالَ سَمْنُونٌ: يَا رَبِّ قَدْ رَضِيت بِكُلِّ مَا تَقْضِيهِ عَلَيَّ، فَاحْتَبَسَ بَوْلُهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَكَانَ يَتَلَوَّى كَمَا تَتَلَوَّى الْحَيَّةُ، يَتَلَوَّى يَمِينًا وَشِمَالًا، فَلَمَّا أُطْلِقَ بَوْلُهُ قَالَ: رَبِّ قَدْ تُبْت إلَيْك. قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فَهَذَا الرِّضَا الَّذِي ادَّعَى سَمْنُونٌ، ظَهَرَ غَلَطُهُ فِيهِ بِأَدْنَى بَلْوَى، مَعَ أَنَّ سَمْنُونًا هَذَا كَانَ يُضْرَبُ بِهِ الْمِثْلُ، وَلَهُ فِي الْمَحَبَّةِ مَقَامٌ مَشْهُورٌ. حَتَّى رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ فَاتِكٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْت سَمْنُونًا يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَجَاءَ طَائِرٌ صَغِيرٌ فَلَمْ يَزَلْ يَدْنُو مِنْهُ حَتَّى جَلَسَ عَلَى يَدِهِ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَضْرِبُ بِمِنْقَارِهِ الْأَرْضَ حَتَّى سَقَطَ مِنْهُ دَمٌ، وَمَاتَ الطَّائِرُ. قَالَ: رَأَيْته يَوْمًا يَتَكَلَّمُ فِي الْمَحَبَّةِ، فَاصْطَفَقَتْ قَنَادِيلُ الْمَسْجِدِ وَكَسَرَ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقَدْ ذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ فِي بَابِ الرِّضَا عَنْ رُوَيْمٍ الْمُقْرِي رَفِيقِ سَمْنُونٍ حِكَايَةً تُنَاسِبُ هَذَا حَيْثُ قَالَ: قَالَ رُوَيْمٌ: إنَّ الرِّضَا لَوْ جَعَلَ جَهَنَّمَ عَنْ يَمِينِهِ مَا سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُحَوِّلَهَا عَنْ يَسَارِهِ، فَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَ سَمْنُونٍ: " فَكَيْفَ مَا شِئْت فَامْتَحِنِّي ". وَإِذَا لَمْ يُطِقْ الصَّبْرَ عَلَى عُسْرِ الْبَوْلِ فَيُطِيقُ أَنْ تَكُونَ النَّارُ عَنْ يَمِينِهِ.

وَالْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ كَانَ أَعْلَى طَبَقَةً مِنْ هَؤُلَاءِ، وَابْتُلِيَ بِعُسْرِ الْبَوْلِ فَغَلَبَهُ الْأَلَمُ حَتَّى قَالَ: بِحُبِّي لَك أَلَا فَرَّجْت عَنِّي، فَفُرِّجَ عَنْهُ. وَرُوَيْمٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ رُفَقَاءِ الْجُنَيْدِ، فَلَيْسَ هُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ، بَلْ الصُّوفِيَّةُ يَقُولُونَ إنَّهُ رَجَعَ إلَى الدُّنْيَا، وَتَرَكَ التَّصَوُّفَ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ جَعْفَرٍ الْخُلْدِيِّ صَاحِبِ الْجُنَيْدِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَكَتَّمَ سِرًّا فَلْيَفْعَلْ كَمَا فَعَلَ رُوَيْمٌ، كَتَمَ حُبَّ الدُّنْيَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقِيلَ: وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ؟ قَالَ: وَلِيَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي قَضَاءَ بَغْدَادَ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا مَوَدَّةٌ أَكِيدَةٌ فَجَذَبَهُ إلَيْهِ، وَجَعَلَهُ وَكِيلًا عَلَى بَابِهِ، فَتَرَكَ لُبْسَ التَّصَوُّفِ، وَلَبِسَ الْخَزَّ وَالْقَصَبَ وَالدَّيْبَقَى، وَأَكَلَ الطَّيِّبَاتِ وَبَنَى الدُّورَ، وَإِذَا هُوَ كَانَ يَكْتُمُ حُبَّ الدُّنْيَا مَا لَمْ يَجِدْهَا، فَلَمَّا وَجَدَهَا ظَهَرَ مَا كَانَ يَكْتُمُ مِنْ حُبِّهَا. هَذَا مَعَ أَنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ لَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَكَانَ عَلَى مَذْهَبِ دَاوُد. وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْ صَاحِبِ حَالٍ، لَمْ يُفَكِّرْ فِي لَوَازِمِ أَقْوَالِهِ وَعَوَاقِبِهَا، لَا تَجْعَلُ طَرِيقَةً وَلَا تَتَّخِذُ سَبِيلًا، وَلَكِنْ قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَا لِصَاحِبِهَا مِنْ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَا مَعَهُ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي مَعْرِفَةِ حُقُوقِ الطَّرِيقِ، وَمَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ مِنْ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ، وَالرُّسُلُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَعْلَمُ بِطَرِيقِ سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَهْدَى وَأَنْصَحُ، فَمَنْ خَرَجَ عَنْ سُنَّتِهِمْ وَسَبِيلِهِمْ كَانَ مَنْقُوصًا مُخْطِئًا مَحْرُومًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ كَافِرًا. وَيُشْبِهُ هَذَا «الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَرِيضٌ كَالْفَرْخِ، فَقَالَ: هَلْ كُنْت تَدْعُو اللَّهَ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: كُنْت أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْت مُعَذِّبُنِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَاجْعَلْهُ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ لَا تَسْتَطِيعُهُ وَلَا تُطِيقُهُ، هَلَّا قُلْت: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] » . فَهَذَا أَيْضًا حَمَلَهُ خَوْفُهُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمَحَبَّتُهُ لِسَلَامَةِ عَاقِبَتِهِ، عَلَى أَنْ يَطْلُبَ تَعْجِيلَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَكَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ غَالِطًا. وَالْخَطَأُ وَالْغَلَطُ مَعَ حُسْنِ الْقَصْدِ وَسَلَامَتِهِ، وَصَلَاحِ الرَّجُلِ وَفَضْلِهِ، وَدِينِهِ وَزُهْدِهِ، وَوَرَعِهِ وَكَرَامَاتِهِ، كَثِيرٌ جِدًّا، فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ وَلِيِّ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا مِنْ

الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ، بَلْ وَلَا مِنْ الذُّنُوبِ، وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ بَعْدَ الرُّسُلِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لَهُ لَمَّا عَبَّرَ الرُّؤْيَا: «أَصَبْت بَعْضًا وَأَخْطَأْت بَعْضًا» . وَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ أَبَا سُلَيْمَانَ لَمَّا قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ: لَوْ أَلْقَانِي فِي النَّارِ لَكُنْت بِذَلِكَ رَاضِيًا، أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النَّاسِ حَكَاهُ بِمَا فَهِمَهُ مِنْ الْمَعْنَى أَنَّهُ قَالَ: الرِّضَا أَنْ لَا تَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَا تَسْتَعِيذَهُ مِنْ النَّارِ. وَتِلْكَ الْكَلِمَةُ الَّتِي قَالَهَا أَبُو سُلَيْمَانَ، مَعَ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ تَدُلُّ عَلَى عَزْمِهِ بِالرِّضَا بِذَلِكَ، فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَزْمَ لَا يَسْتَمِرُّ، بَلْ يَنْفَسِخُ، وَأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَانَ تَرْكُهَا أَحْسَنَ مِنْ قَوْلِهَا، وَأَنَّهَا مُسْتَدْرَكَةٌ، كَمَا اسْتَدْرَكَتْ دَعْوَى سَمْنُونٍ، وَرُوَيْمٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنَّ بَيْنَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَتِلْكَ فَرْقًا عَظِيمًا، فَإِنَّ تِلْكَ الْكَلِمَةَ مَضْمُونُهَا أَنَّ مَنْ سَأَلَ الْجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ مِنْ النَّارِ لَا يَكُونُ رَاضِيًا. وَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ: أَنَا إذْ أَفْعَلُ كَذَا كُنْت رَاضِيًا، وَبَيْنَ مَنْ يَقُولُ: لَا يَكُونُ رَاضِيًا إلَّا مَنْ لَا يَطْلُبُ خَيْرًا، وَلَا يَهْرُبُ مِنْ شَرٍّ. وَبِهَذَا وَغَيْرِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا سُلَيْمَانَ كَانَ أَجَلَّ مِنْ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ، فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا سُلَيْمَانَ مِنْ أَجِلَّاءِ الْمَشَايِخِ وَسَادَاتِهِمْ، وَمِنْ أَتْبَعِهِمْ لِلشَّرِيعَةِ، حَتَّى إنَّهُ قَالَ: " إنَّهُ لَيَمُرُّ بِقَلْبِيِّ النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ "، فَمَنْ لَا يَقْبَلُ نُكَتَ قَلْبِهِ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ؟ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَيْضًا: لَيْسَ لِمَنْ أُلْهِمَ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ أَنْ يَفْعَلَهُ حَتَّى يَسْمَعَ فِيهِ بِأَثَرٍ، فَإِذَا سَمِعَ فِيهِ بِأَثَرٍ كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ، بَلْ صَاحِبُهُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيُّ كَانَ مِنْ أَتْبَعْ الْمَشَايِخِ لِلسُّنَّةِ، فَكَيْفَ أَبُو سُلَيْمَانَ. وَتَمَامُ تَزْكِيَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَظْهَرُ بِالْكَلَامِ فِي الْمَقَامِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ كَائِنًا مَنْ كَانَ: " الرِّضَا أَنْ لَا تَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَا تَسْتَعِيذَهُ مِنْ النَّارِ ". وَتَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ مُقَدِّمَةٌ تَبَيَّنَ بِهَا أَصْلُ مَا وَقَعَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالِاضْطِرَابِ.

وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ، وَالْمُتَصَوِّفَةِ، وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَغَيْرِهِمْ، ظَنُّوا أَنَّ الْجَنَّةَ التَّنَعُّمَ بِالْمَخْلُوقِ، مِنْ أَكْلٍ، وَشُرْبٍ، وَنِكَاحٍ، وَلِبَاسٍ، وَسَمَاعِ أَصْوَاتٍ طَيِّبَةٍ، وَشْمِ رَوَائِحَ طَيِّبَةٍ، وَلَمْ يُدْخِلُوا فِي مُسَمَّى الْجَنَّةِ نَعِيمًا غَيْرَ ذَلِكَ، ثُمَّ صَارُوا ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ، كَمَا ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الْجَهْمِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرُهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَقَرَّ بِالرُّؤْيَةِ إمَّا الرُّؤْيَةُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَإِمَّا بِرُؤْيَةٍ فَسَّرُوهَا بِزِيَادَةِ كَشْفٍ أَوْ عِلْمٍ، أَوْ جَعَلَهَا بِحَاسَّةٍ سَادِسَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَهَبَ إلَيْهَا ضِرَارُ بْنُ عَمْرٍو، وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى نَصْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ، وَإِنْ كَانَ مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ جِنْسِ مَا تَنْفِيهِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالضَّرَارِيَّةُ. وَالنِّزَاعُ بَيْنَهُمْ لَفْظِيٌّ، وَنِزَاعُهُمْ مَعَ أَهْلِ السُّنَّةِ مَعْنَوِيٌّ. وَلِهَذَا كَانَ بِشْرٌ وَأَمْثَالُهُ يُفَسِّرُونَ الرُّؤْيَةَ بِنَحْوٍ مِنْ تَفْسِيرِ هَؤُلَاءِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مُثْبِتَةَ الرُّؤْيَةِ مِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ يُنَعَّمُ بِنَفْسِ رُؤْيَتِهِ رَبَّهُ. قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْمُحْدَثِ وَالْقَدِيمِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ فِي الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ، وَكَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْوَفَا بْنُ عَقِيلٍ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ، وَنَقَلُوا عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: أَسْأَلُك لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك. فَقَالَ: يَا هَذَا هَبْ أَنَّ لَهُ وَجْهًا. أَلَهُ وَجْهٌ يُتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ، وَذَكَرَ أَبُو الْمَعَالِي أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لَهُمْ نَعِيمًا بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ مُقَارِنًا لِلرُّؤْيَةِ، فَأَمَّا النَّعِيمُ بِنَفْسِ الرُّؤْيَةِ فَأَنْكَرَهُ، وَجَعَلَ هَذَا مِنْ أَسْرَارِ التَّوْحِيدِ. وَأَكْثَرُ مُثْبَتِي الرُّؤْيَةِ يُثْبِتُونَ تَنَعُّمَ الْمُؤْمِنِينَ بِرُؤْيَةِ رَبِّهِمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَمَشَايِخِ الطَّرِيقِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي النَّسَائِيّ وَغَيْرِهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ بِعِلْمِك الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِك عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي إذَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَشْيَتَك فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُك كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَأَسْأَلُك الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُك نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُك الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَا، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُك لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك، وَأَسْأَلُك الشَّوْقَ إلَى لِقَائِك مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ

مُضِرَّةً، وَلَا فِتْنَةً مُضِلَّةً، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ صُهَيْبٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ. فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا، وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَيُجِرْنَا مِنْ النَّارِ، قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ. فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ» . وَكُلَّمَا كَانَ الشَّيْءُ أَحَبَّ، كَانَتْ اللَّذَّةُ بِنَيْلِهِ أَعْظَمَ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَمَشَايِخِ الطَّرِيقِ. كَمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ عَلِمَ الْعَابِدُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ لَذَابَتْ نُفُوسُهُمْ فِي الدُّنْيَا شَوْقًا إلَيْهِ ". وَكَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَافَقُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ وَالْمَشَايِخَ عَلَى التَّنَعُّمِ بِالنَّظَرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، تَنَازَعُوا فِي مَسْأَلَةِ الْمَحَبَّةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ ذَلِكَ، فَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا الْمَحَبَّةُ مَحَبَّةُ طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَقَالُوا: هُوَ أَيْضًا لَا يُحِبُّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا مَحَبَّتُهُ إرَادَتُهُ لِلْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَوِلَايَتُهُمْ، وَدَخَلَ فِي هَذَا الْقَوْلِ مَنْ انْتَسَبَ إلَى نَصْرِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، حَتَّى وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَأَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ، وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ. وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ شُعْبَةٌ مِنْ التَّجَهُّمِ وَالِاعْتِزَالِ، فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَنْكَرَ الْمَحَبَّةَ فِي الْإِسْلَامِ: الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ أُسْتَاذُ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ، فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسَرِيُّ، وَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ، فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ ". فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمُ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَمَشَايِخُ

الطَّرِيقِ، أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ وَيُحَبُّ، وَلِهَذَا وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَنْ تَصَوَّفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، كَأَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ، وَأَمْثَالِهِمَا، وَنَصَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ فِي الْإِحْيَاءِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ أَبُو الْقَاسِمِ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الرِّسَالَةِ عَلَى طَرِيقِ الصُّوفِيَّةِ، كَمَا فِي كِتَابِ أَبِي طَالِبٍ الْمُسَمَّى " بِقُوتِ الْقُلُوبِ ". وَأَبُو حَامِدٍ مَعَ كَوْنِهِ تَابَعَ فِي ذَلِكَ الصُّوفِيَّةُ، اسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ لِمَا وَجَدَهُ مِنْ كُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ إثْبَاتِ نَحْوِ ذَلِكَ حَيْثُ قَالُوا: يَعْشِقُ وَيُعْشَقُ. وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْعَظِيمَةِ فِي الْقَوَاعِدِ الْكِبَارِ بِمَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] . وَقَالَ: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 24] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَجَهِّمَةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ، يَلْزَمُهُمْ أَنْ يُنْكِرُوا التَّلَذُّذَ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ، وَلِهَذَا لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ إلَّا التَّنَعُّمُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَمَشَايِخِهَا، فَهَذَا أَحَدُ الْحِزْبَيْنِ الْغَالِطَيْنِ. وَالْحِزْبُ الثَّانِي: طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ، وَالْمُتَفَقِّرَةِ، وَالْمُتَبَتِّلَةِ وَافَقُوا هَؤُلَاءِ عَلَى

أَنَّ الْمَحَبَّةَ لَيْسَتْ إلَّا هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي يَتَنَعَّمُ فِيهَا الْمَخْلُوقُ، وَلَكِنْ وَافَقُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ عَلَى إثْبَاتِ رُؤْيَةِ اللَّهِ، وَالتَّنَعُّمِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ، وَأَضَافُوا مِنْ ذَلِكَ، وَجَعَلُوا يَطْلُبُونَ هَذَا النَّعِيمَ وَتَسْمُو إلَيْهِ هِمَّتُهُمْ، وَيَخَافُونَ فَوْتَهُ، وَصَارَ أَحَدُهُمْ يَقُولُ: " مَا عَبَّدْتُك شَوْقًا إلَى جَنَّتِك أَوْ خَوْفًا مِنْ نَارِك، وَلَكِنْ لِأَنْظُرَ إلَيْك وَإِجْلَالًا لَك ". وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مَقْصُودُهُمْ بِذَلِكَ هُوَ أَعْلَى مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالتَّمَتُّعِ بِالْمَخْلُوقِ، لَكِنْ غَلِطُوا فِي إخْرَاجِ ذَلِكَ مِنْ الْجَنَّةِ. وَقَدْ يَغْلَطُونَ أَيْضًا فِي ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِلَا حَظٍّ وَلَا إرَادَةٍ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ فَهُوَ حَظُّ النَّفْسِ، وَتَوَهَّمُوا أَنَّ الْبَشَرَ يَعْمَلُ بِلَا إرَادَةٍ وَلَا مَطْلُوبٍ وَلَا مَحْبُوبٍ، وَمِنْ سُوءِ مَعْرِفَةٍ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَالْآخِرَةِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ هِمَّةَ أَحَدِهِمْ الْمُتَعَلِّقَةَ بِمَطْلُوبِهِ وَمَحْبُوبِهِ وَمَعْبُودِهِ تَنْفِيهِ عَنْ نَفْسِهِ، حَتَّى لَا يَشْعُرَ بِنَفْسِهِ وَإِرَادَتِهَا، فَيَظُنُّ أَنَّهُ يَفْعَلُ لِغَيْرِ مُرَادِهِ، وَاَلَّذِي طَلَبَ وَعَلَّقَ بِهِ هِمَّتَهُ غَايَةَ مُرَادِهِ وَمَطْلُوبِهِ وَمَحْبُوبِهِ، وَهَذَا كَحَالِ كَثِيرٍ مِنْ الصَّالِحِينَ وَالصَّادِقِينَ، وَأَرْبَابُ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ، يَكُونُ لِأَحَدِهِمْ وَجْدٌ صَحِيحٌ، وَذَوْقٌ سَلِيمٌ، لَكِنْ لَيْسَ لَهُ عِبَارَةٌ تُبَيِّنُ كَلَامَهُ، فَيَقَعُ فِي كَلَامِهِ غَلَطٌ وَسُوءُ أَدَبٍ، مَعَ صِحَّةِ مَقْصُودِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ فِي مُرَادِهِ وَاعْتِقَادِهِ. فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ إذَا عَنَوْا بِهِ طَلَبَ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَصَابُوا فِي ذَلِكَ، لَكِنْ أَخْطَئُوا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ خَارِجًا عَنْ الْجَنَّةِ فَأَسْقَطُوا حُرْمَةَ اسْمِ الْجَنَّةِ، وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أُمُورٌ مُنْكَرَةٌ، نَظِيرَ مَا ذَكَرَهُ عَنْ الشِّبْلِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران: 152] ، فَصَرَخَ، وَقَالَ: أَيْنَ مُرِيدُ اللَّهِ، فَيُحْمَدُ مِنْهُ كَوْنُهُ أَرَادَ اللَّهَ، وَلَكِنْ غَلِطَ فِي ظَنِّهِ أَنَّ الَّذِينَ أَرَادُوا الْآخِرَةَ مَا أَرَادُوا اللَّهَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ بِأُحُدٍ وَهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ، فَإِنْ لَمْ يُرِيدُوا اللَّهَ، أَفَيُرِيدُ اللَّهُ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ كَالشِّبْلِيِّ وَأَمْثَالِهِ؟ وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا أَعْرِفُهُ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ سُئِلَ مَرَّةً عَنْ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111]

قَالَ: فَإِذَا كَانَ الْأَنْفُسُ وَالْأَمْوَالُ فِي ثَمَنِ الْجَنَّةِ، فَالرُّؤْيَةُ بِمَ تُنَالُ؟ فَأَجَابَهُ مُجِيبٌ بِمَا يُشْبِهُ هَذَا السُّؤَالَ. وَالْوَاجِبُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلْأَوْلِيَاءِ مِنْ نَعِيمٍ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ هُوَ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا أَنَّ كُلَّ مَا وَعَدَ بِهِ أَعْدَاءَهُ هُوَ فِي النَّارِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَقُولُ اللَّهُ: أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، بَلْهَ مَا أَطْلَعَتْهُمْ عَلَيْهِ» . وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْجَنَّةِ، فَالنَّاسُ فِي الْجَنَّةِ عَلَى دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ، كَمَا قَالَ: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} [الإسراء: 21] . وَكُلُّ مَطْلُوبٍ لِلْعَبْدِ بِعِبَادَةٍ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَطَالِبِ الْآخِرَةِ هُوَ فِي الْجَنَّةِ. وَطَلَبُ الْجَنَّةِ، وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنْ النَّارِ، طَرِيقُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَجَمِيعُ أَوْلِيَائِهِ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ، وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ، كَمَا فِي السُّنَنِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ كَيْفَ تَقُولُ فِي دُعَائِك، قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ النَّارِ، أَمَا إنِّي لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَك وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ فَقَالَ: حَوْلَهُمَا نُدَنْدِنُ» .

فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُعَاذٌ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْأَئِمَّةِ الرَّاتِبِينَ بِالْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا يُدَنْدِنُونَ حَوْلَ الْجَنَّةِ، أَفَيَكُونُ قَوْلُ أَحَدٍ فَوْقَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُعَاذٍ، وَمَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُمَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَلَوْ طَلَبَ هَذَا الْعَبْدُ مَا طَلَبَ كَانَ فِي الْجَنَّةِ. وَأَهْلُ الْجَنَّةِ نَوْعَانِ: سَابِقُونَ مُقَرَّبُونَ، وَأَبْرَارٌ أَصْحَابُ يَمِينٍ، قَالَ تَعَالَى: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ - وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ - كِتَابٌ مَرْقُومٌ - يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 18 - 21] {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [المطففين: 22] {عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ - تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين: 23 - 24] {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} [المطففين: 25] {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ - عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 27 - 28] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " تُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَزْجًا، وَيَشْرَبُهَا الْمُقَرَّبُونَ صَرْفًا ". وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدُ. فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْوَسِيلَةَ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِعَبْدٍ وَاحِدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَرَجَا أَنْ يَكُونَ هُوَ ذَلِكَ الْعَبْدُ، هِيَ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ، فَهَلْ بَقِيَ بَعْدَ الْوَسِيلَةِ شَيْءٌ أَعْلَى مِنْهَا يَكُونُ خَارِجًا عَنْ الْجَنَّةِ يَصْلُحُ لِلْمَخْلُوقِينَ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا فِي حَدِيثِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَلْتَمِسُونَ النَّاسَ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ قَالَ: «فَيَقُولُونَ لِلرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَجَدْنَاهُمْ يُسَبِّحُونَك وَيَحْمَدُونَك وَيُكَبِّرُونَك. قَالَ: فَيَقُولُ: وَمَا يَطْلُبُونَ؟ قَالُوا: يَطْلُبُونَ الْجَنَّةَ. قَالَ: فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ . قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَا. قَالَ: فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ . قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا أَشَدَّ لَهَا طَلَبًا. قَالَ: وَمِمَّا يَسْتَعِيذُونَ. قَالُوا: يَسْتَعِيذُونَ مِنْ النَّارِ. قَالَ: فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ . قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَا. قَالَ: فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ . قَالُوا: لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا اسْتِعَاذَةً. قَالَ: فَيَقُولُ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَعْطَيْتُهُمْ مَا يَطْلُبُونَ، وَأَعَذْتُهُمْ مِمَّا يَسْتَعِيذُونَ أَوْ

كَمَا قَالَ. قَالَ: فَيَقُولُونَ: فِيهِمْ فُلَانٌ الْخَطَّاءُ، جَاءَ لِحَاجَةٍ فَجَلَسَ مَعَهُمْ. قَالَ: فَيَقُولُ: هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَفْضَلِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَانَ مَطْلُوبُهُمْ الْجَنَّةَ، وَمَهْرَبُهُمْ مِنْ النَّارِ. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَايَعَ الْأَنْصَارَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَكَانَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ مِنْ أَفْضَلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ كُلِّهِمْ. قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اشْتَرِطْ لِرَبِّك وَلِنَفْسِك وَلِأَصْحَابِك. قَالَ: «أَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَنْصُرُونِي مِمَّا تَنْصُرُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ. وَأَشْتَرِطُ لِأَصْحَابِي أَنْ تُوَاسُوهُمْ. قَالُوا: فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا؟ . قَالَ: لَكُمْ الْجَنَّةُ. قَالُوا: مُدَّ يَدَك، فَوَاَللَّهِ لَا نُقِيلُك وَلَا نَسْتَقِيلُك. وَقَدْ قَالُوا لَهُ فِي أَثْنَاءِ الْبَيْعَةِ: إنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ حِبَالًا وَعُهُودًا وَإِنَّا نَاقِضُوهَا» . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْظَمِ خَلْقِ اللَّهِ مَحَبَّةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَبَذْلًا لِنُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْحَقُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَقَدْ كَانَ غَايَةُ مَا طَلَبُوهُ بِذَلِكَ الْجَنَّةَ، فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ مَطْلُوبٌ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ لَطَلَبُوهُ، وَلَكِنْ عَلِمُوا أَنَّ فِي الْجَنَّةِ كُلَّ مَحْبُوبٍ وَمَطْلُوبٍ، بَلْ وَفِي الْحَقِيقَةِ مَا لَا تَشْعُرُ بِهِ النُّفُوسُ لِتَطْلُبَهُ، فَإِنَّ الطَّلَبَ وَالْحُبَّ وَالْإِرَادَةَ فَرْعٌ عَنْ الشُّعُورِ وَالْإِحْسَاسِ وَالتَّصَوُّرِ، فَمَا لَا يَتَصَوَّرُهُ الْإِنْسَانُ وَلَا يُحِسُّهُ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَطْلُبَهُ وَيُحِبَّهُ وَيُرِيدَهُ. فَالْجَنَّةُ فِيهَا هَذَا وَهَذَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] . وَقَالَ: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] . فَفِيهَا مَا يَشْتَهُونَ وَفِيهَا مَزِيدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ عِلْمُهُمْ لِيَشْتَهُوهُ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ. فَإِذَا عَرَفْت هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: الرِّضَا أَنْ لَا تَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَا تَسْتَعِيذَهُ مِنْ النَّارِ، إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ لَا تَسْأَلَ اللَّهَ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْجَنَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَا تَسْأَلْهُ النَّظَرَ إلَيْهِ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَطْلُوبُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ،

وَإِنَّك لَا تَسْتَعِيذُ بِهِ مِنْ احْتِجَابِهِ عَنْك، وَلَا مِنْ تَعْذِيبِك فِي النَّارِ، فَهَذَا الْكَلَامُ مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ، فَاسِدٌ فِي صَرِيحِ الْعُقُولِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّضَا الَّذِي لَا يُسْأَلُ، إنَّمَا لَا يَسْأَلُهُ لِرِضَاهُ عَنْ اللَّهِ، وَرِضَاهُ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ. وَإِذَا لَمْ يَبْقَ مَعَهُ رِضًا عَنْ اللَّهِ وَلَا مَحَبَّةٌ لِلَّهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَرْضَى أَنْ لَا يَرْضَى، وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْ مَا يَقُولُ وَلَا عَقْلُهُ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّاضِيَ إنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى احْتِمَالِ الْمَكَارِهِ وَالْآلَامِ مَا يَجِدُهُ مِنْ لَذَّةِ الرِّضَا وَحَلَاوَتِهِ، فَإِذَا فَقَدْ تِلْكَ الْحَلَاوَةَ وَاللَّذَّةَ امْتَنَعَ أَنْ يَحْتَمِلَ أَلَمًا وَمَرَارَةً، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا، وَلَيْسَ مَعَهُ مِنْ حَلَاوَةِ الرِّضَا مَا يَحْمِلُ بِهِ مَرَارَةَ الْمَكَارِهِ. وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ جِنْسِ كَلَامِ السَّكْرَانِ، وَالْفَانِي الَّذِي وَجَدَ فِي نَفْسِهِ حَلَاوَةَ الرِّضَا، فَظَنَّ أَنَّ هَذَا يَبْقَى مَعَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ مِنْهُ كَغَلَطِ سَمْنُونٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ لَا يَسْأَلَ التَّمَتُّعَ بِالْمَخْلُوقِ، بَلْ يَسْأَلَ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ غَلِطَ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْجَنَّةِ، وَهُوَ أَعْلَى نَعِيمِ الْجَنَّةِ. وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَيْضًا أَثْبَتَ أَنَّهُ طَالِبٌ مَعَ كَوْنِهِ رَاضِيًا. فَإِذَا كَانَ الرِّضَا لَا يُنَافِي هَذَا الطَّلَبَ فَلَا يُنَافِي طَلَبًا آخَرَ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى مَطْلُوبِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنْ تَمَتُّعَهُ بِالنَّظَرِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِسَلَامَتِهِ مِنْ النَّارِ، وَبِتَنَعُّمِهِ مِنْ الْجَنَّةِ بِمَا هُوَ دُونَ النَّظَرِ. وَمَا لَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ، فَيَكُونُ طَلَبُهُ لِلنَّظَرِ طَلَبًا لِلَوَازِمِهِ الَّتِي مِنْهَا النَّجَاةُ مِنْ النَّارِ، فَيَكُونُ رِضَاهُ لَا يُنَافِي طَلَبَ حُصُولِ الْمَنْفَعَةِ، وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ عَنْهُ، وَلَا طَلَبَ حُصُولِ الْجَنَّةِ وَدَفْعَ النَّارِ، وَلَا غَيْرَهُمَا مِمَّا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ النَّظَرِ، فَتَبَيَّنَ تَنَاقُضُ قَوْلِهِ. وَأَيْضًا فَإِذَا لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَمْ يَسْتَعِذْ بِهِ مِنْ النَّارِ، فَإِمَّا أَنْ يَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ طَلَبِ مَنْفَعَةٍ وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَطْلُبَهُ، فَإِنْ طَلَبَ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَاسْتَعَاذَ مِمَّا هُوَ دُونَ ذَلِكَ، فَطَلَبُهُ لِلْجَنَّةِ أَوْلَى، وَاسْتِعَاذَتُهُ مِنْ النَّارِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الرِّضَا أَنْ لَا يَطْلُبَ شَيْئًا قَطُّ وَلَوْ كَانَ مُضْطَرًّا إلَيْهِ، وَلَا يَسْتَعِيذُ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ، وَإِنْ كَانَ مُضِرًّا.

فَلَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ مُلْتَفِتًا بِقَلْبِهِ إلَى اللَّهِ فِي أَنْ يَفْعَلَ بِهِ ذَلِكَ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْرِضًا عَنْ ذَلِكَ. فَإِنْ الْتَفَتَ بِقَلْبِهِ إلَى اللَّهِ فَهُوَ طَالِبٌ مُسْتَعِيذٌ بِحَالِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الطَّلَبِ بِالْحَالِ وَالْقَالِ، وَهُوَ بِهِمَا أَكْمَلُ وَأَتَمُّ، فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ مُعْرِضًا عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَحْيَا وَيَبْقَى، إلَّا بِمَا يُقِيمُ حَيَاتَهُ وَيَدْفَعُ مَضَارَّهُ بِذَلِكَ. وَاَلَّذِي بِهِ يَحْيَا مِنْ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ إمَّا أَنْ يُحِبَّهُ وَيَطْلُبَهُ وَيُرِيدَهُ مِنْ أَحَدٍ، أَوْ لَا يُحِبَّهُ وَلَا يَطْلُبَهُ وَلَا يُرِيدَهُ، فَإِنْ أَحَبَّهُ وَطَلَبَهُ وَأَرَادَهُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ كَانَ مُشْرِكًا مَذْمُومًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا، وَإِنْ قَالَ: لَا أُحِبُّهُ وَأَطْلُبُهُ وَأُرِيدُهُ لَا مِنْ اللَّهِ وَلَا مِنْ خَلْقِهِ، قِيلَ: هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي الْحَيِّ، فَإِنَّ الْحَيَّ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُحِبَّ مَا بِهِ يَبْقَى، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ، وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ امْتَنَعَ أَنْ يُوصَفَ بِالرِّضَا، فَإِنَّ الرَّاضِي مَوْصُوفٌ بِحُبٍّ وَإِرَادَةٍ خَاصَّةٍ، إذْ الرِّضَا مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ، فَكَيْفَ يُسْلَبُ عَنْهُ ذَلِكَ كُلُّهُ. فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ فَسَادَ هَذَا الْكَلَامِ. وَأَمَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَطَرِيقِهِ وَدِينِهِ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: الرَّاضِي لَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَكُونُ رَاضِيًا عَنْ اللَّهِ مَنْ لَا يَفْعَلُ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ؟ وَكَيْفَ يَسُوغُ رِضَا مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيَسْخَطُهُ وَيَذُمُّهُ وَيَنْهَى عَنْهُ؟ . وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الرِّضَا الْمَحْمُودَ إمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُحِبَّهُ وَيَرْضَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، لَمْ يَكُنْ هَذَا الرِّضَا مَأْمُورًا بِهِ لَا أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ، فَإِنَّ مِنْ الرِّضَا مَا هُوَ كُفْرٌ، كَرِضَا الْكُفَّارِ بِالشِّرْكِ، وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَتَكْذِيبِهِمْ، وَرِضَاهُمْ بِمَا يَسْخَطُهُ اللَّهُ وَيَكْرَهُهُ. قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28] . فَمَنْ اتَّبَعَ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ بِرِضَاهُ وَعَمَلِهِ فَقَدْ أَسْخَطَ اللَّهَ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْخَطِيئَةَ إذَا عُمِلَتْ فِي الْأَرْضِ كَانَ مَنْ غَابَ عَنْهَا وَرَضِيَهَا كَمَنْ حَضَرَهَا، وَمَنْ شَهِدَهَا وَسَخِطَهَا كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَأَنْكَرَهَا» .

وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ هَلَكَ» . وَقَالَ تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 96] . فَرِضَانَا عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ لَيْسَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَهُوَ لَا يَرْضَى عَنْهُمْ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} [التوبة: 38] . فَهَذَا رِضًى قَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} [يونس: 7] فَهَذَا أَيْضًا رِضًا مَذْمُومٌ، وَسِوَى هَذَا وَهَذَا كَثِيرٌ. فَمَنْ رَضِيَ بِكُفْرِهِ وَكُفْرِ غَيْرِهِ، وَفِسْقِهِ وَفِسْقِ غَيْرِهِ، وَمَعَاصِيهِ وَمَعَاصِي غَيْرِهِ، فَلَيْسَ هُوَ مُتَّبِعًا لِرِضَا اللَّهِ، وَلَا هُوَ مُؤْمِنٌ بِاَللَّهِ، بَلْ هُوَ مُسْخِطٌ لِرَبِّهِ، وَرَبُّهُ غَضْبَانٌ عَلَيْهِ لَاعِنٌ لَهُ، ذَامٌّ لَهُ مُتَوَعِّدٌ لَهُ بِالْعِقَابِ. وَطَرِيقُ اللَّهِ الَّتِي يَأْمُرُ بِهَا الْمَشَايِخُ الْمُهْتَدُونَ، إنَّمَا هِيَ الْأَمْرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. فَمَنْ أَمَرَ، أَوْ اسْتَحَبَّ، أَوْ مَدَحَ الرِّضَا الَّذِي يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيَذُمُّهُ، وَيَنْهَى عَنْهُ، وَيُعَاقِبُ أَصْحَابَهُ، فَهُوَ عَدُوٌّ لِلَّهِ، لَا وَلِيٌّ لِلَّهِ، وَهُوَ يَصُدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَطَرِيقُهُ لَيْسَ بِسَالِكٍ لِطَرِيقِهِ وَسَبِيلِهِ. وَإِذَا كَانَ الرِّضَا الْمَوْجُودُ فِي بَنِي آدَمَ مِنْهُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَمِنْهُ مَا يَكْرَهُهُ وَيَسْخَطُهُ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبَاحٌ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا، كَسَائِرِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ مِنْ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلُّهَا تَنْقَسِمُ إلَى مَحْبُوبٍ لِلَّهِ، وَمَكْرُوهٍ لِلَّهِ، وَمُبَاحٍ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَالرَّاضِي الَّذِي لَا يَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَسْتَعِيذُهُ مِنْ النَّارِ يُقَالُ لَهُ: سُؤَالُ اللَّهِ الْجَنَّةَ وَاسْتِعَاذَتُهُ مِنْ النَّارِ، إمَّا أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُسْتَحَبَّةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَكْرُوهَةً، وَلَا يَقُولُ مُسْلِمٌ: إنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَلَا مَكْرُوهَةٌ، وَلَيْسَتْ

أَيْضًا مُبَاحَةً مُسْتَوِيَةَ الطَّرَفَيْنِ، وَلَوْ قِيلَ: إنَّهَا كَذَلِكَ فَفِعْلُ الْمُبَاحِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ لَا يُنَافِي الرِّضَا، إذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرَّاضِي أَنْ لَا يَأْكُلَ وَلَا يَشْرَبَ وَلَا يَلْبَسَ وَلَا يَفْعَلَ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأُمُورِ. فَإِذَا كَانَ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يُنَافِي رِضَاهُ، دُعَاءٌ وَسُؤَالٌ، هُوَ مُبَاحٌ. وَإِذَا كَانَ السُّؤَالُ وَالدُّعَاءُ كَذَلِكَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا، فَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الرَّاضِي الَّذِي مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ لَا يَفْعَلُ مَا يَرْضَاهُ وَيُحِبُّهُ، بَلْ يَفْعَلُ مَا يُسْخِطُهُ وَيَكْرَهُهُ، وَهَذِهِ صِفَةُ أَعْدَاءِ اللَّهِ لَا أَوْلِيَاءِ اللَّهِ. وَالْقُشَيْرِيُّ قَدْ ذَكَرَ فِي أَوَائِلِ بَابِ الرِّضَا، فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَرْضَى بِقَضَاءِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِالرِّضَا بِهِ، إذْ لَيْسَ كُلُّ مَا هُوَ بِقَضَائِهِ يَجُوزُ لِلْعَبْدِ، أَوْ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الرِّضَا بِهِ، كَالْمَعَاصِي، وَفُنُونِ مِحَنِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ، قَالَهُ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ وَمَعَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَأَمْثَالِهِمَا، لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ الْقَدَرِيَّةُ بِأَنَّ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ مَأْمُورٌ بِهِ، فَلَوْ كَانَتْ الْمَعَاصِي بِقَضَاءِ اللَّهِ لَكُنَّا مَأْمُورِينَ بِالرِّضَا بِهَا، وَالرِّضَا بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ فَأَجَابَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ عَنْ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ وَجَوَابُ هَؤُلَاءِ وَجَمَاهِيرُ الْأَئِمَّةِ، أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَلَسْنَا مَأْمُورِينَ أَنْ نَرْضَى بِكُلِّ مَا قَضَى وَقَدَّرَ، وَلَمْ يَجِئْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمْرٌ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَيْنَا أَنْ نَرْضَى بِمَا أُمِرْنَا أَنْ نَرْضَى بِهِ، كَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْقَاسِمِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّا نَرْضَى بِالْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ اللَّهِ أَوْ فِعْلُهُ، لَا بِالْمَقْضِيِّ الَّذِي هُوَ مَفْعُولُهُ. وَفِي هَذَا الْجَوَابِ ضَعْفٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: هَذِهِ الْمَعَاصِي لَهَا وَجْهَانِ: وَجْهٌ إلَى الْعَبْدِ، مِنْ حَيْثُ هِيَ فِعْلُهُ، وَصُنْعُهُ، وَكَسْبُهُ. وَوَجْهٌ إلَى الرَّبِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَلَقَهَا، وَقَضَاهَا، وَقَدَّرَهَا، فَيَرْضَى مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُضَافُ بِهِ إلَى اللَّهِ، وَلَا يَرْضَى مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُضَافُ بِهِ إلَى الْعَبْدِ، إذْ كَوْنُهَا شَرًّا وَقَبِيحَةً وَمُحَرَّمًا وَسَبَبًا لِلْعَذَابِ وَالذَّمِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مُضَافَةً إلَى الْعَبْدِ.

وَهَذَا مَقَامٌ فِيهِ مِنْ كَشْفِ الْحَقَائِقِ وَالْأَسْرَارِ مَا قَدْ ذَكَرْنَا مِنْهُ مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَكَانُ، فَإِنَّ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِمَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ مَطَالِبِ الدِّينِ وَأَشْرَفِ عُلُومِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَأَدَقِّهَا عَلَى عُقُولِ أَكْثَرِ الْعَالِمِينَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَشَايِخَ الصُّوفِيَّةِ وَالْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ، قَدْ بَيَّنُوا أَنَّ مِنْ الرِّضَا مَا يَكُونُ جَائِزًا، وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ جَائِزًا، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُسْتَحَبًّا أَوْ مِنْ صِفَاتِ الْمُقَرَّبِينَ. وَأَنَّ أَبَا الْقَاسِمِ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الرِّسَالَةِ أَيْضًا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ أَمْرٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ، فَمِنْ أَيْنَ غَلِطَ مَنْ قَالَ: إنَّ الرِّضَا أَنْ لَا تَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَلَا تَسْتَعِيذَهُ مِنْ النَّارِ، وَغَلِطَ مَنْ يَسْتَحْسِنُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ كَائِنًا مَنْ كَانَ. قِيلَ: غَلِطُوا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الرَّاضِيَ بِأَمْرٍ لَا يَطْلُبُ غَيْرَ ذَلِكَ الْأَمْرِ؛ فَالْعَبْدُ إذَا كَانَ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ، فَمِنْ رِضَاهُ أَنْ لَا يَطْلُبَ غَيْرَ تِلْكَ الْحَالِ، ثُمَّ إنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ أَقْصَى الْمَطَالِبِ الْجَنَّةُ، وَأَقْصَى الْمَكَارِهِ النَّارُ، فَقَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْلُبَ شَيْئًا، وَلَوْ أَنَّهُ الْجَنَّةُ، وَلَا يَكْرَهَ مَا يَنَالُهُ وَلَوْ أَنَّهُ النَّارُ، وَهَذَا وَجْهُ غَلَطِهِمْ، وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ الضَّلَالُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ظَنُّهُمْ أَنَّ الرِّضَا بِكُلِّ مَا يَكُونُ أَمْرٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَأَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ طُرُقِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، فَجَعَلُوا الرِّضَا بِكُلِّ حَادِثٍ وَكَائِنٍ، أَوْ بِكُلِّ حَالٍ يَكُونُ فِيهَا الْعِنْدُ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ، فَضَلُّوا ضَلَالًا مُبِينًا. وَالطَّرِيقُ إلَى اللَّهِ إنَّمَا هِيَ أَنْ تُرْضِيَهُ أَنْ تَفْعَلَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، لَيْسَ أَنْ تَرْضَى بِكُلِّ مَا يَحْدُثُ وَيَكُونُ، فَإِنَّهُ هُوَ لَمْ يَأْمُرْك بِذَلِكَ، وَلَا رَضِيَهُ لَك وَلَا أَحَبَّهُ، بَلْ سُبْحَانَهُ يَكْرَهُ وَيَسْخَطُ وَيُبْغِضُ عَلَى أَعْيَانِ أَفْعَالٍ مَوْجُودَةٍ لَا يُحْصِيهَا إلَّا هُوَ. وَوِلَايَةُ اللَّهِ مُوَافَقَتُهُ بِأَنْ تُحِبَّ مَا يُحِبُّ، وَتُبْغِضَ مَا يُبْغِضُ، وَتَكْرَهَ مَا يَكْرَهُ، وَتَسْخَطَ مَا يَسْخَطُ، وَتُوَالِيَ مَنْ يُوَالِي، وَتُعَادِي مَنْ يُعَادِي. فَإِذَا كُنْت تُحِبُّ وَتَرْضَى مَا يَكْرَهُهُ وَيَسْخَطُهُ كُنْت عَدُوَّهُ لَا وَلِيَّهُ، وَكَانَ كُلُّ ذَمٍّ نَالَ مِنْ رِضَا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ قَدْ نَالَك.

فَتَدَبَّرْ هَذَا، فَإِنَّهُ يُنَبِّهُ عَلَى أَصْلٍ عَظِيمٍ ضَلَّ فِيهِ مِنْ طَوَائِفِ النُّسَّاكِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْعُبَّادِ وَالْعَامَّةِ مَنْ لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الدُّعَاءِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ، وَأَمْرَ اسْتِحْبَابٍ، وَبَيْنَ الدُّعَاءِ الَّذِي نُهُوا عَنْهُ أَوْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ وَلَمْ يُنْهُوا عَنْهُ؛ فَإِنَّ دُعَاءَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَمَسْأَلَتَهُ إيَّاهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ أُمِرَ الْعَبْدُ بِهِ إمَّا أَمْرَ إيجَابٍ وَإِمَّا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ، مِثْلُ قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] . وَمِثْلُ دُعَائِهِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، كَالدُّعَاءِ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِهِ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: «إذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَفِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» . فَهَذَا دُعَاءٌ أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَدْعُوا بِهِ فِي آخِرِ صَلَاتِهِمْ، وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَرْضَاهُ، وَتَنَازَعُوا فِي وُجُوبِهِ، فَأَوْجَبَهُ طَاوُسٌ وَطَائِفَةٌ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْأَكْثَرُونَ قَالُوا: هَذَا مُسْتَحَبٌّ، وَالْأَدْعِيَةُ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو بِهَا لَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَمَنْ فَعَلَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَرْضَاهُ، فَهَلْ يَكُونُ مِنْ الرِّضَا تَرْكُ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَنَوْعٌ مِنْ الدُّعَاءِ يُنْهَى عَنْهُ، كَالِاعْتِدَاءِ، مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلَ مَا لَا يَصْلُحُ مِنْ خَصَائِصِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَيْسَ هُوَ بِنَبِيٍّ، وَرُبَّمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ لِنَفْسِهِ الْوَسِيلَةَ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ، أَوْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا، أَوْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا، وَأَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ كُلَّ حِجَابٍ يَمْنَعُهُ مِنْ مُطَالَعَةِ الْغُيُوبِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. أَوْ مِثْلُ مَنْ يَدْعُوهُ ظَانًّا أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى عِبَادِهِ، وَأَنَّهُمْ يَبْلُغُونَ ضُرَّهُ وَنَفْعَهُ، فَيَطْلُبُ مِنْهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ، وَيَذْكُرُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْخَلْقِ ضَيْرٌ.

وَهَذَا وَنَحْوُهُ جَهْلٌ بِاَللَّهِ وَاعْتِدَاءٌ فِي الدُّعَاءِ، وَإِنْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الشُّيُوخِ، وَمِثْلَ أَنْ يَقُولُوا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت، فَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَفْعَلُ الشَّيْءَ مُكْرَهًا، وَقَدْ يَفْعَلُ مُخْتَارًا، كَالْمُلُوكِ، فَيَقُولُ: اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت. وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْت، وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُكْرَهَ لَهُ» ، وَمِثْلُ أَنْ يَقْصِدَ السَّجْعَ فِي الدُّعَاءِ، وَيَتَشَهَّقَ وَيَتَشَدَّقَ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ الْأَدْعِيَةُ وَنَحْوُهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا. وَمِنْ الدُّعَاءِ مَا هُوَ مُبَاحٌ كَطَلَبِ الْفُضُولِ الَّتِي لَا مَعْصِيَةَ فِيهَا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الرِّضَا الَّذِي هُوَ مِنْ طَرِيقِ اللَّهِ لَا يَتَضَمَّنُ تَرْكَ وَاجِبٍ، وَلَا تَرْكَ مُسْتَحَبٍّ، فَالدُّعَاءُ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ لَا يَكُونُ تَرْكُهُ مِنْ الرِّضَا، كَمَا أَنَّ تَرْكَ سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ لَا يَكُونُ مِنْ الرِّضَا الْمَشْرُوعِ، وَلَا فِعْلَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْمَشْرُوعِ، فَقَدْ تَبَيَّنَ غَلَطُ هَؤُلَاءِ مِنْ جِهَةِ ظَنِّهِمْ أَنَّ الرِّضَا مَشْرُوعٌ بِكُلِّ مَقْدُورٍ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ إيجَابًا وَاسْتِحْبَابًا، وَالدُّعَاءِ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ. وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ طَلَبَ الْجَنَّةِ مِنْ اللَّهِ، وَالِاسْتِعَاذَةَ بِهِ مِنْ النَّارِ، هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدْعِيَةِ الْمَشْرُوعَةِ لِجَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ وَالنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا، وَطَرِيقُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الَّتِي يَسْلُكُونَهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ فِعْلِ وَاجِبَاتٍ وَمُسْتَحَبَّاتٍ، إذَا مَا سِوَى ذَلِكَ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ مُبَاحٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ فِي الدِّينِ. ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا أَوْقَعَ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْغَلَطِ، أَنَّهُمْ وَجَدُوا كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَا يَسْأَلُونَ اللَّهَ جَلْبَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعَ الْمَضَارِّ حَتَّى طَلَبُ الْجَنَّةِ وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ النَّارِ، مِنْ جِهَةِ كَوْنِ ذَلِكَ عِبَادَةً وَطَاعَةً وَخَيْرًا، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ النَّفْسِ تَطْلُبُ ذَلِكَ، فَرَأَوْا أَنَّ مِنْ الطَّرِيقِ تَرْكُ مَا تَخْتَارُهُ النَّفْسُ وَتُرِيدُهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدِهِمْ إرَادَةً أَصْلًا، بَلْ يَكُونُ مَطْلُوبُهُ الْجَرَيَانَ تَحْتَ الْقَدْرِ كَائِنًا مَنْ كَانَ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَدْخَلَ كَثِيرًا مِنْهُمْ فِي الرَّهْبَانِيَّةِ، وَالْخُرُوجِ عَنْ الشَّرِيعَةِ، حَتَّى تَرَكُوا مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنِّكَاحِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ، وَمَا لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ دِينِهِمْ

إلَّا بِهِ، فَإِنَّهُمْ رَأَوْا الْعَامَّةَ تَعُدُّ هَذِهِ الْأُمُورَ بِحُكْمِ الطَّبْعِ وَالْهَوَى وَالْعَادَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا تَكُونُ عِبَادَةً، وَلَا طَاعَةً وَلَا قُرْبَةً، فَرَأَى أُولَئِكَ الطَّرِيقَ إلَى اللَّهِ تَرْكَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ وَالْأَفْعَالِ الطَّبِيعِيَّاتِ، فَلَازَمُوا مِنْ الْجُوعِ وَالسَّهَرِ وَالْخَلْوَةِ وَالصَّمْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَرْكُ الْحُظُوظِ، وَاحْتِمَالُ الْمَشَاقِّ، مَا أَوْقَعَهُمْ فِي تَرْكِ وَاجِبَاتٍ وَمُسْتَحَبَّاتٍ، وَفِعْلِ مَكْرُوهَاتٍ وَمُحَرَّمَاتٍ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ غَيْرُ مَحْمُودٍ، وَلَا مَأْمُورٍ بِهِ، وَلَا طَرِيقَ إلَى اللَّهِ، وَطَرِيقُ الْمُفَرِّطِينَ الَّذِينَ فَعَلُوا هَذِهِ الْأَفْعَالَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ، وَطَرِيقُ الْمُعْتَدِينَ الَّذِينَ تَرَكُوا هَذِهِ الْأَفْعَالَ، بَلْ الْمَشْرُوعُ أَنْ تُفْعَلَ بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ، وَأَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] ، وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} [البقرة: 172] فَأَمَرَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَمَنْ أَكَلَ وَلَمْ يَشْكُرْ كَانَ مَذْمُومًا، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْكُرْ كَانَ مَذْمُومًا. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبَ الشُّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» . «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَعْدٍ: إنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا ازْدَدْت بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً حَتَّى اللُّقْمَةَ تَضَعَهَا فِي فِي امْرَأَتِك» . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: «نَفَقَةُ الْمُؤْمِنِ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا صَدَقَةً» . فَكَذَلِكَ الْأَدْعِيَةُ هُنَا مِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْأَلُ اللَّهَ جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ لَهُ وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ عَنْهُ

طَبْعًا وَعَادَةً لَا شَرْعًا وَعِبَادَةً، فَلَيْسَ مِنْ الْمَشْرُوعِ أَنْ أَدَعَ الدُّعَاءَ مُطْلَقًا لِتَقْصِيرِ هَذَا وَتَفْرِيطِهِ، بَلْ أَفْعَلُهُ أَنَا شَرْعًا وَعِبَادَةً. ثُمَّ أَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي يَفْعَلُهُ شَرْعًا وَعِبَادَةً إنَّمَا يَسْعَى فِي مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، وَطَلَبِ حُظُوظِهِ الْمَحْمُودَةِ. فَهُوَ يَطْلُبُ مَصْلَحَةَ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، بِخِلَافِ الَّذِي يَفْعَلُهُ طَبْعًا. فَإِنَّهُ إنَّمَا يَطْلُبُ مَصْلَحَةَ دُنْيَاهُ فَقَطْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: 200] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 202] . وَحِينَئِذٍ فَطَالِبُ الْجَنَّةِ وَالْمُسْتَعِيذُ مِنْ النَّارِ إنَّمَا يَطْلُبُ حَسَنَةَ الْآخِرَةِ فَهُوَ مَحْمُودٌ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ، أَنْ يَرُدَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَفْعَلُ مَأْمُورًا، وَلَا يَتْرُكُ مَحْظُورًا، فَلَا يُصَلِّي، وَلَا يَصُومُ، وَلَا يَتَصَدَّقُ، وَلَا يَحُجُّ، وَلَا يُجَاهِدُ، وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ الْقُرُبَاتِ. فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا فَائِدَتُهُ حُصُولُ الثَّوَابِ وَدَفْعُ الْعِقَابِ. فَإِذَا كَانَ هُوَ لَا يَطْلُبُ حُصُولَ الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ الْجَنَّةُ. وَلَا دَفْعَ الْعِقَابِ الَّذِي هُوَ النَّارُ. فَلَا يَفْعَلُ مَأْمُورًا وَلَا يَتْرُكُ مَحْظُورًا. وَيَقُولُ: أَنَا رَاضٍ بِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ بِي وَإِنْ كَفَرْت وَفَسَقْت وَعَصَيْت. بَلْ يَقُولُ: أَنَا أَكْفُرُ وَأَفْسُقُ وَأَعْصِي حَتَّى يُعَاقِبَنِي وَأَرْضَى بِعِقَابِهِ. فَأَنَالَ دَرَجَةَ الرِّضَا بِقَضَائِهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ هُوَ أَجْهَلُ الْخَلْقِ وَأَحْمَقُهُمْ وَأَضَلُّهُمْ وَأَكْفَرُهُمْ؛ أَمَّا جَهْلُهُ وَحُمْقُهُ فَلِأَنَّ الرِّضَا بِذَلِكَ مُمْتَنِعٌ مُتَعَذِّرٌ. لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. وَأَمَّا كُفْرُهُ فَلِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِتَعْطِيلِ دِينِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مُلَاحَظَةَ الْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ أَوْقَعَتْ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ فِي أَنْ تَرَكُوا مِنْ الْمَأْمُورِ، وَفَعَلُوا مِنْ الْمَحْظُورِ، مَا صَارُوا بِهِ إمَّا نَاقِصِينَ مَحْرُومِينَ، وَإِمَّا عَاصِينَ فَاسْقِينَ، وَإِمَّا كَافِرِينَ. وَقَدْ رَأَيْت مِنْ ذَلِكَ أَلْوَانًا، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ. وَهَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ طَرَفًا نَقِيضَ، هَؤُلَاءِ يُلَاحِظُونَ الْقَدَرَ

وَيَعْرِضُونَ عَنْ الْأَمْرِ. وَأُولَئِكَ يُلَاحِظُونَ الْأَمْرَ وَيَعْرِضُونَ عَنْ الْقَدْرِ، وَالطَّائِفَتَانِ تَظُنُّ أَنَّ مُلَاحَظَةَ الْأَمْرِ وَالْقَدَرِ مُتَعَذِّرٌ، كَمَا أَنَّ طَائِفَةً تَجْعَلُ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ، وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ: الْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ، وَالْقَدَرِيَّةُ الْمُشْرِكِيَّةُ، وَالْقَدَرِيَّةُ الْإِبْلِيسِيَّةُ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَصْلُ مَا يُبْتَلَى بِهِ السَّالِكُونَ أَهْلُ الْإِرَادَةِ وَالْعَامَّةُ فِي هَذَا الزَّمَانِ هِيَ الْقَدَرِيَّةُ الْمُشْرِكِيَّةُ، فَيَشْهَدُونَ الْقَدَرَ وَيُعْرِضُونَ عَنْ الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ فِيهِمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: " أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ، وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ، أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْت بِهِ "، وَإِنَّمَا الْمَشْرُوعُ الْعَكْسُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الطَّاعَةِ يَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهَا قَبْلَ الْفِعْلِ، وَيَشْكُرُهُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْفِعْلِ، وَيَجْتَهِدُ أَنْ لَا يَعْصِيَ، فَإِذَا أَذْنَبَ وَعَصَى بَادَرَ إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، كَمَا فِي حَدِيثِ سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ: «أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي» . وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ: «يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا. فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ. وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ دَخَلَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ فِي تَرْكِ الدُّعَاءِ، وَآخَرُونَ جَعَلُوا التَّوَكُّلَ وَالْمَحَبَّةَ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَغَالِيطِ الَّتِي تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ فِي ذَلِكَ. وَلِهَذَا يُوَجَّهُ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ الْوَصِيَّةُ بِاتِّبَاعِ الْعِلْمِ وَالشَّرِيعَةِ، حَتَّى قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: " كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ ". وَقَالَ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: " عِلْمُنَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي عِلْمِنَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة من يتلو القرآن مخافة النسيان ورجاء الثواب

[مَسْأَلَة مِنْ يَتْلُو الْقُرْآنَ مَخَافَةَ النِّسْيَانِ وَرَجَاءَ الثَّوَابِ] مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ يَتْلُو الْقُرْآنَ مَخَافَةَ النِّسْيَانِ، وَرَجَاءَ الثَّوَابِ، فَهَلْ يُؤْجَرُ عَلَى قِرَاءَتِهِ لِلدِّرَاسَةِ وَمَخَافَةِ النِّسْيَانِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ ذَكَرَ رَجُلٌ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ أَنَّ الْقَارِئَ إذَا قَرَأَ لِلدِّرَاسَةِ مَخَافَةَ النِّسْيَانِ أَنَّهُ لَا يُؤْجَرُ، فَهَلْ قَوْلُهُ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: بَلْ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَوْ قَصَدَ بِقِرَاءَتِهِ أَنَّهُ يَقْرَؤُهُ لِئَلَّا يَنْسَاهُ، فَإِنَّ نِسْيَانَ الْقُرْآنِ مِنْ الذُّنُوبِ، فَإِذَا قَصَدَ بِالْقِرَاءَةِ أَدَاءَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ مِنْ دَوَامِ حِفْظِهِ لِلْقُرْآنِ، وَاجْتِنَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ إهْمَالِهِ حَتَّى يَنْسَاهُ، فَقَدْ قَصَدَ طَاعَةَ اللَّهِ، فَكَيْفَ لَا يُثَابُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ مِنْ عُقُلِهَا» . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُرِضَتْ عَلَيَّ سَيِّئَاتُ أُمَّتِي فَرَأَيْتُ مِنْ مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا الرَّجُلُ يُؤْتِيهِ اللَّهُ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ فَيَنَامُ عَنْهَا حَتَّى يَنْسَاهَا» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ إلَّا غَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَحَفَّتْ بِهِمْ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة قَوْل النَّبِيِّ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ] 324 - 12 - مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» . هَلْ هُوَ بِالْخَفْضِ أَوْ بِالضَّمِّ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا الْأُولَى فَبِالْخَفْضِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَبِالضَّمِّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ صَاحِبَ الْجَدِّ لَا يَنْفَعُهُ مِنْكَ جَدُّهُ، أَيْ لَا يُنْجِيهِ وَيُخَلِّصُهُ مِنْكَ جَدُّهُ، وَإِنَّمَا يُنْجِيهِ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَالْجَدُّ هُوَ الْغِنَى وَهُوَ الْعَظَمَةُ وَهُوَ الْمَالُ. بَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مَنْ كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا رِيَاسَةٌ وَمَالٌ، لَمْ يُنْجِهِ ذَلِكَ وَلَمْ يُخَلِّصْهُ مِنْ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِهِ إيمَانُهُ وَتَقْوَاهُ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ. وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ. وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» . فَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ لَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ اللَّهُ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَاهُ، وَلَا يُتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يُسْأَلُ إلَّا هُوَ. وَالثَّانِي: تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ بَيَانُ مَا يَنْفَعُ وَمَا لَا يَنْفَعُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أُعْطِيَ مَالًا أَوْ دُنْيَا أَوْ رِيَاسَةً كَانَ ذَلِكَ نَافِعًا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ، مُنْجِيًا لَهُ مِنْ عَذَابِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ. وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إلَّا مَنْ يُحِبُّ. قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر: 15] {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 16] {كَلا} [الفجر: 17] . يَقُولُ: مَا كُلُّ مَنْ وَسَّعْتُ عَلَيْهِ أَكْرَمْتُهُ، وَلَا كُلُّ مَنْ قَدَرْت عَلَيْهِ أَكُونُ قَدْ أَهَنْته، بَلْ هَذَا ابْتِلَاءٌ لِيَشْكُرَ الْعَبْدُ عَلَى السَّرَّاءِ، وَيَصْبِرَ عَلَى الضَّرَّاءِ، فَمَنْ رُزِقَ الشُّكْرَ وَالصَّبْرَ كَانَ كُلُّ قَضَاءٍ يَقْضِيهِ اللَّهُ خَيْرًا لَهُ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ قَضَاءٍ إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ: إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» .

مسألة فيمن ترك والديه كفارا ولم يعلم بإسلامهم

وَتَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا فَيُطِيعَهُ وَيُطِيعَ رُسُلَهُ، وَيَفْعَلَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَأَمَّا تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ فَيَدْخُلُ مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّا أَمَرَ بِهِ وَأَوْجَبَهُ وَأَرْضَاهُ. وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَيَفْعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَهُوَ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ. وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ تَوْحِيدٌ لَهُ، فَيَقُولُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة فِيمَنْ تَرَكَ وَالِدَيْهِ كُفَّارًا وَلَمْ يَعْلَمْ بِإِسْلَامِهِمْ] 325 - 13 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ تَرَكَ وَالِدَيْهِ كُفَّارًا وَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ أَسْلَمُوا، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَتَى كَانَ مِنْ أُمَّةٍ أَصْلُهَا كُفَّارٌ. لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَبَوَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَا قَدْ أَسْلَمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] . [مَسْأَلَة فِيمَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ الدُّعَاءَ بِوَاسِطَةِ مُحَمَّدٍ] 326 - 14 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ الدُّعَاءَ بِوَاسِطَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ الْوَسِيلَةُ وَالْوَاسِطَةُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ وَطَاعَتَهُ وَالصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ عَلَيْهِ وَسِيلَةٌ لِلْعَبْدِ فِي قَبُولِ دُعَائِهِ وَثَوَابِ دُعَائِهِ، فَهُوَ صَادِقٌ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُجِيبُ دُعَاءَ أَحَدٍ حَتَّى يَرْفَعَهُ إلَى مَخْلُوقٍ، أَوْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ بِهِ، أَوْ إنَّ نَفْسَ الْأَنْبِيَاءِ بِدُونِ الْإِيمَانِ بِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَبِدُونِ شَفَاعَتِهِمْ وَسِيلَةٌ فِي إجَابَةِ الدُّعَاءِ، فَقَدْ كَذَبَ فِي ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة التوسل بالنبي

[مَسْأَلَة التَّوَسُّل بِالنَّبِيِّ] 327 - 15 - مَسْأَلَةٌ: فِي التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَبِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا هُوَ مِنْ أَفْعَالِهِ، وَأَفْعَالِ الْعِبَادِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي حَقِّهِ، فَهُوَ مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَتَوَسَّلُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَتَوَسَّلُوا بَعْدَ مَوْتِهِ بِالْعَبَّاسِ عَمِّهِ كَمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَتَوَسَّلُ إلَيْكَ بِهِ، فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ قَوْلَانِ، كَمَا لَهُمْ فِي الْحَلِفِ بِهِ قَوْلَانِ، وَجُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ: كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسُوغُ الْحَلِفُ بِهِ، كَمَا لَا يَسُوغُ الْحَلِفُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَلَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْسَكِهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِلْمَرْوَزِيِّ صَاحِبِهِ إنَّهُ يَتَوَسَّلُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دُعَائِهِ، وَلَكِنْ غَيْرُ أَحْمَدَ قَالَ: إنَّ هَذَا إقْسَامٌ عَلَى اللَّهِ بِهِ، وَلَا يُقْسَمُ عَلَى اللَّهِ بِمَخْلُوقٍ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ قَدْ جَوَّزَ الْقَسَمَ بِهِ، فَلِذَلِكَ جَوَّزَ التَّوَسُّلَ بِهِ، وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى عَنْهُ هِيَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ بِهِ، فَلَا يُقْسَمُ عَلَى اللَّهِ بِهِ كَسَائِرِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ قَالَ إنَّهُ يُقْسِمُ عَلَى اللَّهِ، كَمَا لَمْ يَقُولُوا إنَّهُ يُقْسَمُ بِهِمْ مُطْلَقًا. وَلِهَذَا أَفْتَى أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ عَلَى اللَّهِ بِأَحَدٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ، لَكِنْ ذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ فِي الْإِقْسَامِ بِهِ، فَقَالَ: إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ كَانَ خَاصًّا بِهِ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِقْسَامِ بِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ وَإِلَّا فَلْيَصْمُتْ» . وَقَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» .

مسألة من فعل ما يشوش به على أهل المسجد

وَالدُّعَاءُ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَةُ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوْقِيفِ وَالِاتِّبَاعِ، لَا عَلَى الْهَوَى وَالِابْتِدَاعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة مِنْ فَعَلَ مَا يُشَوِّشُ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ] 328 - 16 - مَسْأَلَةٌ: فِي مَسْجِدٍ يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ وَالتَّلْقِينُ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، ثُمَّ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ شُهُودٌ يُكْثِرُونَ الْكَلَامَ وَيَقَعُ التَّشْوِيشُ عَلَى الْقُرَّاءِ، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُؤْذِيَ أَهْلَ الْمَسْجِدِ أَهْلَ الصَّلَاةِ أَوْ الْقِرَاءَةِ أَوْ الذِّكْرِ أَوْ الدُّعَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لَهُ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا عَلَى بَابِهِ قَرِيبًا مِنْهُ مَا يُشَوِّشُ عَلَى هَؤُلَاءِ، بَلْ قَدْ «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَيَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ» . فَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى الْمُصَلِّيَ أَنْ يَجْهَرَ عَلَى الْمُصَلِّي فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ؟ وَمَنْ فَعَلَ مَا يُشَوِّشُ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ أَوْ فَعَلَ مَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة مِنْ دَعَا دُعَاءً مَلْحُونًا] 329 - 17 - مَسْأَلَةٌ: عَنْ رَجُلٍ دَعَا دُعَاءً مَلْحُونًا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا يَقْبَلُ اللَّهُ دُعَاءً مَلْحُونًا، وَأَمَّا مَنْ دَعَا اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ بِدُعَاءٍ جَائِزٍ سَمِعَهُ اللَّهُ وَأَجَابَ دُعَاهُ، سَوَاءٌ كَانَ مُعْرَبًا أَوْ مَلْحُونًا، وَالْكَلَامُ الْمَذْكُورُ لَا أَصْلَ لَهُ، بَلْ يَنْبَغِي لِلدَّاعِي إذَا لَمْ يَكُنْ عَادَتُهُ الْإِعْرَابُ أَنْ لَا يَتَكَلَّفَ الْإِعْرَابَ، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إذَا جَاءَ الْإِعْرَابُ ذَهَبَ الْخُشُوعُ، وَهَذَا كَمَا يُكْرَهُ تَكَلُّفُ السَّجْعِ فِي الدُّعَاءِ فَإِذَا وَقَعَ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَإِنَّ أَصْلَ الدُّعَاءِ مِنْ الْقَلْبِ، وَاللِّسَانُ تَابِعٌ لِلْقَلْبِ، وَمَنْ جَعَلَ هِمَّتَهُ فِي الدُّعَاءِ تَقْوِيمَ لِسَانِهِ أَضْعَفَ تَوَجُّهَ قَلْبِهِ. وَلِهَذَا يَدْعُو الْمُضْطَرُّ بِقَلْبِهِ دُعَاءً يُفْتَحُ عَلَيْهِ، لَا يُحَضِّرُهُ قَبْلَ

مسألة قول بعض العلماء إن الدعاء مستجاب عند قبور أربعة

ذَلِكَ، وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ فِي قَلْبِهِ، وَالدُّعَاءُ يَجُوزُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَبِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ قَصْدَ الدَّاعِي وَمُرَادَهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَوِّمْ لِسَانَهُ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ضَجِيجَ الْأَصْوَاتِ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ عَلَى تَنَوُّعِ الْحَاجَاتِ. [مَسْأَلَة قَوْل بَعْضِ الْعُلَمَاءِ إنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قُبُورِ أَرْبَعَةٍ] 330 - 18 - مَسْأَلَةٌ: مَا حُكْمُ قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَرَاءِ إنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قُبُورِ أَرْبَعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، قَبْرِ الْفَنْدَلَاوِيِّ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَقَبْرِ الْبُرْهَانِ الْبَلْخِيّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَبْرِ الشَّيْخِ نَصْرٍ الْمَقْدِسِيَّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَبْرِ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَمَنْ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ عِنْدَ قُبُورِهِمْ وَدَعَا اُسْتُجِيبَ لَهُ. وَقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ يُوصِيهِ إذَا نَزَلَ بِكَ حَادِثٌ أَوْ أَمْرٌ تَخَافُهُ اسْتَوْحِنِي يَنْكَشِفْ عَنْكَ مَا تَجِدُهُ مِنْ الشِّدَّةِ حَيًّا كُنْتَ أَوْ مَيِّتًا، وَمَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَاسْتَقْبَلَ جِهَةَ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ يَخْطُو مَعَ كُلِّ تَسْلِيمَةٍ خُطْوَةً إلَى قَبْرِهِ قُضِيَتْ حَاجَتُهُ، أَوْ كَانَ فِي سَمَاعٍ فَإِنَّهُ يُطَيِّبُ وَيُكْثِرُ التَّوَاجُدَ. وَقَوْلِ الْفُقَرَاءِ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْظُرُ إلَى الْفُقَرَاءِ بِتَجَلِّيهِ عَلَيْهِمْ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ عِنْدَ مَدِّ السِّمَاطِ عِنْدَ قِيَامِهِمْ فِي الِاسْتِغْفَارِ أَوْ الْمَجَازَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ، وَعِنْدَ السَّمَاعِ وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُتَعَبِّدِينَ مِنْ الدُّعَاءِ عِنْدَ قَبْرِ زَكَرِيَّا وَقَبْرِ هُودٍ وَالصَّلَاةِ عِنْدَهُمَا، وَالْمَوْقِفِ بَيْنَ مَشْرِقَيْ رِوَاقِ الْجَامِعِ بِبَابِ الطَّهَارَةِ بِدِمَشْقَ وَالدُّعَاءِ عِنْدَ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ. وَمِنْ إلْصَاقِ ظَهْرِهِ الْمَوْجُوعِ بِالْعَمُودِ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِ قَبْرِ مُعَاوِيَةَ عِنْدَ الشُّهَدَاءِ بِبَابِ الصَّغِيرِ، فَهَلْ لِلدُّعَاءِ خُصُوصِيَّةُ قَبُولٍ أَوْ سُرْعَةُ إجَابَةٍ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ أَوْ مَكَان مُعَيَّنٍ عِنْدَ قَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ، أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَغِيثَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّعَاءِ بِنَبِيٍّ مُرْسَلٍ أَوْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ أَوْ بِكَلَامِهِ تَعَالَى، أَوْ بِالْكَعْبَةِ أَوْ بِالدُّعَاءِ الْمَشْهُورِ بِاحْتِيَاطِ قَافٍ أَوْ بِدُعَاءِ أُمِّ دَاوُد أَوْ الْخَضِرِ. وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقْسَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي السُّؤَالِ بِحَقِّ فُلَانٍ بِحُرْمَةِ فُلَانٍ بِجَاهِ الْمُقَرَّبِينَ بِأَقْرَبِ الْخَلْقِ أَوْ يُقْسِمُ بِأَفْعَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ. وَهَلْ يَجُوزُ تَعْظِيمُ مَكَان فِيهِ خَلُوقٌ وَزَعْفَرَانٌ وَسَرْجٌ لِكَوْنِهِ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي

الْمَنَامِ عِنْدَهُ، أَوْ يَجُوزُ تَعْظِيمُ شَجَرَةٍ يُوجَدُ فِيهَا خِرَقٌ مُعَلَّقَةٌ، وَيُقَالُ هَذِهِ مُبَارَكَةٌ يَجْتَمِعُ إلَيْهَا الرِّجَالُ الْأَوْلِيَاءُ، وَهَلْ يَجُوزُ تَعْظِيمُ جَبَلٍ أَوْ زِيَارَتُهُ أَوْ زِيَارَةُ مَا فِيهِ مِنْ الْمَشَاهِدِ وَالْآثَارِ وَالدُّعَاءُ فِيهَا وَالصَّلَاةُ كَمَغَارَةِ الدَّمِ وَكَهْفِ آدَمَ وَالْآثَارِ وَمَغَارَةِ الْجُوعِ وَقَبْرِ شِيثٍ وَهَابِيلَ وَنُوحٍ وَإِلْيَاسَ وَحِزْقِيلَ وَشَيْبَانَ الرَّاعِي وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ بِجَبْلَةَ، وَعُشِّ الْغُرَابِ بِبَعْلَبَكَّ وَمَغَارَةِ الْأَرْبَعِينَ وَحَمَّامِ طَبَرِيَّةَ وَزِيَارَةُ عَسْقَلَانَ وَمَسْجِدِ صَالِحٍ بِعَكَّا وَهُوَ مَشْهُورٌ بِالْحُرُمَاتِ وَالتَّعْظِيمِ وَالزِّيَارَاتِ. وَهَلْ يَجُوزُ تَحَرٍّ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْقُبُورِ، وَأَنْ تُقَبَّلَ، أَوْ يُوقَدَ عِنْدَهَا الْقَنَادِيلُ وَالسُّرُجُ، وَهَلْ يَحْصُلُ لِلْأَمْوَاتِ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ الْأَحْيَاءِ مَنْفَعَةٌ أَوْ مَضَرَّةٌ، وَهَلْ الدُّعَاءُ عِنْدَ الْقَدَمِ النَّبَوِيِّ بِدَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهِ. وَقَدَمِ مُوسَى وَمَهْدِ عِيسَى وَمَقَامِ إبْرَاهِيمَ وَرَأْسِ الْحُسَيْنِ وَصُهَيْبٍ الرُّومِيِّ وَبِلَالٍ الْحَبَشِيِّ وَأُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، كُلُّهُ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ وَالْقُرَى وَالسَّوَاحِلِ وَالْجِبَالِ وَالْمَشَاهِدِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ الدُّعَاءُ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ بُرْجِ بَابِ كَيْسَانَ بَيْنَ بَابَيْ الصَّغِيرِ وَالشَّرْقِيِّ مُسْتَدْبِرًا لَهُ مُتَوَجِّهًا إلَى الْقِبْلَةِ، وَالدُّعَاءُ عِنْدَ دَاخِلِ بَابِ الْفَرَّادِينَ، فَهَلْ ثَبَتَ شَيْءٌ فِي إجَابَةِ الْأَدْعِيَةِ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَغَاثَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ يَقُولَ يَا جَاهَ مُحَمَّدٍ أَوْ بِالسِّتِّ نَفِيسَةَ أَوْ يَا سَيِّدُ أَحْمَدُ، أَوْ إذَا عَثَرَ أَحَدًا وَتَعَسَّرَ أَوْ قَفَزَ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان يَقُولُ يَا عَلِيُّ أَوْ يَا الشَّيْخُ فُلَانُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ تَجُوزُ النُّذُورُ لِلْأَنْبِيَاءِ أَوْ لِلْمَشَايِخِ مِثْلِ الشَّيْخِ جَاكِيرَ أَوْ أَبِي الْوَفَا أَوْ نُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ أَوْ غَيْرِهِمْ أَمْ لَا؟ وَكَذَلِكَ هَلْ يَجُوزُ النُّذُورُ لِقُبُورِ أَحَدٍ مِنْ آلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَمُدْرِكِهِ وَالْأَئِمَّةِ وَمَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَالْعَجَمِ وَمِصْرَ وَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَالْهِنْدِ وَالْمَغْرِبِ وَجَمِيعِ الْأَرْضِ وَجَبَلِ قَانٍ وَغَيْرِهَا أَمْ لَا؟

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قُبُورِ الْمَشَايِخِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ غَيْرِهِ: قَبْرُ فُلَانٍ هُوَ التِّرْيَاقُ الْمُجَرَّبُ، وَمِنْ جِنْسِ مَا يَقُولُهُ أَمْثَالُ هَذَا الْقَائِلِ مِنْ أَنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قَبْرِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ عِنْدَ بَعْضِ الْقُبُورِ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْقَبْرُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ قَبْرُ رَجُلٍ صَالِحٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ الصَّالِحِينَ. وَقَدْ يَكُونُ نِسْبَةُ ذَلِكَ الْقَبْرِ إلَى ذَلِكَ كَذِبًا، أَوْ مَجْهُولُ الْحَالِ، مِثْلُ أَكْثَرِ مَا يُذْكَرُ مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ يَكُونُ صَحِيحًا وَالرَّجُلُ لَيْسَ بِصَالِحٍ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ مَوْجُودَةٌ فِيمَنْ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ؛ أَوْ مَنْ يَقُولُ إنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قَبْرٍ بِعَيْنِهِ، وَأَنَّهُ اُسْتُجِيبَ لَهُ الدُّعَاءُ عِنْدَهُ، وَالْحَالُ أَنَّ ذَاكَ إمَّا قَبْرُ مَعْرُوفٍ بِالْفِسْقِ وَالِابْتِدَاعِ، وَإِمَّا قَبْرُ كَافِرٍ كَمَا رَأَيْنَا مَنْ دَعَا فَكُشِفَ لَهُ حَالُ الْقُبُورِ فَبُهِتَ لِذَلِكَ، وَرَأَيْنَا مِنْ ذَلِكَ أَنْوَاعًا. وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ إنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قَوْلٌ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ: كَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ. وَلَا مَشَايِخِهِمْ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ: كَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ، وَأَمْثَالِهِمْ. وَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ وَالْمَشَايِخِ الْمُتَقَدِّمِينَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَلَا مُطْلَقًا وَلَا مُعَيَّنًا، وَلَا فِيهِمْ مَنْ قَالَ إنَّ دُعَاءَ الْإِنْسَانِ عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَفْضَلُ مِنْ دُعَائِهِ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ، وَلَا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِهَا، وَلَا فِيهِمْ مَنْ كَانَ يَتَحَرَّى الدُّعَاءَ وَلَا الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الْقُبُورِ، بَلْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَسَيِّدُهُمْ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ قَبْرٌ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ قَبْرُ نَبِيٍّ غَيْرُ قَبْرِهِ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي قَبْرِ الْخَلِيلِ وَغَيْرِهِ. وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ عِنْدَ زِيَارَتِهِ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ، لِمَا فِي السُّنَنِ: عَنْ

أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ بِهَا رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْهُ: «مَنْ سَلَّمَ عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْتُهُ وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ ثَانِيًا أُبْلِغْتُهُ» . وَفِي إسْنَادِهِ لِينٌ، لَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ ثَابِتَةٌ، فَإِنَّ إبْلَاغَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ مِنْ الْعَبْدِ قَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ كَمَا فِي السُّنَنِ: عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ قَالُوا: كَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ رَمَمْتَ، أَيْ بَلِيتَ. فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ» . وَفِي النَّسَائِيّ وَغَيْرِهِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِقَبْرِي مَلَائِكَةً يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ» . وَمَعَ هَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قَبْرِهِ، وَلَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَحَرَّى الدُّعَاءَ مُتَوَجِّهًا إلَى قَبْرِهِ، بَلْ نَصُّوا عَلَى نَقِيضِ ذَلِكَ؟ وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُدْعَى مُسْتَقْبِلَ الْقَبْرِ وَتَنَازَعُوا فِي السَّلَامِ عَلَيْهِ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ كَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقَبْرِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَأَظُنُّهُ مَنْقُولًا عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: بَلْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، بَلْ نَصَّ أَئِمَّةُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوقَفُ عِنْدَهُ لِلدُّعَاءِ مُطْلَقًا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ الْمَبْسُوطِ، وَذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ مَالِكٌ لَا أَرَى أَنْ يَقِفَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدْعُو وَلَكِنْ يُسَلِّمُ وَيَمْضِي. وَقَالَ أَيْضًا فِي الْمَبْسُوطِ ": لَا بَأْسَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ خَرَجَ إلَى سَفَرٍ، أَنْ يَقِفَ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، وَيَدْعُوَ لَهُ، وَلِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ.

فَقِيلَ لَهُ: فَإِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يَقْدَمُونَ مِنْ سَفَرٍ وَلَا يُرِيدُونَهُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ، وَرُبَّمَا وَقَفُوا فِي الْجُمُعَةِ أَوْ الْيَوْمِ الْمَرَّةَ وَالْمَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عِنْدَ الْقَبْرِ فَيُسَلِّمُونَ وَيَدْعُونَ سَاعَةً. فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ بِبَلْدَتِنَا. وَلَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَصَدْرِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إلَّا مَنْ جَاءَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ أَرَادَهُ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: رَأَيْت أَهْلَ الْمَدِينَةِ إذَا خَرَجُوا مِنْهَا أَوْ دَخَلُوهَا أَتَوْا الْقَبْرَ وَسَلَّمُوا، قَالَ: وَذَلِكَ دَأْبِي، فَهَذَا مَالِكٌ وَهُوَ أَعْلَمُ أَهْلِ زَمَانِهِ أَيْ زَمَنِ تَابِعِ التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ الَّذِينَ كَانَ أَهْلُهَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا يُشْرَعُ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُونَ الْوُقُوفَ لِلدُّعَاءِ بَعْدَ السَّلَامِ عَلَيْهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ الدُّعَاءُ لَهُ وَلِصَاحِبَيْهِ وَهُوَ الْمَشْرُوعُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، وَأَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا لَا يُسْتَحَبُّ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ كُلَّ وَقْتٍ، بَلْ عِنْدَ الْقُدُومِ مِنْ سَفَرٍ أَوْ إرَادَتِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَحِيَّةٌ لَهُ، وَالْمُحَيَّا لَا يُقْصَدُ بَيْتُهُ كُلَّ وَقْتٍ لِتَحِيَّتِهِ بِخِلَافِ الْقَادِمِينَ مِنْ السَّفَرِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي وَهْبٍ: إذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقِفُ وَجْهُهُ إلَى الْقَبْرِ لَا إلَى الْقِبْلَةِ، وَيَدْنُو وَيُسَلِّمُ وَلَا يَمَسُّ الْقَبْرَ بِيَدِهِ وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُقَالَ زُرْنَا قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ كَرَاهَةُ مَالِكٍ لَهُ لِإِضَافَتِهِ إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يَنْهَى عَنْ إضَافَةِ هَذَا اللَّفْظِ إلَى الْقَبْرِ وَالتَّشَبُّهِ بِفِعْلِ ذَلِكَ قَطْعًا لِلذَّرِيعَةِ وَحَسْمًا لِلْبَابِ. قُلْت: وَالْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ الْمَرْوِيَّةُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، بَلْ مَوْضُوعَةٌ لَمْ يَرْوِ الْأَئِمَّةُ، وَلَا أَهْلُ السُّنَنِ الْمُتَّبَعَةِ: كَسُنَنِ أَبِي دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَنَحْوِهِمَا، فِيهَا شَيْئًا وَلَكِنْ جَاءَ لَفْظُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ، مِثْلِ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» .

«وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ» . وَلَكِنْ صَارَ لَفْظُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَتَنَاوَلُ الزِّيَارَةَ الْبِدْعِيَّةَ وَالزِّيَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَسْتَعْمِلُونَهَا إلَّا بِالْمَعْنَى الْبِدْعِيِّ لَا الشَّرْعِيِّ، فَلِهَذَا كُرِهَ هَذَا الْإِطْلَاقُ، فَأَمَّا الزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ يُقْصَدُ بِهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ كَمَا يُقْصَدُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ. كَمَا قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] . فَلَمَّا نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ دَلَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْخِطَابِ وَعِلَّةِ الْحُكْمِ أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْقِيَامُ عَلَى قَبْرِهِ بَعْدَ الدَّفْنِ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّفْنِ يُرَادُ بِهِ الدُّعَاءُ لَهُ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَاسْتَحَبَّهُ السَّلَفُ عِنْدَ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَأَمَّا الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الشِّرْكِ، وَالذَّرِيعَةِ إلَيْهِ كَمَا فَعَلَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ، وَالسُّنَنِ، وَالْمَسَانِيدِ: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مِمَّا صَنَعُوا.

وَقَالَ: «إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» . وَقَالَ: «إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ» . وَقَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» . فَإِذَا كَانَ قَدْ لَعَنَ مَنْ يَتَّخِذُ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ تَحَرِّيهَا لِلدُّعَاءِ مُسْتَحَبًّا؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي يُسْتَحَبُّ فِيهِ الدُّعَاءُ يُسْتَحَبُّ فِيهِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ عَقِبَ الصَّلَاةِ أَجْوَبُ، وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَكَانٌ يُنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَهُ مَعَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ عِنْدَهُ. وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ كَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مُعَلَّلٌ بِخَوْفِ الْفِتْنَةِ بِالْقَبْرِ لَا بِمُجَرَّدِ نَجَاسَتِهِ كَمَا يَظُنُّ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ، وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَأْمُرُونَ بِتَسْوِيَةِ الْقُبُورِ وَتَعْفِيَةِ مَا يُفْتَتَنُ بِهِ مِنْهَا كَمَا أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِتَعْفِيَةِ قَبْرِ " دَانْيَالَ " لَمَّا ظَهَرَ بِتُسْتَرَ فَإِنَّهُ كَتَبَ إلَيْهِ أَبُو مُوسَى يَذْكُرُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قَبْرُ " دَانْيَالَ " وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَسْقُونَ بِهِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَحْفِرَ بِالنَّهَارِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا، ثُمَّ يَدْفِنَهُ بِاللَّيْلِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَيُعَفِّيَهُ لِئَلَّا يَفْتَتِنَ بِهِ النَّاسُ، وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ السَّلَفِ، كَمَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَقْدِسِيُّ فِي مُخْتَارِهِ، عَنْ «عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْمَعْرُوفِ بِزَيْنِ الْعَابِدِينَ: أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَجِيءُ إلَى فُرْجَةٍ كَانَتْ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَدْخُلُ فَيَدْعُو فِيهَا فَنَهَاهُ، فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْته مِنْ أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُنِي أَيْنَمَا كُنْتُمْ» .

وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي سُنَن أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ» . وَفِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنِي «سُهَيْلُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ قَالَ: رَآنِي الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ الْقَبْرِ فَنَادَانِي وَهُوَ فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ يَتَعَشَّى فَقَالَ هَلُمَّ إلَى الْعَشَاءِ. فَقُلْتُ: لَا أُرِيدُهُ، فَقَالَ: مَا لِي رَأَيْتُكَ عِنْدَ الْقَبْرِ. فَقُلْتُ: سَلَّمْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: إذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ فَسَلِّمْ. ثُمَّ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَتَّخِذُوا بَيْتِي عِيدًا، وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُمَا كُنْتُمْ، مَا أَنْتُمْ وَمَنْ بِالْأَنْدَلُسِ إلَّا سَوَاءٌ» ". وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَشْرُوعَ فِي قَبْرِ سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ خَيْرِ الْخَلْقِ وَأَكْرَمِهِمْ عَلَى اللَّهِ فَكَيْفَ يُقَالُ فِي قَبْرِ غَيْرِهِ. وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا نَزَلَتْ بِهِمْ الشَّدَائِدُ كَحَالِهِمْ فِي الْجَدْبِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَعِنْدَ الْقِتَالِ وَالِاسْتِنْصَارِ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَسْتَغِيثُونَهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُوا الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا غَيْرِهِ مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: " اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتُسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَأَسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ ". فَتَوَسَّلُوا بِالْعَبَّاسِ كَمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَهَكَذَا تَوَسَّلُوا بِدُعَاءِ الْعَبَّاسِ وَشَفَاعَتِهِ وَلَمْ يَقْصِدُوا الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَقْسَمُوا عَلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بَلْ تَوَسَّلُوا إلَيْهِ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الْوَسَائِلِ وَهِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَدُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا يَتَوَسَّلُ الْعَبْدُ إلَى اللَّهِ بِالْإِيمَانِ بِنَبِيِّهِ وَبِمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالسَّلَامِ وَكَمَا يَتَوَسَّلُونَ فِي حَيَاتِهِ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ كَذَلِكَ يَتَوَسَّلُ الْخَلْقُ فِي الْآخِرَةِ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَتَتَوَسَّلُ بِدُعَاءِ الصَّالِحِينَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَهَلْ

تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ بِدُعَائِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَاسْتِغْفَارِهِمْ» . وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَ الْقُبُورِ لَوْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ الدُّعَاءِ عِنْدَ غَيْرِهَا وَهُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَأَجْوَبُ لَكَانَ السَّلَفُ أَعْلَمَ بِذَلِكَ مِنْ الْخَلْقِ وَكَانُوا أَسْرَعَ إلَيْهِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَأَسْبَقَ إلَى طَاعَتِهِ وَرِضَاهُ وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَيُرَغِّبُ فِيهِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ، وَنَهَى عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ وَمَا تَرَكَ شَيْئًا يُقَرِّبُ إلَى الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثَ أُمَّتَهُ بِهِ، وَلَا شَيْئًا يُبْعِدُ عَنْ النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَذَّرَ أُمَّتَهُ مِنْهُ، وَقَدْ تَرَكَ أُمَّتَهُ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَنْزَوِي عَنْهَا بَعْدَهُ إلَّا هَالِكٌ، فَكَيْفَ وَقَدْ نَهَى عَنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَحَسَمَ مَادَّتَهُ بِنَهْيِهِ وَنَهْيِهِ عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، فَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ لِلَّهِ مُسْتَقْبِلًا لَهَا. وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي لَا يَعْبُدُ الْمَوْتَى وَلَا يَدْعُوهُمْ كَمَا نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ الْغُرُوبِ لِأَنَّهَا وَقْتَ سُجُودِ الْمُشْرِكِينَ لِلشَّمْسِ، وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي لَا يَسْجُدُ إلَّا لِلَّهِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، فَكَيْفَ إذَا تَحَقَّقَتْ الْمَفْسَدَةُ بِأَنْ صَارَ الْعَبْدُ يَدْعُو الْمَيِّتَ، وَيَدْعُو بِهِ كَمَا إذَا تَحَقَّقَتْ الْمَفْسَدَةُ بِالسُّجُودِ لِلشَّمْسِ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَوَقْتَ الْغُرُوبِ؟ وَقَدْ كَانَ أَصْلُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ تَعْظِيمِ الْقُبُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] . قَالَ السَّلَفُ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: كَانَ هَؤُلَاءِ قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ، ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ، ثُمَّ عَبَدُوهُمْ، ثُمَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ الْأَرْبَعَةِ، فَكَيْفَ يُعَيَّنُ هَؤُلَاءِ لِلدُّعَاءِ عِنْدَ قُبُورِهِمْ دُونَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ، ثُمَّ إنَّ لِكُلِّ شَيْخٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَنَحْوِهِمْ مَنْ يُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ الشَّيْخِ الْآخَرِ، فَهَلْ أَمَرَ اللَّهُ بِالدُّعَاءِ عِنْدَ وَاحِدٍ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُشْرِكُونَ بِهِمْ الَّذِينَ ضَاهَوْا الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.

فَصْلٌ: وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ مِنْ قَوْلِهِ: إذَا نَزَلَ بِكَ حَادِثٌ أَوْ أَمْرٌ تَخَافُهُ فَاسْتَوْحِنِي فَيُكْشَفُ مَا بِكَ مِنْ الشِّدَّةِ، حَيًّا كُنْتُ أَوْ مَيِّتًا. فَهَذَا الْكَلَامُ وَنَحْوُهُ إمَّا يَكُونُ كَذِبًا مِنْ النَّاقِلِ، أَوْ خَطَأٌ مِنْ الْقَائِلِ، فَإِنَّهُ نَقْلٌ لَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ عَنْ قَائِلٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ، وَمَنْ تَرَكَ النَّقْلَ الْمُصَدَّقَ عَنْ الْقَائِلِ الْمَعْصُومِ، وَاتَّبَعَ نَقْلًا غَيْرَ مُصَدَّقٍ عَنْ قَائِلٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ بِمِثْلِ هَذَا، وَلَا رُسُلُهُ أَمَرُوا بِذَلِكَ، بَلْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] . وَلَمْ يَقُلْ ارْغَبْ إلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا} [الإسراء: 56] {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] . قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْعُزَيْرَ، وَالْمَسِيحَ، وَالْمَلَائِكَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقُلْ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إذَا نَزَلَ بِكَ حَادِثٌ فَاسْتَوْحِنِي، بَلْ «قَالَ لِابْنِ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ يُوصِيهِ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَك، تَعَرَّفْ إلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ» . وَمَا يَرْوِيه بَعْضُ الْعَامَّةِ مِنْ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِجَاهِي فَإِنَّ جَاهِي عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» . فَهُوَ حَدِيثٌ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ، لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الْمُعْتَمَدَةِ فِي الدِّينِ. فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ فَضِيلَةٌ، فَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى بِكُلِّ فَضِيلَةٍ وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنْ كَانَ مَنْفَعَةً لِلْحَيِّ بِالْمَيِّتِ فَأَصْحَابُهُ أَحَقُّ النَّاسِ انْتِفَاعًا بِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا مِنْ الضَّلَالِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الشُّيُوخِ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ خَطَأٌ مِنْهُ، وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ إنْ كَانَ

فصل قول من قال إن الله ينظر إلى الفقراء في ثلاثة مواطن

مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا وَلَيْسَ هُوَ بِنَبِيٍّ يَجِبُ اتِّبَاعُ قَوْلِهِ، وَلَا مَعْصُومٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 59] . فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ، وَاسْتَقْبَلَ جِهَةَ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَخَطَا سَبْعَ خُطُوَاتٍ يَخْطُو مَعَ كُلِّ تَسْلِيمَةٍ خُطْوَةً إلَى قَبْرِهِ قُضِيَتْ حَاجَتُهُ، أَوْ كَانَ فِي سَمَاعٍ فَإِنَّهُ يُطَيِّبُ وَيُكْثِرُ تَوَاجُدَهُ، فَهَذَا أَمْرٌ الْقُرْبَةُ فِيهِ شِرْكٌ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الشَّيْخَ عَبْدَ الْقَادِرِ لَمْ يَقُلْ هَذَا، وَلَا أَمَرَ بِهِ، وَمَنْ يَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْهُ فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُحْدِثُ مِثْلَ هَذِهِ الْبِدَعِ أَهْلُ الْغُلُوِّ وَالشِّرْكِ الْمُشَبَّهِينَ لِلنَّصَارَى مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الرَّافِضَةِ الْغَالِيَةِ فِي الْأَئِمَّةِ، وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ الْغُلَاةِ فِي الْمَشَايِخِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا» . فَإِذَا نَهَى عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقَبْرِ فِي الصَّلَاةِ لِلَّهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ وَالدُّعَاءُ لِغَيْرِ اللَّهِ مَعَ بُعْدِ الدَّارِ، وَهَلْ هَذَا إلَّا مِنْ جِنْسِ مَا يَفْعَلُهُ النَّصَارَى بِعِيسَى وَأُمِّهِ وَأَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ فِي اتِّخَاذِهِمْ أَرْبَابًا وَآلِهَةً يَدْعُونَهُمْ وَيَسْتَغِيثُونَهُمْ فِي مَطَالِبِهِمْ وَيَسْأَلُونَهُمْ وَيَسْأَلُونَ بِهِمْ. [فَصْلٌ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ يَنْظُرُ إلَى الْفُقَرَاءِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ] فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ يَنْظُرُ إلَى الْفُقَرَاءِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: عِنْدَ الْأَكْلِ، وَالْمُنَاصَفَةِ، وَالسَّمَاعِ. فَهَذَا الْقَوْلُ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ قَالَ: إنَّ اللَّهَ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ عِنْدَ الْأَكْلِ فَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ بِإِيثَارٍ، وَعِنْدَ الْمُجَارَاةِ فِي الْعِلْمِ لِأَنَّهُمْ يَقُصُّونَ

فصل هل للدعاء خصوصية قبول أو سرعة إجابة

الْمُنَاصَحَةَ، وَعِنْدَ السَّمَاعِ لِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ لِلَّهِ، أَوْ كَلَامًا يُشْبِهُ هَذَا، وَالْأَصْلُ الْجَامِعُ فِي هَذَا: أَنَّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ مَا كَانَ لِلَّهِ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ وَيَنْظُرُ إلَيْهِ فِيهِ نَظَرَ مَحَبَّةٍ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الْخَالِصُ الصَّوَابُ، فَالْخَالِصُ مَا كَانَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ مَا كَانَ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوَاكَلَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ وَالِاسْتِمَاعِ مِنْهَا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَمِنْهَا مَا يَشْتَمِلُ عَلَى خَيْرٍ، وَشَرٍّ، وَحَقٍّ، وَبَاطِلٍ، وَمَصْلَحَةٍ، وَمَفْسَدَةٍ، وَحُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ بِحَسَبِهِ. فَصْلٌ: وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ تَحَرِّي الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَ مَا يُقَالُ إنَّهُ قَبْرُ نَبِيٍّ، أَوْ قَبْرُ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْقَرَابَةِ، أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ إلْصَاقُ بَدَنِهِ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ بِالْقَبْرِ، أَوْ بِمَا يُجَاوِرُ الْقَبْرَ مِنْ عُودٍ وَغَيْرِهِ، كَمَنْ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ فِي قِبْلِيّ شَرْقِي جَامِعِ دِمَشْقَ عِنْدَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُقَالُ أَنَّهُ قَبْرُ هُودٍ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ قَبْرُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَوْ عِنْدَ الْمِثَالِ الْخَشَبِ الَّذِي يُقَالُ تَحْتُهُ رَأْسُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَهُوَ مُخْطِئٌ مُبْتَدِعٌ، مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ بِهَذِهِ الْأَمْكِنَةِ لَيْسَ لَهُ مَزِيَّةٌ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، وَلَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، بَلْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، كَمَا نَهَاهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ وَدَوَاعِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدُوا دُعَاءَ الْقَبْرِ، وَالدُّعَاءَ بِهِ، فَكَيْفَ إذَا قَصَدُوا ذَلِكَ. [فَصْلٌ هَلْ لِلدُّعَاءِ خُصُوصِيَّةُ قَبُولٍ أَوْ سُرْعَةُ إجَابَةٍ] فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَلْ لِلدُّعَاءِ خُصُوصِيَّةُ قَبُولٍ أَوْ سُرْعَةُ إجَابَةٍ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ مَكَان مُعَيَّنٍ عِنْدَ قَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ. فَلَا رَيْبَ أَنَّ الدُّعَاءَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ أَجْوَبُ مِنْهُ فِي بَعْضٍ، فَالدُّعَاءُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ أَجْوَبُ الْأَوْقَاتِ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ - وَفِي رِوَايَةٍ: نِصْفُ اللَّيْلِ - فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ. حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ» .

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ» وَالدُّعَاءُ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ، وَعِنْدَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ، وَعِنْدَ الْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، وَفِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ، وَفِي حَالِ السُّجُودِ، وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمَعْرُوفَةُ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ. وَالدُّعَاءُ بِالْمَشَاعِرِ: كَعَرَفَةَ، وَمُزْدَلِفَةَ، وَمِنًى، وَالْمُلْتَزَمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَشَاعِرِ مَكَّةَ، وَالدُّعَاءُ بِالْمَسَاجِدِ مُطْلَقًا، وَكُلَّمَا فُضِّلَ الْمَسْجِدُ كَالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ كَانَتْ الصَّلَاةُ وَالدُّعَاءُ أَفْضَلَ. وَأَمَّا الدُّعَاءُ لِأَجْلِ كَوْنِ الْمَكَانِ فِيهِ قَبْرُ نَبِيٍّ، أَوْ وَلِيٍّ، فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا إنَّ الدُّعَاءَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَكِنْ هَذَا مِمَّا ابْتَدَعَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مُضَاهَاةً لِلنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَأَصْلُهُ مِنْ دِينِ الْمُشْرِكِينَ، لَا مِنْ دِينِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، كَاِتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَسْتَحِبَّهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، وَلَكِنْ ابْتَدَعَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مُضَاهَاةً لِمَنْ لَعَنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَغِيثَ إلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ بِنَبِيٍّ مُرْسَلٍ، أَوْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، أَوْ بِكَلَامِهِ تَعَالَى، أَوْ بِالْكَعْبَةِ، أَوْ بِالدُّعَاءِ الْمَشْهُورِ بِاحْتِيَاطِ قَافْ، أَوْ بِدُعَاءِ أُمِّ دَاوُد، أَوْ الْخَضِرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى اللَّهِ فِي السُّؤَالِ بِحَقِّ فُلَانٍ بِحُرْمَةِ فُلَانٍ بِجَاهِ الْمُقَرَّبِينَ بِأَقْرَبِ الْخَلْقِ، أَوْ يُقْسِمُ بِأَعْمَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، فَيُقَالُ هَذَا السُّؤَالُ فِيهِ فُصُولٌ مُتَعَدِّدَةٌ. فَأَمَّا الْأَدْعِيَةُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ فَفِيهَا سُؤَالُ اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَالِاسْتِعَاذَةِ بِكَلَامِهِ كَمَا فِي الْأَدْعِيَةِ الَّتِي فِي السُّنَنِ. مِثْلُ قَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ أَنْتَ اللَّهُ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ» .

وَمِثْلُ قَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ» . وَمِثْلُ الدُّعَاءِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ» . وَأَمَّا الْأَدْعِيَةُ الَّتِي يَدْعُو بِهَا بَعْضُ الْعَامَّةِ وَيَكْتُبُهَا بَاعَةُ الْحُرُوزِ مِنْ الطُّرُقِيَّةِ الَّتِي فِيهَا: أَسْأَلُكَ بِاحْتِيَاطِ قَافٍ، وَهُوَ يُوفِ الْمُخَافِ، وَالطُّورِ، وَالْعَرْشِ، وَالْكُرْسِيِّ، وَزَمْزَمَ، وَالْمَقَامِ، وَالْبَلَدِ الْحَرَامِ، وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ فَلَا يُؤْثَرُ مِنْهَا شَيْءٌ لَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا عَنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقْسِمَ بِهَذِهِ بِحَالٍ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» . وَقَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقْسِمَ بِالْمَخْلُوقَاتِ أَلْبَتَّةَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» . كَمَا قَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ لَا وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ. وَكَمَا قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ أَيْ رَبِّ إلَّا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا. وَكِلَاهُمَا كَانَ مِمَّنْ يُبِرُّ اللَّهُ قَسَمَهُ، وَالْعَبْدُ يَسْأَلُ رَبَّهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي تَقْتَضِي مَطْلُوبَهُ وَهِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الَّتِي وَعَدَ الثَّوَابَ عَلَيْهَا، وَدَعَا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وَعَدَ إجَابَتَهُمْ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَتَوَسَّلُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِنَبِيِّهِ ثُمَّ بِعَمِّهِ وَغَيْرِ عَمِّهِ مِنْ صَالِحِيهِمْ

يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيّنَا فَاسْقِنَا، فَيُسْقَوْنَ فَتَوَسَّلُوا بَعْدَ مَوْتِهِ بِالْعَبَّاسِ كَمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ، وَهُوَ تَوَسُّلُهُمْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ بَصَرِي. فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَيَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي لِيَقْضِيَهَا، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِي. فَهَذَا طَلَبٌ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَقْبَلَ شَفَاعَةَ النَّبِيِّ لَهُ فِي تَوْجِيهِهِ بِنَبِيِّهِ إلَى اللَّهِ هُوَ كَتَوَسُّلِ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ بِهِ إلَى اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا التَّوَجُّهَ وَالتَّوَسُّلَ هُوَ تَوَجُّهٌ وَتَوَسُّلٌ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: أَسْأَلُكَ أَوْ أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِحَقِّ مَلَائِكَتِكَ، أَوْ بِحَقِّ أَنْبِيَائِكَ، أَوْ بِنَبِيِّكَ فُلَانٍ، أَوْ بِرَسُولِكَ فُلَانٍ، أَوْ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ، أَوْ بِزَمْزَمَ وَالْمَقَامِ، أَوْ بِالطُّورِ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الدُّعَاءِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَصْحَابِهِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، بَلْ قَدْ نَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ كَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ، لَا يَجُوزُ مِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ بِمَخْلُوقٍ وَلَا يَصِحُّ الْقَسَمُ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَإِنْ سَأَلَهُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ وَوَسِيلَةٌ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ، أَمَّا إذَا سَأَلَ اللَّهَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَبِدُعَاءِ نَبِيِّهِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ، فَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ سَبَبٌ لِلْإِثَابَةِ وَالدُّعَاءُ سَبَبٌ لِلْإِجَابَةِ، فَسُؤَالُهُ بِذَلِكَ سُؤَالٌ بِمَا هُوَ سَبَبٌ لِنَيْلِ الْمَطْلُوبِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا يُرْوَى فِي دُعَاءِ الْخُرُوجِ إلَى الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا. وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْغَارِ الَّذِينَ دَعَوْا اللَّهَ بِأَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ، فَالتَّوَسُّلُ إلَى اللَّهِ بِالنَّبِيِّينَ هُوَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِمْ وَبِطَاعَتِهِمْ كَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ أَوْ

فصل تعظيم مكان فيه خلوق وزعفران

بِدُعَائِهِمْ وَشَفَاعَتِهِمْ، وَأَمَّا نَفْسُ ذَوَاتِهِمْ فَلَيْسَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي حُصُولَ مَطْلُوبِ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ الْجَاهُ الْعَظِيمُ وَالْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ بِسَبَبِ إكْرَامِ اللَّهِ لَهُمْ وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِمْ، وَفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي إجَابَةَ دُعَاءِ غَيْرِهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ مِنْهُ إلَيْهِمْ كَالْإِيمَانِ بِهِمْ، وَالطَّاعَةِ لَهُمْ أَوْ بِسَبَبٍ مِنْهُمْ إلَيْهِ كَدُعَائِهِمْ لَهُ وَشَفَاعَتِهِمْ فِيهِ، فَهَذَانِ الشَّيْئَانِ يُتَوَسَّلُ بِهِمَا، وَأَمَّا الْإِقْسَامُ بِالْمَخْلُوقِ فَلَا، وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: «إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِجَاهِي، فَإِنَّ جَاهِي عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» حَدِيثٌ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ. [فَصْلٌ تَعْظِيمُ مَكَان فِيهِ خَلُوقٌ وَزَعْفَرَانٌ] فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: هَلْ يَجُوزُ تَعْظِيمُ مَكَان فِيهِ خَلُوقٌ وَزَعْفَرَانٌ لِكَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُئِيَ عِنْدَهُ، فَيُقَالُ: بَلْ تَعْظِيمُ مِثْلِ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ وَاِتِّخَاذُهَا مَسَاجِدَ وَمَزَارَاتٍ لِأَجْلِ ذَلِكَ هُوَ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِيهَا. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ فِي السَّفَرِ، فَرَأَى قَوْمًا يَبْتَدِرُونَ مَكَانًا فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: مَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: وَإِذَا كَانَ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَتَّخِذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِكُمْ مَسَاجِدَ؟ مَنْ أَدْرَكَتْهُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَإِلَّا فَلْيَمْضِ. وَهَذَا قَالَهُ عُمَرُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي فِي أَسْفَارِهِ فِي مَوَاضِعَ، وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَهُ فِي الْمَنَامِ فِي مَوَاضِعَ، وَمَا اتَّخَذَ السَّلَفُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَسْجِدًا وَلَا مَزَارًا، وَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ دِيَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَكْثَرُهَا مَسَاجِدَ وَمَزَارَاتٍ، فَإِنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ يَرَوْنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ، وَقَدْ جَاءَ إلَى بُيُوتِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ مِرَارًا كَثِيرَةً، وَتَخْلِيقُ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ بِالزَّعْفَرَانِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، وَأَمَّا مَا يَزِيدُهُ الْكَذَّابُونَ عَلَى ذَلِكَ مِثْلَ: أَنْ يَرَى فِي الْمَكَانِ أَثَرَ قَدَمٍ فَيُقَالُ هَذَا قَدَمُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ، وَالْأَقْدَامُ الْحِجَارَةُ الَّتِي يَنْقُلُهَا مَنْ يَنْقُلُهَا وَيَقُولُ إنَّهَا مَوْضِعُ قَدَمِهِ، كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ، وَلَوْ كَانَتْ حَقًّا لَسَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا ذَلِكَ مَسْجِدًا أَوْ مَزَارًا، بَلْ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذُوا مَقَامَ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مُصَلًّى إلَّا مَقَامَ إبْرَاهِيمَ بِقَوْلِهِ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] .

فصل الأشجار والأحجار والعيون التي ينذر لها بعض العامة

كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِالِاسْتِلَامِ وَالتَّقْبِيلِ لِحَجَرٍ مِنْ الْحِجَارَةِ إلَّا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، وَلَا بِالصَّلَاةِ إلَى بَيْتٍ إلَّا الْبَيْتَ الْحَرَامَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ غَيْرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ لِلنَّاسِ حَجًّا إلَى غَيْرِ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، أَوْ صِيَامَ شَهْرٍ مَفْرُوضٍ غَيْرَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، فَصَخْرَة بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَا يُسَنُّ اسْتِلَامُهَا وَلَا تَقْبِيلُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ لَيْسَ لِلصَّلَاةِ عِنْدَهَا وَالدُّعَاءِ خُصُوصِيَّةٌ عَلَى سَائِرِ بِقَاعِ الْمَسْجِدِ وَالصَّلَاةُ وَالدُّعَاءُ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ الَّذِي بَنَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَهَا. وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا فَتَحَ الْبَلَدَ قَالَ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ: أَيْنَ تَرَى أَنْ أَبْنِيَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: ابْنِهِ خَلْفَ الصَّخْرَةِ. قَالَ: خَالَطَتْكَ يَهُودِيَّةٌ يَا ابْنَ الْيَهُودِيَّةِ، بَلْ أَبْنِيهِ أَمَامَهَا، فَإِنَّ لَنَا صُدُورَ الْمَسَاجِدِ. فَبَنَى هَذَا الْمُصَلَّى الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ " الْأَقْصَى " وَلَمْ يَتَمَسَّحْ بِالصَّخْرَةِ وَلَا قَبَّلَهَا وَلَا صَلَّى عِنْدَهَا، كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّهُ لَمَّا قَبَّلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ قَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُك لَمَا قَبَّلْتُكَ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا أَتَى الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى يُصَلِّي فِيهِ وَلَا يَأْتِي الصَّخْرَةَ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ وَكَذَلِكَ حُجْرَةُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحُجْرَةُ الْخَلِيلِ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمَدَافِنِ الَّتِي فِيهَا نَبِيٌّ أَوْ رَجُلٌ صَالِحٌ: لَا يُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُهَا وَلَا التَّمَسُّحُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، بَلْ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا السُّجُودُ لِذَلِكَ فَكُفْرٌ كَذَلِكَ خِطَابُهُ بِمِثْلِ مَا يُخَاطَبُ بِهِ الرَّبُّ، مِثْلُ: قَوْلِ الْقَائِلِ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَانْصُرْنِي عَلَى عَدُوِّي وَنَحْوِ ذَلِكَ. [فَصْلٌ الْأَشْجَارُ وَالْأَحْجَارُ وَالْعُيُونُ الَّتِي يُنْذَرُ لَهَا بَعْضُ الْعَامَّةِ] فَصْلٌ: وَأَمَّا الْأَشْجَارُ، وَالْأَحْجَارُ، وَالْعُيُونُ، وَنَحْوُهَا مِمَّا يَنْذِرُ لَهَا بَعْضُ الْعَامَّةِ أَوْ يُعَلِّقُونَ بِهَا خِرَقًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، أَوْ يَأْخُذُونَ وَرَقَهَا يَتَبَرَّكُونَ بِهِ، أَوْ يُصَلُّونَ عِنْدَهَا، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ وَهُوَ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ

تَعَالَى، «وَقَدْ كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ شَجَرَةٌ يُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُسَمُّونَهَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ، كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، قُلْتُمْ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ، إنَّهَا السُّنَنُ، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ، وَحَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي الطَّرِيقِ لَفَعَلْتُمُوهُ» . وَقَدْ بَلَغَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ قَوْمًا يَقْصِدُونَ الصَّلَاةَ عِنْدَ الشَّجَرَةِ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَهَا بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ الَّتِي بَايَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْتَهَا، فَأَمَرَ بِتِلْكَ الشَّجَرَةِ فَقُطِعَتْ، وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الدِّينِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ عِبَادَةً فِي بُقْعَةٍ مِنْ هَذِهِ الْبِقَاعِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَذْرًا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَا مَزِيَّةَ لِلْعِبَادَةِ فِيهَا. فَصْلٌ: وَأَصْلُ هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بُقْعَةٌ تُقْصَدُ لِعِبَادَةِ اللَّهِ فِيهَا بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إلَّا مَسَاجِدَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَشَاعِرَ الْحَجِّ، وَأَمَّا الْمَشَاهِدُ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ سَوَاءٌ جُعِلَتْ مَسَاجِدَ، أَوْ لَمْ تُجْعَلْ أَوْ الْمَقَامَاتُ الَّتِي تُضَافُ إلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ الصَّالِحِينَ، أَوْ الْمَغَارَاتُ وَالْكُهُوفُ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِثْلُ الطُّورِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى، وَمِثْلُ غَارِ حِرَاءَ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَحَنَّثُ فِيهِ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ، وَالْغَارُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] . وَالْغَارُ الَّذِي بِجَبَلِ قَاسِيُونَ بِدِمَشْقَ " الَّذِي يُقَالُ لَهُ " مَغَارَةُ الذَّمِّ " وَالْمَقَامَانِ اللَّذَانِ بِجَانِبَيْهِ الشَّرْقِيِّ وَالْغَرْبِيِّ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا مَقَامُ إبْرَاهِيمَ " وَيُقَالُ لِلْآخَرِ " مَقَامُ عِيسَى " وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْبِقَاعَ وَالْمَشَاهِدَ فِي شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا. فَهَذِهِ لَا يُشْرَعُ السَّفَرُ إلَيْهَا لِزِيَارَتِهَا، وَلَوْ نَذَرَ نَاذِرٌ السَّفَرَ إلَيْهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَهُوَ يُرْوَى عَنْ غَيْرِهِمَا: أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا» .

وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَتَحُوا هَذِهِ الْبِلَادَ: بِلَادَ الشَّامِ، وَالْعِرَاقِ، وَمِصْرَ، وَخُرَاسَانَ، وَالْمَغْرِبِ، وَغَيْرَهَا: لَا يَقْصِدُونَ هَذِهِ الْبِقَاعَ وَلَا يَزُورُونَهَا وَلَا يَقْصِدُونَ الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ فِيهَا، بَلْ كَانُوا مُسْتَمْسِكِينَ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّهِمْ يُعَمِّرُونَ الْمَسَاجِدَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] . وَقَالَ {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ} [التوبة: 18] . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] . وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَسُوقِهِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ لَا يُنْهِزُهُ إلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ كَانَتْ خُطْوَتَاهُ إحْدَاهُمَا تَرْفَعُ دَرَجَةً وَالْأُخْرَى تَحُطُّ خَطِيئَةً فَإِذَا جَلَسَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ كَانَ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فَإِذَا قَضَى الصَّلَاةَ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِهِمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ. تَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ» . وَقَدْ تَنَازَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيمَنْ سَافَرَ لِزِيَارَةِ قَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَشَاهِدِ

وَالْمُحَقِّقُونَ، مِنْهُمْ قَالُوا: إنَّ هَذَا سَفَرُ مَعْصِيَةٍ وَلَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِيهِ كَمَنْ لَا يَقْصُرُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ: أَنَّ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ فِي الْإِسْلَامِ بَلْ نَفْسُ قَصْدِ هَذِهِ الْبِقَاعِ لِلصَّلَاةِ فِيهَا وَالدُّعَاءِ، لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي شَرِيعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَرْضَاهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ هَذِهِ الْبِقَاعَ لِلدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ، بَلْ لَا يَقْصِدُونَ إلَّا مَسَاجِدَ اللَّهِ، بَلْ الْمَسَاجِدُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ لَا يَقْصِدُونَهَا أَيْضًا كَمَسْجِدِ الضِّرَارِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107] {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] . بَلْ الْمَسَاجِدُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا وَبِنَاؤُهَا مُحَرَّمٌ، كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، لِمَا اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصِّحَاحِ، وَالسُّنَنِ، وَالْمَسَانِيدِ، أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» . وَقَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا، وَكَانَتْ حُجْرَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَارِجَةً عَنْ مَسْجِدِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي إمْرَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَامِلِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ أَنْ يَزِيدَ فِي الْمَسْجِدِ فَاشْتَرَى حُجَرَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتْ شَرْقِيَّ الْمَسْجِدِ، وَقِبْلَتَهُ فَزَادَهَا فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَتْ الْحُجْرَةُ إذْ ذَاكَ فِي الْمَسْجِدِ وَبَنَوْهَا مُسَنَّمَةً عَنْ سَمْتِ الْقِبْلَةِ لِئَلَّا يَصِلَ أَحَدٌ إلَيْهَا.

وَكَذَلِكَ قَبْرُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ لَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْبِلَادَ كَانَ عَلَيْهِ السُّورُ السُّلَيْمَانِيُّ، وَلَا يَدْخُلُ إلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عِنْدَهُ، بَلْ كَانَ يُصَلِّي الْمُسْلِمُونَ بِقَرْيَةِ الْخَلِيلِ بِمَسْجِدٍ هُنَاكَ، وَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، إلَى أَنْ نُقِبَ ذَلِكَ السُّوَرُ، ثُمَّ جُعِلَ فِيهِ بَابٌ، وَيُقَالُ إنَّ النَّصَارَى هُمْ نَقَبُوهُ وَجَعَلُوهُ كَنِيسَةً، ثُمَّ لَمَّا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ الْبِلَادَ جُعِلَ ذَلِكَ مَسْجِدًا. وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ الصَّالِحُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يُصَلُّونَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَبْرُ صَحِيحًا، فَكَيْفَ وَعَامَّةُ الْقُبُورِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى الْأَنْبِيَاءِ كَذِبٌ، مِثْلُ: الْقَبْرِ الَّذِي يُقَالُ إنَّهُ قَبْرُ نُوحٍ، فَإِنَّهُ كَذِبٌ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَإِنَّمَا أَظْهَرَهُ الْجُهَّالُ مِنْ مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ وَكَذَلِكَ قَبْرُ غَيْرِهِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا عَسْقَلَانُ فَإِنَّهَا كَانَتْ ثَغْرًا مِنْ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ صَالِحُو الْمُسْلِمِينَ يُقِيمُونَ بِهَا لِأَجْلِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْبِقَاعِ الَّتِي مِثْلُ هَذَا الْجِنْسِ، مِثْلُ: جَبَلِ لُبْنَانَ، وَالْإِسْكَنْدَرِيَّة، وَمِثْلُ عَبَّادَانِ، وَنَحْوِهَا بِأَرْضِ الْعِرَاقِ، وَمِثْلُ قَزْوِينَ، وَنَحْوِهَا مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي كَانَتْ ثُغُورًا، فَهَذِهِ كَانَ الصَّالِحُونَ يَقْصِدُونَهَا لِأَجْلِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا مَاتَ مُجَاهِدًا وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ: عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ» . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَأَنْ أُرَابِطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ. وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّ الرِّبَاطَ بِالثُّغُورِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاوِرَةِ بِالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ،

لِأَنَّ الْمُرَابَطَةَ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ، وَالْمُجَاوَرَةُ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ وَجِنْسُ الْجِهَادِ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19] {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 20] {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 21] {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 22] . فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي تَعْظِيمِ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ ثُمَّ مِنْ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ مَا سَكَنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْكُفَّارُ وَأَهْلُ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ، وَمِنْهَا مَا خَرِبَ وَصَارَ ثَغْرًا غَيْرُ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ وَالْبِقَاعِ تَتَغَيَّرُ أَحْكَامُهَا بِتَغَيُّرِ أَحْوَالِ أَهْلِهَا، فَقَدْ تَكُونُ الْبُقْعَةُ دَارَ كُفْرٍ إذَا كَانَ أَهْلُهَا كُفَّارًا، ثُمَّ تَصِيرُ دَارَ إسْلَامٍ إذَا أَسْلَمَ أَهْلُهَا كَمَا كَانَتْ مَكَّةُ شَرَّفَهَا اللَّهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ دَارَ كُفْرٍ وَحَرْبٍ، وَقَالَ اللَّهُ فِيهَا: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} [محمد: 13] . ثُمَّ لَمَّا فَتَحَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَارَتْ دَارَ إسْلَامٍ، وَهِيَ فِي نَفْسِهَا أُمُّ الْقُرَى وَأَحَبُّ الْأَرْضِ إلَى اللَّهِ، وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ كَانَ فِيهَا الْجَبَّارُونَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ - يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ - قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 20 - 22] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى لَمَّا أَنْجَى مُوسَى وَقَوْمَهُ مِنْ الْغَرَقِ: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145] . وَكَانَتْ تِلْكَ الدِّيَارُ دِيَارَ الْفَاسِقِينَ لَمَّا كَانَ يَسْكُنُهَا إذْ ذَاكَ الْفَاسِقُونَ. ثُمَّ لَمَّا

سَكَنَهَا الصَّالِحُونَ صَارَتْ دَارَ الصَّالِحِينَ، وَهَذَا أَصْلٌ يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ، فَإِنَّ الْبَلَدَ قَدْ تُحْمَدُ أَوْ تَذُمُّ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِحَالِ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَتَغَيَّرُ حَالُ أَهْلِهِ فَيَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ فِيهِمْ إذْ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ أَوْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ إلَّا بِالتَّقْوَى، النَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» . وَكَتَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إلَى سُلَيْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ آخَى بَيْنَهُمَا لَمَّا آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ بِالشَّامِ وَسَلْمَانَ بِالْعِرَاقِ نَائِبًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنْ هَلُمَّ إلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَكَتَبَ إلَيْهِ سَلْمَانُ إنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الرَّجُلُ عَمَلَهُ. فَصْلٌ: وَقَدْ تَبَيَّنَّ الْجَوَابُ فِي سَائِرِ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنَّ قَصْدَ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَمَا يُقَالُ إنَّهُ قَدَمُ نَبِيٍّ، أَوْ أَثَرُ نَبِيٍّ، أَوْ قَبْرُ نَبِيٍّ، أَوْ قَبْرُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، أَوْ بَعْضِ الشُّيُوخِ، أَوْ بَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ، أَوْ الْأَبْرَاجِ، أَوْ الْغَيْرِ إنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ الْمُنْكَرَةِ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَشْرَعْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا كَانَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ يَفْعَلُونَهُ، وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ وَذَرَائِعِ الْإِفْكِ، وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إذَا عَثَرَ: يَا جَاهَ مُحَمَّدٍ، يَا لَلسِّتِّ نَفِيسَةَ، أَوْ يَا سَيِّدِي الشَّيْخُ فُلَانٌ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ اسْتِعَانَتُهُ وَسُؤَالُهُ فَهُوَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الشِّرْكِ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ سَوَاءٌ كَانَ نَبِيًّا أَوْ غَيْرَ نَبِيٍّ لَا يُدْعَى، وَلَا يُسْأَلُ، وَلَا يُسْتَغَاثُ بِهِ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ،

وَلَا مَعَ الْبُعْدِ مِنْ قَبْرِهِ، بَلْ هَذَا مِنْ جِنْسِ دِينِ النَّصَارَى الَّذِينَ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] ، وَمِنْ جِنْسِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا} [الإسراء: 56] {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 80] . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَصْلٌ: وَكَذَلِكَ النَّذْرُ لِلْقُبُورِ أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ كَالنَّذْرِ لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ أَوْ لِلشَّيْخِ فُلَانٍ، أَوْ فُلَانٍ، أَوْ فُلَانٍ، أَوْ لِبَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ، أَوْ غَيْرِهِمْ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ بَلْ وَلَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» . فَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يَبْنِي عَلَى الْقُبُورِ الْمَسَاجِدَ وَيُسْرِجُ فِيهَا السُّرُجَ: كَالْقَنَادِيلِ، وَالشَّمْعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ هَذَا مَلْعُونًا فَاَلَّذِي يَضَعُ فِيهَا قَنَادِيلَ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَشَمْعِدَانَ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَيَضَعُهَا عِنْدَ الْقُبُورِ أَوْلَى بِاللَّعْنَةِ، فَمَنْ نَذَرَ زَيْتًا

أَوْ شَمْعًا، أَوْ ذَهَبًا، أَوْ فِضَّةً، أَوْ سِتْرًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لِيُجْعَلَ عِنْدَ قَبْرِ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، أَوْ الْقَرَابَةِ، أَوْ الْمَشَايِخِ، فَهُوَ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَهَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِمَا نَذَرَهُ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ الصَّالِحِينَ، كَانَ خَيْرًا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَنْفَعَ لَهُ، فَإِنَّ هَذَا عَمَلٌ صَالِحٌ يُثِيبُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ، وَلَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَالْمُتَصَدِّقُ يَتَصَدَّقُ لِوَجْهِ اللَّهِ وَلَا يَطْلُبُ أَجْرَهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ، بَلْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى - الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل: 17 - 18] {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 19] {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل: 20] {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 21] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265] الْآيَةَ. وَقَالَ عَنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان: 9] . وَلِهَذَا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ بِغَيْرِ اللَّهِ، مِثْلُ الَّذِي يَقُولُ كَرَامَةً لِأَبِي بَكْرٍ، وَلِعَلِيٍّ، أَوْ لِلشَّيْخِ فُلَانٍ، أَوْ الشَّيْخِ فُلَانٍ بَلْ لَا يُعْطِي إلَّا مَنْ سَأَلَ لِلَّهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّ إخْلَاصَ الَّذِي لِلَّهِ وَاجِبٌ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ: كَالصَّلَاةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، فَلَا يَصْلُحُ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ وَلَا الصِّيَامُ إلَّا لِلَّهِ، وَلَا الْحَجُّ إلَّا إلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَلَا الدُّعَاءُ إلَّا لِلَّهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] .

وَقَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ - إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 1 - 2] . وَهَذَا هُوَ أَصْلُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نَعْبُدَهُ إلَّا بِمَا شَرَعَ، لَا نَعْبُدُهُ بِالْبِدَعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] . وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2] . قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ. قَالُوا: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ. قَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ. هَذَا كُلُّهُ لِأَنَّ الدِّينَ دِينُ اللَّهِ بَلَّغَهُ عَنْهُ رَسُولُهُ فَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَمَّ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمْ شَرَعُوا فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، فَحَرَّمُوا أَشْيَاءَ لَمْ يُحَرِّمْهَا اللَّهُ كَالْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ، وَالْوَصِيلَةِ، وَالْحَامِي وَشَرَعُوا دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ وَعِبَادَتِهِ وَالرَّهْبَانِيَّةِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا النَّصَارَى. وَالْإِسْلَامُ دِينُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ كُلُّهُمْ بُعِثُوا بِالْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71] {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72] .

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130] {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 131 - 132] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ» فَدِينُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ دِينٌ وَاحِدٌ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَشَرَعَهُ، كَمَا قَالَ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13] . وَإِنَّمَا يَتَنَوَّعُ فِي هَذَا الدِّينِ الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ، كَمَا قَالَ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] . كَمَا يَتَنَوَّعُ شَرِيعَةُ الرَّسُولِ الْوَاحِدِ. فَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَمَرَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ أَمَرَهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى الْكَعْبَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَهَذَا فِي وَقْتِهِ كَانَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ شَرِيعَةُ التَّوْرَاةِ فِي وَقْتِهَا كَانَتْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَشَرِيعَةُ الْإِنْجِيلِ فِي وَقْتِهِ كَانَتْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ آمَنَ بِالتَّوْرَاةِ ثُمَّ كَذَّبَ بِالْإِنْجِيلِ خَرَجَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ كَافِرًا، وَكَذَلِكَ مَنْ آمَنَ بِالْكِتَابَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَكَذَّبَ بِالْقُرْآنِ كَانَ كَافِرًا خَارِجًا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَجَمِيعِ الرُّسُلِ.

كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] الْآيَةَ.

كتاب الصيام

[كِتَابُ الصِّيَامِ] [مَسْأَلَة صَوْم يَوْمِ الْغَيْمِ] ِ 331 - 1 مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْغَيْمِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ هُوَ يَوْمُ شَكٍّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ الْغَيْمِ إذَا حَالَ دُونِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ غَيْمٌ أَوْ قَتَرٌ، فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ وَهِيَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. أَحَدُهَا: إنَّ صَوْمَهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. ثُمَّ هَلْ هُوَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ؟ أَوْ تَنْزِيهٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ. وَاخْتَارَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كَأَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ عَقِيلٍ، وَأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مَنْدَهْ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَغَيْرِهِمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ صِيَامَهُ وَاجِبٌ كَاخْتِيَارِ الْقَاضِي، وَالْخِرَقِيِّ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَهَذَا يُقَالُ إنَّهُ أَشْهُرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ، لَكِنَّ الثَّابِتَ عَنْ أَحْمَدَ لِمَنْ عَرَفَ نُصُوصَهُ، وَأَلْفَاظَهُ، أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِبُّ صِيَامَ يَوْمِ الْغَيْمِ إتْبَاعًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُوجِبُهُ عَلَى النَّاسِ، بَلْ كَانَ يَفْعَلُهُ احْتِيَاطًا، وَكَانَ الصَّحَابَةُ فِيهِمْ مَنْ يَصُومُهُ احْتِيَاطًا، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَمُعَاوِيَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَأَسْمَاءَ، وَغَيْرِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يَصُومُهُ مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَنْهَى عَنْهُ. كَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَغَيْرِهِ. فَأَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَصُومُهُ احْتِيَاطًا. وَأَمَّا إيجَابُ صَوْمِهِ فَلَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ، وَلَا كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: لَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ اعْتَقَدُوا أَنَّ مَذْهَبَهُ إيجَابُ صَوْمِهِ، وَنَصَرُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهُ، وَيَجُوزُ فِطْرُهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَوْ أَكْثَرِهِمْ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِمْسَاكَ عِنْدَ الْحَائِلِ عَنْ رُؤْيَةِ الْفَجْرِ جَائِزٌ. فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ أَكَلَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ طُلُوعَ الْفَجْرِ، وَكَذَلِكَ إذَا شَكَّ هَلْ أَحْدَثَ؟ أَمْ لَا؟ إنْ شَاءَ تَوَضَّأَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَتَوَضَّأْ. وَكَذَلِكَ إذَا شَكَّ هَلْ حَالَ حَوْلُ الزَّكَاةِ؟ أَوْ لَمْ يَحُلْ؟ وَإِذَا شَكَّ هَلْ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ مِائَةٌ؟ أَوْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ؟ فَأَدَّى الزِّيَادَةَ. وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى أَنَّ الِاحْتِيَاطَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَا مُحَرَّمٍ، ثُمَّ إذَا صَامَهُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ، أَوْ بِنِيَّةٍ مُعَلَّقَةٍ، بِأَنْ يَنْوِيَ إنْ كَانَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ كَانَ عَنْ رَمَضَانَ، وَإِلَّا فَلَا. فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِيهِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَهِيَ الَّتِي نَقَلَهَا الْمَرْوَزِيِّ وَغَيْرُهُ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ فِي شَرْحِهِ لِلْمُخْتَصَرِ، وَاخْتِيَارُ أَبِي الْبَرَكَاتِ وَغَيْرِهِمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهُ لَا يُجْزِيهِ إلَّا بِنِيَّةِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، اخْتَارَهَا الْقَاضِي، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ لِشَهْرِ رَمَضَانَ: هَلْ هُوَ وَاجِبٌ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ رَمَضَانَ، فَإِنْ صَامَ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ، أَوْ مُعَلَّقَةٍ، أَوْ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَوْ النَّذْرِ، لَمْ يُجْزِئْهُ ذَلِكَ كَالْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ. وَالثَّانِي: يُجْزِئُهُ مُطْلَقًا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ، لَا بِنِيَّةِ تَعْيِينِ، غَيْرِ رَمَضَانَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ أَحْمَدَ، وَهِيَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ، وَأَبِي الْبَرَكَاتِ. وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ النِّيَّةَ تَتْبَعُ الْعِلْمَ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. فَإِنْ نَوَى نَفْلًا أَوْ صَوْمًا مُطْلَقًا لَمْ يُجِزْهُ: لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَقْصِدَ أَدَاءَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي عَلِمَ وُجُوبَهُ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ غَدًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَهُنَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْيِينُ، وَمَنْ أَوْجَبَ التَّعْيِينَ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَقَدْ أَوْجَبَ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ. فَإِذَا قِيلَ إنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهُ وَصَامَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ، أَوْ مُعَلَّقَةٍ أَجْزَأَهُ. وَأَمَّا إذَا قَصَدَ صَوْمَ ذَلِكَ تَطَوُّعًا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ أَيْضًا، كَمَنْ كَانَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ، وَلَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّبَرُّعِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَقُّهُ، فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعْطَائِهِ ثَانِيًا، بَلْ ذَلِكَ الَّذِي وَصَلَ إلَيْك هُوَ حَقٌّ كَانَ لَك عِنْدِي، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ حَقَائِقَ الْأُمُورِ. وَالرِّوَايَةُ الَّتِي تُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ النَّاسَ فِيهِ تَبَعٌ لِلْإِمَامِ فِي نِيَّتِهِ، عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ، كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ» . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي " الْهِلَالِ ": هَلْ هُوَ اسْمٌ لِمَا يَطْلُعُ فِي السَّمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ؟ أَوْ لَا يُسَمَّى هِلَالًا حَتَّى يَسْتَهِلَّ بِهِ النَّاسُ وَيَعْلَمُوهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي النِّزَاعُ فِيمَا إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُطْبَقَةً بِالْغَيْمِ، أَوْ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ مُطْلَقًا. هَلْ هُوَ يَوْمُ شَكٍّ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِشَكٍّ، بَلْ الشَّكُّ إذَا أَمْكَنَتْ رُؤْيَتُهُ، وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ شَكٌّ لِإِمْكَانِ طُلُوعِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ حُكْمًا، فَلَا يَكُونُ يَوْمَ شَكٍّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُنْفَرِدِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ، هَلْ يَصُومُ وَيُفْطِرُ

من رأى الهلال وحده وتحقق الرؤية

وَحْدَهُ؟ أَوْ لَا يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ النَّاسِ؟ أَوْ يَصُومُ وَحْدَهُ وَيُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، مَعْرُوفَةٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. [مِنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ وَتَحَقَّقَ الرُّؤْيَةَ] 332 - 2 وَسُئِلَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ، عَنْ رَجُلٍ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ، وَتَحَقَّقَ الرُّؤْيَةَ: فَهَلْ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَحْدَهُ؟ أَوْ يَصُومَ وَحْدَهُ؟ أَوْ مَعَ جُمْهُورِ النَّاسِ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا رَأَى هِلَالَ الصَّوْمَ وَحْدَهُ، أَوْ هِلَالَ الْفِطْرِ وَحْدَهُ، فَهَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ؟ أَوْ يُفْطِرَ بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ؟ أَمْ لَا يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ النَّاسِ؟ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَدَ: أَحَدُهَا: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ، وَأَنْ يُفْطِرَ سِرًّا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّالِثُ: يَصُومُ مَعَ النَّاسِ، وَيُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ: لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَذَكَرَ الْفِطْرَ وَالْأَضْحَى فَقَطْ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، قَالَ: وَفَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: إنَّمَا مَعْنَى هَذَا الصَّوْمُ وَالْفِطْرُ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَعِظَمِ النَّاسِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ آخَرَ: فَقَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ فَقَالَ: «وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ

تُفْطِرُونَ. وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ. وَكُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ، وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ، وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ، وَكُلُّ جَمْعٍ مَوْقِفٌ» . وَلِأَنَّهُ لَوْ رَأَى هِلَالَ النَّحْرِ لَمَا اشْتَهَرَ، وَالْهِلَالُ اسْمٌ اُسْتُهِلَّ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْهِلَالَ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا اسْتَهَلَّ بِهِ النَّاسُ، وَالشَّهْرُ بَيِّنٌ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هِلَالًا وَلَا شَهْرًا. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَّقَ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً بِمُسَمَّى الْهِلَالِ، وَالشَّهْرِ: كَالصَّوْمِ وَالْفِطْرِ وَالنَّحْرِ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ. قَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]- إلَى قَوْلِهِ - {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ} [البقرة: 185] . أَنَّهُ أَوْجَبَ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ الَّذِي تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ أَنَّ الْهِلَالَ هَلْ هُوَ اسْمٌ لِمَا يَظْهَرُ فِي السَّمَاءِ؟ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ النَّاسُ؟ وَبِهِ يَدْخُلُ؟ الشَّهْرُ، أَوْ الْهِلَالُ اسْمٌ لِمَا يَسْتَهِلُّ بِهِ النَّاسُ، وَالشَّهْرُ لِمَا اُشْتُهِرَ بَيْنَهُمْ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ يَقُولُ: مَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ فَقَدْ دَخَلَ مِيقَاتُ الصَّوْمِ، وَدَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِ، وَتِلْكَ اللَّيْلَةُ هِيَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ غَيْرُهُ. وَيَقُولُ مَنْ لَمْ يَرَهُ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ طَالِعًا قَضَى الصَّوْمَ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي شَهْرِ الْفِطْرِ، وَفِي شَهْرِ النَّحْرِ، لَكِنَّ شَهْرَ النَّحْرِ مَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا قَالَ مَنْ رَآهُ يَقِفُ وَحْدَهُ، دُونَ سَائِرِ الْحَاجِّ، وَأَنَّهُ يَنْحَرُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَيَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَيَتَحَلَّلُ دُونَ سَائِرِ الْحَاجِّ. وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْفِطْرِ: فَالْأَكْثَرُونَ أَلْحَقُوهُ بِالنَّحْرِ، وَقَالُوا لَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَآخَرُونَ قَالُوا بَلْ الْفِطْرُ كَالصَّوْمِ. وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ الْعِبَادَ بِصَوْمِ وَاحِدِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَتَنَاقُضُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ.

أهل مدينة رأى بعضهم هلال ذي الحجة ولم يثبت عند حاكمها

وَحِينَئِذٍ فَشَرْطُ كَوْنِهِ هِلَالًا وَشَهْرًا شُهْرَتُهُ بَيْنَ النَّاسِ. وَاسْتِهْلَالُ النَّاسِ بِهِ حَتَّى لَوْ رَآهُ عَشَرَةٌ، وَلَمْ يَشْتَهِرْ ذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْبَلَدِ، لِكَوْنِ شَهَادَتِهِمْ مَرْدُودَةً، أَوْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَشْهَدُوا بِهِ، كَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَمَا لَا يَقِفُونَ وَلَا يَنْحَرُونَ وَلَا يُصَلُّونَ الْعِيدَ إلَّا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَكَذَلِكَ لَا يَصُومُونَ إلَّا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ» . وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ: يَصُومُ مَعَ الْإِمَامِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ. قَالَ أَحْمَدُ: يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ. وَعَلَى هَذَا تَفْتَرِقُ أَحْكَامُ الشَّهْرِ: هَلْ هُوَ شَهْرٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَلَدِ كُلِّهِمْ؟ أَوْ لَيْسَ شَهْرًا فِي حَقِّهِمْ كُلِّهِمْ؟ يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . فَإِنَّمَا أَمَرَ بِالصَّوْمِ مَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ، وَالشُّهُودُ لَا يَكُونُ إلَّا لِشَهْرٍ اُشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى يُتَصَوَّرَ شُهُودُهُ، وَالْغَيْبَةُ عَنْهُ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، وَصُومُوا مِنْ الْوَضَحِ إلَى الْوَضَحِ» . وَنَحْوُ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلْجَمَاعَةِ، لَكِنْ مَنْ كَانَ فِي مَكَان لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهُ، إذَا رَآهُ صَامَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ غَيْرُهُ. وَعَلَى هَذَا فَلَوْ أَفْطَرَ ثُمَّ تَبَيَّنَّ أَنَّهُ رُئِيَ فِي مَكَان آخَرَ أَوْ ثَبَتَ نِصْفَ النَّهَارِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. فَإِنَّهُ إنَّمَا صَارَ شَهْرًا فِي حَقِّهِمْ مِنْ حِينِ ظَهَرَ، وَاشْتُهِرَ. وَمِنْ حِينَئِذٍ وَجَبَ الْإِمْسَاكُ كَأَهْلِ عَاشُورَاءَ: الَّذِينَ أُمِرُوا بِالصَّوْمِ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ، وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِالْقَضَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَحَدِيثُ الْقَضَاءِ ضَعِيفٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. - [أَهْل مَدِينَةٍ رَأَى بَعْضُهُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ حَاكِمِهَا] 333 - 3 وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عَنْ أَهْلِ مَدِينَةٍ رَأَى بَعْضُهُمْ هِلَالَ ذِي

الْحِجَّةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ حَاكِمِ الْمَدِينَةٍ: فَهَلْ لَهُمْ أَنْ يَصُومُوا الْيَوْمَ الَّذِي فِي الظَّاهِرِ التَّاسِعُ. وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ الْعَاشِرَ؟ فَأَجَابَ: نَعَمْ. يَصُومُونَ التَّاسِعَ فِي الظَّاهِرِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَكُونُ عَاشِرًا، وَلَوْ قُدِّرَ ثُبُوتُ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ. فَإِنَّ فِي السُّنَنِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، وَالْأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ. فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ وَقَفُوا بِعَرَفَةَ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ خَطَأً أَجْزَأَهُمْ الْوُقُوفُ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي حَقِّهِمْ. وَلَوْ وَقَفُوا الثَّامِنَ خَطَأً فَفِي الْإِجْزَاءِ نِزَاعٌ. وَالْأَظْهَرُ صِحَّةُ الْوُقُوفِ أَيْضًا، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَمَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - " إنَّمَا عَرَفَةُ الْيَوْمُ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ " وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالْهِلَالِ وَالشَّهْرِ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] وَالْهِلَالُ اسْمٌ لِمَا يُسْتَهَلُّ بِهِ: أَيْ يُعْلَنُ بِهِ، وَيُجْهَرُ بِهِ فَإِذَا طَلَعَ فِي السَّمَاءِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ وَيَسْتَهِلُّوا لَمْ يَكُنْ هِلَالًا. وَكَذَا الشَّهْرُ مَأْخُوذٌ مِنْ الشُّهْرَةِ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بَيْنَ النَّاسِ لَمْ يَكُنْ الشَّهْرُ قَدْ دَخَلَ، وَإِنَّمَا يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ إذَا طَلَعَ فِي السَّمَاءِ كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ أَوَّلُ الشَّهْرِ. سَوَاءٌ ظَهَرَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ وَاسْتَهَلُّوا بِهِ أَوْ لَا. وَلَيْسَ كَذَلِكَ: بَلْ ظُهُورُهُ لِلنَّاسِ وَاسْتِهْلَالُهُمْ بِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ: وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

«صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ» . أَيْ: هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَعْلَمُونَ أَنَّهُ وَقْتُ الصَّوْمِ، وَالْفِطْرِ. وَالْأَضْحَى. فَإِذَا لَمْ تَعْلَمُوهُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ. وَصَوْمُ الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ: هَلْ هُوَ تَاسِعُ ذِي الْحِجَّةِ؟ أَوْ عَاشِرُ ذِي الْحِجَّةِ؟ جَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعَاشِرِ. كَمَا أَنَّهُمْ لَوْ شَكُّوا لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ؛ هَلْ طَلَعَ الْهِلَالُ؟ أَمْ لَمْ يَطْلُعْ؟ فَإِنَّهُمْ يَصُومُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَإِنَّمَا يَوْمُ الشَّكِّ الَّذِي رُوِيَتْ فِيهِ الْكَرَاهَةُ الشَّكُّ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ شَعْبَانَ. وَإِنَّمَا الَّذِي يَشْتَبِهُ فِي هَذَا الْبَابِ مَسْأَلَتَانِ: إحْدَاهُمَا: لَوْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ، أَوْ أَخْبَرَهُ بِهِ جَمَاعَةٌ يَعْلَمُ صِدْقَهُمْ: هَلْ يُفْطِرُ؟ أَمْ لَا؟ وَالثَّانِيَةُ: لَوْ رَأَى هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، أَوْ أَخْبَرَهُ بِهِ جَمَاعَةٌ يَعْلَمُ صِدْقَهُمْ، هَلْ يَكُونُ فِي حَقِّهِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ هُوَ التَّاسِعُ، وَالْعَاشِرُ بِحَسَبِ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ الَّتِي لَمْ تُشْتَهَرْ عِنْدَ النَّاسِ؟ أَوْ هُوَ التَّاسِعُ وَالْعَاشِرُ الَّذِي اشْتَهَرَ عِنْدَ النَّاسِ؟ . فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَالْمُنْفَرِدُ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ، لَا يُفْطِرُ عَلَانِيَةً، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ يُبِيحُ الْفِطْرَ كَمَرَضٍ وَسَفَرٍ، وَهَلْ يُفْطِرُ سِرًّا عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ أَصَحُّهُمَا لَا يُفْطِرُ سِرًّا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِهِمَا. وَفِيهِمَا قَوْلٌ أَنَّهُ يُفْطِرُ سِرًّا كَالْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَقَدْ رَوَى أَنَّ رَجُلَيْنِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَيَا هِلَالَ شَوَّالٍ، فَأَفْطَرَ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يُفْطِرْ الْآخَرُ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ قَالَ: لِلَّذِي أَفْطَرَ لَوْلَا صَاحِبُك لَأَوْجَعْتُك ضَرْبًا. وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفِطْرَ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ، وَاَلَّذِي صَامَهُ الْمُنْفَرِدُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَيْسَ هُوَ يَوْمَ الْعِيدِ الَّذِي نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَوْمِهِ، فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ

صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ. وَقَالَ: «أَمَّا أَحَدُهُمَا فَيَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صَوْمِكُمْ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَيَوْمٌ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ» . فَاَلَّذِي نَهَى عَنْ صَوْمِهِ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يُفْطِرُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَيَنْسُكُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ. وَهَذَا يَظْهَرُ بِالْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ بِرُؤْيَةِ ذِي الْحِجَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقِفَ قَبْلَ النَّاسِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ فِي الظَّاهِرِ الثَّامِنُ، وَإِنْ كَانَ بِحَسَبِ رُؤْيَتِهِ هُوَ التَّاسِعُ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي انْفِرَادِ الرَّجُلِ فِي الْوُقُوفِ، وَالذَّبْحِ، مِنْ مُخَالَفَةِ الْجَمَاعَةِ مَا فِي إظْهَارِهِ لِلْفِطْرِ. وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ التَّاسِعِ فِي حَقِّ مَنْ رَأَى الْهِلَالَ، أَوْ أَخْبَرَهُ ثِقَتَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَا الْهِلَالَ، وَهُوَ الْعَاشِرُ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَهُوَ الْعَاشِرُ بِحَسَبِ الرُّؤْيَةِ الْخَفِيَّةِ، فَهَذَا يُخَرَّجُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. فَمَنْ أَمَرَهُ بِالصَّوْمِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ الَّذِي هُوَ بِحَسَبِ الرُّؤْيَةِ الْخَفِيَّةِ مِنْ شَوَّالٍ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْفِطْرِ سِرًّا، سَوَّغَ لَهُ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ، وَاسْتَحَبَّهُ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ، كَمَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ رَمَضَانَ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ. وَمَنْ أَمَرَهُ بِالْفِطْرِ سِرًّا لِرُؤْيَتِهِ، نَهَاهُ عَنْ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ، كَهِلَالِ شَوَّالٍ الَّذِي انْفَرَدَ بِرُؤْيَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَكُونُ الْإِمَامُ الَّذِي فُوِّضَ إلَيْهِ إثْبَاتُ الْهِلَالِ مُقَصِّرًا، لِرَدِّهِ شَهَادَةَ الْعُدُولِ، إمَّا لِتَقْصِيرِهِ فِي الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ، وَإِمَّا رَدَّ شَهَادَتَهُمْ لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ، الَّتِي لَيْسَتْ بِشَرْعِيَّةٍ، أَوْ لِاعْتِمَادِهِ عَلَى قَوْلِ الْمُنَجِّمِ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُرَى. قِيلَ: مَا يَثْبُتُ مِنْ الْحُكْمِ لَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهِ بَيْنَ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، مُجْتَهِدًا مُصِيبًا كَانَ أَوْ مُخْطِئًا، أَوْ مُفَرِّطًا، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ الْهِلَالُ وَيُشْتَهَرْ

بِحَيْثُ يَتَحَرَّى النَّاسُ فِيهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فِي الْأَئِمَّةِ: يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ» . فَخَطَؤُهُ وَتَفْرِيطُهُ عَلَيْهِ، لَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يُفَرِّطُوا، وَلَمْ يُخْطِئُوا. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى حِسَابِ النُّجُومِ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ، وَلَا نَحْسُبُ، صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» . وَالْمُعْتَمِدُ عَلَى الْحِسَابِ فِي الْهِلَالِ، كَمَا أَنَّهُ ضَالٌّ فِي الشَّرِيعَةِ، مُبْتَدِعٌ فِي الدِّينِ، فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي الْعَقْلِ وَعِلْمِ الْحِسَابِ. فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ بِالْهَيْئَةِ يَعْرِفُونَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا تَنْضَبِطُ بِأَمْرٍ حِسَابِيٍّ، وَإِنَّمَا غَايَةُ الْحِسَابِ مِنْهُمْ إذَا عَدَلَ أَنْ يَعْرِفَ كَمْ بَيْنَ الْهِلَالِ وَالشَّمْسِ مِنْ دَرَجَةِ وَقْتِ الْغُرُوبِ مَثَلًا؛ لَكِنْ الرُّؤْيَةُ لَيْسَتْ مَضْبُوطَةً بِدَرَجَاتٍ مَحْدُودَةٍ، فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حِدَةِ النَّظَرِ وَكَلَالِهِ، وَارْتِفَاعِ الْمَكَانِ الَّذِي يَتَرَاءَى فِيهِ الْهِلَالُ، وَانْخِفَاضِهِ، وَبِاخْتِلَافِ صَفَاءِ الْجَوِّ وَكَدَرِهِ. وَقَدْ يَرَاهُ بَعْضُ النَّاسِ لِثَمَانِي دَرَجَاتٍ، وَآخَرُ لَا يَرَاهُ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ دَرَجَةً؛ وَلِهَذَا تَنَازَعَ أَهْلُ الْحِسَابِ فِي قَوْسِ الرُّؤْيَةِ تَنَازُعًا مُضْطَرِبًا، وَأَئِمَّتُهُمْ: كَبَطْلَيْمُوسَ، لَمْ يَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ بِحَرْفٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ حِسَابِيٌّ. وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ، مِثْلُ كوشياز الدَّيْلَمِيِّ، وَأَمْثَالِهِ. لَمَّا رَأَوْا الشَّرِيعَةَ عَلَّقَتْ الْأَحْكَامَ بِالْهِلَالِ، فَرَأَوْا الْحِسَابَ طَرِيقًا تَنْضَبِطُ فِيهِ الرُّؤْيَةُ، وَلَيْسَتْ طَرِيقَةً مُسْتَقِيمَةً، وَلَا مُعْتَدِلَةً، بَلْ خَطَّأَهَا كَثِيرٌ، وَقَدْ جُرِّبَ، وَهُمْ يَخْتَلِفُونَ كَثِيرًا: هَلْ يُرَى؟ أَمْ لَا يُرَى؟ وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّهُمْ ضَبَطُوا بِالْحِسَابِ مَا لَا يُعْلَمُ بِالْحِسَابِ، فَأَخْطَئُوا طَرِيقَ الصَّوَابِ، وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَيَّنْت أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ

مسألة المسافر في رمضان

الشَّرْعُ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي يُوَافِقُهُ الْعَقْلُ الصَّرِيحُ، كَمَا تَكَلَّمْت عَلَى حَدِّ الْيَوْمِ أَيْضًا، وَبَيَّنْت أَنَّهُ لَا يَنْضَبِطُ بِالْحِسَابِ، لِأَنَّ الْيَوْمَ يَظْهَرُ بِسَبَبِ الْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّةَ الْعَشَاءَ مِنْ حِصَّةِ الْفَجْرِ، إنَّمَا يَصِحُّ كَلَامُهُ لَوْ كَانَ الْمُوجِبُ لِظُهُورِ النُّورِ وَخَفَائِهِ مُحَاذَاةَ الْأُفُقِ الَّتِي تُعْلَمُ بِالْحِسَابِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ لِلْأَبْخِرَةِ فِي ذَلِكَ تَأْثِيرٌ، وَالْبُخَارُ يَكُونُ فِي الشِّتَاءِ وَالْأَرْضُ الرَّطْبَةُ أَكْثَرُ مِمَّا يَكُونُ فِي الصَّيْفِ وَالْأَرْضِ الْيَابِسَةِ. وَكَانَ ذَلِكَ لَا يَنْضَبِطُ بِالْحِسَابِ، فَسَدَتْ طَرِيقَةُ الْقِيَاسِ الْحِسَابِيِّ. وَلِهَذَا تُوجَدُ حِصَّةُ الْفَجْرِ فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ أَطْوَلَ مِنْهَا فِي زَمَانِ الصَّيْفِ. وَالْآخِذُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَاسِ الْحِسَابِيِّ يَشْكُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، لِأَنَّ حِصَّةَ الْفَجْرِ عِنْدَهُ تَتْبَعُ النَّهَارَ، وَهَذَا أَيْضًا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. [مَسْأَلَة الْمُسَافِر فِي رَمَضَانَ] 334 - 4 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، عَنْ الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ، وَمَنْ يَصُومُ، يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَيُنْسَبُ إلَى الْجَهْلِ. وَيُقَالُ لَهُ الْفِطْرُ أَفْضَلُ، وَمَا هُوَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ: وَهَلْ إذَا أَنْشَأَ السَّفَرَ مِنْ يَوْمِهِ يُفْطِرُ؟ ؟ وَهَلْ يُفْطِرُ السُّفَّارُ مِنْ الْمُكَارِيَةِ وَالتُّجَّارِ وَالْجَمَّالُ وَالْمَلَّاحُ وَرَاكِبُ الْبَحْرِ؟ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ سَفَرِ الطَّاعَةِ، وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ: الْفِطْرُ لِلْمُسَافِرِ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، سَوَاءٌ كَانَ سَفَرَ حَجٍّ، أَوْ جِهَادٍ، أَوْ تِجَارَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْفَارِ الَّتِي لَا يَكْرَهُهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَتَنَازَعُوا فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَاَلَّذِي يُسَافِرُ لِيَقْطَعَ الطَّرِيقَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ كَمَا تَنَازَعُوا فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ. فَأَمَّا السَّفَرُ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ الْفِطْرُ مَعَ الْقَضَاءِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَيَجُوزُ الْفِطْرُ لِلْمُسَافِرِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ قَادِرًا عَلَى الصِّيَامِ، أَوْ عَاجِزًا، وَسَوَاءٌ شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، أَوْ لَمْ يَشُقَّ، بِحَيْثُ لَوْ كَانَ مُسَافِرًا فِي الظِّلِّ وَالْمَاءِ وَمَعَهُ مَنْ يَخْدُمُهُ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ وَالْقَصْرُ.

وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْفِطْرَ لَا يَجُوزُ إلَّا لِمَنْ عَجَزَ عَنْ الصِّيَامِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ عَلَى الْمُفْطِرِ، فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ مِنْ ذَلِكَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمُفْطِرَ عَلَيْهِ إثْمٌ، فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ خِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ، وَخِلَافُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخِلَافُ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ. وَهَكَذَا السُّنَّةُ لِلْمُسَافِرِ أَنَّهُ يُصَلِّي الرَّبَاعِيَةَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْقَصْرُ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ التَّرْبِيعِ، عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ: كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ. وَلَمْ تَتَنَازَعْ الْأُمَّةُ فِي جَوَازِ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ؛ بَلْ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الصِّيَامِ لِلْمُسَافِرِ، فَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّ الصَّائِمَ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ، وَأَنَّهُ إذَا صَامَ لَمْ يُجْزِهِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ» . لَكِنْ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَصُومَ، وَأَنْ يُفْطِرَ. كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَمَضَانَ فَمِنَّا الصَّائِمُ، وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، فَلَا يَعِيبُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ» . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ، كَمَا يَكْرَهُ

أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي رَجُلٌ أُكْثِرُ الصَّوْمَ، أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: «إنْ أَفْطَرْت فَحَسَنٌ، وَإِنْ صُمْت فَلَا بَأْسَ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «خِيَارُكُمْ الَّذِينَ فِي السَّفَرِ يَقْصُرُونَ وَيُفْطِرُونَ» . وَأَمَّا مِقْدَارُ السَّفَرِ الَّذِي يُقْصَرُ فِيهِ، وَيُفْطَرُ: فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ قَاصِدَيْنِ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَالْأَقْدَامِ، وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخَا، كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَعُسْفَانَ، وَمَكَّةَ وَجُدَّةَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: بَلْ يَقْصُرُ وَيُفْطِرُ فِي أَقَلِّ مِنْ يَوْمَيْنِ. وَهَذَا قَوْلٌ قَوِيٌّ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِعَرَفَةَ، وَمُزْدَلِفَةَ، وَمِنًى، يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَخَلْفَهُ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ» ، لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ. وَإِذَا سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ. كَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَنِ أَنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ كَانَ يُفْطِرُ إذَا خَرَجَ مِنْ يَوْمِهِ، وَيَذْكُرُ أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ نَوَى الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ، ثُمَّ إنَّهُ دَعَا بِمَاءٍ فَأَفْطَرَ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ» . وَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّانِي: فَيُفْطِرُ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ، وَإِنْ كَانَ مِقْدَارُ سَفَرِهِ يَوْمَيْنِ فِي مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَّةِ. وَأَمَّا إذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ، فَفِي وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ عَلَيْهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؛ لَكِنْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ سَوَاءٌ أَمْسَكَ أَوْ لَمْ يُمْسِكْ. وَيُفْطِرُ مَنْ عَادَتُهُ السَّفَرُ إذَا كَانَ لَهُ بَلَدٌ يَأْوِي إلَيْهِ. كَالتَّاجِرِ الْجَلَّابِ الَّذِي يَجْلِبُ الطَّعَامَ، وَغَيْرَهُ مِنْ السِّلَعِ، وَكَالْمُكَارِي الَّذِي يُكْرِي دَوَابَّهُ مِنْ الْجُلَّابِ وَغَيْرِهِمْ. وَكَالْبَرِيدِ الَّذِي يُسَافِرُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَنَحْوِهِمْ. وَكَذَلِكَ الْمَلَّاحُ الَّذِي لَهُ مَكَانٌ فِي الْبَرِّ يَسْكُنُهُ.

الصيام في شهر رمضان إذا لم ينو قبل عشاء الآخرة

فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ امْرَأَتُهُ، وَجَمِيعُ مَصَالِحِهِ، وَلَا يَزَالُ مُسَافِرًا فَهَذَا لَا يَقْصُرُ، وَلَا يُفْطِرُ. وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ: كَأَعْرَابِ الْعَرَبِ، وَالْأَكْرَادِ، وَالتُّرْكِ، وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ يُشَتُّونَ فِي مَكَان، وَيُصَيِّفُونَ فِي مَكَان، إذَا كَانُوا فِي حَالِ ظَعْنِهِمْ مِنْ الْمَشْتَى إلَى الْمَصِيفِ، وَمِنْ الْمَصِيفِ إلَى الْمَشْتَى: فَإِنَّهُمْ يَقْصُرُونَ. وَأَمَّا إذَا نَزَلُوا بِمَشْتَاهُمْ، وَمَصِيفِهِمْ، لَمْ يُفْطِرُوا، وَلَمْ يَقْصُرُوا. وَإِنْ كَانُوا يَتَتَبَّعُونَ الْمَرَاعِيَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 335 - 5 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَمَّنْ يَكُونُ مُسَافِرًا فِي رَمَضَانَ، وَلَمْ يُصِبْهُ جُوعٌ، وَلَا عَطَشٌ، وَلَا تَعَبٌ: فَمَا الْأَفْضَلُ لَهُ، الصِّيَامُ؟ أَمْ الْإِفْطَارُ؟ فَأَجَابَ: أَمَّا الْمُسَافِرُ فَيُفْطِرُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ، وَالْفِطْرُ لَهُ أَفْضَلُ. وَإِنْ صَامَ جَازَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا يُجْزِئُهُ. [الصِّيَام فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إذَا لَمْ يَنْوِ قَبْلَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ] 336 - 6 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، عَنْ إمَامِ جَمَاعَةٍ بِمَسْجِدٍ مَذْهَبُهُ حَنَفِيٌّ ذَكَرَ لِجَمَاعَتِهِ أَنَّ عِنْدَهُ كِتَابًا فِيهِ أَنَّ الصِّيَامَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إذَا لَمْ يَنْوِ بِالصِّيَامِ قَبْلَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ، أَوْ بَعْدَهَا أَوْ وَقْتِ السُّحُورِ، وَإِلَّا فَمَا لَهُ فِي صِيَامِهِ أَجْرٌ: فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ؟ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَعْتَقِدُ أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ النِّيَّةُ، فَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ، فَإِنَّ النِّيَّةَ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ، وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ مَا يُرِيدُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَهُ. وَالتَّكَلُّمُ بِالنِّيَّةِ لَيْسَ وَاجِبًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا يَصُومُونَ بِالنِّيَّةِ، وَصَوْمُهُمْ صَحِيحٌ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

صائم رمضان هل يفتقر كل يوم إلى نية

[صَائِم رَمَضَانَ هَلْ يَفْتَقِرُ كُلَّ يَوْمٍ إلَى نِيَّةٍ] 337 - 7 - وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، مَا يَقُولُ سَيِّدُنَا فِي صَائِمِ رَمَضَانَ، هَلْ يَفْتَقِرُ كُلَّ يَوْمٍ إلَى نِيَّةٍ؟ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: كُلُّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ، وَهُوَ يُرِيدُ صَوْمَهُ، فَقَدْ نَوَى صَوْمَهُ، سَوَاءٌ تَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ، أَوْ لَمْ يَتَلَفَّظْ. وَهَذَا فِعْلُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، كُلُّهُمْ يَنْوِي الصِّيَامَ. [هَلْ يَجُوزُ لِلصَّائِمِ أَنْ يُفْطِرَ بِمُجَرَّدِ غُرُوب الشَّمْسِ] 338 - 8 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ: هَلْ يَجُوزُ لِلصَّائِمِ أَنْ يُفْطِرَ بِمُجَرَّدِ غُرُوبِهَا؟ فَأَجَابَ: إذَا غَابَ جَمِيعُ الْقُرْصِ أَفْطَرَ الصَّائِمُ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْحُمْرَةِ الشَّدِيدَةِ الْبَاقِيَةِ فِي الْأُفُقِ. وَإِذَا غَابَ جَمِيعُ الْقُرْصِ ظَهَرَ السَّوَادُ مِنْ الْمَشْرِقِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» . [مِنْ أَكَلَ بَعْدَ أَذَانِ الصُّبْحِ فِي رَمَضَانَ] 339 - 9 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، عَمَّا إذَا أَكَلَ بَعْدَ أَذَانِ الصُّبْحِ فِي رَمَضَانَ، مَاذَا يَكُونُ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا إذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، كَمَا كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَمَا يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُونَ فِي دِمَشْقَ وَغَيْرِهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَلَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنٍ يَسِيرٍ. وَإِنْ شَكَّ: هَلْ طَلَعَ الْفَجْرُ؟ أَوْ لَمْ يَطْلُعْ؟ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الطُّلُوعَ، وَلَوْ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَكَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ نِزَاعٌ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الثَّابِتُ عَنْ عُمَرَ، وَقَالَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَالْقَضَاءُ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الرجل إذا أراد أن يصوم أغمي عليه

[الرَّجُلُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَصُومَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ] وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، عَنْ رَجُلٍ كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَصُومَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَيَزْبِدُ وَيَخْبِطُ، فَيَبْقَى أَيَّامًا لَا يُفِيقُ، حَتَّى يُتَّهَمَ أَنَّهُ جُنُونٌ. وَلَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ مِنْهُ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إنْ كَانَ الصَّوْمُ يُوجِبُ لَهُ مِثْلَ هَذَا الْمَرَضِ، فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَيَقْضِي، فَإِنْ كَانَ هَذَا يُصِيبُهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ صَامَ، كَانَ عَاجِزًا عَنْ الصِّيَامِ، فَيُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكَيْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْحَامِلُ إنْ خَافَتْ عَلَى الْجَنِينِ مِنْ أَثَرِ الصَّوْمِ] 341 - 11 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، عَنْ امْرَأَةٍ حَامِلٍ رَأَتْ شَيْئًا شَبَهَ الْحَيْضِ وَالدَّمِ مُوَاظِبَهَا، وَذَكَرَ الْقَوَابِلُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُفْطِرُ لِأَجْلِ مَنْفَعَةِ الْجَنِينِ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْمَرْأَةِ أَلَمٌ: فَهَلْ يَجُوزُ لَهَا الْفِطْرُ؟ أَمْ لَا؟ . فَأَجَابَ: إنْ كَانَتْ الْحَامِلُ تَخَافُ عَلَى جَنِينِهَا، فَإِنَّهَا تُفْطِرُ، وَتَقْضِي عَنْ كُلِّ يَوْمٍ يَوْمًا، وَتُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، رِطْلًا مِنْ خُبْزٍ بِأَدَمِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَاشَرَ زَوْجَتَهُ وَهُوَ يَسْمَعُ الْمُتَسَحِّرَ يَتَكَلَّمُ فَوَطِئَهَا] 342 - 12 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، عَنْ رَجُلٍ بَاشَرَ زَوْجَتَهُ، وَهُوَ يَسْمَعُ الْمُتَسَحِّرَ يَتَكَلَّمُ، فَلَا يَدْرِي: أَهُوَ يَتَسَحَّرُ؟ أَمْ يُؤَذِّنُ؟ ثُمَّ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَتَسَحَّرُ، فَوَطِئَهَا، وَبَعْدَ يَسِيرٍ أَضَاءَ الصُّبْحُ، فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. فَأَجَابَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ. هَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لَا غَيْرُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا. وَالثَّالِثُ: لَا قَضَاءَ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَأَبَاحَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ. وَالْجِمَاعَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ. وَالشَّاكُّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ يَجُوزُ

أراد أن يواقع زوجته في رمضان فأفطر بالأكل قبل أن يجامع

لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ بِالِاتِّفَاقِ؛ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إذَا اسْتَمَرَّ الشَّكُّ. [أَرَادَ أَنْ يُوَاقِعَ زَوْجَتَهُ فِي رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ بِالْأَكْلِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَ] 343 - 13 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، عَنْ رَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يُوَاقِعَ زَوْجَتَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِالنَّهَارِ، فَأَفْطَرَ بِالْأَكْلِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَ، ثُمَّ جَامَعَ، فَهَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أَمْ لَا؟ وَمَا عَلَى الَّذِي يُفْطِرُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ مَشْهُورَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِهِمْ: كَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيِّ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنَاهُمَا: عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ سَبَبُهَا الْفِطْرُ مِنْ الصَّوْمِ، أَوْ مِنْ الصَّوْمِ الصَّحِيحِ، بِجِمَاعٍ، أَوْ بِجِمَاعٍ وَغَيْرِهِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ. فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ الْفِطْرَ بِأَعْلَى جِنْسِهِ، وَمَالِكٍ يَعْتَبِرُ الْفِطْرَ مُطْلَقًا، فَالنِّزَاعُ بَيْنَهُمَا إذَا أَفْطَرَ بِابْتِلَاعِ حَصَاةٍ أَوْ نَوَاةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ إذَا أَفْطَرَ بِالْحِجَامَةِ كَفَّرَ، كَغَيْرِهَا مِنْ الْمُفْطِرَاتِ. بِجِنْسِ الْوَطْءِ، فَأَمَّا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَنَحْوُهُمَا فَلَا كَفَّارَةَ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ تَنَازَعُوا هَلْ يُشْتَرَطُ الْفِطْرُ مِنْ الصَّوْمِ الصَّحِيحِ؟ فَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ يَشْتَرِطُ ذَلِكَ، فَلَوْ أَكَلَ ثُمَّ جَامَعَ، أَوْ أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ ثُمَّ جَامَعَ، أَوْ جَامَعَ وَكَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ: لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَطَأْ فِي صَوْمٍ صَحِيحٍ. وَأَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَغَيْرُهُ يَقُولُ: بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَهُوَ صَوْمٌ فَاسِدٌ، فَأَشْبَهَ الْإِحْرَامَ الْفَاسِدَ. وَكَمَا أَنَّ الْمُحْرِمَ بِالْحَجِّ إذَا أَفْسَدَ إحْرَامَهُ لَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِيهِ بِالْإِمْسَاكِ عَنْ مَحْظُورَاتِهِ، فَإِذَا أَتَى مِنْهَا شَيْئًا كَانَ عَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِحْرَامِ الصَّحِيحِ، وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ فِيهِ وَصَوْمُهُ فَاسِدٌ، لِأَكْلٍ أَوْ جِمَاعٍ، أَوْ عَدَمِ نِيَّةٍ، فَقَدْ لَزِمَهُ الْإِمْسَاكُ عَنْ مَحْظُورَاتِ الصِّيَامِ. فَإِذَا تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْهَا كَانَ عَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ فِي الصَّوْمِ الصَّحِيحِ. وَفِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ هَتْكَ حُرْمَةِ الشَّهْرِ حَاصِلَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ بَلْ هِيَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ

أفطر نهار رمضان متعمدا ثم جامع

أَشَدُّ؛ لِأَنَّهُ عَاصٍ بِفِطْرِهِ أَوَّلًا، فَصَارَ عَاصِيًا مَرَّتَيْنِ، فَكَانَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ أَوْكَدَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ عَلَى مِثْلِ هَذَا لَصَارَ ذَرِيعَةً إلَى أَنْ لَا يُكَفِّرَ أَحَدٌ، فَإِنَّهُ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يُجَامِعَ فِي رَمَضَانَ إلَّا أَمْكَنَهُ أَنْ يَأْكُلَ، ثُمَّ يُجَامِعُ بَلْ ذَلِكَ أَعْوَنُ لَهُ عَلَى مَقْصُودِهِ، فَيَكُونُ قَبْلَ الْغَدَاءِ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَإِذَا تَغَدَّى هُوَ وَامْرَأَتُهُ ثُمَّ جَامَعَهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَهَذَا شَنِيعٌ فِي الشَّرِيعَةِ لَا تَرِدُ بِمِثْلِهِ. فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَقَرَّ فِي الْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ أَنَّهُ كُلَّمَا عَظُمَ الذَّنْبُ كَانَتْ الْعُقُوبَةُ أَبْلَغَ، وَكُلَّمَا قَوِيَ الشَّبَهُ قَوِيَتْ، وَالْكَفَّارَةُ فِيهَا شَوْبُ الْعِبَادَةِ، وَشَوْبُ الْعُقُوبَةِ، وَشُرِعَتْ زَاجِرَةً وَمَاحِيَةً، فَبِكُلِّ حَالٍ قُوَّةُ السَّبَبِ يَقْتَضِي قُوَّةَ الْمُسَبَّبِ. ثُمَّ الْفِطْرُ بِالْأَكْلِ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ. كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، فَلَا أَقَلَّ أَنْ يَكُونَ مُعِينًا لِلسَّبَبِ الْمُسْتَقِلِّ، بَلْ يَكُونُ مَانِعًا مِنْ حُكْمِهِ، وَهَذَا بَعِيدٌ عَنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ. ثُمَّ الْمُجَامِعُ كَثِيرًا مَا يُفْطِرُ قَبْلَ الْإِيلَاجِ، فَتَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ عَنْهُ بِذَلِكَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [أَفْطَرَ نَهَارَ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا ثُمَّ جَامَعَ] 344 - 14 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، عَنْ رَجُلٍ أَفْطَرَ نَهَارَ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا، ثُمَّ جَامَعَ: فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ؟ أَمْ الْقَضَاءُ بِلَا كَفَّارَةٍ؟ فَأَجَابَ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَتَجِبُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا تَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. [وَطِئَ امْرَأَتَهُ وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مُعْتَقِدًا بَقَاءَ اللَّيْلِ] 345 - 15 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، عَنْ رَجُلٍ وَطِئَ امْرَأَتَهُ وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مُعْتَقِدًا بَقَاءَ اللَّيْلِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ، فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِأَهْلِ الْعِلْمِ: أَحَدُهَا: أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ.

الصائم إذا قبل زوجته أو ضمها فأمذى

وَالثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ، وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ. وَالثَّالِثُ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَلَا كَفَّارَةَ. وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ السَّلَفِ: كَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَإِسْحَاقَ، وَدَاوُد، وَأَصْحَابِهِ وَالْخَلَفِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: مَنْ أَكَلَ مُعْتَقِدًا طُلُوعَ الْفَجْرِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَطْلُعْ. فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، وَأَشْبَهَهَا بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَنْ النَّاسِي، وَالْمُخْطِئِ. وَهَذَا مُخْطِئٌ، وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ الْأَكْلَ وَالْوَطْءَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ، وَاسْتُحِبَّ تَأْخِيرُ السَّحُورِ، وَمَنْ فَعَلَ مَا نُدِبَ إلَيْهِ، وَأُبِيحَ لَهُ، لَمْ يُفَرِّطْ فَهَذَا أَوْلَى بِالْعُذْرِ مِنْ النَّاسِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الصَّائِمُ إذَا قَبَّلَ زَوْجَتَهُ أَوْ ضَمَّهَا فَأَمْذَى] 346 - 16 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، عَمَّا إذَا قَبَّلَ زَوْجَتَهُ، أَوْ ضَمَّهَا، فَأَمْذَى. هَلْ يُفْسِدُ ذَلِكَ صَوْمَهُ؟ أَمْ لَا؟ . فَأَجَابَ: يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِذَلِكَ، عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. [مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ] 347 - 17 - وَسُئِلَ عَمَّنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ؟ فَأَجَابَ: إذَا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُسْتَحِلًّا لِذَلِكَ، وَهُوَ عَالِمٌ بِتَحْرِيمِهِ اسْتِحْلَالًا لَهُ، وَجَبَ قَتْلُهُ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا عُوقِبَ عَنْ فِطْرِهِ فِي رَمَضَانَ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ، وَأَخَذَ مِنْهُ حَدَّ الزِّنَا، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا عُرِّفَ بِذَلِكَ، وَأُخِذَ مِنْهُ حَدُّ الزِّنَا، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَالسِّوَاكِ هَلْ يُفْسِدُ الصَّوْمَ] 348 - 18 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، عَنْ الْمَضْمَضَةِ، وَالِاسْتِنْشَاقِ، وَالسِّوَاكِ، وَذَوْقِ الطَّعَامِ، وَالْقَيْءِ، وَخُرُوجِ الدَّمِ، وَالِادِّهَانِ، وَالِاكْتِحَالِ؟ فَأَجَابَ: أَمَّا الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فَمَشْرُوعَانِ لِلصَّائِمِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَكَانَ

افتصد بسبب وجع رأسه وهو صائم

النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ يَتَمَضْمَضُونَ، وَيَسْتَنْشِقُونَ مَعَ الصَّوْمِ. لَكِنْ «قَالَ لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ: وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» . فَنَهَاهُ عَنْ الْمُبَالَغَةِ؛ لَا عَنْ الِاسْتِنْشَاقِ. وَأَمَّا السِّوَاكُ فَجَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ، لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي كَرَاهِيَتِهِ بَعْدَ الزَّوَالِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. وَلَمْ يَقُمْ عَلَى كَرَاهِيَتِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يَصْلُحُ أَنْ يَخُصَّ عُمُومَاتِ نُصُوصِ السِّوَاكِ، وَقِيَاسُهُ عَلَى دَمِ الشَّهِيدِ وَنَحْوِهِ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَذَوْقُ الطَّعَامِ يُكْرَهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؛ لَكِنْ لَا يُفْطِرُهُ. وَأَمَّا لِلْحَاجَةِ فَهُوَ كَالْمَضْمَضَةِ وَأَمَّا الْقَيْءُ: فَإِذَا اسْتِقَاءَ: أَفْطَرَ، وَإِنْ غَلَبَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ. وَالِادِّهَانُ: لَا يُفْطِرُ بِلَا رَيْبٍ. وَأَمَّا خُرُوجُ الدَّمِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، كَدَمِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَالْجُرُوحِ، وَاَلَّذِي يُرْعَفُ، وَنَحْوُهُ، فَلَا يُفْطِرُ، وَخُرُوجُ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ يُفْطِرُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا الِاحْتِجَامُ: فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وَكَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ يُفْطِرُ، وَالْفِصَادُ وَنَحْوُهُ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِهِ أَحَدُهُمَا أَنَّ ذَلِكَ كَالِاحْتِجَامِ. وَمَذْهَبُهُ فِي الْكُحْلِ الَّذِي يَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ، أَنَّهُ يُفْطِرُ، كَالطِّيبِ وَالْحَاجَةِ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ نَحْوُ ذَلِكَ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلَا يَرَيَانِ الْفِطْرَ بِذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [افْتَصَدَ بِسَبَبِ وَجَعِ رَأْسِهِ وَهُوَ صَائِمٌ] 349 - 19 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، عَنْ رَجُلٍ افْتَصَدَ بِسَبَبِ وَجَعِ رَأْسِهِ وَهُوَ صَائِمٌ، هَلْ يُفْطِرُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ؟ أَمْ لَا؟ وَهَلْ إذَا أُعْلِمَ أَنَّهُ يُفْطِرُ إذَا افْتَصَدَ، يَأْثَمُ أَمْ لَا؟

الفصاد في شهر رمضان

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ وَالْأَحْوَطُ أَنَّهُ يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْفِصَاد فِي شَهْرِ رَمَضَانَ] 350 - 20 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، عَنْ الْفِصَادِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، هَلْ يُفْسِدُ الصَّوْمَ؟ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: إنْ أَمْكَنَهُ تَأْخِيرَ الْفِصَادِ أَخَّرَهُ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِ لِمَرَضٍ افْتَصَدَ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [أَدْرَكَهُ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي مَرَضِهِ وَلَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ حَتَّى مَاتَ] 351 - 21 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، عَنْ الْمَيِّتِ فِي أَيَّامِ مَرَضِهِ أَدْرَكَهُ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَلَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ، وَتُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ مُدَّةَ مَرَضِهِ، وَوَالِدَيْهِ بِالْحَيَاةِ. فَهَلْ تَسْقُطُ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ عَنْهُ إذَا صَامَا عَنْهُ، وَصَلَّيَا؟ إذَا وَصَّى، أَوْ لَمْ يُوَصِّ؟ فَأَجَابَ: إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَرَضُ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْقَضَاءُ، فَلَيْسَ عَلَى وَرَثَتِهِ إلَّا الْإِطْعَامُ عَنْهُ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ، فَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَكِنْ إذَا صَلَّى عَنْ الْمَيِّتِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا تَطَوُّعًا، وَأَهْدَاهُ لَهُ، أَوْ صَامَ عَنْهُ تَطَوُّعًا وَأَهْدَاهُ لَهُ، نَفَعَهُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [لَيْلَة الْقَدْرِ] 352 - 22 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، رَضِيَ اللَّهُ وَأَرْضَاهُ - عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَهُوَ مُعْتَقَلٌ بِالْقَلْعَةِ قَلْعَةِ الْجَبَلِ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِمِائَةٍ. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ هَكَذَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «هِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» . وَتَكُونُ فِي الْوِتْرِ مِنْهَا.

لَكِنَّ الْوِتْرَ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي، فَتُطْلَبُ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ. وَيَكُونُ بِاعْتِبَارِ مَا بَقِيَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِتَاسِعَةٍ تَبْقَى، لِسَابِعَةٍ تَبْقَى، لِخَامِسَةٍ تَبْقَى، لِثَالِثَةٍ تَبْقَى» . فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الشَّهْرُ ثَلَاثِينَ يَكُونُ ذَلِكَ لَيَالِي الْأَشْفَاعِ. وَتَكُونُ الِاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ تَاسِعَةً تَبْقَى، وَلَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَابِعَةً تَبْقَى. وَهَكَذَا فَسَّرَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَهَكَذَا أَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشَّهْرِ. وَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، كَانَ التَّارِيخُ بِالْبَاقِي. كَالتَّارِيخِ الْمَاضِي. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّاهَا الْمُؤْمِنُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ جَمِيعِهِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَحَرُّوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ» وَتَكُونُ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ أَكْثَرَ، 2 وَأَكْثَرُ مَا تَكُونُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ كَمَا كَانَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ يَحْلِفُ أَنَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. فَقِيلَ لَهُ: بِأَيِّ شَيْءٍ عَلِمْت ذَلِكَ؟ فَقَالَ بِالْآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ. «أَخْبَرَنَا أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ صُبْحَةَ صَبِيحَتِهَا كَالطَّشْتِ، لَا شُعَاعَ لَهَا» . فَهَذِهِ الْعَلَامَةُ الَّتِي رَوَاهَا أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَشْهَرِ الْعَلَامَاتِ فِي الْحَدِيثِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي عَلَامَاتِهَا: «أَنَّهَا لَيْلَةٌ بَلْجَةٌ مُنِيرَةٌ» وَهِيَ سَاكِنَةٌ لَا قَوِيَّةُ الْحَرِّ، وَلَا قَوِيَّةُ الْبَرْدِ، وَقَدْ يَكْشِفُهَا اللَّهُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي الْمَنَامِ، أَوْ الْيَقِظَةِ. فَيَرَى أَنْوَارَهَا، أَوْ يَرَى مَنْ يَقُولُ لَهُ هَذِهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَقَدْ يُفْتَحُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْأَمْرُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ليلة القدر وليلة الإسراء أيهما أفضل

[لَيْلَة الْقَدْرِ وَلَيْلَة الْإِسْرَاءِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ] وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ " لَيْلَةِ الْقَدْرِ ". " وَلَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَأَجَابَ: بِأَنَّ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَفْضَلُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ أَفْضَلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُمَّةِ، فَحَظُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ مِنْهَا أَكْمَلُ مِنْ حَظِّهِ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَحَظُّ الْأُمَّةِ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَكْمَلُ مِنْ حَظِّهِمْ مِنْ لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ. وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِيهَا أَعْظَمُ حَظٍّ. لَكِنْ الْفَضْلُ وَالشَّرَفُ وَالرُّتْبَةُ الْعُلْيَا إنَّمَا حَصَلَتْ فِيهَا، لِمَنْ أُسْرِيَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [عَشْر ذِي الْحِجَّةِ وَالْعَشْر الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ] 354 - 24 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، عَنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ. أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ . أَجَابَ: أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَاللَّيَالِي الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ لَيَالِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَإِذَا تَأَمَّلَ الْفَاضِلُ اللَّبِيبُ هَذَا الْجَوَابِ. وَجَدَهُ شَافِيًا كَافِيًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ فِيهَا أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَفِيهَا: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ. وَأَمَّا لَيَالِي عَشْرِ رَمَضَانَ فَهِيَ لَيَالِي الْإِحْيَاءِ، الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحْيِيهَا كُلَّهَا، وَفِيهَا لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. فَمَنْ أَجَابَ بِغَيْرِ هَذَا التَّفْصِيلِ، لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُدْلِي بِحُجَّةٍ صَحِيحَةٍ. [يَوْم الْجُمُعَةِ وَيَوْم النَّحْرِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ] 355 - 25 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، عَنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ، أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَأَجَابَ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، وَيَوْمُ النَّحْرِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ. [نَذَرَ أَنَّ يَصُوم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ] 356 - 26 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ أَنَّهُ يَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ، ثُمَّ

ثواب صيام الثلاثة أشهر

بَدَا لَهُ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا. وَلَمْ يُرَتِّبْ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يَصُومَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَيُفْطِرَ ثَلَاثَةً أَوْ يُفْطِرَ أَرْبَعَةً، وَيَصُومَ ثَلَاثَةٍ: فَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ أَفْتُونَا يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا انْتَقَلَ مِنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ إلَى صَوْمِ يَوْمٍ وَفِطْرِ يَوْمٍ، فَقَدْ انْتَقِلْ إلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ، وَفِيهِ نِزَاعٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ. كَمَا لَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْمَفْضُولِ، وَصَلَّى فِي الْأَفْضَلِ، مِثْلَ أَنْ يَنْذِرَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فَيُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [ثَوَاب صِيَامِ الثَّلَاثَةِ أَشْهُرٍ] 357 - 27 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، عَمَّا وَرَدَ فِي ثَوَابِ صِيَامِ الثَّلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَمَا تَقُولُ فِي الِاعْتِكَافِ فِيهَا، وَالصَّمْتِ. هَلْ هُوَ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ؟ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: أَمَّا تَخْصِيصُ رَجَبٍ وَشَعْبَانَ جَمِيعًا بِالصَّوْمِ، أَوْ الِاعْتِكَافِ فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ، وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ. وَلَا أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ. «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصُومُ إلَى شَعْبَانَ، وَلَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنْ السَّنَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، مِنْ أَجْلِ شَهْرِ رَمَضَانَ» . وَأَمَّا صَوْمُ رَجَبٍ بِخُصُوصِهِ، فَأَحَادِيثُهُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، بَلْ مَوْضُوعَةٌ، لَا يَعْتَمِدُ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَيْسَتْ مِنْ الضَّعِيفِ الَّذِي يُرْوَى فِي الْفَضَائِلِ، بَلْ عَامَّتُهَا مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ الْمَكْذُوبَاتِ، وَأَكْثَرُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا دَخَلَ رَجَبُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ، وَشَعْبَانَ، وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ» . وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ صَوْمِ رَجَبٍ» ، وَفِي إسْنَادِهِ نَظَرٌ، لَكِنْ صَحَّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَضْرِبُ أَيْدِي النَّاسِ؛ لِيَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ فِي الطَّعَامِ فِي رَجَبٍ. وَيَقُولُ: لَا تُشَبِّهُوهُ بِرَمَضَانَ.

وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَرَأَى أَهْلَهُ قَدْ اشْتَرَوْا كِيزَانًا لِلْمَاءِ، وَاسْتَعَدُّوا لِلصَّوْمِ، فَقَالَ: " مَا هَذَا؟ ، فَقَالُوا: رَجَبٌ، فَقَالَ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تُشَبِّهُوهُ بِرَمَضَانَ؟ وَكَسَرَ تِلْكَ الْكِيزَانَ ". فَمَتَى أَفْطَرَ بَعْضًا لَمْ يُكْرَهْ صَوْمُ الْبَعْضِ. وَفِي الْمُسْنَد وَغَيْرِهِ: حَدِيثٌ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ بِصَوْمِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَهِيَ: رَجَبٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ» . فَهَذَا فِي صَوْمِ الْأَرْبَعَةِ جَمِيعًا، لَا مَنْ يُخَصِّصُ رَجَبًا. وَأَمَّا تَخْصِيصُهَا بِالِاعْتِكَافِ فَلَا أَعْلَمُ فِيهِ أَمْرًا، بَلْ كُلُّ مَنْ صَامَ صَوْمًا مَشْرُوعًا، وَأَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ مِنْ صِيَامِهِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا بِلَا رَيْبٍ، وَإِنْ اعْتَكَفَ بِدُونِ الصِّيَامِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ، كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ، بِدُونِ الصَّوْمِ. كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا الصَّمْتُ عَنْ الْكَلَامِ مُطْلَقًا فِي الصَّوْمِ، أَوْ الِاعْتِكَافِ، أَوْ غَيْرِهِمَا، فَبِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. لَكِنْ هَلْ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِهِ، وَغَيْرِهِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَحْمَسَ فَوَجَدَهَا مُصْمِتَةً لَا تَتَكَلَّمُ، فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: إنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ إنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا أَبُو إسْرَائِيلَ، نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ. فَقَالَ: مُرُوهُ فَلْيَجْلِسْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» . فَأَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ نَذْرِهِ لِلصَّمْتِ، أَنْ يَتَكَلَّمَ، كَمَا أَمَرَهُ مَعَ نَذْرِهِ لِلْقِيَامِ أَنْ يَجْلِسَ، وَمَعَ نَذْرِهِ أَنْ لَا يَسْتَظِلَّ، أَنْ يَسْتَظِلَّ. وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِأَنْ يُوَفِّيَ بِالصَّوْمِ فَقَطْ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْقُرَبِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِهَا النَّاذِرُ.

وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» . كَذَلِكَ لَا يُؤْمَرُ النَّاذِرُ أَنْ يَفْعَلَهَا، فَمَنْ فَعَلَهَا عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ بِهَا وَالتَّقَرُّبِ، وَاِتِّخَاذِ ذَلِكَ دِينًا وَطَرِيقًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ ضَالٌّ جَاهِلٌ، مُخَالِفٌ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، إنَّمَا يَفْعَلُهُ تَدَيُّنًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِعْلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّدَيُّنِ حَرَامٌ، فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ قُرْبَةً، وَيَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَهَذَا حَرَامٌ، لَكِنْ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ بُلُوغِ الْعِلْمِ إلَيْهِ، فَقَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا بِجَهْلِهِ، إذَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، فَإِذَا بَلَغَهُ الْعِلْمُ فَعَلَيْهِ التَّوْبَةُ. وَجِمَاعُ الْأَمْرِ فِي الْكَلَامِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» . فَقَوْلُ الْخَيْرِ، وَهُوَ الْوَاجِبُ، أَوْ الْمُسْتَحَبُّ، خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ عَنْهُ، وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَا مُسْتَحَبٍّ، فَالسُّكُوتُ عَنْهُ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِهِ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لِصَاحِبِهِ: السُّكُوتُ عَنْ الشَّرِّ خَيْرٌ مِنْ التَّكَلُّمِ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْآخِرُ: التَّكَلُّمُ بِالْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ عَنْهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المجادلة: 9] . وَقَالَ تَعَالَى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] .

ما في الخميس ونحوه من البدع

وَفِي السُّنَن عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ، إلَّا أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ ذِكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى» . وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضَائِلِ الصَّمْتِ كَثِيرَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي فَضَائِلِ التَّكَلُّمِ بِالْخَيْرِ وَالصَّمْتُ عَمَّا يَجِبُ مِنْ الْكَلَامِ حَرَامٌ، سَوَاءٌ اتَّخَذَهُ دِينًا أَوْ لَمْ يَتَّخِذْهُ كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَيَجِبُ أَنْ تُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَتُبْغِضَ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتُبِيحَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَتُحَرِّمَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. [مَا فِي الْخَمِيسِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْبِدَعِ] 358 - 28 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَمَّا فِي الْخَمِيسِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْبِدَعِ؟ فَأَجَابَ: أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ سَوَّلَ لِكَثِيرٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ فِي أَوَاخِرِ صَوْمِ النَّصَارَى، وَهُوَ الْخَمِيسُ، الْحَقِيرُ مِنْ الْهَدَايَا، وَالْأَفْرَاحِ، وَالنَّفَقَاتِ، وَكِسْوَةِ الْأَوْلَادِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَصِيرُ بِهِ مِثْلَ عِيدِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا الْخَمِيسُ الَّذِي يَكُونُ فِي آخِرِ صَوْمِ النَّصَارَى: فَجَمِيعُ مَا يُحْدِثُهُ الْإِنْسَانُ فِيهِ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ، فَمِنْ ذَلِكَ خُرُوجُ النِّسَاءِ، وَتَبْخِيرُ الْقُبُورِ وَوَضْعُ الثِّيَابِ عَلَى السَّطْحِ، وَكِتَابَةُ الْوَرَقِ وَإِلْصَاقُهَا بِالْأَبْوَابِ، وَاِتِّخَاذُهُ مَوْسِمًا لِبَيْعِ الْخُمُورِ وَشِرَائِهَا وَرَقْيِ الْبَخُورِ مُطْلَقًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ قَصْدِ شِرَاءِ الْبَخُورِ الْمَرْقِيِّ، فَإِنَّ رَقْيَ الْبَخُورِ وَاِتِّخَاذَهُ قُرْبَانًا هُوَ دِينُ النَّصَارَى، وَالصَّابِئِينَ. وَإِنَّمَا الْبَخُورُ طِيبٌ يُتَطَيَّبُ بِدُخَانِهِ، كَمَا يُتَطَيَّبُ بِسَائِرِ الطِّيبِ، وَكَذَلِكَ تَخْصِيصُهُ بِطَبْخِ الْأَطْعِمَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صَبْغِ الْبَيْضِ. وَأَمَّا الْقِمَارُ بِالْبَيْضِ، وَبَيْعُهُ لِمَنْ يُقَامِرُ بِهِ، أَوْ شِرَاؤُهُ مِنْ الْمُقَامِرِينَ فَحُكْمُهُ ظَاهِرٌ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ مِنْ أَخْذِ وَرِقِ الزَّيْتُونِ، أَوْ الِاغْتِسَالِ بِمَائِهِ، فَإِنَّ أَصْلَ

ذَلِكَ مَاءُ الْمَعْمُودِيَّةِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا تَرْكُ الْوَظَائِفِ الرَّاتِبَةِ مَعَ الصَّنَائِعِ، وَالتِّجَارَاتِ. أَوْ حِلَقِ الْعِلْمِ فِي أَيَّامِ عِيدِهِمْ، وَاِتِّخَاذُهُ يَوْمَ رَاحَةٍ وَفَرْحَةٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَاهُمْ عَنْ الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانُوا يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الذَّبْحِ بِالْمَكَانِ إذَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ فِيهِ. وَيَفْعَلُونَ أُمُورًا يَقْشَعِرُّ مِنْهَا قَلْبُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ - بَلْ يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ، وَيُنْكِرُ الْمُنْكَرَ - كَمَا لَا يَتَشَبَّهُ بِهِمْ، فَلَا يُعَانُ الْمُسْلِمُ الْمُتَشَبِّهُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ، بَلْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ. فَمَنْ صَنَعَ دَعْوَةً مُخَالِفَةً لِلْعَادَةِ فِي أَعْيَادِهِمْ لَمْ تَجِبْ دَعْوَتُهُ، وَمَنْ أَهْدَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ هَدِيَّةً فِي هَذِهِ الْأَعْيَادِ مُخَالِفَةً لِلْعَادَةِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ لَمْ تُقْبَلْ هَدِيَّتُهُ، خُصُوصًا إنْ كَانَتْ الْهَدِيَّةُ مِمَّا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى التَّشَبُّهِ بِهِمْ، مِثْلُ إهْدَاءِ الشَّمْعِ وَنَحْوِهِ فِي الْمِيلَادِ، وَإِهْدَاءِ الْبَيْضِ وَاللَّبَنِ وَالْغَنَمِ فِي الْخَمِيسِ الصَّغِيرِ الَّذِي فِي آخَرِ صَوْمِهِمْ، وَهُوَ الْخَمِيسُ الْحَقِيرُ. وَلَا يُبَايِعُ الْمُسْلِمُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مُشَابَهَتِهِمْ فِي الْعِيدِ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالْبَخُورِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إعَانَةً عَلَى الْمُنْكَرِ. وَقَالَ الشَّيْخُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَنَذْكُرُ أَشْيَاءَ مِنْ مُنْكَرَاتِ دِينِ النَّصَارَى لَمَّا رَأَيْت طَوَائِفَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ابْتَلَى بِبَعْضِهَا وَجَهِلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّهَا مِنْ دِينِ النَّصَارَى الْمَلْعُونِ هُوَ وَأَهْلُهُ. وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ فِي الْخَمِيسِ الْحَقِيرِ. الَّذِي قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ السَّبْتِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إلَى الْقُبُورِ، وَكَذَلِكَ يُبَخِّرُونَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي الْبَخُورِ بَرَكَةً، وَدَفْعَ مَضَرَّةٍ، وَيَعُدُّونَهُ مِنْ الْقَرَابِينِ مِثْلَ الذَّبَائِحِ، وَيَرْقُونَهُ بِنُحَاسٍ يَضْرِبُونَهُ كَأَنَّهُ نَاقُوسٌ صَغِيرٌ وَبِكَلَامٍ مُصَنَّفٍ، وَيُصَلِّبُونَ عَلَى أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُنْكَرَةِ. حَتَّى أَنَّ الْأَسْوَاقَ تَبْقَى مَمْلُوءَةً أَصْوَاتَ النَّوَاقِيسِ الصِّغَارِ، وَكَلَامُ الرَّقَّايِينَ مِنْ الْمُنَجِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ بِكَلَامٍ أَكْثَرُهُ بَاطِلٌ، وَفِيهِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ أَوْ كُفْرٌ. وَقَدْ أَلْقَى إلَى جَمَاهِيرِ الْعَامَّةِ أَوْ جَمِيعِهِمْ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَعْنِي بِالْعَامَّةِ هُنَا: كُلَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى فِقْهٍ وَدِينٍ قَدْ شَارَكَهُمْ فِي ذَلِكَ، أَلْقَى إلَيْهِمْ أَنَّ هَذَا الْبَخُورَ الْمَرْقِيَّ يَنْفَعُ بِبَرَكَتِهِ مِنْ الْعَيْنِ وَالسِّحْرِ، وَالْأَدْوَاءِ وَالْهَوَامِّ، وَيُصَوِّرُونَ صُوَرَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ. وَيُلْصِقُونَهَا فِي بُيُوتِهِمْ زَعْمًا أَنَّ تِلْكَ

الصُّوَرَ الْمَلْعُونَ فَاعِلُهَا الَّتِي لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا هِيَ فِيهِ، تَمْنَعُ الْهَوَاءَ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ طَلَاسِمِ الصَّابِئَةِ. ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى مَا بَلَغَنِي يَصْلُبُ بَابَ الْبَيْتِ، وَيَخْرُجُ خَلْقٌ عَظِيمٌ فِي الْخَمِيسِ الْحَقِيرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَعَلَى هَذَا يُبَخِّرُونَ الْقُبُورَ وَيُسَمُّونَ هَذَا الْمُتَأَخِّرَ الْخَمِيسَ الْكَبِيرَ، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ الْخَمِيسُ الْمَهِينُ الْحَقِيرُ هُوَ وَأَهْلُهُ، وَمَنْ يُعَظِّمُهُ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا عُظِّمَ بِالْبَاطِلِ مِنْ مَكَان أَوْ زَمَانٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ بِنِيَّةٍ يَجِبُ قَصْدُ إهَانَتِهِ، كَمَا تُهَانُ الْأَوْثَانُ الْمَعْبُودَةُ، وَإِنْ كَانَتْ لَوْلَا عِبَادَتُهَا لَكَانَتْ كَسَائِرِ الْأَحْجَارِ. وَمِمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ: أَنَّهُمْ يُوَظِّفُونَ عَلَى الْفَلَّاحِينَ وَظَائِفَ أَكْثَرُهَا كَرْهًا؛ مِنْ الْغَنَمِ وَالدَّجَاجِ وَاللَّبَنِ وَالْبَيْضِ، يَجْتَمِعُ فِيهَا تَحْرِيمَانِ: أَكْلُ مَالِ الْمُسْلِمِ وَالْمُعَاهَدِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِقَامَةُ شِعَارِ النَّصَارَى، وَيَجْعَلُونَهُ مِيقَاتًا لِإِخْرَاجِ الْوُكَلَاءِ عَلَى الْمَزَارِعِ، وَيَطْبُخُونَ مِنْهُ وَيَصْطَبِغُونَ فِيهِ الْبَيْضَ، وَيُنْفِقُونَ فِيهِ النَّفَقَاتِ الْوَاسِعَةَ، وَيُزَيِّنُونَ أَوْلَادَهُمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَقْشَعِرُّ مِنْهَا قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، الَّذِي لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ، بَلْ يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ، وَيُنْكِرُ الْمُنْكَرَ. وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَضَعُونَ ثِيَابَهُمْ تَحْتَ السَّمَاءِ رَجَاءً لِبَرَكَةِ نُزُولِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا. فَهَلْ يَسْتَرِيبُ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى حَبَّةٍ مِنْ الْإِيمَانِ أَنَّ شَرِيعَةً جَاءَتْ بِمَا قَدَّمْنَا بَعْضَهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. لَا يُرْضَى مِنْ شَرْعِهَا بِبَعْضِ هَذِهِ الْقَبَائِحِ. وَأَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ إنَّمَا هُوَ اخْتِصَاصُ أَعْيَادِ الْكُفَّارِ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ أَوْ شَابَهْتهمْ فِي بَعْضِ أُمُورِهِمْ، فَيَوْمُ الْخَمِيسِ هُوَ عِيدُهُمْ، يَوْمُ عِيدِ الْمَائِدَةِ، وَيَوْمُ الْأَحَدِ يُسَمُّونَهُ عِيدَ الْفِصْحِ، وَعِيدَ النُّورِ، وَالْعِيدَ الْكَبِيرَ. وَلَمَّا كَانَ عِيدًا صَارُوا يَصْنَعُونَ لِأَوْلَادِهِمْ فِيهِ الْبَيْضَ الْمَصْبُوغَ وَنَحْوَهُ لِأَنَّهُمْ فِيهِ يَأْكُلُونَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْحَيَوَانِ مِنْ لَحْمٍ وَلَبَنٍ وَبَيْضٍ، إذْ صَوْمُهُمْ هُوَ عَنْ الْحَيَوَانِ، وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُ. وَعَامَّةُ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْمَحْكِيَّةِ عَنْ النَّصَارَى وَغَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يُحْكَ قَدْ زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ لِكَثِيرٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ، وَجَعَلَ لَهَا فِي قُلُوبِهِمْ مَكَانَةً وَحُسْنَ ظَنٍّ، وَزَادُوا فِي بَعْضِ ذَلِكَ وَنَقَصُوا وَقَدَّمُوا وَأَخَّرُوا وَكُلُّ مَا خُصَّتْ بِهِ هَذِهِ الْأَيَّامُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَغَيْرِهَا، فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُشَابِهَهُمْ فِي أَصْلِهِ وَلَا فِي وَصْفِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُمْ يَكْسُونَ بِالْحُمْرَةِ دَوَابَّهُمْ. وَيَصْبُغُونَ الْأَطْعِمَةَ الَّتِي لَا تَكَادُ تُفْعَلُ فِي عِيدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيَتَهَادَوْنَ الْهَدَايَا الَّتِي تَكُونُ فِي مِثْلِ مَوَاسِمِ الْحَجِّ. وَعَامَّتُهُمْ قَدْ نَسَوْا أَصْلَ ذَلِكَ وَبَقِيَ عَادَةً مُطَّرِدَةً.

وَهَذَا كُلُّهُ تَصْدِيقُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» وَإِذَا كَانَتْ الْمُتَابَعَةُ فِي الْقَلِيلِ ذَرِيعَةً وَوَسِيلَةً إلَى بَعْضِ هَذِهِ الْقَبَائِحِ. كَانَتْ مُحَرَّمَةً، فَكَيْفَ إذَا أَفَضْت إلَى مَا هُوَ كُفْرٌ بِاَللَّهِ مِنْ التَّبَرُّكِ بِالصَّلِيبِ، وَالتَّعَمُّدِ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: الْمَعْبُودُ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَتْ الطُّرُقُ مُخْتَلِفَةً وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ: إمَّا كَوْنُ الشَّرِيعَةِ النَّصْرَانِيَّةِ أَوْ الْيَهُودِيَّةِ الْمُبَدَّلَيْنِ الْمَنْسُوخَيْنِ مُوَصِّلَةً إلَى اللَّهِ، وَإِمَّا اسْتِحْسَانُ بَعْضِ مَا فِيهَا مِمَّا يُخَالِفُ دِينَ اللَّهِ أَوْ التَّدَيُّنَ بِذَلِكَ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ كُفْرٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِالْقُرْآنِ وَبِالْإِسْلَامِ، بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْأُمَّةِ. وَأَصْلُ ذَلِكَ الْمُشَابَهَةُ وَالْمُشَارَكَةُ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك كَمَالُ مَوْقِعِ الشَّرِيعَةِ الْحَنِيفِيَّةِ. وَبَعْضُ حُكْمِ مَا شَرَعَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مِنْ مُبَايَنَةِ الْكُفَّارِ، وَمُخَالِفَتِهِمْ فِي عَامَّةِ الْأُمُورِ؛ لِتَكُونَ الْمُخَالَفَةُ أَحْسَمَ لِمَادَّةِ الشَّرِّ، وَأَبْعَدَ عَنْ الْوُقُوعِ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ النَّاسُ. فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ إذَا طَلَبَ مِنْهُ أَهْلُهُ وَأَوْلَادُهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُحِيلَهُمْ عَلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيَقْضِيَ لَهُمْ فِي عِيدِ اللَّهِ مِنْ الْحُقُوقِ مَا يَقْطَعُ اسْتِشْرَافَهُمْ إلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَوْا فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، وَمَنْ أَغْضَبَ أَهْلَهُ لِلَّهِ أَرْضَاهُ اللَّهُ، وَأَرْضَاهُمْ. فَلْيَحْذَرْ الْعَاقِلُ مِنْ طَاعَةِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا تَرَكْت بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ» . وَأَكْثَرُ مَا يُفْسِدُ الْمُلْكَ وَالدُّوَلَ طَاعَةُ النِّسَاءِ. فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا أَفْلَحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً» . وَرُوِيَ أَيْضًا: «هَلَكَتْ الرِّجَالُ حِينَ أَطَاعَتْ النِّسَاءَ» . وَقَدْ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمَّهَاتِ الْمُومِنِينَ لَمَّا رَاجَعْنَهُ فِي تَقْدِيمِ

أَبِي بَكْرٍ: إنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ» . يُرِيدُ أَنَّ النِّسَاءَ مِنْ شَأْنِهِنَّ مُرَاجَعَةُ ذِي اللُّبِّ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «مَا رَأَيْت مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِلُبِّ ذِي اللُّبِّ مِنْ إحْدَاكُنَّ» ". وَلَمَّا «أَنْشَدَهُ الْأَعْشَى أَعْشَى بَاهِلَةَ - أَبْيَاتَهُ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا: وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غَلَبْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرَدِّدُهَا وَيَقُولُ: وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غَلَبْ» . وَلِذَلِكَ امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى زَكَرِيَّا حَيْثُ قَالَ: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90] . قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْتَهِدَ إلَى اللَّهِ فِي إصْلَاحِ زَوْجَتِهِ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» . وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ فِي (بَابِ كَرَاهِيَةِ الدُّخُولِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ عِيدِهِمْ فِي كَنَائِسِهِمْ. وَالتَّشَبُّهِ بِهِمْ يَوْمَ نَيْرُوزِهِمْ، وَمِهْرَجَانِهِمْ) - عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " لَا تَعَلَّمُوا رَطَانَةَ الْأَعَاجِمِ وَلَا تَدْخُلُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي كَنَائِسِهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ، فَإِنَّ السَّخَطَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ ". فَهَذَا عُمَرُ قَدْ نَهَى عَنْ تَعَلُّمِ لِسَانِهِمْ وَعَنْ مُجَرَّدِ دُخُولِ الْكَنِيسَةِ عَلَيْهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ، فَكَيْفَ مَنْ يَفْعَلُ بَعْضَ أَفْعَالِهِمْ؟ أَوْ قَصَدَ مَا هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ دِينِهِمْ؟ أَلَيْسَتْ مُوَافَقَتُهُمْ فِي الْعَمَلِ أَعْظَمُ مِنْ مُوَافَقَتِهِمْ فِي اللُّغَةِ؟ أَوَ لَيْسَ عَمَلُ بَعْضِ أَعْمَالِ عِيدِهِمْ أَعْظَمَ مِنْ مُجَرَّدِ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ فِي عِيدِهِمْ؟ ،، وَإِذَا كَانَ السَّخَطُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ بِسَبَبِ عَمَلِهِمْ، فَمَنْ يُشْرِكُهُمْ فِي الْعَمَلِ أَوْ بَعْضِهِ أَلَيْسَ قَدْ تَعَرَّضَ لِعُقُوبَةِ ذَلِكَ؟

ثُمَّ قَوْلُهُ: «اجْتَنِبُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ فِي عِيدِهِمْ» أَلَيْسَ نَهْيًا عَنْ لِقَائِهِمْ وَالِاجْتِمَاعِ بِهِمْ فِيهِ؟ فَكَيْفَ بِمَنْ عَمِلَ عِيدَهُمْ؟ ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي كَلَامٍ لَهُ: مَنْ صَنَعَ نَيْرُوزَهَمْ وَمِهْرَجَانَهمْ، وَتَشَبَّهَ بِهِمْ حَتَّى يَمُوتَ حُشِرَ مَعَهُمْ. وَقَالَ عُمَرُ: اجْتَنِبُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ فِي عِيدِهِمْ. وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ شُهُودُ أَعْيَادِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] . قَالَ: الشَّعَانِينُ، وَأَعْيَادُهُمْ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي كَلَامٍ لَهُ قَالَ: فَلَا يَعَاوَنُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِيدِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ شِرْكِهِمْ، وَعَوْنِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَيَنْبَغِي لِلسَّلَاطِينِ أَنْ يَنْهَوْا الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ. وَأَكْلُ ذَبَائِحِ أَعْيَادِهِمْ دَاخِلٌ فِي هَذَا الَّذِي اُجْتُمِعَ عَلَى كَرَاهِيَتِهِ، بَلْ هُوَ عِنْدِي أَشَدُّ: وَقَدْ سُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ عَنْ الرُّكُوبِ فِي السُّفُنِ الَّتِي تَرْكَبُ فِيهَا النَّصَارَى إلَى أَعْيَادِهِمْ، فَكَرِهَ ذَلِكَ، مَخَافَةَ نُزُولِ السَّخَطِ عَلَيْهِمْ بِشِرْكِهِمْ. الَّذِي اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} [المائدة: 51] . فَيُوَافِقُهُمْ وَيُعِينُهُمْ [فَإِنَّهُ مِنْهُمْ] . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قُلْت لِعُمَرَ: إنَّ لِي كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا قَالَ: مَا لَك قَاتَلَك اللَّهُ أَمَا سَمِعْت؟ ، اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] . أَلَا اتَّخَذْت حَنِيفِيًّا؟ ، قَالَ: قُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لِي كِتَابَتُهُ وَلَهُ دِينُهُ، قَالَ: لَا أُكْرِمُهُمْ إذْ أَهَانَهُمْ اللَّهُ، وَلَا أُعِزُّهُمْ إذْ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ، وَلَا أُدْنِيهِمْ إذْ أَقْصَاهُمْ اللَّهُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] . قَالَ مُجَاهِدٌ: أَعْيَادَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَذَلِكَ قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ.

من يفعل من المسلمين مثل طعام النصارى في النيروز

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: " مَسْأَلَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ حُضُورِ أَعْيَادِ الْمُشْرِكِينَ " وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي شُرُوطِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] قَالَ: عِيدُ الْمُشْرِكِينَ وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ سِنَانٍ عَنْ الضَّحَّاكِ {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] كَلَامُ الْمُشْرِكِينَ وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ سَلَّامٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] لَا يُمَاكِثُونَ أَهْلَ الشِّرْكِ عَلَى شِرْكِهِمْ وَلَا يُخَالِطُونَهُمْ. وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ، وَجَاءَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ الَّتِي أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَيْهَا بِمُخَالَفَتِهِمْ وَتَرْكِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ إيقَادُ النَّارِ، وَالْفَرَحُ بِهَا؟ مِنْ شِعَارِ الْمَجُوسِ، عُبَّادِ النِّيرَانِ. وَالْمُسْلِمُ يَجْتَهِدُ فِي إحْيَاءِ السُّنَنِ. وَإِمَاتَةِ الْبِدَعِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ، وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ» . وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَقُولَ فِي صَلَاتِنَا {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [مَنْ يَفْعَلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ طَعَامِ النَّصَارَى فِي النَّيْرُوزِ] 359 - 29 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَمَّنْ يَفْعَلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: مِثْلَ طَعَامِ النَّصَارَى فِي النَّيْرُوزِ. وَيَفْعَلُ سَائِرَ الْمَوَاسِمِ مِثْلَ الْغِطَاسِ، وَالْمِيلَادِ، وَخَمِيسِ الْعَدَسِ، وَسَبْتِ النُّورِ. وَمَنْ يَبِيعُهُمْ شَيْئًا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى أَعْيَادِهِمْ أَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؟ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ فِي شَيْءٍ، مِمَّا يَخْتَصُّ بِأَعْيَادِهِمْ، لَا مِنْ طَعَامٍ، وَلَا لِبَاسٍ وَلَا اغْتِسَالٍ، وَلَا إيقَادِ نِيرَانٍ، وَلَا تَبْطِيلِ عَادَةٍ مِنْ مَعِيشَةٍ أَوْ عِبَادَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَا يَحِلُّ فِعْلُ وَلِيمَةٍ، وَلَا الْإِهْدَاءُ، وَلَا الْبَيْعُ بِمَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ لِأَجْلِ ذَلِكَ. وَلَا تَمْكِينُ الصِّبْيَانِ وَنَحْوهمْ مِنْ اللَّعِبِ الَّذِي فِي الْأَعْيَادِ وَلَا إظْهَارُ زِينَةٍ. وَبِالْجُمْلَةِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَخُصُّوا أَعْيَادَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ شَعَائِرِهِمْ، بَلْ يَكُونُ يَوْمُ عِيدِهِمْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ لَا يَخُصُّهُ الْمُسْلِمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِهِمْ. وَأَمَّا إذَا أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ قَصْدًا، فَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَأَمَّا تَخْصِيصُهُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. بَلْ قَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى كُفْرِ مَنْ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأُمُورَ، لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ، وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: مَنْ ذَبَحَ نَطِيحَةً يَوْمَ عِيدِهِمْ فَكَأَنَّمَا ذَبَحَ خِنْزِيرًا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: مَنْ تَأَسَّى بِبِلَادِ الْأَعَاجِمِ، وَصَنَعَ نَيْرُوزَهَمْ، وَمِهْرَجَانَهمْ، وَتَشَبَّهَ بِهِمْ حَتَّى يَمُوتَ، وَهُوَ كَذَلِكَ، حُشِرَ مَعَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد: عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: «نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنْحَرَ إبِلًا بِبُوَانَةَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي نَذَرْت أَنْ أَنْحَرَ إبِلًا بِبُوَانَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ كَانَ فِيهَا مِنْ وَثَنٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ قَالَ: لَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوْفِ بِنَذْرِك، فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» . فَلَمْ يَأْذَنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهَذَا الرَّجُلِ أَنْ يُوفِيَ بِنَذْرِهِ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَفَاءِ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا. حَتَّى أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِ الْكُفَّارِ. وَقَالَ: «لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ» . فَإِذَا كَانَ الذَّبْحُ بِمَكَانٍ كَانَ فِيهِ عِيدُهُمْ مَعْصِيَةً. فَكَيْفَ بِمُشَارَكَتِهِمْ فِي نَفْسِ الْعِيدِ؟ بَلْ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَمِيرُ الْمُومِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالصَّحَابَةُ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ

الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يُظْهِرُوا أَعْيَادَهُمْ فِي دَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُونَهَا سِرًّا فِي مَسَاكِنِهِمْ. فَكَيْفَ إذَا أَظْهَرَهَا الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسُهُمْ؟ حَتَّى قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " لَا تَتَعَلَّمُوا رَطَانَةَ الْأَعَاجِمِ، وَلَا تَدْخُلُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي كَنَائِسِهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ، فَإِنَّ السَّخَطَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ ". وَإِذَا كَانَ الدَّاخِلُ لِفُرْجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مَنْهِيًّا عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّخَطَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ. فَكَيْفَ بِمَنْ يَفْعَلُ مَا يُسْخِطُ اللَّهَ بِهِ عَلَيْهِمْ، مِمَّا هِيَ مِنْ شَعَائِرِ دِينِهِمْ؟ وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] . قَالُوا أَعْيَادُ الْكُفَّارِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي شُهُودِهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ، فَكَيْفَ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُسْنَدِ، وَالسُّنَنِ: أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» وَفِي لَفْظٍ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا» . وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ. فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي التَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَادَاتِ، فَكَيْفَ التَّشَبُّهُ بِهِمْ فِيمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ؟ ، وَقَدْ كَرِهَ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ - إمَّا كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، أَوْ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ - أَكْلِ مَا ذَبَحُوهُ لِأَعْيَادِهِمْ وَقَرَابِينِهِمْ إدْخَالًا لَهُ فِيمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وَكَذَلِكَ نَهَوْا عَنْ مُعَاوَنَتِهِمْ عَلَى أَعْيَادِهِمْ بِإِهْدَاءٍ أَوْ مُبَايَعَةِ، وَقَالُوا: إنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَبِيعُوا لِلنَّصَارَى شَيْئًا مِنْ مَصْلَحَةِ عِيدِهِمْ، لَا لَحْمًا، وَلَا دَمًا، وَلَا ثَوْبًا، وَلَا يُعَارُونَ دَابَّةً، وَلَا يَعَاوَنُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ شِرْكِهِمْ، وَعَوْنِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَيَنْبَغِي لِلسَّلَاطِينِ أَنْ يَنْهَوْا الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ. لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] . ثُمَّ إنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى شُرْبِ الْخُمُورِ بِعَصْرِهَا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. فَكَيْفَ عَلَى مَا هُوَ مِنْ شَعَائِرِ الْكُفْرِ؟ وَإِذَا كَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُعِينَهُمْ هُوَ فَكَيْفَ إذَا كَانَ هُوَ الْفَاعِلَ لِذَلِكَ؟ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة صدقة الفطر

[مَسْأَلَة صَدَقَة الْفِطْرِ] 360 - 30 - مَسْأَلَةٌ: فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: هَلْ يَجِبُ اسْتِيعَابُ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فِي صَرْفِهَا أَمْ يُجْزِئُ صَرْفُهَا إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ؟ وَمَا أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ. الْجَوَابُ الْحَمْدُ لِلَّهِ. الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي زَكَاةِ الْمَالِ كَزَكَاةِ الْمَاشِيَةِ وَالنَّقْدِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَالْمُعَشَّرَاتِ، فَهَذِهِ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مُزَكٍّ أَنْ يَسْتَوْعِبَ بِزَكَاتِهِ جَمِيعَ الْأَصْنَافِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُعْطِيَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ثَلَاثَةً. وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. الثَّانِي: بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَخْرُجَ بِهَا عَنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَلَا يُعْطِيَ أَحَدًا فَوْقَ كِفَايَتِهِ، وَلَا يُحَابِيَ أَحَدًا، بِحَيْثُ يُعْطِي وَاحِدًا وَيَدَعُ مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُ أَوْ مِثْلُهُ مَعَ إمْكَانِ الْعَدْلِ. وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ إذَا دَفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ جَمِيعَهَا لِوَاحِدٍ مِنْ صِنْفٍ وَهُوَ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ غَارِمًا عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا يَجِدُ لَهَا وَفَاءً فَيُعْطِيَهُ زَكَاتَهُ كُلَّهَا وَهِيَ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَجْزَأَهُ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ كَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ نَفْسِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِقَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ: أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَك بِهَا» . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهَا أَنَّهُ «قَالَ لِسَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ: اذْهَبْ إلَى عَامِلِ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْ صَدَقَتَهُمْ إلَيْك» . فَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ دَفَعَ صَدَقَةَ قَوْمٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، لَكِنَّ الْآمِرَ هُوَ الْإِمَامُ، وَفِي مِثْلِ هَذَا تَنَازُعٌ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ بَحْثٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ لَا تَحْتَمِلُهُ هَذِهِ الْفَتْوَى فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْأَصْلُ

الثَّانِي، وَهُوَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، فَإِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ هَلْ تَجْرِي مَجْرَى صَدَقَةِ الْأَمْوَالِ أَوْ صَدَقَةِ الْأَبْدَانِ كَالْكَفَّارَاتِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ وُجُوبُ الِاسْتِيعَابِ أَوْجَبَ الِاسْتِيعَابَ فِيهَا. وَعَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ يَنْبَنِي مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَمَنْ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِيعَابُ كَقَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ دَفْعَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ إلَى وَاحِدٍ كَمَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تَجْرِي مَجْرَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالطَّهَارَةِ وَالْقَتْلِ وَالْجِمَاعِ فِي رَمَضَانِ وَمَجْرَى كَفَّارَةِ الْحَجِّ فَإِنَّ سَبَبَهَا هُوَ الْبَدَنُ لَيْسَ هُوَ الْمَالَ، كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ» ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ قَالَ: «أَغْنُوهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ» وَلِهَذَا أَوْجَبَ اللَّهُ طَعَامًا كَمَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ طَعَامًا. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا يُجْزِئُ إطْعَامُهَا إلَّا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْكَفَّارَةَ وَهُمْ الْآخِذُونَ لِحَاجَةِ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا يُعْطِي مِنْهَا فِي الْمُؤَلَّفَةِ وَلَا الرِّقَابِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى فِي الدَّلِيلِ. وَأَضْعَفُ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَدْفَعَ صَدَقَةَ فِطْرِهِ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَوْ إلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ أَوْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَوْ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِينَ، لَمْ يَعْمَلْ بِهَذَا مُسْلِمٌ عَلَى عَهْدِهِمْ، بَلْ كَانَ الْمُسْلِمُ يَدْفَعُ صَدَقَةَ فِطْرِهِ وَصَدَقَةَ فِطْرِ عِيَالِهِ إلَى الْمُسْلِمِ الْوَاحِدِ، وَلَوْ رَأَوْا مَنْ يَقْسِمُ الصَّاعَ عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ نَفْسًا يُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ حَفْنَةً لَأَنْكَرُوا ذَلِكَ غَايَةَ الْإِنْكَارِ وَعَدُّوهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُسْتَنْكَرَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَحَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّرَ الْمَأْمُورَ بِهِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، وَمِنْ الْبُرِّ إمَّا نِصْفَ صَاعٍ وَإِمَّا صَاعًا عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ التَّامَّةِ لِلْوَاحِدِ مِنْ

الْمَسَاكِينِ وَجَعَلَهَا طُعْمَةً لَهُمْ يَوْمَ الْعِيدِ يَسْتَغْنُونَ بِهَا، فَإِذَا أَخَذَ الْمِسْكِينُ حَفْنَةً لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا وَلَمْ تَقَعْ مَوْقِعًا. وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ ابْنُ سَبِيلٍ إذَا أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ حِنْطَةٍ لَمْ يَتَبَلَّغْ بِهَا مِنْ مَقْصُودِهَا مَا يُعَدُّ مَقْصُودًا لِلْعُقَلَاءِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَقْصُودًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَمَا أَنْ لَوْ فُرِضَ عَدَدٌ مُضْطَرُّونَ وَإِنْ قُسِمَ بَيْنَهُمْ الصَّاعُ عَاشُوا وَإِنْ خُصَّ بِهِ بَعْضُهُمْ مَاتَ الْبَاقُونَ، فَهُنَا يَنْبَغِي تَفْرِيقُهُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ، لَكِنْ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيقُ هُوَ الْمَصْلَحَةَ، وَالشَّرِيعَةُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي لَا يَرْضَاهَا الْعُقَلَاءُ، وَلَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا. ثُمَّ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «طُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ» ، نَصٌّ فِي أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمَسَاكِينِ. وقَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ الظِّهَارِ: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُصْرَفَ تِلْكَ لِلْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ، وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُخْرَجِ مِنْ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ، وَالْوَاجِبُ مَا يَبْقَى وَيُسْتَنْمَى، وَلِهَذَا كَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا الْإِنَاثَ دُونَ الذُّكُورِ إلَّا فِي التَّبِيعِ وَابْنِ لَبُونٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الدَّرُّ وَالنَّسْلُ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلْإِنَاثِ. وَفِي الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَكْلَ كَانَ الذَّكَرُ أَفْضَلَ مِنْ الْأُنْثَى، وَكَانَتْ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا إذَا تَصَدَّقَ بِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا فَإِنَّمَا هُوَ لِلْمَسَاكِينِ أَهْلِ الْحَاجَةِ، دُونَ اسْتِيعَابِ الْمَصَارِفِ الثَّمَانِيَةِ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَجَبَتْ طَعَامًا لِلْأَكْلِ لَا لِلِاسْتِنْمَاءِ، فَعُلِمَ أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْكَفَّارَاتِ. وَإِذَا قِيلَ إنَّ قَوْلَهُ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] نَصٌّ فِي اسْتِيعَابِ الصَّدَقَةِ، قِيلَ: هَذَا خَطَأٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّامَ فِي هَذِهِ إنَّمَا هِيَ لِتَعْرِيفِ الصَّدَقَةِ الْمَعْهُودَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا} [التوبة: 58] وَهَذِهِ إذًا صَدَقَاتُ الْأَمْوَالِ دُونَ صَدَقَاتِ الْأَبْدَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا قَالَ فِي آيَةِ الْفِدْيَةِ:

كتاب الجنائز

{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الصَّدَقَةُ دَاخِلَةً فِي آيَةِ بَرَاءَةٌ، وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ فِدْيَةَ الْأَذَى لَا يَجِبُ صَرْفُهَا فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْآيَةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَعْرُوفِ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» . لَا يَخْتَصُّ بِهَا الْأَصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا جَوَابُ مَنْ يَمْنَعُ دُخُولَ هَذِهِ الصَّدَقَةِ فِي الْآيَةِ، وَهِيَ تَعُمُّ جَمِيعَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَلَمْ يَقُلْ مُسْلِمٌ أَنَّهُ يَجِبُ اسْتِيعَابُ جَمِيعِ هَؤُلَاءِ، بَلْ غَايَةُ مَا قِيلَ إنَّهُ يَجِبُ إعْطَاءُ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، وَهَذَا تَخْصِيصُ اللَّفْظِ الْعَامِّ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، ثُمَّ فِيهِ تَعْيِينُ فَقِيرٍ دُونَ فَقِيرٍ. وَأَيْضًا لَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ التَّسْوِيَةَ فِي آحَادِ كُلِّ صِنْفٍ، فَالْقَوْلُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي الْأَصْنَافِ عُمُومًا وَتَسْوِيَةً كَالْقَوْلِ فِي آحَادِ كُلِّ صِنْفٍ عُمُومًا وَتَسْوِيَةً. الْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّ قَوْلَهُ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة: 60] لِلْحَصْرِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمَذْكُورُ وَيَبْقَى مَا عَدَاهُ. وَالْمَعْنَى لَيْسَتْ الصَّدَقَةُ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ بَلْ لِهَؤُلَاءِ، فَالْمُثْبِتُ مِنْ جِنْسِ الْمَنْفِيِّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ تَبْيِينَ الْمِلْكِ، بَلْ قَصَدَ تَبْيِينَ الْحِلِّ أَيْ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى بَلْ تَحِلُّ لَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لِمَنْ سَأَلَهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّهَا وَالْمَذْمُومُ يُذَمُّ عَلَى طَلَبِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ لَا عَلَى طَلَبِ مَا يَحِلُّ لَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهُ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَذُمَّ هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ إذَا سَأَلُوهَا مِنْ الْإِمَامِ قَبْلَ إعْطَائِهَا، وَلَوْ كَانَ الذَّمُّ عَامًّا لَمْ يَكُنْ فِي الْحَصْرِ ذَمٌّ لِهَؤُلَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَقْتَضِي ذَمَّهُمْ، وَالذَّمُّ الَّذِي اخْتَصُّوا بِهِ سُؤَالُ مَا لَا يَحِلُّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الَّذِي نَفَى، وَيَكُونُ الْمُثْبَتُ هَذَا يَحِلُّ. وَلَيْسَ مِنْ الْإِحْلَالِ لِلْأَصْنَافِ وَآحَادِهِمْ وُجُودُ الِاسْتِيعَابِ وَالتَّسْوِيَةِ كَاللَّامِ فِي قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] وَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] . وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ اللَّامُ لِلْإِبَاحَةِ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّهُ قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ وَلَامِ التَّمْلِيكِ مَمْنُوعٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ لَمَّا قَالَ فِي الْفَرَائِضِ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] . وَقَالَ: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] إلَى قَوْلِهِ: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] . وَقَالَ: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] لَمَّا كَانَتْ اللَّامُ لِلتَّمْلِيكِ وَجَبَ اسْتِيعَابُ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ، وَأَفْرَادِ كُلِّ صِنْفٍ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ، فَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَأَرْبَعَةُ بَنِينَ أَوْ بَنَاتٍ أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ إخْوَةٍ وَجَبَ الْعُمُومُ وَالتَّسْوِيَةُ فِي الْأَفْرَادِ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِالنَّسَبِ وَهُمْ مُسْتَوُونَ فِيهِ، وَهُنَاكَ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ فِيهِ كَذَلِكَ وَلَمْ يَجِبْ فِيهِ ذَلِكَ. وَلَا يُقَالُ أَفْرَادُ الصِّنْفِ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهُ، لِأَنَّهُ يُقَالُ بَلْ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ فِي الْأَفْرَادِ مَا قِيلَ فِي الْأَصْنَافِ، فَإِذَا قِيلَ: يَجِبُ اسْتِيعَابُهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَيَسْقُطُ الْمَعْجُوزُ عَنْهُ، قِيلَ فِي الْأَفْرَادِ كَذَلِكَ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَكِنْ يَجِبُ تَحَرِّي الْعَدْلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا ذَكَرَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْجَنَائِزِ] [مَسْأَلَةٌ هَلْ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ إذَا مَرِضَ النَّصْرَانِيُّ أَنْ يَعُودَهُ] كِتَابُ الْجَنَائِزِ

مسألة التداوي بالخمر

مَسْأَلَةٌ: عَنْ قَوْمٍ مُسْلِمِينَ مُجَاوِرِي النَّصَارَى، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ إذَا مَرِضَ النَّصْرَانِيُّ أَنْ يَعُودَهُ؟ وَإِذَا مَاتَ أَنْ يَتْبَعَ جِنَازَتَهُ؟ وَهَلْ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وِزْرٌ، أَمْ لَا؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَا يَتْبَعُ جِنَازَتَهُ، وَأَمَّا عِيَادَتُهُ فَلَا بَأْسَ بِهَا. فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِتَأْلِيفِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِذَا مَاتَ كَافِرًا فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ: وَلِهَذَا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ] 362 - 2 مَسْأَلَةٌ: هَلْ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ؟ الْجَوَابُ: التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ حَرَامٌ، بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى ذَلِكَ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ. ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ تُصْنَعُ لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: إنَّهَا دَاءٌ، وَلَيْسَتْ بِدَوَاءٍ» . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ: أَنَّهُ «نَهَى عَنْ الدَّوَاءِ بِالْخَبِيثِ» . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ، وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا» . وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ ضُفْدَعٍ تُجْعَلُ فِي دَوَاءٍ، فَنَهَى عَنْ قَتْلِهَا وَقَالَ: إنَّ نَقِيقَهَا تَسْبِيحٌ» . وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ أَكْلِ الْمُضْطَرِّ لِلْمَيْتَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ قَطْعًا. وَلَيْسَ

لَهُ عَنْهُ عِوَضٌ، وَالْأَكْلُ مِنْهَا وَاجِبٌ، فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ. دَخَلَ النَّارَ. وَهُنَا لَا يُعْلَمُ حُصُولُ الشِّفَاءِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ هَذَا الدَّوَاءُ، بَلْ اللَّهُ تَعَالَى يُعَافِي الْعَبْدَ بِأَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَالتَّدَاوِي لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يُقَاسُ هَذَا بِهَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 363 - 3: سُئِلَ: عَنْ الْمُدَاوَاةِ بِالْخَمْرِ: وَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهَا جَائِزَةٌ. فَمَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءٍ» فَاَلَّذِي يَقُولُ: تَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ فَمَا حُجَّتُهُ وَقَالُوا: إنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي قَالَ فِيهِ: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا» ضَعِيفٌ وَاَلَّذِي يَقُولُ بِجَوَازِ الْمُدَاوَاةِ بِهِ فَهُوَ خِلَافُ الْحَدِيثِ وَاَلَّذِي يَقُولُ ذَلِكَ مَا حُجَّتُهُ؟ أَجَابَ: وَأَمَّا التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ: كَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ تُصْنَعُ لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: إنَّهَا دَاءٌ، وَلَيْسَتْ بِدَوَاءٍ» وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ نَهَى عَنْ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ» وَالْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا» وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَاَلَّذِينَ جَوَّزُوا التَّدَاوِيَ بِالْمُحَرَّمِ قَاسُوا ذَلِكَ عَلَى إبَاحَةِ الْمُحَرَّمَاتِ: كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ لِلْمُضْطَرِّ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ يَقِينًا بِتَنَاوُلِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّهُ إذَا أَكَلَهَا سَدَّتْ رَمَقَهُ، وَأَزَالَتْ ضَرُورَتَهُ، وَأَمَّا الْخَبَائِثُ بَلْ وَغَيْرُهَا فَلَا يُتَيَقَّنُ حُصُولُ الشِّفَاءِ بِهَا، فَمَا أَكْثَرُ مَنْ يَتَدَاوَى وَلَا يُشْفَى، وَلِهَذَا أَبَاحُوا دَفْعَ الْغَصَّةِ بِالْخَمْرِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهَا، وَتَعَيُّنِهَا لَهُ، بِخِلَافِ شُرْبِهَا لِلْعَطَشِ. فَقَدْ تَنَازَعُوا فِيهِ: فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّهَا لَا تَرْوِي. الثَّانِي: أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى إزَالَةِ ضَرُورَتِهِ إلَّا الْأَكْلُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ،

التداوي بشحم الخنزير

وَأَمَّا التَّدَاوِي فَلَا يَتَعَيَّنُ تَنَاوُلُ هَذَا الْخَبِيثِ، طَرِيقًا لِشِفَائِهِ، فَإِنَّ الْأَدْوِيَةَ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ يَحْصُلُ الشِّفَاءُ بِغَيْرِ الْأَدْوِيَةِ كَالدُّعَاءِ، وَالرُّقْيَةِ، وَهُوَ أَعْظَمُ نَوْعَيْ الدَّوَاءِ. حَتَّى قَالَ بُقْرَاطُ: نِسْبَةُ طِبِّنَا إلَى طِبِّ أَرْبَابِ الْهَيَاكِلِ، كَنِسْبَةِ طِبِّ الْعَجَائِزِ إلَى طِبِّنَا. وَقَدْ يَحْصُلُ الشِّفَاءُ بِغَيْرِ سَبَبٍ اخْتِيَارِيٍّ بَلْ بِمَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي الْجِسْمِ مِنْ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ مَسْرُوقٌ: مَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ. وَأَمَّا التَّدَاوِي فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ. وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، بَلْ قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: أَيُّمَا أَفْضَلُ: التَّدَاوِي؟ أَمْ الصَّبْرُ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «عَنْ الْجَارِيَةِ الَّتِي كَانَتْ تُصْرَعُ، وَسَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَدْعُوَ لَهَا، فَقَالَ: إنْ أَحْبَبْت أَنْ تَصْبِرِي وَلَك الْجَنَّةُ، وَإِنْ أَحْبَبْت دَعَوْت اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَك فَقَالَتْ: بَلْ أَصْبِرُ، وَلَكِنِّي أَنْكَشِفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لَا أَنْكَشِفَ، فَدَعَا لَهَا أَنْ لَا تَتَكَشَّفَ.» وَلِأَنَّ خَلْقًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَمْ يَكُونُوا يَتَدَاوَوْنَ، بَلْ فِيهِمْ مَنْ اخْتَارَ الْمَرَضَ. كَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمْ تَرْكَ التَّدَاوِي. وَإِذَا كَانَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَاجِبًا، وَالتَّدَاوِي لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لَمْ يَجُزْ قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَإِنَّ مَا كَانَ وَاجِبًا قَدْ يُبَاحُ فِيهِ مَا لَا يُبَاحُ فِي غَيْرِ الْوَاجِبِ؛ لِكَوْنِ مَصْلَحَةِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ تَغْمُرُ مَفْسَدَةَ الْمُحَرَّمِ، وَالشَّارِعُ يَعْتَبِرُ الْمَفَاسِدَ وَالْمَصَالِحَ، فَإِذَا اجْتَمَعَا قَدَّمَ الْمَصْلَحَةَ الرَّاجِحَةَ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ؛ وَلِهَذَا أَبَاحَ فِي الْجِهَادِ الْوَاجِبِ مَا لَمْ يُبِحْهُ فِي غَيْرِهِ، حَتَّى أَبَاحَ رَمْيَ الْعَدُوِّ بِالْمَنْجَنِيقِ، وَإِنْ أَفْضَى ذَلِكَ إلَى قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَتَعَمُّدُ ذَلِكَ يَحْرُمُ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [التَّدَاوِي بِشَحْمِ الْخِنْزِيرِ] 364 - 4 - سُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ وُصِفَ لَهُ شَحْمُ الْخِنْزِيرِ لِمَرَضٍ بِهِ: هَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؟ أَمْ لَا؟ أَجَابَ: وَأَمَّا التَّدَاوِي بِأَكْلِ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَلَا يَجُوزُ. وَأَمَّا التَّدَاوِي بِالتَّلَطُّخِ بِهِ، ثُمَّ يَغْسِلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى جَوَازِ مُبَاشَرَةِ

النَّجَاسَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ. وَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ. كَمَا يَجُوزُ اسْتِنْجَاءُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِيَدِهِ. وَمَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ جَازَ التَّدَاوِي بِهِ. كَمَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِلُبْسِ الْحَرِيرِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ كَالْمَطَاعِمِ الْخَبِيثَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا. كَمَا لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِشُرْبِ الْخَمْرِ، لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِشُحُومِ الْمَيْتَةِ فِي طَلْيِ السُّفُنِ، وَدَهْنِ الْجُلُودِ، وَالِاسْتِصْبَاحِ بِهِ، وَأَقَرَّهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ. وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْ ثَمَنِهِ. وَلِهَذَا رَخَّصَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِطَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي الْيَابِسَاتِ، فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي الْمَائِعَاتِ الَّتِي لَا تُنَجِّسُهَا. 365 - 5 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ يَتَدَاوَى بِالْخَمْرِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، هَلْ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] فِي إبَاحَةِ مَا ذُكِرَ؟ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِذَلِكَ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ يُتَدَاوَى بِهَا فَقَالَ: إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءٍ» . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ «نَهَى عَنْ الدَّوَاءِ بِالْخَبِيثِ وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا» . وَلَيْسَ ذَلِكَ بِضَرُورَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُتَيَقَّنُ الشِّفَاءُ بِهَا، كَمَا يُتَيَقَّنُ الشِّبَعُ بِاللَّحْمِ الْمُحَرَّمِ؛ وَلِأَنَّ الشِّفَاءَ لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ طَرِيقٌ، بَلْ يَحْصُلُ بِأَنْوَاعٍ مِنْ الْأَدْوِيَةِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمَخْمَصَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَزُولُ إلَّا بِالْأَكْلِ.

مسألة المريض إذا قال له الطبيب دواؤك لحم الكلب أو الخنزير

[مَسْأَلَةٌ الْمَرِيض إذَا قَالَ لَهُ الطَّبِيب دَوَاؤُك لَحْم الْكَلْبِ أَوْ الْخِنْزِيرِ] مَسْأَلَةٌ: فِي الْمَرِيضِ إذَا قَالَتْ لَهُ الْأَطِبَّاءُ: مَالَك دَوَاءٌ غَيْرُ أَكْلِ لَحْمِ الْكَلْبِ، أَوْ الْخِنْزِيرِ. فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهُ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] . وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا» ؟ وَإِذَا وُصِفَ لَهُ الْخَمْرُ أَوْ النَّبِيذُ: هَلْ يَجُوزُ شُرْبُهُ مَعَ هَذِهِ النُّصُوصِ؟ أَمْ لَا؟ وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ يُؤَلِّفُ تَحْتَ الْأَرْضِ؟ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْخَبَائِثِ، لِمَا رَوَاهُ وَائِلُ بْنُ حُجْرٌ أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْد الْجُعْفِيَّ. «سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْخَمْرِ، فَنَهَاهُ عَنْهَا، فَقَالَ: إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّوَاءَ، وَأَنْزَلَ الدَّاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا وَلَا تَتَدَاوَوْا بِحَرَامٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الدَّوَاءِ بِالْخَبِيثِ» ، وَفِي لَفْظٍ يَعْنِي السُّمَّ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: «ذَكَرَ طَبِيبٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَوَاءً، وَذَكَرَ الضُّفْدَعَ تُجْعَلُ فِيهِ، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي السُّكْرِ: " إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ " ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَأَمْثَالُهَا صَرِيحَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ التَّدَاوِي بِالْخَبَائِثِ، مُصَرِّحَةٌ بِتَحْرِيمِ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ إذْ هِيَ أُمُّ الْخَبَائِثِ، وَجِمَاعُ كُلِّ إثْمٍ. وَالْخَمْرُ اسْمٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ، كَمَا ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ،

عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ: الْبِتْعُ، وَهُوَ مِنْ الْعَسَلِ، يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَالْمِزْرُ: وَهُوَ مِنْ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ؟ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْبِتْعِ. وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ - وَكَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ، فَقَالَ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمَا: عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ حُبْشَانَ مِنْ الْيَمَنِ «سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ مِنْ الذُّرَةِ، يُقَالُ لَهُ: الْمِزْرُ، فَقَالَ: أَمُسْكِرٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إنَّ عَلَى اللَّهِ عَهْدًا لِمَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ أَنْ يُسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ» الْحَدِيثَ. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَةُ صَرِيحَةٌ بِأَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَأَنَّهُ خَمْرٌ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وَلَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ الْأَطِبَّاءِ: إنَّهُ لَا يَبْرَأُ مِنْ هَذَا الْمَرَضِ إلَّا بِهَذَا الدَّوَاءِ الْمُعَيَّنِ. فَهَذَا قَوْلُ جَاهِلً، لَا يَقُولُهُ مَنْ يَعْلَمُ الطِّبَّ أَصْلًا، فَضْلًا عَمَّنْ يَعْرِفُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّ الشِّفَاءَ لَيْسَ فِي سَبَبٍ مُعَيَّنٍ يُوجِبُهُ فِي الْعَادَةِ، كَمَا لِلشِّبَعِ سَبَبٌ مُعَيَّنٌ يُوجِبُهُ فِي الْعَادَةِ، إذْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُشْفِيهِ اللَّهُ بِلَا دَوَاءٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُشْفِيهِ اللَّهُ بِالْأَدْوِيَةِ الْجُثْمَانِيَّةِ، حَلَالِهَا وَحَرَامِهَا، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فَلَا يَحْصُلُ الشِّفَاءُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ، أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَكْلِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلشِّبَعِ. وَلِهَذَا أَبَاحَ اللَّهُ لِلْمُضْطَرِّ الْخَبَائِثَ أَنْ يَأْكُلَهَا عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إلَيْهَا فِي الْمَخْمَصَةِ، فَإِنَّ الْجُوعَ يَزُولُ بِهَا، وَلَا يَزُولُ بِغَيْرِهَا، بَلْ يَمُوتُ أَوْ يَمْرَضُ مِنْ الْجُوعِ، فَلَمَّا تَعَيَّنَتْ طَرِيقًا إلَى الْمَقْصُودِ أَبَاحَهَا اللَّهُ، بِخِلَافِ الْأَدْوِيَةِ الْخَبِيثَةِ. بَلْ قَدْ قِيلَ: مَنْ اسْتَشْفَى بِالْأَدْوِيَةِ الْخَبِيثَةِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى مَرَضٍ فِي قَلْبِهِ، وَذَلِكَ

فِي إيمَانِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ الْمُؤْمِنِينَ لَمَا جَعَلَ اللَّهُ شِفَاءَهُ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا إذَا اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَكْلُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَمَّا التَّدَاوِي فَلَا يَجِبُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ بِالْحَلَالِ، وَتَنَازَعُوا: هَلْ الْأَفْضَلُ فِعْلُهُ؟ أَوْ تَرْكُهُ عَلَى طَرِيقِ التَّوَكُّلِ؟ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَغَيْرَهَا، لَمْ يُبِحْ ذَلِكَ إلَّا لِمَنْ اُضْطُرَّ إلَيْهَا غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُتَدَاوِيَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَيْهَا، فَعُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ. وَأَمَّا مَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ لَا لِمُجَرَّدِ الضَّرُورَةِ: كَلِبَاسِ الْحَرِيرِ. فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ، لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا» وَهَذَا جَائِزٌ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ لُبْسَ الْحَرِيرِ إنَّمَا حَرُمَ عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ. وَلِهَذَا أُبِيحَ لِلنِّسَاءِ لِحَاجَتِهِنَّ إلَى التَّزَيُّنِ بِهِ، وَأُبِيحَ لَهُنَّ التَّسَتُّرُ بِهِ مُطْلَقًا فَالْحَاجَةُ إلَى التَّدَاوِي بِهِ كَذَلِكَ، بَلْ أَوْلَى، وَهَذِهِ حَرُمَتْ لِمَا فِيهَا مِنْ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ، وَذَلِكَ مُنْتَفٍ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لُبْسُهَا لِلْبَرْدِ: أَوْ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَسْتَتِرُ بِهِ غَيْرُهَا. وَأَمَّا كَوْنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤَلِّفُ تَحْتَ الْأَرْضِ أَوْ لَا فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَحْدِيدِ وَقْتِ السَّاعَةِ نَصٌّ أَصْلًا، بَلْ قَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 187] . أَيْ خَفِيَتْ عَلَى أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَقَالَ تَعَالَى لِمُوسَى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي فَكَيْفَ أُطْلِعُ عَلَيْهَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ لَهُ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ» . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ

مسألة ما تفعله الشياطين الجانة من مسها وتخبيطها

لَيْسَ بِأَعْلَمَ بِهَا مِنْ السَّائِلِ، وَكَانَ السَّائِلُ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ جِبْرِيلُ إلَّا بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ، وَحِينَ أَجَابَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَمْ نَكُنْ نَظُنُّهُ إلَّا أَعْرَابِيًّا. فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَعْلَمَ بِالسَّاعَةِ مِنْ أَعْرَابِيٍّ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَدَّعِيَ عِلْمَ مِيقَاتِهَا، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِأَشْرَاطِهَا وَهِيَ عَلَامَاتُهَا، وَهِيَ كَثِيرَةٌ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا وَبَعْضُهَا يَأْتِي بَعْدُ، وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ مِثْلُ الَّذِي صَنَّفَ كِتَابًا وَسَمَّاهُ الدَّارَ الْمُنَظَّمَ فِي مَعْرِفَةِ الْمُعَظَّمِ، وَذَكَرَ فِيهِ عَشْرَ دَلَالَاتٍ، بَيَّنَ فِيهَا وَقْتَهَا، وَاَلَّذِينَ تَكَلَّمُوا عَلَى ذَلِكَ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَاَلَّذِي تَكَلَّمَ فِي عَنْقَاءَ مَغْرِبٍ وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ صُورَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَ أَتْبَاعِهِمْ فَغَالِبُهُمْ كَاذِبُونَ مُفْتَرُونَ، وَقَدْ تَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَيَتَكَلَّمُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَادَّعَوْا فِي ذَلِكَ الْكَشْفَ وَمَعْرِفَةَ الْأَسْرَارِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] . [مَسْأَلَةٌ مَا تَفْعَلُهُ الشَّيَاطِينُ الْجَانَّةُ مِنْ مَسِّهَا وَتَخْبِيطِهَا] 367 - 7 - مَسْأَلَةٌ: هَلْ الشَّرْعُ الْمُطَهَّرُ يُنْكِرُ مَا تَفْعَلُهُ الشَّيَاطِينُ الْجَانَّةُ مِنْ مَسَّهَا وَتَخْبِيطِهَا وَجَوَلَانِ بَوَارِقِهَا عَلَى بَنِي آدَمَ، وَاعْتِرَاضِهَا؟ فَهَلْ لِذَلِكَ مُعَالَجَةٌ بِالْمُخْرَقَاتِ وَالْأَحْرَازِ، وَالْعَزَائِمِ، وَالْأَقْسَامِ، وَالرُّقَى، وَالتَّعَوُّذَاتِ، وَالتَّمَائِمِ؟ وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ: لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْجِنَّ يَرْجِعُونَ إلَى الْحَقَائِقِ عِنْدَ عَامِرَةِ الْأَجْسَادِ بِالْبَوَارِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْخَوَاتِمَ الْمُتَّخَذَةَ مَعَ كُلِّ إنْسَانٍ مِنْ سُرْيَانِيٍّ، وَعِبْرَانِيٍّ، وَعَجَمِيٍّ، وَعَرَبِيٍّ، لَيْسَ لَهَا بُرْهَانٌ، وَإِنَّهَا مِنْ مُخْتَلَقِ الْأَقَاوِيلِ، وَخُرَافَاتِ الْأَبَاطِيلِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ الْقُوَّةِ، وَلَا مِنْ الْقَبْضِ بِحَيْثُ يَفْعَلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مُتَوَلِّي هَذَا الشَّأْنِ عَلَى مَمَرِّ الدُّهُورِ، وَالْأَوْقَاتِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وُجُودُ الْجِنِّ ثَابِتٌ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَأَئِمَّتِهَا. وَكَذَلِكَ دُخُولُ الْجِنِّيِّ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ» . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قُلْت لِأَبِي: إنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ: إنَّ الْجِنِّيَّ لَا يَدْخُلُ فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ يَكْذِبُونَ، هَذَا يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَمْرٌ مَشْهُورٌ، فَإِنَّهُ يُصْرَعُ الرَّجُلُ فَيَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ، وَيُضْرَبُ عَلَى بَدَنِهِ ضَرْبًا عَظِيمًا لَوْ ضُرِبَ بِهِ جَمَلٌ لَأَثَّرَ بِهِ أَثَرًا عَظِيمًا. وَالْمَصْرُوعُ مَعَ هَذَا لَا يُحِسُّ بِالضَّرْبِ، وَلَا بِالْكَلَامِ الَّذِي يَقُولُهُ. وَقَدْ يُجَرُّ الْمَصْرُوعُ، وَغَيْرُ الْمَصْرُوعِ، وَيُجَرُّ الْبِسَاطُ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ. وَيُحَوِّلُ آلَاتٍ، وَيُنْقَلُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان، وَيَجْرِي غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ مَنْ شَاهَدَهَا. أَفَادَتْهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا، بِأَنَّ النَّاطِقَ عَلَى لِسَانِ الْإِنْسِيِّ. وَالْمُحَرِّكَ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ الْإِنْسَانِ. وَلَيْسَ فِي أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُنْكِرُ دُخُولَ الْجِنِّيِّ فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ وَغَيْرِهِ، وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَادَّعَى أَنَّ الشَّرْعَ يُكَذِّبُ ذَلِكَ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَى الشَّرْعِ، وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَنْفِي ذَلِكَ. وَأَمَّا مُعَالَجَةُ الْمَصْرُوعِ بِالرُّقَى، وَالتَّعَوُّذَاتِ. فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: فَإِنْ كَانَتْ الرُّقَى وَالتَّعَاوِيذُ مِمَّا يُعْرَفُ مَعْنَاهَا، وَمِمَّا يَجُوزُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا الرَّجُلُ، دَاعِيًا لِلَّهِ، ذَاكِرًا لَهُ، وَمُخَاطِبًا لِخَلْقِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرْقَى بِهَا الْمَصْرُوعُ، وَيُعَوَّذَ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ أَذِنَ فِي الرُّقَى، مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكًا» . وَقَالَ: «مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ» وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ كَلِمَاتٌ مُحَرَّمَةٌ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ كَانَتْ مَجْهُولَةَ الْمَعْنَى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا كُفْرٌ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْقِيَ بِهَا وَلَا يَعْزِمَ، وَلَا يَقْسِمَ، وَإِنْ

كَانَ الْجِنِّيُّ قَدْ يَنْصَرِفُ عَنْ الْمَصْرُوعِ بِهَا، فَإِنَّمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَرَسُولُهُ ضَرَرُهُ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ، كَالسِّيمَا وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ، فَإِنَّ السَّاحِرَ السِّيمَاوِيَّ وَإِنْ كَانَ يَنَالُ بِذَلِكَ بَعْضَ أَغْرَاضِهِ، كَمَا يَنَالُ السَّارِقُ بِالسَّرِقَةِ بَعْضَ أَغْرَاضِهِ، وَكَمَا يَنَالُ الْكَاذِبُ بِكَذِبِهِ وَبِالْخِيَانَةِ بَعْضَ أَغْرَاضِهِ، وَكَمَا يَنَالُ الْمُشْرِكُ بِشِرْكِهِ وَكُفْرِهِ بَعْضَ أَغْرَاضِهِ، وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ نَالُوا بَعْضَ أَغْرَاضِهِمْ بِهَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّهَا تُعْقِبُهُمْ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَعْظَمَ مِمَّا حَصَلُوهُ مِنْ أَغْرَاضِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ الرُّسُلَ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ، وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا، فَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَمَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَتِهِ. وَمَنْفَعَتُهُ رَاجِحَةٌ عَلَى الْمَضَرَّةِ. وَإِنْ كَرِهَتْهُ النُّفُوسُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] الْآيَةَ. فَأَمَرَ بِالْجِهَادِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِلنُّفُوسِ، لَكِنَّ مَصْلَحَتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ رَاجِحَةٌ عَلَى مَا يَحْصُلُ لِلنُّفُوسِ مِنْ أَلَمِهِ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَشْرَبُ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ لِتَحْصُلَ لَهُ الْعَافِيَةُ، فَإِنَّ مَصْلَحَةَ حُصُولِ الْعَافِيَةِ لَهُ رَاجِحَةٌ عَلَى أَلَمِ شُرْبِ الدَّوَاءِ. وَكَذَلِكَ التَّاجِرُ الَّذِي يَتَغَرَّبُ عَنْ وَطَنِهِ، وَيَسْهَرُ، وَيَخَافُ، وَيَتَحَمَّلُ هَذِهِ الْمَكْرُوهَاتِ، مَصْلَحَةُ الرِّبْحِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ رَاجِحَةٌ عَلَى هَذِهِ الْمَكَارِهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ السَّاحِرِ: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة: 102]- إلَى قَوْلِهِ - {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102] فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَعْلَمُونَ أَنَّ السَّاحِرَ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ. وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ بَعْضَ أَغْرَاضِهِمْ فِي الدُّنْيَا:

{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 103] آمَنُوا وَاتَّقَوْا بِفِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، لَكَانَ مَا يَأْتِيهِمْ بِهِ عَلَى ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا يَحْصُلُ لَهُمْ بِالسِّحْرِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] . وَقَالَ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] . وَقَالَ: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [النحل: 41] الْآيَتَيْنِ. وَقَالَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ - أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 201 - 202] . وَالْأَحَادِيثُ فِيمَا يُثِيبُ اللَّهُ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَدْفَعَ كُلَّ ضَرَرٍ بِمَا شَاءَ، وَلَا يَجْلِبَ كُلَّ نَفْعٍ بِمَا شَاءَ، بَلْ لَا يَجْلِبُ النَّفْعَ إلَّا بِمَا فِيهِ تَقْوَى اللَّهِ، وَلَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ إلَّا بِمَا فِيهِ تَقْوَى اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْعَزَائِمِ وَالْأَقْسَامِ وَالدُّعَاءِ وَالْخَلْوَةِ وَالسَّهَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ لَمْ يَفْعَلْهُ. فَمَنْ كَذَّبَ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ مِنْ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَالسِّحْرِ، وَمَا يَأْتُونَ بِهِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ: كَدُعَاءِ الْكَوَاكِبِ، وَتَخْرِيجِ الْقُوَى الْفَعَّالَةِ السَّمَاوِيَّةِ بِالْقُوَى الْمُنْفَعِلَةِ الْأَرْضِيَّةِ، وَمَا يَنْزِلُ مِنْ الشَّيَاطِينِ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، فَالشَّيَاطِينُ الَّتِي تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ، وَيُسَمُّونَهَا رُوحَانِيَّةَ الْكَوَاكِبِ وَأَنْكَرُوا دُخُولَ الْجِنِّ فِي أَبْدَانِ الْإِنْسِ، وَحُضُورَهَا بِمَا يَسْتَحْضِرُونَ بِهِ مِنْ الْعَزَائِمِ وَالْأَقْسَامِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ، فَقَدْ كَذَّبَ بِمَا لَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمًا. وَمَنْ جَوَّزَ أَنْ يَفْعَلَ الْإِنْسَانُ بِمَا رَآهُ مُؤَثِّرًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِنَ ذَلِكَ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ - فَيَفْعَلَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ، وَيَتْرُكَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ - وَقَدْ دَخَلَ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ

فصل كيفية الجن ومقالتهم

وَرَسُولُهُ، إمَّا مِنْ الْكُفْرِ وَإِمَّا مِنْ الْفُسُوقِ، وَإِمَّا الْعِصْيَانُ، بَلْ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَيَتْرُكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ. وَمِمَّا شَرَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ التَّعَوُّذِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ. وَلَمْ يَقْرَبْهُ شَيْطَانٌ حَتَّى يُصْبِحَ» وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ «كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنْ يَحْضُرُونِ» «وَلَمَّا جَاءَتْهُ الشَّيَاطِينُ بِلَهَبٍ مِنْ نَارٍ، أَمَرَ بِهَذَا التَّعَوُّذِ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، وَذَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ، وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ، وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ» . فَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ الَّتِي يَقُولُهَا الْعَبْدُ إذَا أَصْبَحَ، وَإِذَا أَمْسَى، وَإِذَا نَامَ، وَإِذَا خَافَ شَيْئًا، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ مَا فِيهِ بَلَاغٌ. فَمَنْ سَلَكَ مِثْلَ هَذِهِ السَّبِيلِ، فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَمَنْ دَخَلَ فِي سَبِيلِ أَهْلِ الْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ الدَّاخِلَةِ فِي الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ فَقَدْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَبِذَلِكَ ذَمَّ اللَّهُ مَنْ ذَمَّهُ مِنْ مُبَدِّلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ. حَيْثُ قَالَ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ - وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى} [البقرة: 101 - 102]- إلَى قَوْلِهِ -: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102] . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ كَيْفِيَّةُ الْجِنِّ وَمَقَالَتُهُمْ] فَصْلٌ وَأَمَّا كَوْنُهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ كَيْفِيَّةُ الْجِنِّ وَمَقَالَتُهُمْ بِعَدَمِ عِلْمِهِ لَمْ يُنْكِرْ وُجُودَهُمْ إذْ وُجُودُهُمْ ثَابِتٌ بِطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، غَيْرُ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ رَآهُمْ، وَفِيهِمْ مَنْ رَأَى مَنْ رَآهُمْ، وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِالْخَبَرِ وَالْيَقِينِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ كَلَّمَهُمْ

مسألة مبتلى سكن في دار بين قوم أصحاء

وَكَلَّمُوهُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ وَيَتَصَرَّفُ فِيهِمْ، وَهَذَا يَكُونُ لِصَالِحِينَ، وَغَيْرِ صَالِحِينَ. وَلَوْ ذَكَرْت مَا جَرَى لِي، وَلِأَصْحَابِي مَعَهُمْ لَطَالَ الْخِطَابُ، وَكَذَلِكَ مَا جَرَى لِغَيْرِنَا، لَكِنَّ الِاعْتِمَادَ فِي الْأَجْوِبَةِ الْعِلْمِيَّةِ عَلَى مَا يَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي عِلْمِهِ، لَا يَكُونُ لِمَا يَخْتَصُّ بِعِلْمِهِ الْمُجِيبُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ لِمَنْ يُصَدِّقُهُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ مُبْتَلًى سَكَنَ فِي دَارٍ بَيْنَ قَوْمٍ أَصِحَّاءَ] 368 - 8 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مُبْتَلًى سَكَنَ فِي دَارِ بَيْنَ قَوْمٍ أَصِحَّاءَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُمْكِنُنَا مُجَاوَرَتُك، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُجَاوِرَ الْأَصِحَّاءَ، فَهَلْ يَجُوزُ إخْرَاجُهُ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ السَّكَنِ بَيْنَ الْأَصِحَّاءِ. فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُورِدْ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» فَنَهَى صَاحِبَ الْإِبِلِ الْمِرَاضِ أَنْ يُورِدَهَا عَلَى صَاحِبِ الْإِبِلِ الصِّحَاحِ، مَعَ قَوْلِهِ: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ» . وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا قَدِمَ مَجْذُومٌ لِيُبَايِعَهُ، أَرْسَلَ إلَيْهِ بِالْبَيْعَةِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي دُخُولِ الْمَدِينَةِ» . [الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّتِ الَّذِي كَانَ لَا يُصَلِّي] 369 - 9 - سُئِلَ: عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ الَّذِي كَانَ لَا يُصَلِّي، هَلْ لِأَحَدٍ فِيهَا أَجْرٌ؟ أَمْ لَا؟ وَهَلْ عَلَيْهِ إثْمٌ إذَا تَرَكَهَا، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي؟ وَكَذَلِكَ الَّذِي يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَمَا كَانَ يُصَلِّي، هَلْ يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ أَجَابَ: أَمَّا مَنْ كَانَ مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ:

مِنْ الْمُنَاكَحَةِ، وَالْمُوَارَثَةِ. وَتَغْسِيلِهِ، وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَدَفْنِهِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لَكِنْ مَنْ عُلِمَ مِنْهُ النِّفَاقُ وَالزَّنْدَقَةُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْهُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ فَإِنَّ اللَّهَ نَهَى نَبِيَّهُ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ. فَقَالَ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] وَقَالَ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 6] . وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُظْهِرًا لِلْفِسْقِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ كَأَهْلِ الْكَبَائِرِ، فَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى أَحَدِهِمْ زَجْرًا لِأَمْثَالِهِ عَنْ مِثْلِ مَا فَعَلَهُ، كَمَا امْتَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ، وَعَلَى الْغَالِّ، وَعَلَى الْمَدِينِ الَّذِي لَا وَفَاءَ لَهُ، وَكَمَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ يَمْتَنِعُونَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ - كَانَ عَمَلُهُ بِهَذِهِ السُّنَّةِ حَسَنًا. وَقَدْ قَالَ لِجُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ ابْنُهُ: إنِّي لَمْ أَنَمْ الْبَارِحَةَ بَشَمًا، فَقَالَ: أَمَا إنَّك لَوْ مِتّ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْك. كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَتَلْت نَفْسَك بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ. وَهَذَا مِنْ جِنْسِ هَجْرِ الْمُظْهِرِينَ لِلْكَبَائِرِ حَتَّى يَتُوبُوا، فَإِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِثْلُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا، وَمَنْ صَلَّى عَلَى أَحَدِهِمْ يَرْجُو لَهُ رَحْمَةَ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ امْتِنَاعُهُ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً، كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا، وَلَوْ امْتَنَعَ فِي الظَّاهِرِ وَدَعَا لَهُ فِي الْبَاطِنِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ كَانَ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ تَفْوِيتِ إحْدَاهُمَا. وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ النِّفَاقُ وَهُوَ مُسْلِمٌ يَجُوزُ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ، بَلْ يُشْرَعُ ذَلِكَ، وَيُؤْمَرُ بِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] وَكُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْكَبَائِرَ فَإِنَّهُ تُسَوَّغُ عُقُوبَتُهُ بِالْهَجْرِ وَغَيْرِهِ، حَتَّى مِمَّنْ فِي هَجْرِهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ رَاجِحَةٌ فَتَحْصُلُ الْمَصَالِحُ الشَّرْعِيَّةُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

من يصلي وقتا ويترك الصلاة كثيرا

[مِنْ يُصَلِّي وَقْتًا وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ كَثِيرًا] سُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ يُصَلِّي وَقْتًا، وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ كَثِيرًا، أَوْ لَا يُصَلِّي، هَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِ؟ أَجَابَ: مِثْلُ هَذَا مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ، بَلَى الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ النِّفَاقَ يُصَلِّي الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، وَيُغَسَّلُونَ، وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ. كَمَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِنْ كَانَ مَنْ عَلِمَ نِفَاقَ شَخْصٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ. كَمَا نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ عُلِمَ نِفَاقُهُ. وَأَمَّا مَنْ شُكَّ فِي حَالِهِ فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، إذَا كَانَ ظَاهِرَ الْإِسْلَامِ. كَمَا صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ نِفَاقُهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101] وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ لَا يَجُوزُ النَّهْيُ عَنْهُ، وَلَكِنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُنَافِقِ لَا تَنْفَعُهُ، «كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَلْبَسَ ابْنَ أُبَيٍّ قَمِيصَهُ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ قَمِيصِي مِنْ اللَّهِ» وَقَالَ تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 6] . وَتَارِكُ الصَّلَاةِ أَحْيَانًا، وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْمُتَظَاهِرِينَ بِالْفِسْقِ، فَأَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ إذَا كَانَ فِي هَجْرِ هَذَا، وَتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِحَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ بَاعِثًا لَهُمْ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ [هَجَرُوهُ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ] ، كَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ وَالْغَالِّ، وَالْمَدِينِ الَّذِي لَا وَفَاءَ لَهُ، وَهَذَا شَرٌّ مِنْهُمْ. فَصْلٌ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَتَّى يُخَلِّفَ وَفَاءً، قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ وَفَاءِ الدَّيْنِ عَنْهُ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ صَارَ هُوَ يُوفِيهِ مِنْ عِنْدِهِ، فَصَارَ الْمَدِينُ يُخَلِّفُ وَفَاءً.

مسألة هرب له مملوك ثم رجع

هَذَا مَعَ قَوْلِهِ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو مُوسَى عَنْهُ: «إنَّ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَلْقَاهُ عَبْدٌ بِهَا، بَعْدَ الْكَبَائِرِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا، أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَدَعُ قَضَاءً» رَوَاهُ أَحْمَدُ. فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ تَرْكَ الدَّيْنِ بَعْدَ الْكَبَائِرِ. فَإِذَا كَانَ قَدْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَدِينِ الَّذِي لَا قَضَاءَ لَهُ، فَعَلَى فَاعِلِ الْكَبَائِرِ أَوْلَى، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ قَاتِلُ نَفْسِهِ، وَالْغَالُّ: لَمَّا لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمَا. وَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِذَوِي الْفَضْلِ تَرْكُ الصَّلَاةِ عَلَى ذَوِي الْكَبَائِرِ الظَّاهِرَةِ، وَالدُّعَاةِ إلَى الْبِدَعِ، وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ جَائِزَةً فِي الْجُمْلَةِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: «الشَّهِيدُ يُغْفَرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الدَّيْنُ» فَأَرَادَ بِهِ أَنَّ صَاحِبَهُ يُوَفَّاهُ. [مَسْأَلَةٌ هَرَبَ لَهُ مَمْلُوكٌ ثُمَّ رَجَعَ] 371 - 11 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ مَمْلُوكٌ هَرَبَ، ثُمَّ رَجَعَ. فَلَمَّا رَجَعَ أَخَذَ سِكِّينَتَهُ وَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهَلْ يَأْثَمُ سَيِّدُهُ؟ وَهَلْ تَجُوزُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ. وَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ قَدْ ظَلَمَهُ، وَاعْتَدَى عَلَيْهِ، بَلْ كَانَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَصْبِرَ إلَى أَنْ يُفَرِّجَ اللَّهُ. فَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ ظَلَمَهُ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، مِثْلُ أَنْ يُقَتِّرَ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ، أَوْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، أَوْ يَضْرِبَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ يُرِيدُ بِهِ فَاحِشَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَإِنَّ عَلَى سَيِّدِهِ مِنْ الْوِزْرِ بِقَدْرِ مَا نُسِبَ إلَيْهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ. «وَلَمْ يُصَلِّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ. فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: صَلُّوا عَلَيْهِ» فَيَجُوزُ لِعُمُومِ النَّاسِ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ. وَأَمَّا أَئِمَّةُ الدِّينِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ. فَإِذَا تَرَكُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ زَجْرًا لِغَيْرِهِ، اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَذَا حَقٌّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 372 - 12 - سُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ يَدَّعِي الْمَشْيَخَةَ: فَرَأَى ثُعْبَانًا، فَقَامَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ

لِيَقْتُلَهُ، فَمَنَعَهُ عَنْهُ، وَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ، عَلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ لَهُ، فَلَدَغَهُ الثُّعْبَانُ فَمَاتَ. فَهَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ؟ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَنْ يَتْرُكُوا الصَّلَاةَ عَلَى هَذَا، وَنَحْوِهِ، وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي عَلَيْهِ عُمُومُ النَّاسِ كَمَا «امْتَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ، وَعَلَى الْغَالِّ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» . وَقَالُوا لِسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: إنَّ ابْنَك الْبَارِحَةَ لَمْ يَبِتْ، فَقَالَ: بَشَمًا؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: أَمَّا إنَّهُ لَوْ مَاتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ. فَبَيَّنَ سَمُرَةَ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ بَشَمًا لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَاتِلًا لِنَفْسِهِ بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ. فَهَذَا الَّذِي مَنَعَ مِنْ قَتْلِ الْحَيَّةِ، وَأَمْسَكَهَا بِيَدِهِ حَتَّى قَتَلَتْهُ، أَوْلَى أَنْ يَتْرُكَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَاتِلٌ نَفْسَهُ، بَلْ لَوْ فَعَلَ هَذَا غَيْرُهُ بِهِ لَوَجَبَ الْقَوَدُ عَلَيْهِ. وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ ظَنَّ أَنَّهَا لَا تَقْتُلُ، فَهَذَا شَبِيهُ عَمَلِهِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي أَكَلَ حَتَّى بَشِمَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَ نَفْسِهِ، فَمَنْ جَنَى جِنَايَةً لَا تَقْتُلُ غَالِبًا، كَانَ شِبْهَ عَمْدٍ، وَإِمْسَاكُ الْحَيَّاتِ مِنْ نَوْعِ الْجِنَايَاتِ، فَإِنَّهُ فِعْلٌ غَيْرُ مُبَاحٍ. وَهَذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهَذَا الْفِعْلِ إلَّا إظْهَارُ خَارِقِ الْعَادَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يَمْنَعُ انْخِرَاقَ الْعَادَةِ. كَيْفَ وَغَالِبُ هَؤُلَاءِ كَذَّابُونَ مُلْبِسُونَ خَارِجُونَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَهْيِهِ، يُخْرِجُونَ النَّاسَ عَنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ إلَى طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، وَيُفْسِدُونَ عَقْلَ النَّاسِ وَدِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَيَجْعَلُونَ الْعَاقِلَ مُولِهًا كَالْمَجْنُونِ، أَوْ مُتَوَلِّهًا بِمَنْزِلَةِ الشَّيْطَانِ الْمَفْتُونِ، وَيُخْرِجُونَ الْإِنْسَانَ عَنْ الشَّرِيعَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى بِدَعٍ مُضَادَّةٍ لَهَا، فَيَفْتِلُونَ الشُّعُورَ وَيَكْشِفُونَ الرُّءُوسَ، بَدَلًا عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَرْجِيلِ الشَّعْرِ، وَتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ، بَدَلًا عَنْ سُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَيُصَلُّونَ صَلَاةً نَاقِصَةَ الْأَرْكَانِ وَالْوَاجِبَاتِ، وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى بِدَعِهِمْ الْمُنْكَرَةِ عَلَى أَتَمِّ الْحَالَاتِ، وَيَصْنَعُونَ اللَّاذَنَ، وَمَاءَ الْوَرْدِ. وَالزَّعْفَرَانَ، لِإِمْسَاكِ الْحَيَّاتِ، وَدُخُولِ النَّارِ بِأَنْوَاعٍ مِنْ الْحِيَلِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةَ بَدَلًا عَمَّا جَعَلَهُ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ مِنْ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ

ركب البحر للتجارة فغرق

وَالْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ، وَيُفْسِدُونَ مَنْ يُفْسِدُونَهُ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ بَدَلًا عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْعِفَّةِ وَغَضِّ الْبَصَرِ، وَحِفْظِ الْفَرْجِ، وَكَفِّ اللِّسَانِ. وَمَنْ كَانَ مُبْتَدِعًا ظَاهِرَ الْبِدْعَةِ، وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَمِنْ الْإِنْكَارِ الْمَشْرُوعِ أَنْ يُهْجَرَ حَتَّى يَتُوبَ، وَمِنْ الْهَجْرِ امْتِنَاعُ أَهْلِ الدِّينِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِيَنْزَجِرَ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِطَرِيقَتِهِ، وَيَدْعُو إلَيْهِ، وَقَدْ أَمَرَ بِمِثْلِ هَذَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [رَكِبَ الْبَحْرَ لِلتِّجَارَةِ فَغَرِقَ] 373 - 13 - سُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ رَكِبَ الْبَحْرَ لِلتِّجَارَةِ: فَغَرِقَ، فَهَلْ مَاتَ شَهِيدًا؟ أَجَابَ: نَعَمْ، مَاتَ شَهِيدًا، إذَا لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِرُكُوبِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْغَرِيقُ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالْحَرِيقُ شَهِيدٌ، وَالْمَيِّتُ بِالطَّاعُونِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ فِي نِفَاسِهَا شَهِيدَةٌ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ شَهِيدٌ» . وَجَاءَ ذِكْرُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ. وَرُكُوبُ الْبَحْرِ لِلتِّجَارَةِ جَائِزٌ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ السَّلَامَةُ. وَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهُ لِلتِّجَارَةِ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ: إنَّهُ شَهِيدٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [رَفْع الصَّوْتِ فِي الْجِنَازَةِ] 374 - 14 - سُئِلَ: عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْجِنَازَةِ؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ مَعَ الْجِنَازَةِ، لَا بِقِرَاءَةٍ وَلَا ذِكْرٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ هَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ بَلْ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُتْبَعَ بِصَوْتٍ، أَوْ نَارٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَسَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رَجُلًا يَقُولُ فِي جِنَازَةٍ: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ بَعْدُ. وَقَالَ قَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ - وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ

نصرانية بعلها مسلم توفيت وفي بطنها جنين له سبعة أشهر

التَّابِعِينَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ خَفْضَ الصَّوْتِ عِنْدَ الْجَنَائِزِ، وَعِنْدَ الذِّكْرِ، وَعِنْدَ الْقِتَالِ. وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالْآثَارِ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمُفَضَّلَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: إنَّ هَذَا قَدْ صَارَ إجْمَاعًا مِنْ النَّاسِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ مَا زَالَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَكْرَهُ ذَلِكَ، وَمَا زَالَتْ جَنَائِزُ كَثِيرَةٌ تَخْرُجُ بِغَيْرِ هَذَا فِي عِدَّةِ أَمْصَارٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا كَوْنُ أَهْلِ بَلَدٍ، أَوْ بَلَدَيْنِ، أَوْ عَشْرٍ: تَعَوَّدُوا ذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا بِإِجْمَاعٍ: بَلْ أَهْلُ مَدِينَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي نَزَلَ فِيهَا الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، وَهِيَ دَارُ الْهِجْرَةِ، وَالنُّصْرَةِ، وَالْإِيمَانِ، وَالْعِلْمِ، لَمْ يَكُونُوا يَغْفُلُونَ ذَلِكَ؛ بَلْ لَوْ اتَّفَقُوا فِي مِثْلِ زَمَنِ مَالِكٍ وَشُيُوخِهِ عَلَى شَيْءٍ، وَلَمْ يَنْقُلُوهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ خُلَفَائِهِ، لَمْ يَكُنْ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَبَعْدَ زَمَنِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ لَيْسَ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً، بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ هَذَا يُشَبَّهُ بِجَنَائِزِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَادَتُهُمْ رَفْعُ الْأَصْوَاتِ مَعَ الْجَنَائِزِ، وَقَدْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي شُرُوطِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ لَا يَفْعَلُوا ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّمَا نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِيمَا لَيْسَ هُوَ مِنْ طَرِيقِ سَلَفِنَا الْأَوَّلِ، وَأَمَّا إذَا اتَّبَعْنَا طَرِيقَ سَلَفِنَا الْأَوَّلِ كُنَّا مُصِيبِينَ، وَإِنْ شَارَكَنَا فِي بَعْضِ ذَلِكَ مَنْ شَارَكَنَا، كَمَا أَنَّهُمْ يُشَارِكُونَنَا فِي الدَّفْنِ فِي الْأَرْضِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ. [نَصْرَانِيَّة بَعْلُهَا مُسْلِمٌ تُوُفِّيَتْ وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ لَهُ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ] 375 - 15 - سُئِلَ: عَنْ امْرَأَةٍ نَصْرَانِيَّةٍ، بَعْلُهَا مُسْلِمٌ: تُوُفِّيَتْ وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ لَهُ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ. فَهَلْ تُدْفَنُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ؟ أَوْ مَعَ النَّصَارَى؟ الْجَوَابُ: لَا تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا مَقَابِرِ النَّصَارَى، لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ مُسْلِمٌ، وَكَافِرٌ، فَلَا يُدْفَنُ الْكَافِرُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا الْمُسْلِمُ مَعَ الْكَافِرِينَ؛ بَلْ تُدْفَنُ مُنْفَرِدَةً، وَيُجْعَلُ ظَهْرُهَا إلَى الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ وَجْهَ الطِّفْلِ إلَى ظَهْرِهَا، فَإِذَا دُفِنَتْ كَذَلِكَ كَانَ

تلقين الميت في قبره بعد الفراغ من دفنه

وَجْهُ الصَّبِيِّ الْمُسْلِمِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَالطِّفْلُ يَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ كَافِرَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. [تَلْقِين الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ دَفْنِهِ] 376 - 16 - سُئِلَ: مُفْتِي الْأَنَامِ، بَقِيَّةُ السَّلَفِ الْكِرَامِ، تَقِيُّ الدِّينِ بَقِيَّةُ الْمُجْتَهِدِينَ، أَثَابَهُ اللَّهُ، وَأَحْسَنَ إلَيْهِ. عَنْ تَلْقِينِ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ دَفْنِهِ، هَلْ صَحَّ فِيهِ حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَوْ عَنْ صَحَابَتِهِ؟ وَهَلْ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ يَجُوزُ فِعْلُهُ؟ أَمْ لَا؟ أَجَابَ: هَذَا التَّلْقِينُ الْمَذْكُورُ قَدْ نُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ: أَنَّهُمْ أَمَرُوا بِهِ، كَأَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، وَغَيْرِهِ، وَرُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنَّهُ مِمَّا لَا يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ؛ وَلَمْ يَكُنْ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ: إنَّ هَذَا التَّلْقِينَ لَا بَأْسَ بِهِ، فَرَخَّصُوا فِيهِ، وَلَمْ يَأْمُرُوا بِهِ. وَاسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَكَرِهَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَاَلَّذِي فِي السُّنَنِ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ عَلَى قَبْرِ الرَّجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ إذَا دُفِنَ، وَيَقُولُ: سَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَقِّنُوا أَمْوَاتَكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» . فَتَلْقِينُ الْمُحْتَضَرِ سُنَّةٌ، مَأْمُورٌ بِهَا. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَقْبُورَ يُسْأَلُ، وَيُمْتَحَنُ، وَأَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالدُّعَاءِ لَهُ؛ فَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ التَّلْقِينَ يَنْفَعُهُ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: إنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ» وَأَنَّهُ قَالَ: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ» ، وَأَنَّهُ أَمَرَنَا بِالسَّلَامِ عَلَى الْمَوْتَى. فَقَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ

مسألة تلقين الميت الكبير والصغير

عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 377 - 17 - سُئِلَ: هَلْ يَجِبُ تَلْقِينُ الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ؟ أَمْ لَا؟ وَهَلْ الْقِرَاءَةُ تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ؟ الْجَوَابُ: تَلْقِينُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَيْسَ وَاجِبًا، بِالْإِجْمَاعِ. وَلَا كَانَ مِنْ عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِ بَيْنَهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ. بَلْ ذَلِكَ مَأْثُورٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ؛ كَأَبِي أُمَامَةَ، وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ. فَمِنْ الْأَئِمَّةِ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَدْ اسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَكْرَهُهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ بِدْعَةٌ. فَالْأَقْوَالُ فِيهِ ثَلَاثَةٌ: الِاسْتِحْبَابُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالْإِبَاحَةُ، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ. فَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى الْقَبْرِ فَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَلَمْ يَكُنْ يَكْرَهُهَا فِي الْأُخْرَى. وَإِنَّمَا رُخِّصَ فِيهَا لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَوْصَى أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَ قَبْرِهِ بِفَوَاتِحِ الْبَقَرَةِ، وَخَوَاتِيمِهَا. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قِرَاءَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. فَالْقِرَاءَةُ عِنْدَ الدَّفْنِ مَأْثُورَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يُنْقَلْ فِيهِ أَثَرٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَلْقِينُ الْمَيِّتِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ] 378 - 18 - مَسْأَلَةٌ: هَلْ يُشْرَعُ تَلْقِينُ الْمَيِّتِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ؟ أَوْ لَا؟ الْجَوَابُ: وَأَمَّا تَلْقِينُ الْمَيِّتِ فَقَدْ ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَحْسَنُوهُ أَيْضًا. ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي. وَالرَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهُمَا. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ نَفْسُهُ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ فِيهِ شَيْءٌ. وَمِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ كَانَ يَفْعَلُهُ: كَأَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ.

الميت هل يجوز نقله

وَمِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ مَنْ اسْتَحَبَّهُ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ جَائِزٌ، وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ رَاتِبَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمَيِّت هَلْ يَجُوزُ نَقْلُهُ] 379 - 19 - سُئِلَ: عَنْ الْمَيِّتِ هَلْ يَجُوزُ نَقْلُهُ. أَمْ لَا؟ وَأَرْوَاحُ الْمَوْتَى هَلْ تَجْتَمِعُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. أَمْ لَا؟ وَرُوحُ الْمَيِّتِ هَلْ تَنْزِلُ فِي الْقَبْرِ، أَمْ لَا؟ وَيَعْرِفُ الْمَيِّتُ مَنْ يَزُورُهُ، أَمْ لَا؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَا يُنْبَشُ الْمَيِّتُ مِنْ قَبْرِهِ، إلَّا لِحَاجَةٍ. مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمَدْفِنُ الْأَوَّلُ فِيهِ مَا يُؤْذِي الْمَيِّتَ، فَيُنْقَلُ إلَى غَيْرِهِ، كَمَا نَقَلَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. وَأَرْوَاحُ الْأَحْيَاءِ إذَا قُبِضَتْ تَجْتَمِعُ بِأَرْوَاحِ الْمَوْتَى، وَيَسْأَلُ الْمَوْتَى الْقَادِمَ عَلَيْهِمْ عَنْ حَالِ الْأَحْيَاءِ فَيَقُولُونَ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانٌ تَزَوَّجَ. فُلَانٌ عَلَى حَالٍ حَسَنَةٍ. وَيَقُولُونَ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: لَا. ذُهِبَ بِهِ إلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ. وَأَمَّا أَرْوَاحُ الْمَوْتَى فَتَجْتَمِعُ: الْأَعْلَى يَنْزِلُ إلَى الْأَدْنَى. وَالْأَدْنَى لَا يَصْعَدُ إلَى الْأَعْلَى. وَالرُّوحُ تُشْرِفُ عَلَى الْقَبْرِ، وَتُعَادُ إلَى اللَّحْدِ أَحْيَانًا. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا، فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ، إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ، حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» . وَالْمَيِّتُ قَدْ يَعْرِفُ مَنْ يَزُورُهُ، وَلِهَذَا كَانَتْ السُّنَّةُ أَنْ يُقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَهْلَ دَارِ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ. وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَالْمُسْتَأْخِرِينَ ". وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 380 - 20 - سُئِلَ: عَنْ قَوْمٍ لَهُمْ تُرْبَةٌ: وَهِيَ فِي مَكَان مُنْقَطِعٍ، وَقُتِلَ فِيهَا قَتِيلٌ، وَقَدْ بَنَوْا لَهُمْ تُرْبَةً أُخْرَى، هَلْ يَجُوزُ نَقْلُ مَوْتَاهُمْ إلَى التُّرْبَةِ الْمُسْتَجَدَّةِ؟ أَمْ لَا؟ أَجَابَ: لَا يُنْبَشُ الْمَيِّتُ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة الأجساد لا تنقل من القبور

[مَسْأَلَةٌ الْأَجْسَادُ لَا تُنْقَلُ مِنْ الْقُبُورِ] مَسْأَلَةٌ: فِيمَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَنْقُلُونَ مِنْ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ إلَى مَقَابِرِ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَيَنْقُلُونَ مِنْ مَقَابِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَقْصُودُهُمْ أَنَّ مَنْ خُتِمَ لَهُ بِشَرٍّ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَقَدْ مَاتَ فِي الظَّاهِرِ مُسْلِمًا، أَوْ كَانَ كِتَابِيًّا وَخُتِمَ لَهُ بِخَيْرٍ، فَمَاتَ مُسْلِمًا فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَفِي الظَّاهِرِ مَاتَ كَافِرًا فَهَؤُلَاءِ يُنْقَلُونَ. فَهَلْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ لِذَلِكَ حُجَّةٌ؟ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا الْأَجْسَادُ فَإِنَّهَا لَا تُنْقَلُ مِنْ الْقُبُورِ، لَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يَكُونُ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامَ، وَيَكُونُ مُنَافِقًا، إمَّا يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا، أَوْ مُرْتَدًّا مُعَطِّلًا. فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ نُظَرَائِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22] أَيْ أَشْبَاهَهُمْ، وَنُظَرَاءَهُمْ. وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ مَنْ مَاتَ، وَظَاهِرُهُ كَافِرًا، أَنْ يَكُونَ آمَنَ بِاَللَّهِ، قَبْلَ أَنْ يُغَرْغِرَ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ، وَكَتَمَ أَهْلُهُ ذَلِكَ، إمَّا لِأَجْلِ مِيرَاثٍ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ مَقْبُورًا مَعَ الْكُفَّارِ. وَأَمَّا الْأَثَرُ فِي نَقْلِ الْمَلَائِكَةِ، فَمَا سَمِعْت فِي ذَلِكَ أَثَرًا. [قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى] 382 - 22 - سُئِلَ: عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» فَهَلْ يَقْتَضِي ذَلِكَ إذَا مَاتَ لَا يَصِلُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْبِرِّ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَيْسَ فِي الْآيَةِ، وَلَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَنْتَفِعُ بِدُعَاءِ الْخَلْقِ لَهُ، وَبِمَا يُعْمَلُ عَنْهُ مِنْ الْبِرِّ بَلْ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مُتَّفِقُونَ عَلَى انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ بِذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ - رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر: 7 - 9] . فَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمَغْفِرَةِ، وَوِقَايَةِ الْعَذَابِ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَدُعَاءُ الْمَلَائِكَةِ لَيْسَ عَمَلًا لِلْعَبْدِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] . وَقَالَ الْخَلِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41] . وَقَالَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28] . فَقَدْ ذَكَرَ اسْتِغْفَارَ الرُّسُلِ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَمْرًا بِذَلِكَ، وَإِخْبَارًا عَنْهُمْ بِذَلِكَ. وَمِنْ السُّنَنِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي مَنْ جَحَدَهَا كَفَرَ: صَلَاةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمَيِّتِ، وَدُعَاؤُهُمْ لَهُ فِي الصَّلَاةِ. وَكَذَلِكَ شَفَاعَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ السُّنَنَ فِيهَا مُتَوَاتِرَةٌ، بَلْ لَمْ يُنْكِرْ شَفَاعَتَهُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ إلَّا أَهْلُ الْبِدَعِ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ، وَشَفَاعَتُهُ دُعَاؤُهُ، وَسُؤَالُهُ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْقُرْآنِ، وَالسُّنَنِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَجَاحِدُ مِثْلِ ذَلِكَ كَافِرٌ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ، مِثْلُ مَا فِي الصِّحَاحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ، أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إنَّ لِي مَخْرَفًا - أَيْ بُسْتَانًا - أُشْهِدُكُمْ أَنِّي تَصَدَّقْت بِهِ عَنْهَا» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ أُمِّي اُفْتُلِتَتْ

نَفْسُهَا، وَلَمْ تُوصِ، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إنْ تَصَدَّقْت عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يُوصِ، أَيَنْفَعُهُ إنْ تَصَدَّقْت عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ» وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «أَنَّ الْعَاصِ بْنَ وَائِلٍ نَذَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَذْبَحَ مِائَةَ بَدَنَةٍ، وَأَنَّ هِشَامَ بْنَ الْعَاصِ نَحَرَ حِصَّتَهُ خَمْسِينَ، وَأَنَّ عَمْرًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَمَّا أَبُوك فَلَوْ أَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ فَصُمْت عَنْهُ، أَوْ تَصَدَّقْت عَنْهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ» . وَفِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ: أَنَّ «رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ لِي أَبَوَانِ، وَكُنْت أَبَرُّهُمَا حَالَ حَيَاتِهِمَا. فَكَيْفَ بِالْبِرِّ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ مِنْ بَعْدِ الْبِرِّ أَنْ تُصَلِّيَ لَهُمَا مَعَ صَلَاتِك، وَأَنْ تَصُومَ لَهُمَا مَعَ صِيَامِك، وَأَنْ تَصَدَّقَ لَهُمَا مَعَ صَدَقَتِك» . وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيِّ، قَالَ: قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، الْحَدِيثَ الَّذِي جَاءَ «إنَّ الْبِرَّ بَعْدَ الْبِرِّ، أَنْ تُصَلِّيَ لِأَبَوَيْك مَعَ صَلَاتِك، وَتَصُومَ لَهُمَا مَعَ صِيَامِك» ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، عَمَّنْ هَذَا؟ قُلْت لَهُ: هَذَا مِنْ حَدِيثِ شِهَابِ بْنِ خِرَاشٍ، قَالَ: ثِقَةٌ، قُلْت: عَمَّنْ؟ قَالَ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ. فَقَالَ: ثِقَةٌ، عَمَّنْ؟ قُلْت: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، إنَّ بَيْنَ الْحَجَّاجِ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَفَاوِزَ تُقْطَعُ فِيهَا أَعْنَاقُ الْمَطِيِّ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الصَّدَقَةِ اخْتِلَافٌ. وَالْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُرْسَلٌ. وَالْأَئِمَّةُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ، وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ، كَالْعِتْقِ. وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ: كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَمَعَ هَذَا فَفِي

الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صِيَامُ نَذْرٍ، قَالَ: أَرَأَيْت إنْ كَانَ عَلَى أُمِّك دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ، أَكَانَ يُؤَدَّى ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَصُومِي عَنْ أُمِّك» . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنَّ أُخْتِي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُخْتِك دَيْنٌ أَكُنْت تَقْضِيهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ فَحَقُّ اللَّهِ أَحَقُّ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ بْنِ حَصِيبٍ عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ. أَفَيُجْزِي عَنْهَا أَنْ أَصُومَ عَنْهَا، قَالَ: نَعَمْ» . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ يُصَامُ عَنْ الْمَيِّتِ مَا نَذَرَ، وَأَنَّهُ شَبَّهَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ. وَالْأَئِمَّةُ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يُخَالِفْ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ مَنْ بَلَغَتْهُ، وَإِنَّمَا خَالَفَهَا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عَمْرٍو بِأَنَّهُمْ إذَا صَامُوا عَنْ الْمُسْلِمِ نَفَعَهُ. وَأَمَّا الْحَجُّ فَيُجْزِي عِنْدَ عَامَّتِهِمْ، لَيْسَ فِيهِ إلَّا اخْتِلَافٌ شَاذٌّ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ فَقَالَ: حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّك دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضَيْته عَنْهَا؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ» . وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: «إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بُرَيْدَةَ «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَلَمْ تَحُجَّ، أَفَيُجْزِي - أَوْ يُقْضَى - أَنْ أَحُجَّ عَنْهَا، قَالَ: نَعَمْ» . فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: " أَنَّهُ أَمَرَ بِحَجِّ الْفَرْضِ عَنْ الْمَيِّتِ وَبِحَجِّ النَّذْرِ ". كَمَا أَمَرَ بِالصِّيَامِ. وَأَنَّ الْمَأْمُورَ تَارَةً يَكُونُ وَلَدًا، وَتَارَةً يَكُونُ أَخًا، وَشَبَّهَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِالدَّيْنِ، يَكُونُ عَلَى الْمَيِّتِ. وَالدَّيْنُ يَصِحُّ قَضَاؤُهُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ

يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْوَلَدِ. كَمَا جَاءَ مُصَرِّحًا بِهِ فِي الْأَخِ. فَهَذَا الَّذِي ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عِلْمٌ مُفَصَّلٌ مُبَيَّنٌ. فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] . «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ» ، بَلْ هَذَا حَقٌّ، وَهَذَا حَقٌّ. أَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ قَالَ: «انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» فَذَكَرَ الْوَلَدَ، وَدُعَاؤُهُ لَهُ خَاصَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ كَسْبِهِ، كَمَا قَالَ: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 2] . قَالُوا: إنَّهُ وَلَدُهُ. وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» . فَلَمَّا كَانَ هُوَ السَّاعِي فِي وُجُودِ الْوَلَدِ كَانَ عَمَلُهُ مِنْ كَسْبِهِ، بِخِلَافِ الْأَخِ، وَالْعَمِّ وَالْأَبِ، وَنَحْوِهِمْ. فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ أَيْضًا بِدُعَائِهِمْ، بَلْ بِدُعَاءِ الْأَجَانِبِ، لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِهِ. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ» لَمْ يَقُلْ: إنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِعَمَلِ غَيْرِهِ. فَإِذَا دَعَا لَهُ وَلَدُهُ كَانَ هَذَا مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي لَمْ يَنْقَطِعْ، وَإِذَا دَعَا لَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِهِ، لَكِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَلِلنَّاسِ عَنْهَا أَجْوِبَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ. كَمَا قِيلَ: إنَّهَا تَخْتَصُّ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَقِيلَ: إنَّهَا مَخْصُوصَةٌ، وَقِيلَ: إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَقِيلَ: إنَّهَا تَنَالُ السَّعْيَ مُبَاشَرَةً، وَسَبَبًا. وَالْإِيمَانُ مِنْ سَعْيِهِ الَّذِي تَسَبَّبَ فِيهِ. وَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ ظَاهِرُ الْآيَةِ حَقٌّ لَا يُخَالِفُ بَقِيَّةَ النُّصُوصِ. فَإِنَّهُ قَالَ: {لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] . وَهَذَا حَقٌّ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ سَعْيَهُ، فَهُوَ الَّذِي يَمْلِكُهُ وَيَسْتَحِقُّهُ. كَمَا أَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ مِنْ الْمَكَاسِبِ مَا اكْتَسَبَهُ هُوَ. وَأَمَّا سَعْيُ غَيْرِهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَمِلْكٌ لِذَلِكَ الْغَيْرِ، لَا لَهُ، لَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِسَعْيِ غَيْرِهِ، كَمَا يَنْتَفِعُ الرَّجُلُ بِكَسْبِ غَيْرِهِ. فَمَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَيُثَابُ الْمُصَلِّي عَلَى سَعْيِهِ الَّذِي هُوَ صَلَاتُهُ،

القراءة للميت

وَالْمَيِّتُ أَيْضًا يُرْحَمُ بِصَلَاةِ الْحَيِّ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ أَنْ يَكُونُوا مِائَةً وَيُرْوَى أَرْبَعِينَ، وَيُرْوَى ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ، وَيَشْفَعُونَ فِيهِ، إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ - أَوْ قَالَ إلَّا غُفِرَ لَهُ -» فَاَللَّهُ تَعَالَى يُثِيبُ هَذَا السَّاعِيَ عَلَى سَعْيِهِ الَّذِي هُوَ لَهُ، وَيَرْحَمُ ذَلِكَ الْمَيِّتَ بِسَعْيِ هَذَا الْحَيِّ لِدُعَائِهِ لَهُ، وَصَدَقَتِهِ عَنْهُ، وَصِيَامِهِ عَنْهُ، وَحَجِّهِ عَنْهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ دَعْوَةً إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا، كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ دَعْوَةً قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ. وَلَك بِمِثْلِهِ» . فَهَذَا مِنْ السَّعْيِ الَّذِي يَنْفَعُ بِهِ الْمُؤْمِنُ أَخَاهُ يُثِيبُ اللَّهُ هَذَا، وَيَرْحَمُ هَذَا. {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَلَيْسَ كُلُّ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَيِّتُ، أَوْ الْحَيُّ، أَوْ يُرْحَمُ بِهِ يَكُونُ مِنْ سَعْيِهِ، بَلْ أَطْفَالُ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مَعَ آبَائِهِمْ بِلَا سَعْيٍ، فَاَلَّذِي لَمْ يَجُزْ إلَّا بِهِ أَخَصُّ مِنْ كُلِّ انْتِفَاعٍ؛ لِئَلَّا يَطْلُبَ الْإِنْسَانُ الثَّوَابَ عَلَى غَيْرِ عَمَلِهِ، وَهُوَ كَالدَّيْنِ يُوفِيهِ الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ، فَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ، لَكِنْ لَيْسَ لَهُ مَا وَفَّى بِهِ الدَّيْنَ؛ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُوفِي لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْقِرَاءَة لِلْمَيِّتِ] 383 - 23 - سُئِلَ: مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ - وَفَّقَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِمَرْضَاتِهِ - فِي الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ، هَلْ تَصِلُ إلَيْهِ؟ أَمْ لَا؟ وَالْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَطَعَامِ أَهْلِ الْمَيِّتِ لِمَنْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْقِرَاءَةِ عَلَى الْقَبْرِ وَالصَّدَقَةِ عَنْ الْمَيِّتِ، أَيُّهُمَا الْمَشْرُوعُ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ؟ وَالْمَسْجِدِ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقُبُورِ، وَالصَّلَاةِ فِيهِ، وَمَا يُعْلَمُ هَلْ بُنِيَ قَبْلَ الْقُبُورِ؟ أَوْ الْقُبُورُ قَبْلَهُ؟ وَلَهُ ثَلَاثٌ: رِزْقٌ، وَأَرْبَعِمِائَةِ أصددمون قَدِيمَةٍ مِنْ زَمَانِ الرُّومِ، مَا هُوَ لَهُ، بَلْ لِلْمَسْجِدِ، وَفِيهِ الْخُطْبَةُ كُلَّ جُمُعَةٍ، وَالصَّلَاةِ أَيْضًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَلَهُ كُلَّ سَنَةٍ مَوْسِمٌ يَأْتِي إلَيْهِ رِجَالٌ كَثِيرٌ وَنِسَاءٌ وَيَأْتُونَ بِالنُّذُورِ مَعَهُمْ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لِمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ الَّذِي فِي الْبَلَدِ؟ أَفْتُونَا يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ مَأْجُورِينَ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَمَّا الصَّدَقَةُ عَنْ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهَا بِاتِّفَاقِ

الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ وَرَدَتْ بِذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ. مِثْلُ «قَوْلِ سَعْدٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أُمِّي اُفْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ» . وَكَذَلِكَ يَنْفَعُهُ الْحَجُّ عَنْهُ، وَالْأُضْحِيَّةُ عَنْهُ، وَالْعِتْقُ عَنْهُ. وَالدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ. وَأَمَّا الصِّيَامُ عَنْهُ وَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ عَنْهُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْهُ، فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: يُنْتَفَعُ بِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِمَا. وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَالثَّانِي: لَا تَصِلُ إلَيْهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ لِنَفْسِ الْقِرَاءَةِ، وَالْإِهْدَاءِ، فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ. فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ إنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَالْأَذَانِ، وَالْإِمَامَةِ. وَالْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ. فَقِيلَ: يَصِحُّ لِذَلِكَ. كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ يَخْتَصُّ فَاعِلُهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ فَإِنَّهَا إنَّمَا تَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِ دُونَ الْكَافِرِ، فَلَا يَجُوزُ إيقَاعُهَا إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا فُعِلَتْ بِعُرُوضٍ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَجْرٌ بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ، لَا مَا فُعِلَ لِأَجْلِ عُرُوضِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا لِلْفَقِيرِ، دُونَ الْغَنِيِّ وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، كَمَا أَذِنَ اللَّهُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يَأْكُلَ مَعَ الْفَقْرِ وَيَسْتَغْنِي مَعَ الْغِنَى. وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ عَلَى هَذَا، فَإِذَا فَعَلَهَا الْفَقِيرُ لِلَّهِ، وَإِنَّمَا أَخَذَ الْأُجْرَةَ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ، وَلِيَسْتَعِينَ بِذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، فَاَللَّهُ يَأْجُرُهُ عَلَى نِيَّتِهِ، فَيَكُونُ قَدْ أَكَلَ طَيِّبًا، وَعَمِلَ صَالِحًا. وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ إلَّا لِأَجْلِ الْعُرُوضِ، فَلَا ثَوَابَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ثَوَابٌ، فَلَا يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ ثَوَابُ الْعَمَلِ، لَا نَفْسُ الْعَمَلِ. فَإِذَا تَصَدَّقَ بِهَذَا الْمَالِ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهُ وَصَلَ ذَلِكَ إلَى

الْمَيِّتِ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِذَلِكَ مَنْ يَسْتَعِينُ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِهِ كَانَ أَفْضَلَ، وَأَحْسَنَ، فَإِنَّ إعَانَةَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ عَلَى تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتِهِ وَتَعْلِيمِهِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ. وَأَمَّا صَنْعَةُ أَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا يَدْعُونَ النَّاسَ إلَيْهِ فَهَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَإِنَّمَا هُوَ بِدْعَةٌ، بَلْ قَدْ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ، وَصَنْعَتَهُمْ الطَّعَامَ لِلنَّاسِ مِنْ النِّيَاحَةِ. وَإِنَّمَا الْمُسْتَحَبُّ إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ أَنْ يُصْنَعَ لِأَهْلِهِ طَعَامٌ، كَمَا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» . وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الدَّائِمَةُ عَلَى الْقُبُورِ، فَلَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ السَّلَفِ. وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْقَبْرِ، فَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَرَخَّصَ فِيهَا فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ أَوْصَى أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَ دَفْنِهِ بِفَوَاتِحِ الْبَقَرَةِ، وَخَوَاتِمِهَا. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْأَنْصَارِ أَنَّهُ أَوْصَى عِنْدَ قَبْرِهِ بِالْبَقَرَةِ، وَهَذَا إنَّمَا كَانَ عِنْدَ الدَّفْنِ، فَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا فَرَّقَ فِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ حِينَ الدَّفْنِ، وَالْقِرَاءَةِ الرَّاتِبَةِ بَعْدَ الدَّفْنِ، فَإِنَّ هَذَا بِدْعَةٌ لَا يُعْرَفُ لَهَا أَصْلٌ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمَيِّتَ يَنْتَفِعُ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَيُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ غَلِطَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» . فَالْمَيِّتُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُثَابُ عَلَى سَمَاعٍ، وَلَا غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، وَيَسْمَعُ سَلَامَ الَّذِي يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَيَسْمَعُ غَيْرَ ذَلِكَ، لَكِنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَمَلٌ غَيْرُ مَا اُسْتُثْنِيَ. وَأَمَّا بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ، وَتُسَمَّى " مَشَاهِدَ " فَهَذَا غَيْرُ سَائِغٍ؛ بَلْ جَمِيعُ الْأُمَّةِ يَنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَوْلَا

ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، وَلَكِنْ كُرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا» ، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ، وَالسُّرُجَ» . وَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسَاجِدِ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهَا، لَا أَمْرَ إيجَابٍ، وَلَا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ. وَلَا فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَشَاهِدِ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ وَنَحْوِهَا فَضِيلَةٌ عَلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ، فَضْلًا عَنْ الْمَسَاجِدِ، بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَهَا فِيهَا فَضْلٌ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِهَا، أَوْ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ، فَقَدْ فَارَقَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَرَقَ مِنْ الدِّينِ، بَلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْأُمَّةُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ، وَإِنْ كَانُوا مُتَنَازِعِينَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ: هَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ، أَوْ مَكْرُوهَةٌ؟ أَوْ مُبَاحَةٌ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَنْبُوشَةِ وَالْقَدِيمَةِ، فَذَلِكَ لِأَجْلِ تَعْلِيلِ النَّهْيِ بِالنَّجَاسَةِ لِاخْتِلَاطِ التُّرَابِ بِصَدِيدِ الْمَوْتَى. وَأَمَّا هَذَا فَإِنَّهُ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ أَصْلُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] . قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: هَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ، فِي قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ، ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» وَلِهَذَا لَا يُشْرَعُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُنْذَرَ لِلْمَشَاهِدِ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ، لَا زَيْتٌ، وَلَا شَمْعٌ، وَلَا دَرَاهِمُ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَلِلْمُجَاوِرِينَ عِنْدَهَا، وَخُدَّامِ الْقُبُورِ. فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَدْ لَعَنَ مَنْ يَتَّخِذُ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ. وَمَنْ نَذَرَ ذَلِكَ فَقَدْ نَذَرَ مَعْصِيَةً. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» .

وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَهِيَ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. لَكِنْ إنْ تَصَدَّقَ بِالنَّذْرِ فِي الْمَشَاهِدِ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، الَّذِينَ يَسْتَعِينُونَ بِذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَدْ أَحْسَنَ فِي ذَلِكَ، وَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْقُلَ صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ، وَخُطَبَهُمْ مِنْ مَسْجِدٍ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، إلَى مَشْهَدٍ مِنْ مَشَاهِدِ الْقُبُورِ، وَنَحْوِهَا. بَلْ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الضَّلَالَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ، حَيْثُ تَرَكُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَفَعَلُوا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ، وَتَرَكُوا السُّنَّةَ، وَفَعَلُوا الْبِدْعَةَ. تَرَكُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَارْتَكَبُوا مَعْصِيَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ يَجِبُ إعَادَةُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ إلَى الْمَسْجِدِ الَّذِي هُوَ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ. {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36] {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور: 37] . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18] . وَأَمَّا الْقُبُورُ الَّتِي فِي الْمَشَاهِدِ وَغَيْرِهَا، فَالسُّنَّةُ لِمَنْ زَارَهَا أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْمَيِّتِ، وَيَدْعُوَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ، كَمَا «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ أَنْ يَقُولُوا إذَا زَارُوا الْقُبُورَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ عَنْ قَرِيبٍ لَاحِقُونَ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ» . وَأَمَّا التَّمَسُّحُ بِالْقَبْرِ، أَوْ الصَّلَاةُ عِنْدَهُ، أَوْ قَصْدُهُ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ عِنْدَهُ، مُعْتَقِدًا أَنَّ الدُّعَاءَ هُنَاكَ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ فِي غَيْرِهِ، أَوْ النَّذْرُ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلَيْسَ هَذَا مِنْ دِينِ

من يقرأ القرآن ويهدي ثوابه لوالديه ولموتى المسلمين

الْمُسْلِمِينَ، بَلْ هُوَ مِمَّا أُحْدِثَ مِنْ الْبِدَعِ الْقَبِيحَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ شُعَبِ الشِّرْكِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. [مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُهْدِيَ ثَوَابَهُ لِوَالِدَيْهِ وَلِمَوْتَى الْمُسْلِمِينَ] 384 - 24 - سُئِلَ: عَمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، أَوْ شَيْئًا مِنْهُ، هَلْ الْأَفْضَلُ أَنْ يُهْدِيَ ثَوَابَهُ لِوَالِدَيْهِ، وَلِمَوْتَى الْمُسْلِمِينَ؟ أَوْ يَجْعَلَ ثَوَابَهُ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً؟ الْجَوَابُ: أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ مَا وَافَقَ هَدْيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَدْيَ الصَّحَابَةِ، كَمَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: «خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ؛ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ. فَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ. فَالْأَمْرُ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِأَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الْمَشْرُوعَةِ، فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا، مِنْ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالذِّكْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَانُوا يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ لِأَحْيَائِهِمْ، وَأَمْوَاتِهِمْ، فِي صَلَاتِهِمْ عَلَى الْجِنَازَةِ، وَعِنْدَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ عِنْدَ كُلِّ خَتْمَةٍ دَعْوَةٌ مُجَابَةٌ، فَإِذَا دَعَا الرَّجُلُ عَقِيبَ الْخَتْمِ لِنَفْسِهِ، وَلِوَالِدِيهِ، وَلِمَشَايِخِهِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، كَانَ هَذَا مِنْ الْجِنْسِ الْمَشْرُوعِ. وَكَذَلِكَ دُعَاؤُهُ لَهُمْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاطِنِ الْإِجَابَةِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَأَمَرَ أَنْ يُصَامَ عَنْهُ الصَّوْمُ. فَالصَّدَقَةُ عَنْ الْمَوْتَى مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَكَذَلِكَ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي الصَّوْمِ عَنْهُمْ. وَبِهَذَا وَغَيْرِهِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ يَجُوزُ إهْدَاءُ ثَوَابِ الْعِبَادَاتِ

هلل سبعين ألف مرة وأهداه للميت

الْمَالِيَّةِ، وَالْبَدَنِيَّةِ إلَى مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ. كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. فَإِذَا أُهْدِيَ لِمَيِّتٍ ثَوَابُ صِيَامٍ، أَوْ صَلَاةٍ، أَوْ قِرَاءَةٍ، جَازَ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ يَقُولُونَ: إنَّمَا يُشْرَعُ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَةِ السَّلَفِ إذَا صَلَّوْا تَطَوُّعًا، وَصَامُوا، وَحَجُّوا، أَوْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ. يَهْدُونَ ثَوَابَ ذَلِكَ لِمَوْتَاهُمْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا لِخُصُوصِهِمْ، بَلْ كَانَ عَادَتُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا يَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَعْدِلُوا عَنْ طَرِيقِ السَّلَفِ، فَإِنَّهُ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [هَلَّلَ سَبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ وَأَهْدَاهُ لِلْمَيِّتِ] 385 - 25 - سُئِلَ: عَمَّنْ «هَلَّلَ سَبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ، وَأَهْدَاهُ لِلْمَيِّتِ، يَكُونُ بَرَاءَةً لِلْمَيِّتِ مِنْ النَّارِ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ؟ أَمْ لَا؟ وَإِذَا هَلَّلَ الْإِنْسَانُ وَأَهْدَاهُ إلَى الْمَيِّتِ يَصِلُ إلَيْهِ ثَوَابُهُ، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إذَا هَلَّلَ الْإِنْسَانُ هَكَذَا: سَبْعُونَ أَلْفًا، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ. وَأُهْدِيَتْ إلَيْهِ نَفَعَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا حَدِيثًا صَحِيحًا، وَلَا ضَعِيفًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [قِرَاءَة أَهْلِ الْمَيِّتِ لَهُ] 386 - 26 - سُئِلَ: عَنْ قِرَاءَةِ أَهْلِ الْمَيِّتِ تَصِلُ إلَيْهِ؟ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ، وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ، إذَا أَهْدَاهُ إلَى الْمَيِّتِ يَصِلُ إلَيْهِ ثَوَابُهَا أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ قِرَاءَةُ أَهْلِهِ، وَتَسْبِيحُهُمْ، وَتَكْبِيرُهُمْ، وَسَائِرُ ذِكْرِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى، إذَا أَهْدَوْهُ إلَى الْمَيِّتِ، وَصَلَ إلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 387 - 27 - سُئِلَ: هَلْ الْقِرَاءَةُ تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ الْوَلَدِ أَوْ لَا؟ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ الْجَوَابُ: أَمَّا وُصُولُ ثَوَابِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ: كَالْقِرَاءَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، فَمَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، إلَى أَنَّهَا تَصِلُ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، إلَى أَنَّهَا لَا تَصِلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

المشروع في زيارة القبور

[الْمَشْرُوع فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ] سُئِلَ: عَنْ الْمَشْرُوعِ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا زِيَارَةُ الْقُبُورِ: فَهِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ: شَرْعِيَّةٍ، وَبِدْعِيَّةٍ. فَالشَّرْعِيَّةُ: مِثْلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ، وَالْمَقْصُودُ بِهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ كَمَا يُقْصَدُ بِذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى جِنَازَتِهِ. كَمَا «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَزُورُ أَهْلَ الْبَقِيعِ، وَيَزُورُ شُهَدَاءَ أُحُدٍ، وَيُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ. اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ» . وَهَكَذَا كُلُّ مَا فِيهِ دُعَاءٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ: كَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالسَّلَامِ. كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا: مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلَوْا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدُ، فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمَا مِنْ مُسْلِمٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» . وَأَمَّا الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ: وَهِيَ زِيَارَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ، مِنْ جِنْسِ زِيَارَةِ النَّصَارَى الَّذِي يَقْصِدُونَ دُعَاءَ الْمَيِّتِ، وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ، وَطَلَبَ الْحَوَائِجِ عِنْدَهُ، فَيُصَلُّونَ عِنْدَ قَبْرِهِ، وَيَدْعُونَ بِهِ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَأَئِمَّتِهَا، بَلْ قَدْ سَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَابَ الشِّرْكِ. فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا» . قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ لَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. وَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ: «إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» .

فَالزِّيَارَةُ الْأُولَى مِنْ جِنْسِ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَالْإِحْسَانِ إلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الزَّكَاةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا. وَالثَّانِي: مِنْ جِنْسِ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ، وَالظُّلْمِ فِي حَقِّ اللَّهِ، وَحَقِّ عِبَادِهِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] . شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] » وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ» . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ. فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ، وَصَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَهَذَا مِنْ جِنْسِ دِينِ النَّصَارَى وَلَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالتَّابِعُونَ يَقْصِدُونَ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا غَيْرِهِ، بَلْ كَرِهَ الْأَئِمَّةُ وُقُوفَ الْإِنْسَانِ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلدُّعَاءِ. وَقَالُوا هَذِهِ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، بَلْ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، وَعَلَى صَاحِبَيْهِ، ثُمَّ يَذْهَبُونَ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَبَتَاهُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَنَصَّ أَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ بِمَخْلُوقٍ، لَا النَّبِيِّ، وَلَا الْمَلَائِكَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ. وَقَدْ أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ جَدْبٌ وَشِدَّةٌ، وَكَانُوا يَدْعُونَ اللَّهَ، وَيَسْتَسْقُونَ وَيَدْعُونَ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَيَسْتَنْصِرُونَ، وَيَتَوَسَّلُونَ بِدُعَاءِ الصَّالِحِينَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَهَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ: بِدُعَائِهِمْ، وَصَلَاتِهِمْ، وَإِخْلَاصِهِمْ» . وَلَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا صَالِحٍ، وَلَا الصَّلَاةَ عِنْدَهُ، وَلَا طَلَبَ الْحَوَائِجِ

الاختلاف إلى القبر بعد الدفن

مِنْهُ، وَلَا الْأَقْسَامَ عَلَى اللَّهِ بِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: أَسْأَلُكَ بِحَقِّ فُلَانٍ، وَفُلَانٍ: بَلْ كُلُّ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرُ طِبَاقِ الْأُمَّةِ. [الِاخْتِلَافُ إلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ] 389 - 29 - سُئِلَ الشَّيْخُ عَنْ الزِّيَارَةِ؟ أَجَابَ: أَمَّا الِاخْتِلَافُ إلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ فَلَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَحَبُّ عِنْدَ الدَّفْنِ أَنْ يُقَامَ عَلَى قَبْرِهِ، وَيُدْعَى لَهُ بِالتَّثْبِيتِ. كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ كَانَ إذَا دُفِنَ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُومُ عَلَى قَبْرِهِ، وَيَقُولُ: سَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» . وَهَذَا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] فَإِنَّهُ لَمَّا نَهَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَعَنْ الْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ، كَانَ دَلِيلُ الْخِطَابِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُصَلَّى عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّفْنِ، وَيُقَامُ عَلَى قَبْرِهِ بَعْدَ الدَّفْنِ. فَزِيَارَةُ الْمَيِّتِ الْمَشْرُوعَةِ بِالدُّعَاءِ، وَالِاسْتِغْفَارِ هِيَ مِنْ هَذَا الْقِيَامِ الْمَشْرُوعِ. [الْأَحْيَاء إذَا زَارُوا الْأَمْوَاتَ هَلْ يَعْلَمُونَ بِزِيَارَتِهِمْ] 390 - 30 - سُئِلَ: عَنْ الْأَحْيَاءِ إذَا زَارُوا الْأَمْوَاتَ هَلْ يَعْلَمُونَ بِزِيَارَتِهِمْ؟ وَهَلْ يَعْلَمُونَ بِالْمَيِّتِ إذَا مَاتَ مِنْ قَرَابَتِهِمْ، أَوْ غَيْرِهِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَعَمْ قَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ بِتَلَاقِيهِمْ، وَتَسَاؤُلِهِمْ، وَعَرْضِ أَعْمَالِ الْأَحْيَاءِ عَلَى الْأَمْوَاتِ. كَمَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ: قَالَ: «إذَا قُبِضَتْ نَفْسُ الْمُؤْمِنِ تَلْقَاهَا الرَّحْمَةُ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، كَمَا يَتَلَقَّوْنَ الْبَشِيرَ فِي الدُّنْيَا، فَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ وَيَسْأَلُونَهُ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اُنْظُرُوا أَخَاكُمْ يَسْتَرِيحُ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي

زيارة القبور للنساء

كَرْبٍ شَدِيدٍ. قَالَ: فَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ، وَيَسْأَلُونَهُ مَا فَعَلَ فُلَانٌ وَمَا فَعَلَتْ فُلَانَةُ، هَلْ تَزَوَّجَتْ» الْحَدِيثَ. وَأَمَّا عِلْمُ الْمَيِّتِ بِالْحَيِّ إذَا زَارَهُ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ، إلَّا عَرَفَهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» . قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَحَّحَهُ عَبْدُ الْحَقِّ صَاحِبُ الْأَحْكَامِ. وَأَمَّا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ حَيَاةِ الشَّهِيدِ، وَرِزْقِهِ، وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ دُخُولِ أَرْوَاحِهِمْ الْجَنَّةَ، فَذَهَبَ طَوَائِفُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ دُونَ الصِّدِّيقِينَ، وَغَيْرِهِمْ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ، وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ الْحَيَاةَ، وَالرِّزْقَ، وَدُخُولَ الْأَرْوَاحِ الْجَنَّةَ، لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالشَّهِيدِ. كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ الثَّابِتَةُ، وَيَخْتَصُّ الشَّهِيدُ بِالذِّكْرِ، لِكَوْنِ الظَّانِّ يَظُنُّ أَنَّهُ يَمُوتُ، فَيَنْكُلُ عَنْ الْجِهَادِ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ لِيَزُولَ الْمَانِعُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْجِهَادِ، وَالشَّهَادَةِ. كَمَا نَهَى عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَاقِعُ. وَإِنْ كَانَ قَتْلُهُمْ لَا يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ خَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ. [زِيَارَةُ الْقُبُورِ لِلنِّسَاءِ] 391 - 31 - سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَمُفْتِي الْأَنَامِ، الْعَالِمِ، الْعَامِلِ، الزَّاهِدِ، الْوَرِعِ، نَاصِرِ السُّنَّةِ، وَقَامِعِ الْبِدْعَةِ، تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّةَ الْحَرَّانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» ؟ أَمْ لَا؟ وَهَلْ صَحَّ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى النِّسَاءِ زِيَارَةُ الْقُبُورِ؟ أَمْ يُكْرَهُ؟ أَمْ يُسْتَحَبُّ؟

وَإِذَا قِيلَ: بِالْكَرَاهَةِ. هَلْ تَكُونُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ؟ أَمْ تَنْزِيهٍ؟ وَهَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي " أَمْ لَا؟ وَهَلْ صَحَّ فِي فَضْلِ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ، أَمْ لَا؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَمَّا زِيَارَةُ الْقُبُورِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَهَى عَنْهَا نَهْيًا عَامًّا، ثُمَّ أَذِنَ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا. فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَ أُمِّي، فَأَذِنَ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُ فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» . وَهُنَا مَسْأَلَتَانِ: إحْدَاهُمَا: مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَالْأُخْرَى مُتَنَازَعٌ فِيهَا. فَأَمَّا الْأُولَى: فَإِنَّ الزِّيَارَةَ تَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ: زِيَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَزِيَارَةٍ بِدْعِيَّةٍ. فَالزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ: السَّلَامُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَالدُّعَاءُ لَهُ، بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَتِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَالْمُسْتَأْخِرِينَ نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ» وَهَذَا الدُّعَاءُ يُرْوَى بَعْضُهُ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ بِعِدَّةِ أَلْفَاظٍ. كَمَا رُوِيَتْ أَلْفَاظُ التَّشَهُّدِ وَغَيْرِهِ وَهَذِهِ الزِّيَارَةُ هِيَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهَا إذَا خَرَجَ لِزِيَارَةِ قُبُورِ أَهْلِ الْبَقِيعِ. وَأَمَّا الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ: فَمِنْ جِنْسِ زِيَارَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَهْلِ الْبِدَعِ، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ، وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكُتُبِ الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا» . قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ

وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» فَالزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ مِثْلُ قَصْدِ قَبْرِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِلصَّلَاةِ عِنْدَهُ أَوْ الدُّعَاءِ عِنْدَهُ، أَوْ بِهِ، أَوْ طَلَبِ الْحَوَائِجِ مِنْهُ، أَوْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ قَبْرِهِ، أَوْ الِاسْتِغَاثَةِ بِهِ، أَوْ الْأَقْسَامِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَلَا سَنَّ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، بَلْ قَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ الْكِبَارُ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيهِ بَعْضُ النَّاسِ «إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِجَاهِي» هُوَ مِنْ الْمَكْذُوبَاتِ الَّتِي لَمْ يَرْوِهَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَرْوُونَهُ مِنْ قَوْلِهِ: «لَوْ أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ ظَنَّهُ بِحَجَرٍ لَنَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ» فَإِنَّ هَذَا أَيْضًا مِنْ الْمَكْذُوبَاتِ. وَقَدْ نَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ عَلَى اللَّهِ بِمَخْلُوقٍ لَا نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْقُدُورِيُّ فِي كِتَابِ شَرْحِ الْكَرْخِيِّ " عَنْ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ إلَّا بِهِ، وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ: بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكَ، وَبِحَقِّ خَلْقِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِهِ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا أَكْرَهُ هَذَا. وَأَكْرَهُ بِحَقِّ فُلَانٍ، وَبِحَقِّ أَنْبِيَائِكَ، وَرُسُلِكَ، وَبِحَقِّ الْبَيْتِ، وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. قَالَ الْقُدُورِيُّ شَارِحُ الْكِتَابِ: الْمَسْأَلَةُ بِخَلْقِهِ لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ، فَلَا يَجُوزُ يَعْنِي: وِفَاقًا. قُلْت: وَأَمَّا الِاسْتِشْفَاعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، وَهُوَ طَلَبُ الشَّفَاعَةِ مِنْهُ، وَالتَّوَسُّلُ إلَى اللَّهِ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَبِالْإِيمَانِ بِهِ، وَبِمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ وَالتَّوَجُّهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ، فَهَذَا مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ

النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ» . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ» وَقَالَ ذَلِكَ لِعَشِيرَتِهِ الْأَقْرَبِينَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبِلَالِهَا» فَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا هُوَ مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وَأَمَّا الْجَزَاءُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَهُوَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ بَلَّغَ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ، قَدْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَشْهَدَ اللَّهَ عَلَى أُمَّتِهِ أَنَّهُ بَلَّغَهُمْ، كَمَا جَعَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ: «أَلَا هَلْ بَلَغْتُ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَرْفَعُ إصْبَعَهُ إلَى السَّمَاءِ، وَيَنْكُبُهَا إلَيْهِمْ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَأَمَّا إجَابَةُ الدَّاعِي، وَتَفْرِيجُ الْكُرُبَاتِ، وَقَضَاءُ الْحَاجَاتِ، فَهَذَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ. وَلِهَذَا فَرَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ مَا فِيهِ حَقٌّ لِلرَّسُولِ، وَبَيْنَ مَا هُوَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّسُولُ مِنْ الطَّاعَةِ، فَإِنَّهُ {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] . وَأَمَّا الْخَشْيَةُ وَالتَّقْوَى فَجُعِلَ ذَلِكَ لَهُ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] فَجَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:

{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . وَأَمَّا التَّوَكُّلُ وَالرَّغْبَةُ فَلِلَّهِ وَحْدَهُ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [آل عمران: 173] . وَلَمْ يَقُلْ وَرَسُولُهُ. وَقَالَ: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] وَلَمْ يَقُلْ: وَإِلَى الرَّسُولِ، وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] . فَالْعِبَادَةُ وَالْخَشْيَةُ وَالتَّوَكُّلُ وَالدُّعَاءُ وَالرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ، وَأَمَّا الطَّاعَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْإِرْضَاءُ: فَعَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَنُحِبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَنُرْضِيَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؛ لِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ طَاعَةٌ لِلَّهِ، وَإِرْضَاءَهُ إرْضَاءٌ لِلَّهِ، وَحُبَّهُ مِنْ حُبِّ اللَّهِ. وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ مِنْ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ بَدَّلُوا الدِّينَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَسَائِطَ فِي تَبْلِيغِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ إلَّا مُتَابَعَةُ الرَّسُولِ، بِفِعْلِ مَا أَمَرَ، وَتَرْكِ مَا حَذَّرَ. وَمَنْ جَعَلَ إلَى اللَّهِ طَرِيقًا غَيْرَ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فَهُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ: مِثْلُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ مِنْ خَوَاصِّ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْفَلَاسِفَةِ أَوْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَوْ الْمُلُوكِ مَنْ لَهُ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ مُتَابَعَةِ رَسُولِهِ، وَيَذْكُرُونَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُفْتَرَاةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ. كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَأْذَنَ عَلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَقَالُوا: اذْهَبْ إلَى مَنْ أَنْتَ رَسُولٌ إلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُمْ أَصْبَحُوا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، فَأَخْبَرُوهُ بِالسِّرِّ الَّذِي نَاجَاهُ اللَّهُ بِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ بِدُونِ إعْلَامِ الرَّسُولِ. وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إنَّهُمْ قَاتَلُوهُ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ مَعَ الْكُفَّارِ، وَقَالُوا: مَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ كُنَّا مَعَهُ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ، وَالْكَذِبِ. وَمِثْلُ احْتِجَاجِ بَعْضِهِمْ بِقِصَّةِ الْخَضِرِ وَمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: عَلَى أَنَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ يَسْتَغْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا اسْتَغْنَى الْخَضِرُ عَنْ مُوسَى، وَمِثْلُ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ لَهُ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ، يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي

كَثُرَتْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الزُّهْدِ وَالْفَقْرِ، وَالتَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَالتَّفَلْسُفِ. وَكُفْرُ هَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَقَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ، وَقَدْ يَكُونُ أَخَفَّ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاءٍ وَالْمُؤْمِنِينَ وَاسِطَةً فِي شَيْءٍ مِنْ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْأُلُوهِيَّةِ، مِثْلَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ مِنْ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، وَإِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَقَضَاءِ الْحَاجَاتِ، وَتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ؛ بَلْ غَايَةُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ سَبَبًا: مِثْلُ أَنْ يَدْعُوَ أَوْ يَشْفَعَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] وَيَقُولُ: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] وَيَقُولُ: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا} [الإسراء: 56] {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ، فَنَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 80] فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ اتِّخَاذَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا كُفْرٌ، وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ فِي الشَّفَاعَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: فَالْمُشْرِكُونَ أَثْبَتُوا الشَّفَاعَةَ، الَّتِي هِيَ شِرْكٌ؛ كَشَفَاعَةِ الْمَخْلُوقِ عِنْدَ الْمَخْلُوقِ، كَمَا يَشْفَعُ عِنْدَ الْمُلُوكِ خَوَاصُّهُمْ لِحَاجَةِ الْمُلُوكِ إلَى ذَلِكَ، فَيَسْأَلُونَهُمْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، وَتُجِيبُ الْمُلُوكُ سُؤَالَهُمْ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِمْ، فَاَلَّذِينَ أَثْبَتُوا مِثْلَ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مُشْرِكُونَ كُفَّارٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى

أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، بَلْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إجَابَةُ دُعَاءِ الشَّافِعِينَ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة: 4] وَقَالَ: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] . وَقَالَ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ - قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 43 - 44] وَقَالَ تَعَالَى عَنْ صَاحِبِ " يس ": {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ - إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس: 23 - 24] {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: 25] . وَأَمَّا الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ: فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا شَفَاعَةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَهَؤُلَاءِ مُبْتَدِعَةٌ ضُلَّالٌ، مُخَالِفُونَ لِلسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَلِإِجْمَاعِ خَيْرِ الْقُرُونِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُمْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، أَثْبَتُوا مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَفَوْا مَا نَفَاهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. فَالشَّفَاعَةُ الَّتِي أَثْبَتُوهَا هِيَ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الْأَحَادِيثُ. كَشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إذَا جَاءَ النَّاسُ إلَى آدَمَ، ثُمَّ نُوحٍ، ثُمَّ إبْرَاهِيمَ، ثُمَّ مُوسَى، ثُمَّ عِيسَى، ثُمَّ يَأْتُونَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قَالَ: «فَأَذْهَبُ إلَى رَبِّي، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي خَرَرْتُ لَهُ سَاجِدًا، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ، لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ، فَيَقُولُ: أَيْ مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ: يُسْمَعُ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ» ، فَهُوَ يَأْتِي رَبَّهُ سُبْحَانَهُ، فَيَبْدَأُ بِالسُّجُودِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ شَفَعَ، بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الَّتِي نَفَاهَا الْقُرْآنُ كَمَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ وَالنَّصَارَى، وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَيَنْفِيهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، مِثْلُ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ الْغَائِبِينَ وَالْمَيِّتِينَ قَضَاءَ حَوَائِجِهِمْ وَيَقُولُونَ: إنَّهُمْ إذَا أَرَادُوا ذَلِكَ قَضَوْهَا، وَيَقُولُونَ: إنَّهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَخَوَاصِّ الْمُلُوكِ عِنْدَ الْمُلُوكِ، يَشْفَعُونَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُلُوكِ، وَلَهُمْ

عَلَى الْمُلُوكِ إدْلَالٌ يَقْضُونَ بِهِ حَوَائِجَهُمْ، فَيَجْعَلُونَهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ شُرَكَاءِ الْمِلْكِ، وَبِمَنْزِلَةِ أَوْلَادِهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَزَّهَ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ» . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ: هِيَ مِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَدُعَاءِ خَلْقِهِ، وَإِحْدَاثِ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. وَالزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ: هِيَ مِنْ جِنْسِ الْإِحْسَانِ إلَى الْمَيِّتِ بِالدُّعَاءِ لَهُ، كَالْإِحْسَانِ إلَيْهِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَهِيَ مِنْ الْعِبَادَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى الَّتِي يَنْفَعُ اللَّهُ بِهَا الدَّاعِيَ، وَالْمَدْعُوَّ لَهُ، كَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَلَبِ الْوَسِيلَةِ، وَالدُّعَاءِ لِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ: أَحْيَائِهِمْ وَأَمْوَاتِهِمْ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْمُتَنَازَعُ فِيهَا: فَالزِّيَارَةُ الْمَأْذُونُ فِيهَا، هَلْ فِيهَا إذْنٌ لِلنِّسَاءِ، وَنَسْخٌ لِلنَّهْيِ فِي حَقِّهِنَّ؟ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ فِيهَا، بَلْ هُنَّ مَنْهِيَّاتٌ عَنْهَا؟ وَهَلْ النَّهْيُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ، أَوْ تَنْزِيهٍ؟ فِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ، وَالثَّلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ أَيْضًا، وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ حُكِيَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَدَ. وَهُوَ نَظِيرُ تَنَازُعِهِمْ فِي تَشْيِيعِ النِّسَاءِ لِلْجَنَائِزِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُرَخِّصُ فِي الزِّيَارَةِ دُونَ التَّشْيِيعِ، كَمَا اخْتَارَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ. فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ النِّسَاءَ مَأْذُونٌ لَهُنَّ فِي الزِّيَارَةِ، وَأَنَّهُ أَذِنَ لَهُنَّ كَمَا أَذِنَ لِلرِّجَالِ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» خِطَابٌ عَامٌّ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ النِّسَاءَ لَمْ يَدْخُلْنَ فِي الْإِذْنِ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِعِدَّةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَزُورُوهَا " صِيغَةُ تَذْكِيرٍ، وَصِيغَةُ تَذْكِيرٍ إنَّمَا تَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ بِالْوَضْعِ، وَقَدْ تَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ أَيْضًا عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، لَكِنْ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ:

قِيلَ: إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَحِينَئِذٍ فَيَحْتَاجُ تَنَاوُلُ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ إلَى دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَقِيلَ: إنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ دُخُولُ النِّسَاءِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ الضَّعِيفِ، وَالْعَامُّ لَا يُعَارِضُ الْأَدِلَّةَ الْخَاصَّةَ الْمُسْتَفِيضَةَ فِي نَهْيِ النِّسَاءِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، بَلْ وَلَا يَنْسَخُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ النِّسَاءُ دَاخِلَاتٍ فِي الْخِطَابِ، لَاسْتُحِبَّ لَهُنَّ زِيَارَةُ الْقُبُورِ، كَمَا اُسْتُحِبَّ لِلرِّجَالِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّلَ بِعِلَّةٍ تَقْتَضِي الِاسْتِحْبَابَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: «فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» وَلِهَذَا تَجُوزُ زِيَارَةُ قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ زَارَ قَبْرَ أُمِّهِ، وَقَالَ: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» . وَأَمَّا زِيَارَتُهُ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ فَذَلِكَ فِيهِ أَيْضًا الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ وَالدُّعَاءُ، كَمَا عَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّتَهُ إذَا زَارُوا قُبُورَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ، وَيَدْعُوا لَهُمْ. فَلَوْ كَانَتْ زِيَارَةُ الْقُبُورِ مَأْذُونًا فِيهَا لِلنِّسَاءِ لَاسْتُحِبَّ لَهُنَّ، كَمَا اُسْتُحِبَّ لِلرِّجَالِ، لِمَا فِيهَا مِنْ الدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَذَكُّرِ الْمَوْتِ. وَمَا عَلِمْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ اسْتَحَبَّ لَهُنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ وَلَا كَانَ النِّسَاءُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ يَخْرُجْنَ إلَى زِيَارَةِ الْقُبُورِ، كَمَا يَخْرُجُ الرِّجَالُ. وَاَلَّذِينَ رَخَّصُوا فِي الزِّيَارَةِ اعْتَمَدُوا عَلَى مَا يُرْوَى عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا زَارَتْ قَبْرَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ قَدْ مَاتَ فِي غَيْبَتِهَا وَقَالَتْ: لَوْ شَهِدْتُكَ لَمَا زُرْتُكَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزِّيَارَةَ لَيْسَتْ مُسْتَحَبَّةً لِلنِّسَاءِ، كَمَا تُسْتَحَبُّ لِلرِّجَالِ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاسْتُحِبَّ لَهَا زِيَارَتُهُ، كَمَا تُسْتَحَبُّ لِلرِّجَالِ زِيَارَتُهُ، سَوَاءٌ شَهِدَتْهُ أَوْ لَمْ تَشْهَدْهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْجَنَائِزِ أَوْكَدُ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى النِّسَاءَ عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ» ، وَفِي ذَلِكَ تَفْوِيتُ صَلَاتِهِنَّ عَلَى الْمَيِّتِ، فَإِنْ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُنَّ اتِّبَاعُهَا لِمَا فِيهَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالثَّوَابِ، فَكَيْفَ بِالزِّيَارَةِ؟ ،

الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ: غَايَةُ مَا يُقَالُ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَزُورُوا الْقُبُورَ» خِطَابٌ عَامٌّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ» . هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ صِيغَةِ التَّذْكِيرِ، فَإِنَّ لَفْظَ: " مَنْ " يَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ مَنْ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ. وَلَفْظُ " مَنْ " أَبْلَغُ صِيَغِ الْعُمُومِ، ثُمَّ قَدْ عُلِمَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ لَمْ يَتَنَاوَلْ النِّسَاءَ، لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُنَّ عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، سَوَاءٌ كَانَ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ. فَإِذَا لَمْ يَدْخُلْنَ فِي هَذَا الْعُمُومِ، فَكَذَلِكَ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَكِلَاهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ تَشْيِيعَ الْجِنَازَةِ مِنْ جِنْسِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] فَنَهَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَعَنْ الْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ، وَكَانَ دَلِيلُ الْخِطَابِ وَمُوجِبُ التَّعْلِيلِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ، وَيُقَامُ عَلَى قُبُورِهِمْ. وَذَلِكَ كَمَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ الْقِيَامُ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَهُوَ مَقْصُودُ زِيَارَةِ قُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا كَانَ النِّسَاءُ لَمْ يَدْخُلْنَ فِي عُمُومِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ، فَلَأَنْ لَا يَدْخُلْنَ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ الَّتِي غَايَتُهَا دُونَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمْكَنَ النِّسَاءُ أَنْ يُصَلِّينَ عَلَى الْمَيِّتِ بِلَا اتِّبَاعٍ، كَمَا يُصَلِّينَ عَلَيْهِ فِي الْبَيْتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ لَهُ، وَالِاسْتِغْفَارِ فِي الْبَيْتِ. وَإِذَا قِيلَ مَفْسَدَةُ الِاتِّبَاعِ لِلْجَنَائِزِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمُصِيبَةَ حَدِيثَةٌ، وَفِي ذَلِكَ أَذًى لِلْمَيِّتِ، وَفِتْنَةٌ لِلْحَيِّ بِأَصْوَاتِهِنَّ، وَصُوَرِهِنَّ. قِيلَ: وَمُطْلَقُ الِاتِّبَاعِ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الدُّعَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالِاتِّبَاعِ الْحَمْلُ وَالدَّفْنُ، وَالصَّلَاةُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الزِّيَارَةِ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ - وَذَلِكَ الْفَرْضُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ بِحَيْثُ لَوْ مَاتَ

رَجُلٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا نِسَاءُ لَكَانَ حَمْلُهُ وَدَفْنُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فَرْضًا عَلَيْهِنَّ، وَفِي تَغْسِيلِهِنَّ لِلرِّجَالِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ. وَكَذَلِكَ إذَا تَعَذَّرَ غُسْلُ الْمَيِّتِ هَلْ يُيَمَّمُ؟ فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - فَإِذَا كَانَ النِّسَاءُ مَنْهِيَّاتٌ عَمَّا جِنْسُهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَمَصْلَحَتُهُ أَعْظَمُ إذَا قَامَ بِهِ الرِّجَالُ، فَمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى أَحَدٍ أَوْلَى. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: مَفْسَدَةُ التَّشْيِيعِ أَعْظَمُ: مَمْنُوعٌ؛ بَلْ إذَا رُخِّصَ لِلْمَرْأَةِ فِي الزِّيَارَةِ كَانَ ذَلِكَ مَظِنَّةَ تَكْرِيرِ ذَلِكَ، فَتَعْظُمُ فِيهِ الْمَفْسَدَةُ، وَيَتَجَدَّدُ الْجَزَعُ، وَالْأَذَى لِلْمَيِّتِ، فَكَانَ ذَلِكَ مَظِنَّةَ قَصْدِ الرِّجَالِ لَهُنَّ وَالِافْتِتَانِ بِهِنَّ، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ بِسَبَبِ زِيَارَةِ النِّسَاءِ الْقُبُورَ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْفَسَادِ مَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ مِنْهُ عِنْدَ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ. وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ جِنْسَ زِيَارَةِ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ اتِّبَاعِهِنَّ، وَأَنَّ نَهْيَ الِاتِّبَاعِ إذَا كَانَ نَهْيَ تَنْزِيهٍ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ نَهْيُ الزِّيَارَةِ نَهْيَ تَحْرِيمٍ، وَذَلِكَ أَنَّ نَهْيَ الْمَرْأَةِ عَنْ الِاتِّبَاعِ قَدْ يَتَعَذَّرُ لِفَرْطِ الْجَزَعِ، كَمَا يَتَعَذَّرُ تَسْكِينُهُنَّ لِفَرْطِ الْجَزَعِ أَيْضًا، فَإِذَا خَفَّفَ هَذِهِ الْقُوَّةَ الْمُقْتَضِي لَمْ يَلْزَمْ تَخْفِيفُ مَا لَا يَقْوَى الْمُقْتَضِي فِيهِ. وَإِذَا عَفَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْعَبْدِ عَمَّا لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ إلَّا بِمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَعْفُوَ لَهُ عَمَّا يُمْكِنُهُ تَرْكُهُ بِدُونِ هَذِهِ الْمَشَقَّةِ الْوَاجِبَةِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: قَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طَرِيقَيْنِ: «أَنَّهُ لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ» ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ؛ وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَفِي نُسَخٍ تَصْحِيحُهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ ذِكْرِ الزِّيَارَةِ فَإِنْ قِيلَ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ تَرَكَهُ شُعْبَةُ، وَلَيْسَ بِذَاكَ، وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ كَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ. وَقَالَ

السَّعْدِيُّ وَالنَّسَائِيُّ لَيْسَ بِقَوِيِّ الْحَدِيثِ. وَالثَّانِي فِيهِ أَبُو صَالِحٍ بَاذَامُ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ، وَقَدْ ضَعَّفُوهُ. قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ ابْنُ مَهْدِيٍّ تَرَكَ حَدِيثَ أَبِي صَالِحٍ، وَكَانَ أَبُو حَاتِمٍ يَكْتُبُ حَدِيثَهُ، وَلَا يَحْتَجُّ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ تَفْسِيرٌ، وَمَا أَقَلُّ مَالِهِ فِي الْمُسْنَدِ، وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ رَضِيَهُ. قُلْتُ: الْجَوَابُ عَلَى هَذَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ كُلٌّ مِنْ الرَّجُلَيْنِ قَدْ عَدَّلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، كَمَا جَرَّحَهُ آخَرُونَ، أَمَّا عُمَرُ فَقَدْ قَالَ فِيهِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. وَابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ مِنْ أَصْعَبِ النَّاسِ تَزْكِيَةً وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: تَرَكَهُ شُعْبَةُ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ. كَمَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَمْ يَسْمَعْ شُعْبَةُ مِنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ شَيْئًا، وَشُعْبَةُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَمَالِكٌ، وَنَحْوُهُمْ قَدْ كَانُوا يَتْرُكُونَ الْحَدِيثَ عَنْ أُنَاسٍ لِنَوْعِ شُبْهَةٍ بَلَغَتْهُمْ، لَا تُوجِبُ رَدَّ أَخْبَارِهِمْ، فَهُمْ إذَا رَوَوْا عَنْ شَخْصٍ كَانَتْ رِوَايَتُهُمْ تَعْدِيلًا لَهُ وَأَمَّا تَرْكُ الرِّوَايَةِ فَقَدْ يَكُونُ لِشُبْهَةٍ لَا تُوجِبُ الْجُرْحَ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي غَيْرِ وَاحِدٍ قَدْ خُرِّجَ لَهُ فِي الصَّحِيحِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَيْسَ بِقَوِيٍّ فِي الْحَدِيثِ عِبَارَةٌ لَيِّنَةٌ، تَقْتَضِي أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي حِفْظِهِ بَعْضُ التَّغَيُّرِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ لَا تَقْتَضِي عِنْدَهُمْ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ، وَلَا مُبَالَغَةً فِي الْغَلَطِ وَأَمَّا أَبُو صَالِحٍ: فَقَدْ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا تَرَكَ أَبَا صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ، وَمَا سَمِعْت أَحَدًا مِنْ النَّاسِ يَقُولُ فِيهِ شَيْئًا، وَلَمْ يَتْرُكْهُ شُعْبَةُ وَلَا زَائِدَةُ، فَهَذِهِ رِوَايَةُ شُعْبَةَ عَنْهُ تَعْدِيلٌ لَهُ، كَمَا عُرِفَ مِنْ عَادَةِ شُعْبَةَ. وَتَرْكُ ابْنِ مَهْدِيٍّ لَهُ لَا يُعَارِضُ ذَلِكَ. فَإِنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ أَعْلَمُ بِالْعِلَلِ وَالرِّجَالِ مِنْ ابْنِ مَهْدِيٍّ، فَإِنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ شُعْبَةَ وَيَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ أَعْلَمُ بِالرِّجَالِ مِنْ ابْنِ مَهْدِيٍّ، وَأَمْثَالِهِ وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ: يُكْتَبُ حَدِيثَهُ، وَلَا يَحْتَجُّ بِهِ. فَأَبُو حَاتِمٍ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا فِي كَثِيرٍ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ شَرْطَهُ فِي التَّعْدِيلِ صَعْبٌ، وَالْحُجَّةُ فِي اصْطِلَاحِهِ لَيْسَ هُوَ الْحُجَّةُ فِي جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَهَذَا كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: لَا أَعْلَمُ أَنَّهُمْ رَضَوْهُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ الطَّبَقَةِ الْعَالِيَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجْ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ لَهُ، وَلِأَمْثَالِهِ. لَكِنَّ مُجَرَّدَ عَدَمِ تَخْرِيجِهِمَا لِلشَّخْصِ لَا يُوجِبُ رَدَّ حَدِيثِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَيُقَالُ: إذَا كَانَ الْجَارِحُ وَالْمُعَدِّلُ مِنْ الْأَئِمَّةِ، لَمْ يُقْبَلْ الْجَرْحُ إلَّا مُفَسَّرًا، فَيَكُونُ التَّعْدِيلُ مُقَدَّمًا عَلَى الْجَرْحِ الْمُطْلَقِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حَدِيثَ مِثْلِ هَؤُلَاءِ يَدْخُلُ فِي الْحَسَنِ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا صَحَّحَهُ مَنْ صَحَّحَهُ كَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْجَرْحِ إلَّا مَا ذُكِرَ، كَانَ أَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْحَسَنِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ قَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْآخَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرِجَالُ هَذَا لَيْسَ رِجَالَ هَذَا، فَلَمْ يَأْخُذْهُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ، وَلَيْسَ فِي الْإِسْنَادَيْنِ مَنْ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ، وَإِنَّمَا التَّضْعِيفُ مِنْ جِهَةِ سُوءِ الْحِفْظِ، وَمِثْلُ هَذَا حُجَّةٌ بِلَا رَيْبٍ، وَهَذَا مِنْ أَجْوَدِ الْحَسَنِ الَّذِي شَرَطَهُ التِّرْمِذِيُّ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الْحَسَنَ مَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مُتَّهَمٌ، وَلَمْ يَكُنْ شَاذًّا: أَيْ مُخَالِفًا لِمَا ثَبَتَ بِنَقْلِ الثِّقَاتِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ، وَلَيْسَ فِيهِ مُتَّهَمٌ، وَلَا خَالَفَهُ أَحَدٌ مِنْ الثِّقَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا يُخَافُ فِيهِ مِنْ شَيْئَيْنِ: إمَّا تَعَمُّدُ الْكَذِبِ، وَإِمَّا خَطَأُ الرَّاوِي، فَإِذَا كَانَ مِنْ وَجْهَيْنِ لَمْ يَأْخُذْهُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ، وَلَيْسَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنْ يَتَّفِقَ تَسَاوِي الْكَذِبِ فِيهِ: عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَذِبٍ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الرُّوَاةُ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكَذِبِ وَأَمَّا الْخَطَأُ فَإِنَّهُ مَعَ التَّعَدُّدِ يَضْعُفُ، وَلِهَذَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَطْلُبَانِ مَعَ الْمُحَدِّثِ الْوَاحِدِ مَنْ يُوَافِقُهُ خَشْيَةَ الْغَلَطِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمَرْأَتَيْنِ {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] هَذَا لَوْ كَانَا عَنْ صَاحِبٍ وَاحِدٍ، فَكَيْفَ وَهَذَا قَدْ رَوَاهُ عَنْ صَاحِبٍ، وَذَلِكَ عَنْ آخَرَ، وَفِي لَفْظِ أَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ عَلَى لَفْظِ الْآخَرِ، فَهَذَا كُلُّهُ وَنَحْوُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي الْأَصْلِ مَعْرُوفٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَبْ أَنَّهُ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ مَنْسُوخٌ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَنْسَخُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ، وَرَوَاهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ

«أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَقْبَلَتْ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ الْمَقَابِرِ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَيْسَ كَانَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، كَانَ نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، ثُمَّ أَمَرَ بِزِيَارَتِهَا» . قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الْخِطَابُ بِأَنَّ الْإِذْنَ لَمْ يَتَنَاوَلْ النِّسَاءَ، فَلَا يَدْخُلْنَ فِي الْحُكْمِ النَّاسِخِ. الثَّانِي: خَاصٌّ فِي النِّسَاءِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ، أَوْ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ» وَقَوْلُهُ: " فَزُورُوهَا " بِطَرِيقِ التَّبَعِ، فَيَدْخُلْنَ بِعُمُومٍ ضَعِيفٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالرِّجَالِ، إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاوِلًا لِلنِّسَاءِ، وَالْعَامُّ إذَا عُرِفَ أَنَّهُ بَعْدَ الْخَاصِّ لَمْ يَكُنْ نَاسِخًا لَهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ، فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْعَامَّ بَعْدَ الْخَاصِّ، إذْ قَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ» بَعْدَ إذْنِهِ لِلرِّجَالِ فِي الزِّيَارَةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَرَنَهُ بِالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ، وَذَكَرَ هَذَا بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ الَّتِي تَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ، وَلَعْنَ الزَّائِرَاتِ جَعَلَهُ مُخْتَصًّا بِالنِّسَاءِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ اتِّخَاذَ الْمَسَاجِدِ وَالسُّرُجِ بَاقٍ مُحْكَمٌ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، فَكَذَلِكَ الْآخَرُ. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فَأَحْمَدُ احْتَجَّ بِهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، لِمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى ذَلِكَ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ تُنَاقِضُ ذَلِكَ، وَهِيَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ. وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ. فَإِنَّ الْمُحْتَجَّ عَلَيْهَا احْتَجَّ بِالنَّهْيِ الْعَامِّ، فَدَفَعَتْ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّهْيَ مَنْسُوخٌ. وَهُوَ كَمَا قَالَتْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا الْمُحْتَجُّ النَّهْيَ الْمُخْتَصَّ بِالنِّسَاءِ الَّذِي فِيهِ لَعْنُهُنَّ عَلَى الزِّيَارَةِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهَا: " قَدْ أَمَرَ بِزِيَارَتِهَا " فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا أَمْرًا يَقْتَضِي الِاسْتِحْبَابَ، وَالِاسْتِحْبَابُ إنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ لِلرِّجَالِ خَاصَّةً، وَلَكِنْ عَائِشَةُ بَيَّنَتْ أَنَّ أَمْرَهُ الثَّانِيَ نَسَخَ نَهْيَهُ الْأَوَّلَ، فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ وَهُوَ النِّسَاءُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ. وَلَوْ كَانَتْ عَائِشَةُ تَعْتَقِدُ أَنَّ النِّسَاءَ مَأْمُورَاتٌ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ لَكَانَتْ تَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ الرِّجَالُ، وَلَمْ تَقُلْ لِأَخِيهَا: لَمَا زُرْتُكَ.

الْجَوَابُ الثَّالِثُ: جَوَابُ مَنْ يَقُولُ بِالْكَرَاهَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: حَدِيثُ اللَّعْنِ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَحَدِيثُ الْإِذْنِ يَرْفَعُ التَّحْرِيمَ. وَبَقِيَ أَصْلُ الْكَرَاهَةِ، يُؤَيِّدُ هَذَا «قَوْلُ أُمِّ عَطِيَّةَ: نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْنَا» . وَالزِّيَارَةُ مِنْ جِنْسِ الِاتِّبَاعِ فَيَكُونُ كِلَاهُمَا مَكْرُوهًا غَيْرَ مُحَرَّمٍ. الْجَوَابُ الرَّابِعُ: جَوَابُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ: كَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: اللَّعْنُ قَدْ جَاءَ بِلَفْظِ الزَّوَّارَاتِ، وَهُنَّ الْمُكْثِرَاتُ لِلزِّيَارَةِ، فَالْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ فِي الدَّهْرِ لَا تَتَنَاوَلُ ذَلِكَ، وَلَا تَكُنْ الْمَرْأَةُ زَائِرَةً، وَيَقُولُونَ: عَائِشَةُ زَارَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَمْ تَكُنْ زَوَّارَةً. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالتَّحْرِيمِ: فَيَقُولُونَ قَدْ جَاءَ بِلَفْظِ " الزَّوَّارَاتِ " وَلَفْظُ الزَّوَّارَاتِ قَدْ يَكُونُ لِتَعَدُّدِهِنَّ، كَمَا يُقَالُ: فُتِّحَتْ الْأَبْوَابُ، إذْ لِكُلِّ بَابٍ فَتْحٌ يَخُصُّهُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِكُلِّ بَابٍ فَتْحًا وَاحِدًا. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا يَحْرُمُ، وَمَا لَا يَحْرُمُ، وَاللَّعْنُ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: التَّشْيِيعُ كَذَلِكَ، وَيُحْتَجُّ بِمَا رُوِيَ فِي التَّشْيِيعِ مِنْ التَّغْلِيظِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ، فَإِنَّكُنَّ تَفْتِنَّ الْحَيَّ، وَتُؤْذِينَ الْمَيِّتَ» وَقَوْلُهُ لِفَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَمَا إنَّكِ لَوْ بَلَغْتِ مَعَهُمْ الْكُدَى لَمْ تَدْخُلْ الْجَنَّةَ، حَتَّى يَكُونَ كَذَا وَكَذَا» وَهَذَانِ يُؤَيِّدُهُمَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّهُ «نَهَى النِّسَاءَ عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ» . وَأَمَّا قَوْلُ أُمِّ عَطِيَّةَ: وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْنَا. فَقَدْ يَكُونُ مُرَادُهَا لَمْ يُؤَكِّدْ النَّهْيَ، وَهَذَا لَا يَنْفِي التَّحْرِيمَ، وَقَدْ تَكُونُ هِيَ ظَنَّتْ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَهْيِ تَحْرِيمٍ، وَالْحُجَّةُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ لَا فِي ظَنِّ غَيْرِهِ. الْجَوَابُ الْخَامِسُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّلَ الْإِذْنَ لِلرِّجَالِ بِأَنَّ ذَلِكَ يُذَكِّرُ بِالْمَوْتِ،

فصل زيارة قبر النبي

وَيُرَقِّقُ الْقَلْبَ، وَيُدْمِعُ الْعَيْنَ، هَكَذَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا فُتِحَ لَهَا هَذَا الْبَابُ أَخْرَجَهَا إلَى الْجَزَعِ وَالنَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ، لِمَا فِيهَا مِنْ الضَّعْفِ، وَكَثْرَةِ الْجَزَعِ، وَقِلَّةِ الصَّبْرِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِتَأَذِّي الْمَيِّتِ بِبُكَائِهَا، وَلِافْتِتَانِ الرِّجَالِ بِصَوْتِهَا، وَصُورَتِهَا. كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «فَإِنَّكُنَّ تَفْتُنَّ الْحَيَّ، وَتُؤْذِينَ الْمَيِّتَ» وَإِذَا كَانَتْ زِيَارَةُ النِّسَاءِ مَظِنَّةً وَسَبَبًا لِلْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ فِي حَقِّهِنَّ، وَحَقِّ الرِّجَالِ، وَالْحِكْمَةُ هُنَا غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَدَّ الْمِقْدَارُ الَّذِي لَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ، وَلَا التَّمْيِيزُ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ. وَمِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْحِكْمَةَ إذَا كَانَتْ خَفِيَّةً، أَوْ غَيْرَ مُنْتَشِرَةٍ عُلِّقَ الْحُكْمُ بِمَظِنَّتِهَا، فَيَحْرُمُ هَذَا الْبَابُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، كَمَا حَرُمَ النَّظَرُ إلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفِتْنَةِ، وَكَمَا حَرُمَ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النَّظَرِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ مَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا دُعَاؤُهَا لِلْمَيِّتِ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي بَيْتِهَا. وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إذَا عَلِمَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ نَفْسِهَا أَنَّهَا إذَا زَارَتْ الْمَقْبَرَةَ بَدَا مِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، لَمْ تَجُزْ لَهَا الزِّيَارَةُ بِلَا نِزَاعٍ. [فَصْل زِيَارَة قَبْرِ النَّبِيِّ] فَصْلٌ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَيْسَ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَا صَحِيحٌ، وَلَا رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ، كَسُنَنِ أَبِي دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَلَا أَهْلُ الْمَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَةِ، كَمُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَنَحْوِهِ، وَلَا أَهْلُ الْمُصَنَّفَاتِ كَمُوَطَّأِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا. بَلْ عَامَّةُ مَا يُرْوَى فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مَكْذُوبَةٌ مَوْضُوعَةٌ. كَمَا يُرْوَى عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي إبْرَاهِيمَ فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ» وَهَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ، كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَكَذَلِكَ مَا يُرْوَى أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي، فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي، وَمَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ» لَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَصْلٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَى بَعْضَ ذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، فَمَدَارُ ذَلِكَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ. أَوْ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ، مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِرِوَايَتِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ.

وَإِنَّمَا اعْتَمَدَ الْأَئِمَّةُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي، حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» وَكَمَا فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِقَبْرِي مَلَائِكَةً تُبَلِّغُنِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ» فَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، فَلِهَذَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَرِهَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَالِكٌ قَدْ أَدْرَكَ النَّاسَ مِنْ التَّابِعِينَ، وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ عِنْدَهُمْ أَلْفَاظُ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِهَذَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنْ يَقِفَ مُسْتَقْبِلَ الْقَبْرِ يَدْعُو: بَلْ وَكَرِهَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنْ يَقُومَ لِلدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ هُنَاكَ، وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَنَّهُ لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي أَسْبَابِ كَرَاهَتِهِ، أَنْ يَقُولَ: زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ، لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُرِيدُ بِهِ الزِّيَارَةَ الْبِدْعِيَّةَ، وَهِيَ قَصْدُ الْمَيِّتِ لِسُؤَالِهِ، وَدُعَائِهِ، وَالرَّغْبَةُ إلَيْهِ فِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَهُمْ يَعْنُونَ بِلَفْظِ الزِّيَارَةِ مِثْلَ هَذَا، وَهَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، فَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فَاسِدٍ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالسَّلَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. أَمَّا لَفْظُ الزِّيَارَةِ فِي عُمُومِ الْقُبُورِ فَقَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُمَا مِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: «فَزُورُوا الْقُبُورَ. فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» مَعَ زِيَارَتِهِ لِقَبْرِ أُمِّهِ، فَإِنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ زِيَارَةَ قُبُورِ الْكُفَّارِ، فَلَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ زِيَارَةُ الْمَيِّتِ لِدُعَائِهِ وَسُؤَالِهِ، وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَزُورُ مُعَظَّمًا فِي الدِّينِ: كَالْأَنْبِيَاءِ، وَالصَّالِحِينَ. فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَعْنِي بِزِيَارَةِ قُبُورِهِمْ هَذِهِ الزِّيَارَةَ الْبِدْعِيَّةَ وَالشِّرْكِيَّةَ، فَلِهَذَا كَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذَا. وَإِنْ لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَيْسَ فِيهِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ. فَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَرْوِيَ بِإِسْنَادٍ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ شَيْئًا فِي

زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ الثَّابِتُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ يُنَاقِضُ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ الَّذِي تَرْوِيهِ الْجُهَّالُ بِهَذَا اللَّفْظِ. كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُمَا كُنْتُمْ» . وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ» . وَأَشْبَاهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِي الصِّحَاحِ، وَالسُّنَنِ، وَالْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ. فَكَيْفَ يَعْدِلُ مَنْ لَهُ عِلْمٌ وَإِيمَانٌ عَنْ مُوجِبِ هَذِهِ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، إلَى مَا يُنَاقِضُ مَعْنَاهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَمْ يُثْبِتْ مِنْهَا شَيْئًا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. 392 - 32 - سُئِلَ: عَنْ زِيَارَةِ النِّسَاءِ الْقُبُورَ: هَلْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ: أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ. وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ نَهَى زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» .

هل الميت يسمع كلام زائره ويرى شخصه

فَإِنْ قِيلَ: فَالنَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ أَهْلُ الْقَوْلِ الْآخَرِ. قِيلَ: هَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» هَذَا خِطَابٌ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ لَفْظٌ مُذَكَّرٌ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالذُّكُورِ، أَوْ مُتَنَاوِلٌ لِغَيْرِهِمْ بِطَرِيقِ التَّبَعِ. فَإِنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِهِمْ فَلَا ذِكْرَ لِلنِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِغَيْرِهِمْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ عَامًّا، وَقَوْلُهُ: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ» خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» فَاَلَّذِي يَتَّخِذُونَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ، سَوَاءٌ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا، وَأَمَّا الَّذِينَ يَزُورُونَ فَإِنَّمَا لَعَنَ النِّسَاءَ الزَّوَّارَاتِ دُونَ الرِّجَالِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا خَاصًّا وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الرُّخْصَةِ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعَامِّ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَذَلِكَ لَوْ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَهَا. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ» فَهَذَا عَامٌّ وَالنِّسَاءُ لَمْ يَدْخُلْنَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ نَهَى النِّسَاءَ عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي نُشَيِّعُ مَيِّتًا، فَلَمَّا فَرَغْنَا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَانْصَرَفْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا تَوَسَّطْنَا الطَّرِيقَ إذَا نَحْنُ بِامْرَأَةٍ مُقْبِلَةٍ، فَلَمَّا دَنَتْ إذَا هِيَ فَاطِمَةُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَخْرَجَك يَا فَاطِمَةُ مِنْ بَيْتِك؟ ، قَالَتْ: أَتَيْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ فَعَزَّيْنَاهُمْ بِمَيِّتِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَعَلَّك بَلَغْت مَعَهُمْ الْكُدَى، أَمَا إنَّك لَوْ بَلَغْت مَعَهُمْ الْكُدَى مَا رَأَيْت الْجَنَّةَ، حَتَّى يَرَاهَا جَدُّ أَبِيك» رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ، وَقَدْ فَسَّرَ " الْكُدَى " بِالْقُبُورِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [هَلْ الْمَيِّتُ يَسْمَعُ كَلَامَ زَائِرِهِ وَيَرَى شَخْصَهُ] 393 - 33 - سُئِلَ: هَلْ الْمَيِّتُ يَسْمَعُ كَلَامَ زَائِرِهِ، وَيَرَى شَخْصَهُ؟ وَهَلْ تُعَادُ رُوحُهُ إلَى جَسَدِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَمْ تَكُونُ تُرَفْرِفُ عَلَى قَبْرِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَغَيْرِهِ؟ وَهَلْ تَصِلُ إلَيْهِ الْقِرَاءَةُ وَالصَّدَقَةُ مِنْ نَاحِلِيهِ وَغَيْرِهِمْ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْمَالِ الْمَوْرُوثِ عَنْهُ وَغَيْرِهِ؟ وَهَلْ تُجْمَعُ رُوحُهُ مَعَ أَرْوَاحِ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ الَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَدْفُونًا قَرِيبًا مِنْهُمْ أَوْ بَعِيدًا؟ وَهَلْ تُنْقَلُ رُوحُهُ إلَى جَسَدِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ يَكُونُ بَدَنُهُ إذَا

مَاتَ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ؟ وَدُفِنَ بِهَا يُنْقَلُ إلَى الْأَرْضِ الَّتِي وُلِدَ بِهَا، وَهَلْ يَتَأَذَّى بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ؟ وَالْمَسْئُولُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْفُصُولِ - فَصْلًا، فَصْلًا - جَوَابًا وَاضِحًا، مُسْتَوْعِبًا لِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا نُقِلَ فِيهِ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَشَرْحِ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ: أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ، وَاخْتِلَافِهِمْ، وَمَا الرَّاجِحُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ. مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَعَمْ يَسْمَعُ الْمَيِّتُ فِي الْجُمْلَةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ» . وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، يَا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْت مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا فَسَمِعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَسْمَعُونَ، وَأَنَّى يُجِيبُونَ، وَقَدْ جُيِّفُوا؟ ، فَقَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أَنْتَ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ» ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ فَقَالَ: هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ وَقَالَ: إنَّهُمْ يَسْمَعُونَ الْآنَ مَا أَقُولُ» . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالسَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ. وَيَقُولُ: «قُولُوا السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ» فَهَذَا خِطَابٌ لَهُمْ، وَإِنَّمَا يُخَاطَبُ مَنْ يَسْمَعُ. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ رَجُلٍ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَكْثِرُوا مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْك؟ وَقَدْ أَرِمْت - يَعْنِي صِرْتُ رَمِيمًا - فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ

الْأَنْبِيَاءِ» . وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِقَبْرِي مَلَائِكَةً يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ» . فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَأَمْثَالُهَا تُبَيِّنُ أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ فِي الْجُمْلَةِ كَلَامَ الْحَيِّ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ لَهُ دَائِمًا، بَلْ قَدْ يَسْمَعُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ كَمَا قَدْ يُعْرَضُ لِلْحَيِّ فَإِنَّهُ قَدْ يَسْمَعُ أَحْيَانًا خِطَابَ مَنْ يُخَاطِبُهُ، وَقَدْ لَا يَسْمَعُ لِعَارِضٍ يَعْرِضُ لَهُ، وَهَذَا السَّمْعُ سَمْعُ إدْرَاكٍ، لَيْسَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَزَاءٌ، وَلَا هُوَ السَّمْعُ الْمَنْفِيُّ بِقَوْلِهِ: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] فَإِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ سَمْعُ الْقُبُورِ وَالِامْتِثَالِ. فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْكَافِرَ كَالْمَيِّتِ الَّذِي لَا يَسْتَجِيبُ لِمَنْ دَعَاهُ، وَكَالْبَهَائِمِ الَّتِي تَسْمَعُ الصَّوْتَ، وَلَا تَفْقَهُ الْمَعْنَى. فَالْمَيِّتُ وَإِنْ سَمِعَ الْكَلَامَ وَفَقِهَ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إجَابَةُ الدَّاعِي، وَلَا امْتِثَالَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَنُهِيَ عَنْهُ، فَلَا يَنْتَفِعُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِنْ سَمِعَ الْخِطَابَ، وَفَهِمَ الْمَعْنَى. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] وَأَمَّا رُؤْيَةُ الْمَيِّتِ: فَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا. فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: هَلْ تُعَادُ رُوحُهُ إلَى بَدَنِهِ ذَلِكَ الْوَقْتَ، أَمْ تَكُونُ تُرَفْرِفُ عَلَى قَبْرِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَغَيْرِهِ؟ فَإِنَّ رُوحَهُ تُعَادُ إلَى الْبَدَنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. وَتُعَادُ أَيْضًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ: «أَنَّ نَسَمَةَ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يُعَلَّقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ» وَفِي لَفْظٍ «ثُمَّ تَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ» وَمَعَ ذَلِكَ فَتَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ مَتَى شَاءَ اللَّهُ، وَذَلِكَ فِي اللَّحْظَةِ بِمَنْزِلَةِ

نُزُولِ الْمَلَكِ، وَظُهُورِ الشُّعَاعِ فِي الْأَرْضِ، وَانْتِبَاهِ النَّائِمِ. وَهَذَا جَاءَ فِي عِدَّةِ آثَارٍ، أَنَّ الْأَرْوَاحَ تَكُونُ فِي أَفْنِيَةِ الْقُبُورِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَرْوَاحُ تَكُونُ عَلَى أَفْنِيَةِ الْقُبُورِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ مِنْ يَوْمِ دَفْنِ الْمَيِّتِ لَا تُفَارِقُهُ، فَهَذَا يَكُونُ أَحْيَانًا، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: بَلَغَنِي أَنَّ الْأَرْوَاحَ مُرْسَلَةٌ، تَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَتْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ، وَالصَّدَقَةُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي وُصُولِ ثَوَابِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ، كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ، كَمَا يَصِلُ إلَيْهِ أَيْضًا الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ، وَالدُّعَاءُ عِنْدَ قَبْرِهِ. وَتَنَازَعُوا فِي وُصُولِ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ: كَالصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْجَمِيعَ يَصِلُ إلَيْهِ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» وَثَبَتَ أَيْضًا: «أَنَّهُ أَمَرَ امْرَأَةً مَاتَتْ أُمُّهَا، وَعَلَيْهَا صَوْمٌ، أَنْ تَصُومَ عَنْ أُمِّهَا» . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «لَوْ أَنَّ أَبَاك أَسْلَمَ فَتَصَدَّقْتَ عَنْهُ، أَوْ صُمْتَ، أَوْ أَعْتَقْتَ عَنْهُ، نَفَعَهُ ذَلِكَ» وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا احْتِجَاجُ بَعْضِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] فَيُقَالُ لَهُ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ: أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْعَى لَهُ، وَيُسْتَغْفَرُ لَهُ وَهَذَا مِنْ سَعْيِ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ قَدْ ثَبَتَ مَا سَلَفَ مِنْ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِالصَّدَقَةِ عَنْهُ، وَالْعِتْقِ، وَهُوَ مِنْ سَعْيِ غَيْرِهِ. وَمَا كَانَ مِنْ جَوَابِهِمْ فِي مَوَارِدِ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ جَوَابُ الْبَاقِينَ فِي مَوَاقِعِ النِّزَاعِ. وَلِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ. لَكِنَّ الْجَوَابَ الْمُحَقَّقَ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: إنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْتَفِعُ إلَّا بِسَعْيِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] فَهُوَ لَا يَمْلِكُ إلَّا سَعْيَهُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَ ذَلِكَ. وَأَمَّا سَعْيُ غَيْرِهِ فَهُوَ لَهُ، كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْلِكُ إلَّا مَالَ نَفْسِهِ،

وَنَفْعَ نَفْسِهِ. فَمَالُ غَيْرِهِ وَنَفْعُ غَيْرِهِ هُوَ كَذَلِكَ لِلْغَيْرِ؛ لَكِنْ إذَا تَبَرَّعَ لَهُ الْغَيْرُ بِذَلِكَ جَازَ. وَهَكَذَا هَذَا إذَا تَبَرَّعَ لَهُ الْغَيْرُ بِسَعْيِهِ نَفَعَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ، كَمَا يَنْفَعُهُ بِدُعَائِهِ لَهُ، وَالصَّدَقَةِ عَنْهُ، وَهُوَ يَنْتَفِعُ بِكُلِّ مَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَقَارِبِهِ، أَوْ غَيْرِهِمْ، كَمَا يَنْتَفِعُ بِصَلَاةِ الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِ وَدُعَائِهِمْ لَهُ عِنْدَ قَبْرِهِ. فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَلْ تَجْتَمِعُ رُوحُهُ مَعَ أَرْوَاحِ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ؟ فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ، وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا عُرِجَ بِرُوحِهِ تَلَقَّتْهُ الْأَرْوَاحُ يَسْأَلُونَهُ عَنْ الْأَحْيَاءِ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: دَعُوهُ حَتَّى يَسْتَرِيحَ، فَيَقُولُونَ لَهُ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُ: عَمِلَ عَمَلَ صَلَاحٍ، فَيَقُولُونَ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُ: أَلَمْ يَقْدَمْ عَلَيْكُمْ؟ ، فَيَقُولُونَ: لَا، فَيَقُولُونَ ذُهِبَ بِهِ إلَى الْهَاوِيَةِ» . وَلَمَّا كَانَتْ أَعْمَالُ الْأَحْيَاءِ تُعْرَضُ عَلَى الْمَوْتَى، كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَعْمَلَ عَمَلًا أُخْزَى بِهِ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ ". فَهَذَا اجْتِمَاعُهُمْ عِنْدَ قُدُومِهِ يَسْأَلُونَهُ فَيُجِيبُهُمْ. وَأَمَّا اسْتِقْرَارُهُمْ فَبِحَسَبِ مَنَازِلِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ، فَمَنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ كَانَتْ مَنْزِلَتُهُ أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ؛ لَكِنَّ الْأَعْلَى يَنْزِلُ إلَى الْأَسْفَلِ، وَالْأَسْفَلُ لَا يَصْعَدُ إلَى الْأَعْلَى، فَيَجْتَمِعُونَ إذَا شَاءَ اللَّهُ، كَمَا يَجْتَمِعُونَ فِي الدُّنْيَا مَعَ تَفَاوُتِ مَنَازِلِهِمْ، وَيَتَزَاوَرُونَ. وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمَدَافِنُ مُتَبَاعِدَةً فِي الدُّنْيَا، أَوْ مُتَقَارِبَةً. قَدْ تَجْتَمِعُ الْأَرْوَاحُ مَعَ تَبَاعُدِ الْمَدَافِنِ، وَقَدْ تَفْتَرِقُ مَعَ تَقَارُبِ الْمَدَافِنِ، يُدْفَنُ الْمُؤْمِنُ عِنْدَ الْكَافِرِ، وَرُوحُ هَذَا فِي الْجَنَّةِ، وَرُوحُ هَذَا فِي النَّارِ، وَالرَّجُلَانِ يَكُونَانِ جَالِسَيْنِ أَوْ نَائِمَيْنِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَقَلْبُ هَذَا يُنَعَّمُ، وَقَلْبُ هَذَا يُعَذَّبُ. وَلَيْسَ بَيْنَ الرُّوحَيْنِ اتِّصَالٌ. فَالْأَرْوَاحُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ: فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» . وَالْبَدَنُ لَا يُنْقَلُ إلَى مَوْضِعِ الْوِلَادَةِ، بَلْ قَدْ جَاءَ: «إنَّ الْمَيِّتَ يُذَرُّ عَلَيْهِ مِنْ تُرَابِ

حُفْرَتِهِ» وَمِثْلُ هَذَا لَا يُجْزَمُ بِهِ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ. بَلْ أَجْوَدُ مِنْهُ حَدِيثٌ آخَرُ فِيهِ: «إنَّهُ مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ إلَّا قِيسَ لَهُ مِنْ مَسْقَطِ رَأْسِهِ إلَى مُنْقَطِعِ أَثَرِهِ فِي الْجَنَّةِ» . وَالْإِنْسَانُ يُبْعَثُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ، وَبَدَنُهُ فِي قَبْرِهِ مُشَاهَدٌ، فَلَا تُدْفَعُ الْمُشَاهَدَةُ، بِظُنُونٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، بَلْ هِيَ مُخَالِفَةٌ فِي الْعَقْلِ، وَالنَّقْلِ. فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: هَلْ يُؤْذِيهِ الْبُكَاءُ عَلَيْهِ؟ فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالْعُلَمَاءِ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَتَأَذَّى بِالْبُكَاءِ عَلَيْهِ، كَمَا نَطَقَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» - وَفِي لَفْظٍ - «مَنْ يُنَحْ عَلَيْهِ يُعَذَّبْ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ لَمَّا أُغْمِيَ عَلَيْهِ جَعَلَتْ أُخْتُهُ تَنْدُبُ، وَتَقُولُ: وَاعَضُدَاهُ، وَانَاصِرَاهُ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: مَا قُلْت لِي شَيْئًا إلَّا قِيلَ لِي: أَكَذَلِكَ أَنْتَ؟ وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَعْذِيبِ الْإِنْسَانِ بِذَنْبِ غَيْرِهِ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ثُمَّ تَنَوَّعَتْ طُرُقُهُمْ فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. فَمِنْهُمْ مَنْ غَلَّطِ الرُّوَاةَ لَهَا، كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ عَائِشَةَ، وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى مَا إذَا أَوْصَى بِهِ فَيُعَذَّبُ عَلَى إيصَائِهِ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ: كَالْمُزَنِيِّ، وَغَيْرِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ، فَيُعَذَّبُ عَلَى تَرْكِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ: مِنْهُمْ جَدِّي أَبُو الْبَرَكَاتِ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ ضَعِيفَةٌ جِدًّا. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ الَّتِي يَرْوِيهَا مِثْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِهِ

عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ لَا تُرَدُّ بِمِثْلِ هَذَا. وَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَهَا مِثْلُ هَذَا نَظَائِرُ تَرُدُّ الْحَدِيثَ بِنَوْعٍ مِنْ التَّأْوِيلِ وَالِاجْتِهَادِ لِاعْتِقَادِهَا بُطْلَانَ مَعْنَاهُ، وَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا الْبَابَ وَجَدَ هَذَا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الصَّرِيحَ الَّذِي يَرْوِيهِ الثِّقَةُ لَا يَرُدُّهُ أَحَدٌ بِمِثْلِ هَذَا إلَّا كَانَ مُخْطِئًا. وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رَوَتْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفْظَيْنِ - وَهِيَ الصَّادِقَةُ فِيمَا نَقَلَتْهُ - فَرَوَتْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَهُ: «إنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» وَهَذَا مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ عُمَرَ، فَإِنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَزِيدَهُ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ، جَازَ أَنْ يُعَذَّبَ غَيْرُهُ ابْتِدَاءً بِبُكَاءِ أَهْلِهِ؛ وَلِهَذَا رَدَّ الشَّافِعِيُّ فِي مُخْتَلَفِ الْحَدِيثِ هَذَا الْحَدِيثَ نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى. وَقَالَ: الْأَشْبَهُ رِوَايَتُهَا الْأُخْرَى: «إنَّهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ» . وَاَلَّذِينَ أَقَرُّوا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى مُقْتَضَاهُ، ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ عُقُوبَةِ الْإِنْسَانِ بِذَنْبِ غَيْرِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. وَاعْتَقَدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللَّهَ يُعَاقِبُ الْإِنْسَانَ بِذَنْبِ غَيْرِهِ، فَجَوَّزُوا أَنْ يُدْخِلُوا أَوْلَادَ الْكُفَّارِ النَّارَ بِذُنُوبِ آبَائِهِمْ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ طَوَائِفُ مُنْتَسِبَةٌ إلَى السُّنَّةِ، فَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُدْخِلُ النَّارَ إلَّا مَنْ عَصَاهُ. كَمَا قَالَ: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85] فَلَا بُدَّ أَنْ يَمْلَأَ جَهَنَّمَ مِنْ أَتْبَاعِ إبْلِيسَ، فَإِذَا امْتَلَأَتْ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ فِيهَا مَوْضِعٌ، فَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْ إبْلِيسَ لَمْ يَدْخُلْ النَّارَ. وَأَطْفَالُ الْكُفَّارِ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِيهِمْ: أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ. كَمَا قَدْ أَجَابَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. فَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: إنَّهُمْ كُلُّهُمْ فِي النَّارِ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَغَيْرُهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ غَلَطٌ عَلَى أَحْمَدَ. وَطَائِفَةٌ جَزَمُوا أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ، وَغَيْرُهُ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثٍ فِيهِ رُؤْيَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا رَأَى إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ، وَعِنْدَهُ أَطْفَالُ الْمُؤْمِنِينَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: وَأَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ» . وَالصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ فِيهِمْ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ، وَلَا يُحْكَمُ لِمُعَيَّنٍ مِنْهُمْ

بِجَنَّةٍ وَلَا نَارٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ يُؤْمَرُونَ وَيُنْهَوْنَ، فَمَنْ أَطَاعَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَى دَخَلَ النَّارَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَالتَّكْلِيفُ إنَّمَا يَنْقَطِعُ بِدُخُولِ دَارِ الْجَزَاءِ وَهِيَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، وَأَمَّا عَرَصَاتُ الْقِيَامَةِ فَيُمْتَحَنُونَ فِيهَا كَمَا يُمْتَحَنُونَ فِي الْبَرْزَخِ، فَيُقَالُ لِأَحَدِهِمْ: مَنْ رَبُّك؟ وَمَا دِينُك؟ وَمَنْ نَبِيُّك؟ وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43] وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَتَجَلَّى اللَّهُ لِعِبَادِهِ فِي الْمَوْقِفِ، إذَا قِيلَ: لِيَتْبَعَ كُلُّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، فَيَتْبَعُ الْمُشْرِكُونَ آلِهَتَهُمْ، وَتَبَقَّى الْمُؤْمِنُونَ فَيَتَجَلَّى لَهُمْ الرَّبُّ الْحَقُّ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْرِفُونَ فَيُنْكِرُونَهُ، ثُمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَسْجُدُ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَتَبْقَى ظُهُورُ الْمُنَافِقِينَ كَقُرُونِ الْبَقَرِ، فَيُرِيدُونَ أَنْ يَسْجُدُوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] الْآيَةَ» وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هَهُنَا أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا فِي الْآخِرَةِ إلَّا بِذَنْبِهِ، وَأَنَّهُ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَقَوْلِهِ: «إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّائِحَةَ لَا تُعَاقَبُ، بَلْ النَّائِحَةُ تُعَاقَبُ عَلَى النِّيَاحَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّ النَّائِحَةَ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تَلْبَسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دِرْعًا مِنْ جَرَبٍ وَسِرْبَالًا مِنْ قَطِرَانٍ» فَلَا يُحْمَلُ عَمَلٌ يَنُوحُ وِزْرُهُ أَحَدٌ. وَأَمَّا تَعْذِيبُ الْمَيِّتِ: فَهُوَ لَمْ يَقُلْ: إنَّ الْمَيِّتَ يُعَاقَبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. بَلْ قَالَ: " يُعَذَّبُ " وَالْعَذَابُ أَعَمُّ مِنْ الْعِقَابِ، فَإِنَّ الْعَذَابَ هُوَ الْأَلَمُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ تَأَلَّمَ بِسَبَبٍ كَانَ ذَلِكَ عِقَابًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» فَسَمَّى السَّفَرَ عَذَابًا، وَلَيْسَ هُوَ عِقَابًا عَلَى ذَنْبٍ.

وَالْإِنْسَانُ يُعَذَّبُ بِالْأُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ الَّتِي يَشْعُرُ بِهَا، مِثْلُ الْأَصْوَاتِ الْهَائِلَةِ، وَالْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ، وَالصُّوَرِ الْقَبِيحَةِ، فَهُوَ يَتَعَذَّبُ بِسَمَاعِ هَذَا وَشَمِّ هَذَا، وَرُؤْيَةِ هَذَا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَمَلًا لَهُ عُوقِبَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يُنْكَرُ أَنْ يُعَذَّبَ الْمَيِّتُ بِالنِّيَاحَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ النِّيَاحَةُ عَمَلًا لَهُ، يُعَاقَبُ عَلَيْهِ؟ وَالْإِنْسَانُ فِي قَبْرِهِ يُعَذَّبُ بِكَلَامِ بَعْضِ النَّاسِ، وَيَتَأَلَّمُ بِرُؤْيَةِ بَعْضِهِمْ، وَبِسَمَاعِ كَلَامِهِ. وَلِهَذَا أَفْتَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: بِأَنَّ الْمَوْتَى إنَّمَا عُمِلَ عِنْدَهُمْ الْمَعَاصِي فَإِنَّهُمْ يَتَأَلَّمُونَ بِهَا، كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ، فَتَعْذِيبُهُمْ بِعَمَلِ الْمَعَاصِي عِنْدَ قُبُورِهِمْ كَتَعْذِيبِهِمْ بِنِيَاحَةِ مَنْ يَنُوحُ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ النِّيَاحَةُ سَبَبُ الْعَذَابِ. وَقَدْ يَنْدَفِعُ حُكْمُ السَّبَبِ بِمَا يُعَارِضُهُ، فَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَيِّتِ مِنْ قُوَّةِ الْكَرَامَةِ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ مِنْ الْعَذَابِ، كَمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ النَّاسِ مِنْ الْقُوَّةِ مَا يَدْفَعُ ضَرَرَ الْأَصْوَاتِ الْهَائِلَةِ، وَالْأَرْوَاحِ وَالصُّوَرِ الْقَبِيحَةِ. وَأَحَادِيثُ الْوَعِيدِ يُذْكَرُ فِيهَا السَّبَبُ. وَقَدْ يَتَخَلَّفُ مُوجِبُهُ لِمَوَانِعَ تَدْفَعُ ذَلِكَ: إمَّا بِتَوْبَةٍ مَقْبُولَةٍ، وَإِمَّا بِحَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ، وَإِمَّا بِمَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ، وَإِمَّا بِشَفَاعَةِ شَفِيعٍ مُطَاعٍ، وَإِمَّا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، فَإِنَّهُ {لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . وَمَا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا وَالْبَرْزَخِ وَالْقِيَامَةِ مِنْ الْأَلَمِ الَّتِي هِيَ عَذَابٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ خَطَايَاهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزْنٍ، وَلَا أَذًى، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» . وَفِي الْمُسْنَدِ «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَاءَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ، وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا؟ ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَحْزَنُ؟ ، أَلَسْتَ يُصِيبُك الْأَذَى؟ ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةٌ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا طَيِّبٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] » . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّهُمْ إذَا عَبَرُوا

عَلَى الصِّرَاطِ، وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنَقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ» . وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَمَا ذَكَرْنَا فِي أَنَّ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ الْخِطَابَ، وَيَصِلُ إلَيْهِمْ الثَّوَابُ، وَيُعَذَّبُونَ بِالنِّيَاحَةِ، بَلْ وَمَا لَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ السَّائِلُ مِنْ عِقَابِهِمْ فِي قُبُورِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ يُكْشَفُ لِكَثِيرٍ مِنْ أَبْنَاءِ زَمَانِنَا يَقَظَةً وَمَنَامًا، وَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَيَتَحَقَّقُونَهُ، وَعِنْدَنَا مِنْ ذَلِكَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ، لَكِنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ يُعْتَمَدُ فِيهِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ التَّصْدِيقُ بِهِ، وَمَا كُشِفَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ أَخْبَرَهُ بِهِ مَنْ هُوَ صَادِقٌ عِنْدَهُ، فَهَذَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ عِلْمِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُهُ إيمَانًا وَتَصْدِيقًا بِمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ الْإِيمَانُ بِغَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْجَبَ التَّصْدِيقَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 136] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177] الْآيَةَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ» . فَالْمُحَدِّثُ الْمُلْهَمُ الْمُكَاشِفُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَزِنَ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنْ وَافَقَ ذَلِكَ صَدَقَ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ، وَإِنْ خَالَفَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ. كَمَا كَانَ يَجِبُ عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ سَيِّدُ الْمُحَدِّثِينَ إذَا أُلْقِيَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ، وَكَانَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعْصُومًا، وَإِنَّمَا الْعِصْمَةُ لِلنُّبُوَّةِ. وَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ أَفْضَلَ مِنْ عُمَرَ، فَإِنَّ الصِّدِّيقَ لَا يَتَلَقَّى مِنْ قَلْبِهِ، بَلْ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ، وَهِيَ مَعْصُومَةٌ، وَالْمُحَدِّثُ يَتَلَقَّى تَارَةً عَنْ قَلْبِهِ، وَتَارَةً عَنْ النُّبُوَّةِ، فَمَا تَلَقَّاهُ عَنْ النُّبُوَّةِ فَهُوَ مَعْصُومٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَمَا أُلْهِمَ فِي قَلْبِهِ: فَإِنْ وَافَقَ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّةُ فَهُوَ حَقٌّ، وَإِنْ خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ. فَلِهَذَا لَا يَعْتَمِدُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فِي مِثْلِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ إلَّا عَلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ شَوَاهِدُ

هل يتكلم الميت في قبره

وَبَيِّنَاتٌ مِمَّا شَاهِدُوهُ وَوَجَدُوهُ، وَمِمَّا عَقَلُوهُ وَعَمِلُوهُ، وَذَلِكَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ هُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَأَمَّا حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فَهُمْ رُسُلُهُ، وَإِلَّا فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ فِيهَا مِنْ الدَّلَائِلِ وَالِاعْتِبَارَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّوَاهِدِ الْحِسِّيَّةِ الْكَشْفِيَّةِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ وَجَدَ ذَلِكَ، وَقِيَامُ بَنِي آدَمَ وَكَشْفُهُمْ تَابِعٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا مُخَالِفَ لَهُ، وَمَعَ كَوْنِهِ حَقًّا فَلَا يُفَصَّلُ الْخِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ التَّصْدِيقُ بِهِ، كَمَا يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِمَا عُرِفَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ، وَهُوَ كَلَامُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. وَلَكِنْ مَنْ حَصَلَ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ بَصِيرَةٌ أَوْ قِيَاسٌ أَوْ بُرْهَانٌ كَانَ ذَلِكَ نُورًا عَلَى نُورٍ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: بَصِيرَةُ الْمُؤْمِنِ تَنْطِقُ بِالْحِكْمَةِ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ فِيهَا بِأَثَرٍ. فَإِذَا جَاءَ الْأَثَرُ كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] قَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] . [هَلْ يَتَكَلَّمُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ] 394 - 34 - سُئِلَ: هَلْ يَتَكَلَّمُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ؟ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: يَتَكَلَّمُ، وَقَدْ يَسْمَعُ أَيْضًا مَنْ كَلَّمَهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّهُمْ يَسْمَعُونَ قَرْعَ نِعَالِهِمْ» وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ الْمَيِّتَ يُسْأَلُ فِي قَبْرِهِ: فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّك؟ وَمَا دِينُك؟ وَمَنْ نَبِيُّك؟ فَيُثَبِّتُ اللَّهُ الْمُؤْمِنَ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، فَيَقُولُ: اللَّهُ رَبِّي، وَالْإِسْلَامُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّي، وَيُقَالُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَآمَنَّا بِهِ، وَاتَّبَعْنَاهُ» . وَهَذَا تَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ.

بكاء الأم والإخوة على الميت

وَكَذَلِكَ يَتَكَلَّمُ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ: آهْ، آهْ، لَا أَدْرِي، سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته، فَيُضْرَبُ بِمِرْزَبَّةٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْإِنْسَانُ. وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَسَأَلْت اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مِثْلَ الَّذِي أَسْمَعُ» وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ نَادَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ لَمَّا أَلْقَاهُمْ فِي الْقَلِيبِ، وَقَالَ: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ» وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ مُنْتَشِرَةٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بُكَاء الْأُمِّ وَالْإِخْوَةِ عَلَى الْمَيِّتِ] 395 - 35 - سُئِلَ: عَنْ بُكَاءِ الْأُمِّ وَالْإِخْوَةِ عَلَى الْمَيِّتِ: هَلْ فِيهِ بَأْسٌ عَلَى الْمَيِّتِ؟ أَجَابَ: أَمَّا دَمْعُ الْعَيْنِ، وَحُزْنُ الْقَلْبِ، فَلَا إثْمَ فِيهِ؛ لَكِنَّ النَّدْبَ وَالنِّيَاحَةَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَأَيُّ صَدَقَةٍ تُصُدِّقَ بِهَا عَنْ الْمَيِّتِ نَفَعَهُ ذَلِكَ. [مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّعْزِيَةِ] 396 - 36 - سُئِلَ: عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالتَّعْزِيَةِ؟ الْجَوَابُ: التَّعْزِيَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، فَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: مَا نَقَصَ مِنْ عُمْرِهِ زَادَ فِي عُمْرِك، فَغَيْرُ مُسْتَحَبٍّ، بَلْ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْعَى لَهُ بِمَا يَنْفَعُ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَعْظَمُ اللَّهُ أَجْرَك وَأَحْسَنَ عَزَاك، وَغَفَرَ لِمَيِّتِك. وَأَمَّا نَقْصُ الْعُمْرِ وَزِيَادَتُهُ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، وَيُحْمَلُ مَا وَرَدَ عَلَى زِيَادَةِ الْبَرَكَةِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَحْصُلُ نَقْصٌ وَزِيَادَةٌ عَمَّا كُتِبَ فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ. وَأَمَّا عِلْمُ اللَّهِ الْقَدِيمِ فَلَا يَتَغَيَّرُ. وَأَمَّا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ: فَهَلْ يُغَيَّرُ مَا فِيهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَعَلَى هَذَا يَتَّفِقُ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ النُّصُوصِ. وَأَمَّا صَنْعَةُ الطَّعَامِ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ، فَمُسْتَحَبَّةٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» لَكِنْ إنَّمَا يَطِيبُ إذَا كَانَ بِطِيبِ نَفْسِ الْمُهْدِي، وَكَانَ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مُكَافَأَةً عَنْ مَعْرُوفٍ مِثْلِهِ، فَإِنْ عَلِمَ الرَّجُلُ

من يقرأ القرآن وينوح على القبر والنساء مكشفات الوجوه

أَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاحٍ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ، وَإِنْ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ فَلَا بَأْسَ بِتَنَاوُلِ الْيَسِيرِ مِنْهُ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ، مِثْلُ تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَنُوحُ عَلَى الْقَبْرِ وَالنِّسَاءُ مُكْشِفَاتُ الْوُجُوهِ] 397 - 37 - سُئِلَ: عَمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَيَنُوحُ عَلَى الْقَبْرِ، وَيَذْكُرُ شَيْئًا لَا يَلِيقُ. وَالنِّسَاءُ مُكْشِفَاتُ الْوُجُوهِ، وَالرِّجَالُ حَوْلَهُمْ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. النِّيَاحَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ. عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْمَعْرُوفِينَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ النَّائِحَةَ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا فَإِنَّهَا تَلْبَسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دِرْعًا مِنْ جَرَبٍ، وَسِرْبَالًا مِنْ قَطِرَانٍ» وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ: «أَنَّهُ لَعَنَ النَّائِحَةَ، وَالْمُسْتَمِعَةَ» . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» . وَكَشْفُ النِّسَاءِ وُجُوهَهُنَّ بِحَيْثُ يَرَاهُنَّ الْأَجَانِبُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنْ هَذَا الْمُنْكَرِ، وَغَيْرِهِ، وَمَنْ لَمْ يَرْتَدِعْ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَزْجُرُهُ، لَا سِيَّمَا النَّوْحُ لِلنِّسَاءِ عِنْدَ الْقُبُورِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي الَّتِي يَكْرَهُهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، مِنْ الْجَزَعِ وَالنَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ وَإِيذَاءِ الْمَيِّتِ، وَفِتْنَةِ الْحَيِّ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَتَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ الصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابِ، وَفِعْلِ أَسْبَابِ الْفَوَاحِشِ، وَفَتْحِ بَابِهَا، وَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُنْهَوْا عَنْهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا] 398 - 38 - مَسْأَلَةٌ: مَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا ". وَهَلْ يَتَكَلَّمُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: وَأَمَّا لَفْظُ الْحَدِيثِ: «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا

قُبُورًا» يَعْنِي: أَنَّ الْقُبُورَ مَوْضِعُ الْمَوْتَى، فَإِذَا لَمْ تُصَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ وَلَمْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا كُنْتُمْ كَالْمَيِّتِ، وَكَانَتْ كَالْقُبُورِ، فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَاَلَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ كَمَثَلِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» . وَفِي لَفْظٍ: «مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ، وَاَلَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» . وَأَمَّا سُؤَالُ السَّائِلِ: هَلْ يَتَكَلَّمُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ؟ فَجَوَابُهُ: أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ، وَقَدْ يَسْمَعُ أَيْضًا مَنْ كَلَّمَهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّهُمْ يَسْمَعُونَ قَرْعَ نِعَالِهِمْ» . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ الْمَيِّتَ يُسْأَلُ فِي قَبْرِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّك؟ وَمَا دِينُك؟ وَمَنْ نَبِيُّك؟ فَيُثَبِّتُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فَيَقُولُ: اللَّهُ رَبِّي. وَالْإِسْلَامُ دِينِي وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّي - وَيُقَالُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ» . «وَهَذَا تَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] . وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ» . وَكَذَلِكَ يَتَكَلَّمُ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ: آهْ آهْ لَا أَدْرَى سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته، فَيُضْرَبُ بِمِرْزَبَّةٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْإِنْسَانُ. وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ، أَنَّهُ قَالَ: «لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَسَأَلْت اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ عَذَابَ الْقَبْرِ مِثْلَ الَّذِي أَسْمَعُ» . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ نَادَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ لَمَّا أَلْقَاهُمْ فِي الْقَلِيبِ، قَالَ: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ» . وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ مُنْتَشِرَةٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب النكاح

[كِتَابُ النِّكَاحِ] [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ أَصَابَهُ سِهَامُ إبْلِيسَ الْمَسْمُومَةُ] ِ 399 - 1 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ أَصَابَهُ سِهَامُ إبْلِيسَ الْمَسْمُومَةُ؟ الْجَوَابُ: مَنْ أَصَابَهُ جُرْحٌ مَسْمُومٌ فَعَلَيْهِ مِمَّا يُخْرِجُ السُّمَّ وَيُبْرِئُ الْجُرْحَ بِالتِّرْيَاقِ وَالْمَرْهَمِ وَذَلِكَ بِأُمُورٍ مِنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْ يَتَسَرَّى، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ فَإِنَّمَا مَعَهَا مِثْلُ مَا مَعَهَا» . وَهَذَا مِمَّا يُنْقِصُ الشَّهْوَةَ وَيُضْعِفُ الْعِشْقَ ". الثَّانِي: أَنْ يُدَاوِمَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَقْتَ السَّحَرِ وَتَكُونُ صَلَاتُهُ بِحُضُورِ قَلْبٍ وَخُشُوعٍ وَلْيُكْثِرْ مِنْ الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك. يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قَلْبِي إلَى طَاعَتِك وَطَاعَةِ رَسُولِك، فَإِنَّهُ مَتَى أَدْمَنَ الدُّعَاءَ وَالتَّضَرُّعَ لِلَّهِ صُرِفَ قَلْبُهُ عَنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] . الثَّالِثُ: أَنْ يَبْعُدَ عَنْ سَكَنِ هَذَا الشَّخْصِ، وَالِاجْتِمَاعِ بِمَنْ يَجْتَمِعُ بِهِ، بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ لَهُ خَبَرًا وَلَا يَقَعُ لَهُ عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَرٍ، فَإِنَّ الْبُعْدَ جَفَى. وَمَتَى قَلَّ الذِّكْرُ ضَعُفَ الْأَثَرُ فِي الْقَلْبِ، فَيَفْعَلُ هَذِهِ الْأُمُورَ وَلْيُطَالِعْ بِمَا تَجَدَّدَ لَهُ مِنْ الْأَحْوَالِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

مسألة شروط النكاح

[مَسْأَلَةٌ شُرُوط النِّكَاحِ] مَسْأَلَةٌ: فِي شُرُوطِ النِّكَاحِ مَنْ شَرَطَ أَنَّهُ لَا تَتَزَوَّجُ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَلَا يَتَسَرَّى وَلَا يُخْرِجُهَا مِنْ دَارِهَا أَوْ مِنْ بَلَدِهَا، فَإِذَا شَرَطَتْ عَلَى الزَّوْجِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَاتَّفَقَا عَلَيْهَا وَخَلَا الْعَقْدُ عَنْ ذِكْرِهَا، هَلْ تَكُونُ صَحِيحَةً لَازِمَةً يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا كَالْمُقَارَنَةِ أَوْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَعَمْ تَكُونُ صَحِيحَةً لَازِمَةً إذَا لَمْ يُبْطِلَاهَا، حَتَّى لَوْ قَارَنَتْ عَقْدَ الْعَقْدِ، هَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْإِمَامِ مَالِكٍ، وَغَيْرِهِمَا فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ. وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَخْرُجُ مِنْ مَسْأَلَةِ صَدَاقِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَهَكَذَا يَطْرُدُهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي الْعِبَارَاتِ، فَإِنَّ النِّيَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عِنْدَهُمَا كَالْمُقَارَنَةِ، وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ قَوْلٌ ثَانٍ: أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُتَقَدِّمَةَ لَا تُؤَثِّرُ، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْطِ الَّذِي يَجْعَلُ الْعَقْدَ غَيْرَ مَقْصُودٍ، كَالتَّوَاطُؤِ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ تَلْجِئَةٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَبَيْنَ الشَّرْطِ الَّذِي لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا، كَاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا غَايَةُ نُصُوصِ أَحْمَدَ وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ وَمُحَقِّقِي الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى أَنَّ الشُّرُوطَ وَالْمُوَاطَأَةَ الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَبْلَ الْعَقْدِ إذَا لَمْ يَفْسَخَاهَا حَتَّى عَقَدَا الْعَقْدَ، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ مُقَيَّدًا بِهَا، وَعَلَى هَذَا جَوَابُ أَحْمَدَ فِي مَسَائِلِ الْحِيَلِ فِي الْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالْقَرْضِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا كَثِيرٌ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِهِ وَكَلَامِ أَصْحَابِهِ تَضْيِيقُ الْفَتْوَى عَنْ تَعْدِيدِ أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ، وَكَثِيرٌ فِيهَا مَشْهُورٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ أَدْنَى خِبْرَةٍ بِأُصُولِ أَحْمَدَ وَنُصُوصِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَقَدْ قَرَّرْنَا دَلَائِلَ ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ، وَأُصُولِ الشَّرِيعَةِ فِي مَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ الْعُقُودَ الَّتِي كَانَتْ تَجْرِي بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِ، مِثْلَ عَقْدِ الْبَيْعَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَنْصَارِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَعَقْدِ الْهُدْنَةِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، عَلِمَ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى الشُّرُوطِ، ثُمَّ عَقَدُوا الْعَقْدَ بِلَفْظٍ مُطْلَقٍ، وَكَذَلِكَ عَامَّةُ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي الْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ وَالشُّرُوطِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْغَدْرِ، وَالثَّلَاثُ تَتَنَاوَلُ ذَلِكَ تَنَاوُلًا وَاحِدًا، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ مُتَّفِقُونَ عَلَى التَّسْمِيَةِ، وَالْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةُ تُوَافِقُ ذَلِكَ.

مسألة تزوجت ثم بان أنه كان لها زوج

[مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَتْ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ لَهَا زَوْجٌ] مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ لَهَا زَوْجٌ فَفَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، فَهَلْ لَهَا مَهْرٌ؟ وَهَلْ هُوَ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ؟ الْجَوَابُ: إذَا عَلِمَتْ أَنَّهَا مُزَوَّجَةٌ وَلَمْ تَسْتَشْعِرْ لَا مَوْتَهُ وَلَا طَلَاقَهُ، فَهَذِهِ زَانِيَةٌ مُطَاوِعَةٌ، لَا مَهْرَ لَهَا، وَإِذَا اعْتَقَدَتْ مَوْتَهُ أَوْ طَلَاقَهُ فَهُوَ وَطْءُ شُبْهَةٍ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ، فَلَهَا الْمَهْرُ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ أَنَّ لَهَا الْمُسَمَّى، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ؛ أَنَّ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ لَهُ بِنْتٌ دُونَ الْبُلُوغِ فَزَوَّجُوهَا فِي غَيْبَةِ أَبِيهَا] 402 - 4 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ بِنْتٌ وَهِيَ دُونَ الْبُلُوغِ، فَزَوَّجُوهَا فِي غَيْبَةِ أَبِيهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ، وَجَعَلُوا أَنَّ أَبَاهَا تُوُفِّيَ وَهُوَ حَيٌّ، وَشَهِدُوا أَنَّ خَالَهَا أَخُوهَا، فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إذَا شَهِدُوا أَنَّ خَالَهَا أَخُوهَا، فَهَذِهِ شَهَادَةُ زُورٍ، وَلَا يَصِيرُ الْخَالُ وَلِيًّا بِذَلِكَ، بَلْ هَذِهِ قَدْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، فَيَكُونُ نِكَاحُهَا بَاطِلًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ، كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، وَلِلْأَبِ أَنْ يُجَدِّدَهُ، وَمَنْ شَهِدَ أَنَّ خَالَهَا أَخُوهَا، وَأَنَّ أَبَاهَا مَاتَ فَهُوَ شَاهِدُ زُورٍ، يَجِبُ تَعْزِيرُهُ، وَيُعَزَّرُ الْخَالُ، إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْأَبُ فِي عِدَّةِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ بُنَيَّة دُونَ الْبُلُوغِ وَحَضَرَ مَنْ يَرْغَبُ فِي تَزْوِيجِهَا] 403 - 5 - مَسْأَلَةٌ: فِي بُنَيَّةٍ دُونَ الْبُلُوغِ وَحَضَرَ مَنْ يَرْغَبُ فِي تَزْوِيجِهَا فَهَلْ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُزَوِّجَهَا أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ: إذَا كَانَ الْخَاطِبُ لَهَا كُفُؤًا جَازَ تَزْوِيجُهَا فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: تُزَوَّجُ بِلَا أَمْرِهَا وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ، كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ:

مسألة يتيمة حضر من يرغب في تزويجها ولها أملاك

إذَا بَلَغَتْ تِسْعَ سِنِينَ زُوِّجَتْ بِإِذْنِهَا وَلَا خِيَارَ لَهَا إذَا بَلَغَتْ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ، وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَتَزْوِيجُ الْيَتِيمَةِ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} [النساء: 127] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَتِيمَةِ الَّتِي يَرْغَبُ وَلِيُّهَا أَنْ يُنْكِحَهَا إذَا كَانَ لَهَا مَالٌ، وَلَا يُنْكِحَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ حَتَّى يَقْسِطُوا لَهُنَّ فِي الصَّدَاقِ، فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُنْكِحَ الْيَتِيمَةَ إذَا أَصْدَقَهَا صَدَاقَ الْمِثْلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ يَتِيمَة حَضَرَ مَنْ يَرْغَبُ فِي تَزْوِيجِهَا وَلَهَا أَمْلَاكٌ] 404 - 6 - مَسْأَلَةٌ: فِي يَتِيمَةٍ حَضَرَ مَنْ يَرْغَبُ فِي تَزْوِيجِهَا، وَلَهَا أَمْلَاكٌ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَ مِنْ عَقَارِهَا شَيْئًا وَيَصْرِفُ ثَمَنَهُ فِي جِهَازٍ وَقُمَاشٍ لَهَا وَحُلِيٍّ يَصْلُحُ لِمِثْلِهَا أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَبِيعَ مِنْ عَقَارِهَا مَا يُجَهِّزُهَا بِهِ، وَيُجَهِّزُهَا الْجِهَازَ الْمَعْرُوفَ، وَالْحُلِيَّ الْمَعْرُوفَ. [مَسْأَلَةٌ لَهُ جَارِيَةٌ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَ بِهَا وَمَاتَ ثُمَّ خَطَبَهَا مَنْ يَصْلُحُ] 405 - 7 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ، وَقَدْ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَ بِهَا وَمَاتَ، ثُمَّ خَطَبَهَا مَنْ يَصْلُحُ، فَهَلْ لِأَوْلَادِ سَيِّدِهَا أَنْ يُزَوِّجُوهَا. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ: إذَا خَطَبَهَا مَنْ يَصْلُحُ لَهَا فَعَلَى أَوْلَادِ سَيِّدِهَا أَنْ يُزَوِّجُوهَا،

مسألة تزوج بكرا فوجدها مستحاضة

فَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ أَوْ عَصَبَةُ الْمُعْتِقِ إنْ كَانَ لَهُ عَصَبَةٌ غَيْرُ أَوْلَادِهِ. لَكِنْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُقَدِّمُ الْحَاكِمَ إذَا عَضَلَ الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ الْعَصَبَةَ كَأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ زَوَّجَ الْحَاكِمُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَلَوْ امْتَنَعَ الْعَصَبَةُ كُلُّهُمْ زَوَّجَ الْحَاكِمُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِذَا أَذِنَ الْعَصَبَةُ لِلْحَاكِمِ جَازَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ بِكْرًا فَوَجَدَهَا مُسْتَحَاضَةً] 406 - 8 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِكْرًا فَوَجَدَهَا مُسْتَحَاضَةً لَا يَنْقَطِعُ دَمُهَا مِنْ بَيْتِ أُمِّهَا، وَأَنَّهُمْ غَرَوْهُ، فَهَلْ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ وَيَرْجِعُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ بِالصَّدَاقِ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى أُمِّهَا وَأَبِيهَا يَمِينٌ إذَا أَنْكَرُوا أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَكُونُ لَهُ وَطْؤُهَا أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: هَذَا عَيْبٌ يَثْبُتُ بِهِ فَسْخُ النِّكَاحِ فِي أَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْوَطْءُ مَعَهُ إلَّا بِضَرَرٍ يَخَافُهُ وَأَذًى يَحْصُلُ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ وَطْءَ الْمُسْتَحَاضَةِ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَمَا يَمْنَعُ الْوَطْءَ حِسًّا كَاسْتِدَادِ الْفَرْجِ، أَوْ طَبْعًا كَالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ يَثْبُتُ الْفَسْخُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، كَمَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ. وَأَمَّا مَا يَمْنَعُ كَمَالَ الْوَطْءِ كَالنَّجَاسَةِ فِي الْفَرْجِ فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ، وَالْمُسْتَحَاضَةُ أَشَدُّ مِنْ غَيْرِهَا، وَإِذَا فُسِخَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ فُسِخَ بَعْدَهُ قِيلَ: إنَّ الصَّدَاقَ يَسْتَقِرُّ بِمِثْلِ هَذِهِ الْخَلْوَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ. وَقِيلَ لَا يَسْتَقِرُّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ مَنْ ادَّعَى الْغُرُورَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَغُرَّهُ. وَوَطْءُ الْمُسْتَحَاضَةِ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ، وَقِيلَ: يَجُوزُ وَطْؤُهَا كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَلَهُ الْخِيَارُ مَا لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا خِيَارَ لَهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْجَهْلَ، فَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ؟ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَالْأَظْهَرُ ثُبُوتُ الْفَسْخِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة زوج ابنة أخيه من ابنه والزوج فاسق لا يصلي

[مَسْأَلَةٌ زَوَّجَ ابْنَةَ أَخِيهِ مِنْ ابْنِهِ وَالزَّوْجُ فَاسِقٌ لَا يُصَلِّي] مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ زَوَّجَ ابْنَةَ أَخِيهِ مِنْ ابْنِهِ، وَالزَّوْجُ فَاسِقٌ لَا يُصَلِّي وَخَوَّفَهَا حَتَّى أَذِنَتْ فِي النِّكَاحِ، وَقَالُوا: إنْ لَمْ تَأْذَنِي وَإِلَّا زَوَّجَك الشَّرْعُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِك، وَهُوَ الْآنَ يَأْخُذُ مَالَهَا، وَيَمْنَعُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا لِكَشْفِ حَالِهَا كَأُمِّهَا وَغَيْرِهَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ: لَيْسَ لِلْعَمِّ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُزَوِّجَ مُوَلِّيَتَهُ بِغَيْرِ كُفْءٍ. إذَا لَمْ تَكُنْ رَاضِيَةً بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، بَلْ لَوْ رَضِيَتْ هِيَ بِغَيْرِ كُفُؤٍ كَانَ لِوَلِيٍّ آخَرَ غَيْرِ الْمُزَوِّجِ أَنْ يَفْسَخَ النِّكَاحَ، وَلَيْسَ لِلْعَمِّ أَنْ يُكْرِهَ الْمَرْأَةَ الْبَالِغَةَ عَلَى النِّكَاحِ بِكُفْءٍ، فَكَيْفَ إذَا أَكْرَهَهَا عَلَى التَّزَوُّجِ بِغَيْرِ كُفُؤٍ؟ بَلْ لَا يُزَوِّجُهَا إلَّا مِمَّنْ تَرْضَاهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا قَالَ لَهَا إنْ لَمْ تَأْذَنِي وَإِلَّا زَوَّجَك الشَّرْعُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِك، فَأَذِنَتْ بِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْإِذْنُ وَلَا النِّكَاحُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ لَا يُمَكِّنُ غَيْرَ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنْ إجْبَارِ الْكَبِيرَةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَبِ وَالْجَدِّ فِي الْكَبِيرَةِ وَفِي الصَّغِيرَةِ مُطْلَقًا، وَإِذَا تَزَوَّجَهَا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِمَا يَجِبُ لَهَا وَلَا يَتَعَدَّى عَلَيْهَا فِي نَفْسِهَا وَلَا مَالِهَا وَمَا أَخَذَهُ مِنْ ذَلِكَ ضَمِنَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يَكْشِفُ حَالَهَا إذَا اشْتَكَتْ، بَلْ إمَّا أَنْ يُمَكِّنَ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَيَكْشِفُ كَالْأُمِّ وَغَيْرِهَا، وَإِمَّا أَنْ يَسْكُنَ بِجَنْبِ جِيرَانٍ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالدِّينِ يَكْشِفُونَ حَالَهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ يَتِيمَة طَلَبَهَا وَكِيل عَلَى جَبَهَاتِ الْمَدِينَةِ وَزَوْجُ أُمِّهَا كَارِهٌ لَهُ] 408 - 10 - مَسْأَلَةٌ: فِي بِنْتٍ يَتِيمَةٍ وَقَدْ طَلَبَهَا رَجُلٌ وَكِيلٌ عَلَى جَبَهَاتِ الْمَدِينَةِ وَزَوْجُ أُمِّهَا كَارِهٌ فِي الْوَكِيلِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهَا عَمُّهَا وَأَخُوهَا بِلَا إذْنٍ مِنْهَا أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ: الْمَرْأَةُ الْبَالِغُ لَا يُزَوِّجُهَا غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ بِغَيْرِ إذْنِهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، بَلْ وَكَذَلِكَ لَا يُزَوِّجُهَا الْأَبُ إلَّا بِإِذْنِهَا فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، بَلْ فِي أَصَحِّهِمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي أَحَدِ الرِّوَايَتَيْنِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ وَلَا الْبِنْتُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْبِكْرَ

مسألة تزوج امرأة بولاية أجنبي ووليها في مسافة القصر

تَسْتَحِي، قَالَ: إذْنُهَا صُمَاتُهَا» ، وَفِي لَفْظٍ: «يَأْذَنُهَا أَبُوهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا» . وَأَمَّا الْعَمُّ وَالْأَخُ فَلَا يُزَوِّجُونَهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَإِذَا رَضِيَتْ رَجُلًا وَكَانَ كُفُؤًا لَهَا وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهَا كَالْأَخِ ثُمَّ الْعَمِّ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِهِ، فَإِنْ عَضَلَهَا وَامْتَنَعَ مِنْ تَزْوِيجِهَا، زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ الْأَبْعَدُ مِنْهُ، وَالْحَاكِمُ بِغَيْرِ إذْنِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. فَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُجْبِرَهَا عَلَى نِكَاحِ مَنْ لَا تَرْضَاهُ وَلَا يُعْضِلُهَا عَنْ نِكَاحِ مَنْ تَرْضَاهُ إذَا كَانَ كُفُؤًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَإِنَّمَا يُجْبِرُهَا وَيُعْضِلُهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَالظُّلْمِ الَّذِينَ يُزَوِّجُونَ نِسَاءَهُمْ لِمَنْ يَخْتَارُونَهُ لِغَرَضٍ، لَا لِمَصْلَحَةِ الْمَرْأَةِ، وَيُكْرِهُونَهَا عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُخْجِلُونَهَا حَتَّى تَفْعَلَ، وَيَعْضُلُونَهَا عَنْ نِكَاحِ مَنْ يَكُونُ كُفُؤًا لَهَا لِعَدَاوَةٍ أَوْ غَرَضٍ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَهُوَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَأَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى أَوْلِيَاءِ النِّسَاءِ أَنْ يَنْظُرُوا فِي مَصْلَحَةِ الْمَرْأَةِ، لَا فِي أَهْوَائِهِمْ كَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْوُكَلَاءِ، فَمَنْ تَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَقْصِدُ مَصْلَحَةَ مَنْ تَصَرَّفَ لَهُ لَا يَقْصِدُ هَوَاهُ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْأَمَانَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُؤَدَّى إلَى أَهْلِهَا فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] . وَهَذَا مِنْ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ امْرَأَة بِوِلَايَةِ أَجْنَبِيّ وَوَلِيُّهَا فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ] 409 - 11 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِوِلَايَةِ أَجْنَبِيٍّ، وَوَلِيُّهَا فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ

مسألة كان له سرية بكتاب ثم توفي وله ابن ابن

مُعْتَقِدًا أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ الْمَذْكُورَ حَاكِمٌ عَلَيْهَا، وَدَخَلَ بِهَا وَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ أَرَادَ رَدَّهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ لِبُطْلَانِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَتَرَتَّبُ إسْقَاطُ الْحَدِّ وَوُجُوبُ الْمَهْرِ وَيَلْحَقُ النَّسَبُ وَالْإِحْصَانُ؟ الْجَوَابُ: لَا يَجِبُ فِي هَذَا النِّكَاحِ حَدٌّ إذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ، بَلْ يُلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ وَيَجِبُ فِيهِ الْمَهْرُ، وَلَا يَحْصُلُ الْإِحْصَانُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ إذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ، إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُزَوِّجَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ بِحَالٍ، فَفَارَقَهَا الزَّوْجُ حِينَ عَلِمَ ذَلِكَ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ، وَالْحَالُ هَذِهِ، وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ كَانَ لَهُ سَرِيَّةٌ بِكِتَابٍ ثُمَّ تُوُفِّيَ وَلَهُ ابْنُ ابْنٍ] 410 - 12 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ كَانَ لَهُ سَرِيَّةٌ بِكِتَابٍ، ثُمَّ تُوُفِّيَ إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَهُ ابْنُ ابْنٍ، وَقَدْ تَزَوَّجَ سَرِيَّةً جَدِّهِ الْمَذْكُورِ، فَهَلْ يَحِلُّ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ لَهُ تَزْوِيجُ سَرِيَّةِ جَدِّهِ الَّتِي كَانَ يَطَؤُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ إذَا تَزَوَّجَهَا، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَحِلُّ إبْقَاؤُهُ مَعَهَا إنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ اُسْتُتِيبَ ثَلَاثًا، فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا قُتِلَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ يَتِيمَةً وَشَهِدَتْ أُمُّهَا بِبُلُوغِهَا] 411 - 13 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ يَتِيمَةً، وَشَهِدَتْ أُمُّهَا بِبُلُوغِهَا، فَمَكَثَتْ فِي صُحْبَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ بَانَتْ مِنْهُ بِالثَّلَاثِ، ثُمَّ شَهِدَتْ أَخَوَاتُهَا وَنِسَاءٌ أُخَرُ أَنَّهَا مَا بَلَغَتْ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ الزَّوْجِ بِهَا بِتِسْعَةِ أَيَّامٍ، وَشَهِدَتْ أُمُّهَا بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَالْأُمُّ مَاتَتْ، وَالزَّوْجُ يُرِيدُ الْمُرَاجَعَةَ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: أَنَّ نِكَاحَ هَذِهِ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ

مسألة لها أب وأخ ووكيل أبيها في النكاح وغيره حاضر

الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَقْبُحُ، فَإِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ حِينَ كَانَ يَطَؤُهَا وَيَسْتَمْتِعُ بِهَا، حَتَّى إذَا طَلُقَتْ ثَلَاثًا أَخَذُوا يَسْعَوْنَ فِيمَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ حَتَّى لَا يُقَالُ: إنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ، وَهَذَا مِنْ الْمُضَادَّةِ لِلَّهِ فِي أَمْرِهِ، فَإِنَّهُ حِينَ كَانَ الْوَطْءُ حَرَامًا لَمْ يَتَحَرَّ، وَلَمْ يَسْأَلْ، فَلَمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ أَخَذَ يَسْأَلُ عَمَّا يُبَاحُ بِهِ الْوَطْءُ وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ فِي الْمُحَرَّمِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ فَاسِقٌ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ نِكَاحُهَا الْأَوَّلُ صَحِيحًا، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا، فَالطَّلَاقُ الثَّلَاثُ وَاقِعٌ، وَالْوَطْءُ قَبْلَ نِكَاحِ زَوْجٍ غَيْرِهِ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ فِيهِ حَرَامًا، وَهَذَا الزَّوْجُ لَمْ يَتُبْ مِنْ ذَلِكَ الْوَطْءِ، وَإِنَّمَا سَأَلَ حِينَ طَلَّقَ لِئَلَّا يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ فَكَانَ سُؤَالُهُمْ عَمَّا بِهِ يَحْرُمُ الْوَطْءُ الْأَوَّلُ، لِأَجْلِ اسْتِحْلَالِ الْوَطْءِ الثَّانِي. وَهَذِهِ الْمُضَادَّةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالسَّعْيُ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَجْتَنِبْهَا، وَلْيَحْفَظْ حُدُودَ اللَّهِ، فَإِنَّ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ لَهَا أَبٌ وَأَخٌ وَوَكِيلُ أَبِيهَا فِي النِّكَاحِ وَغَيْرُهُ حَاضِرٌ] 412 - 14 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ لَهَا أَبٌ وَأَخٌ وَوَكِيلُ أَبِيهَا فِي النِّكَاحِ وَغَيْرُهُ حَاضِرٌ، فَذَهَبَ إلَى الشُّهُودِ، وَغَيَّرَتْ اسْمَهَا وَاسْمَ أَبِيهَا، وَادَّعَتْ أَنَّ لَهَا مُطَلِّقًا يُرِيدُ تَجْدِيدَ النِّكَاحِ، وَأَحْضَرَتْ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَخُوهَا، فَكَتَبَتْ الشُّهُودُ كِتَابَهَا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ مَا فَعَلَتْهُ، وَثَبَتَ ذَلِكَ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَهَلْ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ؟ وَهَلْ يَجِبُ تَعْزِيرُ الْمُعَرِّفِينَ، وَاَلَّذِي ادَّعَى أَنَّهُ أَخُوهَا، وَاَلَّذِي عَرَّفَ الشُّهُودَ بِمَا ذُكِرَ؟ وَهَلْ يَخْتَصُّ التَّعْزِيرُ بِالْحَاكِمِ أَوْ يُعَزِّرُهُمْ وَلِيُّ الْأَمْرِ مَنْ يَحْتَسِبُ وَغَيْرُهُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، يُعَزَّرُ تَعْزِيرًا بَلِيغًا لَوْ عَزَّرَهَا وَلِيُّ الْأَمْرِ مَرَّاتٍ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا، كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُكَرِّرُ التَّعْزِيرَ فِي الْفِعْلِ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، فَكَانَ يُعَزِّرُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِائَةً، وَفِي الثَّانِي مِائَةً، وَفِي الثَّالِثِ مِائَةً، يُفَرِّقُ التَّعْزِيرُ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى فَسَادِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ ادَّعَتْ إلَى غَيْرِ أَبِيهَا، وَاسْتَخْلَفَتْ أَخَاهَا، وَهَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ:

«مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» . بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ سَعْدٍ وَأَبِي بَكْرَةَ، أَنَّهُمَا سَمِعَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ» . وَثَبَتَ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ إلَّا كَفَرَ، وَمَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ، وَمَنْ رَمَى رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ عَدُوُّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إلَّا جَارَ عَلَيْهِ» . وَهَذَا تَغْلِيظٌ عَظِيمٌ يَقْتَضِي أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً عَظِيمَةً يَسْتَحِقُّ فِيهَا مِائَةَ سَوْطٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الشُّهُودِ وَأَوْقَعَتْهُمْ فِي الْعُقُودِ الْبَاطِلَةِ، وَنَكَحَتْ نِكَاحًا بَاطِلًا، فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: النِّكَاحُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ بَاطِلٌ، يُعَزِّرُونَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ اقْتِدَاءً بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ. بَلْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يُقِيمُونَ الْحَدَّ فِي ذَلِكَ بِالرَّجْمِ وَغَيْرِهِ، وَمَنْ جَوَّزَ النِّكَاحَ بِلَا وَلِيٍّ مُطْلَقًا أَوْ فِي الْمَدِينَةِ، فَلَمْ يُجَوِّزْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ دَعْوَى النَّسَبِ الْكَاذِبِ وَإِقَامَةِ الْوَلِيِّ الْبَاطِلِ، فَكَانَ عُقُوبَةُ هَذِهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَعَاقَبَ أَيْضًا عَلَى كَذِبِهَا، وَكَذَلِكَ الدَّعْوَى أَنَّهُ كَانَ زَوَّجَهَا وَطَلَّقَهَا، وَيُعَاقَبُ الزَّوْجُ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ الَّذِي ادَّعَى أَنَّهُ أَخُوهَا يُعَاقَبُ عَلَى هَذَيْنِ الرِّيبَتَيْنِ. وَأَمَّا الْمُعَرِّفُونَ بِهِمْ يُعَاقَبُونَ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ بِالنَّسَبِ لَهَا وَالتَّزْوِيجِ وَالتَّطْلِيقِ وَعَدَمِ وَلِيٍّ حَاضِرٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُبَالَغَ فِي عُقُوبَةِ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ

مسألة تزوج امرأة مدة سنة ولم يدخل بها وطلقها قبل الإصابة

شَاهِدَ الزُّورِ يُسَوَّدُ وَجْهُهُ، بِمَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّدُ وَجْهَهُ إشَارَةً إلَى سَوَادِ وَجْهِهِ بِالْكَذِبِ، وَأَنَّهُ كَانَ يُرْكِبُهُ دَابَّةً مَقْلُوبًا إلَى خَلْفٍ، إشَارَةً إلَى أَنَّهُ قَلَبَ الْحَدِيثَ، وَيُطْلَقُ بِهِ حَتَّى يُشْهِرَهُ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُ شَاهِدُ زُورٍ، وَتَعْزِيرُ هَؤُلَاءِ لَيْسَ يَخْتَصُّ بِالْحَاكِمِ، بَلْ يُعَزِّرُهُ الْحَاكِمُ وَالْمُحْتَسِبُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ الْقَادِرِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا فَسَادٌ كَثِيرٌ فِي النِّسَاءِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ امْرَأَة مُدَّة سَنَةٍ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَطَلَّقَهَا قَبْل الْإِصَابَةِ] 413 - 15 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ مِنْ مُدَّةِ سَنَةٍ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الْإِصَابَةِ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ بِالْأُمِّ بَعْدَ طَلَاقِ الْبِنْتِ؟ الْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ أُمِّ امْرَأَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ بِكْرًا بِوِلَايَةِ أَبِيهَا وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ حِينَ الْعَقْدِ] 414 - 16 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِكْرًا بِوِلَايَةِ أَبِيهَا، وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ حِينَ الْعَقْدِ، وَكَانَ قَدَّمَ الْعَقْدَ عَلَيْهَا لِزَوْجٍ قَبْلَهُ، وَطَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إصَابَةٍ، ثُمَّ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ الثَّانِي فَوَجَدَهَا بِنْتًا، فَكَتَمَ ذَلِكَ وَحَمَلَتْ الزَّوْجَةُ مِنْهُ، وَاسْتَقَرَّ الْحَالُ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا عَلِمَ الزَّوْجُ أَنَّهَا لَمْ تُسْتَأْذَنْ الْعَقْدَ عَلَيْهَا سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، قِيلَ لَهُ: إنَّ الْعَقْدَ مَفْسُوخٌ لِكَوْنِهَا بِنْتًا، وَلَمْ تُسْتَأْذَنْ، فَهَلْ يَكُونُ الْعَقْدُ مَفْسُوخًا وَالْوَطْءُ شُبْهَةً وَيَلْزَمُ تَجْدِيدُ الْعَقْدِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: أَمَّا إذَا كَانَتْ ثَيِّبًا مِنْ زَوْجٍ، وَهِيَ بَالِغٌ فَهَذِهِ لَا تُنْكَحُ إلَّا بِإِذْنِهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَلَكِنْ إذَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهَا ثُمَّ أَجَازَتْ الْعَقْدَ، جَازَ ذَلِكَ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ وَلَمْ يَجُزْ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ

مسألة خلاها أخوها في مكان لتوفي عدة زوجها

وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا مِنْ زِنًا فَهِيَ كَالثَّيِّبِ مِنْ النِّكَاحِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهَا كَالْبِكْرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسِهِ وَمَالِكٍ، وَإِنْ كَانَتْ الْبَكَارَةُ زَالَتْ بِوَثْبَةٍ أَوْ بِإِصْبَعٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْبِكْرِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، إذَا كَانَتْ بِكْرًا فَالْبِكْرُ يُجْبِرُهَا أَبُوهَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَتْ بَالِغَةً فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، فِي الْأُخْرَى وَهِيَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ، أَنَّ الْأَبَ لَا يُجْبِرُهَا إذَا كَانَتْ بَالِغًا، وَهَذَا أَصَحُّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَوَاهِدُ الْأُصُولِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: إذَا اخْتَارَتْ هِيَ الْعَقْدُ جَازَ وَإِلَّا يَحْتَجْ إلَى اسْتِئْنَافٍ، وَقَدْ يُقَالُ: هُوَ الْأَقْوَى هُنَا لَا سِيَّمَا وَالْأَبُ إنَّمَا عَقَدَ مُعْتَقِدًا أَنَّهَا بِكْرٌ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْذَانِهَا، فَإِذَا كَانَتْ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَانَ مَعْذُورًا، فَإِذَا اخْتَارَتْ هِيَ النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ، وَوَقْفُ الْعَقْدِ عَلَى الْإِجَازَةِ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَظْهَرُ فِيهِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ بَعْضِهَا وَبَعْضٍ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. [مَسْأَلَةٌ خَلَاهَا أَخُوهَا فِي مَكَان لِتُوفِي عِدَّةَ زَوْجِهَا] 415 - 17 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ خَلَاهَا أَخُوهَا فِي مَكَان لِتُوفِي عِدَّةَ زَوْجِهَا، فَلَمَّا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ هَرَبَتْ إلَى بَلَدٍ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَتَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ أَخِيهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ غَيْرُهُ، فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إذَا لَمْ يَكُنْ أَخُوهَا عَاضِلًا لَهَا، وَكَانَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ، لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهَا بِدُونِ إذْنِهِ، وَالْحَالُ هَذِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ لَا يُجْبِرُهَا عَلَى الزَّوَاج غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ] 416 - 18 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِنْتًا وَهِيَ يَتِيمَةٌ، وَعَقَدَ عَقْدَهَا الشَّافِعِيُّ وَلَمْ تُدْرِكْ إلَّا بَعْدَ الْعَقْدِ بِشَهْرَيْنِ، فَهَلْ يَجُوزُ عَقْدُ نِكَاحِهَا؟

مسألة تزوج امرأة وتزوج ابنه بأمها

الْجَوَابُ: الْبِنْتُ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ، لَا يُجْبِرُهَا عَلَى تَزْوِيجِهَا غَيْرُ: الْأَبِ، وَالْجَدِّ، وَالْأَخِ، وَالْعَمِّ، وَالسُّلْطَانِ الَّذِي هُوَ الْحَاكِمُ، أَوْ نُوَّابُ الْحَاكِمِ، فِي الْعُقُودِ لِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: إحْدَاهُنَّ: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ النِّكَاحُ بِلَا إذْنِهَا، وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تُزَوَّجُ بِإِذْنِهَا، وَلَا خِيَارَ لَهَا إذَا بَلَغَتْ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، فَهَذِهِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ يَجُوزُ نِكَاحُهَا فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، وَلَوْ زَوَّجَهَا حَاكِمٌ يَرَى ذَلِكَ، فَهَلْ يَكُونُ تَزْوِيجُهُ حُكْمًا لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ أَوْ يَفْتَقِرُ إلَى حَاكِمٍ يَحْكُمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ، عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ، لَكِنَّ الْحَاكِمَ الْمُزَوِّجَ هُنَا شَافِعِيٌّ، فَإِنْ قَلَّدَ قَوْلَ مَنْ يُصَحِّحُ هَذَا النِّكَاحِ وَرَاعَى سَائِرَ شُرُوطِهِ، وَكَانَ مِمَّنْ لَهُ ذَلِكَ جَازَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَقْدَمَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ كَانَ فِعْلُهُ غَيْرَ جَائِزٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ ظَنَّهَا بَالِغًا تَزَوَّجَهَا فَكَانَ غَيْرَ بَالِغٍ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ قَدْ زَوَّجَهَا، وَلَا يَكُونُ النِّكَاحُ صَحِيحًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَتَزَوَّجَ ابْنُهُ بِأُمِّهَا] 417 - 19 - مَسْأَلَةٌ: جَدَّتِي أُمُّهُ وَأَبِي جَدُّهُ ... وَأَنَا عَمَّةٌ لَهُ وَهُوَ خَالِي أَفْتِنَا يَا إمَامُ يَرْحَمُك اللَّهُ ... وَيَكْفِيك حَادِثَاتُ اللَّيَالِي الْجَوَابُ: رَجُلٌ زَوَّجَ ابْنَهُ أُمَّ بِنْتٍ ... وَأَتَى الْبِنْتُ بِالنِّكَاحِ الْحَلَالِ فَأَتَتْ مِنْهُ بِبِنْتٍ قَالَتْ الشُّعَرَاءُ ... وَقَالَتْ لِابْنِ هَاتِيك خَالِي رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَتَزَوَّجَ ابْنُهُ بِأُمِّهَا، وُلِدَ لَهُ بِنْتٌ وَلِابْنِهِ ابْنٌ فَبِنْتُهُ هِيَ الْمُخَاطَبَةُ بِالشِّعْرِ، فَجَدَّتُهَا أُمُّ أُمِّهَا هِيَ أُمُّ ابْنِ الِابْنِ زَوْجَةُ الِابْنِ، وَأَبُوهَا جَدُّ ابْنِ ابْنِهِ، وَهِيَ عَمَّتُهُ

مسألة تزوج بامرأة وشرطت عليه أن لا يتزوج عليها

أُخْتُ أَبِيهِ مِنْ الْأَبِ، وَهُوَ خَالُهَا أَخُو أُمِّهَا مِنْ الْأُمِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَشَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا] 418 - 20 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَشَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَلَا يَنْقُلَهَا مِنْ مَنْزِلِهَا، وَأَنْ تَكُونَ عِنْدَ أُمِّهَا، فَدَخَلَ عَلَى ذَلِكَ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ وَإِذَا خَالَفَ هَذِهِ الشُّرُوطَ، فَهَلْ لِلزَّوْجَةِ الْفَسْخُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ تَصِحُّ هَذِهِ الشُّرُوطُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَشُرَيْحٍ الْقَاضِي، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ إذَا شَرَطَ لَهَا إذَا تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ تَسَرَّى أَنْ يَكُونَ أَمْرُهَا بِيَدِهَا، أَوْ رَأْيُهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ صَحَّ هَذَا الشَّرْطُ أَيْضًا، وَمَلَكَتْ الْمَرْأَةُ الْفُرْقَةَ بِهِ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى نَحْوُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَذَلِكَ لِمَا خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنْ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: " مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ "، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تُسْتَحَلُّ بِهِ الْفُرُوجُ الَّتِي هِيَ مِنْ الشُّرُوطِ أَحَقَّ بِالْوَفَاءِ مِنْ غَيْرِهَا، وَهَذَا نَصُّ مِثْلِ هَذِهِ الشُّرُوطِ، لَيْسَ هُنَاكَ شَرْطٌ يُوفِي بِهِ الْإِجْمَاعُ غَيْرَ الصَّدَاقِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الشُّرُوطِ مَعْرُوفٌ. وَأَمَّا شَرْطُ مَقَامِ وَلَدِهَا عِنْدَهَا وَنَفَقَتِهِ عَلَيْهِ، فَهَذَا مِثْلُ الزِّيَادَةِ فِي الصَّدَاقِ، وَالصَّدَاقُ يَحْتَمِلُ مِنْ الْجَهَالَةِ فِيهِ مِنْ النُّصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ مَا لَا يَحْتَمِلُ فِي الثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ، إذْ يَصِحُّ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَكُلُّ جَهَالَةٍ تَنْقُصُ عَنْ جَهَالَةِ الْمِثْلِ تَكُونُ أَحَقَّ بِالْجَوَازِ، لَا سِيَّمَا وَمِثْلُ هَذَا يَجُوزُ فِي الْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْأَجِيرَ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ.

مسألة وجد صغيرة فرباها فلما بلغت زوجها الحاكم له

وَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُ النَّفَقَةِ عَلَى وَلَدِهَا يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَمَتَى لَمْ يَقْبَلْ الشُّرُوطَ، فَتَزَوَّجَ أَوْ تَسَرَّى، فَلَهَا فَسْخُ النِّكَاحِ، لَكِنْ فِي تَوَقُّفِ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ نِزَاعٌ لِكَوْنِهِ صَارَ مُجْتَهَدًا فِيهِ، كَخِيَارِ الْعُنَّةِ وَالْعُيُوبِ، إذْ فِيهِ خِلَافٌ، أَوْ يُقَالُ: لَا يَحْتَاجُ إلَى اجْتِهَادٍ فِي ثُبُوتِهِ، وَإِنْ وَقَعَ نِزَاعٌ فِي الْفَسْخِ بِهِ كَخِيَارِ الْمُتْعَةِ يَثْبُتُ فِي مَوَاضِعِ الْخِلَافِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِلَا حُكْمِ حَاكِمٍ، مِثْلُ أَنْ يُفْسَخَ عَلَى التَّرَاخِي، فَإِنَّ هَذَا فِيهِ خِلَافٌ. وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنْ يُوقَفَ الْفَسْخُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ أَيْضًا، وَلِأَنَّ الْفُرُوجَ يُحْتَاطُ لَهَا فَتُنَاطُ بِأَمْرِ حَاكِمٍ، بِخِلَافِ الْفُسُوخِ فِي الْبَيْعِ. وَالْأَقْوَى أَنَّ الْفَسْخَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حُكْمِ، لَكِنْ إنْ رُفِعَ إلَى حَاكِمٍ يَرَى إمْضَاءَهُ أَمْضَاهُ، وَإِنْ رَأَى إبْطَالَهُ أَبْطَلَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ وَجَدَ صَغِيرَةً فَرَبَّاهَا فَلَمَّا بَلَغَتْ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ لَهُ] 419 - 21 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ وَجَدَ صَغِيرَةً فَرَبَّاهَا، فَلَمَّا بَلَغَتْ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ لَهُ، وَرُزِقَ مِنْهَا أَوْلَادًا، ثُمَّ وُجِدَ لَهَا أَخٌ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَلْ هَذَا النِّكَاحُ صَحِيحٌ؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَ لَهَا أَخٌ غَائِبٌ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً، وَلَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ حِينَئِذٍ لَهَا أَخٌ لِكَوْنِهَا ضَاعَتْ مِنْ أَهْلِهَا حِينَ صِغَرِهَا إلَى مَا بَعْدَ النِّكَاحِ، لَمْ يَبْطُلْ النِّكَاحُ لِلذُّكُورِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ صَغِيرَة دُونَ الْبُلُوغِ مَاتَ أَبُوهَا] 420 - 22 - مَسْأَلَةٌ: فِي صَغِيرَةٍ دُونَ الْبُلُوغِ مَاتَ أَبُوهَا، هَلْ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَوْ نَائِبِهِ أَنْ يُزَوِّجَهَا أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إذَا بَلَغَتْ تِسْعَ سِنِينَ فَإِنَّهُ يُزَوِّجُهَا الْأَوْلِيَاءُ مِنْ الْعَصَبَاتِ وَالْحَاكِمِ وَنَائِبُهُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] .

وَأَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] . قَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا تُشَارِكُهُ فِي مَالِهِ فَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَيُعْطِيَهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ عَلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنْ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ. قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ إنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [النساء: 127] الْآيَةَ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَاَلَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ: {يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء: 127] الْآيَةَ الْأُولَى الَّتِي قَالَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] . قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] رَغْبَةَ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ الَّتِي تَكُونُ فِي حِجْرِهِ، حَيْثُ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ، وَالْحَالِ. وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: إذَا كَانَتْ ذَاتَ مَالٍ وَجَمَالٍ رَغِبُوا فِي نِكَاحِهَا فِي الْمَالِ الصَّدَاقِ، وَإِذَا كَانَتْ مَرْغُوبَةً عَنْهَا فِي قِلَّةِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ رَغِبُوا عَنْهَا، وَأَخَذُوا غَيْرَهَا مِنْ النِّسَاءِ، قَالَ: فَكَمَا يَتْرُكُونَهَا حَتَّى يَرْغَبُوا عَنْهَا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْكِحُوهَا إذَا رَغِبُوا فِيهَا إلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهَا، وَيُعْطُوهَا حَقَّهَا مِنْ الصَّدَاقِ.

مسألة تزويج المماليك بالجوار من غير عتق

فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَهُمْ أَنْ يُزَوِّجُوا الْيَتَامَى مِنْ النِّسَاءِ إذَا فَرَضُوا لَهُنَّ صَدَاقَ مِثْلِهِنَّ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِي تَزْوِيجِهِنَّ بِدُونِ صَدَاقِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، وَدَلَائِلُ ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ، ثُمَّ الْجُمْهُورُ الَّذِينَ جَوَّزُوا إنْكَاحَهَا لَهُمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: أَنَّهَا تُزَوَّجُ بِدُونِ إذْنِهَا، وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: أَنَّهَا لَا تُزَوَّجُ إلَّا بِإِذْنِهَا، وَلَا خِيَارَ لَهَا إذَا بَلَغَتْ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ، كَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا، فَإِنْ سَكَتَتْ فَهُوَ إذْنُهَا وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا، فَإِنْ سَكَتَتْ، فَقَدْ أَذِنَتْ، وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا» . فَهَذِهِ السُّنَّةُ نَصَّ فِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ، الَّذِي هُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ، أَنَّهَا تُزَوَّجُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إنَّهَا لَا تُزَوَّجُ حَتَّى تَبْلُغَ، فَلَا تَصْبِرُ يَتِيمَةٌ، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ صَرِيحٌ فِي دُخُولِ الْيَتِيمَةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ فِي ذَلِكَ، إذْ الْبَالِغَةُ الَّتِي لَهَا أَمْرٌ فِي مَالِهَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَرْضَى بِدُونِ صَدَاقِ الْمِثْلِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ وَحَقِيقَتُهُ، وَلِأَنَّ مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِنْ سُمِّيَ صَاحِبُهُ يَتِيمًا مَجَازًا، فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْيَتِيمَةِ الْبَالِغَةِ دُونَ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ، فَهَذَا لَا يُسَوِّغُ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَيْهِ بِحَالٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَزْوِيج الْمَمَالِيكِ بِالْجِوَارِ مِنْ غَيْرِ عِتْقٍ] 421 - 23 - مَسْأَلَةٌ: فِي تَزْوِيجِ الْمَمَالِيكِ بِالْجِوَارِ مِنْ غَيْرِ عِتْقٍ إذَا كَانُوا لِمَالِكٍ وَاحِدٍ، وَمَنْ يَعْقِدُ طَرَفَيْ النِّكَاحِ فِي الطَّرَفَيْنِ لَهُمَا وَلِأَوْلَادِهِمْ؟ وَهَلْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَسَرَّى بِهِنَّ؟

مسألة حنث من زوجته فنكحت غيره ليحلها للأول

الْجَوَابُ: تَزْوِيجُ الْمَمَالِيكِ بِالْإِمَاءِ جَائِزٌ، سَوَاءٌ كَانُوا لِمَالِكٍ وَاحِدٍ أَوْ لِمَالِكَيْنِ مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى الرِّقِّ، وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ، وَاَلَّذِي يُزَوِّجُ الْأَمَةَ سَيِّدُهَا أَوْ وَكِيلُهُ. وَأَمَّا الْمَمْلُوكُ فَهُوَ يَقْبَلُ النِّكَاحَ لِنَفْسِهِ إذَا كَانَ كَبِيرًا، أَوْ يَقْبَلُ لَهُ وَكِيلُهُ إنْ كَانَ صَغِيرًا، فَسَيِّدُهُ يَقْبَلُ لَهُ، فَإِذَا كَانَ الزَّوْجَانِ لَهُ قَالَ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ: زَوَّجْت مَمْلُوكِي فُلَانًا بِأَمَتِي فُلَانَةَ، وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا الْعَبْدُ الْبَالِغُ، فَهَلْ لِسَيِّدِهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَيُكْرِهُهُ عَلَى ذَلِكَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. وَالثَّانِي: يُجْبِرُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْأَمَةُ وَالْمَمْلُوكُ الصَّغِيرُ يُزَوِّجُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِهِمَا بِالِاتِّفَاقِ. وَأَمَّا الْأَوْلَادُ فَهُمْ تَبَعٌ لِأُمِّهِمْ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، وَهُمْ تَبَعٌ لِأَبِيهِمْ فِي النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ كَانَ سَيِّدَ الْأُمِّ كَانَ أَوْلَادُهَا لَهُ، سَوَاءٌ وُلِدُوا مِنْ زَوْجٍ أَوْ مِنْ زِنًا، كَمَا أَنَّ الْبَهَائِمَ مِنْ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَالْحَمِيرِ إذَا نَزَا ذَكَرُهَا عَلَى أُنْثَاهَا كَانَ الْأَوْلَادُ لِمَالِكِ الْأُمِّ وَلَوْ كَانَتْ الْأُمُّ مُعْتَقَةً أَوْ حُرَّةَ الْأَصْلِ، وَالْأَبُ مَمْلُوكًا كَانَ الْأَوْلَادُ أَحْرَارًا. وَأَمَّا النَّسَبُ فَإِنَّهُمْ يَنْتَسِبُونَ إلَى أَبِيهِمْ، وَإِذَا كَانَ الْأَبُ عَتِيقًا، وَالْأُمُّ عَتِيقَةً كَانُوا مُنْتَسِبِينَ إلَى مَوَالِي الْأَبِ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مَمْلُوكًا انْتَسَبُوا إلَى مَوَالِي الْأُمِّ، فَإِنْ عَتَقَ الْأَبُ بَعْدَ ذَلِكَ انْجَرَّ الْوَلَاءُ مِنْ مَوَالِي الْأُمِّ إلَى مَوَالِي الْأَبِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَمَنْ كَانَ مَالِكًا لِلْأُمِّ مَلَكَ أَوْلَادَهَا، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّى بِالْبَنَاتِ مِنْ أَوْلَادِ إمَائِهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ يَسْتَمْتِعُ بِالْأُمِّ فَإِنَّهُ يَسْتَمْتِعُ بِبَنَاتِهَا، فَإِنْ اسْتَمْتَعَ بِالْأُمِّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِبَنَاتِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ حَنِثَ مِنْ زَوْجَتِهِ فَنَكَحَتْ غَيْرَهُ لِيُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ] 422 - 24 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ حَنِثَ مِنْ زَوْجَتِهِ، فَنَكَحَتْ غَيْرَهُ لِيُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ، فَهَلْ هَذَا النِّكَاحُ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟

مسألة العبد الصغير إذا استحلت به النساء وهو دون البلوغ

الْجَوَابُ: قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» . وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هُوَ الْمُحَلِّلُ، لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» . وَاتَّفَقَ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ؛ مِثْلُ: عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَغَيْرِهِمْ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَزَالَا زَانِيَيْنِ، وَإِنْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً إذَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُحِلَّهَا لَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نِكَاحَ إلَّا نِكَاحُ رَغْبَةٍ لَا نِكَاحُ دُلْسَةٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِفَاحًا. وَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ إذَا شَرَطَ التَّحْلِيلَ فِي الْعَقْدِ كَانَ بَاطِلًا، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَجْعَلْ لِلشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ وَلَا الْعُرْفِ الْمُطَّرِدِ تَأْثِيرًا، وَجَعَلَ الْعَقْدَ مَعَ ذَلِكَ كَالنِّكَاحِ الْمَعْرُوفِ نِكَاحِ الرَّغْبَةِ. وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَكْثَرُ أَئِمَّةِ الْفُتْيَا فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ هَذَا الْعُرْفِ وَاللَّفْظِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَغَيْرِهِمَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْعَبْد الصَّغِيرِ إذَا اُسْتُحِلَّتْ بِهِ النِّسَاءُ وَهُوَ دُونَ الْبُلُوغِ] 423 - 25 - مَسْأَلَةٌ: فِي الْعَبْدِ الصَّغِيرِ إذَا اُسْتُحِلَّتْ بِهِ النِّسَاءُ وَهُوَ دُونَ الْبُلُوغِ، هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ زَوْجًا وَهُوَ لَا يَدْرِي الْجِمَاعَ؟ الْجَوَابُ: ثَبَتَ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ: «لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَشَاهِدَيْهِ،

مسألة إمام عدل طلق امرأته وبقيت عنده في بيته

وَكَاتِبَهُ، وَلَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَثَبَتَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ: كَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى قَالَ عُمَرُ: لَا أُوتِيَ بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتهمَا، وَقَالَ عُثْمَانُ: لَا نِكَاحَ إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ لَا نِكَاحَ دُلْسَةٍ، وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ مِائَةَ طَلْقَةٍ، فَقَالَ: بَانَتْ مِنْهُ بِثَلَاثٍ وَسَائِرِهَا اتَّخَذَ بِهَا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: أَرَأَيْت إنْ تَزَوَّجْتهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ لِأُحِلَّهَا، ثُمَّ أُطَلِّقَهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ. وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ وَإِنْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً، وَإِذَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُحِلَّهَا لَهُ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ بَيَانِ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ "، وَهَذَا لَعَمْرِي إذَا كَانَ الْمُحَلِّلُ كَبِيرًا يَطَؤُهَا وَيَذُوقُ عُسَيْلَتَهَا وَتَذُوقُ عُسَيْلَتَهُ، فَأَمَّا الْعَبْدُ الَّذِي لَا وَطْءَ فِيهِ، أَوْ فِيهِ وَلَا يُعَدُّ وَطْؤُهُ وَطْئًا، كَمَنْ لَا يَنْتَشِرُ ذَكَرُهُ، فَهَذَا لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي أَنَّ هَذَا لَا يُحِلُّهَا، وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ مِمَّا يُعَيِّرُ بِهِ النَّصَارَى الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى يَقُولُوا: إنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: إذَا طَلَّقَ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَزْنِيَ، وَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَجُمْهُورُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ إمَام عَدْل طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَبَقِيَتْ عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ] 424 - 26 - مَسْأَلَةٌ: فِي إمَامٍ عَدْلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَبَقِيَتْ عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ حَتَّى اُسْتُحِلَّتْ تَحْلِيلَ أَهْلِ مِصْرٍ، وَتَزَوَّجَهَا؟ الْجَوَابُ: إذَا زَوَّجَهَا الرَّجُلُ بِنِيَّةِ أَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا طَلَّقَهَا لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ، أَوْ تَوَاطَأَ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ الْعَقْدِ، أَوْ شَرَطَاهُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا، فَهَذَا وَأَنْوَاعُهُ نِكَاحُ التَّحْلِيلِ الَّذِي اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» .

مسألة شرط على امرأته بالشهود أن لا يسكنها في منزل أبيه

[مَسْأَلَةٌ شَرَطَ عَلَى امْرَأَتِهِ بِالشُّهُودِ أَنْ لَا يُسْكِنَهَا فِي مَنْزِلِ أَبِيهِ] مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ شَرَطَ عَلَى امْرَأَتِهِ بِالشُّهُودِ أَنْ لَا يُسْكِنَهَا فِي مَنْزِلِ أَبِيهِ، فَكَانَتْ مُدَّةُ السُّكْنَى مُنْفَرِدَةً وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ؟ وَهَلْ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ النِّكَاحَ إذَا أَرَادَ إبْطَالَ الشَّرْطِ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَ أُمَّهَا أَوْ أُخْتَهَا مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهَا وَالْمَبِيتِ عِنْدَهَا أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا هُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ، لَا سِيَّمَا إذَا شَرَطَتْ الرِّضَا بِذَلِكَ، بَلْ كَانَ قَادِرًا عَلَى مَسْكَنٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ لَهَا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَالِكٍ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، غَيْرُ مَا شَرَطَ لَهَا، فَكَيْفَ إذَا كَانَ عَاجِزًا أَوْ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ النِّكَاحَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا. فَأَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ لِلسَّكَنِ وَيَصْلُحُ لِسُكْنَى الْفَقِيرِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَ مِنْ الدُّخُولِ إلَى مَنْزِلِهِ، لَا أُمَّهَا، وَلَا أُخْتَهَا إذَا كَانَ مُعَاشِرًا لَهَا بِالْمَعْرُوفِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ شَرِيف زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَهِيَ بِكْرٌ بَالِغٌ لِرَجُلٍ غَيْرِ شَرِيفٍ] 426 - 28 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ شَرِيفٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ، وَهِيَ بِكْرٌ بَالِغٌ، لِرَجُلٍ غَيْرِ شَرِيفٍ مَغْرِبِيٍّ، مَعْرُوفٍ بَيْنَ النَّاسِ بِالصَّلَاحِ، بِرِضَاءِ ابْنَتِهِ وَإِذْنِهَا، وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهَا الْأَبُ بِالرِّضَا، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ قَادِحًا فِي الْعَقْدِ أَمْ لَا؟ مَعَ اسْتِمْرَارِ الزَّوْجَةِ بِالرِّضَا، وَذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَبَعْدَهُ، وَقَدَحَ قَادِحٌ، فَأَشْهَدَتْ الزَّوْجَةُ أَنَّ الرِّضَا وَالْإِذْنَ صَدَرَا مِنْهَا، فَهَلْ يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ تَجْدِيدَ الْعَقْدِ؟ الْجَوَابُ: لَا يَفْتَقِرُ صِحَّةُ النِّكَاحِ إلَى الْإِشْهَادِ عَلَى إذْنِ الْمَرْأَةِ قَبْلَ النِّكَاحِ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، إلَّا وَجْهًا ضَعِيفًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، بَلْ قَالَ: إذَا قَالَ الْوَلِيُّ: أَذِنَتْ لِي جَازَ، عَقْدُ النِّكَاحِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْوَلِيِّ وَالزَّوْجِ. ثُمَّ الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ أَنْكَرَتْ، فَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: إذَا لَمْ تَأْذَنْ حَتَّى عَقَدَ النِّكَاحَ جَازَ، وَتُسَمَّى مَسْأَلَةَ وَقْفِ الْعُقُودِ.

مسألة المرأة التي يعتبر إذنها في الزواج شرعا

وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا تَزَوَّجَ بِدُونِ إذْنِ مَوَالِيه فَهُوَ عَلَى هَذَا النِّزَاعِ. وَأَمَّا الْكَفَاءَةُ فِي النَّسَبِ فَالنَّسَبُ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَمَّا، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، فَهِيَ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ وَالْأَبَوَيْنِ، فَإِذَا رَضَوْا بِدُونِ كُفُؤٍ جَازَ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ فَلَا يَصْلُحُ النِّكَاحُ مَعَ فِرَاقِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَة الَّتِي يُعْتَبَرُ إذْنُهَا فِي الزَّوَاجِ شَرْعًا] 427 - 29 - مَسْأَلَةٌ: فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي يُعْتَبَرُ إذْنُهَا فِي الزَّوَاجِ شَرْعًا، هَلْ يُشْتَرَطُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا بِإِذْنِهَا لِوَلِيِّهَا أَمْ لَا؟ وَإِذَا قَالَ الْوَلِيُّ: إنَّهَا أَذِنَتْ لِي فِي تَزْوِيجِهَا مِنْ هَذَا الشَّخْصِ، فَهَلْ لِلْعَاقِدِ أَنْ يَعْتَقِدَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْوَلِيِّ أَمْ قَوْلِهَا؟ وَكَيْفِيَّةُ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، الْإِشْهَادُ عَلَى إذْنِهَا لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا فِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، فَإِنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ إنَّ ذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ، فَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: أَذِنَتْ لِي فِي الْعَقْدِ، فَعَقَدَ الْعَقْدَ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الْعَقْدِ، ثُمَّ صَدَّقَتْهُ الزَّوْجَةُ عَلَى الْإِذْنِ، كَانَ النِّكَاحُ ثَابِتًا صَحِيحًا، بَاطِنًا وَظَاهِرًا. إنْ أَنْكَرَتْ الْإِذْنَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا وَلَمْ يَثْبُتْ النِّكَاحُ، وَدَعْوَاهُ الْإِذْنَ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ ادَّعَى النِّكَاحَ بَعْدَ مَوْتِ الشُّهُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي لِشُهُودِ النِّكَاحِ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى إذْنِ الزَّوْجَةِ قَبْلَ الْعَقْدِ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ عَقْدٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَمَهْمَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مُتَّفَقًا عَلَى صِحَّتِهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْدَلَ عَنْهُ إلَى مَا فِيهِ خِلَافٌ وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا، إلَّا لِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مَعُونَةٌ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْعَقْدِ، وَأَمَانٌ مِنْ جُحُودِهِ، لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ الَّذِي يَكْثُرُ فِيهِ جَحْدُ النِّسَاءِ وَكَذِبُهُنَّ، فَإِنَّ تَرْكَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهَا كَثِيرًا مَا يُفْضِي إلَى خِلَافِ ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ، وَفِي ذَلِكَ مَفَاسِدُ مُتَعَدِّدَةٌ.

مسألة مريض تزوج في مرضه

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إنَّ الْوَلِيَّ قَدْ يَكُونُ كَاذِبًا فِي دَعْوَى الِاسْتِئْذَانِ، وَأَنْ يَحْتَالَ بِذَلِكَ عَلَى أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ قَدْ زَوَّجَهَا، وَأَنْ يَظُنَّ الْجُهَّالُ أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ بِدُونِ ذَلِكَ إذَا كَانَ عَقْدُ الْعَامَّةِ أَنَّهَا إذَا زُوِّجَتْ عِنْدَ الْحَاكِمِ صَارَتْ زَوْجَةً، فَيُفْضِي إلَى مَهْرِهَا وَجَعْلِهَا زَوْجَةً بِدُونِ رِضَاهَا، وَأَمَّا الْعَاقِدُ الَّذِي هُوَ نَائِبُ الْحَاكِمِ إذَا كَانَ هُوَ الْمُزَوِّجَ لَهَا بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا لَا بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ لِلْوَلِيِّ، فَلَا يُزَوِّجُهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا قَدْ أَذِنَتْ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ شَاهِدًا عَلَى الْعَقْدِ، وَإِنْ زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ بِدُونِ إذْنِهَا فَهُوَ نِكَاحُ الْفُضُولِيِّ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى إذْنِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. [مَسْأَلَةٌ مَرِيض تَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ] 428 - 30 - مَسْأَلَةٌ: فِي مَرِيضٍ تَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ، فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ؟ الْجَوَابُ: نِكَاحُ الْمَرِيضِ صَحِيحٌ، تَرِثُ الْمَرْأَةُ فِي قَوْلِ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَا تَسْتَحِقُّ إلَّا مَهْرَ الْمِثْلِ، لَا تَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ. [مَسْأَلَةٌ خَطَبَ امْرَأَةً حُرَّةً لَهَا وَلِيٌّ غَيْرُ الْحَاكِمِ] 429 - 31 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ خَطَبَ امْرَأَةً حُرَّةً، لَهَا وَلِيٌّ غَيْرُ الْحَاكِمِ، فَجَاءَ بِشُهُودٍ وَهُوَ يَعْلَمُ فِسْقَ الشُّهُودِ، لَكِنْ لَوْ شَهِدُوا عِنْدَ الْحَاكِمِ قِبَلَهُمْ، فَهَلْ يَصِحُّ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ بِشَهَادَتِهِمْ؟ وَإِذَا صَحَّ هَلْ يُكْرَهُ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ: يَصِحُّ النِّكَاحُ، وَالْحَالُ هَذِهِ، وَإِنَّ الْعَدَالَةَ الْمُشْتَرَطَةَ فِي شَاهِدَيْ النِّكَاحِ إنَّمَا هِيَ أَنْ يَكُونَا مَسْتُورَيْنِ غَيْرَ ظَاهِرَيْ الْفِسْقِ، وَإِذَا كَانَا فِي الْبَاطِنِ فَاسِقَيْنِ، وَذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ بَلْ ظَاهِرُهُمَا السَّتْرُ، انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِهِمَا فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، إذْ لَوْ اُعْتُبِرَ فِي شَاهِدَيْ النِّكَاحِ أَنْ يَكُونَا مُعَدَّلَيْنِ عِنْدَ الْحَاكِمِ لَمَا صَحَّ نِكَاحُ أَكْثَرِ النَّاسِ إلَّا بِذَلِكَ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ النَّاسَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ كَانُوا

مسألة النكاح المؤقت

يَعْقِدُونَ الْأَنْكِحَةَ بِمَحْضَرٍ مِنْ بَعْضِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحَاضِرُونَ مُعَدَّلِينَ عِنْدَ أُولِي الْأَمْرِ. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَا مُبْرِزَيْ الْعَدَالَةِ فَهَؤُلَاءِ شُهُودُ الْحُكَّامِ مُعَدَّلُونَ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ فَاسِقٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْبَاطِنِ فُسَّاقًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ النِّكَاح الْمُؤَقَّت] 430 - 32 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ رَكَّاضٍ يَسِيرِ الْبِلَادَ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ، وَيَعْزِلُ عَنْهَا وَيَخَافُ أَنْ يَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي مُدَّةِ إقَامَتِهِ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ؟ وَإِذَا سَافَرَ طَلَّقَهَا وَأَعْطَاهَا حَقَّهَا أَوْ لَا؟ وَهَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ أَوْ لَا؟ الْجَوَابُ: لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ، لَكِنْ يَنْكِحُ نِكَاحًا مُطْلَقًا، لَا يَشْتَرِطُ فِيهِ تَوْقِيتًا، بِحَيْثُ يَكُونُ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا، وَإِنْ نَوَى طَلَاقَهَا حَتْمًا عِنْدَ انْقِضَاءِ سَفَرِهِ كُرِهَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَفِي صِحَّةِ النِّكَاحِ نِزَاعٌ، وَلَوْ نَوَى أَنَّهُ إذَا سَافَرَ وَأَعْجَبَتْهُ أَمْسَكَهَا وَإِلَّا طَلَّقَهَا جَازَ ذَلِكَ، فَأَمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ التَّوْقِيتَ فَهَذَا نِكَاحُ الْمُتْعَةِ الَّذِي اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ يُرَخِّصُونَ فِيهِ: إمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا لِلْمُضْطَرِّ، كَمَا قَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ. فَالصَّوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ رَخَّصَ لَهُمْ فِي الْمُتْعَةِ عَامَ الْفَتْحِ، قَالَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ الْمُتْعَةَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَالْقُرْآنُ قَدْ حَرَّمَ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ إلَّا زَوْجَةً أَوْ مَمْلُوكَةً بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] . وَهَذِهِ الْمُسْتَمْتَعُ بِهَا لَيْسَتْ مِنْ الْأَزْوَاجِ، وَلَا مَا مَلَكَتْ الْيَمِينُ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لِلْأَزْوَاجِ أَحْكَامًا مِنْ الْمِيرَاثِ، وَالِاعْتِدَادِ بَعْدَ الْوَفَاةِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَعِدَّةُ الطَّلَاقِ

مسألة جمع في نكاح واحد بين خالة رجل وابنة أخ له

ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُسْتَمْتَعِ بِهَا، فَلَوْ كَانَتْ زَوْجَةً لَثَبَتَ فِي حَقِّهَا هَذِهِ الْأَحْكَامُ. وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: إنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ نَسَخَتْ الْمُتْعَةَ، وَبَسْطُ هَذَا طَوِيلٌ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَإِذَا اُشْتُرِطَ الْأَجَلُ قَبْلَ الْعَقْدِ، فَهُوَ كَالشَّرْطِ الْمُقَارِنِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، وَأَمَّا إذَا نَوَى الزَّوْجُ الْأَجَلَ وَلَمْ يُظْهِرْهُ لِلْمَرْأَةِ، فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ يُرَخِّصُ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَيَكْرَهُهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا. كَمَا أَنَّهُ لَوْ نَوَى التَّحْلِيلَ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ، وَجَعَلُوهُ مِنْ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، لَكِنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ شَرٌّ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَإِنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ لَمْ يُبَحْ قَطُّ إذْ لَيْسَ مَقْصُودُ الْمُحَلِّلِ أَنْ يَنْكِحَ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ أَنْ يُعِيدَهَا إلَى الْمُطَلِّقِ قِبَلَهُ، فَهُوَ يُثْبِتُ الْعَقْدَ لِيُزِيلَهُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِحَالٍ، بِخِلَافِ الْمُسْتَمْتِعِ، فَإِنَّ لَهُ غَرَضًا فِي الِاسْتِمْتَاعِ، لَكِنَّ التَّأْجِيلَ يُخِلُّ بِمَقْصُودِ النِّكَاحِ مِنْ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالسَّكَنِ، وَيَجْعَلُ الزَّوْجَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ. فَلِهَذَا كَانَ النِّيَّةُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ أَخَفَّ مِنْ النِّيَّةِ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، وَهُوَ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ وَكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ. وَأَمَّا الْعَزْلُ، فَقَدْ حَرَّمَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، لَكِنَّ مَذْهَبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ بِإِذْنِ الْمَرْأَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ جَمَعَ فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ بَيْنَ خَالَةِ رَجُلٍ وَابْنَةِ أَخٍ لَهُ] 431 - 33 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ جَمَعَ فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ بَيْنَ خَالَةِ رَجُلٍ، وَابْنَةِ أَخٍ لَهُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، فَهَلْ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ الْأُخْرَى، هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ خَالَةِ أَبِيهَا، فَإِنَّ أَبَاهَا إذَا كَانَ أَخًا لِهَذَا الْآخَرِ مِنْ أُمِّهِ، أَوْ أُمِّهِ وَأَبِيهِ كَانَتْ خَالَةُ هَذَا خَالَةَ هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَخَاهُ مِنْ أَبِيهِ فَقَطْ، فَإِنَّهُ لَا تَكُونُ خَالَةُ أَحَدِهِمَا خَالَةَ الْآخَرِ،

مسألة من له جارية تزني

بَلْ تَكُونُ عَمَّتَهُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَةِ أَبِيهَا وَخَالَةِ أُمِّهَا، أَوْ عَمَّةِ أَبِيهَا أَوْ عَمَّةِ أُمِّهَا، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِهِمْ. وَإِذَا تَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى كَانَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ بَاطِلًا لَا يَحْتَاجُ إلَى طَلَاقٍ، وَلَا يَجِبُ بِعَقْدٍ مَهْرٌ وَلَا مِيرَاثٌ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الدُّخُولُ بِهَا، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَارَقَهَا كَمَا تُفَارَقُ الْأَجْنَبِيَّةُ، فَإِنْ أَرَادَ نِكَاحَ الثَّانِيَةِ فَارَقَ الْأُولَى، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا تَزَوَّجَ الثَّانِيَةَ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا فِي عِدَّةِ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ الثَّانِي بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا لَمْ يَجُزْ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَجَازَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، فَإِذَا طَلَّقَهَا طَلْقَةً أَوْ طَلْقَتَيْنِ بِلَا عِوَضٍ، كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَلَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْأُولَى بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فِي هَذَا النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَزِلَهَا، فَإِنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ، وَلَا يَعْقِدُ عَلَيْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْأُولَى بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ هَذِهِ الْمَوْطُوءَةَ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ الْقَوْلَانِ. [مَسْأَلَةٌ مِنْ لَهُ جَارِيَةٌ تَزْنِي] 432 - 34 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ تَزْنِي، فَهَلْ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَتْ تَزْنِي فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى تَحِيضَ وَيَسْتَبْرِئَهَا مِنْ الزِّنَا، فَإِنَّ {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] عَقْدًا وَوَطْئًا، وَمَتَى وَطِئَهَا مَعَ كَوْنِهَا زَانِيَةً كَانَ دَيُّوثًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة من له جارية ثابتة وتصلي وتصوم

[مَسْأَلَةٌ مِنْ لَهُ جَارِيَةٌ ثَابِتَةٌ وَتُصَلِّي وَتَصُومُ] مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ ثَابِتَةٌ، وَتُصَلِّي وَتَصُومُ، فَأَيُّ شَيْءٍ يَلْزَمُ سَيِّدَهَا إذَا لَمْ يُجَامِعْهَا؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَتْ مُحْتَاجَةً إلَى النِّكَاحِ فَلْيُعِفَّهَا، إمَّا بِأَنْ يَطَأَهَا، وَإِمَّا بِأَنْ يُزَوِّجَهَا لِمَنْ يَطَؤُهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطَأَهَا إلَّا زَوْجٌ أَوْ سَيِّدُهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ لَهُ جَارِيَةٌ مَعْتُوقَةٌ وَقَدْ طَلَبَهَا مِنْهُ رَجُلٌ لِيَتَزَوَّجَهَا] 434 - 36 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ مَعْتُوقَةٌ، وَقَدْ طَلَبَهَا مِنْهُ رَجُلٌ لِيَتَزَوَّجَهَا، فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ مَا أُعْطِيك إيَّاهَا، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ إذَا وَكَّلَ رَجُلًا فِي زَوَاجِهَا لِذَلِكَ الرَّجُلِ؟ الْجَوَابُ: مَتَى فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ حَنِثَ، لَكِنْ إذَا كَانَ الْخَاطِبُ كُفُؤًا فَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْوَلِيُّ الْأَبْعَدُ مِثْلُ ابْنِهِ، أَوْ أَبِيهِ، أَوْ أَخِيهِ، أَوْ يُزَوِّجَهَا الْحَاكِمُ بِإِذْنِهَا وَدُونَ إذْنِ الْمُعْتِقِ، فَإِنَّهُ عَاضِلٌ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إذْنِهِ، وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ إذَا زُوِّجَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. [مَسْأَلَةٌ الْوَطْء فِي الدُّبُرِ] 435 - 37 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ يَنْكِحُ زَوْجَتَهُ فِي دُبُرِهَا؟ الْجَوَابُ: وَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، بَلْ هُوَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ، لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ» . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] . وَالْحَرْثُ هُوَ مَوْضِعُ الْوَلَدِ، فَإِنَّ الْحَرْثَ مَحَلُّ الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ.

مسألة وطء الإماء الكتابيات بملك اليمين

وَكَانَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ: إذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَبَاحَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَتَهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهَا، لَكِنْ فِي الْفَرْجِ خَاصَّةً، وَمَنْ وَطِئَهَا فِي الدُّبُرِ وَطَاوَعَتْهُ، عُزِّرَا جَمِيعًا، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِيَا وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، كَمَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَمَنْ يَفْجُرُ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ وَطْءُ الْإِمَاءِ الْكِتَابِيَّاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ] 436 - 38 - مَسْأَلَةٌ: فِي الْإِمَاءِ الْكِتَابِيَّاتِ، مَا الدَّلِيلُ عَلَى وَطْئِهِنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالِاعْتِبَارِ، وَعَلَى تَحْرِيمِ الْإِمَاءِ الْمَجُوسِيَّاتِ، أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَطْءُ الْإِمَاءِ الْكِتَابِيَّاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَقْوَى مِنْ وَطْئِهِنَّ بِمِلْكِ النِّكَاحِ عِنْدَ عَوَامِّ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ تَحْرِيمُ ذَلِكَ، كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ الْمَنْعُ مِنْ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَدْ قَالَ: لَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَوَائِلِ أَنَّهُ حَرَّمَ نِكَاحَهُنَّ، وَلَكِنَّ التَّحْرِيمَ هُوَ قَوْلُ الشِّيعَةِ، وَلَكِنْ فِي كَرَاهَةِ نِكَاحِهِنَّ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ نِزَاعٌ، وَالْكَرَاهَةُ مَعْرُوفَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَكَذَلِكَ كَرَاهَةُ وَطْءِ الْإِمَاءِ، فِيهِ نِزَاعٌ. رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَهُ وَالْكَرَاهَةُ فِي ذَلِكَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّزَوُّجِ، وَأَمَّا التَّحْرِيمُ فَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ، بَلْ قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَحَرَّمَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ أَشْهَرُهُمَا كَالثَّانِي، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَبَاحَ نِكَاحَ الْمُحْصَنَاتِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] الْآيَةَ. فَأَبَاحَ الْمُحْصَنَاتِ مِنْهُمْ وَقَالَ فِي آيَةِ الْإِمَاءِ:

{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [النساء: 25] فَإِنَّمَا أَبَاحَ النِّسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا الْأَمَةُ الْمَجُوسِيَّةُ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نِكَاحَ الْمَجُوسِيَّاتِ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْوَثَنِيَّاتِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ خَمْسَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَبَائِحِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، وَجُعِلَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ خِلَافِ أَهْلِ الْبِدَعِ. وَالْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهُنَّ لَا يَجُوزُ وَطْؤُهُنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَالْوَثَنِيَّاتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، أَنَّهُ قَالَ: يُبَاحُ وَطْءُ الْإِمَاءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ عَلَى أَيِّ دِينٍ كُنَّ، وَأَظُنُّ هَذَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ فِي وَطْءِ الْأَمَةِ الْوَثَنِيَّةِ نِزَاعًا، وَأَمَّا الْأَمَةُ الْكِتَابِيَّةُ فَلَيْسَ فِي وَطْئِهَا مَعَ إبَاحَةِ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ نِزَاعٌ، بَلْ فِي التَّزَوُّجِ بِهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ مَعَ الْمَنْعِ مِنْ التَّسَرِّي بِهِنَّ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ، وَلَا يَقُولُهُ فَقِيهٌ، وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ التَّسَرِّي بِهِنَّ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ، وَلَمْ يَقُمْ عَلَى تَحْرِيمِهِنَّ دَلِيلٌ مِنْ نَصٍّ، وَلَا إجْمَاعٍ، وَلَا قِيَاسٍ، فَبَقِيَ حِلُّ وَطْئِهِنَّ عَلَى الْأَصْلِ وَذَلِكَ أَنَّ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يُنَازِعُ فِي حِلِّ نِكَاحِهِنَّ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] وَقَوْلِهِ: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] إنَّمَا يَتَنَاوَلُ النِّكَاحَ وَلَا يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي الْقِيَاسِ مَا يُوجِبُ تَحْرِيمَهُنَّ، فَيَبْقَى الْحِلُّ عَلَى الْأَصْلِ. الثَّانِي: إنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] . يَقْتَضِي عُمُومَ جَوَازِ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا، إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الدَّلِيلُ، حَتَّى أَنَّ عُثْمَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ جَعَلُوا مِثْلَ هَذَا النَّصِّ مُتَنَاوِلًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، حِينَ قَالُوا: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ، وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، فَإِذَا كَانُوا قَدْ

جَعَلُوا عَامًّا فِي صُورَةٍ حَرُمَ فِيهَا النِّكَاحُ فَلَا يَكُونُ عَامًّا فِي صُورَةٍ لَا يَحْرُمُ فِيهَا النِّكَاحُ أَوْلَى وَأَحْرَى. الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى حِلِّ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: إنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهُنَّ، وَيَحْرُمُ التَّسَرِّي بِهِنَّ، بَلْ قَدْ قِيلَ: يَحِلُّ الْوَطْءُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، حَيْثُ يَحْرُمُ الْوَطْءُ فِي النِّكَاحِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِهِنَّ، فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمَةَ مُجْمَعٌ عَلَى التَّسَرِّي بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ أَرْجَحَ مِنْ حِلِّ النِّكَاحِ، وَلَمْ يَكُنْ دُونَهُ فَلَوْ حَرُمَ التَّسَرِّي دُونَ النِّكَاحِ كَانَ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ. الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: إنَّ حِلَّ نِكَاحِهِنَّ يَقْتَضِي حِلَّ التَّسَرِّي بِهِنَّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ وَطْؤُهَا بِالنِّكَاحِ جَازَ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِلَا نِزَاعٍ، وَأَمَّا الْعَكْسُ فَقَدْ تَنَازَعَ فِيهِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ أَوْسَعُ لَا يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى عَدَدٍ، وَالنِّكَاحُ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى عَدَدٍ، وَمَا حَرُمَ فِيهِ الْجَمْعُ بِالنِّكَاحِ قَدْ نُوزِعَ فِي تَحْرِيمِ الْجَمْعِ فِيهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قَسَمٍ وَلَا اسْتِئْذَانٍ فِي عَزْلٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ لِحَقِّ الزَّوْجَةِ، وَمِلْكُ النِّكَاحِ نَوْعُ رِقٍّ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ رِقٌّ تَامٌّ. وَأَبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَزَوَّجُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلَا يَتَزَوَّجُ أَهْلُ الْكِتَابِ نِسَاءَهُمْ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ نَوْعُ رِقٍّ، كَمَا قَالَ عُمَرُ: النِّكَاحُ رِقٌّ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ مَنْ يُرِقُّ كَرِيمَتَهُ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: الزَّوْجُ سَيِّدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25] . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ» . فَجَوَّزَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَرِقَّ هَذِهِ الْكَافِرَةَ، وَلَمْ يُجَوِّزْ لِلْكَافِرِ أَنْ يَسْتَرِقَّ هَذِهِ الْمُسْلِمَةَ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، كَمَا جَوَّزَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَمْلِكَ الْكَافِرَ وَلَمْ يُجَوِّزْ لِلْكَافِرِ أَنْ يَمْلِكَ الْمُسْلِمَ، فَإِذًا جَوَازُ وَطْئِهِنَّ مِنْ مِلْكٍ تَامٍّ أَوْلَى وَأَحْرَى.

يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَانِعَ إمَّا الْكُفْرُ وَإِمَّا الرِّقُّ، وَهَذَا الْكُفْرُ لَيْسَ بِمَانِعٍ، وَالرِّقُّ لَيْسَ مَانِعًا مِنْ الْوَطْءِ بِالْمِلْكِ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ التَّزَوُّجِ، فَإِذَا كَانَ الْمُقْتَضِي لِلْوَطْءِ قَائِمًا، وَالْمَانِعُ مُنْتَفِيًا جَازَ الْوَطْءُ، فَهَذَا الْوَجْهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى قِيَاسِ التَّمْثِيلِ، وَعَلَى قِيَاسِ الْأَوْلَى، وَيُخْرَجُ مِنْهُ وَجْهٌ رَابِعٌ يَجْعَلُ قِيَاسَ التَّعْلِيلِ، فَيُقَالُ: الرِّقُّ مُقْتَضًى لِجَوَازِ وَطْءِ الْمَمْلُوكَةِ، كَمَا نَبَّهَ النَّصُّ عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ كَقَوْلِهِ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ الْوَطْءُ بِسَبَبٍ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، بِأَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً بِالرَّضَاعِ أَوْ بِالطُّهْرِ أَوْ بِالشِّرْكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهَا مَا يَصْلُحُ لِلْمَنْعِ إلَّا كَوْنُهَا كِتَابِيَّةً، وَهَذَا لَيْسَ بِمَانِعٍ، فَإِذَا كَانَ الْمُقْتَضِي لِلْحِلِّ قَائِمًا، وَالْمَانِعُ الْمَذْكُورُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا، وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمُقْتَضِي السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ بَعْدَ تَمَامِ تَصَوُّرِهَا تُوجِبُ الْقَطْعَ بِالْحِلِّ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ مَنْ تَدَبَّرَ سِيَرَ الصَّحَابَةِ، وَالسَّلَفِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ، وَجَدَ آثَارًا كَثِيرَةً تُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مَانِعًا، بَلْ هَذِهِ كَانَتْ سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُنَّةَ خُلَفَائِهِ، مِثْلُ الَّذِي كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ، وَكَانَتْ تَسُبُّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ يَقْتُلُهَا، وَقَدْ رَوَى حَدِيثَهَا أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، وَهَذِهِ لَمْ تَكُنْ مُسْلِمَةً، لَكِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَدْ يُقَالُ: إنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَائِلِ مَقْدِمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ يَحْرُمُ نِكَاحُ الْمُشْرِكَاتِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ التَّحْرِيمُ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] ، وَطَلَّقَ عُمَرُ امْرَأَتَهُ كَانَتْ بِمَكَّةَ. وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ فَلَا يُعْلَمُ تَارِيخُ نُزُولِهَا، وَفِي الْبَقَرَةِ مَا نَزَلَ مُتَأَخِّرًا كَآيَاتِ الزِّنَا، وَفِيهَا مَا نَزَلَ مُتَقَدِّمًا كَآيَاتِ الصِّيَامِ، وَمِثْلُ مَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا أَرَادَ غَزْوَةَ تَبُوكَ، قَالَ لِلْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ: هَلْ لَك فِي نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ فَقَالَ: ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي، وَمِثْلُ فَتْحِهِ لِخَيْبَرِ، وَقَسْمِهِ لِلرَّقِيقِ، وَلَمْ يَنْهَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ وَطْئِهِنَّ حَتَّى يُسْلِمْنَ» ، كَمَا أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِبْرَاءِ. بَلْ مَنْ يُبِيحُ وَطْءَ الْوَثَنِيَّاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ قَدْ يُسْتَدَلُّ بِمَا جَرَى يَوْمَ أَوْطَاسٍ مِنْ قَوْلِهِ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ» عَلَى

جَوَازِ وَطْءِ الْوَثَنِيَّاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَفِي هَذَا كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ، وَالصَّحَابَةُ لَمَّا فَتَحُوا الْبِلَادَ لَمْ يَكُونُوا يَمْتَنِعُونَ عَنْ وَطْءِ النَّصْرَانِيَّاتِ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْمَجُوسِيَّةُ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَجُوسَ لَا تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ، وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَحِلَّ طَعَامُهُ وَلَا نِسَاؤُهُ، أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَفِيهَا نِزَاعٌ شَاذٌّ، فَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ - أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام: 155 - 156] . فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ، وَمَنْعًا لَأَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ، وَدَفْعًا لَأَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ طَائِفَتَيْنِ لَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ كَذِبًا، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى مَانِعٍ مِنْ قَوْلِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج: 17] فَذَكَرَ الْمِلَلَ السِّتَّ وَذَكَرَ أَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْمِلَلَ الَّتِي فِيهَا سَعِيدٌ قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [البقرة: 62] فِي مَوْضِعَيْنِ، فَلَمْ يَذْكُرْ الْمَجُوسَ وَلَا الْمُشْرِكِينَ، فَلَوْ كَانَ فِي هَاتَيْنِ الْمِلَّتَيْنِ سَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا فِي الصَّابِئِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَذَكَرَهُمْ، فَلَوْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ لَكَانُوا قَبْلَ

النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ عَلَى هُدًى، وَكَانُوا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إذَا عَمِلُوا بِشَرِيعَتِهِمْ، كَمَا كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْ الْمَجُوسَ فِي هَؤُلَاءِ، عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ، بَلْ ذَكَرَ الصَّابِئِينَ دُونَهُمْ، مَعَ أَنَّ الصَّابِئِينَ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ إلَّا أَنْ يَدْخُلُوا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَجُوسَ أَبْعَدُ عَنْ الْكِتَابِ مِنْهُمْ. وَأَيْضًا: فَفِي الْمُسْنَدِ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَالتَّفْسِيرِ، وَالْمَغَازِي، الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: «لَمَّا اقْتَتَلَتْ فَارِسُ وَالرُّومُ، وَانْتَصَرَتْ الْفُرْسُ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَاسْتَبْشَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِكَوْنِ النَّصَارَى أَقْرَبَ إلَيْهِمْ، لِأَنَّ لَهُمْ كِتَابًا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الم} [الروم: 1] {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] {فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3] {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 4] » . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَجُوسَ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ لَهُمْ كِتَابٌ، وَأَيْضًا فَفِي حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ، أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ، وَقَالَ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرِ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» . وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَعَنْ خَمْسَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ تُوَافِقُهُ، وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْهُمْ خِلَافٌ. وَأَمَّا حُذَيْفَةُ فَذَكَرَ أَحْمَدُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِيَهُودِيَّةٍ، وَقَدْ عَمِلَ بِهَذَا الْمُرْسَلِ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْمُرْسَلُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ حُجَّةٌ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَفِي الْآخَرِ هُوَ حُجَّةٌ إذَا عَضَّدَهُ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَوْ أُرْسِلَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، فَمِثْلُ هَذَا الْمُرْسَلِ حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا الْمُرْسَلُ نَصٌّ فِي خُصُوصِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى أَنْ يُبْنَى عَلَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ، فَرُفِعَ، قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ قَدْ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَإِنْ صَحَّ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ فَرُفِعَ، لَا أَنَّهُ الْآنَ

مسألة زنى بامرأة في حال شبوبيته

بِأَيْدِيهِمْ كِتَابٌ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَدْخُلُوا فِي لَفْظِ أَهْلِ الْكِتَابِ، إذْ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ كِتَابٌ لَا مُبَدَّلٌ وَلَا غَيْرُ مُبَدَّلٍ، وَلَا مَنْسُوخٌ وَلَا غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَلَكِنْ إذَا كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ ثُمَّ رُفِعَ بَقِيَ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ، وَهَذَا الْقَدْرُ يُؤَثِّرُ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ بِالْجِزْيَةِ إذَا قُيِّدَتْ بِأَهْلِ الْكِتَابِ. وَأَمَّا الْفُرُوجُ وَالذَّبَائِحُ فَحِلُّهَا مَخْصُوصٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» . دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ أَنْ يُسَنَّ بِهِمْ سُنَّتَهُمْ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ خَاصَّةً، كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْ هَذَا اللَّفْظِ إلَّا هَذَا الْحُكْمَ، وَقَدْ رُوِيَ مُقَيَّدًا: «غَيْرِ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» . فَمَنْ جَوَّزَ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ قَاسَ عَلَيْهِمْ غَيْرَهُمْ فِي الْجِزْيَةِ، وَمَنْ خَصَّهُمْ بِذَلِكَ قَالَ: إنَّ لَهُمْ شُبْهَةَ كِتَابٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ. وَالدِّمَاءُ تُعْصَمُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَا تَحِلُّ الْفُرُوجُ وَالذَّبَائِحُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلِهَذَا لَمَّا تَنَازَعَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ قَالَ عَلِيٌّ: إنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] فَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنَعَ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ مَعَ عِصْمَةِ ذَبَائِحِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي رَوَى حَدِيثَ كِتَابِ الْمَجُوسِ، فَعُلِمَ أَنَّ التَّشَبُّهَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ يَقْتَضِي حَقْنَ الدِّمَاءِ دُونَ الذَّبَائِحِ وَالنِّسَاءِ. [مَسْأَلَةٌ زَنَى بِامْرَأَةٍ فِي حَالِ شَبُوبِيَّتِهِ] 437 - 39 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ زَنَى بِامْرَأَةٍ فِي حَالِ شَبُوبِيَّتِهِ، وَقَدْ رَأَى مَعَهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِنْتًا وَهُوَ يَطْلُبُ التَّزَوُّجَ بِهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ فِي تَزْوِيجِهَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا يَحِلُّ لَهُ التَّزْوِيجُ بِهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ بِنْتَ الَّتِي زَنَى بِهَا مِنْ غَيْرِهِ لَا يَحِلُّ التَّزَوُّجُ بِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي أَحَدِ الرِّوَايَتَيْنِ، وَأَمَّا بِنْتُهُ مِنْ الزِّنَا فَأَغْلَظُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِهَا حَرُمَتَا عَلَيْهِ.

مسألة بنت بالغ خطبت لقرابة لها فأبت

[مَسْأَلَةٌ بِنْت بَالِغ خُطِبَتْ لِقَرَابَةٍ لَهَا فَأَبَتْ] مَسْأَلَةٌ: فِي بِنْتٍ بَالِغٍ، وَقَدْ خُطِبَتْ لِقَرَابَةٍ لَهَا فَأَبَتْ، وَقَالَ أَهْلُهَا لِلْعَاقِدِ: اعْقِدْ، وَأَبُوهَا حَاضِرٌ، فَهَلْ يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا؟ الْجَوَابُ: أَمَّا إنْ كَانَ الزَّوْجُ لَيْسَ كُفُؤًا لَهَا فَلَا تُجْبَرُ عَلَى نِكَاحِهِ بِلَا رَيْبٍ، وَأَمَّا إنْ كَانَ كُفُؤًا، فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى يَسْتَأْذِنَهَا أَبُوهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا» ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قُرَشِيّ تَزَوَّجَ جَارِيَة مَمْلُوكِهِ فَأَوْلَدَهَا وَلَدًا] 439 - 41 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قُرَشِيٍّ تَزَوَّجَ بِجَارِيَةِ مَمْلُوكِهِ، فَأَوْلَدَهَا وَلَدًا، هَلْ يَكُونُ الْوَلَدُ حُرًّا أَمْ يَكُونُ عَبْدًا مَمْلُوكًا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. إذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ وَعَلِمَ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ فَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْهَا مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، فَإِنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ أَبَاهُ فِي النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ، وَيَتْبَعُ أُمَّهُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مِمَّنْ يُسْتَرَقُّ جِنْسُهُ بِالِاتِّفَاقِ فَهُوَ رَقِيقٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي رِقِّهِ وَقَعَ النِّزَاعُ فِي رِقِّهِ كَالْعَرَبِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَا أَزَالُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ سَمِعْتهنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُهَا فِيهِمْ، سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنَا» ، قَالَ: «وَكَانَتْ سَبِيَّةً مِنْهُمْ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْتِقِيهَا فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ» ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «ثَلَاثُ خِلَالٍ سَمِعْتهنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَنِي تَمِيمٍ لَا أَزَالُ أُحِبُّهُنَّ بَعْدَهَا، كَانَ عَلَى عَائِشَةَ مُحَرَّرٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْتِقِي مِنْ هَؤُلَاءِ وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ، فَقَالَ: هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِي، وَقَالَ: هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ قَتْلًا فِي الْمَلَاحِمِ» .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ» . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ بَنِي إسْمَاعِيلَ يُعْتَقُونَ، فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الرِّقِّ عَلَيْهِمْ، كَمَا أَمَرَ عَائِشَةَ أَنْ تُعْتِقَ عَنْ الْمُحَرَّرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهَا مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ، وَفِيهِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ لِأَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَعِي مَنْ تَرَوْنَ وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إمَّا الْمَالَ وَإِمَّا السَّبْيَ، وَقَدْ كُنْت اسْتَأْنَيْت بِكُمْ. وَكَانَ انْتَظَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، حِينَ قَفَلَ مِنْ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُ رَادٍّ إلَيْهِمْ إلَّا إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُسْلِمِينَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَخِوَانَكُمْ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي رَأَيْت أَنْ أَرُدَّ إلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ بِذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ. فَقَالَ النَّاسُ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ. فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ ثُمَّ رَجَعُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا» . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ سَبَى نِسَاءَ هَوَازِنَ وَهُمْ عَرَبٌ، وَقَسَمَهُمْ بَيْنَ

الْغَانِمِينَ، فَصَارُوا رَقِيقًا لَهُمْ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ طَلَبَ أَخْذَهُمْ مِنْهُمْ، إمَّا تَبَرُّعًا وَإِمَّا مُعَاوَضَةً، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُمْ كَمَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ، لَمَّا اعْتَكَفَ وَبَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْتَقَ السَّبْيَ، فَأَعْتَقَ جَارِيَةً كَانَتْ عِنْدَهُ، وَالْمُسْلِمُونَ كَانُوا يَطَئُونَ ذَلِكَ السَّبْيَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، كَمَا فِي سَبْيِ أَوْطَاسٍ، وَهُوَ مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِيهِ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ» . وَفِي الْمُسْنَدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَوَقَعَتْ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، أَوْ لِابْنِ عَمٍّ لَهُ كَاتَبَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا، وَكَانَتْ امْرَأَةً حُلْوَةً مَلَاحَةً، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ سَيِّدِ قَوْمِهِ، وَقَدْ أَصَابَنِي مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْك، وَجِئْتُك أَسْتَعِينُك عَلَى كِتَابَتِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ لَك فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَتْ وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَقْضِي كِتَابَتَك وَأَتَزَوَّجُك، قَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: قَدْ فَعَلْت. قَالَتْ: وَخَرَجَ الْخَبَرُ إلَى النَّاسِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، فَأَرْسَلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ، قَالَتْ: فَقَدْ عَتَقَ بِتَزَوُّجِهِ إيَّاهَا مِائَةٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا» . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَنَحْوُهَا مَشْهُورٌ بَلْ مُتَوَاتِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْبِي الْعَرَبَ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ بَعْدَهُ، كَمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ وَغَيْرُهُمْ: سَبَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَرَبَ، وَسَبَى أَبُو بَكْرٍ بَنِي نَاجِيَةَ، كَانَ يُطَارِدُ الْعَرَبَ بِذَلِكَ الِاسْتِرْقَاقِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] . وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَغَيْرِهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمَسْبِيَّاتِ، أَبَاحَ اللَّهُ لَهُمْ وَطْأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَإِذَا سُبِيَتْ وَاسْتُرِقَّتْ بِدُونِ زَوْجِهَا جَازَ وَطْؤُهَا بِلَا رَيْبٍ، وَإِنَّمَا فِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَحُكِيَ الْخِلَافُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي مِلْكٍ، وَلَهَا زَوْجٌ مُقِيمٌ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَنَّ نِكَاحَ زَوْجِهَا قَدْ انْفَسَخَ، وَحَلَّ لِمَالِكِهَا وَطْؤُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَأَمَّا إذَا سُبِيَتْ مَعَ زَوْجِهَا فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَامَّةَ السَّبْيِ الَّذِي كَانَ يَسْبِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي الْحَرْبِ. وَقَدْ قَاتَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ خَرَجَ لِقِتَالِ النَّصَارَى عَامَ تَبُوكَ، وَلَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَقَدْ بَعَثَ إلَيْهِمْ السَّرِيَّةَ الَّتِي أَمَّرَ عَلَيْهَا زَيْدًا ثُمَّ جَعْفَرًا، ثُمَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وَمَعَ هَذَا فَكَانَ فِي النَّصَارَى الْعَرَبُ وَالرُّومُ. وَكَذَلِكَ قَاتَلَ الْيَهُودَ بِخَيْبَرَ، وَالنَّضِيرِ، وَقَيْنُقَاعَ، وَكَانَ فِي يَهُودِ الْعَرَبِ وَبَنِي إسْرَائِيلَ، وَكَذَلِكَ يَهُودُ الْيَمَنِ كَانَ فِيهِمْ الْعَرَبُ وَبَنُو إسْرَائِيلَ. وَأَيْضًا فَسَبَبُ الِاسْتِرْقَاقِ هُوَ الْكُفْرُ بِشَرْطِ الْحَرْبِ، فَالْحُرُّ الْمُسْلِمُ لَا يُسْتَرَقُّ بِحَالٍ، وَالْمُعَاهَدُ لَا يُسْتَرَقُّ، وَالْكُفْرُ مَعَ الْمُحَارَبَةِ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ كَافِرٍ، فَجَازَ اسْتِرْقَاقُهُ، كَمَا يَجُوزُ قِتَالُهُ، فَكُلُّ مَا أَبَاحَ قَتْلَ الْمُقَاتِلَةِ أَبَاحَ سَبْيَ الذُّرِّيَّةِ، وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ مِنْ قَوْلَيْهِ، وَأَحْمَدُ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ الْعَرَبِ، كَمَا لَا يَجُوزُ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ اخْتَصُّوا بِشَرَفِ النَّسَبِ، لِكَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ، وَاخْتَصَّ كُفَّارُهُمْ بِفَرْطِ عَدَاوَتِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ الْجِزْيَةِ. كَمَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ لِلتَّغْلِيظِ، وَلِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الشَّرَفِ بِالْإِسْلَامِ السَّابِقِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ عَلَى عَرَبِيٍّ مِلْكٌ، وَاَلَّذِينَ نَازَعُوهُ لَهُمْ قَوْلَانِ فِي جَوَازِ اسْتِرْقَاقِ مَنْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ كَأَخْذِ الْجِزْيَةِ، فَمَنْ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ لَا يُسْتَرَقُّ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ، وَالْقَاضِي، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ الْإِصْطَخْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ مِنْ كَافِرٍ إلَّا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِكَوْنِ الْجِزْيَةِ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ مُشْرِكِي الْعَجَمِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ: إنَّ الْعَرَبَ لَا يُسْتَرَقُّونَ.

وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس، كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ أَحَدٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لَا مِنْ الْعَرَبِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ، كَاخْتِيَارِ الْخِرَقِيِّ وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ لَا يَمْنَعُ فِيهِ الرِّقَّ لِأَجْلِ النَّسَبِ، لَكِنْ لِأَجْلِ الدِّينِ فَإِذَا سَبَى عَرَبِيَّةً فَأَسْلَمَتْ اسْتَرَقَّهَا، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ أَجْبَرَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَعَلَى هَذَا يَحْمِلُونَ مَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ مِنْ اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ. وَأَمَّا الرَّقِيقُ الْوَثَنِيُّ، فَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ عِنْدَهُمْ بِرِقٍّ، كَمَا يَجُوزُ بِجِزْيَةٍ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الصَّحَابَةَ سَبَوْا الْعَرَبِيَّاتِ وَالْوَثَنِيَّاتِ وَوَطِئُوهُمْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ» . ثُمَّ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ إنَّمَا كَانَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ وَطْءَ الْوَثَنِيَّةِ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ مَنْ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ اسْتَرَقُّوهُمْ وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُمْ أَجْبَرُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِرْقَاقِهِمْ، وَالرِّقُّ فِيهِ مِنْ الْغِلِّ مَا لَيْسَ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، أَنَّ الصَّحِيحَ جَوَازُ اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ، وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ عُمَرَ إذَا كَانَ صَحِيحًا صَرِيحًا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَقَدْ خَالَفَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ، فَإِنَّهُمْ سَبَوْا الْعَرَبَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ عُمَرَ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يُسْتَرَقَّ رِجَالُهُمْ، فَلَا يُضْرَبَ عَلَيْهِمْ رِقٌّ، كَمَا أَنَّ قُرَيْشًا أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ، فَلَمْ يُضْرَبْ عَلَيْهِمْ رِقٌّ، لِأَجْلِ إسْلَامِهِمْ لَا لِأَجْلِ النَّسَبِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ الصَّحَابَةُ مِنْ سَبْيِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، كَمَا تَمَكَّنُوا مِنْ سَبْيِ نِسَاءِ طَوَائِفَ مِنْ الْعَرَبِ، وَلِهَذَا لَمْ يُسْتَرَقَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّهْيِ عَنْ سَبْيِهِمْ شَيْءٌ. وَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَ الْعَرَبِيُّ مَمْلُوكَةً، فَنِكَاحُ الْحُرِّ لِلْمَمْلُوكَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِشَرْطَيْنِ: خَوْفِ الْعَنَتِ، وَعَدَمِ الطَّوْلِ إلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَعَلَّلُوا

مسألة التزويج بالنصرانية واليهودية

ذَلِكَ بِأَنَّ تَزَوُّجَهُ يُفْضِي إلَى اسْتِرْقَاقِ وَلَدِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْحُرِّ الْعَرَبِيِّ وَلَا الْعَجَمِيِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَمْلُوكَةً، إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَإِذَا تَزَوَّجَهَا لِلضَّرُورَةِ كَانَ وَلَدُهُ مَمْلُوكًا. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، فَالْمَانِعُ عِنْدَهُ أَنْ تَكُونَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَهُوَ يُفَرِّقُ فِي الِاسْتِرْقَاقِ بَيْنَ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا إذَا وَطِئَ الْأَمَةَ بِزِنًا، فَإِنَّ وَلَدَهَا مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ عَرَبِيًّا؛ لِأَنَّ النَّسَبَ غَيْرُ لَاحِقٍ، وَأَمَّا إذَا وَطِئَهَا بِنِكَاحٍ وَهُوَ يَعْتَقِدُهَا حُرَّةً أَوْ اسْتَبْرَأَهَا فَوَطِئَهَا بِظَنِّهَا مَمْلُوكَتَهُ، فَهُنَا وَلَدُهُ حُرٌّ، سَوَاءٌ كَانَ عَرَبِيًّا، أَوْ أَعْجَمِيًّا هَذَا يُسَمَّى الْمَغْرُورَ، فَوَلَدُ الْمَغْرُورِ مِنْ النِّكَاحِ أَوْ الْبَيْعِ حُرٌّ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ وَطِئَ زَوْجَةً حُرَّةً أَوْ مَمْلُوكَتَهُ، وَعَلَيْهِ الْفِدَاءُ لِسَيِّدِ الْأَمَةِ، كَمَا قَضَتْ بِذَلِكَ الصَّحَابَةُ، لِأَنَّهُ فَوَّتَ سَيِّدُ الْأَمَةِ مِلْكَهُمْ، فَكَانَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَفِي ذَلِكَ تَفْرِيعٌ وَنِزَاعٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ التَّزْوِيج بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ] 440 - 42 - مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] ، وَقَدْ أَبَاحَ الْعُلَمَاءُ التَّزْوِيجَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ، فَهَلْ هُمَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ جَائِزٌ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] . وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ نِكَاحَ النَّصْرَانِيَّةِ، وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ شِرْكًا أَعْظَمَ مِمَّنْ تَقُولُ: إنَّ رَبَّهَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَهُوَ الْيَوْمُ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَقَدْ احْتَجُّوا بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَبِقَوْلِهِ: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] . وَالْجَوَابُ عَنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ، مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْمُشْرِكِينَ، فَجَعَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ غَيْرَ

الْمُشْرِكِينَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج: 17] . فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَصَفَهُمْ بِالشِّرْكِ بِقَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] . قِيلَ: أَهْلُ الْكِتَابِ لَيْسَ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ شِرْكٌ، فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا بَعَثَ الرُّسُلَ بِالتَّوْحِيدِ، فَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِالرُّسُلِ، وَالْكُتُبِ، لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ شِرْكٌ، وَلَكِنَّ النَّصَارَى ابْتَدَعُوا الشِّرْكَ، كَمَا قَالَ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] بِحَيْثُ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا، فَلِأَجْلِ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَجَبَ تَمَيُّزُهُمْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ اتِّبَاعُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الَّتِي جَاءَتْ بِالتَّوْحِيدِ لَا بِالشِّرْكِ. فَإِذَا قِيلَ: أَهْلُ الْكِتَابِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مُشْرِكِينَ، فَإِنَّ الْكِتَابَ الَّذِي أُضِيفُوا إلَيْهِ شِرْكٌ فِيهِ، كَمَا إذَا قِيلَ: الْمُسْلِمُونَ وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، لَا اتِّحَادٌ، وَلَا رَفْضٌ، وَلَا تَكْذِيبٌ بِالْقَدَرِ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الدَّاخِلِينَ فِي الْأُمَّةِ قَدْ ابْتَدَعَ هَذِهِ الْبِدَعَ، لَكِنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَلَا يَزَالُ فِيهَا مَنْ هُوَ مُتَّبِعٌ لِشَرِيعَةِ التَّوْحِيدِ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يُخْبِرْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ بِالِاسْمِ، بَلْ قَالَ {عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 190] بِالْفِعْلِ، وَآيَةُ الْبَقَرَةِ قَالَ فِيهَا الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ بِالِاسْمِ، وَالِاسْمُ أَوْكَدُ مِنْ الْفِعْلِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: إنْ شَمِلَهُمْ لَفْظُ الْمُشْرِكِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، كَمَا وَصَفَهُمْ بِالشِّرْكِ فَهَذَا مُتَوَجِّهٌ بِأَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ دَلَالَةِ اللَّفْظِ مُفْرَدًا، وَمَقْرُونًا، فَإِذَا أُفْرِدُوا دَخَلَ فِيهِمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَإِذَا قَرَنُوا أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يَدْخُلُوا فِيهِمْ، كَمَا قِيلَ، مِثْلُ هَذَا فِي اسْمِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا يُقَالُ: آيَةُ الْبَقَرَةِ عَامَّةٌ، وَتِلْكَ خَاصَّةٌ، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ.

باب من النكاح

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: آيَةُ الْمَائِدَةِ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْبَقَرَةِ؛ لِأَنَّ الْمَائِدَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْبَقَرَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الْمَائِدَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا» . وَالْآيَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ تَنْسَخُ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ إذَا تَعَارَضَتَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، لَمَّا هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ الْمُمْتَحِنَةِ، وَأَمَرَ بِامْتِحَانِ الْمُهَاجِرِينَ، وَهُوَ خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ فِي عِصْمَتِهِ كَافِرَةٌ، وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ، وَالْكَوَافِرُ الْمَعْهُودَاتُ هُنَّ الْمُشْرِكَاتُ، مَعَ أَنَّ الْكُفَّارَ قَدْ يُمَيَّزُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، لِقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا} [النساء: 51] . فَإِنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ هُوَ الْإِيمَانُ، وَلَكِنْ هُمْ كَفَرُوا مُبْتَدِعِينَ الْكُفْرَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} [النساء: 150] {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 151] . [بَابٌ مِنْ النِّكَاحِ] [مَسْأَلَةٌ تَكَلَّم بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ ثُمَّ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثًا] بَابٌ مِنْ النِّكَاحِ 441 - 43 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ وَحُكِمَ بِكُفْرِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ مِنْ امْرَأَتِهِ ثَلَاثًا، فَإِذَا رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُجَدِّدَ النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِ تَحْلِيلٍ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا ارْتَدَّ وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّةُ امْرَأَتِهِ، فَإِنَّهَا تَبِينُ مِنْهُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ طَلَّقَ أَجْنَبِيَّةً فَلَا يَقَعُ بِهَا

مسألة تزوج بامرأة فظهر مجذوما

الطَّلَاقُ، فَإِذَا عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي زَمَنِ الْعِدَّةِ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَى الْإِسْلَامِ، فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيْنُونَةَ تَحْصُلُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الطَّلَاقُ بَعْدَ هَذَا طَلَاقَ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَلَا يَقَعُ. الثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَزُولُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ. فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ فِي الْعِدَّةِ، وَعَادَ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعُدْ إلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ طَلَّقَ أَجْنَبِيَّةً، فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ فَظَهَرَ مَجْذُومًا] 442 - 44 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ فَظَهَرَ مَجْذُومًا، فَهَلْ لَهَا فَسْخُ النِّكَاحِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا ظَهَرَ أَنَّ الزَّوْجَ مَجْذُومًا فَلِلْمَرْأَةِ فَسْخُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مُصَافِحَةً عَلَى صَدَاقِ خَمْسَةِ دَنَانِيرَ] 443 - 45 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مُصَافِحَةً عَلَى صَدَاقِ خَمْسَةِ دَنَانِيرَ، كُلَّ سَنَةٍ نِصْفُ دِينَارٍ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهَا وَأَصَابَهَا، فَهَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ إذَا رُزِقَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ يَرِثُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ عَلَيْهِمَا الْحَدُّ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا تَزَوَّجَهَا بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ وَكَتَمَا النِّكَاحَ فَهَذَا نِكَاحٌ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، بَلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» ، «وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ

تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» . وَكِلَا هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ مَأْثُورٌ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: لَا نِكَاحَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ يُوجِبُ إعْلَانَ النِّكَاحِ، وَنِكَاحُ السِّرِّ هُوَ مِنْ جِنْسِ نِكَاحِ الْبَغَايَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25] فَنِكَاحُ السِّرِّ مِنْ جِنْسِ ذَوَاتِ الْأَخْدَانِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] . فَخِطَابُ الرِّجَالِ بِتَزْوِيجِ النِّسَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: إنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَنْكِحُ نَفْسَهَا، إنَّ الْبَغِيَّ هِيَ الَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا، لَكِنْ إنْ اعْتَقَدَ هَذَا نِكَاحًا جَائِزًا كَانَ الْوَطْءُ فِيهِ وَطْءَ شُبْهَةٍ يُلْحَقُ الْوَلَدُ فِيهِ، وَيَرِثُ أَبَاهُ، وَأَمَّا الْعُقُوبَةُ فَإِنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِ الْعُقُوبَةَ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ 444 - 46 - مَسْأَلَةٌ: هَلْ تَصِحُّ مَسْأَلَةُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا تَصِحُّ، فَمَنْ قَلَّدَهُ فِيهَا، وَعَمِلَ فِيهَا فَلَمَّا عَلِمَ بُطْلَانَهَا اسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُحْدَثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُفْتِ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا التَّابِعِينَ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِنَّمَا أَفْتَى بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ جَمَاعَةُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ قَلَّدَ فِيهَا شَخْصًا ثُمَّ

مسألة تزويج المطلقة بعبد يطؤها ثم تباح الزوجة

تَابَ فَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ، وَلَا يُفَارِقُ امْرَأَتَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ فِيهَا إذَا كَانَ مُتَأَوِّلًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [مَسْأَلَةٌ تَزْوِيجُ الْمُطَلَّقَةِ بِعَبْدٍ يَطَؤُهَا ثُمَّ تُبَاحُ الزَّوْجَةُ] 445 - 47 - مَسْأَلَةٌ: هَلْ تَصِحُّ مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ بِعَبْدٍ يَطَؤُهَا ثُمَّ تُبَاحُ الزَّوْجَةُ، هِيَ مِنْ صُوَرِ التَّحْلِيلِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» . [مَسْأَلَةٌ لَهُ زَوْجَةٌ وَأُمُّهُ مَا تُرِيدُ الزَّوْجَةَ] 446 - 48 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ وَأُمُّهُ مَا تُرِيدُ الزَّوْجَةَ، فَطَلَّقَ الزَّوْجَةَ، ثُمَّ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا مِنْ هَذِهِ الْمَدِينَةِ الَّتِي دَاخِلَ السُّورِ لِامْرَأَتِهِ وَلَا غَيْرِهَا، فَإِنْ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ أَوْ تَزَوَّجَ غَيْرَهَا مِنْ الْمَدِينَةِ يَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا؟ الْجَوَابُ: بَلْ يَتَزَوَّجُ إنْ شَاءَ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَإِنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِهَا، وَيَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا. [مَسْأَلَةٌ قَوْم يَتَزَوَّجُ هَذَا أُخْتَ هَذَا وَهَذَا أُخْتَ هَذَا] 447 - 49 - مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْمٍ يَتَزَوَّجُ هَذَا أُخْتَ هَذَا، وَهَذَا أُخْتَ هَذَا، أَوْ ابْنَتَهُ وَكُلَّمَا أَنْفَقَ هَذَا أَنْفَقَ هَذَا، وَإِذَا كَسَا هَذَا كَسَا هَذَا، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَفِي الْإِرْضَاءِ، وَالْغَضَبِ إذَا رَضِيَ هَذَا رَضِيَ هَذَا، وَإِذَا أَغْضَبَهَا هَذَا أَغْضَبَهَا الْآخَرُ، فَهَلْ يَحِلُّ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: يَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يُمْسِكَ زَوْجَتَهُ بِمَعْرُوفٍ أَوْ يُسَرِّحَهَا بِإِحْسَانٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُعَلِّقَ ذَلِكَ عَلَى فِعْلِ الزَّوْجِ الْآخَرِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا حَقٌّ عَلَى

مسألة وكل ذميا في قبول نكاح مسلمة

زَوْجِهَا، وَحَقُّهَا لَا يَسْقُطُ بِظُلْمِ أَبِيهَا وَأَخِيهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] . فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا يَظْلِمُ زَوْجَتَهُ وَجَبَ إقَامَةُ الْحَقِّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَحِلَّ لِلْآخَرِ أَنْ يَظْلِمَ زَوْجَتَهُ لِكَوْنِهَا بِنْتًا لِلْأَوَّلِ، وَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَظْلِمُ زَوْجَتَهُ لِأَجْلِ ظُلْمِ الْآخَرِ فَيَسْتَحِقُّ كُلٌّ مِنْهُمَا الْعُقُوبَةَ، وَكَانَ لِزَوْجَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ تَطْلُبَ حَقَّهَا مِنْ زَوْجِهَا، وَلَوْ شُرِطَ هَذَا فِي النِّكَاحِ لَكَانَ هَذَا شَرْطًا بَاطِلًا مِنْ جِنْسِ نِكَاحِ الشِّغَارِ، وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ أُخْتَهُ أَوْ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ بِنْتَه أَوْ أُخْتَهُ، فَكَيْفَ إذَا زَوَّجَهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ أَنْصَفَهَا أَنْصَفَ الْآخَرُ، وَإِنْ ظَلَمَهَا ظَلَمَ الْآخَرُ زَوْجَتَهُ، فَإِنَّ هَذَا يَحْرُمُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي تَزْجُرُهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ وَكَّلَ ذِمِّيًّا فِي قَبُولِ نِكَاحِ مُسْلِمَةٍ] 448 - 50 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ وَكَّلَ ذِمِّيًّا فِي قَبُولِ نِكَاحِ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ، هَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ فَإِنَّ الْوَكِيلَ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُهُ النِّكَاحَ لِنَفْسِهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَوْ وَكَّلَ امْرَأَةً، أَوْ مَجْنُونًا، أَوْ صَبِيًّا غَيْرَ مُمَيِّزٍ لَمْ يَجُزْ، وَلَكِنْ إذَا كَانَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ النِّكَاحِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْقَبُولُ بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهِ، فَوُكِّلَ فِي ذَلِكَ، مِثْلُ أَنْ يُوَكِّلَ عَبْدًا فِي قَبُولِ النِّكَاحِ بِلَا إذْنِ سَيِّدِهِ، أَوْ يُوَكِّلَ سَفِيهًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهِ، أَوْ يُوَكِّلَ صَبِيًّا مُمَيِّزًا بِدُونِ وَلِيِّهِ، فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ إذْنٍ، لَكِنْ فِي الصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ لَا يَجُوزُ لِمَانِعٍ فِيهِ، مِثْلُ أَنْ يُوَكِّلَ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُهَا صَحَّتْ الْوَكَالَةُ. وَأَمَّا تَوْكِيلُ الذِّمِّيِّ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ لَهُ، فَهُوَ يُشْبِهُ تَزْوِيجَ الذِّمِّيِّ ابْنَتَهُ الذِّمِّيَّةَ مِنْ مُسْلِمٍ، وَلَوْ زَوَّجَهَا مِنْ ذِمِّيٍّ جَازَ، وَلَكِنْ إذَا زَوَّجَهَا مِنْ مُسْلِمٍ فَفِيهَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ

مسألة تزوجت رجلا فهرب وتركها من مدة ست سنين

أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، قِيلَ: يَجُوزُ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ بَلْ يُوَكِّلُ مُسْلِمًا، وَقِيلَ: لَا يُزَوِّجُهَا إلَّا الْحَاكِمُ بِإِذْنِهِ. وَكَوْنُهُ وَلِيًّا فِي تَزْوِيجِ الْمُسْلِمِ، مِثْلُ كَوْنِهِ وَكِيلًا فِي تَزْوِيجِ الْمُسْلِمَةِ، وَمَنْ قَالَ إنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ جَائِزٌ، قَالَ إنَّ الْمِلْكَ فِي النِّكَاحِ يَحْصُلُ لِلزَّوْجِ لَا لِلْوَكِيلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، بِخِلَافِ الْمِلْكِ فِي غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ، وَالْمِلْكُ يَحْصُلُ لَهُ، فَلَوْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا فِي شِرَاءِ خَمْرٍ لَمْ يَجُزْ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ يَحْصُلُ لِلزَّوْجِ وَهُوَ الْمُوَكِّلُ لِلْمُسْلِمِ فَتَوْكِيلُ الذِّمِّيِّ بِمَنْزِلَةِ تَوْكِيلِهِ فِي تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ بَعْضَ مَحَارِمِهَا، كَخَالِهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَوْكِيلُهُ فِي قَبُولِ نِكَاحِهَا لِلْمُوَكِّلِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُهَا. كَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا تُوُكِّلَ فِي نِكَاحِ مُسْلِمٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزْوِيجُ الْمُسْلِمَةِ، لَكِنَّ الْأَحْوَطَ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ النِّزَاعِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ فِيهِ شَوْبُ الْعِبَادَاتِ وَيُسْتَحَبُّ عَقْدُهُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْآثَارِ: «مَنْ شَهِدَ إمْلَاكَ مُسْلِمٍ فَكَأَنَّمَا شَهِدَ فَتْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَلِهَذَا وَجَبَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، أَنْ يَعْقِدَ بِالْعَرَبِيَّةِ، كَالْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَّبِعْ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ مُتَوَلِّيًا لِنِكَاحِ مُسْلِمٍ، وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى بُطْلَانِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَالْكَافِرُ يَصِحُّ مِنْهُ النِّكَاحُ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَاتِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَتْ رَجُلًا فَهَرَبَ وَتَرَكَهَا مِنْ مُدَّةِ سِتِّ سِنِينَ] 449 - 51 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ بِرَجُلٍ، فَهَرَبَ وَتَرَكَهَا مِنْ مُدَّةِ سِتِّ سِنِينَ، وَلَمْ يَتْرُكْ عِنْدَهَا نَفَقَةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَزَوَّجَتْ رَجُلًا وَدَخَلَ بِهَا، فَلَمَّا اطَّلَعَ الْحَاكِمُ عَلَيْهَا فَسَخَ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا، فَهَلْ يَلْزَمُ الزَّوْجَ الصَّدَاقُ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: إنْ كَانَ نِكَاحُ الْأَوَّلِ فُسِخَ لِتَعَذُّرِ النَّفَقَةِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ الثَّانِيَ فَنِكَاحُهُ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَتْ الثَّانِيَ قَبْلَ فَسْخِ نِكَاحِ

مسألة تزوج وشرط عليه أن كل امرأة يتزوجها تكون طالقا

الْأَوَّلِ فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ عَلِمَا أَنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ بَاقٍ، وَأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِمَا النِّكَاحُ فَهُمَا يَجِبُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ جَهِلَ الزَّوْجُ نِكَاحَ الْأَوَّلِ أَوْ نَفَاهُ، أَوْ جَهِلَ تَحْرِيمَ نِكَاحِهِ قَبْلَ الْفَسْخِ فَنِكَاحُهُ نِكَاحُ شُبْهَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الصَّدَاقُ، وَيُلْحَقُ فِيهِ النَّسَبُ، وَلَا حَدَّ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ غَرَّتْهُ الْمَرْأَةُ أَوْ وَلِيُّهَا فَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا خَلِيَّةٌ عَنْ الْأَزْوَاجِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالصَّدَاقِ الَّذِي أَدَّاهُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ وَشَرْط عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا تَكُونُ طَالِقًا] 450 - 52 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ وَشَرَطُوا عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُ بِهَا تَكُونُ طَالِقًا، وَكُلَّ جَارِيَةٍ يَتَسَرَّى بِهَا تُعْتَقُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَنَّهُ تَزَوَّجَ وَتَسَرَّى، فَمَا الْحُكْمُ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ؟ . الْجَوَابُ: هَذَا الشَّرْطُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَلَازِمٌ لَهُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مَتَى تَزَوَّجَ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ، وَمَتَى تَسَرَّى عَتَقَتْ عَلَيْهِ الْأَمَةُ، وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَأَمَّا مَذْهَبُ أَحْمَدَ: فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَلَا الْعَتَاقُ لَكِنْ إذَا تَزَوَّجَ وَتَسَرَّى كَانَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا، إنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ، وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» ؛ وَلِأَنَّ رَجُلًا زَوَّجَ امْرَأَةً بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ، فَقَالَ: مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ. فَالْأَقْوَالُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثٌ: أَحَدُهَا: يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ. وَالثَّانِي: لَا يَقَعُ بِهِ، وَلَا تَمْلِكُ امْرَأَتُهُ فِرَاقَهُ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ، أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ، لَكِنْ لِامْرَأَتِهِ مَا شُرِطَ لَهَا، فَإِنْ شَاءَتْ أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ، وَإِنْ شَاءَتْ أَنْ تُفَارِقَهُ، وَهَذَا أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ امْرَأَة وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَوَلَدَتْ بَعْدَ شَهْرَيْنِ] 451 - 53 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَا أَصَابَهَا، فَوَلَدَتْ بَعْدَ

مسألة خطب على خطبة رجل آخر

شَهْرَيْنِ، فَهَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ؟ وَهَلْ يَلْزَمُهُ الصَّدَاقُ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا يُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْمَهْرُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ فِي الْعَقْدِ قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ، وَلَا نِصْفَ مَهْرٍ، وَلَا مُتْعَةَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ إذَا حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ فِيهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا حَاكِمٌ يَرَى فَسَادَ الْعَقْدِ لِقَطْعِ النِّزَاعِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ، ثُمَّ لَا يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ حَتَّى تَضَعَ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ: يَجُوزُ لَهُ الْوَطْءُ قَبْلَ الْوَضْعِ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ، لَكِنَّ هَذَا النِّزَاعَ إذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، أَوْ سَيِّدٍ، أَوْ زَوْجٍ، فَإِنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ إذَا فَارَقَ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَأَمَّا الْحَامِلُ مِنْ زِنًا فَلَا كَلَامَ فِي صِحَّةِ نِكَاحِهَا، وَالنِّزَاعُ فِيمَا إذَا كَانَ نَكَحَهَا طَائِعًا، وَأَمَّا إذَا نَكَحَهَا مُكْرَهًا فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا. [مَسْأَلَةٌ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ رَجُلٍ آخَرَ] 452 - 54 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ رَجُلٍ آخَرَ، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلَا يَسْتَامُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ» . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ فِي النُّصُوصِ عَنْهُمْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي صِحَّةِ نِكَاحِ الثَّانِي عَلَى قَوْلَيْنِ:

مسألة مملوك تزوج امرأة من المسلمين ثم ظهرت عبوديته

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ، كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ صَحِيحٌ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَقْدِ، وَهُوَ الْخِطْبَةُ، وَمَنْ أَبْطَلَهُ قَالَ: إنَّ ذَلِكَ تَحْرِيمٌ لِلْعَقْدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَلَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِهِمْ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا يَقْدَحُ فِي دِينِ الرَّجُلِ، وَعَدَالَتِهِ، وَوِلَايَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. [مَسْأَلَةٌ مَمْلُوك تَزَوَّجَ امْرَأَة مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ ظَهَرَتْ عُبُودِيَّتُهُ] 453 - 55 - مَسْأَلَةٌ: فِي مَمْلُوكٍ فِي الرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ، تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهَرَتْ عُبُودِيَّتُهُ، وَكَانَ قَدْ اعْتَرَفَ أَنَّهُ حُرٌّ وَأَنَّ لَهُ خَيْرًا فِي مِصْرَ وَقَدْ ادَّعَوْا عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ، وَحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ وَاقْتَرَضَ مِنْ زَوْجَتِهِ شَيْئًا، فَهَلْ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ أَوْ لَا؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. تَزَوُّجُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ إذَا لَمْ يُجِزْهُ السَّيِّدُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَهُوَ عَاهِرٌ» . لَكِنْ إذَا أَجَازَهُ السَّيِّدُ بَعْدَ الْعَقْدِ صَحَّ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَإِذَا طَلَبَ النِّكَاحَ فَعَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُزَوِّجَهُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] وَإِذَا غَرَّ الْمَرْأَةَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ حُرٌّ وَتَزَوَّجَهَا، وَدَخَلَ بِهَا، وَجَبَ الْمَهْرُ لَهَا بِلَا نِزَاعٍ، لَكِنْ هَلْ يَجِبُ الْمُسَمَّى كَقَوْلِ مَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ، أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، أَوْ يَجِبُ الْخُمُسَانِ كَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ، هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ يَتَعَلَّقُ هَذَا الْوَاجِبُ بِرَقَبَتِهِ، كَقَوْلِ أَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ،

مسألة زوج ابنته لشخص ولم يعلم أنه شارب خمر

وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ وَأَظُنُّهُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِذِمَّةِ الْعَبْدِ قَدْ يُتْبَعُ بِهِ إذَا أُعْتِقَ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ لَهُمْ أَنَّهُ تَلْبِيسٌ عَلَيْهِمْ وَكَذِبٌ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ دُخُولُهُ عَلَيْهَا بِهَذَا الْكَذِبِ عُدْوَانٌ مِنْهُ عَلَيْهِمْ، وَالْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمَمْلُوكَ لَوْ تَعَدَّى عَلَى أَحَدٍ، فَأَتْلَفَ مَالَهُ أَوْ جَرَحَهُ أَوْ قَتَلَهُ كَانَتْ جِنَايَتُهُ مُتَعَلِّقَةً بِرَقَبَتِهِ، لَا تَجِبُ فِي ذِمَّةِ السَّيِّدِ، بَلْ يُقَالُ لِلسَّيِّدِ: إنْ شِئْت أَنْ تَفُكَّ مَمْلُوكَك مِنْ هَذِهِ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ شِئْت أَنْ تُسَلِّمَهُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ هَذِهِ الْجِنَايَةَ مِنْ رَقَبَتِهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ فَعَلَيْهِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قَدْرِ الْجِنَايَةِ، أَوْ قِيمَةِ الْعَبْدِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَغَيْرِهِمَا، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ يَفْدِيهِ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ بَالِغًا مَا بَلَغَ. فَهَذَا الْعَبْدُ ظَالِمٌ، مُعْتَدٍ، جَارٍ عَلَى هَؤُلَاءِ فَتَتَعَلَّقُ جِنَايَتُهُ بِرَقَبَتِهِ، وَكَذَلِكَ مَا اقْتَرَضَهُ مِنْ مَالِ الزَّوْجَةِ مَعَ قَوْلِهِ أَنَّهُ حُرٌّ، فَهُوَ عُدْوَانٌ عَلَيْهِمْ، فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ زَوَّجَ ابْنَتَهُ لِشَخْصٍ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ شَارِب خَمْر] 454 - 56 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ لِشَخْصٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَأَقَامَ فِي صُحْبَةِ الزَّوْجَةِ سِنِينَ، فَعَلِمَ الْوَلِيُّ وَالزَّوْجَةُ مَا الزَّوْجُ عَلَيْهِ مِنْ النَّجِسِ وَالْفَسَادِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْكَذِبِ وَالْأَيْمَانِ الْخَائِنَةِ، فَبَانَتْ الزَّوْجَةُ مِنْهُ بِالثَّلَاثِ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ الْإِقْدَامُ عَلَى تَزْوِيجِهِ أَمْ لَا؟ ثُمَّ إنَّ الْوَلِيَّ اسْتَتَابَ الزَّوْجَ مِرَارًا عَدِيدَةً، وَنَكَثَ وَلَمْ يَرْجِعْ، فَهَلْ يَحِلُّ تَزْوِيجُهَا لَهُ؟ . الْجَوَابُ: إذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَى الْفِسْقِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ تَزْوِيجُهَا لَهُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: " مِنْ زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ مِنْ فَاجِرٍ فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَهَا ". لَكِنْ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَابَ فَلْتُزَوَّجْ بِهِ إذَا كَانَ كُفُؤًا لَهَا وَهِيَ رَاضِيَةٌ بِهِ وَأَمَّا نِكَاحُ التَّحْلِيلِ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» ، وَلَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى نِكَاحِ التَّحْلِيلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة تزوجت برجل فلما دخل رأت بجسمه برصا

[مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَتْ بِرَجُلٍ فَلَمَّا دَخَلَ رَأَتْ بِجِسْمِهِ بَرَصًا] مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ بِرَجُلٍ، فَلَمَّا دَخَلَ رَأَتْ بِجِسْمِهِ بَرَصًا فَهَلْ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ عَلَيْهِ النِّكَاحَ؟ . الْجَوَابُ: إذَا ظَهَرَتْ بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ فَلِلْآخِرِ فَسْخُ النِّكَاحِ، لَكِنْ إذَا رَضِيَ بَعْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ فَلَا فَسْخَ لَهُ، وَإِذَا فَسَخَتْ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ جِهَازِهَا، وَإِنْ فَسَخَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ مَهْرُهَا، وَإِنْ فَسَخَتْ بَعْدَهُ لَمْ يَسْقُطْ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ فَبَانَتْ ثَيِّبًا] 456 - 58 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ، فَبَانَتْ ثَيِّبًا فَهَلْ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ وَيَرْجِعُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ، وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِأَرْشِ الصَّدَاقِ، وَهُوَ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ مَهْرِ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فَيَنْقُصُ بِنِسْبَتِهِ مِنْ الْمُسَمَّى، وَإِذَا فُسِخَ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ عَنْهُ الْمَهْرُ، وَاَللَّهُ أَعْلَم. [مَسْأَلَةٌ مُتَزَوِّج بِامْرَأَةِ وَسَافَرَ عَنْهَا سَنَةً كَامِلَةً] 457 - 59 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ بِامْرَأَةٍ وَسَافَرَ عَنْهَا سَنَةً كَامِلَةً، وَلَمْ يَتْرُكْ عِنْدَهَا شَيْئًا وَلَا لَهَا شَيْءٌ تُنْفِقُهُ عَلَيْهَا، وَهَلَكَتْ مِنْ الْجُوعِ فَحَضَرَ مَنْ يَخْطُبُهَا وَدَخَلَ بِهَا، وَحَمَلَتْ مِنْهُ، فَعَلِمَ الْحَاكِمُ أَنَّ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ مَوْجُودٌ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَوَضَعَتْ الْحَمْلُ مِنْ الزَّوْجِ الثَّانِي، وَالزَّوْجُ الثَّانِي يُنْفِقُ عَلَيْهَا إلَى أَنْ صَارَ عُمْرُ الْمَوْلُودِ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَلَمْ يَحْضُرْ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ، وَلَا عُرِفَ لَهُ مَكَانٌ، فَهَلْ لَهَا أَنْ تُرَاجِعَ الزَّوْجَ الثَّانِي أَوْ تَنْتَظِرَ الْأَوَّلَ. الْجَوَابُ: إذَا تَعَذَّرَتْ النَّفَقَةُ مِنْ جِهَتِهِ فَلَهَا فَسْخُ النِّكَاحِ، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ، وَالْفَسْخُ لِلْحَاكِمِ فَإِذَا فَسَخَتْ هِيَ نَفْسُهَا لِتَعَذُّرِ فَسْخِ الْحَاكِمِ أَوْ غَيْرِهِ، فَفِيهِ نِزَاعٌ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَفْسَخْ الْحَاكِمُ بَلْ شَهِدَ لَهَا أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، وَتَزَوَّجَتْ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَلَمْ يَمُتْ الزَّوْجُ، فَالنِّكَاح بَاطِلٌ لَكِنْ إذَا اعْتَقَدَ الزَّوْجُ الثَّانِي أَنَّهُ صَحِيحٌ لِظَنِّهِ مَوْتَ الزَّوْجِ

مسألة تزوج بامرأة ومعها بنت فتوفيت الزوجة

الْأَوَّلِ وَانْفِسَاخَ النِّكَاحِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ يُلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لَكِنْ تَعْتَدُّ لَهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَوَّلِ إنْ أَمْكَنَ، وَتَتَزَوَّجُ لِمَنْ شَاءَتْ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَمَعَهَا بِنْتٌ فَتُوُفِّيَتْ الزَّوْجَةُ] 458 - 60 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَمَعَهَا بِنْتٌ، وَتُوُفِّيَتْ الزَّوْجَةُ، وَبَقِيَتْ الْبِنْتُ عِنْدَهُ رَبَّاهَا، وَقَدْ تَعَرَّضَ بَعْضُ الْجُنْدِ لِأَخْذِهَا، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ . الْجَوَابُ: لَيْسَ لِلْجُنْدِ عَلَيْهَا وِلَايَةٌ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْ يَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ بِالنَّسَبِ فَمَنْ كَانَ أَصْلَحَ لَهَا حَضَنَهَا، وَزَوْجُ أُمِّهَا مَحْرَمٌ لَهَا، وَأَمَّا الْجُنْدُ فَلَيْسَ مَحْرَمًا لَهَا، فَإِذَا كَانَ يَحْضُنُهَا حَضَانَةً تَصْلُحُهَا لَمْ تُنْقَلْ مِنْ عِنْدِهِ إلَى أَجْنَبِيٍّ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا وَالْخَلْوَةُ بِهَا. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ مُعْتَقَةَ رَجُلٍ وَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ وَطَلَّقَهَا] 459 - 61 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ مُعْتَقَةَ رَجُلٍ وَطَلَّقَهَا، وَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ وَطَلَّقَهَا، ثُمَّ حَضَرَتْ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ، فَأَرَادَ رَدَّهَا وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا بَرَاءَةٌ فَخَافَ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ بَرَاءَةٌ، فَحَضَرَا عِنْدَ قَاضِي الْبَلَدِ وَادَّعَى أَنَّهَا جَارِيَتُهُ وَأَوْلَدَهَا، وَأَنَّهُ يُرِيدُ عِتْقَهَا وَيَكْتُبُ لَهَا كِتَابًا، فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: إذَا زَوَّجَهَا الْقَاضِي بِحُكْمِ أَنَّهُ وَلِيُّهَا، وَكَانَتْ خَلِيَّةً مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ أَوْلَى مِنْ الْحَاكِمِ صَحَّ النِّكَاحُ، وَإِنْ ظَنَّ الْقَاضِي أَنَّهَا عَتِيقَةٌ وَكَانَتْ حُرَّةَ الْأَصْلِ فَهَذَا الظَّنُّ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ. وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ الزَّوْجَ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ وَلِيًّا، وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمُعْتَقَةَ يَكُونُ زَوْجُهَا الْمُعْتِقُ وَلِيَّهَا، وَالْقَاضِي نَائِبَهُ، فَهُنَا إذَا زَوَّجَ الْحَاكِمُ بِهَذِهِ النِّيَابَةِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبُولُهَا مِنْ جِهَتِهَا، وَلَكِنْ مِنْ كَوْنِهَا حُرَّةَ الْأَصْلِ، فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

باب الولاء

[بَابُ الْوَلَاءِ] [مَسْأَلَةٌ خَلَّفَ ذَكَرًا وَابْنَتَيْنِ غَيْرَ مُرْشِدَيْنِ] ِ مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ خَلَّفَ وَلَدًا ذَكَرًا، وَابْنَتَيْنِ غَيْرَ مُرْشِدَيْنِ، وَأَنَّ الْبِنْتَ الْوَاحِدَةَ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ وَوَكَّلَتْ زَوْجَهَا فِي قَبْضِ مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ إرْثِ وَالِدِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ، فَهَلْ لِلْأَخِ الْمَذْكُورِ الْوَلَاءُ عَلَيْهَا؟ وَهَلْ يُطْلَبُ الزَّوْجُ بِمَا قَبَضَهُ، وَمَا صَرَفَهُ لِمَصْلَحَةِ الْيَتِيمَةِ؟ . الْجَوَابُ: لِلْأَخِ الْوِلَايَةُ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَإِذَا فَعَلْت فِي مَا لَا يَحِلُّ لَهَا نَهَاهَا عَنْ ذَلِكَ، وَمَنَعَهَا، وَأَمَّا الْحَجْرُ عَلَيْهَا إنْ كَانَتْ سَفِيهَةً فَلِوَصِيِّهَا إنْ كَانَ لَهَا وَصِيٌّ الْحَجْرُ عَلَيْهَا، وَإِلَّا فَالْحَاكِمُ يَحْجُرُ عَلَيْهَا، وَلِأَخِيهَا أَنْ يَرْفَعَ أَمْرَهَا إلَى الْحَاكِمِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُل أَسْلَمَ هَلْ تَبْقَى لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى أَوْلَادِهِ الْكِتَابِيِّينَ] 461 - 63 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أَسْلَمَ هَلْ تَبْقَى لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى أَوْلَادِهِ الْكِتَابِيِّينَ؟ . الْجَوَابُ: لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ فِي النِّكَاحِ، كَمَا لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمِيرَاثِ، فَلَا يُزَوِّجُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِنْتَه أَوْ غَيْرَهَا، وَلَا يَرِثُ كَافِرٌ مُسْلِمًا، وَلَا مُسْلِمٌ كَافِرًا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَصْحَابِهِمْ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، لَكِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا كَانَ مَالِكًا لِلْأَمَةِ زَوَّجَهَا بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ وَلِيُّ أَمْرِ زَوْجِهَا بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ، وَإِمَّا بِالْقَرَابَةِ وَالْعَتَاقَةِ فَلَا يُزَوِّجُهَا، إذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا خِلَافٌ شَاذٌّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي النَّصْرَانِيِّ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ، كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ يَرِثُهَا، وَهُمَا قَوْلَانِ شَاذَّانِ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ، وَلَا يَتَزَوَّجُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَةَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ قَطَعَ الْوِلَايَةَ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَأَوْجَبَ الْبَرَاءَةَ بَيْنَهُمْ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، وَأَثْبَتَ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]

مسألة توفي وخلف مستولدة فتوفيت وخلفت ذكرا وبنتين

وَقَالَ تَعَالَى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] إلَى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55] إلَى قَوْلِهِ: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56] . وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَثْبَتَ الْوِلَايَةَ بَيْنَ أُولِي الْأَرْحَامِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب: 6] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72] إلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] إلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] . [مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَ وَخَلَّفَ مُسْتَوْلَدَةً فَتُوُفِّيَتْ وَخَلَّفَتْ ذَكَرًا وَبِنْتَيْنِ] 462 - 64 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَخَلَّفَ مُسْتَوْلَدَةً لَهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تُوُفِّيَتْ الْمُسْتَوْلَدَةُ وَخَلَّفَتْ وَلَدًا ذَكَرًا وَبِنْتَيْنِ، فَهَلْ لِلْبَنَاتِ وَلَاءٌ مَعَ الذَّكَرِ؟ وَهَلْ يَرِثْنَ مَعَهُ شَيْئًا؟

مسألة خطب امرأة ولها ولد والعاقد مالكي

الْجَوَابُ: هَذَا فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، أَحَدُهُمَا؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْوَلَاءَ يَخْتَصُّ بِالذُّكُورِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْوَلَاءَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، لِلذَّكَرِ كَمِثْلِ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ خَطَبَ امْرَأَةً وَلَهَا وَلَدٌ وَالْعَاقِدُ مَالِكِيٌّ] 463 - 65 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ خَطَبَ امْرَأَةً وَلَهَا وَلَدٌ، وَالْعَاقِدُ مَالِكِيٌّ، فَطَلَبَ الْعَاقِدُ الْوَلَدَ، فَتَعَذَّرَ حُضُورُهُ وَجِيءَ بِغَيْرِهِ، وَأَجَابَ الْعَاقِدُ فِي تَزْوِيجِهَا، فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ؟ الْجَوَابُ: لَا يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَلَدَ وَلِيُّهَا، وَإِذَا كَانَ حَاضِرًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ لَمْ تُزَوَّجْ إلَّا بِإِذْنِهِ، فَأَمَّا إنْ غَابَ غَيْبَةً بَعِيدَةً انْتَقَلَتْ الْوِلَايَةُ إلَى الْأَبْعَدِ أَوْ الْحَاكِمِ، وَلَوْ زَوَّجَهَا شَافِعِيٌّ مُعْتَقِدًا أَنَّ الْوَلَدَ لَا وِلَايَةَ لَهُ كَانَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، لَكِنَّ الَّذِي زَوَّجَهَا مَالِكِيٌّ يَعْتَقِدُ أَنْ لَا يُزَوِّجَهَا إلَّا وَلَدُهَا، فَإِذَا لَبَّسَ عَلَيْهِ وَزَوَّجَهَا مَنْ يَعْتَقِدُهُ وَلَدَهَا، وَلَمْ يَكُنْ ذَا الْحَاكِمُ قَدْ زَوَّجَهَا بِوِلَايَتِهِ وَلَا زُوِّجَتْ بِوِلَايَةِ وَلِيٍّ مِنْ نَسَبٍ، أَوْ وَلَاءٍ فَتَكُونُ مَنْكُوحَةً بِدُونِ إذْنِ وَلِيٍّ أَصْلًا، وَهَذَا النِّكَاحُ بَاطِلٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ النُّصُوصُ. 464 - 66 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِوِلَايَةِ أَجْنَبِيٍّ، وَوَلِيُّهَا فِي مَسَافَةٍ دُونَ الْقَصْرِ، مُعْتَقِدًا أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ حَاكِمٌ، وَدَخَلَ بِهَا وَاسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ أَرَادَ رَدَّهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ لِبُطْلَانِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ إسْقَاطِ الْحَدِّ؟ وَوُجُوبُ الْمَهْرِ، وَيُلْحَقُ النَّسَبُ وَيَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ؟ . الْجَوَابُ: لَا يَجِبُ فِي هَذَا النِّكَاحِ حَدٌّ إذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ، بَلْ يُلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ وَيَجِبُ فِيهِ الْمَهْرُ، وَلَا يَحْصُلُ الْإِحْصَانُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، إذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ، وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُزَوِّجَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ بِحَالٍ، فَفَارَقَهَا

مسألة الأمة إذا طلبت النكاح من كفؤ

الزَّوْجُ حِينَ عَلِمَ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ، وَالْحَالُ هَذِهِ، وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. [مَسْأَلَةٌ الْأَمَة إذَا طَلَبَتْ النِّكَاحَ مِنْ كُفُؤٍ] 465 - 67 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ عَبْدٌ وَقَدْ حَبَسَ نِصْفَهُ، قَصَدَ الزَّوَاجَ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ لَهُ التَّزَوُّجُ عَلَى أَصْلِ مَنْ يُجْبِرُ السَّيِّدَ عَلَى تَزْوِيجِهِ، كَمَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ، فَإِنَّ تَزْوِيجَهُ كَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] . فَأَمَرَ بِتَزْوِيجِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، كَمَا أَمَرَ بِتَزْوِيجِ الْأَيَامَى، وَتَزْوِيجِ الْأَمَةِ إذَا طَلَبَتْ النِّكَاحَ مِنْ كُفُؤٍ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَاَلَّذِي يَأْذَنُ لَهُ فِي النِّكَاحِ مَالِكُ نِصْفِهِ، أَوْ وَكِيلُهُ، وَنَاظِرُ النَّصِيبِ الْمُحْبَسِ. [مَسْأَلَةٌ عَازِب وَنَفْسُهُ تَتُوقُ إلَى الزَّوَاجِ] 466 - 68 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ عَازِبٍ وَنَفْسُهُ تَتُوقُ إلَى الزَّوَاجِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَخَافُ أَنْ يَتَكَلَّفَ مِنْ الْمَرْأَةِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَاهَدَ اللَّهَ أَنْ لَا يَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا فِيهِ مِنَّةٌ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ كَثِيرُ التَّطَلُّعِ إلَى الزَّوَاجِ، فَهَلْ يَأْثَمُ بِتَرْكِ الزَّوَاجِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» . وَاسْتِطَاعَةُ النِّكَاحِ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَئُونَةِ لَيْسَ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْوَطْءِ، فَإِنَّ

مسألة تزوج امرأة وجاء أناس فأخذوها من بيته ونهبوه

الْحَدِيثَ إنَّمَا هُوَ خِطَابٌ لِلْقَادِرِ عَلَى فِعْلِ الْوَطْءِ، وَلِهَذَا أُمِرَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَصُومَ فَإِنَّهُ وِجَاءٌ. وَمَنْ لَا مَالَ لَهُ هَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْتَرِضَ وَيَتَزَوَّجَ؟ فِيهِ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33] . وَأَمَّا الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَهُوَ الْقَائِمُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَجَاءَ أُنَاسٌ فَأَخَذُوهَا مِنْ بَيْتِهِ وَنَهَبُوهُ] 467 - 69 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَقَعَدَتْ مَعَهُ أَيَّامًا وَجَاءَ أُنَاسٌ ادَّعَوْا أَنَّهَا فِي الْمَمْلَكَةِ، وَأَخَذُوهَا مِنْ بَيْتِهِ وَنَهَبُوهُ، وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا، فَهَلْ يَجُوزُ أَخْذُهَا وَهِيَ حَامِلٌ؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا لَمْ يُبَيَّنْ لِلزَّوْجِ أَنَّهَا أَمَةٌ بَلْ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا مُطْلَقًا كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَظَنَّ أَنَّهَا حُرَّةٌ، أَوْ قِيلَ لَهُ: إنَّهَا حُرَّةٌ، فَهُوَ مَغْرُورٌ وَوَلَدُهُ مِنْهَا حُرٌّ لَا رَقِيقٌ. وَأَمَّا النِّكَاحُ فَبَاطِلٌ، إذَا لَمْ يُجِزْهُ السَّيِّدُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ أَجَازَهُ السَّيِّدُ صَحَّ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، بَلْ يَحْتَاجُ إلَى نِكَاحٍ جَدِيدٍ. وَأَمَّا إنْ ظَهَرَتْ حَامِلًا مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ بِلَا رَيْبٍ، وَلَا صَدَاقَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، بَلْ كُلُّ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِهِ رُدَّ إلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا] 468 - 70 - مَسْأَلَةٌ: عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ إذْنُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ

وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا» وَفِي رِوَايَةٍ: «الْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا وَصَمْتُهَا إقْرَارُهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْجَارِيَةِ يُنْكِحُهَا أَهْلُهَا أَتُسْتَأْمَرُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَعَمْ تُسْتَأْمَرُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْت لَهُ: فَإِنَّهَا تَسْتَحِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَذَلِكَ إذْنُهَا إذَا هِيَ سَكَتَتْ» . وَعَنْ خَنْسَاءَ ابْنَةِ خِذَامٍ، أَنَّ «أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتٌ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَدَّ نِكَاحَهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ؟ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَالْمَرْأَةُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُزَوِّجَهَا، إلَّا بِإِذْنِهَا كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ كَرِهَتْ ذَلِكَ لَمْ تُجْبَرْ عَلَى النِّكَاحِ، إلَّا الصَّغِيرَةُ الْبِكْرُ، فَإِنَّ أَبَاهَا يُزَوِّجُهَا وَلَا إذْنَ لَهَا. وَأَمَّا الْبَالِغُ الثَّيِّبُ فَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا لَا لِلْأَبِ وَلَا لِغَيْرِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ الْبِكْرُ الْبَالِغُ لَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ تَزْوِيجُهَا بِدُونِ إذْنِهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. فَأَمَّا الْأَبُ وَالْجَدُّ فَيَنْبَغِي لَهُمَا اسْتِئْذَانُهَا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِئْذَانِهَا، هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ. وَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْمَرْأَةِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ فِيمَنْ يُزَوِّجُهَا بِهِ، وَيَنْظُرَ فِي الزَّوْجِ هَلْ هُوَ كُفُؤٌ أَوْ غَيْرُ كُفُؤٍ؟ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُزَوِّجُهَا لِمَصْلَحَتِهَا لَا لِمَصْلَحَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِزَوْجٍ نَاقِصٍ لِغَرَضٍ لَهُ، مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُوَلِّيَةَ ذَلِكَ الزَّوْجِ بَدَلَهَا، فَيَكُونُ مِنْ جِنْسِ الشِّغَارِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ يُزَوِّجُهَا بِأَقْوَامٍ يُخَالِفُهُمْ عَلَى أَغْرَاضٍ لَهُ فَاسِدَةٍ، أَوْ

مسألة تزوج بالغة من جدها أبي أبيها

يُزَوِّجُهَا لِرَجُلٍ لِمَالٍ يَبْذُلُهُ لَهُ، وَقَدْ خَطَبَهَا مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لَهَا مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجِ، فَيُقَدَّمُ الْخَاطِبُ الَّذِي بَرْطَلَهُ عَلَى الْخَاطِبِ الْكُفْءِ الَّذِي لَمْ يُبَرْطِلْهُ. وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْوَلِيِّ فِي بُضْعِ وَلِيَّتِهِ كَتَصَرُّفِهِ فِي مَالِهَا، فَكَمَا لَا يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهَا إلَّا بِمَا هُوَ أَصْلَحُ، كَذَلِكَ لَا يَتَصَرَّفُ فِي بَعْضِهَا إلَّا بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لَهَا، إلَّا أَنَّ الْأَبَ لَهُ مِنْ التَّبَسُّطِ فِي مَالِ وَلَدِهِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» بِخِلَافِ غَيْرِ الْأَبِ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ بَالِغَةً مِنْ جَدِّهَا أَبِي أَبِيهَا] 469 - 71 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بَالِغَةً مِنْ جَدِّهَا أَبِي أَبِيهَا وَمَا رَشَدَهَا وَلَا مَعَهُ وَصِيَّةٌ مِنْ أَبِيهَا، فَلَمَّا دَنَتْ وَفَاةُ جَدِّهَا أَوْصَى عَلَى الْبِنْتِ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا، فَهَلْ لِلْجَدِّ الْمَذْكُورِ عَلَى الزَّوْجَةِ وِلَايَةٌ بَعْدَ أَنْ أَصَابَهَا الزَّوْجُ؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ يُوصِيَ عَلَيْهَا؟ الْجَوَابُ: أَمَّا إذَا كَانَتْ رَشِيدَةً فَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهَا لَا لِلْجَدِّ وَلَا غَيْرِهِ، بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُسْتَحَقُّ الْحَجْرُ عَلَيْهَا فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَدَّ لَهُ وِلَايَةٌ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِي: لَا وِلَايَةَ لَهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْجَارِيَةُ وَمَضَتْ عَلَيْهَا سَنَةٌ، وَأَوْلَدَهَا أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ رَشِيدَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. [مَسْأَلَةٌ رَجُل تَحْتَ حِجْرِ وَالِدِهِ وَقَدْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِهِ] 470 - 72 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَحْتَ حِجْرِ وَالِدِهِ، وَقَدْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدِهِ، وَشَهِدَ الْمَعْرُوفُونَ أَنَّ وَالِدَهُ مَاتَ وَهُوَ حَيٌّ، فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ إذَا تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدِهِ حَقٌّ أَمْ لَا؟

مسألة طلب منه رجل بنته لنفسه

الْجَوَابُ: إنْ كَانَ سَفِيهًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ بِدُونِ إذْنِ أَبِيهِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ رَشِيدًا صَحَّ نِكَاحُهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ أَبُوهُ، وَإِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ هَلْ نَكَحَ وَهُوَ رُشْدٌ أَوْ وَهُوَ سَفِيهٌ؟ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي صِحَّةِ النِّكَاحِ. [مَسْأَلَةٌ طَلَبَ مِنْهُ رَجُلٌ بِنْتَه لِنَفْسِهِ] 471 - 73 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ طَلَبَ مِنْهُ رَجُلٌ بِنْتَه لِنَفْسِهِ، قَالَ: مَا أُزَوِّجُك بِنْتِي حَتَّى تُزَوِّجَ بِنْتَك لِأَخِي، فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا التَّزْوِيجُ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ ذَلِكَ، قِيلَ: إذَا طَلَبَ الْكُفْءُ بِنْتَه، وَجَبَ عَلَيْهِ تَزْوِيجُهَا، وَلَا يَحِلُّ مَنْعُهَا لِحَظِّ نَفْسِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِمَّنْ يَكُونُ أَصْلَحَ لَهَا، وَيَنْظُرُ فِي مَصْلَحَتِهَا لَا فِي مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، كَمَا يَنْظُرُ وَلِيُّ الْيَتِيمِ فِي مَالِهِ، وَإِذَا تَشَارَطَا أَنَّهُ لَا يُزَوِّجُهُ ابْنَتَهُ حَتَّى يُزَوِّجَهُ أُخْتَهُ، كَانَ هَذَا نِكَاحًا فَاسِدًا، وَلَوْ سُمِّيَ مَعَ ذَلِكَ صَدَاقٌ آخَرُ، هَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 472 - 74 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ بَرْطَلَ وَلِيَّ امْرَأَةٍ لِيُزَوِّجَهَا إيَّاهُ فَزَوَّجَهَا، ثُمَّ صَالَحَ صَاحِبَ الْمَالِ عَنْهُ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ ذَلِكَ دَرْكٌ؟ الْجَوَابُ: آثِمٌ فِيمَا فَعَلَ، وَأَمَّا النِّكَاحُ فَصَحِيحٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ الْعَمَل بِالْمَسْأَلَةِ السريجية] 473 - 75 - مَسْأَلَةٌ: مَا قَوْلُكُمْ فِي الْعَمَلِ بِالسُّرَيْجِيَّةِ، وَهِيَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسَمَّى مَسْأَلَةَ ابْنِ سُرَيْجٍ؟ . الْجَوَابُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ السُّرَيْجِيَّةُ لَمْ يُفْتِ بِهَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّتِهَا لَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ، وَلَا أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعِينَ، كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ

مسألة تزوج عتيقة بعض بنات الملوك بغير إذن معتقها

وَأَحْمَدَ، وَلَا أَصْحَابِهِمْ الَّذِينَ أَدْرَكُوهُمْ، كَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَالْمُزَنِيِّ، وَالْبُوَيْطِيِّ، وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَابْنِ وَهْبٍ، وَإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ، وَأَبِي دَاوُد، وَغَيْرِهِمْ. لَمْ يُفْتِ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا أَفْتَى بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بَعْدَ هَؤُلَاءِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ، كَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَكَانَ الْغَزَالِيُّ يَقُولُ بِهَا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا، وَبَيَّنَ فَسَادَهَا. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ نِكَاحَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُ كَنِكَاحِ النَّصَارَى، وَالدُّورُ الَّذِي تَوَهَّمُوهُ فِيهَا بَاطِلٌ، فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْمُنَجَّزُ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ، وَهُوَ إنَّمَا يَقَعُ لَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا، وَالتَّعْلِيقُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى مُحَالٍ فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ وُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالتَّسْرِيجُ يَتَضَمَّنُ لِهَذَا الْمُحَالِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَيَكُونُ بَاطِلًا. وَإِذَا كَانَ قَدْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَلْيُمْسِكْ امْرَأَتَهُ، وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى، وَيَتُوبُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتَ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، فَطَلَّقَهَا وَقَعَ الْمُنَجَّزُ عَلَى الرَّاجِحِ، وَلَا يَقَعُ مَعَهُ الْمُعَلَّقُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ وَهُوَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ لَمْ يَقَعْ الْمُنَجَّزُ لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى عَدَدِ الطَّلَاقِ، وَإِذَا لَمْ يَقَعْ الْمُنَجَّزُ لَمْ يَقَعْ الْمُعَلَّقُ. وَقِيلَ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الْمُنَجَّزِ يَقْتَضِي وُقُوعَ الْمُعَلَّقِ، وَوُقُوعُ الْمُعَلَّقِ يَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِ الْمُنَجَّزِ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ، وَابْنُ سُرَيْجٍ بَرِيءٌ مِمَّا نُسِبَ إلَيْهِ فِيمَا قَالَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ عَتِيقَةَ بَعْضِ بَنَاتِ الْمُلُوكِ بِغَيْرِ إذْنِ مُعْتِقِهَا] 474 - 76 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ عَتِيقَةَ بَعْضِ بَنَاتِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ يَشْتَرُوا الرَّقِيقَ مِنْ مَالِهِمْ وَمَالِ الْمُسْلِمِينَ، بِغَيْرِ إذْنِ مُعْتِقِهَا، فَهَلْ يَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: أَمَّا إذَا أَعْتَقَتْهَا مِنْ مَالِهَا عِتْقًا شَرْعِيًّا، فَالْوِلَايَةُ لَهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَهِيَ الَّتِي تَرِثُهَا، ثُمَّ أَقْرَبُ عَصَبَاتِهَا مِنْ بَعْدِهَا.

مسألة خطب امرأة فاتفقوا على النكاح من غير عقد

وَأَمَّا تَزْوِيجُ هَذِهِ الْعَتِيقَةِ بِدُونِ إذْنِ الْمُعْتِقَةِ، فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ إذْنَ الْوَلِيِّ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَقُولُ: بِأَنَّ هَذَا النِّكَاحَ يَصِحُّ عِنْدَهُ، لَكِنْ مَنْ يَشْتَرِطُ إذْنَ الْوَلِيِّ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ لَهُمْ قَوْلَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. إحْدَاهُمَا: أَنَّهَا لَا تُزَوَّجُ إلَّا بِإِذْنِ الْمُعْتِقَةِ، فَإِنَّهَا عَصَبَتُهَا، وَعَلَى هَذَا فَهَلْ لِلْمَرْأَةِ نَفْسِهَا أَنْ تُزَوِّجَهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَزْوِيجَهَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ الْمُعْتِقَةِ، لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ وَلِيَّةً لِنَفْسِهَا، فَلَا تَكُونُ وَلِيَّةً لِغَيْرِهَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا عِنْدَهُمْ، فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِهَا، فَعَلَى هَذَا يُزَوِّجُ هَذِهِ الْمُعْتَقَةَ مَنْ يُزَوِّجُ مُعْتِقَهَا بِإِذْنِ الْعَتِيقَةِ، مِثْلُ أَخِ الْمُعْتَقَةِ وَنَحْوِهِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ وِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا وَزَوَّجَهَا الْحَاكِمُ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ كَانَ أَهْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْوَلَاءُ لَهُمْ، وَالْحَاكِمُ يُزَوِّجُهَا. [مَسْأَلَةٌ خَطَبَ امْرَأَةً فَاتَّفَقُوا عَلَى النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ] 475 - 77 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ خَطَبَ امْرَأَةً، فَاتَّفَقُوا عَلَى النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ، وَأَعْطَى أَبَاهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ شَيْئًا، فَمَاتَتْ قَبْلَ الْعَقْدِ، هَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَعْطَى؟ . الْجَوَابُ: إذَا كَانُوا قَدْ وَفَّوْا لَهُ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَمْنَعُوهُ مِنْ نِكَاحِهَا حَتَّى مَاتَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مَا أَعْطَاهُمْ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَهَا اسْتَحَقَّتْ جَمِيعَ الصَّدَاقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا بَذَلَ لَهُمْ ذَلِكَ لِيُمَكِّنُوهُ مِنْ نِكَاحِهَا، وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ، وَهَذَا غَايَةُ الْمُمْكِنِ. [مَسْأَلَةٌ التَّحْلِيلُ الْمُتَوَاطِئ عَلَيْهِ مَعَ الزَّوْجِ] 476 - 78، مَسْأَلَةٌ: فِي هَذَا التَّحْلِيلِ الَّذِي يَفْعَلُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ، إذَا وَقَعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْإِشْهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْحِيَلِ الْمَعْرُوفَةِ، هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قَلَّدَ مَنْ قَالَ بِهِ، هَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَ اعْتِقَادٍ وَاعْتِقَادٍ؟ وَهَلْ الْأَوْلَى إمْسَاكُ الْمَرْأَةِ أَمْ لَا؟

مسألة لا يخطب على خطبة أخيه إذا أجيب إلى النكاح

الْجَوَابُ: التَّحْلِيلُ الَّذِي يَتَوَاطَئُونَ فِيهِ مَعَ الزَّوْجِ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا، عَلَى أَنْ يُطَلِّقَ الْمَرْأَةَ أَوْ يَنْوِيَ الزَّوْجُ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ، لَعَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاعِلَهُ فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَسَمَّاهُ التَّيْسَ الْمُسْتَعَارَ، وَقَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» . وَكَذَلِكَ مِثْلُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَغَيْرِهِمْ، لَهُمْ بِذَلِكَ آثَارٌ مَشْهُورَةٌ يُصَرِّحُونَ فِيهَا بِأَنَّ مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُحَلِّلٌ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ فِي الْعَقْدِ، وَسَمَّوْهُ سِفَاحًا، وَلَا تَحِلُّ لِمُطَلِّقِهَا الْأَوَّلِ بِمِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ، وَلَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْمُحِلِّ إمْسَاكُهَا بِهَذَا التَّحْلِيلِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِرَاقُهَا. لَكِنْ إذَا كَانَ قَدْ تَبَيَّنَ بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ جَوَازُ ذَلِكَ، فَتَحَلَّلَتْ وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ تَحْرِيمُ ذَلِكَ، فَالْأَقْوَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِرَاقُهَا، بَلْ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ عَفَا اللَّهُ فِي الْمَاضِي عَمَّا سَلَفَ. [مَسْأَلَةٌ لَا يَخْطُب عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إذَا أُجِيبَ إلَى النِّكَاحِ] 477 - 79 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ خَطَبَ ابْنَةَ رَجُلٍ مِنْ الْعُدُولِ، وَاتَّفَقَ مَعَهُ عَلَى الْمَهْرِ، مِنْهُ عَاجِلٌ وَمِنْهُ آجِلٌ، وَأَوْصَلَ إلَى وَالِدِهَا الْمُعَجَّلَ مِنْ مُدَّةِ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَهُوَ يُوَاصِلُهُمْ بِالنَّفَقَةِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ مُكَاتَبَةٌ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا جَاءَ رَجُلٌ فَخَطَبَهَا وَزَادَ عَلَيْهِ فِي الْمَهْرِ، وَمَنَعَ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ؟ الْجَوَابُ: لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إذَا أُجِيبَ إلَى النِّكَاحِ وَرَكَنُوا إلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» وَتَجِبُ عُقُوبَةُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَأَعَانَ عَلَيْهِ، عُقُوبَةً تَمْنَعُهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَهَلْ يَكُونُ نِكَاحُ الثَّانِي صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا.

مسألة الرافضي هل يصح نكاحه

[مَسْأَلَةٌ الرَّافِضِيَّ هَلْ يَصِحُّ نِكَاحُهُ] مَسْأَلَةٌ: فِي الرَّافِضِيِّ، وَمَنْ يَقُولُ: لَا تَلْزَمُهُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، هَلْ يَصِحُّ نِكَاحُهُ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؟ فَإِنْ تَابَ مِنْ الرَّفْضِ، وَلَزِمَ الصَّلَاةَ حِينًا، ثُمَّ عَادَ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ، هَلْ يُقَرُّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ النِّكَاحِ؟ الْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْكِحَ مُوَلِّيَتَهُ رَافِضِيًّا، وَلَا يَتْرُكُ الصَّلَاةَ، وَمَتَى زَوَّجُوهُ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى فَصَلَّى الْخَمْسَ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ رَافِضِيٌّ لَا يُصَلِّي، أَوْ عَادَ إلَى الرَّفْضِ وَتَرَكَ الصَّلَاةَ، فَإِنَّهُمْ يَفْسَخُونَ النِّكَاحَ. [مَسْأَلَةٌ زَوَّجَ ابْنَتَهُ لِرَجُلٍ وَأَرَادَ الزَّوْجُ السَّفَرَ إلَى بِلَادِهِ] 479 - 81 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ لِرَجُلٍ، وَأَرَادَ الزَّوْجُ السَّفَرَ إلَى بِلَادِهِ، فَقَالَ لَهُ وَكِيلُ الْأَبِ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ: لَا تُسَافِرْ، إمَّا أَنْ تُعْطِيَ الْحَالَّ مِنْ الصَّدَاقِ، وَتَنْتَقِلَ بِالزَّوْجَةِ، أَوْ تُرْضِيَ الْأَبَ، فَسَافَرَ وَلَمْ يُجِبْ إلَى ذَلِكَ، وَهُوَ غَائِبٌ عَنْ الزَّوْجَةِ الْمَذْكُورَةِ مُدَّةَ سَنَةٍ، وَلَمْ يُصَلِّ مِنْهُ نَفَقَةٌ، فَهَلْ لِوَالِدِ الزَّوْجَةِ أَنْ يَطْلُبَ فَسْخَ النِّكَاحِ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ إذَا عَرَضَتْ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ، فَبَذَلَ لَهُ تَسْلِيمَهَا وَهِيَ مِمَّنْ يُوطَأُ مِثْلُهَا، وَجَبَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ بِذَلِكَ، فَإِذَا تَعَذَّرَتْ النَّفَقَةُ مِنْ جِهَتِهِ كَانَ لِلزَّوْجَةِ الْمُطَالَبَةُ بِالْفَسْخِ وَإِذَا كَانَتْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ مُتَزَوِّج بِخَالَةِ إنْسَانٍ وَلَهُ بِنْتٌ فَتَزَوَّجَ بِهَا] 480 - 82 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ بِخَالَةٍ إنْسَانٍ، وَلَهُ بِنْتٌ فَتَزَوَّجَ بِهَا، فَجَمَعَ بَيْنَ خَالَتِهِ وَابْنَتِهِ، فَهَلْ يَصِحُّ؟ الْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ خَالَةَ رَجُلٍ وَبِنْتَه بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَهَى أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا» .

مسألة لها أخوان دون البلوغ وخال فادعى خالها أنه أخوها

وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَتَنَاوَلُ خَالَةَ الْأَبِ، وَخَالَةَ الْأُمِّ، وَالْجَدَّةِ، وَيَتَنَاوَلُ عَمَّةَ كُلٍّ مِنْ الْأَبَوَيْنِ أَيْضًا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَةِ أَبِيهَا، وَلَا خَالَةِ أُمِّهَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. [مَسْأَلَةٌ لَهَا أَخَوَانِ دُونَ الْبُلُوغِ وَخَالٌ فَادَّعَى خَالُهَا أَنَّهُ أَخُوهَا] 481 - 83 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ لَهَا أَخَوَانِ أَطْفَالٌ دُونَ الْبُلُوغِ، وَلَهَا خَالٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ يَتَزَوَّجُ بِهَا، فَادَّعَى خَالُهَا أَنَّهُ أَخُوهَا، وَوُكِّلَ فِي عَقْدِهَا عَلَى الزَّوْجِ، فَهَلْ يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا أَوْ صَحِيحًا؟ . الْجَوَابُ: الْخَالُ لَا يَكُونُ شَقِيقًا، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ الْأُخُوَّةِ، لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهُ، بَلْ يُزَوِّجُهَا وَلِيُّهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ مِنْ النَّسَبِ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ. [مَسْأَلَةٌ بِنْت زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِمَكْرُوهٍ] 482 - 84 - مَسْأَلَةٌ: فِي بِنْتٍ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِمَكْرُوهٍ، وَلَمْ يُعْقَدْ عَلَيْهَا عَقْدٌ قَطُّ، وَطَلَبَهَا مَنْ يَتَزَوَّجُهَا فَذُكِرَ لَهُ ذَلِكَ فَرَضِيَ، فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ بِمَا ذُكِرَ إذَا شَهِدَتْ الْمَعْرُوفُونَ أَنَّهَا بِنْتٌ لِتَسْهِيلِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: إذَا شَهِدُوا أَنَّهَا مَا زُوِّجَتْ كَانُوا صَادِقِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَلْبِيسٌ عَلَى الزَّوْجِ لِعِلْمِهِ بِالْحَالِ، وَيَنْبَغِي اسْتِنْطَاقُهَا بِالْأَدَبِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَنَازِعُونَ هَلْ إذْنُهَا إذَا زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِالزِّنَا الصَّمْتُ أَوْ النُّطْقُ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ كَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ إذْنُهَا الصُّمَاتُ، كَاَلَّتِي لَمْ تَزُلْ عُذْرَتُهَا. 483 - 85 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أَمْلَكَ عَلَى بِنْتٍ، وَلَهُ مُدَّةُ سِنِينَ يُنْفِقُ عَلَيْهَا، وَدَفَعَ لَهُمْ وَعَزَمَ عَلَى الدُّخُولِ، فَوَجَدَ وَالِدَهَا قَدْ زَوَّجَهَا غَيْرَهُ؟ الْجَوَابُ: قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَحِلُّ

مسألة يتيمة لها عمرها عشر سنين وهي مضطرة إلى من يكفلها

لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلَا يَسْتَامُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَلَا يَبِيعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ» . فَالرَّجُلُ إذَا خَطَبَ امْرَأَةً وَرَكَنَ إلَيْهِ مَنْ إلَيْهِ نِكَاحُهَا، كَالْأَبِ الْمُجْبِرِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ أَنْ يَخْطُبَهَا، فَكَيْفَ إذَا كَانُوا قَدْ رَكَنُوا إلَيْهِ وَأَشْهَدُوا بِالْإِمْلَاكِ الْمُتَقَدِّمِ لِلْعَقْدِ، وَقَبَضُوا مِنْهُ الْهَدَايَا، وَطَالَتْ الْمُدَّةُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ فَعَلُوا مُحَرَّمًا يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ بِلَا رَيْبٍ. لَكِنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ هَلْ يَقَعُ صَحِيحًا أَوْ بَاطِلًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، أَنَّ عَقْدَ الثَّانِي بَاطِلٌ فَيُنْزَعُ مِنْهُ وَيُرَدُّ إلَى الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، فَيُعَاقَبُ مَنْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَ، وَيُرَدُّ إلَى الْأَوَّلِ جَمِيعُ مَا أُخِذَ مِنْهُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. [مَسْأَلَةٌ يَتِيمَة لَهَا عُمْرهَا عَشْرُ سِنِينَ وَهِيَ مُضْطَرَّةٌ إلَى مَنْ يَكْفُلُهَا] 484 - 86 - مَسْأَلَةٌ: فِي بِنْتٍ يَتِيمَةٍ، وَلَهَا مِنْ الْعُمْرِ عَشْرُ سِنِينَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَحَدٌ وَهِيَ مُضْطَرَّةٌ إلَى مَنْ يَكْفُلُهَا، فَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِإِذْنِهَا أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا بِكُفْءٍ لَهَا عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} [النساء: 127] الْآيَةَ. وَقَدْ أَخْرَجَا تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَهُوَ دَلِيلٌ فِي الْيَتِيمَةِ وَزَوْجُهَا مَنْ يَعْدِلُ عَلَيْهَا فِي الْمَهْرِ.

مسألة له زوجة تصوم النهار وتقوم الليل

لَكِنْ تَنَازَعَ هَؤُلَاءِ، هَلْ تُزَوَّجُ بِإِذْنِهَا، أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهَا تُزَوَّجُ بِغَيْرِ إذْنِهَا، وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، أَنَّهَا تُزَوَّجُ بِغَيْرِ إذْنِهَا إذَا بَلَغَتْ تِسْعَ سِنِينَ، وَلَا خِيَارَ لَهَا إذَا بَلَغَتْ، لِمَا فِي السُّنَنِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْيَتِيمَةُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ، وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا» ، وَفِي لَفْظٍ: «لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا» . [مَسْأَلَةٌ لَهُ زَوْجَةٌ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ] 485 - 87 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ، وَكُلَّمَا دَعَاهَا الرَّجُلُ إلَى فِرَاشِهِ تَأْبَى عَلَيْهِ، وَتُقَدِّمُ صَلَاةَ اللَّيْلِ، وَصِيَامَ النَّهَارِ عَلَى طَاعَةِ الزَّوْجِ، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: لَا يَحِلُّ لَهَا ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَهُ إذَا طَلَبَهَا إلَى الْفِرَاشِ وَذَلِكَ فَرْضٌ وَاجِبٌ عَلَيْهَا، وَأَمَّا قِيَامُ اللَّيْلِ وَصِيَامُ النَّهَارِ فَتَطَوُّعٌ، فَكَيْفَ تُقَدِّمُ مُؤْمِنَةٌ النَّافِلَةَ عَلَى الْفَرِيضَةِ؟ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمَا، وَلَفْظُهُمْ: «لَا تَصُومُ امْرَأَةٌ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إلَّا يَوْمًا مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ إلَّا بِإِذْنِهِ» . فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ حَرَّمَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ تَطَوُّعًا إذَا كَانَ زَوْجُهَا شَاهِدًا إلَّا بِإِذْنِهِ فَتَمْنَعُ بِالصَّوْمِ بَعْضَ مَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهَا إذَا طَلَبَهَا فَامْتَنَعَتْ؟ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا دَعَا الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ إلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ لَعَنَتْهَا

مسألة تزوجت وخرجت عن حكم والديها

الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ» وَفِي لَفْظٍ: «إلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى تُصْبِحَ» ". وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34] . فَالْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ هِيَ الَّتِي تَكُونُ قَانِتَةً، أَيْ مُدَاوِمَةً عَلَى طَاعَةِ زَوْجِهَا، فَمَتَى امْتَنَعَتْ عَنْ إجَابَتِهِ إلَى الْفِرَاشِ كَانَتْ عَاصِيَةً نَاشِزَةً، وَكَانَ ذَلِكَ يُبِيحُ لَهُ ضَرْبَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} [النساء: 34] . وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ بَعْدَ حَقِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْجَبَ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ كُنْت آمِرًا لِأَحَدٍ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا لِعِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا» . وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لَهُ إنَّ الرِّجَالَ يُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَيَفْعَلُونَ وَنَحْنُ لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ، فَقَالَ: حَسُنَ فِعْلُ إحْدَاكُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ» أَيْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَحْسَنَتْ مُعَاشَرَةَ بَعْلِهَا كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِرِضَاءِ اللَّهِ وَإِكْرَامِهِ لَهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْمَلَ مَا يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَتْ وَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ وَالِدَيْهَا] 486 - 88 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ وَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ وَالِدَيْهَا، فَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ: بِرُّهَا لِوَالِدَيْهَا؟ أَمْ مُطَاوَعَةُ زَوْجِهَا؟ .

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْمَرْأَةُ إذَا تَزَوَّجَتْ كَانَ زَوْجُهَا أَمْلَكَ بِهَا مِنْ أَبَوَيْهَا، وَطَاعَةُ زَوْجِهَا عَلَيْهَا أَوْجَبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34] . وَفِي الْحَدِيثِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، إذَا نَظَرْت إلَيْهَا سَرَّتْك، وَإِذَا أَمَرْتهَا أَطَاعَتْك، وَإِذَا غِبْت عَنْهَا حَفِظَتْك فِي نَفْسِهَا وَمَالِكَ» . وَفِي صَحِيحِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَصَّنَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ بَعْلَهَا دَخَلَتْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَتْ» . وَفِي التِّرْمِذِيِّ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَزَوْجُهَا رَاضٍ عَنْهَا دَخَلَتْ الْجَنَّةَ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَوْ كُنْت آمِرًا لِأَحَدٍ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَلَفْظُهُ: «لَأَمَرْت النِّسَاءَ أَنْ يَسْجُدْنَ لِأَزْوَاجِهِنَّ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ الْحُقُوقِ» . وَفِي الْمُسْنَدِ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ صَلُحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مَنْ قَدَمِهِ إلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةٌ تَجْرِي بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ فَلَحَسَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ» ، وَفِي الْمُسْنَدِ، وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَوْ أَمَرْت أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَنْقُلَ مِنْ جَبَلٍ أَحْمَرَ إلَى جَبَلٍ أَسْوَدَ وَمِنْ جَبَلٍ أَسْوَدَ إلَى جَبَلٍ أَحْمَرَ لَكَانَ لَهَا أَنْ تَفْعَلَ» ، أَيْ: لَكَانَ حَقُّهَا أَنْ تَفْعَلَ. وَكَذَلِكَ فِي الْمُسْنَدِ، وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ، وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى

قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ مِنْ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا هَذَا يَا مُعَاذُ؟ قَالَ: أَتَيْت مِنْ الشَّامِ فَوَجَدْتهمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَبِطَارِقَتِهِمْ، فَوَدِدْت فِي نَفْسِي أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ بِك يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ، فَإِنِّي لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ حَقَّ رَبِّهَا حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا، وَلَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا وَهِيَ عَلَى قَتَبٍ لَمْ تَمْنَعْهُ» . وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا رَجُلٍ دَعَا زَوْجَتَهُ لِحَاجَتِهِ فَلْتَأْتِهِ وَلَوْ كَانَتْ عَلَى التَّنُّورِ» . رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ، فَبَاتَ غَضْبَانًا عَلَيْهَا، لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ» ` ". وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: الزَّوْجُ سَيِّدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25] . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: النِّكَاحُ رِقٌّ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ مَنْ يُرِقُّ كَرِيمَتَهُ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ» . فَالْمَرْأَةُ عِنْدَ زَوْجِهَا تُشْبِهُ الرَّقِيقَ وَالْأَسِيرَ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ سَوَاءٌ أَمَرَهَا أَبُوهَا أَوْ أُمُّهَا أَوْ غَيْرُ أَبَوَيْهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَنْتَقِلَ بِهَا إلَى مَكَان آخَرَ، مَعَ قِيَامِهِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَحِفْظُ

مسألة متزوج بامرأتين يجتمع بإحداهما أكثر من صاحبتها

حُدُودَ اللَّهِ فِيهَا، وَنَهَاهَا أَبُوهَا عَنْ طَاعَتِهِ فِي ذَلِكَ فَعَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَ زَوْجَهَا دُونَ أَبَوَيْهَا، فَإِنَّ الْأَبَوَيْنِ هُمَا ظَالِمَانِ، لَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَنْهَيَاهَا عَنْ طَاعَةِ مِثْلِ هَذَا الزَّوْجِ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطِيعَ أُمَّهَا فِيمَا تَأْمُرُهَا بِهِ مِنْ الِاخْتِلَاعِ مِنْهُ أَوْ مُضَاجَرَتِهِ حَتَّى يُطَلِّقَهَا، مِثْلُ أَنْ تُطَالِبَهُ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالصَّدَاقِ بِمَا تَطْلُبُهُ لِيُطَلِّقَهَا، فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ وَاحِدًا مِنْ أَبَوَيْهَا فِي طَلَاقِهِ إذَا كَانَ مُتَّقِيًا لِلَّهِ فِيهَا. فَفِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَصَحِيحِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ غَيْرَ مَا بَأْسٍ، فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «الْمُخْتَلِعَاتُ وَالْمُتَبَرِّعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ» . وَأَمَّا إذَا أَمَرَهَا أَبَوَاهَا أَوْ أَحَدُهُمَا بِمَا فِيهِ طَاعَةٌ لِلَّهِ، مِثْلُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَنَهَوْهَا عَنْ تَبْذِيرِ مَالِهَا، وَإِضَاعَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ نَهَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ، فَعَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَهُمَا فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مِنْ غَيْرِ أَبَوَيْهَا، فَكَيْفَ إذَا كَانَ مِنْ أَبَوَيْهَا؟ وَإِذَا نَهَاهَا الزَّوْجُ عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ، أَوْ أَمَرَهَا بِمَا نَهَى اللَّه عَنْهُ، لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُطِيعَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إنَّهُ «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» بَلْ الْمَالِكُ لَوْ أَمَرَ مَمْلُوكَهُ بِمَا فِيهِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُطِيعَهُ فِي مَعْصِيَتِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تُطِيعَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا، أَوْ أَحَدُ أَبَوَيْهَا فِي مَعْصِيَةٍ، فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. [مَسْأَلَةٌ مُتَزَوِّج بِامْرَأَتَيْنِ يَجْتَمِعُ بِإِحْدَاهُمَا أَكْثَرَ مِنْ صَاحِبَتِهَا] 487 - 89 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ بِامْرَأَتَيْنِ، وَإِحْدَاهُمَا يُحِبُّهَا وَيَكْسُوهَا وَيُعْطِيهَا وَيَجْتَمِعُ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ صَاحِبَتِهَا؟ .

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ» . فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ فِي الْقَسْمِ، فَإِذَا بَاتَ عِنْدَهَا لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا بَاتَ عِنْدَ الْأُخْرَى بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَلَا يُفَضِّلُ إحْدَاهُمَا فِي الْقَسْمِ، لَكِنْ إنْ كَانَ يُحِبُّهَا أَكْثَرَ وَيَطَؤُهَا أَكْثَرَ فَهَذَا لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] أَيْ: فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ. وَفِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ، فَيَقُولُ: هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ» . يَعْنِي: الْقَلْبَ. وَأَمَّا الْعَدْلُ فِي النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ فَهُوَ السُّنَّةُ أَيْضًا اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ يَعْدِلُ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فِي النَّفَقَةِ، كَمَا كَانَ يَعْدِلُ فِي الْقِسْمَةِ مَعَ تَنَازُعِ النَّاسِ فِي الْقَسْمِ، هَلْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ أَوْ مُسْتَحَبًّا لَهُ؟ وَتَنَازَعُوا فِي الْعَدْلِ فِي النَّفَقَةِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ وَوُجُوبُهُ أَقْوَى وَأَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَهَذَا الْعَدْلُ مَأْمُورٌ بِهِ مَا دَامَتْ زَوْجَةً، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ إحْدَاهُمَا فَلَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ اصْطَلَحَ هُوَ وَاَلَّتِي يُرِيدُ طَلَاقَهَا عَلَى أَنْ تُقِيمَ عِنْدَهُ بِلَا قَسْمٍ وَهِيَ رَاضِيَةٌ ذَلِكَ جَازَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمَرْأَةِ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ

مسألة تزوج بنتا عمرها عشر سنين

فَتَطُولُ صُحْبَتُهَا فَيُرِيدُ طَلَاقَهَا، فَتَقُولُ: لَا تُطَلِّقْنِي وَأَمْسِكْنِي وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ يَوْمِي، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ سَوْدَةَ، فَوَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ فَأَمْسَكَهَا بِلَا قِسْمَةٍ» ، وَكَذَلِكَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ جَرَى لَهُ نَحْوُ ذَلِكَ، وَيُقَالُ إنَّ الْآيَةَ أُنْزِلَتْ فِيهِ [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ بِنْتًا عُمْرُهَا عَشْرُ سِنِينَ] 488 - 90 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِنْتًا عُمْرُهَا عَشْرُ سِنِينَ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَهْلُهَا أَنْ يَسْكُنَ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَنْقُلَهَا عَنْهُمْ، وَلَا يَدْخُلَ عَلَيْهَا إلَّا بَعْدَ سَنَةٍ، فَأَخَذَهَا إلَيْهِ وَأَخْلَفَ ذَلِكَ وَدَخَلَ عَلَيْهَا، وَذَكَرَ الدَّايَاتُ أَنَّهُ نَقَلَهَا، ثُمَّ سَكَنَ بِهَا فِي مَكَان يَضْرِبُهَا فِيهِ الضَّرْبَ الْمُبَرِّحَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ سَافَرَ بِهَا، ثُمَّ حَضَرَ بِهَا وَمَنَعَ أَنْ يَدْخُلَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا مَعَ مُدَاوَمَتِهِ عَلَى ضَرْبِهَا، فَهَلْ يَحِلُّ أَنْ تَدُومَ مَعَهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟ . الْجَوَابُ: إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ فَلَا يَحِلُّ إقْرَارُهَا مَعَهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، بَلْ إذَا تَعَذَّرَ أَنْ يُعَاشِرَهَا بِالْمَعْرُوفِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَطْئًا يَضُرُّ بِهَا، بَلْ إذَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ الْعُدْوَانِ عَلَيْهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 489 - 91 - مَسْأَلَةٌ: فِي حَدِيثٍ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ كَفَّ لَامِسٍ» . فَهَلْ هُوَ مَا تَرُدُّ نَفْسَهَا عَنْ أَحَدٍ؟ أَوْ مَا تَرُدُّ يَدَهَا فِي الْعَطَاءِ عَنْ أَحَدٍ؟ وَهَلْ هُوَ الصَّحِيحُ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذَا الْحَدِيثُ قَدْ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرُدُّ طَالِبَ مَالٍ، لَكِنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَسِيَاقَهُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ اعْتَقَدَ ثُبُوتَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا مَعَ كَوْنِهَا لَا تَمْنَعُ الرِّجَالَ، وَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] .

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ، «أَنَّ رَجُلًا كَانَ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَرِيبَةٌ مِنْ الْبَغَايَا يُقَالُ لَهَا عَنَاقٌ، وَأَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَزَوُّجِهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ» . وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25] . فَإِنَّمَا أَبَاحَ اللَّهُ نِكَاحَ الْإِمَاءِ فِي حَالِ كَوْنِهِنَّ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ، وَالْمُسَافِحَةُ الَّتِي تُسَافِحُ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ، وَالْمُتَّخِذَاتُ الْخِدْنِ الَّتِي يَكُونُ لَهَا صَدِيقٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا كَانَ مَنْ هَذِهِ حَالُهَا لَا تُنْكَحُ، فَكَيْفَ بِمَنْ لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ؟ بَلْ تُسَافِحُ مَعَ مَنْ اتَّفَقَ،، وَإِذَا كَانَ مَنْ هَذِهِ حَالُهَا فِي الْإِمَاءِ، فَكَيْفَ بِالْحَرَائِرِ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5] ، فَاشْتَرَطَ هَذِهِ الشُّرُوطَ فِي الرِّجَالِ هُنَا كَمَا اشْتَرَطَهُ فِي النِّسَاءِ هُنَاكَ. وَهَذَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] لِأَنَّهُ مَنْ تَزَوَّجَ زَانِيَةً بِزَانٍ مَعَ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مَاؤُهُ مَصُونًا مَحْفُوظًا، فَكَانَ مَاؤُهُ مُخْتَلِطًا بِمَاءِ غَيْرِهِ، وَالْفَرْجُ الَّذِي يَطَؤُهُ مُشْتَرَكًا، وَهَذَا هُوَ الزِّنَا، وَالْمَرْأَةُ إذَا كَانَ زَوْجُهَا يَزْنِي بِغَيْرِهَا لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، كَانَ وَطْؤُهُ لَهَا مِنْ جِنْسِ وَطْءِ الزَّانِي لِلْمَرْأَةِ الَّتِي يَزْنِي بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا غَيْرُهُ. وَإِنَّ مِنْ صُوَرِ الزِّنَى اتِّخَاذُ الْأَخْدَانِ، وَالْعُلَمَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ

مسألة له زوجة أسكنها بين ناس مناجيس

قَبْلَ تَوْبَتِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ، لَكِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالِاعْتِبَارَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَمَنْ تَأَوَّلَ آيَةَ النُّورِ بِالْعَقْدِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا فَبُطْلَانُ قَوْلِهِ ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ. ثُمَّ الْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَمِّ الدِّيَاثَةِ، وَمَنْ تَزَوَّجَ بَغِيًّا كَانَ دَيُّوثًا بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَخِيلٌ، وَلَا كَذَّابٌ وَلَا دَيُّوثٌ» . قَالَ تَعَالَى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] أَيْ الرِّجَالُ الطَّيِّبُونَ لِلنِّسَاءِ الطَّيِّبَاتِ، وَالرِّجَالُ الْخَبِيثُونَ لِلنِّسَاءِ الْخَبِيثَاتِ. وَكَذَلِكَ فِي النِّسَاءِ، فَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ خَبِيثَةً كَانَ قَرِينُهَا خَبِيثًا، وَإِذَا كَانَ قَرِينُهَا خَبِيثًا كَانَتْ خَبِيثَةً، وَبِهَذَا عَظُمَ الْقَوْلُ فِيمَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ وَنَحْوَهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْلَا مَا عَلَى الزَّوْجِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعَيْبِ مَا حَصَلَ هَذَا التَّغْلِيظُ، وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ، وَلَوْ كَانَ تَزَوُّجُ الْبَغِيِّ جَائِزًا لَوَجَبَ تَنْزِيهُ الْأَنْبِيَاءِ عَمَّا يُبَاحُ، كَيْفَ وَفِي نِسَاءِ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ هِيَ كَافِرَةٌ، كَمَا فِي أَزْوَاجِ الْمُؤْمِنَاتِ مَنْ هُوَ كَافِرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ - وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 10 - 11] . وَأَمَّا الْبَغَايَا فَلَيْسَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَلَا الصَّالِحِينَ مَنْ تَزَوَّجَ بَغِيًّا، لِأَنَّ الْبِغَاءَ يُفْسِدُ فِرَاشَهُ، وَلِهَذَا أُبِيحَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكِتَابِيَّةَ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، إذَا كَانَ مُحْصَنًا غَيْرَ مُسَافِحٍ وَلَا مُتَّخِذِ خِدْنٍ، فَعُلِمَ أَنَّ تَزَوُّجَ الْكَافِرَةِ قَدْ يَجُوزُ، وَتَزَوُّجَ الْبَغِيِّ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ ضَرَرَ دِينِهَا لَا يَتَعَدَّى إلَيْهِ، وَأَمَّا ضَرَرُ بَغَاهَا فَيَتَعَدَّى إلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ لَهُ زَوْجَةٌ أَسْكَنَهَا بَيْنَ نَاسٍ مَنَاجِيسَ] 490 - 92 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ، أَسْكَنَهَا بَيْنَ نَاسٍ مَنَاجِيسَ، وَهُوَ يَخْرُجُ بِهَا

مسألة متزوجة ولها أقارب أرادت أن تزورهم

إلَى الْفُرُجِ وَإِلَى أَمَاكِنِ الْفَسَادِ، وَيُعَاشِرُ مُفْسِدِينَ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ: انْتَقِلْ مِنْ هَذَا الْمَسْكَنِ السُّوءِ، فَيَقُولُ: أَنَا زَوْجُهَا وَلِي الْحُكْمُ فِي امْرَأَتِي وَلِي السُّكْنَى، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَهَا حَيْثُ شَاءَ، وَلَا يُخْرِجَهَا إلَى حَيْثُ شَاءَ، بَلْ يَسْكُنُ بِهَا فِي مَسْكَنٍ يَصْلُحُ لِمِثْلِهَا، وَلَا يَخْرُجُ بِهَا عِنْدَ أَهْلِ الْفُجُورِ، بَلْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَاشِرَ الْفُجَّارَ عَلَى فُجُورِهِمْ، وَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُعَاقَبَ عُقُوبَتَيْنِ: عُقُوبَةً عَلَى فُجُورِهِ بِحَسَبِ مَا فَعَلَ، وَعُقُوبَةً عَلَى تَرْكِ صِيَانَةِ زَوْجَتِهِ، وَإِخْرَاجِهَا إلَى أَمَاكِنِ الْفُجُورِ، فَيُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مُتَزَوِّجَة وَلَهَا أَقَارِبُ أَرَادَتْ أَنْ تَزُورُهُمْ] 491 - 93 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ مُتَزَوِّجَةٍ بِرَجُلٍ، وَلَهَا أَقَارِبُ كُلَّمَا أَرَادَتْ تَزُورُهُمْ أَخَذَتْ الْفِرَاشَ وَتَقْعُدُ عِنْدَهُمْ عَشْرَةَ أَيَّامٍ وَأَكْثَرَ، وَقَدْ قَرُبَتْ وِلَادَتُهَا وَمَتَى وَلَدَتْ عِنْدَهُمْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَجِيءَ إلَى بَيْتِهَا إلَّا بَعْدَ أَيَّامٍ، وَيَبْقَى الزَّوْجُ بَرْدَانَ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوهَا تَلِدَ عِنْدَهُمْ؟ . الْجَوَابُ: لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَهَا إلَيْهِ وَيَحْبِسَهَا عَنْ زَوْجِهَا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا مُرْضِعًا أَوْ لِكَوْنِهَا قَابِلَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الصِّنَاعَاتِ، وَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَتْ نَاشِزَةً عَاصِيَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مُسْتَحِقَّةَ الْعُقُوبَةِ. [مَسْأَلَةٌ طَلَعَ إلَى بَيْتِهِ فَوَجَدَ عِنْدَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا] 492 - 94 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ طَلَعَ إلَى بَيْتِهِ وَجَدَ عِنْدَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا، فَوَفَّاهَا حَقَّهَا وَطَلَّقَهَا، ثُمَّ رَجَعَ صَالَحَهَا وَسَمِعَ أَنَّهَا وُجِدَتْ بِجَنْبِ أَجْنَبِيٍّ؟ . الْجَوَابُ: فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْجَنَّةَ قَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا يَدْخُلُك بَخِيلٌ وَلَا كَذَّابٌ وَلَا دَيُّوثٌ» وَالدَّيُّوثُ الَّذِي لَا غَيْرَةَ

مسألة اتهم زوجته بفاحشة

لَهُ. وَفِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَإِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ» وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الزَّانِيَةَ لَا يَجُوزُ تَزَوُّجُهَا إلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَزْنِي لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، بَلْ يُفَارِقَهَا وَإِلَّا كَانَ دَيُّوثًا. [مَسْأَلَةٌ اتَّهَمَ زَوْجَتَهُ بِفَاحِشَةٍ] 493 - 95 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ اتَّهَمَ زَوْجَتَهُ بِفَاحِشَةٍ بِحَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَرَ عِنْدَهَا مَا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ، إلَّا ادَّعَى أَنَّهُ أَرْسَلَهَا إلَى عُرْسٍ ثُمَّ إنَّهُ تَجَسَّسَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَجِدْهَا فِي الْعُرْسِ فَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَنَّهُ أَتَى إلَى أَوْلِيَائِهَا وَذَكَرَ لَهُمْ الْوَاقِعَةَ فَاسْتَدْعُوا بِهَا لِتُقَابِلَ زَوْجَهَا عَلَى مَا ذَكَرَ، فَامْتَنَعَتْ خَوْفًا مِنْ الضَّرْبِ، فَخَرَجَتْ إلَى بَيْتِ خَالِهَا، ثُمَّ إنَّ الزَّوْجَ بَعْدَ ذَلِكَ حَمَلَ ذَلِكَ مُسْتَنِدًا فِي إبْطَالِ حَقِّهَا، وَادَّعَى أَنَّهَا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِحَقِّهَا وَالْإِنْكَارُ الَّذِي أَنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ يَسْتَوْجِبُ إنْكَارًا فِي الشَّرْعِ؟ الْجَوَابُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] . فَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْضُلَ الْمَرْأَةَ بِأَنْ يَمْنَعَهَا وَيُضَيِّقَ عَلَيْهَا حَتَّى تُعْطِيَهُ بَعْضَ الصَّدَاقِ، وَلَا أَنْ يَضْرِبَهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ، لَكِنْ إذَا أَتَتْ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْضُلَهَا لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ، وَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا هَذَا فِيمَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْمَرْأَةِ فَيَكْشِفُونَ الْحَقَّ مَعَ مَنْ هُوَ، فَيُعِينُونَهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ بَيَّنَ لَهُمْ هِيَ الَّتِي تَعَدَّتْ حُدُودَ اللَّهِ وَآذَتْ الزَّوْجَ فِي فِرَاشِهِ فَهِيَ ظَالِمَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ فَلْتَفْتَدِ مِنْهُ.

مسألة عجل لها زوجها نقدا لم يسمه ثم توفي عنها

وَإِذَا قَالَ: إنَّهُ أَرْسَلَهَا إلَى عُرْسٍ وَلَمْ تَذْهَبْ إلَى الْعُرْسِ، فَلْيَسْأَلْ إلَى أَيْنَ ذَهَبَتْ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهَا ذَهَبَتْ إلَى قَوْمٍ لَا رِيبَةَ عِنْدَهُمْ، وَصَدَّقَهَا أُولَئِكَ الْقَوْمُ، أَوْ قَالُوا: لَمْ تَأْتِ إلَيْنَا وَإِلَى الْعُرْسِ لَمْ تَذْهَبْ، كَانَ هَذَا رِيبَةً، وَبِهَذَا يَقْوَى قَوْلُ الزَّوْجِ. وَأَمَّا الْجِهَازُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ مِنْ بَيْتِ أَبِيهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهَا بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنْ اصْطَلَحُوا فَالصُّلْحُ خَيْرٌ، وَمَتَى تَابَتْ الْمَرْأَةُ جَازَ لِزَوْجِهَا أَنْ يُمْسِكَهَا وَلَا حَرَجَ فِي ذَلِكَ. فَإِنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى رُجُوعِهَا إلَيْهِ فَلْتُبْرِئْهُ مِنْ الصَّدَاقِ، وَلْيَخْلَعْهَا الزَّوْجُ، فَإِنَّ الْخُلْعَ جَائِزٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ عَجَّلَ لَهَا زَوْجُهَا نَقْدًا لَمْ يُسَمِّهِ ثُمَّ تُوُفِّيَ عَنْهَا] 494 - 96 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ عَجَّلَ لَهَا زَوْجُهَا نَقْدًا وَلَمْ يُسَمِّهِ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ عَنْهَا، فَطَلَبَ الْحَاكِمُ أَنْ يَحْسِبَ الْمُعَجَّلَ مِنْ الصَّدَاقِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ لِكَوْنِ الْمُعَجَّلِ لَمْ يُذْكَرْ فِي الصَّدَاقِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إنْ كَانَا قَدْ اتَّفَقَا عَلَى الْعَاجِلِ الْمُقَدَّمِ وَالْآجِلِ الْمُؤَخَّرِ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، فَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تَطْلُبَ الْمُؤَخَّرَ كُلَّهُ، إنْ لَمْ يُذْكَرْ الْمُعَجَّلُ فِي الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَدْ أَهْدَى لَهَا كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَأَمَّا إنْ كَانَ أَقْبَضَهَا مِنْ الصَّدَاقِ الْمُسَمَّى حُسِبَ عَلَى الزَّوْجَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ اعْتَاضَتْ عَنْ صَدَاقِهَا بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ] 495 - 97 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ اعْتَاضَتْ عَنْ صَدَاقِهَا بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ، فَبَاعَتْ الْعِوَضَ وَقَبَضَتْ الثَّمَنَ، ثُمَّ أَقَرَّتْ أَنَّهَا قَبَضَتْ الصَّدَاقَ مِنْ غَيْرِ ثَمَنِ الْمِلْكِ، فَهَلْ يَبْطُلُ حَقُّ الْمُشْتَرِي أَوْ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِاَلَّذِي اعْتَرَفَتْ أَنَّهَا قَبَضَتْهُ مِنْ غَيْرِ الْمِلْكِ؟

مسألة معسر هل يقسط عليه الصداق

الْجَوَابُ: لَا يَبْطُلُ حَقٌّ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، وَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهَا ثَمَنَ الْمِلْكِ الَّذِي اعْتَاضَتْ بِهِ، إذَا أَقَرَّتْ بِأَنَّ قَبْضَ صَدَاقِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ أَفْتَى طَائِفَةٌ بِأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِاَلَّذِي اعْتَرَفَتْ بِقَبْضِهِ مِنْ التَّرِكَةِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ تَضَمَّنَ أَنَّهَا اسْتَوْفَتْ صَدَاقَهَا، وَأَنَّهَا بَعْدَ هَذَا الِاسْتِيفَاءِ لَهُ أَحْدَثَتْ مِلْكًا آخَرَ، فَإِنَّمَا فَوَّتَتْ عَلَيْهِمْ الْعَقَارَ لَا عَلَى الْمُشْتَرِي. [مَسْأَلَةٌ مُعْسِر هَلْ يُقَسَّطُ عَلَيْهِ الصَّدَاقُ] 496 - 98 - مَسْأَلَةٌ: فِي مُعْسِرٍ هَلْ يُقَسَّطُ عَلَيْهِ الصَّدَاقُ؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَ مُعْسِرًا قُسِّطَ عَلَيْهِ الصَّدَاقُ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ، وَلَمْ يَجُزْ حَبْسُهُ، لَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ يَقْبَلُونَ قَوْلَهُ فِي الْإِعْسَارِ مَعَ يَمِينِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْبَلُ الْبَيِّنَةَ إلَّا بَعْدَ الْحَبْسِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِذَا كَانَتْ الْحُكُومَةُ عِنْدَ مَنْ يَحْكُمُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ لَمْ يُحْبَسْ. [مَسْأَلَةٌ الْمُطَلَّقَة إذَا وَطِئَهَا الرَّجُلُ فِي الدُّبُرِ] 497 - 99 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ قَالَ إنَّ الْمَرْأَةَ الْمُطَلَّقَةَ إذَا وَطِئَهَا الرَّجُلُ فِي الدُّبُرِ تَحِلُّ لِزَوْجِهَا، هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: هَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا: لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْعُسَيْلَةِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ بِالدُّبُرِ، وَلَا يُعْرَفُ فِي هَذَا خِلَافٌ. وَأَمَّا مَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَهُمْ يَطْعَنُونَ فِي أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلًا، وَمَا يُذْكَرُ

مسألة عزمت على الحج هي وزوجها فمات زوجها في شعبان

عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْوَطْءِ فَذَاكَ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ وَطْءُ الدُّبُرِ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ صَحَّتْ السُّنَّةُ بِخِلَافِهِ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ. [مَسْأَلَةٌ عَزَمَتْ عَلَى الْحَجِّ هِيَ وَزَوْجُهَا فَمَاتَ زَوْجُهَا فِي شَعْبَانَ] 498 - 100 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ عَزَمَتْ عَلَى الْحَجِّ هِيَ وَزَوْجُهَا، فَمَاتَ زَوْجُهَا فِي شَعْبَانَ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَحُجَّ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ فِي الْعِدَّةِ عَنْ الْوَفَاةِ إلَى الْحَجِّ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. [مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَ وَقَعَدَتْ زَوْجَتُهُ فِي عِدَّتِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا] 499 - 101 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَقَعَدَتْ زَوْجَتُهُ فِي عِدَّتِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَمَا قَدَرَتْ تُخَالِفُ مَرْسُومَ السُّلْطَانِ، ثُمَّ سَافَرَتْ وَحَضَرَتْ إلَى الْقَاهِرَةِ وَلَمْ تَتَزَيَّنْ لَا بِطِيبٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ خِطْبَتُهَا أَوْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْعِدَّةُ تَنْقَضِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرَةِ أَيَّامٍ، فَإِنْ كَانَ قَدْ بَقِيَ مِنْ هَذِهِ شَيْءٌ فَلْتُتِمَّهُ فِي بَيْتِهَا وَلَا تَخْرُجْ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا إلَّا لِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ، وَتَجْتَنِبُ الزِّينَةَ وَالطِّيبَ فِي بَنِيهَا وَبَنَاتِهَا، وَلْتَأْكُلْ مَا شَاءَتْ مِنْ حَلَالٍ، وَتَشُمَّ الْفَاكِهَةَ، وَتَجْتَمِعَ بِمَنْ يَجُوزُ لَهَا الِاجْتِمَاعُ بِهِ فِي غَيْرِ الْعِدَّةِ، لَكِنْ إنْ خَطَبَهَا إنْسَانٌ لَا تُجِيبُهُ صَرِيحًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مُطَلَّقَة ادَّعَتْ وَحَلَفَتْ أَنَّهَا قَضَتْ عِدَّتَهَا فَتَزَوَّجَهَا ثَانٍ] 500 - 102 - مَسْأَلَةٌ: فِي مُطَلَّقَةٍ ادَّعَتْ وَحَلَفَتْ أَنَّهَا قَضَتْ عِدَّتَهَا، فَتَزَوَّجَهَا زَوْجٌ ثَانٍ، ثُمَّ حَضَرَتْ امْرَأَةٌ أُخْرَى، وَزَعَمَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ وَصَدَّقَهَا الزَّوْجُ عَلَى ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: إذَا لَمْ تَحِضْ إلَّا حَيْضَتَيْنِ فَالنِّكَاحُ الثَّانِي بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَإِذَا

مسألة تزوج مصافحة وقعدت معه أياما فطلع لها زوج آخر

كَانَ الزَّوْجُ مُصَدِّقًا لَهَا وَجَبَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَتَكْمُلَ عِدَّةُ الْأَوَّلِ بِحَيْضَةٍ، ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي عِدَّةً كَامِلَةً، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ الثَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا تَزَوَّجَهَا. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ مُصَافِحَةً وَقَعَدَتْ مَعَهُ أَيَّامًا فَطَلَعَ لَهَا زَوْجٌ آخَرُ] 501 - 103 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ مُصَافِحَةً، وَقَعَدَتْ مَعَهُ أَيَّامًا فَطَلَعَ لَهَا زَوْجٌ آخَرُ، فَحَمْلُ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَزَوْجُهَا الْأَوَّلُ إلَى الْقَاضِي فَقَالَ لَهَا: تُرِيدِينَ الْأَوَّلَ أَوْ الثَّانِيَ، فَقَالَتْ: مَا أُرِيدُ إلَّا الزَّوْجَ الثَّانِيَ، فَطَلَّقَهَا الْأَوَّلُ، وَرَسَمَ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُوفِيَ عِدَّتَهُ، وَتَمَّ مَعَهَا الزَّوْجُ، فَهَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ لَهَا أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إذَا تَزَوَّجَتْ بِالثَّانِي قَبْلَ أَنْ تُوفِيَ عِدَّةَ الْأَوَّلِ، وَقَدْ فَارَقَهَا الْأَوَّلُ إمَّا لِفَسَادِ نِكَاحِهِ، وَإِمَّا لِتَطَلُّبِهِ لَهَا، وَإِمَّا لِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا، فَنِكَاحُهَا فَاسِدٌ وَتَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ هِيَ وَهُوَ وَمَنْ زَوَّجَهَا، بَلْ عَلَيْهَا أَنْ تُتِمَّ عِدَّةَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الثَّانِي قَدْ وَطِئَهَا اعْتَدَّتْ لَهُ عِدَّةً أُخْرَى، فَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّتَانِ تَزَوَّجَتْ حِينَئِذٍ بِمَنْ شَاءَتْ بِالْأَوَّلِ أَوْ بِالثَّانِي أَوْ غَيْرِهِمَا. [بَابُ الرَّضَاعِ] [مَسْأَلَةٌ الَّذِي يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ] 502 - 104 - مَسْأَلَةٌ: مَا الَّذِي يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ؟ وَمَا الَّذِي لَا يَحْرُمُ؟ وَمَا دَلِيلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " إنَّهُ «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» وَلِيَتَبَيَّنُوا جَمِيعَ التَّحْرِيمِ مِنْهُ؟ وَهَلْ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ اخْتِلَافٌ؟ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ اخْتِلَافٌ فَمَا هُوَ الصَّوَابُ وَالرَّاجِحُ فِيهِ؟ وَهَلْ حُكْمُ رَضَاعِ الصَّبِيِّ الْكَبِيرِ الَّذِي دُونَ الْبُلُوغِ أَوْ الَّذِي يَبْلُغُ حُكْمُهُ حُكْمَ الصَّغِيرِ الرَّضِيعِ، فَإِنَّ بَعْضَ النِّسْوَةِ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ خَمْسَ سِنِينَ

وَأَكْثَرَ وَأَقَلَّ؟ وَهَلْ يَقَعُ تَحْرِيمٌ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ الْمُتَزَوِّجَيْنِ بِرَضَاعِ بَعْضِ قَرَابَاتِهِمْ لِبَعْضٍ، وَبَيِّنُوهُ بَيَانًا شَافِيًا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَهُوَ مُتَلَقًّى بِالْقَبُولِ، فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ اتَّفَقُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَلَفْظُهُ: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» . وَالثَّانِي: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ» . وَقَدْ اسْتَثْنَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ صُورَتَيْنِ، وَبَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا خَطَأٌ، فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ الْحَدِيثِ شَيْءٌ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ فَنَقُولُ: إذَا ارْتَضَعَ الرَّضِيعُ مِنْ الْمَرْأَةِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مِنْ الْحَوْلَيْنِ، صَارَتْ الْمَرْأَةُ أُمَّهُ، وَصَارَ زَوْجُهَا الَّذِي جَاءَ اللَّبَنُ بِوَطْئِهِ أَبَاهُ، فَصَارَ ابْنًا لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ جَمِيعُ أَوْلَادِ الْمَرْأَةِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَمِنْ غَيْرِهِ، وَجَمِيعُ أَوْلَادِ الرَّجُلِ مِنْهَا وَمِنْ غَيْرِهَا إخْوَةً لَهُ، سَوَاءٌ وُلِدُوا قَبْلَ الرَّضَاعِ أَوْ بَعْدَهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَإِذَا كَانَ أَوْلَادُهُمَا إخْوَتَهُ، كَانَ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِمَا أَوْلَادَ إخْوَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَضِعِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِهِمَا، وَلَا أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمَا، فَإِنَّهُمَا إمَّا إخْوَتُهُ وَإِمَّا أَوْلَادُ إخْوَتِهِ، وَذَلِكَ يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ. وَإِخْوَةُ الْمَرْأَةِ وَأَخَوَاتُهَا أَخْوَالُهُ وَخَالَاتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ، وَأَبُوهَا وَأُمُّهَا أَجْدَادُهُ وَجَدَّاتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ إخْوَتِهَا، وَلَا مِنْ أَخَوَاتِهَا، وَإِخْوَةُ الرَّجُلِ أَعْمَامُهُ وَعَمَّاتُهُ، وَأَبُو الرَّجُلِ وَأُمَّهَاتُهُ أَجْدَادُهُ وَجَدَّاتُهُ، فَلَا يَتَزَوَّجُ بِأَعْمَامِهِ وَعَمَّاتِهِ، وَلَا بِأَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ، لَكِنْ يَتَزَوَّجُ بِأَوْلَادِ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ. فَإِنَّ جَمِيعَ أَقَارِبِ الرَّجُلِ حَرَامٌ عَلَيْهِ. إلَّا أَوْلَادُ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَأَوْلَادُ الْخَالِ وَالْخَالَاتِ، كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50] . فَهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ مِنْ الْأَقَارِبِ، فَيُبَحْنَ مِنْ الرَّضَاعَةِ. وَإِذَا

كَانَ الْمُرْتَضِعُ ابْنًا لِلْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا فَأَوْلَادُهُ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِمَا، وَيَحْرُمُ عَلَى أَوْلَادِهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْأَوْلَادِ مِنْ النَّسَبِ، فَهَذِهِ الْجِهَاتُ الثَّلَاثُ مِنْهَا تَنْتَشِرُ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ. وَأَمَّا إخْوَةُ الْمُرْتَضِعِ مِنْ النَّسَبِ، وَأَبُوهُ مِنْ النَّسَبِ، وَأُمُّهُ مِنْ النَّسَبِ، فَهُمْ أُجَانِبُ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَإِخْوَتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ، لَيْسَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ صِلَةٌ وَلَا نَسَبٌ وَلَا رَضَاعٌ، لِأَنَّ الرَّجُلَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَخٌ مِنْ أَبِيهِ، وَأُخْتٌ مِنْ أُمِّهِ، وَلَا نَسَبَ بَيْنَهُمَا، بَلْ يَجُوزُ لِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهُ مِنْ أُمِّهِ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ أَخٌ مِنْ النَّسَبِ وَأُخْتٌ مِنْ الرَّضَاعِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِهَذَا أَنْ يَتَزَوَّجَ هَذَا، وَلِهَذَا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَذَا. وَبِهَذَا تَزُولُ الشُّبْهَةُ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَعْضِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُرْتَضِعِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَخُوهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ بِأُمِّهِ مِنْ النَّسَبِ، كَمَا يَتَزَوَّجُ بِأُخْتِهِ مِنْ النَّسَبِ وَيَجُوزُ لِأَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ. وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي النَّسَبِ، فَإِنَّ أَخَا الرَّجُلِ مِنْ النَّسَبِ لَا يَتَزَوَّجُ بِأُمِّهِ مِنْ النَّسَبِ، وَأُخْتَه مِنْ الرَّضَاعِ لَيْسَتْ بِنْتَ أَبِيهِ مِنْ النَّسَبِ وَلَا رَبِيبَتَهُ، فَلِهَذَا جَازَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ فَيَقُولُ مَنْ لَا يُحَقِّقُ: يَحْرُمُ فِي النَّسَبِ عَلَى أَخِي أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمِّي وَلَا يَحْرُمُ مِثْلُ هَذَا فِي الرَّضَاعِ. وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُ، فَإِنَّهُ نَظِيرُ الْمُحَرَّمِ مِنْ النَّسَبِ أَنْ تَتَزَوَّجَ أُخْتُهُ أَوْ أَخُوهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ بِابْنِ هَذَا الْأَخِ أَوْ بِأُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، كَمَا لَوْ ارْتَضَعَ هُوَ وَآخَرُ مِنْ امْرَأَةٍ، وَاللَّبَنُ لِفَحْلٍ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ أَخَاهُ وَأُخْتَه مِنْ الرَّضَاعَةِ، لِكَوْنِهِمَا أَخَوَيْنِ لِلْمُرْتَضِعِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَزَوَّجَا أَبَاهُ وَأُمَّهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ لِكَوْنِهِمَا وَلَدَيْهِمَا مِنْ الرَّضَاعَةِ لَا لِكَوْنِهِمَا أَخَوَيْ وَلَدَيْهِمَا، فَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا وَنَحْوَهُ زَالَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ. وَأَمَّا رَضَاعُ الْكَبِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ بَلْ لَا يَحْرُمُ إلَّا رَضَاعُ الصَّغِيرِ كَاَلَّذِي رَضَعَ فِي الْحَوْلَيْنِ، وَفِيمَنْ رَضَعَ قَرِيبًا مِنْ الْحَوْلَيْنِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، لَكِنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ. فَأَمَّا الرَّجُلُ الْكَبِيرُ وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ فَلَا يَحْرُمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِرَضَاعِ الْقَرَائِبِ، مِثْلُ أَنْ تُرْضِعَ زَوْجَتُهُ لِأَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ، فَهُنَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِاَلَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ لِأَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ، إذْ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا صِلَةُ نَسَبٍ وَلَا رَضَاعٍ. وَإِنَّمَا حَرُمَتْ عَلَى أَخِيهَا لِأَنَّهَا أُمُّهُ مِنْ الرَّضَاعِ وَلَيْسَتْ أُمَّ نَفْسِهِ مِنْ الرَّضَاعِ، وَأُمُّ الْمُرْتَضِعِ مِنْ الرَّضَاعِ لَا تَكُونُ أُمًّا لِإِخْوَتِهِ مِنْ النَّسَبِ، لِأَنَّهَا إنَّمَا أَرْضَعَتْ الرَّضِيعَ وَلَمْ تُرْضِعْ غَيْرَهُ، نَعَمْ لَوْ كَانَ لِلرَّجُلِ نِسْوَةٌ

مسألة أعطت لامرأة ولدا فلم تشعر إلا وثديها في فم الصبي

يَطَؤُهُنَّ وَأَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ طِفْلًا لَمْ يَحِلَّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: اللِّقَاحُ وَاحِدٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لِحَدِيثِ أَبِي الْقُعَيْسِ، الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ. وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّ أَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ؛ لِأَنَّهَا أُمُّهُ أَوْ امْرَأَةُ أَبِيهِ، وَكِلَاهُمَا حَرَامٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا أُمُّ أَخِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَلَيْسَتْ أُمَّهُ، وَلَا امْرَأَةَ أَبِيهِ؛ لِأَنَّ زَوْجَهَا صَاحِبُ اللَّبَنِ لَيْسَ أَبًا لِهَذَا لَا مِنْ النَّسَبِ وَلَا مِنْ الرَّضَاعَةِ. فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» ، وَأُمُّ أَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ حَرَامٌ فَكَذَلِكَ مِنْ الرَّضَاعِ. قُلْنَا: هَذَا تَلْبِيسٌ وَتَدْلِيسٌ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُلْ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُ أَخَوَاتِكُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] فَحَرُمَ عَلَى الرَّجُلِ أُمُّهُ وَمَنْكُوحَةُ أَبِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُمَّهُ، وَهَذِهِ تَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَلَا يَتَزَوَّجُ أُمَّهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَأَمَّا مَنْكُوحَةُ أَبِيهِ مِنْ الرَّضَاعِ، فَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ أَنَّهَا تَحْرُمُ لَكِنْ فِيهَا نِزَاعٌ لِكَوْنِهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ بِالصِّهْرِ لَا بِالنَّسَبِ وَالْوِلَادَةِ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ هُنَا فِي تَحْرِيمِهَا، فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ: تَحْرُمُ مَنْكُوحَةُ أَبِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَفَيْنَا بِعُمُومِ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا أُمُّ أَخِيهِ الَّتِي لَيْسَتْ أُمًّا وَلَا مَنْكُوحَةَ أَبٍ فَهَذِهِ لَا تُوجَدُ فِي النَّسَبِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ تَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ فَلَا يَحْرُمُ نَظِيرُهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ فَتَبْقَى أُمُّ الْأُمِّ مِنْ النَّسَبِ لِأَخِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، أَوْ الْأُمُّ مِنْ الرَّضَاعَةِ لِأَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ لَا نَظِيرَ لَهَا مِنْ الْوِلَادَةِ فَلَا تَحْرُمُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أَعْطَتْ لِامْرَأَةٍ وَلَدًا فَلَمْ تَشْعُر إلَّا وَثَدْيُهَا فِي فَمِ الصَّبِيِّ] 503 - 105 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ أَعْطَتْ لِامْرَأَةٍ أُخْرَى وَلَدًا وَهُمَا فِي الْحَمَّامِ، فَلَمْ تَشْعُرْ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَخَذَتْ الْوَلَدَ إلَّا وَثَدْيُهَا فِي فَمِ الصَّبِيِّ، فَانْتَزَعَتْهُ مِنْهُ فِي سَاعَتِهِ، وَمَا عَلِمَتْ، هَلْ ارْتَضَعَ أَمْ لَا؟ فَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى الصَّبِيِّ الْمَذْكُورِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ بَنَاتِ الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ أَمْ لَا؟

مسألة رجل رمد فغسل عينيه بلبن زوجته

الْجَوَابُ: لَا يَحْرُمُ عَلَى الصَّبِيِّ الْمَذْكُورِ بِذَلِكَ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْ أَوْلَادِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ أُمَّهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالشَّكِّ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. [مَسْأَلَةٌ رَجُل رَمَدٌ فَغَسَلَ عَيْنَيْهِ بِلَبَنِ زَوْجَتِهِ] 504 - 106 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ رَمَدٌ فَغَسَلَ عَيْنَيْهِ بِلَبَنِ زَوْجَتِهِ، فَهَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ إذَا حَصَلَ لَبَنُهَا فِي بَطْنِهِ؟ وَرَجُلٌ يُحِبُّ زَوْجَتَهُ فَلَعِبَ مَعَهَا فَرَضَعَ مِنْ لَبَنِهَا، فَهَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا غَسْلُ عَيْنَيْهِ بِلَبَنِ امْرَأَتِهِ يَجُوزُ، وَلَا تَحْرُمُ بِذَلِكَ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَبِيرٌ، وَالْكَبِيرُ إذَا ارْتَضَعَ مِنْ امْرَأَتِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ امْرَأَتِهِ لَمْ تَنْتَشِرْ بِذَلِكَ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، لِمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ مُخْتَصٌّ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ تَبَنَّوْهُ قَبْلَ تَحْرِيمِ التَّبَنِّي. الثَّانِي: أَنَّ حُصُولَ اللَّبَنِ فِي الْعَيْنِ لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا نِزَاعًا، وَلَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي السَّعُوطِ، وَهُوَ مَا إذَا أَدْخَلَ فِي أَنْفِهِ بَعْدَ تَنَازُعِهِمْ بِالْوَجُورِ، وَهُوَ مَا يُطْرَحُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ رَضَاعٍ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْوَجُورَ يَحْرُمُ، وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ السَّعُوطُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّ ارْتِضَاعَهُ لَا يُحَرِّمُ امْرَأَتَهُ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. [مَسْأَلَةٌ أَوْدَعَتْ بِنْتَهَا عِنْدَ امْرَأَةِ أَخِيهَا فَقَالَتْ أَرْضَعْتِيهَا فَقَالَتْ لَا] 505 - 107 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ أَوْدَعَتْ بِنْتَهَا عِنْدَ امْرَأَةِ أَخِيهَا، وَغَابَتْ وَجَاءَتْ

مسألة له بنتا خالة واحدة رضعت معه والأخرى لم ترضع معه

فَقَالَتْ: أَرْضَعْتِيهَا فَقَالَتْ: لَا وَحَلَفَتْ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّ وَلَدَ أَخِيهَا كَبِرَ، وَكَبِرَتْ بِنْتُهَا الصَّغِيرَةُ، وَأُخْتُهَا ارْتَضَعَتْ مَعَ أَخِيهِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَتْ الْبِنْتُ لَمْ تَرْضَعْ مِنْ أُمِّ الْخَاطِبِ، وَلَا الْخَاطِبُ ارْتَضَعَ مِنْ أُمِّهَا جَازَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ إخْوَتُهَا وَأَخَوَاتُهَا مِنْ أُمِّ الْخَاطِبِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُؤَثِّرُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ الطِّفْلُ إذَا ارْتَضَعَ مِنْ امْرَأَةٍ صَارَتْ أُمَّهُ وَزَوْجُهَا صَاحِبُ اللَّبَنِ أَبَاهُ، وَصَارَ أَوْلَادُهُمَا إخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، وَأَمَّا إخْوَةُ الْمُرْتَضِعِ مِنْ النَّسَبِ وَأَبُوهُ مِنْ النَّسَبِ وَأُمُّهُ مِنْ النَّسَبِ فَهُمْ أَجَانِبُ، يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَتَزَوَّجُوا أَخَوَاتِهِ، كَمَا يَجُوزُ مِنْ النَّسَبِ أَنْ تَتَزَوَّجَ أُخْتُ الرَّجُلِ مِنْ أُمِّهِ بِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ، وَكُلُّ هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِلَا نِزَاعٍ فِيهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ لَهُ بَنَتَا خَالَةٍ وَاحِدَة رَضَعَتْ مَعَهُ وَالْأُخْرَى لَمْ تَرْضَعْ مَعَهُ] 506 - 108 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ بَنَاتُ خَالَةٍ، أُخْتَانِ الْوَاحِدَةُ رَضَعَتْ مَعَهُ، وَالْأُخْرَى لَمْ تَرْضَعْ مَعَهُ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الَّتِي لَمْ تَرْضَعْ مَعَهُ؟ الْجَوَابُ: إذَا ارْتَضَعَ مِنْهَا خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ صَارَ ابْنًا لَهَا، وَحَرُمَ عَلَيْهِ جَمِيعُ بَنَاتِهَا مَنْ وُلِدَ قَبْلَ الرَّضَاعِ وَمَنْ وُلِدَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتُهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَمَتَى ارْتَضَعَتْ الْمَخْطُوبَةُ مِنْ أُمٍّ لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَاحِدًا مِنْ ابْنَيْ الْمُرْضِعَةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَاطِبُ لَمْ يَرْتَضِعْ مِنْ أُمِّ الْمَخْطُوبَةِ وَلَا هِيَ رَضَعَتْ مِنْ أُمِّهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ إخْوَتُهُمَا تَرَاضَعَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ خَطَبَ قَرَابَتَهُ فَقَالَ وَالِدُهُ هِيَ رَضَعَتْ مَعَك] 507 - 109 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ خَطَبَ قَرَابَتَهُ، فَقَالَ وَالِدُهُ: هِيَ رَضَعَتْ مَعَك وَنَهَاهُ عَنْ التَّزْوِيجِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ تَزَوَّجَ بِهَا، وَكَانَ الْعُدُولُ شَهِدُوا عَلَى وَالِدَتِهَا أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْكَرَتْ وَقَالَتْ مَا قُلْت هَذَا الْقَوْلَ إلَّا لِغَرَضٍ، فَهَلْ يَحِلُّ تَزْوِيجُهَا؟

مسألة أرضعت المرأة الطفلة خمس رضعات في الحولين

الْجَوَابُ: إنْ كَانَتْ الْأُمُّ مَعْرُوفَةً بِالصِّدْقِ وَذَكَرَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إذَا تَزَوَّجَهَا فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَتَهُ لَمَّا ذَكَرَتْ الْأَمَةُ السَّوْدَاءُ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهَا» . وَأَمَّا إذَا شَكَّ فِي صِدْقِهَا أَوْ فِي عَدَدِ الرَّضَعَاتِ فَإِنَّهَا تَكُونُ مِنْ الشُّبُهَاتِ، فَاجْتِنَابُهَا أَوْلَى، لَا يُحْكَمُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا إلَّا بِحُجَّةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ، وَإِذَا رَجَعَتْ عَنْ الشَّهَادَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ لَمْ تَحْرُمْ الزَّوْجَةُ. لَكِنْ إنْ عَرَفَ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ فِي رُجُوعِهَا، وَأَنَّهَا رَجَعَتْ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهَا حَتَّى كَتَمَتْ الشَّهَادَةَ، لَمْ يَحِلَّ التَّزْوِيجُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 508 - 110 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ: الزَّوْجَةُ، وَالْقِطُّ، وَالنَّمْلُ. الزَّوْجَةُ تُرْضِعُ مَنْ لَيْسَ وَلَدُهَا، وَتُنَكِّدُ عَلَيْهِ وَفِرَاشَهُ بِذَلِكَ، وَالْقِطُّ يَأْكُلُ الْفَرَارِيجَ، وَالنَّمْلُ يَدِبُّ فِي الطَّعَامِ، فَهَلْ لَهُمْ حَرْقُ بُيُوتِهِمْ بِالنَّارِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ قَتْلُ الْقِطِّ؟ وَهَلْ لَهُمْ مَنْعُ الزَّوْجَةِ مِنْ إرْضَاعِهَا؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُرْضِعَ غَيْرَ وَلَدِهَا إلَّا بِإِذْنِ الزَّوْجِ، وَالْقِطُّ إذَا صَالَ عَلَى مَالِهِ فَلَهُ دَفْعُهُ عَنْ الصَّوْلِ وَلَوْ بِالْقَتْلِ، وَلَهُ أَنْ يَرْمِيَهُ بِمَكَانٍ بَعِيدٍ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ ضَرَرِهِ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ. وَأَمَّا النَّمْلُ فَيُدْفَعُ ضَرَرُهُ بِغَيْرِ التَّحْرِيقِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أَرْضَعَتْ الْمَرْأَةُ الطِّفْلَةَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ] 509 - 111 - مَسْأَلَةٌ: فِي أُخْتَيْنِ وَلَهُمَا بَنَاتٌ وَبَنِينَ، فَإِذَا أَرْضَعَ الْأُخْتَانِ، هَذِهِ بَنَاتِ هَذِهِ، وَهَذِهِ بَنَاتِ هَذِهِ، فَهَلْ يَحْرُمُ مَنْ عَلَى الْبَنِينَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إذَا أَرْضَعَتْ الْمَرْأَةُ الطِّفْلَةَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ صَارَتْ بِنْتًا

مسألة ارتضع من امرأة وهو طفل صغير على بنت لها

لَهَا، وَصَارَ جَمِيعُ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ إخْوَةً لِهَذِهِ الْمُرْتَضِعَةِ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، مَنْ وُلِدَ قَبْلَ الرَّضَاعِ وَمَنْ وُلِدَ بَعْدَهُ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُرْتَضِعَةَ، بَلْ يَجُوزُ لِإِخْوَةِ الْمُرْتَضِعَةِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا بِأَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ، الَّذِينَ لَمْ يَرْتَضِعُوا مِنْ أُمِّهِنَّ، فَالتَّحْرِيمُ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْمُرْتَضِعَةِ لَا عَلَى إخْوَتِهَا الَّذِينَ لَمْ يَرْتَضِعُوا فَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ أُخْتِهِ إذَا كَانَ هُوَ لَمْ يَرْتَضِعْ مِنْ أُمِّهَا، وَهِيَ لَمْ تَرْضِعْ مِنْ أُمِّهِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْمُرْتَضِعَةُ فَلَا تَتَزَوَّجُ وَاحِدًا مِنْ أَوْلَادِ مَنْ أَرْضَعَتْهَا وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْمُرْتَضِعَةَ تُصَيِّرُ الْمُرْضِعَةَ أُمَّهَا، فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا أَوْلَادُهَا، وَتُصَيِّرُ إخْوَتَهَا وَأَخَوَاتِهَا أَخْوَالَهَا وَخَالَاتِهَا، وَيَصِيرُ الرَّجُلُ الَّذِي لَهُ اللَّبَنُ أَبَاهَا وَأَوْلَادُهُ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ وَغَيْرِهَا إخْوَتَهَا، وَإِخْوَةُ الرَّجُلِ أَعْمَامَهَا وَعَمَّاتِهَا، وَيَصِيرُ الْمُرْتَضِعُ، وَأَوْلَادُهُ، وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهِ، أَوْلَادَ الْمُرْضِعَةِ وَالرَّجُلِ الَّذِي دَرَّ اللَّبَنَ بِوَطْئِهِ، وَأَمَّا إخْوَةُ الْمُرْتَضِعِ وَأَخَوَاتُهُ وَأَبُوهُ وَأُمُّهُ مِنْ النَّسَبِ، فَهُمْ أَجَانِبُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الرَّضَاعِ شَيْءٌ، وَهَذَا كُلُّهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ نِزَاعٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. 510 - 112 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ بِنْتُ ابْنِ عَمٍّ، وَوَالِدُ الْبِنْتِ الْمَذْكُورِ قَدْ رَضَعَ بِأُمِّ الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ مَعَ أَحَدِ أَخَوَاتِهِ، وَذَكَرَتْ أُمُّ الرَّجُلِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهُ لَمَّا رَضَعَهَا كَانَ عُمْرُهُ أَكْثَرَ مِنْ حَوْلَيْنِ، فَهَلْ لِلرَّجُلِ الْمَذْكُورِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ عَمِّهِ؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ الرَّضَاعُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا. [مَسْأَلَةٌ ارْتَضَعَ مِنْ امْرَأَةٍ وَهُوَ طِفْلٌ صَغِيرٌ عَلَى بِنْتٍ لَهَا] 511 - 113 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ ارْتَضَعَ مِنْ امْرَأَةٍ وَهُوَ طِفْلٌ صَغِيرٌ عَلَى بِنْتٍ لَهَا، وَلَهَا أَخَوَاتٌ أَصْغَرُ مِنْهَا، فَهَلْ يَحْرُمُ مِنْهُنَّ أَحَدٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إذَا ارْتَضَعَ مِنْ امْرَأَةٍ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ صَارَ ابْنًا لِتِلْكَ

مسألة مطلقة وهي ترضع وقد آجرت لبنها ثم انقضت عدتها

الْمَرْأَةِ، فَجَمِيعُ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ وُلِدُوا قَبْلَ الرَّضَاعِ وَاَلَّذِينَ وُلِدُوا بَعْدَهُ هُمْ إخْوَةٌ لِهَذَا الْمُرْتَضِعِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا. [مَسْأَلَةٌ مُطَلَّقَة وَهِيَ تُرْضِعُ وَقَدْ آجَرَتْ لَبَنَهَا ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا] 512 - 114 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ مُطَلَّقَةٍ وَهِيَ تُرْضِعُ، وَقَدْ آجَرَتْ لَبَنَهَا ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ، فَهَلْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْنَعَهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى زَوْجِهَا، خَشْيَةَ أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ فَيَقِلَّ اللَّبَنُ عَلَى الْوَلَدِ الْجَوَابُ: أَمَّا مُجَرَّدُ الشَّكِّ فَلَا يَمْنَعُ الزَّوْجَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْوَطْءِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ ذَكَرْتُ أَنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ» . فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّ الْأَوْلَادَ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ مَنْعُ الزَّوْجِ حَقَّهُ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْعُ الْحَقِّ السَّابِقِ الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ. [مَسْأَلَةٌ الْأَب إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ أُجْرَةِ الرَّضَاعِ] 513 - 115 - مَسْأَلَةٌ: فِي الْأَبِ إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ أُجْرَةِ الرَّضَاعِ، فَهَلْ لَهُ إذَا امْتَنَعَتْ الْأُمُّ عَنْ الِاسْتِرْضَاعِ إلَّا بِأُجْرَةٍ أَنْ يَسْتَرْضِعَ غَيْرَهَا؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. 514 - 116 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بَعْدَ امْرَأَةٍ، وَقَدْ ارْتَضَعَ طِفْلٌ مِنْ الْأُولَى، وَلِلْأَبِ مِنْ الثَّانِيَةِ بِنْتٌ، فَهَلْ لِلْمُرْتَضِعِ أَنْ يَتَزَوَّجَ هَذِهِ الْبِنْتَ؟ وَإِذَا تَزَوَّجَهَا وَدَخَلَ بِهَا فَهَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟ وَهَلْ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ؟

مسألة ارتضع من امرأة مع ولدها رضعة أو بعض رضعة

الْجَوَابُ: إذَا ارْتَضَعَ الرَّضَاعَ الْمُحَرَّمَ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ هَذِهِ الْبِنْتَ فِي مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ لِأَنَّ اللَّبَنَ لِلْفَحْلِ. وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَجُلٍ لَهُ امْرَأَتَانِ أَرْضَعَتْ إحْدَاهُمَا طِفْلًا وَالْأُخْرَى طِفْلَةً، فَهَلْ يَتَزَوَّجُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ؟ فَقَالَ: لَا، اللِّقَاحُ وَاحِدٌ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، قَالَتْ: «اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ، وَكَانَتْ قَدْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ، فَقُلْت: لَا آذَنُ لَك حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلْته فَقَالَ: إنَّهُ عَمُّك فَلْيَلِجْ عَلَيْك. فَقَالَتْ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي، فَقَالَ: إنَّهُ عَمُّك فَلْيَلِجْ عَلَيْك، يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ» . وَإِذَا تَزَوَّجَهَا وَدَخَلَ بِهَا فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ ارْتَضَعَ مِنْ امْرَأَةٍ مَعَ وَلَدِهَا رَضْعَةً أَوْ بَعْضَ رَضْعَةٍ] 515 - 117 - مَسْأَلَةٌ: فِي طِفْلٍ ارْتَضَعَ مِنْ امْرَأَةٍ مَعَ وَلَدِهَا رَضْعَةً أَوْ بَعْضَ رَضْعَةٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِرَجُلٍ آخَرَ فَرُزِقَتْ مِنْهُ ابْنَةٌ، فَهَلْ يَحِلُّ لِلطِّفْلِ الْمُرْتَضِعِ تَزْوِيجُ الِابْنَةِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، أَمْ لَا؟ وَمَا دَلِيلُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الْمَصَّةَ الْوَاحِدَةَ أَوْ الرَّضْعَةَ الْوَاحِدَةَ تُحَرِّمُ مَعَ مَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي خَرَّجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، مِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ» . وَمِنْهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ» . وَمِنْهَا أَنَّ «رَجُلًا مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ قَالَ:

يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ تَحْرُمُ الرَّضْعَةُ الْوَاحِدَةُ؟ قَالَ لَا» . وَمِنْهَا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، نُسِخَتْ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ» وَمَا حُجَّتُهُمَا مَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَا يُحَرِّمُ إلَّا خَمْسُ رَضَعَاتٍ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ، وَحَدِيثِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَنْ تُرْضِعَهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا، فَيَكُونُ مَا دُونَ ذَلِكَ لَمْ يُحَرِّمْ، فَيَحْتَاجُ إلَى خَمْسِ رَضَعَاتٍ، وَقِيلَ: يُحَرِّمُ الثَّلَاثُ فَصَاعِدًا وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ أَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي الصَّحِيحِ: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ» قَالُوا مَفْهُومُهُ: أَنَّ الثَّلَاثَ تَحْرُمُ، وَلَمْ يَحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ قُرْآنٌ إلَّا بِالتَّوَاتُرِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُتَوَاتِرٍ، فَقَالَ لَهُمْ الْأَوَّلُونَ مَعَنَا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ مُثْبَتَانِ. أَحَدُهُمَا: يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ حُكْمًا، وَكَوْنُهُ قُرْآنًا، فَمَا ثَبَتَ مِنْ الْحُكْمِ يَثْبُتُ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، وَأَمَّا مَا فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ قُرْآنًا فَهَذَا لَمْ نُثْبِتْهُ وَلَمْ نَتَصَوَّرْ أَنَّ ذَلِكَ قُرْآنٌ إنَّمَا نُسِخَ رَسْمُهُ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ، فَقَالَ أُولَئِكَ: هَذَا تَنَاقُضٌ وَقِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ بِالتَّوَاتُرِ كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، وَأَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ بِجَوَابَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا فِيهِ حَدِيثٌ آخَرُ صَحِيحٌ، وَأَيْضًا فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ نَفَى قُرْآنًا لَكِنْ بَيَّنَ حُكْمَهُ.

وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ لَا يَقُولُ بِهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، بَلْ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، بَلْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ إذَا صَحَّ النَّقْلُ بِهَا عَنْ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهَا فِي الْأَحْكَامِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَهِيَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَهَؤُلَاءِ احْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وَقَالَ: اسْمُ الرَّضَاعَةِ فِي الْقُرْآنِ مُطْلَقٌ، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا ضَعِيفَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ ظَنَّ أَنَّهَا تُخَالِفُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ، وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَتَقْيِيدُ مُطْلَقِهِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ. فَقَالَ الْأَوَّلُونَ: هَذِهِ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَكَوْنُهَا لَمْ تَبْلُغْ بَعْضَ السَّلَفِ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهَا عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ صِحَّتَهَا. وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: فَكَمَا أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِدَلِيلٍ آخَرَ أَنَّ الرَّضَاعَةَ مُقَيَّدَةٌ بِسِنٍّ مَخْصُوصٍ، فَكَذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِقَدْرٍ مَخْصُوصٍ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ عُلِمَ بِالسُّنَّةِ مِقْدَارُ الْفِدْيَةِ فِي قَوْلِهِ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ خَبَرًا وَاحِدًا، بَلْ كَمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ أَنَّهُ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا» . وَهُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ يُظَاهِرُ الْقُرْآنَ، وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَكَذَلِكَ فُسِّرَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَغَيْرِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِحَمْلِ قَوْلِهِ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] وَفُسِّرَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أُمُورٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحُدُودِ مَا هُوَ مُطْلَقٌ مِنْ الْقُرْآنِ، فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَتُبَيِّنُهُ، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ وَالتَّقْيِيدُ بِالْخَمْسِ لَهُ أُصُولٌ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ بُنِيَ عَلَى خَمْسٍ، وَالصَّلَوَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ خَمْسٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ صَدَقَةٌ، وَالْأَوْقَاصُ بَيْنَ النُّصُبِ خَمْسٌ أَوْ عَشْرٌ أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَأَنْوَاعُ الْبِرِّ خَمْسٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177] .

مسألة له قرينة لم يتراضع هو وأبوها ولهما إخوة صغار تراضعوا

وَقَالَ فِي الْكُفْرِ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 136] . وَأُولُو الْعَزْمِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، بِقَدْرِ الرَّضَاعِ الْمُحَرَّمِ لَيْسَ بِغَرِيبٍ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَالرَّضَاعُ إذَا حَرُمَ لِكَوْنِهِ يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَيَنْشُرُ الْعَظْمَ فَيَصِيرُ نَبَاتُهُ بِهِ كَنَبَاتِهِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يُحَرِّمْ رَضَاعُ الْكَبِيرِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَالرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ لَيْسَ لَهُمَا تَأْثِيرٌ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا، كَمَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ مَا دُونَ نِصَابِ السَّرِقَةِ حَتَّى لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي بِشَيْءٍ مِنْ التَّافِهِ، وَاعْتِبَارُهُ فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ، فَلَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ إذَا كَانَ أَقَلَّ، وَلَا بُدَّ مِنْ حَدٍّ فَاصِلٍ، فَهَذَا هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى مَأْخَذِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبَسْطُ الْكَلَامِ فِيهَا يَحْتَاجُ إلَى وَرَقَةٍ أَكْبَرَ مِنْ هَذِهِ، وَهِيَ مِنْ أَشْهَرِ مَسَائِلِ النِّزَاعِ، وَالنِّزَاعُ فِيهَا مِنْ زَمَانِ الصَّحَابَةِ، وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تَنَازَعُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالتَّابِعُونَ بَعْدَهُمْ، وَأَمَّا إذَا شَكَّ هَلْ دَخَلَ اللَّبَنُ فِي جَوْفِ الصَّبِيِّ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، فَهُنَا لَا نَحْكُمُ بِالتَّحْرِيمِ بِلَا رَيْبٍ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي فَمِهِ فَإِنَّ حُصُولَ اللَّبَنِ فِي الْفَمِ لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. 516 - 118 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَوُلِدَ لَهُ مِنْهَا أَوْلَادٌ عَدِيدَةٌ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ حَضَرَ مَنْ نَازَعَ الزَّوْجَةَ، وَذَكَرَ لِزَوْجِهَا أَنَّ هَذِهِ الزَّوْجَةَ الَّتِي فِي عِصْمَتِكَ شَرِبَتْ مِنْ لَبَنِ أُمِّك؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ وَهُوَ خَبِيرٌ بِمَا ذَكَرَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهَا رَضَعَتْ مِنْ أُمِّ الزَّوْجِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ، رُجِعَ إلَى قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ، وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ الرُّجُوعُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَايَنَ الرَّضَاعَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ لَهُ قَرِينَةٌ لَمْ يَتَرَاضَعْ هُوَ وَأَبُوهَا وَلَهُمَا إخْوَةٌ صِغَارٌ تَرَاضَعُوا] 517 - 119 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ قَرِينَةٌ لَمْ يَتَرَاضَعْ هُوَ وَأَبُوهَا، لَكِنْ لَهُمَا إخْوَةٌ صِغَارٌ تَرَاضَعُوا، فَهَلْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا وَرُزِقَ مِنْهَا وَلَدًا، فَمَا حُكْمُهُمْ وَمَا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فِيهِمْ؟

مسألة ذات بعل ولها لبن على غير ولد ولا حمل فأرضعت

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا لَمْ يَرْتَضِعْ هُوَ مِنْ أُمِّهَا وَلَمْ تَرْتَضِعْ هِيَ مِنْ أُمِّهِ بَلْ إخْوَتُهُ رَضَعُوا مِنْ أُمِّهَا، وَإِخْوَتُهَا رَضَعُوا مِنْ أُمِّهِ كَانَتْ حَلَالًا لَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، بِمَنْزِلَةِ أُخْتِ أَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ، فَإِنَّ الرَّضَاعَ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ إلَى الْمُرْتَضِعِ وَذُرِّيَّتِهِ وَإِلَى الْمُرْضِعَةِ وَإِلَى زَوْجِهَا الَّذِي وَطِئَهَا، حَتَّى صَارَ لَهَا لَبَنٌ فَتَصِيرُ الْمُرْضِعَةُ أُمَّهَا وَوَلَدُهَا قَبْلَ الرَّضَاعِ وَبَعْدَهُ أَخُو الرَّضِيعِ، وَيَصِيرُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَوَلَدُهُ قَبْلَ الرَّضَاعِ وَبَعْدَهُ أَخُو الرَّضِيعِ، فَأَمَّا إخْوَةُ الْمُرْتَضِعِ مِنْ النَّسَبِ وَأَبُوهُ مِنْ النَّسَبِ فَهُمْ أَجَانِبُ مِنْ أَبَوَيْهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَإِخْوَتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ، وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا انْتِشَارُ الْحُرْمَةِ إلَى الرَّجُلِ فَإِنَّ هَذِهِ تُسَمَّى مَسْأَلَةَ الْفَحْلِ، وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ: لَبَنُ الْفَحْلِ لَا يُحَرِّمُ، وَالنُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ هِيَ تُقَرِّرُ مَذْهَبَ الْجَمَاعَةِ. 518 - 120 - مَسْأَلَةٌ: فِي أُخْتَيْنِ أَشِقَّاءَ، لِأَحَدِهِمَا بِنْتَانِ، وَلِلْأُخْرَى ذَكَرٌ، وَقَدْ ارْتَضَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ الْبِنْتَيْنِ وَهِيَ الْكَبِيرَةُ مَعَ الْوَلَدِ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِاَلَّتِي لَمْ تَرْضِعْ مَعَهُ؟ الْجَوَابُ: إذَا ارْتَضَعَتْ الْوَاحِدَةُ مِنْ أُمِّ الصَّبِيِّ وَلَمْ يَرْتَضِعْ هُوَ مِنْ أُمِّهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. [مَسْأَلَةٌ ذَات بَعْلٍ وَلَهَا لَبَنٌ عَلَى غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا حَمْلٍ فَأَرْضَعَتْ] 519 - 121 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ ذَاتِ بَعْلٍ وَلَهَا لَبَنٌ عَلَى غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا حَمْلٍ، فَأَرْضَعَتْ طِفْلَةً لَهَا دُونَ الْحَوْلَيْنِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، وَهِيَ الْمُرْضِعَةُ عَمَّةُ الرَّضِيعَةِ مِنْ النَّسَبِ، ثُمَّ أَرَادَ ابْنُ بِنْتِ هَذِهِ الْمُرْضِعَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَذِهِ الرَّضِيعَةِ، فَهَلْ يَحْرُمُ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا إذَا وَطِئَهَا زَوْجٌ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ثَابَ لَهَا لَبَنٌ فَهَذَا اللَّبَنُ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ، فَإِذَا ارْتَضَعَتْ طِفْلَةٌ خَمْسَ رَضَعَاتٍ صَارَتْ بِنْتُهَا وَابْنُ بِنْتِهَا ابْنَ أُخْتِهَا، وَهِيَ خَالَتُهُ،

مسألة ارتضع مع رجل وجاء لأحدهما بنت

سَوَاءٌ كَانَ الِارْتِضَاعُ مَعَ طِفْلٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَأَمَّا أُخْتُهَا مِنْ النَّسَبِ الَّتِي لَمْ تَرْضِعْ فَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ هَذَا اللَّبَنَ ثَابَ لِامْرَأَةٍ لَمْ تَتَزَوَّجْ قَطُّ، فَهَذَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ ارْتَضَعَ مَعَ رَجُلٍ وَجَاءَ لِأَحَدِهِمَا بِنْتٌ] 520 - 122 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ ارْتَضَعَ مَعَ رَجُلٍ، وَجَاءَ لِأَحَدِهِمَا بِنْتٌ، فَهَلْ لِلْمُرْتَضِعِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْبِنْتِ؟ الْجَوَابُ: إذَا ارْتَضَعَ الطِّفْلُ مِنْ الْمَرْأَةِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ صَارَ ابْنًا لَهَا، وَصَارَ جَمِيعُ أَوْلَادِهَا إخْوَتَهُ الَّذِينَ وَلَدَتْهُمْ قَبْلَ الرَّضَاعَةِ وَاَلَّذِينَ وَلَدَتْهُمْ بَعْدَ الرَّضَاعَةِ، وَالرَّضَاعَةُ يَحْرُمُ فِيهَا مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ الْآخَرِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى جَارِيَةً وَوَطِئَهَا ثُمَّ مَلَّكَهَا لِوَلَدِهِ] 521 - 123 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً وَوَطِئَهَا، ثُمَّ مَلَّكَهَا لِوَلَدِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ لِوَلَدِهِ وَطْؤُهَا؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَا يَجُوزُ لِلِابْنِ أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ وَطْءِ أَبِيهِ، وَالْحَالُ هَذِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَفِي السُّنَنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «رَأَيْت خَالِي أَبَا بُرْدَةَ وَمَعَهُ رَايَةٌ، فَقُلْت: إلَى أَيْنَ؟ فَقَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَأُخَمِّسَ مَالَهُ» ، وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ وَطْئِهَا بِالنِّكَاحِ وَبَيْنَ وَطْئِهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ. [مَسْأَلَةٌ إتْيَان الْحَائِضِ قَبْلَ الْغُسْلِ] 522 - 124 - مَسْأَلَةٌ: فِي إتْيَانِ الْحَائِضِ قَبْلَ الْغُسْلِ، وَمَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ:

مسألة جماع الحائض

فَإِنْ انْقَطَعَ الدَّمُ لِأَقَلَّ مِنْ عَشْرَةِ أَيَّامٍ لَمْ يَجُزْ وَطْؤُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ، وَإِنْ انْقَطَعَ دَمُهَا لِعَشْرَةِ أَيَّامٍ جَازَ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْغُسْلِ، وَهَلْ الْأَئِمَّةُ مُوَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ؟ . الْجَوَابُ: أَمَّا مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَجُوزُ وَطْؤُهَا إذَا انْقَطَعَ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ، أَوْ مَرَّ عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ فَاغْتَسَلَتْ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْآثَارُ. [مَسْأَلَةٌ جِمَاع الْحَائِضِ] 523 - 125 - مَسْأَلَةٌ: فِي جِمَاعِ الْحَائِضِ، يَجُوزُ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: وَطْءُ الْحَائِضِ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ وَطِئَهَا وَكَانَتْ حَائِضًا فَفِي الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ، وَفِي غُسْلِهَا مِنْ الْجَنَابَةِ دُونَ الْحَيْضِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَوَطْءُ النُّفَسَاءِ كَوَطْءِ الْحَيْضِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ مِنْ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ، وَسَوَاءٌ اسْتَمْتَعَ مِنْهَا بِفَمِهِ أَوْ بِيَدِهِ أَوْ بِرِجْلِهِ، فَلَوْ وَطِئَهَا فِي بَطْنِهَا وَاسْتَمْنَى جَازَ، وَلَوْ اسْتَمْتَعَ بِفَخِذَيْهَا فَفِي جَوَازِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 524 - 126 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً ثُمَّ بَعْدَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ، ثُمَّ بَاعَهَا بَعْدَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ الثَّانِي أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ؟ الْجَوَابُ: لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ

مسألة رجل يأتي زوجته في دبرها

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ» وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ عِنْدَهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، بَلْ لَا يَجُوزُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَبِيعَهَا الْوَاطِئُ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا - وَهَلْ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاءٌ وَعَلَى الْمُشْتَرِي اسْتِبْرَاءٌ أَوْ اسْتِبْرَاءَانِ أَوْ يَكْفِيهِمَا اسْتِبْرَاءٌ وَاحِدٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُل يَأْتِي زَوْجَتَهُ فِي دُبُرِهَا] 525 - 127 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ يَأْتِي زَوْجَتَهُ فِي دُبُرِهَا أَحَلَالٌ هُوَ، أَمْ حَرَامٌ؟ الْجَوَابُ: وَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَوْلُ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، بَلْ هُوَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ، لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ» ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] . وَالْحَرْثُ هُوَ مَوْضِعُ الْوَلَدِ، فَإِنَّ الْحَرْثَ هُوَ مَحَلُّ الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ، وَكَانَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ: إذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي قُبُلِهَا مِنْ دُبُرِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَبَاحَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَتَهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهَا لَكِنْ فِي الْفَرْجِ خَاصَّةً، وَمَتَى وَطِئَهَا فِي الدُّبُرِ وَطَاوَعَتْهُ عُزِّرَا جَمِيعًا، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِيَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْفَاجِرِ وَمَنْ يَفْجُرُ بِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 526 - 128 - مَسْأَلَةٌ: فِي أَعْرَابٍ نَازِلِينَ عَلَى الْبَحْرِ وَأَهْلِ بَادِيَةٍ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ وَلَا قَرِيبًا مِنْهُمْ حَاكِمٌ، وَلَا لَهُمْ عَادَةٌ أَنْ يَعْقِدُوا نِكَاحًا إلَّا فِي الْقُرَى حَوْلَهُمْ عِنْدَ أَئِمَّتِهَا، فَهَلْ يَصِحُّ عَقْدُ أَئِمَّةِ الْقُرَى لَهُمْ مُطْلَقًا لِمَنْ لَهَا وَلِيٌّ وَلِمَنْ لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ؟ وَرُبَّمَا كَانَ

مسألة امرأة تطعم من بيت زوجها بحكم أنها تتعب فيه

أَئِمَّةٌ لَيْسَ لَهُمْ إذْنٌ مِنْ مُتَوَلٍّ، فَهَلْ يَصِحُّ عَقْدُهُمْ فِي الشَّرْعِ مَعَ إشْهَادِ مَنْ اتَّفَقَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْعُقُودِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ عَلَى الْأَئِمَّةِ إثْمٌ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ مَانِعٌ غَيْرُ هَذَا الْحَالِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ إذْنِ الْحَاكِمِ لِلْإِمَامِ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا مَنْ كَانَ لَهَا وَلِيٌّ مِنْ النَّسَبِ، وَهُوَ الْعَصَبَةُ مِنْ النَّسَبِ، أَوْ الْوَلَاءِ مِثْلُ: أَبِيهَا، وَجَدِّهَا، وَأَخِيهَا، وَعَمِّهَا، وَابْنِ أَخِيهَا، وَابْنِ عَمِّهَا، وَعَمِّ أَبِيهَا، وَابْنِ عَمِّ أَبِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَقَةً فَمُعْتِقُهَا أَوْ عَصَبَةُ مُعْتِقِهَا، فَهَذِهِ يُزَوِّجُهَا الْوَلِيُّ بِإِذْنِهَا، وَالِابْنُ وَلِيٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا يَفْتَقِرُ ذَلِكَ إلَى حَاكِمٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَإِذَا كَانَ النِّكَاحُ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ صَحَّ النِّكَاحُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الشَّاهِدَانِ مُعَدَّلَيْنِ عِنْدَ الْقَاضِي بِأَنْ كَانَا مَسْتُورَيْنِ صَحَّ النِّكَاحُ إذَا أَعْلَنُوهُ وَلَمْ يَكْتُمُوهُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَوْ كَانَ بِحَضْرَةِ فَاسِقَيْنِ صَحَّ النِّكَاحُ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ شُهُودٍ، بَلْ زَوَّجَهَا وَلِيُّهَا، وَشَاعَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ صَحَّ النِّكَاحُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَهَذَا أَظْهَرُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا زَالُوا يُزَوِّجُونَ النِّسَاءَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُهُمْ بِالْإِشْهَادِ. وَلَيْسَ فِي اشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ حَدِيثٌ ثَابِتٌ لَا فِي الصِّحَاحِ وَلَا فِي السُّنَنِ وَلَا الْمُسْنَدِ. وَأَمَّا مَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا، فَإِنْ كَانَ فِي الْقَرْيَةِ أَوْ الْمَحَلَّةِ نَائِبُ حَاكِمٍ زَوَّجَهَا هُوَ وَأَمِيرُ الْأَعْرَابِ، وَرَئِيسُ الْقَرْيَةِ. وَإِذَا كَانَ فِيهِمْ إمَامٌ مُطَاعٌ زَوَّجَهَا أَيْضًا بِإِذْنِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ امْرَأَة تُطْعِمُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا بِحُكْمِ أَنَّهَا تَتْعَبُ فِيهِ] 527 - 129 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ تُطْعِمُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا بِحُكْمِ أَنَّهَا تَتْعَبُ فِيهِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ تَعَالَى، تُطْعِمُ بِالْمَعْرُوفِ، مِثْلِ: الْخُبْزِ، وَالطَّبِيخِ، وَالْفَاكِهَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِطْعَامِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة نكاح الزانية

[مَسْأَلَةٌ نِكَاحُ الزَّانِيَةِ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " نِكَاحُ الزَّانِيَةِ " حَرَامٌ حَتَّى تَتُوبَ، سَوَاءٌ كَانَ زَنَى بِهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ، وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ إلَى جَوَازِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّلَاثَةِ؛ لَكِنْ مَالِكٌ يَشْتَرِطُ الِاسْتِبْرَاءَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ الْعَقْدَ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ إذَا كَانَتْ حَامِلًا؛ لَكِنْ إذَا كَانَتْ حَامِلًا لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا حَتَّى تَضَعَ، وَالشَّافِعِيُّ يُبِيحُ الْعَقْدَ وَالْوَطْءَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ مَاءَ الزَّانِي غَيْرُ مُحْتَرَمٍ، وَحُكْمُهُ لَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ. هَذَا مَأْخَذُهُ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَامِلِ وَغَيْرِ الْحَامِلِ؛ فَإِنَّ الْحَامِلَ إذَا وَطِئَهَا اسْتَلْحَقَ وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُ قَطْعًا؛ بِخِلَافِ غَيْرِ الْحَامِلِ. وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ يَشْتَرِطَانِ " الِاسْتِبْرَاءَ " وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لَكِنْ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ يَشْتَرِطَانِ الِاسْتِبْرَاءَ بِحَيْضَةٍ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ هِيَ الَّتِي عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَتْبَاعِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثِ حِيَضٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا الِاسْتِبْرَاءُ فَقَطْ؛ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ زَوْجَةً يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ، وَلَيْسَتْ أَعْظَمَ مِنْ الْمُسْتَبْرَأَةِ الَّتِي يَلْحَقُ وَلَدُهَا سَيِّدَهَا، وَتِلْكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا إلَّا الِاسْتِبْرَاءُ، فَهَذِهِ أَوْلَى. وَإِنْ قَدَّرَ أَنَّهَا حُرَّةٌ - كَاَلَّتِي أُعْتِقَتْ بَعْدَ وَطْءِ سَيِّدِهَا وَأُرِيدَ تَزْوِيجُهَا إمَّا مِنْ الْمُعْتِقِ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهِ - فَإِنَّ هَذِهِ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا. وَهَذِهِ الزَّانِيَةُ لَيْسَتْ كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ الَّتِي يَلْحَقُ وَلَدُهَا بِالْوَاطِئِ؛ مَعَ أَنَّ فِي إيجَابِ الْعِدَّةِ عَلَى تِلْكَ نِزَاعًا. وَقَدْ ثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَصَرِيحِ السُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ: أَنَّ " الْمُخْتَلِعَةَ " لَيْسَ عَلَيْهَا إلَّا الِاسْتِبْرَاءُ بِحَيْضَةٍ؛ لَا عِدَّةَ كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ. وَذَكَرَ مَكِّيٌّ: أَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ قَوْلُ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. فَإِذَا كَانَتْ الْمُخْتَلِعَةُ لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ مُطَلَّقَةً لَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ بَلْ الِاسْتِبْرَاءُ -

وَيُسَمَّى الِاسْتِبْرَاءُ عِدَّةً - فَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ أَوْلَى، وَالزَّانِيَةُ أَوْلَى. وَأَيْضًا " فَالْمُهَاجِرَةُ " مِنْ دَارِ الْكُفْرِ كَالْمُمْتَحَنَةِ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] الْآيَةَ. قَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ الْحَدِيثَ الْمَأْثُورَ فِيهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَكُونُ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا بِحَيْضَةٍ، مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ مُزَوَّجَةً؛ لَكِنْ حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ بِإِسْلَامِهَا وَاخْتِيَارِهَا فِرَاقَهُ؛ لَا بِطَلَاقٍ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] فَكَانُوا إذَا سَبَوْا الْمَرْأَةَ أُبِيحَتْ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَالْمَسْبِيَّةُ لَيْسَ عَلَيْهَا الِاسْتِبْرَاءُ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ النَّاسِ، وَقَدْ يُسَمَّى ذَلِكَ عِدَّةً. وَفِي السُّنَنِ فِي حَدِيثِ «بَرِيرَةَ لَمَّا أُعْتِقَتْ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَنْ تَعْتَدَّ» فَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ كَابْنِ حَزْمٍ: إنَّ مَنْ لَيْسَتْ بِمُطَلَّقَةٍ تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ إلَّا هَذِهِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ لَفْظَ " تَعْتَدُّ " فِي كَلَامِهِمْ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ، كَمَا ذَكَرْنَا هَذِهِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ» فَقَالَ كَذَا، لَكِنَّ هَذَا حَدِيثٌ مَعْلُولٌ. أَمَّا " أَوَّلًا " فَإِنَّ عَائِشَةَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ الْعِدَّةَ عِنْدَهَا ثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ، وَأَنَّهَا إذَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ حَلَّتْ، فَكَيْفَ تَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ؟ ، وَالنِّزَاعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ إلَى الْيَوْمِ فِي الْعِدَّةِ: هَلْ هِيَ ثَلَاثُ حِيَضٍ، أَوْ ثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ؟ وَمَا سَمِعْنَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ احْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَلَوْ كَانَ لِهَذَا أَصْلٌ عَنْ عَائِشَةَ لَمْ يَخْفَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ قَاطِبَةً. ثُمَّ هَذِهِ سُنَّةٌ عَظِيمَةٌ تَتَوَافَرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى مَعْرِفَتِهَا؛ لِأَنَّ فِيهَا أَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ " أَحَدُهُمَا " أَنَّ الْمُعْتَقَةَ تَحْتَ عَبْدٍ تَعْتَدُّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ. " وَالثَّانِي " أَنَّ الْعِدَّةَ ثَلَاثُ حِيَضٍ. وَأَيْضًا فَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْمُعْتَقَةَ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا كَانَ ذَلِكَ طَلْقَةً بَائِنَةً كَقَوْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا فَالْعِدَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ طَلَاقٍ؛ لَكِنَّ هَذَا أَيْضًا قَوْلٌ ضَعِيفٌ. وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا

يَكُونُ إلَّا رَجْعِيًّا، وَأَنَّ كُلَّ فُرْقَةٍ مُبَايِنَةٌ فَلَيْسَتْ مِنْ الطَّلْقَاتِ الثُّلَاثِ حَتَّى الْخُلْعُ، كَمَا قَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ فِي " نِكَاحِ الزَّانِيَةِ " وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ " إحْدَاهُمَا " فِي اسْتِبْرَائِهَا، وَهُوَ عِدَّتُهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَا حُرْمَةَ لِمَاءِ الزَّانِي. يُقَالُ لَهُ: الِاسْتِبْرَاءُ لَمْ يَكُنْ لِحُرْمَةِ مَاءِ الْأَوَّلِ؛ بَلْ لِحُرْمَةِ مَاءِ الثَّانِي؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَلْحِقَ وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا وَكَانَتْ قَدْ عَلِقَتْ مِنْ الزَّانِي. وَأَيْضًا فَفِي اسْتِلْحَاقِ الزَّانِي وَلَدَهُ إذَا لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» فَجَعَلَ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ؛ دُونَ الْعَاهِرِ. فَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْحَدِيثُ، وَعُمَرُ أَلْحَقَ أَوْلَادًا وُلِدُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِآبَائِهِمْ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. " وَالثَّانِيَةُ " أَنَّهَا لَا تَحِلُّ حَتَّى تَتُوبَ؛ وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ؛ وَالْمَشْهُورُ فِي ذَلِكَ آيَةُ النُّورِ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] وَفِي السُّنَنِ حَدِيثُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ فِي عِنَاقٍ. وَاَلَّذِينَ لَمْ يَعْمَلُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرُوا لَهَا تَأْوِيلًا وَنَسْخًا، أَمَّا التَّأْوِيلُ: فَقَالُوا الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ الْوَطْءُ، وَهَذَا مِمَّا يَظْهَرُ فَسَادُهُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ. أَمَّا " أَوَّلًا " فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ لَفْظُ نِكَاحٍ إلَّا وَلَا بُدَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعَقْدُ، وَإِنْ دَخَلَ فِيهِ الْوَطْءُ أَيْضًا. فَأَمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مُجَرَّدُ الْوَطْءِ فَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَطُّ.

وَثَانِيهَا " أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ اسْتِفْتَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّزَوُّجِ بِزَانِيَةٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ سَبَبُ النُّزُولِ خَارِجًا مِنْ اللَّفْظِ،؟ " الثَّالِثُ " إنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: الزَّانِي لَا يَطَأُ إلَّا زَانِيَةً، أَوْ الزَّانِيَةُ لَا يَطَؤُهَا إلَّا زَانٍ، كَقَوْلِهِ: الْآكِلُ لَا يَأْكُلُ إلَّا مَأْكُولًا، وَالْمَأْكُولُ لَا يَأْكُلُهُ إلَّا آكِلٌ، وَالزَّوْجُ لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا بِزَوْجَةٍ، وَالزَّوْجَةُ لَا يَتَزَوَّجُهَا إلَّا زَوْجٌ؛ وَهَذَا كَلَامٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ كَلَامُ اللَّهِ. " الرَّابِعُ " أَنَّ الزَّانِيَ قَدْ يَسْتَكْرِهُ امْرَأَةً فَيَطَؤُهَا فَيَكُونُ زَانِيًا وَلَا تَكُونُ زَانِيَةً، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ قَدْ تَزْنِي بِنَائِمٍ وَمُكْرَهٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَلَا يَكُونُ زَانِيًا. " الْخَامِسُ " أَنَّ تَحْرِيمَ الزِّنَا قَدْ عَلِمَهُ الْمُسْلِمُونَ بِآيَاتٍ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَتَحْرِيمُهُ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُنَزَّلَ هَذِهِ الْآيَةُ بِتَحْرِيمِهِ. " السَّادِسُ " قَالَ: {لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] " فَلَوْ أُرِيدَ الْوَطْءُ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ إلَى ذِكْرِ الْمُشْرِكِ فَإِنَّهُ زَانٍ، وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكَةُ إذَا زَنَى بِهَا رَجُلٌ فَهِيَ زَانِيَةٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّقْسِيمِ. " السَّابِعُ " أَنَّهُ قَدْ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى أَنْ يَذْكُرَ تَحْرِيمَ الزِّنَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ ، وَأَمَّا " النَّسْخُ " فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَطَائِفَةٌ: نَسَخَهَا قَوْلُهُ: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] . وَلَمَّا عَلِمَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ دَعْوَى النَّسْخِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَمْ يَجِدُوا مَا يَنْسَخُهَا، فَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهَا أَحَدٌ قَالُوا: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا زَعَمَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَغَيْرُهُ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَنْسَخُ النُّصُوصَ كَمَا يُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ مَضْمُونُهُ أَنَّ الْأَمَةَ يَجُوزُ لَهَا تَبْدِيلُ دِينِهَا بَعْدَ نَبِيِّهَا، وَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ، كَمَا تَقُولُ النَّصَارَى: أُبِيحَ لِعُلَمَائِهِمْ أَنْ يَنْسَخُوا مِنْ شَرِيعَةِ الْمَسِيحِ مَا يَرَوْنَهُ؛ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَقْوَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَمِمَّنْ يَظُنُّ الْإِجْمَاعَ مَنْ يَقُولُ: الْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَى نَصٍّ نَاسِخٍ لَمْ يَبْلُغْنَا؛ وَلَا حَدِيثَ إجْمَاعٍ فِي خِلَافِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَكُلُّ مَنْ عَارَضَ نَصًّا بِإِجْمَاعٍ وَادَّعَى نَسْخَهُ

مِنْ غَيْرِ نَصٍّ يُعَارِضُ ذَلِكَ النَّصَّ فَإِنَّهُ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَبَيَّنَ أَنَّ النُّصُوصَ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ إلَّا بِنَصٍّ بَاقٍ مَحْفُوظٍ عِنْدَ الْأُمَّةِ. وَعِلْمُهَا بِالنَّاسِخِ الَّذِي الْعَمَلُ بِهِ أَهَمُّ عِنْدَهَا مِنْ عِلْمِهَا بِالْمَنْسُوخِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ، وَحِفْظُ اللَّهِ النُّصُوصَ النَّاسِخَةَ أَوْلَى مِنْ حِفْظِهِ الْمَنْسُوخَةَ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] فِي غَايَةِ الضَّعْفِ؛ فَإِنَّ كَوْنَهَا زَانِيَةً وَصْفٌ عَارِضٌ لَهَا، يُوجِبُ تَحْرِيمًا عَارِضًا: مِثْلُ كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً، وَمُعْتَدَّةً، وَمَنْكُوحَةً لِلْغَيْرِ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ إلَى غَايَةٍ، وَلَوْ قَدَّرَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَى التَّأْبِيدِ لَكَانَتْ كَالْوَثَنِيَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلصِّفَاتِ الَّتِي بِهَا تَحْرُمُ الْمَرْأَةُ مُطْلَقًا أَوْ مُؤَقَّتًا؛ وَإِنَّمَا أَمَرَ بِإِنْكَاحِ الْأَيَامَى مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ؛ وَهُوَ أَمْرٌ بِإِنْكَاحِهِنَّ بِالشُّرُوطِ الَّتِي بَيَّنَهَا وَكَمَا أَنَّهَا لَا تُنْكَحُ فِي الْعِدَّةِ وَالْإِحْرَامِ لَا تُنْكَحُ حَتَّى تَتُوبَ. وَقَدْ احْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ: «إنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ. فَقَالَ طَلِّقْهَا. فَقَالَ: إنِّي أُحِبُّهَا. قَالَ: فَاسْتَمْتِعْ بِهَا» . الْحَدِيثَ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، فَلَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ فِي مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا، فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُؤَوِّلُ " اللَّامِسَ " بِطَالِبِ الْمَالِ، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ. لَكِنَّ لَفْظَ " اللَّامِسِ " قَدْ يُرَادُ بِهِ مَنْ مَسَّهَا بِيَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا فَإِنَّ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ يَكُونُ فِيهَا تَبَرُّجٌ، وَإِذَا نَظَرَ إلَيْهَا رَجُلٌ أَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا لَمْ تَنْفِر عَنْهُ، وَلَا تُمَكِّنُهُ مِنْ وَطْئِهَا. وَمِثْلُ هَذَا نِكَاحُهَا مَكْرُوهٌ؛ وَلِهَذَا أَمَرَهُ بِفِرَاقِهَا، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يُحِبُّهَا، فَإِنَّ هَذِهِ لَمْ تَزْنِ، وَلَكِنَّهَا مُذْنِبَةٌ بِبَعْضِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ: لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ؛ فَجَعَلَ اللَّمْسَ بِالْيَدِ فَقَطْ. وَلَفْظُ " اللَّمْسِ، وَالْمُلَامَسَةِ " إذَا عُنِيَ بِهِمَا الْجِمَاعُ لَا يُخَصُّ بِالْيَدِ، بَلْ إذَا قُرِنَ بِالْيَدِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7] .

وَأَيْضًا فَاَلَّتِي تَزْنِي بَعْدَ النِّكَاحِ لَيْسَتْ كَاَلَّتِي تَتَزَوَّجُ وَهِيَ زَانِيَةٌ؛ فَإِنَّ دَوَامَ النِّكَاحِ أَقْوَى مِنْ ابْتِدَائِهِ. وَالْإِحْرَامُ وَالْعِدَّةُ تَمْنَعُ الِابْتِدَاءَ دُونَ الدَّوَامِ فَلَوْ قَدَّرَ أَنَّهُ قَامَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَةَ بَعْدَ الْعَقْدِ لَا يَجِبُ فِرَاقُهَا، لَكَانَ الزِّنَا كَالْعِدَّةِ تَمْنَعُ الِابْتِدَاءَ دُونَ الدَّوَامِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] ؟ قِيلَ: الْمُتَزَوِّجُ بِهَا إنْ كَانَ مُسْلِمًا فَهُوَ زَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا فَهُوَ كَافِرٌ. فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ تَحْرِيمِ هَذَا وَفِعْلِهِ فَهُوَ زَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَهُوَ مُشْرِكٌ، كَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ الْبَغَايَا. يَقُولُ: فَإِنْ تَزَوَّجْتُمْ بِهِنَّ كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ تَحْرِيمِ ذَلِكَ فَأَنْتُمْ مُشْرِكُونَ، وَإِنْ اعْتَقَدْتُمْ التَّحْرِيمَ فَأَنْتُمْ زُنَاةٌ. لِأَنَّ هَذِهِ تُمَكِّنُ مِنْ نَفْسِهَا غَيْرَ الزَّوْجِ مِنْ وَطْئِهَا، فَيَبْقَى الزَّوْجُ يَطَؤُهَا كَمَا يَطَؤُهَا أُولَئِكَ، وَكُلُّ امْرَأَةٍ اشْتَرَكَ فِي وَطْئِهَا رَجُلَانِ فَهِيَ زَانِيَةٌ، فَإِنَّ الْفُرُوجَ لَا تَحْتَمِلُ الِاشْتِرَاكَ، بَلْ لَا تَكُونُ الزَّوْجَةُ إلَّا مُحْصَنَةً. وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْمُتَزَوِّجُ بِالزَّانِيَةِ زَانِيًا كَانَ مَذْمُومًا عِنْدَ النَّاسِ، وَهُوَ مَذْمُومٌ أَعْظَمُ مِمَّا يُذَمُّ الَّذِي يَزْنِي بِنِسَاءِ النَّاسِ، وَلِهَذَا يَقُولُ فِي " الشَّتْمَةِ ": سَبَّهُ بِالزَّايِ وَالْقَافِ. أَيْ قَالَ: يَا زَوْجَ الْقَحْبَةِ، فَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَتَشَاتَمُ بِهِ النَّاسُ، لِمَا قَدْ اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُبْحِ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُبَاحًا؟ ، وَلِهَذَا كَانَ قَذْفُ الْمَرْأَةِ طَعْنًا فِي زَوْجِهَا، فَلَوْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّجُ بِبَغِيٍّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَعْنًا فِي الزَّوْجِ، وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ. فَاَللَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا كَافِرَةً، وَلَمْ يُبَحْ تَزَوُّجُ الْبَغِيِّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ تُفْسِدُ مَقْصُودَ النِّكَاحِ؛ بِخِلَافِ الْكَافِرَةِ، وَلِهَذَا أَبَاحَ اللَّهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُلَاعِنَ مَكَانَ أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إذَا زَنَتْ امْرَأَتُهُ وَأُسْقِطَ عَنْهُ الْحَدُّ بِلِعَانِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ دَيُّوثٌ» . وَاَلَّذِي يَتَزَوَّجُ بِبَغِيٍّ هُوَ دَيُّوثٌ، وَهَذَا مِمَّا فَطَرَ اللَّهُ عَلَى ذَمِّهِ وَعَيْبِهِ بِذَلِكَ جَمِيعَ

عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ وَغَيْرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، كُلُّهُمْ يَذُمُّ مَنْ تَكُونُ امْرَأَتُهُ بَغِيًّا، وَيُشْتَمُ بِذَلِكَ، وَيُعَيَّرُ بِهِ فَكَيْفَ يُنْسَبُ إلَى شَرْعِ الْإِسْلَامِ إبَاحَةُ ذَلِكَ،؟ وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، فَضْلًا عَنْ أَفْضَلِ الشَّرَائِعِ؛ بَلْ يَجِبُ أَنْ تُنَزَّهَ الشَّرِيعَةُ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي إذَا تَصَوَّرَهُ الْمُؤْمِنُ وَلَوَازِمَهُ اسْتَعْظَمَ أَنْ يُضَافَ مِثْلُ هَذَا إلَى الشَّرِيعَةِ، وَرَأَى أَنَّ تَنْزِيهَهَا عَنْهُ أَعْظَمُ مِنْ تَنْزِيهِ عَائِشَةَ عَمَّا قَالَهُ أَهْلُ الْإِفْكِ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا لَمْ يُفَارِقْ عَائِشَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَدِّقْ مَا قِيلَ أَوَّلًا، وَلَمَّا حَصَلَ لَهُ الشَّكُّ اسْتَشَارَ عَلِيًّا، وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَسَأَلَ الْجَارِيَةَ؛ لِيَنْظُرَ إنْ كَانَ حَقًّا فَارَقَهَا، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَهَا مِنْ السَّمَاءِ، فَذَلِكَ الَّذِي ثَبَتَ نِكَاحُهَا. وَلَمْ يَقُلْ مُسْلِمٌ: إنَّهُ يَجُوزُ إمْسَاكُ بَغِيٍّ. وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَقْصِدُونَ بِالْكَلَامِ فِيهَا الطَّعْنَ فِي الرَّسُولِ، وَلَوْ جَازَ التَّزَوُّجُ بِبَغِيٍّ لَقَالَ: هَذَا لَا حَرَجَ عَلَيَّ فِيهِ، كَمَا كَانَ النِّسَاءُ أَحْيَانًا يُؤْذِينَهُ حَتَّى يَهْجُرَهُنَّ، فَلَيْسَ ذُنُوبُ الْمَرْأَةِ طَعْنًا؛ بِخِلَافِ بِغَائِهَا فَإِنَّهُ طَعَنَ فِيهِ عِنْدَ النَّاسِ قَاطِبَةً، لَيْسَ أَحَدٌ يَدْفَعُ الذَّمَّ عَمَّنْ تَزَوَّجَ بِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهَا بَغِيَّةٌ مُقِيمَةٌ عَلَى الْبِغَاءِ، وَلِهَذَا تَوَسَّلَ الْمُنَافِقُونَ إلَى الطَّعْنِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَهَا مِنْ السَّمَاءِ، وَقَدْ كَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي؟ ، وَاَللَّهِ مَا عَلِمْت عَلَى أَهْلِي إلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْت عَلَيْهِ إلَّا خَيْرًا فَقَامَ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ - الَّذِي اهْتَزَّ لِمَوْتِهِ عَرْشُ الرَّحْمَنِ - فَقَالَ: أَنَّا أَعْذُرُك مِنْهُ: إنْ كَانَ مِنْ إخْوَانِنَا مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْت عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ أَمَرْتنَا فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَك، فَأَخَذَتْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ غَيْرَةٌ - قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ امْرَأً صَالِحًا؛ وَلَكِنْ أَخَذَتْهُ حَمِيَّةٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ أُبَيٍّ كَانَ كَبِيرَ قَوْمِهِ - فَقَالَ كَذَبْت لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلْهُ، وَلَا تَقْدِرْ عَلَى قَتْلِهِ. فَقَامَ أُسَيْدَ بْنُ حُضَيْرٍ: فَقَالَ: كَذَبْت، لَعَمْرُ اللَّهِ لَأَقْتُلَنَّهُ؛ فَإِنَّك مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ. وَثَارَ الْحَيَّانِ حَتَّى نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَجَعَلَ يُسَكِّنُهُمْ» . فَلَوْلَا أَنَّ مَا قِيلَ فِي عَائِشَةَ طَعَنَ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَطْلُبْ الْمُؤْمِنُونَ قَتْلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ لِقَذْفِهِ لِامْرَأَتِهِ

وَلِهَذَا كَانَ مَنْ قَذَفَ أُمَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقْتَلُ. لِأَنَّهُ قَدَحَ فِي نَسَبِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَذَفَ نِسَاءَهُ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ قَدَحَ فِي دِينِهِ وَإِنَّمَا لَمْ يَقْتُلْهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بَرَاءَتَهَا، وَأَنَّهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ اللَّاتِي لَمْ يُفَارِقْهُنَّ عَلَيْهِ إذَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَتَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُومَةِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ فِيمَنْ طَلَّقَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ " فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. " أَحَدُهَا ": أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. " وَالثَّانِي ": أَنَّهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. " وَالثَّالِثُ ": يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَيَّرَ نِسَاءَهُ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَالْفِرَاقِ وَكَانَ الْمَقْصُودُ لِمَنْ فَارَقَهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ. فَلَوْ كَانَ هَذَا مُبَاحًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَدْحًا فِي دِينِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى كَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ يُحَرِّمُ مِثْلَ ذَلِكَ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ قَدْ أَبَاحَ مِثْلَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ - الَّذِينَ لَا رَيْبَ فِي عِلْمِهِمْ وَدِينِهِمْ مِنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَعُلُوِّ قَدْرِهِمْ - بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ تَأَوَّلُوهُ اُحْتِيجَ إلَى الْبَسْطِ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ: يَكُونُ الْقَوْلُ ضَعِيفًا جِدًّا، وَقَدْ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَسَادَاتِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ الْعِصْمَةَ عِنْدَ تَنَازُعِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا فِي الرَّدِّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَلَى الْهَوَى. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] ؟ قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ الَّذِي لَمْ يَتُبْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَفِيفَةً، كَمَا هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَطَأُ هَذِهِ وَهَذِهِ وَهَذِهِ كَمَا كَانَ: كَانَ وَطْؤُهُ لِهَذِهِ مِنْ جِنْسِ وَطْئِهِ لِغَيْرِهَا مِنْ الزَّوَانِي، وَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ مِنْ فَاجِرٍ فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَهَا. " وَأَيْضًا " فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَزْنِي بِنِسَاءِ النَّاسِ كَانَ هَذَا مِمَّا يَدْعُو الْمَرْأَةَ إلَى أَنْ تُمَكِّنَ مِنْهَا غَيْرَهُ، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ كَثِيرًا، فَلَمْ أَرَ مَنْ يَزْنِي بِنِسَاءِ النَّاسِ أَوْ ذَكَرَ أَنْ إلَّا فَيَحْمِلُ امْرَأَتَهُ عَلَى أَنْ تَزْنِيَ بِغَيْرِهِ مُقَابَلَةً عَلَى ذَلِكَ وَمُغَايَظَةً.

" وَأَيْضًا " فَإِذَا كَانَ عَادَتُهُ الزِّنَا اسْتَغْنَى بِالْبَغَايَا، فَلَمْ يَكْفِ امْرَأَتُهُ فِي الْإِعْفَافِ، فَتَحْتَاجُ إلَى الزِّنَا. " وَأَيْضًا " فَإِذَا زَنَى بِنِسَاءِ النَّاسِ طَلَبَ النَّاسُ أَنْ يَزْنُوا بِنِسَائِهِ، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ، فَامْرَأَةُ الزَّانِي تَصِيرُ زَانِيَةً مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ اسْتَحَلَّتْ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ كَانَتْ مُشْرِكَةً؛ وَإِنْ لَمْ تَزْنِ بِفَرْجِهَا زَنَتْ بِعَيْنِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا يَكَادُ يُعْرَفُ فِي نِسَاءِ الرِّجَالِ الزُّنَاةِ الْمُصِرِّينَ عَلَى الزِّنَا الَّذِينَ لَمْ يَتُوبُوا مِنْهُ امْرَأَةٌ سَلِيمَةٌ سَلَامَةً تَامَّةً، وَطَبْعُ الْمَرْأَةِ يَدْعُو إلَى الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ إذَا رَأَتْ زَوْجَهَا يَذْهَبُ إلَى النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «بَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ، وَعِفُّوا تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ» . فَقَوْلُهُ: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً} [النور: 3] إمَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ نَفْسَ نِكَاحِهِ وَوَطْئِهِ لَهَا زِنًا، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى زِنَاهَا. وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَنَفْسُ وَطْئِهَا مَعَ إصْرَارِهَا عَلَى الزِّنَا زِنًا. وَكَذَلِكَ { {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} [المائدة: 5] : الْحَرَائِرُ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُنَّ الْعَفَائِفُ. فَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ الْمُحْصَنَاتُ بِالْحَرَائِرِ. وَبِالْعَفَائِفِ وَهَذَا حَقٌّ. فَنَقُولُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] ، {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [المائدة: 5] . " الْمُحْصَنَاتُ " قَدْ قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: هُنَّ الْعَفَائِفُ. هَكَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُنَّ الْحَرَائِرُ. وَلَفْظُ (الْمُحْصَنَاتُ) إنْ أُرِيدَ بِهِ " الْحَرَائِرُ " فَالْعِفَّةُ دَاخِلَةٌ فِي الْإِحْصَانِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ فَإِنَّ أَصْلَ الْمُحْصَنَةِ هِيَ الْعَفِيفَةُ الَّتِي أُحْصِنَ فَرْجُهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم: 12] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 23]

وَهُنَّ الْعَفَائِفُ، قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ. حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ ثُمَّ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنَّ الْحُرَّةَ عِنْدَهُمْ لَا تُعْرَفُ بِالزِّنَا؛ وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِالزِّنَا الْإِمَاءُ وَلِهَذَا «لَمَّا بَايَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِنْدَ امْرَأَةَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى أَنْ لَا تَزْنِيَ قَالَتْ: أَوَتَزْنِي الْحُرَّةُ؟» ، فَهَذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ. وَالْحُرَّةُ خِلَافُ الْأَمَةِ صَارَتْ فِي عُرْفِ الْعَامَّةِ أَنَّ الْحُرَّةَ هِيَ الْعَفِيفَةُ؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ الَّتِي لَيْسَتْ أَمَةً كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ بِالْعِفَّةِ، وَصَارَ لَفْظُ الْإِحْصَانِ يَتَنَاوَلُ الْحُرِّيَّةَ مَعَ الْعِفَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِمَاءَ لَمْ تَكُنْ عَفَائِفَ، وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ هُوَ يَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ زَوْجُهَا يُحْصِنُهَا، لِأَنَّهَا تَسْتَكْفِي بِهِ، وَلِأَنَّهُ يَغَارُ عَلَيْهَا. فَصَارَ لَفْظُ " الْإِحْصَانِ " يَتَنَاوَلُ: الْإِسْلَامَ، وَالْحُرِّيَّةَ، وَالنِّكَاحَ. وَأَصْلُهُ إنَّمَا هُوَ الْعِفَّةُ؛ فَإِنَّ الْعَفِيفَةَ هِيَ الَّتِي أُحْصِنَ فَرْجُهَا مِنْ غَيْرِ صَاحِبِهَا، كَالْمُحْصَنِ الَّذِي يَمْتَنِعُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ نِكَاحَ الْمُحْصَنَاتِ، " وَالْبَغَايَا " لَسْنَ مُحْصَنَاتٍ: فَلَمْ يُبِحْ اللَّهُ نِكَاحَهُنَّ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5] وَالْمُسَافِحُ الزَّانِي الَّذِي يَسْفَحُ مَاءَهُ مَعَ هَذِهِ وَهَذِهِ وَكَذَلِكَ الْمُسَافِحَةُ وَالْمُتَّخِذَةُ الْخِدْنَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ صَدِيقَةٌ يَزْنِي بِهَا دُونَ غَيْرِهِ فَشَرْطٌ فِي الْحِلِّ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ غَيْرَ مُسَافِحٍ، وَلَا مُتَّخِذَ خِدْنٍ. فَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ بَغِيًّا وَتُسَافِحُ هَذَا وَهَذَا لَمْ يَكُنْ زَوْجُهَا مُحْصِنًا لَهَا عَنْ غَيْرِهِ؛ إذْ لَوْ كَانَ مُحْصِنًا لَهَا كَانَتْ مُحْصَنَةً، وَإِذَا كَانَتْ مُسَافِحَةً لَمْ تَكُنْ مُحْصَنَةً. وَاَللَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ النِّكَاحَ إذَا كَانَ الرِّجَالُ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ، وَإِذَا شُرِطَ فِيهِ أَنْ لَا يَزْنِيَ بِغَيْرِهَا - فَلَا يَسْفَحُ مَاءَهُ مَعَ غَيْرِهَا - كَانَ أَبْلَغَ، وَأَبْلَغُ. وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: " السِّفَاحُ " الزِّنَا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ (مُحْصِنِينَ) أَيْ مُتَزَوِّجِينَ (غَيْرَ مُسَافِحِينَ) قَالَ: وَأَصْلُهُ مِنْ سَفَحْت الْقِرْبَةَ إذَا صَبَبْتهَا. فَسَمَّى " الزِّنَا " سِفَاحًا؛ لِأَنَّهُ يَصُبُّ النُّطْفَةَ، وَتَصُبُّ الْمَرْأَةُ النُّطْفَةَ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: " السِّفَاحُ " صَبُّ الْمَاءِ بِلَا عَقْدٍ وَلَا نِكَاحٍ، فَهِيَ الَّتِي تَسْفَحُ مَاءَهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: (مُحْصِنِينَ) أَيْ عَاقِدِينَ التَّزَوُّجَ.

وَقَالَ غَيْرُهُمَا: مُتَعَفِّفِينَ غَيْرَ زَانِينَ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي النِّسَاءِ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] . فَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ اُشْتُرِطَ أَنْ يَكُونَ الرِّجَالُ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ بِكَسْرِ الصَّادِ. {وَالْمُحْصِنُ " هُوَ الَّذِي يُحْصِنُ غَيْرَهُ؛ لَيْسَ هُوَ الْمُحْصَنُ بِالْفَتْحِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِي الْحَدِّ. فَلَمْ يُبَحْ إلَّا تَزَوُّجُ مَنْ يَكُونُ مُحْصِنًا لِلْمَرْأَةِ غَيْرَ مُسَافِحٍ وَمَنْ تَزَوَّجَ بِبَغِيٍّ مَعَ بَقَائِهَا عَلَى الْبِغَاءِ وَلَمْ يُحْصِنْهَا مِنْ غَيْرِهِ - بَلْ هِيَ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ النِّكَاحِ تَبْغِي مَعَ غَيْرِهِ - فَهُوَ مُسَافِحٌ بِهَا لَا مُحْصِنٌ لَهَا. وَهَذَا حَرَامٌ بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ إنَّك تَبْتَغِي بِمَالِك النِّكَاحَ لَا تَبْتَغِي بِهِ السِّفَاحَ فَتُعْطِيهَا الْمَهْرَ عَلَى أَنْ تَكُونَ زَوْجَتَك لَيْسَ لِغَيْرِك فِيهَا حَقٌّ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْطَيْتهَا عَلَى أَنَّهَا مُسَافِحَةٌ لِمَنْ تُرِيدُ، وَإِنَّهَا صَدِيقَةٌ لَك تَزْنِي بِك دُونَ غَيْرِك فَهَذَا حَرَامٌ؟ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ النِّكَاحُ مَقْصُودُهُ أَنَّهَا تَكُونُ لَهُ؛ لَا لِغَيْرِهِ، وَهِيَ لَمْ تَتُبْ مِنْ الزِّنَا: لَمْ تَكُنْ مُوفِيَةً بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ؟ فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّهُ يُحْصِنُهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا، فَيُسْكِنُهَا حَيْثُ لَا يُمْكِنُهَا الزِّنَا؟ قِيلَ: أَمَّا إذَا أَحْصَنَهَا بِالْقَهْرِ فَلَيْسَ هُوَ بِمِثْلِ الَّذِي يُمَكِّنُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الرِّجَالِ، وَدُخُولِ الرِّجَالِ إلَيْهَا؛ لَكِنْ قَدْ عُرِفَ بِالْعَادَاتِ وَالتَّجَارِبِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ لَهَا إرَادَةٌ فِي غَيْرِ الزَّوْجِ احْتَالَتْ إلَى ذَلِكَ بِطُرُقٍ كَثِيرَةٍ وَتُخْفِي عَلَى الزَّوْجِ، وَرُبَّمَا أَفْسَدَتْ عَقْلَ الزَّوْجِ بِمَا تُطْعِمُهُ، وَرُبَّمَا سَحَرَتْهُ أَيْضًا، وَهَذَا كَثِيرٌ مَوْجُودٌ: رِجَالٌ أَطْعَمَهُمْ نِسَاؤُهُمْ، وَسَحَرَتْهُمْ نِسَاؤُهُمْ، حَتَّى يُمْكِنَ الْمَرْأَةَ أَنْ تَفْعَلَ مَا شَاءَتْ؛ وَقَدْ يَكُونُ قَصْدُهَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَذْهَبَ هُوَ إلَى غَيْرِهَا: فَهِيَ تَقْصِدُ مَنْعَهُ مِنْ الْحَلَالِ، أَوْ مِنْ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ. وَقَدْ تَقْصِدُ أَنْ يُمْكِنَهَا أَنْ تَفْعَلَ مَا شَاءَتْ فَلَا يَبْقَى مُحْصِنًا لَهَا قَوَّامًا عَلَيْهَا؛ بَلْ تَبْقَى هِيَ الْحَاكِمَةُ عَلَيْهِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا مَوْجُودًا فِيمَنْ تَزَوَّجَتْ وَلَمْ تَكُنْ بَغِيًّا: فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَتْ بَغِيًّا؟ ، وَالْحِكَايَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ. وَيَا لَيْتَهَا مَعَ التَّوْبَةِ يَلْزَمُ مَعَهُ دَوَامُ التَّوْبَةِ: فَهَذَا إذَا أُبِيحَ لَهُ نِكَاحُهَا، وَقِيلَ لَهُ: أَحْصِنْهَا، وَاحْتَفِظْ أَمْكَنَ ذَلِكَ. أَمَّا بِدُونِ التَّوْبَةِ فَهَذَا مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ.

وَلِهَذَا تَكَلَّمُوا فِي تَوْبَتِهَا فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يُرَاوِدُهَا عَلَى نَفْسِهَا. فَإِنْ أَجَابَتْهُ كَمَا كَانَتْ تُجِيبُهُ لَمْ تَتُبْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا يُرَاوِدُهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ تَابَتْ فَإِذَا رَاوَدَهَا نَقَضَتْ التَّوْبَةُ، وَلِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِ إذَا رَاوَدَهَا أَنْ يَقَعَ فِي ذَنْبٍ مَعَهَا. وَاَلَّذِينَ اشْتَرَطُوا امْتِحَانَهَا قَالُوا: لَا يُعْرَفُ صِدْقُ تَوْبَتِهَا بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] " وَالْمُهَاجِرُ " قَدْ يَتَنَاوَلُ التَّائِبَ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ» فَهَذِهِ إذَا ادَّعَتْ أَنَّهَا هَجَرَتْ السُّوءَ اُمْتُحِنَتْ عَلَى ذَلِكَ، وَبِالْجُمْلَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى قَلْبِهِ صِدْقُ تَوْبَتِهَا. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5] حَرُمَ بِهِ أَنْ يَتَّخِذَ صَدِيقَةً فِي السِّرِّ تَزْنِي مَعَهُ لَا مَعَ غَيْرِهِ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ فِي آيَةِ الْإِمَاءِ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فَذَكَرَ فِي {الْإِمَاءِ} مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ، وَأَمَّا " الْحَرَائِرُ " فَاشْتُرِطَ فِيهِنَّ أَنْ يَكُونَ الرِّجَالُ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ، وَذَكَرَ فِي الْمَائِدَةِ {وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5] لَمَّا ذَكَرَ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِي النِّسَاءِ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا غَيْرَ مُسَافِحِينَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِمَاءَ كُنَّ مَعْرُوفَاتٍ بِالزِّنَا دُونَ الْحَرَائِرِ، فَاشْتُرِطَ فِي نِكَاحِهِنَّ أَنْ يَكُنَّ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ الَّتِي تَبْغِي لَا يَجُوزُ تَزَوُّجُهَا إلَّا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا مُحْصَنَةٌ يُحْصِنُهَا زَوْجُهَا، فَلَا تُسَافِحُ الرِّجَالَ وَلَا تَتَّخِذُ صَدِيقًا. وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْأُمُورِ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْفَاجِرَةِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (مُحْصَنَاتٍ) عَفَائِفَ غَيْرَ زَوَانٍ (وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ) يَعْنِي أَخِلَّاءَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ مَا ظَهَرَ مِنْ الزِّنَا وَيَسْتَحِلُّونَ مَا خَفِيَ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: " الْمُسَافِحَاتُ " الْمُعْلِنَاتُ بِالزِّنَا " وَالْمُتَّخِذَاتُ أَخْدَانٍ " ذَوَاتُ الْخَلِيلِ الْوَاحِدِ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَتَّخِذُ صَدِيقًا تَزْنِي مَعَهُ وَلَا تَزْنِي مَعَ غَيْرِهِ. فَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ الْمُحْصَنَاتِ بِالْعَفَائِفِ، وَهُوَ كَمَا قَالُوا، وَذَكَرُوا أَنَّ الزِّنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ نَوْعَيْنِ: نَوْعًا مُشْتَرَكًا، وَنَوْعًا مُخْتَصًّا. وَالْمُشْتَرَكُ مَا يَظْهَرُ فِي الْعَادَةِ؛ بِخِلَافِ الْمُخْتَصِّ فَإِنَّهُ مُسْتَتِرٌ فِي الْعَادَةِ. وَلَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ الْمُخْتَصَّ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالنِّكَاحِ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ تَخْتَصُّ فِيهِ الْمَرْأَةُ بِالرَّجُلِ: وَجَبَ الْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنْ اتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ إذَا كَانَ يَزْنِي بِهَا وَحْدَهَا لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهَا [لَمْ يَطَأْهَا غَيْرُهُ] وَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي تَلِدُهُ مِنْهُ، وَلَا يُثْبِتُ لَهَا خَصَائِصَ النِّكَاحِ. فَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَضْرِبُ عَلَى " نِكَاحِ السِّرِّ " فَإِنَّ نِكَاحَ السِّرِّ مِنْ جِنْسِ اتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ شَبِيهٌ بِهِ، لَا سِيَّمَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ وَكَتَمَا ذَلِكَ: فَهَذَا مِثْلُ الَّذِي يَتَّخِذُ صَدِيقَةً لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ هَذَا، فَلَا يَشَاءُ مَنْ يَزْنِي بِامْرَأَةٍ صَدِيقَةٍ لَهُ إلَّا قَالَ: تَزَوَّجْتهَا. وَلَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ تَزَوَّجَ فِي السِّرِّ: إنَّهُ يَزْنِي بِهَا إلَّا قَالَ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَرْقٌ مُبَيَّنٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] فَإِذَا ظَهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ قَدْ أَحْصَنَهَا تَمَيَّزَتْ عَنْ الْمُسَافِحَاتِ وَالْمُتَّخِذَاتِ أَخْدَانًا، وَإِذَا كَانَ يُمْكِنُهَا أَنْ تَذْهَبَ إلَى الْأَجَانِبِ لَمْ تَتَمَيَّزْ الْمُحْصَنَاتُ، كَمَا أَنَّهُ إذَا كَتَمَ نِكَاحَهَا فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ لَمْ تَتَمَيَّزْ مِنْ الْمُتَّخِذَاتِ أَخْدَانًا. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ هَذَا عَنْ هَذَا، فَقِيلَ: الْوَاجِبُ الْإِعْلَانُ فَقَطْ سَوَاءٌ أَشَهِدَ أَوْ لَمْ يَشْهَدْ، كَقَوْلِ مَالِكٍ وَكَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ. وَقِيلَ: الْوَاجِبُ الْإِشْهَادُ سَوَاءٌ أَعْلَنَ أَوْ لَمْ يُعْلِنْ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ. وَقِيلَ: يَجِبُ الْأَمْرَانِ وَهُوَ

الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ أَحْمَدَ. وَقِيلَ: يَجِبُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ عَنْ أَحْمَدَ. وَاشْتِرَاطُ " الْإِشْهَادِ " وَحْدَهُ ضَعِيفٌ؛ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ حَدِيثٌ. وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ دَائِمًا لَهُ شُرُوطٌ لَمْ يُبَيِّنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَهَذَا مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، فَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ يَحْتَاجُونَ إلَى مَعْرِفَةِ هَذَا. وَإِذَا كَانَ هَذَا شَرْطًا كَانَ ذِكْرُهُ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ الْمَهْرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذِكْرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا حَدِيثٍ ثَابِتٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[فَتَبَيَّنَ] أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَنَاكِحِهِمْ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ: لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِشْهَادِ عَلَى النِّكَاحِ شَيْءٌ، وَلَوْ أَوْجَبَهُ لَكَانَ الْإِيجَابُ إنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ هَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَجِبُ إظْهَارُهَا وَإِعْلَانُهَا، فَاشْتِرَاطُ الْمَهْرِ أَوْلَى؛ فَإِنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ تَقْدِيرُهُ فِي الْعَقْدِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ ذَلِكَ لَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ: وَلَمْ يُضَيِّعُوا حِفْظَ مَا لَا بُدَّ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً مِنْ مَعْرِفَتِهِ، فَإِنَّ الْهِمَمَ وَالدَّوَاعِيَ تَتَوَافَرُ عَلَى نَقْلِ ذَلِكَ، وَاَلَّذِي يَأْمُرُ بِحِفْظِ ذَلِكَ. وَهُمْ قَدْ حَفِظُوا نَهْيَهُ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ، وَنِكَاحِ الْمُحَرَّمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَقَعُ قَلِيلًا؛ فَكَيْفَ النِّكَاحُ بِلَا إشْهَادٍ إذَا كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَدْ حَرَّمَهُ وَأَبْطَلَهُ كَيْفَ لَا يُحْفَظُ فِي ذَلِكَ نَصٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ ، بَلْ لَوْ نُقِلَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ لَكَانَ مَرْدُودًا عِنْدَ مَنْ يَرَى مِثْلَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى أَعْظَمُ مِنْ الْبَلْوَى بِكَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ نِكَاحٍ لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِإِشْهَادٍ؛ وَقَدْ عَقَدَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ؛ فَعُلِمَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِشْهَادِ دُونَ غَيْرِهِ بَاطِلٌ قَطْعًا؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُشْتَرِطُونَ لِلْإِشْهَادِ مُضْطَرِبِينَ اضْطِرَابًا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْأَصْلِ، فَلَيْسَ لَهُمْ قَوْلٌ يَثْبُتُ عَلَى مِعْيَارِ الشَّرْعِ، إذَا كَانَ

فِيهِمْ مَنْ يُجَوِّزُهُ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ، وَالشَّهَادَةُ الَّتِي لَا تَجِبُ عِنْدَهُمْ قَدْ أَمَرَ اللَّه فِيهَا بِإِشْهَادِ ذَوَيْ الْعَدْلِ، فَكَيْفَ بِالْإِشْهَادِ الْوَاجِبِ؟ ، ثُمَّ مِنْ الْعَجَبِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ " بِالْإِشْهَادِ فِي الرَّجْعَةِ " وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ فِي النِّكَاحِ، ثُمَّ يُؤْمَرُونَ بِهِ فِي النِّكَاحِ وَلَا يُوجِبُهُ أَكْثَرُهُمْ فِي الرَّجْعَةِ، وَاَللَّهُ أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ فِي الرَّجْعَةِ؛ لِئَلَّا يُنْكِرَ الزَّوْجُ وَيَدُومَ مَعَ امْرَأَتِهِ، فَيُفْضِيَ إلَى إقَامَتِهِ مَعَهَا حَرَامًا؛ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْإِشْهَادِ عَلَى طَلَاقٍ لَا رَجْعَةَ مَعَهُ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُسَرِّحُهَا بِإِحْسَانٍ عَقِيبَ الْعِدَّةِ فَيَظْهَرَ الطَّلَاقُ. وَلِهَذَا قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ مِمَّا يَعِيبُ بِهِ أَهْلُ الرَّأْيِ: أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِشْهَادِ فِي الْبَيْعِ دُونَ النِّكَاحِ؛ وَهُمْ أَمَرُوا بِهِ فِي النِّكَاحِ دُونَ الْبَيْعِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَالْإِشْهَادُ فِي الْبَيْعِ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ فِيهِ بِإِشْهَادٍ وَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ أُمِرَ فِيهِ بِالْإِعْلَانِ فَأَغْنَى إعْلَانُهُ مَعَ دَوَامِهِ عَنْ الْإِشْهَادِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ، فَكَانَ هَذَا الْإِظْهَارُ الدَّائِمُ مُغْنِيًا عَنْ الْإِشْهَادِ كَالنَّسَبِ؛ فَإِنَّ النَّسَبَ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُشْهِدَ فِيهِ أَحَدًا عَلَى وِلَادَةِ امْرَأَتِهِ؛ بَلْ هَذَا يَظْهَرُ وَيُعْرَفُ أَنَّ امْرَأَتَهُ وَلَدَتْ هَذَا فَأَغْنَى هَذَا عَنْ الْإِشْهَادِ؛ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَجْحَدُ وَيَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا إذَا كَانَ النِّكَاحُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَظْهَرُ فِيهِ كَانَ إعْلَانُهُ بِالْإِشْهَادِ. فَالْإِشْهَادُ قَدْ يَجِبُ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ بِهِ يُعْلِنُ وَيَظْهَرُ؛ لَا لِأَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ؛ بَلْ إذَا زَوَّجَهُ وَلِيَّتَهُ ثُمَّ خَرَجَا فَتَحَدَّثَا بِذَلِكَ وَسَمِعَ النَّاسُ، أَوْ جَاءَ الشُّهُودُ وَالنَّاسُ بَعْدَ الْعَقْدِ فَأَخْبِرُوهُمْ بِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا: كَانَ هَذَا كَافِيًا. وَهَكَذَا كَانَتْ عَادَةُ السَّلَفِ، لَمْ يَكُونُوا يُكَلَّفُونَ إحْضَارَ شَاهِدَيْنِ، وَلَا كِتَابَةَ صَدَاقٍ. وَمِنْ الْقَائِلِينَ بِالْإِيجَابِ مِنْ اشْتِرَاطِ شَاهِدَيْنِ مَسْتُورَيْنِ، وَهُوَ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ الْأَدَاءِ إلَّا مَنْ تُعْرَفُ عَدَالَتُهُ: فَهَذَا أَيْضًا لَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ. وَقَدْ شَذَّ بَعْضُهُمْ فَأَوْجَبَ مَنْ يَكُونُ مَعْلُومَ الْعَدَالَةِ؛ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ قَطْعًا، فَإِنَّ أَنْكِحَةَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا يَلْتَزِمُونَ فِيهَا هَذَا. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ عَلَى قَوْلِهِ بِاشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ. فَقِيلَ: يُجْزِئُ فَاسِقَانِ: كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: يُجْزِئُ مَسْتُورَانِ، وَهَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ مَذْهَبِهِ، وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: فِي الْمَذْهَبِ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرُوفِ الْعَدَالَةِ. وَقِيلَ: بَلْ إنْ عَقَدَ حَاكِمٌ فَلَا يَعْقِدُهُ إلَّا بِمَعْرُوفِ الْعَدَالَةِ؛ بِخِلَافِ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ الْحُكَّامَ هُمْ

الَّذِينَ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْمَبْرُورِ وَالْمَسْتُورِ. ثُمَّ الْمَعْرُوفُ الْعَدَالَةُ عِنْدَ حَاكِمِ الْبَلَدِ: فَهُوَ خِلَافُ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا: حَيْثُ يَعْقِدُونَ الْأَنْكِحَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَالْحَاكِمُ بَيْنَهُمْ وَالْحَاكِمُ لَا يَعْرِفُهُمْ. وَإِنْ اشْتَرَطُوا مَنْ يَكُونُ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ بِالْخَيْرِ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْعَدْلِ الْمَقْبُولِ الشَّهَادَةِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. ثُمَّ الشُّهُودُ يَمُوتُونَ وَتَتَغَيَّرُ أَحْوَالُهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: مَقْصُودُ الشَّهَادَةِ إثْبَاتُ الْفِرَاشِ عِنْدَ التَّجَاحُدِ، حِفْظًا لِنَسَبِ الْوَلَدِ. فَيُقَالُ: هَذَا حَاصِلٌ بِإِعْلَانِ النِّكَاحِ، وَلَا يَحْصُلُ بِالْإِشْهَادِ مَعَ الْكِتْمَانِ مُطْلَقًا. فَاَلَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّ النِّكَاحَ مَعَ الْإِعْلَانِ يَصِحُّ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ شَاهِدَانِ. وَأَمَّا مَعَ الْكِتْمَانِ وَالْإِشْهَادِ فَهَذَا مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ. وَإِذَا اجْتَمَعَ الْإِشْهَادُ وَالْإِعْلَانُ. فَهَذَا الَّذِي لَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ. وَإِنْ خَلَا عَنْ الْإِشْهَادِ وَالْإِعْلَانِ: فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ. فَإِنْ قُدِّرَ فِيهِ خِلَافٌ فَهُوَ قَلِيلٌ. وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ؛ ثُمَّ يُقَالُ بِمَا يُمَيَّزُ هَذَا عَنْ الْمُتَّخِذَاتِ أَخْدَانًا. وَفِي الْمُشْتَرِطِينَ لِلشَّهَادَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْ لَا يُعَلِّلُ ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ الْفِرَاشِ؛ لَكِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ حُضُورَ اثْنَيْنِ تَعْظِيمًا لِلنِّكَاحِ. وَهَذَا يَعُودُ إلَى مَقْصُودِ الْإِعْلَانِ. وَإِذَا كَانَ النَّاسُ مِمَّنْ يَجْهَلُ بَعْضُهُمْ حَالَ بَعْضٍ، وَلَا يُعْرَفُ مَنْ عِنْدَهُ هَلْ هِيَ امْرَأَتُهُ أَوْ خَدِينُهُ، مِثْلُ الْأَمَاكِنِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا النَّاسُ الْمَجَاهِيلُ: فَهَذَا قَدْ يُقَالُ: يَجِبُ الْإِشْهَادُ هُنَا. وَلَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ يَكْتُبُونَ " صَدَاقَاتٍ " لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَزَوَّجُونَ عَلَى مُؤَخَّرٍ؛ بَلْ يُعَجِّلُونَ الْمَهْرَ، وَإِنْ أَخَّرُوهُ فَهُوَ مَعْرُوفٌ؛ فَلَمَّا صَارَ النَّاسُ يَتَزَوَّجُونَ عَلَى الْمُؤَخَّرِ وَالْمُدَّةُ تَطُولُ وَيُنْسَى: صَارُوا يَكْتُبُونَ الْمُؤَخَّرَ، وَصَارَ ذَلِكَ حُجَّةً فِي إثْبَاتِ الصَّدَاقِ؛ وَفِي أَنَّهَا زَوْجَةٌ لَهُ؛ لَكِنَّ هَذَا الْإِشْهَادَ يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ؛ سَوَاءٌ حَضَرَ الشُّهُودُ الْعَقْدَ أَوْ جَاءُوا بَعْدَ الْعَقْدِ فَشَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْوَلِيِّ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ نِكَاحٌ قَدْ أُعِلْنَ، وَإِشْهَادُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَوَاصٍ بِكِتْمَانِهِ إعْلَانٌ. وَهَذَا بِخِلَافِ " الْوَلِيِّ " فَإِنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَهُوَ عَادَةُ الصَّحَابَةِ، إنَّمَا كَانَ يُزَوِّجُ النِّسَاءَ الرِّجَالُ، لَا يُعْرَفُ أَنَّ امْرَأَةً تُزَوِّجُ نَفْسَهَا. وَهَذَا مِمَّا يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَمُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ وَلِهَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ: لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا؛ فَإِنَّ الْبَغِيَّ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا. لَكِنْ لَا يُكْتَفَى بِالْوَلِيِّ حَتَّى يُعْلِنَ؛ فَإِنَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحْسَنًا عَلَى قَرَابَتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] فَخَاطَبَ الرِّجَالَ بِإِنْكَاحِ الْأَيَامَى، كَمَا خَاطَبَهُمْ بِتَزْوِيجِ الرَّقِيقِ. وَفَرَّقَ بَيْنَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 221] وَقَوْلُهُ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] . وَهَذَا الْفَرْقُ مِمَّا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ. " وَأَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الصَّدَاقَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَمْ يُوجِبْ الْإِشْهَادَ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ مَعَ نَفْيِ الْمَهْرِ، وَلَا يَصِحُّ إلَّا مَعَ الْإِشْهَادِ: فَقَدْ أَسْقَطَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ، وَأَوْجَبَ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ. وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَ الْمَدَنِيِّينَ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ فِي تَحْرِيمِهِمْ " نِكَاحَ الشِّغَارِ " وَأَنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ نَفْيُ الْمَهْرِ، فَحَيْثُ يَكُونُ الْمَهْرُ: فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمَدَنِيِّينَ، وَهُوَ أَنَصُّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَأَصْرَحُهُمَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَاخْتِيَارُ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ. وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ رُجْحَانَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ - كَأَهْلِ الْمَدِينَةِ - عَلَى مَا خَالَفَهَا مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي قِيلَتْ بِرَأْيٍ يُخَالِفُ النُّصُوصَ؛ لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ الَّذِينَ قَالُوا بِرَأْيٍ يُخَالِفُ النُّصُوصَ بَعْدَ اجْتِهَادِهِمْ وَاسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَدْ فَعَلُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ وَاجْتَهَدُوا، وَاَللَّهُ يُثِيبُهُمْ، وَهُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ يُثِيبُهُمْ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ: فَآجَرَهُمْ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ؛ وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ عَلِمُوا مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ أَفْضَلَ مِمَّنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ. وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ أَجْرَانِ، وَأُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] . وَمَنْ تَدَبَّرَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَدَهَا مُفَسِّرَةً لِأَمْرِ النِّكَاحِ، لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يَشْتَرِطُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ؛ كَمَا اشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ: أَلَّا يَكُونَ إلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ. وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ: أَنْ يَكُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ. وَاشْتَرَطَ هَؤُلَاءِ وَطَائِفَةٌ: أَلَّا يَكُونَ إلَّا بِحَضْرَةِ

شَاهِدَيْنِ. ثُمَّ أَنَّهُمْ مَعَ هَذَا صَحَّحُوا النِّكَاحَ مَعَ نَفْيِ الْمَهْرِ. ثُمَّ صَارُوا طَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةٌ تُصَحِّحُ " نِكَاحَ الشِّغَارِ " لِأَنَّهُ لَا مُفْسِدَ لَهُ إلَّا نَفْيُ الْمَهْرِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُفْسِدٍ عِنْدَهُمْ. وَطَائِفَةٌ تُبْطِلُهُ، وَتُعَلِّلُ ذَلِكَ بِعِلَلٍ فَاسِدَةٍ؛ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ. وَصَحَّحُوا " نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ " الَّذِي يَقْصِدُ التَّحْلِيلَ، فَكَانَ قَوْلُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوا لَفْظًا مُعَيَّنًا فِي النِّكَاحِ وَلَا إشْهَادَ شَاهِدَيْنِ مَعَ إعْلَانِهِ وَإِظْهَارِهِ، وَأَبْطَلُوا نِكَاحَ الشِّغَارِ، وَكُلَّ نِكَاحٍ نُفِيَ فِيهِ الْمَهْرُ، وَأَبْطَلُوا نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ أَشْبَهَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ. ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ الْحِجَازِيِّ وَالْعِرَاقِيِّ وَسَّعُوا " بَابَ الطَّلَاقِ " فَأَوْقَعُوا طَلَاقَ السَّكْرَانِ، وَالطَّلَاقَ الْمَحْلُوفَ بِهِ، وَأَوْقَعَ هَؤُلَاءِ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ، وَهَؤُلَاءِ الطَّلَاقَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ فِيمَا حُلِفَ بِهِ، وَجَعَلُوا الْفُرْقَةَ الْبَائِنَةَ طَلَاقًا مَحْسُوبًا مِنْ الثَّلَاثِ، فَجَعَلُوا الْخُلْعَ طَلَاقًا بَائِنًا مَحْسُوبًا مِنْ الثَّلَاثِ. إلَى أُمُورٍ أُخْرَى وَسَّعُوا بِهَا الطَّلَاقَ الَّذِي يُحَرِّمُ الْحَلَالَ، وَضَيَّقُوا النِّكَاحَ الْحَلَالَ. ثُمَّ لَمَّا وَسَّعُوا الطَّلَاقَ صَارَ هَؤُلَاءِ يُوَسِّعُونَ فِي الِاحْتِيَالِ فِي عَوْدِ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا، وَهَؤُلَاءِ لَا سَبِيلَ عِنْدَهُمْ إلَى رَدِّهَا؛ فَكَانَ هَؤُلَاءِ فِي آصَارٍ وَأَغْلَالٍ، وَهَؤُلَاءِ فِي خِدَاعٍ وَاحْتِيَالٍ. وَمَنْ تَأَمَّلَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَآثَارَ الصَّحَابَةِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ أَغْنَى عَنْ هَذَا، وَأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَنِيفَةِ السَّمْحَةِ الَّتِي أَمَرَ فِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنْ الْمُنْكَرِ، وَأَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. 529 - 131 - قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: السُّنَّةُ: تَخْفِيفُ الصَّدَاقِ، وَأَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَنَاتِهِ: فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ أَعْظَمَ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مَئُونَةً» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَيْرُهُنَّ أَيْسَرُهُنَّ صَدَاقًا» وَعَنْ

الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلْزِمُوا النِّسَاءَ الرِّجَالَ، وَلَا تُغَالُوا فِي الْمُهُورِ» . «وَخَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ فَقَالَ: أَلَا لَا تُغَالُوا فِي مُهُورِ النِّسَاءِ؛ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا أَوْ تَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ: كَانَ أَوْلَاكُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ مَا أَصْدَقَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَلَا أُصْدِقَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَصْدُقَ الْمَرْأَةَ صَدَاقًا يَضُرُّ بِهِ إنْ نَقَدَهُ، وَيَعْجِزُ عَنْ وَفَائِهِ إنْ كَانَ دَيْنًا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي تَزَوَّجْت امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ: عَلَى كَمْ تَزَوَّجْتهَا؟ قَالَ: عَلَى أَرْبَعِ أَوْرَاقٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلَى أَرْبَعِ أَوْرَاقٍ فَكَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضَّةَ مِنْ عَرْضِ هَذَا الْجَبَلِ، مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيك؛ وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَك فِي بَعْثٍ تُصِيبُ مِنْهُ قَالَ: فَبَعَثَ بَعْثًا إلَى بَنِي عَبْسٍ فَبَعَثَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فِيهِمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. " وَالْأُوقِيَّةُ " عِنْدَهُمْ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَهِيَ مَجْمُوعُ الصَّدَاقِ، لَيْسَ فِيهِ مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ. وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ: أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ «تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَعِينُهُ فِي صَدَاقِهَا، فَقَالَ: كَمْ أَصَدَقْت؟ قَالَ: فَقُلْت؛ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. فَقَالَ: لَوْ كُنْتُمْ تَغْرِفُونَ الدَّرَاهِمَ مِنْ أَوْدِيَتِكُمْ مَا زِدْتُمْ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَإِذَا أَصْدَقَهَا دَيْنًا كَثِيرًا فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ لَا يُعْطِيَهَا إيَّاهُ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِصَدَاقٍ يَنْوِي أَنْ لَا يُؤَدِّيَهُ إلَيْهَا فَهُوَ زَانٍ، وَمَنْ ادَّانَ دَيْنًا يَنْوِي أَنْ لَا يَقْضِيَهُ فَهُوَ سَارِقٌ» . وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْجَفَاءِ وَالْخُيَلَاءِ وَالرِّيَاءِ مِنْ تَكْثِيرِ الْمَهْرِ لِلرِّيَاءِ وَالْفَخْرِ، وَهُمْ لَا يَقْصِدُونَ أَخْذَهُ مِنْ الزَّوْجِ، وَهُوَ يَنْوِي أَنْ لَا يُعْطِيَهُمْ إيَّاهُ: فَهَذَا مُنْكَرٌ قَبِيحٌ، مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، خَارِجٌ عَنْ الشَّرِيعَةِ. وَإِنْ قَصَدَ الزَّوْجُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ وَهُوَ فِي الْغَالِبِ لَا يُطِيقُهُ فَقَدْ حَمَّلَ نَفْسَهُ، وَشَغَلَ

المستحب في الصداق

ذِمَّتَهُ، وَتَعَرَّضَ لِنَقْصِ حَسَنَاتِهِ، وَارْتِهَانِهِ بِالدَّيْنِ؛ وَأَهْلُ الْمَرْأَةِ قَدْ آذَوْا صِهْرَهُمْ وَضَرُّوهُ. [الْمُسْتَحَبُّ فِي الصَّدَاقِ] وَالْمُسْتَحَبُّ فِي " الصَّدَاقِ " مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْيَسَارِ: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ لَا يَزِيدُ عَلَى مَهْرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا بَنَاتِهِ، وَكَانَ مَا بَيْنَ أَرْبَعِمِائَةٍ إلَى خَمْسِمِائَةٍ. بِالدَّرَاهِمِ الْخَالِصَةِ، نَحْوًا مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا. فَهَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَنَّ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّدَاقِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كَانَ: صَدَاقُنَا إذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرُ أَوَاقٍ، وَطَبَّقَ بِيَدَيْهِ. وَذَلِكَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد فِي سُنَنِهِ. وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: «قُلْت لِعَائِشَةَ: كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَتْ: كَانَ صَدَاقُهُ لِأَزْوَاجِهِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا. قَالَتْ أَتَدْرِي مَا النَّشُّ؟ قُلْت: لَا. قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ: فَذَلِكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ عُمَرَ أَنَّ «صَدَاقَ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ» ، فَمَنْ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى أَنْ يَزِيدَ صَدَاقَ ابْنَتِهِ عَلَى صَدَاقِ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّوَاتِي هُنَّ خَيْرُ خَلْقِ اللَّهِ فِي كُلِّ فَضِيلَةٍ، وَهُنَّ أَفْضَلُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فِي كُلِّ صِفَةٍ: فَهُوَ جَاهِلٌ أَحْمَقُ. وَكَذَلِكَ صَدَاقُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْيَسَارِ. فَأَمَّا الْفَقْرُ وَنَحْوُهُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصْدُقَ الْمَرْأَةَ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَى وَفَائِهِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ. [تَعْجِيلُ الصَّدَاقِ كُلِّهِ لِلْمَرْأَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ] وَالْأَوْلَى تَعْجِيلُ الصَّدَاقِ كُلِّهِ لِلْمَرْأَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا أَمْكَنَ، فَإِنْ قَدَّمَ الْبَعْضَ وَأَخَّرَ الْبَعْضَ: فَهُوَ جَائِزٌ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ الطَّيِّبُ يُرَخِّصُونَ الصَّدَاقَ. فَتَزَوَّجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالُوا: وَزْنُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ. وَزَوَّجَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ بِنْتَه عَلَى دِرْهَمَيْنِ، وَهِيَ مِنْ أَفْضَلِ أَيِّمٍ مِنْ قُرَيْشٍ، بَعْدَ أَنْ خَطَبَهَا الْخَلِيفَةُ لِابْنِهِ فَأَبَى أَنْ يُزَوِّجَهَا بِهِ. وَاَلَّذِي نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ تَكْثِيرِ صَدَاقِ النِّسَاءِ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالَ اتَّسَعَ عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا يَجْعَلُونَ الصَّدَاقَ كُلَّهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَمْ يَكُونُوا يُؤَخِّرُونَ مِنْهُ شَيْئًا. وَمَنْ كَانَ لَهُ يَسَارٌ وَوَجَدَ فَأَحَبَّ أَنْ يُعْطِيَ امْرَأَتَهُ صَدَاقًا كَثِيرًا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]

". أَمَّا مَنْ يَشْغَلُ ذِمَّتَهُ بِصَدَاقٍ لَا يُرِيدُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ، أَوْ يَعْجِزَ عَنْ وَفَائِهِ: فَهَذَا مَكْرُوهٌ. كَمَا تَقَدَّمَ وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَ فِي ذِمَّتِهِ صَدَاقًا كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ وَفَاءٍ لَهُ: فَهَذَا لَيْسَ بِمَسْنُونٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 530 - 132 - سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ، فَشُرِطَ عَلَيْهِ عِنْدَ النِّكَاحِ أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا وَلَا يَنْقُلُهَا مِنْ مَنْزِلِهَا، وَكَانَتْ لَهَا ابْنَةٌ، فَشُرِطَ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ أُمِّهَا وَعِنْدَهُ مَا تَزَالُ. فَدَخَلَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ؟ وَإِذَا أَخْلَفَ هَذَا الشَّرْطَ، فَهَلْ لِلزَّوْجَةِ الْفَسْخُ أَمْ لَا؟ . أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. نَعَمْ تَصِحُّ هَذِهِ الشُّرُوطُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ: كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَشُرَيْحٍ الْقَاضِي، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ. وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي هَذَا الْوَقْتِ صَدَاقَاتُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ الْقَدِيمَةِ لَمَّا كَانُوا عَلَى مَذْهَبِ الْأَوْزَاعِيِّ فِيهَا هَذِهِ الشُّرُوطُ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: إذَا شُرِطَ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ عَلَيْهَا، أَوْ تَسَرَّى أَنْ يَكُونَ أَمْرُهَا بِيَدِهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ صَحَّ هَذَا الشَّرْطُ أَيْضًا، وَمَلَكَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا وَمَلَكَتْ الْفُرْقَةَ بِهِ. وَهُوَ فِي الْمَعْنَى نَحْوُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ، لِمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: " مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ "، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُسْتَحَلُّ بِهِ الْفُرُوجُ مِنْ الشُّرُوطِ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا نَصٌّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الشُّرُوطِ، إذْ لَيْسَ هُنَاكَ شَرْطٌ يُوفَى بِهِ بِالْإِجْمَاعِ غَيْرُ الصَّدَاقِ وَالْكَلَامِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ هِيَ هَذِهِ الشُّرُوطُ. وَأَمَّا شَرْطُ مَقَامِ وَلَدِهَا عِنْدَهَا وَنَفَقَتِهِ عَلَيْهِ، فَهَذَا مِثْلُ الزِّيَادَةِ فِي الصَّدَاقِ،

وَالصَّدَاقُ يَحْتَمِلُ مِنْ الْجَهَالَةِ فِيهِ فِي الْمَنْصُوصِ، عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ: مَا لَا يَحْتَمِلُ فِي الثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ، وَكُلُّ جَهَالَةٍ تَنْقُصُ عَنْ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ تَكُونُ أَحَقَّ بِالْجَوَازِ، لَا سِيَّمَا مِثْلُ هَذَا يَجُوزُ فِي الْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، إنْ اسْتَأْجَرَ الْأَجِيرَ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ، فَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُ النَّفَقَةِ عَلَى وَلَدِهَا يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَمَتَى لَمْ يُوفِ لَهَا بِهَذِهِ الشُّرُوطِ، فَتَزَوَّجَ، أَوْ تَسَرَّى، فَلَهَا فَسْخُ النِّكَاحِ، لَكِنْ فِي تَوَقُّفِ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ نِزَاعٌ، لِكَوْنِهِ خِيَارًا مُجْتَهَدًا فِيهِ، كَخِيَارِ الْعُنَّةِ، وَالْعُيُوبِ إذْ فِيهِ خِلَافٌ. أَوْ يُقَالُ: لَا يَحْتَاجُ إلَى اجْتِهَادٍ فِي ثُبُوتِهِ وَإِنْ وَقَعَ نِزَاعٌ فِي الْفَسْخِ بِهِ كَخِيَارِ الْمُعْتَقَةِ يَثْبُتُ فِي مَوَاضِعِ الْخِلَافِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ بِلَا حُكْمِ حَاكِمٍ: مِثْلُ أَنْ يُفْسَخَ عَلَى التَّرَاخِي. وَأَصْلُ ذَلِكَ إنْ تَوَقَّفَ الْفَسْخُ عَلَى الْحُكْمِ هَلْ هُوَ الِاجْتِهَادُ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ أَيْضًا، أَوْ أَنَّ الْفُرْقَةَ يُحْتَاطُ لَهَا؟ وَالْأَقْوَى أَنَّ الْفَسْخَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ كَالْعُنَّةِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، لَكِنْ إذَا رُفِعَ إلَى حَاكِمٍ يَرَى فِيهِ إمْضَاءَهُ أَمْضَاهُ، وَإِنْ رَأَى إبْطَالَهُ أَبْطَلَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 531 - 133 - سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ امْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ، وَلَهَا عَلَيْهِ صَدَاقٌ، فَلَمَّا حَضَرَتْهَا الْوَفَاةُ أَحْضَرَتْ شَاهِدَ عَدْلٍ وَجَمَاعَةَ نِسْوَةٍ، وَأَشْهَدَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَنَّهَا أَبْرَأَتْهُ مِنْ الصَّدَاقِ، فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْإِبْرَاءُ أَمْ لَا؟ وَعَنْ رَجُلٍ وُصِفَ لَهُ شَحْمُ الْخِنْزِيرِ لِمَرَضٍ بِهِ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَعَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِيَتِيمَةٍ صَغِيرَةٍ وَعَقَدَ عَقْدَهَا شَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ وَلَمْ تُدْرِكْ إلَّا بَعْدَ شَهْرَيْنِ، فَهَلْ هَذَا الْعَقْدُ جَائِزٌ أَمْ لَا؟ . أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إنْ كَانَ الصَّدَاقُ ثَابِتًا عَلَيْهِ إلَى أَنْ مَرِضَتْ مَرَضَ الْمَوْتِ، لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ الْبَاقِينَ، وَأَمَّا إنْ كَانَتْ أَبْرَأَتْهُ فِي الصِّحَّةِ جَازَ ذَلِكَ،

وَثَبَتَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَثَبَتَ أَيْضًا بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ وَيَمِينٍ عِنْدَ مَالِكٍ، وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَإِنْ أَقَرَّتْ فِي مَرَضِهَا أَنَّهَا أَبْرَأَتْهُ فِي الصِّحَّةِ لَمْ يُقْبَلْ هَذَا الْإِقْرَارُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا. وَيُقْبَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَلَيْسَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَخُصَّ الْوَارِثَ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ» . وَأَمَّا التَّدَاوِي: بِأَكْلِ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ، فَلَا يَجُوزُ، وَأَمَّا التَّدَاوِي بِالتَّلَطُّخِ بِهِ، ثُمَّ يَغْسِلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى جَوَازِ مُبَاشَرَةِ النَّجَاسَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ، كَمَا يَجُوزُ اسْتِنْجَاءُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِيَدِهِ. وَمَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ جَازَ التَّدَاوِي بِهِ، كَمَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِلُبْسِ الْحَرِيرِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ كَالْمَطَاعِمِ الْخَبِيثَةِ، فَلَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِشُرْبِ الْخَمْرِ لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِشُحُومِ الْمَيْتَةِ فِي طَلْيِ السُّفُنِ، وَدَهْنِ الْجُلُودِ، وَالِاسْتِصْبَاحِ بِهِ، وَأَقَرَّهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْ ثَمَنِهِ، وَلِهَذَا رَخَّصَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِطَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي الْيَابِسَاتِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي الْمَائِعَاتِ الَّتِي لَا تُنَجِّسُهَا. وَأَمَّا الْيَتِيمَةُ: الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ قَبْلُ، وَوَلِيَ تَزْوِيجَهَا غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالسُّلْطَانِ الَّذِي هُوَ حَاكِمٌ وَنُوَّابُ الْحَاكِمِ فِي الْعُقُودِ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ النِّكَاحُ بِلَا إذْنِهَا، وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تُزَوَّجُ بِإِذْنِهَا، وَلَا خِيَارَ لَهَا إذَا بَلَغَتْ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ، فَهَذِهِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ يَجُوزُ نِكَاحُهَا فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، وَلَوْ زَوَّجَهَا حَاكِمٌ يَرَى ذَلِكَ، فَهَلْ يَكُونُ تَزْوِيجُهُ حُكْمًا لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ، أَوْ يَفْتَقِرُ إلَى حُكْمٍ مِنْ غَيْرِهِ يُصَحِّحُ ذَلِكَ، عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ، لَكِنَّ الْحَاكِمَ الْمُزَوِّجَ هُنَا شَافِعِيٌّ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَلَّدَ قَوْلَ مَنْ يُصَحِّحُ هَذَا النِّكَاحَ وَرَاعَى سَائِرَ شُرُوطِهِ، وَكَانَ مِمَّنْ لَهُ ذَلِكَ جَازَ - وَإِنْ كَانَ أَقْدَمَ عَلَى

بنت الزنا هل تزوج بأبيها

ذَلِكَ وَهُوَ] يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ كَانَ فِعْلُهُ غَيْرَ جَائِزٍ - وَإِنْ كَانَ قَدْ ظَنَّهَا بَالِغًا فَزَوَّجَهَا فَبَانَتْ غَيْرَ بَالِغٍ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ قَدْ زَوَّجَهَا، فَلَا يَكُونُ النِّكَاحُ صَحِيحًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بِنْت الزِّنَا هَلْ تُزَوَّجُ بِأَبِيهَا] 532 - 134 - سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ بِنْتِ الزِّنَا: هَلْ تُزَوَّجُ بِأَبِيهَا؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّزْوِيجُ بِهَا، وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ؛ حَتَّى تَنَازَعَ الْجُمْهُورُ: هَلْ يُقْتَلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يُقْتَلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ يُقَالُ: هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَأَوِّلًا. وَأَمَّا " الْمُتَأَوِّلُ " فَلَا يُقْتَلُ؛ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا. وَقَدْ يُقَالُ: هَذَا مُطْلَقًا، كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ: إنَّهُ يُجْلَدُ مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ مُتَأَوِّلًا؛ وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَفْسُقُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَفَسَّقَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْمُتَأَوِّلَ الْمَعْذُورَ لَا يُفَسَّقُ؛ بَلْ وَلَا يَأْثَمُ. وَأَحْمَدُ لَمْ يَبْلُغْهُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا؛ فَإِنَّ الْخِلَافَ فِيهَا إنَّمَا ظَهَرَ فِي زَمَنِهِ، لَمْ يَظْهَرْ فِي زَمَنِ السَّلَفِ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَعْرِفْهُ. وَاَلَّذِينَ سَوَّغُوا " نِكَاحَ الْبِنْتِ مِنْ الزِّنَا " حُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنْ قَالُوا: لَيْسَتْ هَذِهِ بِنْتًا فِي الشَّرْعِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ؛ وَلَا يَجِبُ نَفَقَتُهَا؛ وَلَا يَلِي نِكَاحَهَا، وَلَا تُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ النَّسَبِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ بِنْتًا فِي الشَّرْعِ لَمْ تَدْخُلْ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ، فَتَبْقَى دَاخِلَةً فِي قَوْلِهِ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] . وَأَمَّا حُجَّةُ الْجُمْهُورِ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] الْآيَةَ هُوَ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ مَنْ شَمِلَهُ هَذَا اللَّفْظُ، سَوَاءٌ كَانَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا؛

وَسَوَاءٌ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ التَّوَارُثُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ؛ أَمْ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا التَّحْرِيمُ خَاصَّةً، لَيْسَ الْعُمُومُ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ كَالْعُمُومِ فِي آيَةِ الْفَرَائِضِ وَنَحْوِهَا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: " أَحَدُهَا " أَنَّ آيَةَ التَّحْرِيمِ تَتَنَاوَلُ الْبِنْتَ وَبِنْتَ الِابْنِ وَبِنْتَ الْبِنْتِ؛ كَمَا يَتَنَاوَلُ لَفْظَ " الْعَمَّةِ " عَمَّةِ الْأَبِ؛ وَالْأُمِّ، وَالْجَدِّ. وَكَذَلِكَ بِنْتُ الْأُخْتِ، وَبِنْتُ ابْنِ الْأُخْتِ. وَبِنْتُ بِنْتِ الْأُخْتِ. وَمِثْلُ هَذَا الْعُمُومِ لَا يَثْبُتُ، لَا فِي آيَةِ الْفَرَائِضِ، وَلَا نَحْوِهَا مِنْ الْآيَاتِ، وَالنُّصُوصِ الَّتِي عَلَّقَ فِيهَا الْأَحْكَامَ بِالْأَنْسَابِ. " الثَّانِي " إنَّ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الرَّضَاعَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ» وَفِي لَفْظٍ «مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» وَهَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَعَمِلَ الْأَئِمَّةُ بِهِ: فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِطِفْلٍ غَذَّتْهُ مِنْ لَبَنِهَا، أَوْ أَنْ تَنْكِحَ أَوْلَادَهُ، وَحَرَّمَ عَلَى أُمَّهَاتِهَا وَعَمَّاتِهَا وَخَالَتِهَا؛ بَلْ حَرَّمَ عَلَى الطِّفْلَةِ الْمُرْتَضِعَةِ مِنْ امْرَأَةٍ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالْفَحْلِ صَاحِبِ اللَّبَنِ، وَهُوَ الَّذِي وَطِئَ الْمَرْأَةَ حَتَّى دَرَّ اللَّبَنُ بِوَطْئِهِ. فَإِذَا كَانَ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَنْكِحَ بِنْتَه مِنْ الرَّضَاعِ، وَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهَا شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ النَّسَبِ - سِوَى التَّحْرِيمِ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ الْحُرْمَةِ - فَكَيْفَ يُبَاحُ لَهُ نِكَاحُ بِنْتٍ خُلِقَتْ مِنْ مَائِهِ؟ ، وَأَيْنَ الْمَخْلُوقَةُ مِنْ مَائِهِ مِنْ الْمُتَغَذِّيَةِ بِلَبَنٍ دُرَّ بِوَطْئِهِ؟ ، فَهَذَا يُبَيِّنُ التَّحْرِيمَ مِنْ جِهَةِ عُمُومِ الْخِطَابِ، وَمِنْ جِهَةِ التَّنْبِيهِ وَالْفَحْوَى، وَقِيَاسِ الْأَوْلَى. " الثَّالِثُ " إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] قَالَ الْعُلَمَاءُ: احْتِرَازٌ عَنْ ابْنِهِ الَّذِي تَبَنَّاهُ، كَمَا قَالَ: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37]

استلحاق ولد الزنا إذا لم يكن فراشا

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَسْتَلْحِقُونَ وَلَدَ الزِّنَا أَعْظَمَ مِمَّا يَسْتَلْحِقُونَ وَلَدَ الْمُتَبَنِّي، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] عُلِمَ أَنَّ لَفْظَ " الْبَنَاتِ " وَنَحْوِهَا يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ فِي لُغَتِهِمْ دَاخِلًا فِي الِاسْمِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهَا الْمِيرَاثُ، وَنَحْوُهُ. فَجَوَابُهُ أَنَّ النَّسَبَ تَتَبَعَّضُ أَحْكَامُهُ، فَقَدْ ثَبَتَ بَعْضُ أَحْكَامِ النَّسَبِ دُونَ بَعْضٍ، كَمَا وَافَقَ أَكْثَرُ الْمُنَازَعِينَ فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَلَاعِنِ وَلَا يَرِثُهُ. [اسْتِلْحَاق وَلَدِ الزِّنَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِرَاشًا] وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِلْحَاقِ وَلَدِ الزِّنَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِرَاشًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَلْحَقَ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَكَانَ قَدْ أَحْبَلَهَا عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَاخْتَصَمَ فِيهِ سَعْدٌ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: ابْنُ أَخِي. عَهِدَ إلَيَّ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ هَذَا ابْنِي. فَقَالَ عَبْدٌ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي؛ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ؛ احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ» لَمَّا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ الْبَيِّنِ بِعُتْبَةَ، فَجَعَلَهُ أَخَاهَا فِي الْمِيرَاثِ دُونَ الْحُرْمَةِ. [وَلَد الزِّنَا هَلْ يُعْتَقُ بِالْمِلْكِ] وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي وَلَدِ الزِّنَا: هَلْ يُعْتَقُ بِالْمِلْكِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا بَسْطٌ لَا تَسَعُهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الضَّعِيفَةِ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكِيَهَا عَنْ إمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لَا عَلَى وَجْهِ الْقَدْحِ فِيهِ، وَلَا عَلَى وَجْهِ الْمُتَابَعَةِ لَهُ فِيهَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ ضَرْبًا مِنْ الطَّعْنِ فِي الْأَئِمَّةِ وَاتِّبَاعِ الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ، وَبِمِثْلِ ذَلِكَ صَارَ وَزِيرُ التَّتَرِ يُلْقِي الْفِتْنَةَ بَيْنَ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إلَى الْخُرُوجِ عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَيُوقِعَهُمْ فِي مَذَاهِبِ الرَّافِضَةِ وَأَهْلِ الْإِلْحَادِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَنْ زَنَى بِأُخْتِهِ] 533 - 135 - وَسُئِلَ عَمَّنْ زَنَى بِأُخْتِهِ، مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟

أَجَابَ: أَمَّا مَنْ زَنَى بِأُخْتِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَجَبَ قَتْلُهُ وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، قَالَ: «مَرَّ بِي خَالِي أَبُو بُرْدَةَ وَمَعَهُ رَايَةٌ، فَقُلْت لَهُ: أَيْنَ تَذْهَبُ يَا خَالِي؟ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَأُخَمِّسَ مَالَهُ» ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 534 - 136 - سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ أَقْوَامٍ يُعَاشِرُونَ " الْمُرْدَانَ " وَقَدْ يَقَعُ مِنْ أَحَدِهِمْ قُبْلَةٌ وَمُضَاجَعَةٌ لِلصَّبِيِّ وَيَدْعُونَ أَنَّهُ يُصْحَبُونَ لِلَّهِ؛ وَلَا يَعُدُّونَ ذَلِكَ ذَنْبًا وَلَا عَارًا؛ وَيَقُولُونَ: نَحْنُ نَصْحَبُهُمْ بِغَيْرِ خَنَا؛ وَيَعْلَمُ أَبُو الصَّبِيِّ بِذَلِكَ وَعَمُّهُ وَأَخُوهُ فَلَا يُنْكِرُونَ: فَمَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَؤُلَاءِ؟ وَمَاذَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أَنْ يُعَامِلَهُمْ بِهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؟ . أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. الصَّبِيُّ الْأَمْرَدُ الْمَلِيحُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْبِيلُهُ عَلَى وَجْهِ اللَّذَّةِ؛ بَلْ لَا يُقَبِّلُهُ إلَّا مَنْ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ: كَالْأَبِ؛ وَالْإِخْوَةِ. وَلَا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِاتِّفَاقٍ لِلنَّاسِ؛ بَلْ يَحْرُمُ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ النَّظَرُ إلَيْهِ عِنْدَ خَوْفِ ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَيْهِ لِحَاجَةٍ بِلَا رِيبَةٍ مِثْلُ مُعَامَلَتِهِ؛ وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا يُنْظَرُ إلَى الْمَرْأَةِ لِلْحَاجَةِ. وَأَمَّا " مُضَاجَعَتُهُ ": فَهَذَا أَفْحَشُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ؛ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ؛ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» إذَا بَلَغُوا عَشْرَ سِنِينَ وَلَمْ يَحْتَلِمُوا بَعْدُ، فَكَيْفَ بِمَا هُوَ فَوْقَ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ: «لَا يَخْلُو رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلَّا كَانَ ثَالِثُهُمَا الشَّيْطَانَ» وَقَالَ: «إيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْت الْحَمْوَ قَالَ الْحَمْوُ الْمَوْتُ» فَإِذَا كَانَتْ الْخَلْوَةُ مُحَرَّمَةً لِمَا يُخَافُ مِنْهَا فَكَيْفَ بِالْمُضَاجَعَةِ؟ ،

وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِلَّهِ. فَهَذَا أَكْثَرُهُ كَذِبٌ، وَقَدْ يَكُونُ لِلَّهِ مَعَ هَوَى النَّفْسِ، كَمَا يَدَّعِي مَنْ يَدَّعِي مِثْلَ ذَلِكَ فِي صُحْبَةِ النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ؛ فَيَبْقَى كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْخَمْرِ: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] وَقَدْ رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ فِيهِمْ غُلَامٌ ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ أَجْلَسَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ؛ وَقَالَ: إنَّمَا كَانَتْ خَطِيئَةُ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - النَّظَرَ» . هَذَا وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُزَوَّجٌ بِتِسْعِ نِسْوَةٍ؛ وَالْوَفْدُ قَوْمٌ صَالِحُونَ، وَلَمْ تَكُنْ الْفَاحِشَةُ مَعْرُوفَةً فِي الْعَرَبِ؟ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْمَشَايِخِ مِنْ التَّحْذِيرِ عَنْ صُحْبَةِ " الْأَحْدَاثِ " مَا يَطُولُ وَصْفُهُ. وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يُفْضِي إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الْمُحَرَّمَةِ، وَإِنْ ضَمَّ إلَى ذَلِكَ مَصْلَحَةً مِنْ تَعْلِيمٍ أَوْ تَأْدِيبٍ؛ فَإِنَّ " الْمُرْدَانَ " يُمْكِنُ تَعْلِيمُهُمْ وَتَأْدِيبُهُمْ بِدُونِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي فِيهَا مَضَرَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى مَنْ يَصْحَبُهُمْ، وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ: بِسُوءِ الظَّنِّ تَارَةً، وَبِالشُّبْهَةِ أُخْرَى؛ بَلْ رُوِيَ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَجْلِسُ إلَيْهِ الْمُرْدَانُ، فَنَهَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ مُجَالَسَتِهِ. وَلَقِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ شَابًّا فَقَطَعَ شَعْرَهُ، لِمَيْلِ بَعْضِ النِّسَاءِ إلَيْهِ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ إخْرَاجِهِ مِنْ وَطَنِهِ؛ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ. وَمَنْ أَقَرَّ صَبِيًّا يَتَوَلَّاهُ: مِثْلُ ابْنِهِ، وَأَخَاهُ، أَوْ مَمْلُوكِهِ، أَوْ يَتِيمٍ عِنْدَ مَنْ يُعَاشِرُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: فَهُوَ دَيُّوثٌ مَلْعُونٌ، «وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ دَيُّوثٌ» فَإِنَّ الْفَاحِشَةَ الْبَاطِنَةَ مَا يَقُومُ عَلَيْهَا بَيِّنَةٌ فِي الْعَادَةِ؛ وَإِنَّمَا تَقُومُ عَلَى الظَّاهِرَةِ، وَهَذِهِ الْعِشْرَةُ الْقَبِيحَةُ مِنْ الظَّاهِرَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] . فَلَوْ ذَكَرْنَا مَا حَصَلَ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ الضَّرَرِ وَالْمَفَاسِدِ، وَمَا ذَكَرُوهُ الْعُلَمَاءُ: لَطَالَ. سَوَاءٌ كَانَ الرَّجُلُ تَقِيًّا أَوْ فَاجِرًا؛ فَإِنَّ التَّقِيَّ يُعَالِجُ مَرَارَةً فِي مُجَاهَدَةِ هَوَاهُ وَخِلَافِ نَفْسِهِ؛ وَكَثِيرًا مَا يَغْلِبُهُ شَيْطَانُهُ وَنَفْسُهُ؛ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَحْمِلُ حِمْلًا لَا يُطِيقُهُ فَيُعَذِّبُهُ أَوْ يَقْتُلُهُ؛ وَالْفَاجِرُ يَكْمُلُ فُجُورُهُ بِذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

تزوج امرأة من سنين ثم طلقها ثلاثا وكان ولي نكاحها فاسقا

[تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ سِنِينَ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَكَانَ وَلِيُّ نِكَاحِهَا فَاسِقًا] سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ سِنِينَ، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَكَانَ وَلِيُّ نِكَاحِهَا فَاسِقًا، فَهَلْ يَصِحُّ عَقْدُ الْفَاسِقِ، بِحَيْثُ إذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ نِكَاحِ غَيْرِهِ، أَوْ لَا يَصِحُّ عَقْدُهُ؟ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، وَوَلِيٍّ مُرْشِدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْكِحَهَا غَيْرُهُ؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إنْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْوَلِيِّ هَلْ كَانَ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا، لِيَجْعَلَ فِسْقَ الْوَلِيِّ ذَرِيعَةً إلَى عَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ يُصَحِّحُونَ وِلَايَةَ الْفَاسِقِ، وَأَكْثَرُهُمْ يُوقِعُونَ الطَّلَاقَ فِي مِثْلِ هَذَا النِّكَاحِ، بَلْ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ. وَإِذَا فَرَّعَ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ فَاسِدٌ، وَأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فِيهِ، فَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِلَّ الْحَلَالَ مَنْ يُحَرِّمُ الْحَرَامَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ الشَّيْءَ حَلَالًا حَرَامًا، وَهَذَا الزَّوْجُ كَانَ يَسْتَحِلُّ وَطْأَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَلَوْ مَاتَتْ لَوَرِثَهَا، فَهُوَ عَامِلٌ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ، فَكَيْفَ يَعْمَلُ بَعْدَ الطَّلَاقِ عَلَى فَسَادِهِ؟ فَيَكُونُ النِّكَاحُ صَحِيحًا إذَا كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي صِحَّتِهِ، فَاسِدًا إذَا كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي فَسَادِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ يُخَالِفُ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ حِلَّ الشَّيْءِ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ ذَلِكَ سَوَاءٌ وَافَقَ غَرَضَهُ أَوْ خَالَفَهُ، وَمَنْ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ ذَلِكَ فِي الْحَالَيْنِ. وَهَؤُلَاءِ الْمُطَلِّقُونَ لَا يُفَكِّرُونَ فِي فَسَادِ النِّكَاحِ بِفِسْقِ الْوَلِيِّ إلَّا عِنْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، لَا عِنْدَ الِاسْتِمْتَاعِ وَالتَّوَارُثِ، يَكُونُونَ فِي وَقْتٍ يُقَلِّدُونَ مَنْ يُفْسِدُهُ، وَفِي وَقْتٍ يُقَلِّدُونَ مَنْ يُصَحِّحُهُ؛ بِحَسَبِ الْغَرَضِ وَالْهَوَى، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ هَذَا حَلَفَ يَمِينًا بِالطَّلَاقِ، فَلْيَذْكُرْ يَمِينَهُ لِيُفْتِيَ بِمَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ، قَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ حَنِثَ وَوَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَفِي الْحِنْثِ مَسَائِلُ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَالْأَخْذُ بِقَوْلٍ سَائِغٍ فِي ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ الدُّخُولِ فِيمَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ. وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَعْتَقِدَ الرَّجُلُ ثُبُوتَ شُفْعَةِ الْجِوَارِ إذَا كَانَ طَالِبًا لَهَا، وَعَدَمَ ثُبُوتِهَا إذَا كَانَ مُشْتَرِيًا، فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ. وَكَذَا مَنْ بَنَى

نكاح الشغار

عَلَى صِحَّةِ وِلَايَةِ الْفَاسِقِ فِي حَالِ نِكَاحِهِ وَبَنَى عَلَى فَسَادِ وِلَايَتِهِ فِي حَالِ طَلَاقِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَوْ قَالَ الْمُسْتَفْتِي الْمُعَيَّنُ: أَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ ذَلِكَ. وَأَنَا مِنْ الْيَوْمِ أَلْتَزِمُ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَفْتَحُ بَابَ التَّلَاعُبِ بِالدِّينِ، وَفَتْحِ الذَّرِيعَةِ. إلَى أَنْ يَكُونَ التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ بِحَسَبِ الْأَهْوَاءِ. [نِكَاح الشِّغَارِ] وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَهُ أُخْتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ أُخْتَهُ، وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ شَرْطِ عَدَمِ الْمَهْرِ فَصُحِّحَ النِّكَاحُ، وَأَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ. وَآخَرُونَ قَالُوا: إنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْبُضْعِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ يَصِيرُ بُضْعُهَا مَمْلُوكًا لِزَوْجِهَا، وَلِلزَّوْجَةِ الْأُخْرَى الَّتِي أَصْدَقَتْهُ لِأَنَّ الصَّدَاقَ مِلْكُ الزَّوْجَةِ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إنْ سَمَّوْا مَهْرًا صَحَّ النِّكَاحُ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ قَالَ وَبُضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرٌ لِلْأُخْرَى فَسَدَ وَإِلَّا لَمْ يَفْسُدْ. وَالصَّوَابُ أَنَّ نِكَاحَ الشِّغَارِ فَاسِدٌ، كَمَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ مِنْ صُوَرِهِ مَا إذَا سَمَّوْا مَهْرًا وَغَيْرَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَشْرُوطًا فِي نِكَاحِ الْأُخْرَى. وَإِنْ كَانَتْ هِيَ لَمْ تَمْلِكْهُ وَإِنَّمَا مَلَكَهُ وَلِيُّهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْمَهْرِ لِوَلِيِّهَا وَهُوَ إنَّمَا أَخَذَ بُضْعًا. وَفِي ذَلِكَ مَفَاسِدُ. أَحَدُهَا: اشْتِرَاطُ عَدَمِ الْمَهْرِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ عَدَمِ تَسْمِيَتِهِ، وَبَيْنَ اشْتِرَاطِ نَفْيِهِ. فَالْأَوَّلُ: لَا يَفْسُدُ بِالِاتِّفَاقِ. وَالثَّانِي: يَفْسُدُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَالثَّانِي: إنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي مُحَابَاةً لِلْخَاطِبِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْظُرُ فِي مَصْلَحَةِ وَلِيَّتِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ الْمَشْرُوطُ لِغَيْرِ الْمَرْأَةِ، بَلْ لِزَوْجِهَا. فَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمَرْأَةَ زُوِّجَتْ لِأَجْلِ غَيْرِهَا، وَصَارَ بُضْعُهَا مَبْذُولًا لِأَجْلِ مَقْصُودِ غَيْرِهَا، وَالْأَبُ لَهُ حَقٌّ فِي مَالِ وَلَدِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» . وَلَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي بُضْعِهَا لِأَنَّهُ لَا يَتَمَتَّعُ بِهِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

المرأة إذا وقع بها الطلاق الثلاث

[الْمَرْأَة إذَا وَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ] سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَيْضًا عَمَّنْ يَقُولُ: إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا وَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ تُبَاحُ بِدُونِ نِكَاحٍ ثَانٍ لِلَّذِي طَلَّقَهَا ثَلَاثًا: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ وَمَنْ اسْتَحَلَّهَا بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِدُونِ نِكَاحٍ ثَانٍ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ وَمَا صِفَةُ النِّكَاحِ الثَّانِي الَّذِي يُبِيحُهَا لِلْأَوَّلِ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ مُثَابِينَ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ. فَأَجَابَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. إذَا وَقَعَ بِالْمَرْأَةِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: إنَّهَا تُبَاحُ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِدُونِ زَوْجٍ ثَانٍ، وَمَنْ نَقَلَ هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَقَدْ كَذَبَ. وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ أَوْ اسْتَحَلَّ وَطْأَهَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِدُونِ نِكَاحِ زَوْجٍ ثَانٍ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا يُعْذَرُ بِجَهْلِهِ - مِثْلُ أَنْ يَكُونَ نَشَأَ بِمَكَانِ قَوْمٍ لَا يَعْرِفُونَ فِيهِ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، أَوْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ يُعَرَّفُ دِينَ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا تُبَاحُ بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِدُونِ نِكَاحٍ ثَانٍ أَوْ عَلَى اسْتِحْلَالِ هَذَا الْفِعْلِ: فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، كَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ وُجُوبَ الْوَاجِبَاتِ، وَتَحْرِيمَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَحِلَّ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي عُلِمَ أَنَّهَا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَثَبَتَ ذَلِكَ بِنَقْلِ الْأُمَّةِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ نَبِيِّهَا عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ. وَظَهَرَ ذَلِكَ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، كَمَنْ يَجْحَدُ وُجُوبَ " مَبَانِي الْإِسْلَامِ " مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، أَوْ جَحَدَ " تَحْرِيمَ الظُّلْمِ، وَأَنْوَاعِهِ " كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ، أَوْ تَحْرِيمَ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ تَحْرِيمِ " نِكَاحِ الْأَقَارِبِ " سِوَى بَنَاتِ الْعُمُومَةِ وَالْخُؤُولَةِ، وَتَحْرِيمَ " الْمُحَرَّمَاتِ بِالْمُصَاهَرَةِ " وَهُنَّ أُمَّهَاتُ النِّسَاءِ وَبَنَاتُهُنَّ وَحَلَائِلُ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، أَوْ حِلَّ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ، وَالنِّكَاحِ وَاللِّبَاسِ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عُلِمَتْ إبَاحَتُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ: فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مِمَّا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ، لَا سُنِّيُّهُمْ وَلَا بِدْعِيُّهُمْ. وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ " مَسَائِلِ الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ؛ كَتَنَازُعِ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ بَعْدَهُمْ فِي " الْحَرَامِ " هَلْ هُوَ طَلَاقٌ، أَوْ يَمِينٌ،

أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؟ وَكَتَنَازُعِهِمْ فِي " الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ " كَالْخَلِيَّةِ، وَالْبَرِيَّةِ، وَالْبَتَّةِ: هَلْ يَقَعُ بِهَا وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، أَوْ بَائِنٌ، أَوْ ثَلَاثٌ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ؟ وَكَتَنَازُعِهِمْ فِي " الْمُولِي ": هَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إذَا لَمْ يَفِ فِيهَا؟ أَمْ يُوقَفُ بَعْدَ انْقِضَائِهَا حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ؟ وَكَتَنَازُعِ الْعُلَمَاءِ فِي طَلَاقِ السَّكْرَانِ، وَالْمُكْرَهِ، وَفِي الطَّلَاقِ بِالْخَطِّ، وَطَلَاقِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَطَلَاقِ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ. وَطَلَاقِ الْحَكَمِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجِ بِدُونِ تَوْكِيلِهِ. كَمَا تَنَازَعُوا فِي بَذْلِ أَجْرِ الْعِوَضِ بِدُونِ تَوْكِيلِهَا. وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَعْرِفُهَا الْعُلَمَاءُ. وَتَنَازَعُوا أَيْضًا فِي مَسَائِلِ " تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ " وَمَسَائِلِ " الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ، وَالْحَرَامِ، وَالنَّذْرِ " كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ الصَّدَقَةُ بِأَلْفٍ. وَتَنَازَعُوا أَيْضًا فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ " الْأَيْمَانِ " مُطْلَقًا فِي مُوجِبِ الْيَمِينِ. وَهَذَا كَتَنَازُعِهِمْ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ: هَلْ يَقَعُ أَوْ لَا يَقَعُ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ؟ أَوْ بَيْنَ مَا يَكُونُ فِيهِ مَقْصُودٌ شَرْعِيٌّ وَبَيْنَ أَنْ يَقَعَ فِي نَوْعِ مِلْكٍ أَوْ غَيْرِ مِلْكٍ؟ وَتَنَازَعُوا فِي الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ بَعْدَ النِّكَاحِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. فَقِيلَ: يَقَعُ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: لَا يَقَعُ وَقِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الشَّرْطِ الَّذِي يُقْصَدُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ كَوْنِهِ، وَبَيْنَ الشَّرْطِ الَّذِي يُقْصَدُ عَدَمُهُ. وَعَدَمُ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ. " فَالْأَوَّلُ " كَقَوْلِهِ: إنْ أَعْطَيْتنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. " وَالثَّانِي " كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ، وَنِسَائِي طَوَالِقُ، وَعَلَيَّ الْحَجُّ. وَأَمَّا النَّذْرُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، أَوْ سَلَّمَ مَالِي الْغَائِبَ فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ، أَوْ الصَّدَقَةُ بِمِائَةٍ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ. وَتَنَازَعُوا فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ؛ بَلْ مَقْصُودُهُ عَدَمُ الشَّرْطِ، وَهُوَ حَالِفٌ بِالنَّذْرِ، كَمَا إذَا قَالَ: لَا أُسَافِرُ، وَإِنْ سَافَرْت فَعَلَيَّ الصَّوْمُ، أَوْ الْحَجُّ، أَوْ الصَّدَقَةُ، أَوْ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَالصَّحَابَةُ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ آخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ: كَابْنِ وَهْبٍ، وَابْنِ أَبِي الْغُمْرِ، وَغَيْرِهِمَا. وَهَلْ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ، أَمْ يُجْزِيهِ الْوَفَاءُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَقِيلَ: عَلَيْهِ الْوَفَاءُ، كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحَكَاهُ بَعْضُ

الْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ؛ وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِهِ. وَقِيلَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِحَالٍ، كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد، وَابْنِ حَزْمٍ. وَهَكَذَا تَنَازَعُوا عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِيمَنْ حَلَفَ بِالْعَتَاقِ أَوْ الطَّلَاقِ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ، أَوْ امْرَأَتِي طَالِقٌ. هَلْ يَقَعُ ذَلِكَ إذَا حَنِثَ، أَوْ يُجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، أَوْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ؛ بَلْ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَكُنْ قُرْبَةٌ؛ وَلَكِنْ هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. " أَحَدُهُمَا " يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْخَطَّابِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الَّذِي وَصَلَ إلَيْنَا فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ. وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، " وَالثَّانِي " لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. فَصْلٌ وَأَمَّا إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْته فَعَلَيَّ إذًا عِتْقُ عَبْدِي. فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْعِتْقُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ؛ لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِتْقُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، وَقَوْلُ دَاوُد، وَابْنِ حَزْمٍ. وَقِيلَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ التَّكْفِيرِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا. وَقِيلَ: يَجِبُ التَّكْفِيرُ عَيْنًا؛ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ فِيمَا بَلَغَنَا بَعْدَ كَثْرَةِ الْبَحْثِ، وَتَتَبُّعِ كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ؛ بَلْ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ إمَّا ضَعِيفٌ؛ بَلْ كَذِبٌ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ عَلَى عَهْدِهِمْ؛ وَلَكِنْ نُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ أَنْ يُجْزِيَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ هَؤُلَاءِ نَقِيضُ هَذَا الْقَوْلِ. وَأَنَّهُ يُعْتَقُ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى أَسَانِيدِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمَنْ قَالَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: إنَّهُ لَا يَقَعُ الْعِتْقُ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ مِنْ التَّابِعِينَ. وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ ظَنَّ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا نِزَاعَ فِيهِ فَاضْطَرَّهُ ذَلِكَ إلَى أَنْ عَكَسَ مُوجَبَ الدَّلِيلِ فَقَالَ: يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ دُونَ الْعَتَاقِ، وَقَدْ بَسَطَ

الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَبَيَّنَ مَا فِيهَا مِنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَحُجَّةَ كُلِّ قَوْمٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ الظِّهَارِ أَوْ الْحَرَامِ أَوْ النَّذْرِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَهُ نَاسِيًا لِيَمِينِهِ، أَوْ جَاهِلًا بِأَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ: فَهَلْ يَحْنَثُ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ؟ أَوْ لَا يَحْنَثُ بِحَالٍ، كَقَوْلِ الْمَكِّيِّينَ، وَالْقَوْلِ الْآخَرِ لِلشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ أَحْمَدَ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِمَا، كَالرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَالْخِرَقِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَالْقَفَّالِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ امْرَأَتَهُ بَانَتْ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا لَمْ تَبِنْ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ. وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ؟ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ كَمَا ذُكِرَ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَشُكُّ فِيهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ صِدْقُهُ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ. عِنْدَ مَالِكٍ يَقَعُ، وَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لَا يَقَعُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ التَّوَقُّفُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَيُخَرَّجُ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَمَا إذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ الْيَوْمَ كَذَا وَمَضَى الْيَوْمُ، أَوْ شَكَّ فِي فِعْلِهِ هَلْ يَحْنَثُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي الْيَمِينِ إلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ إذَا احْتَمَلَهَا لَفْظُهُ، وَلَمْ يُخَالِفْ الظَّاهِرَ، أَوْ خَالَفَهُ وَكَانَ مَظْلُومًا. وَتَنَازَعُوا هَلْ يُرْجَعُ إلَى سَبَبِ الْيَمِينِ وَسِيَاقِهَا وَمَا هَيَّجَهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمَذْهَبُ الْمَدَنِيِّينَ كَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يُرْجَعُ إلَى ذَلِكَ، وَالْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُرْجَعُ: لَكِنْ فِي مَسَائِلِهِمَا مَا يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ أَعَمَّ مِنْ الْيَمِينِ عُمِلَ بِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى السَّبَبَ. وَإِنْ كَانَ خَاصًّا: فَهَلْ يَقْصُرُ الْيَمِينَ عَلَيْهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ يَعْتَقِدُهُ عَلَى صِفَةٍ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهَا؟ فَفِيهِ أَيْضًا قَوْلَانِ. وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بِصِفَةٍ؛ ثُمَّ تَبَيَّنَ بِخِلَافِهَا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَنْت طَالِقٌ أَنْ دَخَلْت الدَّارَ - بِالْفَتْحِ - أَيْ لِأَجْلِ دُخُولِك الدَّارَ؛ وَلَمْ تَكُنْ دَخَلَتْ. فَهَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: أَنْت طَالِقٌ لِأَنَّك فَعَلْت كَذَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَمْ تَكُنْ فَعَلَتْهُ؟ وَلَوْ قِيلَ لَهُ: امْرَأَتُك فَعَلَتْ كَذَا؛ فَقَالَ: هِيَ طَالِقٌ. ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَيْهَا؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ وَتَنَازَعُوا فِي الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ: كَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ؛ وَكَجَمْعِ الثَّلَاثِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ

الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ حَرَامٌ؛ وَلَكِنَّ الْأَرْبَعَةَ وَجُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: كَوْنُهُ حَرَامًا لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ، كَمَا أَنَّ الظِّهَارَ مُحَرَّمٌ وَإِذَا ظَاهَرَ ثَبَتَ حُكْمُ الظِّهَارِ؛ وَكَذَلِكَ " النَّذْرُ " قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ " وَمَعَ هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا: لَا يَقَعُ، اعْتَقَدُوا أَنَّ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَقَعُ فَاسِدًا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَالْجُمْهُورُ فَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ يَعُمُّهُ لَا يُنَاسِبُ فِعْلَ الْمُحَرَّمِ: كَحِلِّ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَإِجْزَاءِ الْعِبَادَاتِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً تُنَاسِبُ فِعْلَ الْمُحَرَّمِ كَالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ؛ فَإِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْ شَيْءٍ إذَا فَعَلَهُ قَدْ تَلْزَمُهُ بِفِعْلِهِ كَفَّارَةٌ أَوْ حَدٌّ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ: فَكَذَلِكَ قَدْ يُنْهَى عَنْ فِعْلِ شَيْءٍ فَإِذَا فَعَلَهُ لَزِمَهُ بِهِ وَاجِبَاتٌ وَمُحَرَّمَاتٌ؛ وَلَكِنْ لَا يُنْهَى عَنْ شَيْءٍ إذَا فَعَلَهُ أُحِلَّتْ لَهُ بِسَبَبِ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ الطَّيِّبَاتُ؛ فَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ " بَابِ الْإِكْرَامِ وَالْإِحْسَانِ " وَالْمُحَرَّمَاتُ لَا تَكُونُ سَبَبًا مَحْضًا لِلْإِكْرَامِ وَالْإِحْسَانِ؛ بَلْ هِيَ سَبَبٌ لِلْعُقُوبَاتِ إذَا لَمْ يَتَّقُوا اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] إلَى قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَتَوَقُّفِهِمْ عَنْ امْتِثَالِ أَمْرِهِ كَانَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْإِيجَابِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] وَحَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» «وَلَمَّا سَأَلُوهُ عَنْ الْحَجِّ: أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ: لَا. وَلَوْ قُلْت: نَعَمْ لَوَجَبَ؛ وَلَوْ وَجَبَ لَمْ تُطِيقُوهُ؛ ذَرُونِي مَا تَرَكْتُمْ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ؛ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ. وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .

وَمِنْ هُنَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: إنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ حُرِّمَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ عُقُوبَةً لِلرَّجُلِ حَتَّى لَا يُطَلِّقَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الطَّلَاقَ؛ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَالسَّحَرَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السِّحْرِ: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَنْصِبُ عَرْشَهُ عَلَى الْبَحْرِ؛ وَيَبْعَثُ جُنُودَهُ فَأَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً؛ فَيَأْتِي أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا زِلْتُ بِهِ حَتَّى شَرِبَ الْخَمْرَ. فَيَقُولُ السَّاعَةَ يَتُوبُ. وَيَأْتِي الْآخَرُ فَيَقُولُ: مَا زِلْتُ بِهِ حَتَّى فَرَّقْت بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ. فَيُقَبِّلُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. وَيَقُولُ: أَنْتَ، أَنْتَ» . وَقَدْ رَوَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ: أَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يُطَلِّقُونَ بِغَيْرِ عَدَدٍ: يُطَلِّقُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ، ثُمَّ يَدَعُهَا حَتَّى إذَا شَارَفَتْ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ضِرَارًا، فَقَصَرَهُمْ اللَّهُ عَلَى الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ أَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَآخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ. وَلَوْلَا أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى الطَّلَاقِ لَكَانَ الدَّلِيلُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ وَالْأُصُولُ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَهُ رَحْمَةً مِنْهُ بِعِبَادِهِ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ أَحْيَانًا. وَحَرَّمَهُ فِي مَوَاضِعَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. كَمَا إذَا طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ وَلَمْ تَكُنْ سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ؛ فَإِنَّ هَذَا الطَّلَاقَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَفْضَلِ الشَّرَائِعِ وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ، كَمَا قَالَ: «أَحَبُّ الدِّينِ إلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ» فَأَبَاحَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْوَطْءَ بِالنِّكَاحِ. وَالْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَا يَطَئُونَ إلَّا بِالنِّكَاحِ؛ لَا يَطَئُونَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. " وَأَصْلُ ابْتِدَاءِ الرِّقِّ " إنَّمَا يَقَعُ مِنْ السَّبْيِ. وَالْغَنَائِمُ لَمْ تَحِلَّ إلَّا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «فُضِّلْنَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِخَمْسٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلَنَا، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ» فَأَبَاحَ سُبْحَانَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَنْكِحُوا وَأَنْ يُطَلِّقُوا، وَأَنْ يَتَزَوَّجُوا

الْمَرْأَةَ الْمُطَلَّقَةَ بَعْدَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ زَوْجِهَا. " وَالنَّصَارَى " يُحَرِّمُونَ النِّكَاحَ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَمَنْ أَبَاحُوا لَهُ النِّكَاحَ لَمْ يُبِيحُوا لَهُ الطَّلَاقَ. " وَالْيَهُودُ " يُبِيحُونَ الطَّلَاقَ؛ لَكِنْ إذَا تَزَوَّجَتْ الْمُطَلَّقَةُ بِغَيْرِ زَوْجِهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ. وَالنَّصَارَى لَا طَلَاقَ عِنْدَهُمْ. وَالْيَهُودُ لَا مُرَاجَعَةَ بَعْدَ أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ عِنْدَهُمْ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ هَذَا وَهَذَا. وَلَوْ أُبِيحَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ عَدَدٍ - كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ - لَكَانَ النَّاسُ يُطَلِّقُونَ دَائِمًا: إذَا لَمْ يَكُنْ أَمْرٌ يَزْجُرُهُمْ عَنْ الطَّلَاقِ؛ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ وَالْفَسَادِ مَا أَوْجَبَ حُرْمَةَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ فَسَادُ الطَّلَاقِ لِمُجَرَّدِ حَقِّ الْمَرْأَةِ فَقَطْ: كَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ حَتَّى يُبَاحَ دَائِمًا بِسُؤَالِهَا؛ بَلْ نَفْسُ الطَّلَاقِ إذَا لَمْ تَدْعُ إلَيْهِ حَاجَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ: إمَّا نَهْيُ تَحْرِيمٍ، أَوْ نَهْيُ تَنْزِيهٍ، وَمَا كَانَ مُبَاحًا لِلْحَاجَةِ قُدِّرَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ. وَالثَّلَاثُ هِيَ مِقْدَارُ مَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» وَكَمَا قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ؛ إلَّا عَلَى زَوْجٍ فَإِنَّهَا تَحُدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» وَكَمَا رُخِّصَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحِ. وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ لَا يَرَى وُقُوعَ الطَّلَاقِ إلَّا مِنْ الْقَصْدِ؛ وَلَا يَرَى وُقُوعَ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ؛ كَمَا لَا يَكْفُرُ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ مُكْرَهًا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ؛ وَلَوْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ مُسْتَهْزِئًا بِآيَاتِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ كَفَرَ؛ كَذَلِكَ مَنْ تَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ هَازِلًا وَقَعَ بِهِ. وَلَوْ حَلَفَ بِالْكُفْرِ فَقَالَ: إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ بَرِيءٌ

مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ أَوْ فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ. لَمْ يَكْفُرْ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا حُكْمًا مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ فِي اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْحَلِفُ بِهِ بُغْضًا لَهُ وَنُفُورًا عَنْهُ؛ لَا إرَادَةً لَهُ؛ بِخِلَافِ مَنْ قَالَ: إنْ أَعْطَيْتُمُونِي أَلْفًا كَفَرْتُ فَإِنَّ هَذَا يَكْفُرُ. وَهَكَذَا يَقُولُ مَنْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَتَعْلِيقِهِ بِشَرْطٍ لَا يُقْصَدُ كَوْنُهُ، وَبَيْنَ الطَّلَاقِ الْمَقْصُودِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ. وَلِهَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ لِلنِّكَاحِ؛ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ افْتَدَتْ نَفْسَهَا مِنْ الزَّوْجِ كَافْتِدَاءِ الْأَسِيرِ؛ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الطَّلَاقِ الْمَكْرُوهِ فِي الْأَصْلِ، وَلِهَذَا يُبَاحُ فِي الْحَيْضِ؛ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ. وَأَمَّا إذَا عَدَلَ هُوَ عَنْ الْخُلْعِ وَطَلَّقَهَا إحْدَى الثَّلَاثِ بِعِوَضٍ فَالتَّفْرِيطُ مِنْهُ. وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: كَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَغَيْرِهِ؛ وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا. وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ جَعَلُوهُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ فَسْخًا. كَالْإِقَالَةِ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ كَمَا هُوَ مَعَ الْمَرْأَةِ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ افْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ كَمَا يُفْدَى الْأَسِيرُ فَقَدْ يَفْتَدِي الْأَسِيرُ بِمَالٍ مِنْهُ وَمَالٍ مِنْ غَيْرِهِ؛ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يَعْتِقُ بِمَالٍ يَبْذُلُهُ هُوَ وَمَا يَبْذُلُهُ الْأَجْنَبِيُّ، وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ يَصِحُّ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَمَعَ أَجْنَبِيٍّ فَإِنَّ هَذَا جَمِيعَهُ مِنْ بَابِ الْإِسْقَاطِ وَالْإِزَالَةِ. وَإِذْ كَانَ الْخُلْعُ رَفْعًا لِلنِّكَاحِ؛ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ: فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَبْذُولُ مِنْ الْمَرْأَةِ، أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ. وَتَشْبِيهُ فَسْخِ النِّكَاحِ بِفَسْخِ الْبَيْعِ: فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَزُولُ إلَّا بِرِضَى الْمُتَبَايِعَيْنِ؛ لَا يَسْتَقِلُّ أَحَدُهُمَا بِإِزَالَتِهِ؛ بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ إلَيْهَا إزَالَتُهُ؛ بَلْ الزَّوْجُ يَسْتَقِلُّ بِذَلِكَ؛ لَكِنْ افْتِدَاؤُهَا نَفْسَهَا مِنْهُ كَافْتِدَاءِ الْأَجْنَبِيِّ لَهَا. وَمَسَائِلُ الطَّلَاقِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْإِجْمَاعِ وَالنِّزَاعِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضُوعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا إذَا وَقَعَ بِهِ الثَّلَاثُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَلَا يُبَاحُ إلَّا بِنِكَاحِ ثَانٍ، وَبِوَطْئِهِ لَهَا عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ الْمَأْمُورَ بِهِ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالْعَقْدِ وَبِالْوَطْءِ، بِخِلَافِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يُنْهَى فِيهِ عَنْ كُلٍّ مِنْ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ؛ وَلِهَذَا كَانَ النِّكَاحُ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالْوَطْءِ مِنْ الْعَقْدِ " وَالنِّكَاحُ الْمُحَرَّمُ " يَحْرُمُ فِيهِ مُجَرَّدُ الْعَقْدِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

قَالَ لِامْرَأَةِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ. لَمَّا أَرَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ إلَى رِفَاعَةَ بِدُونِ الْوَطْءِ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» وَلَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ إلَّا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، فَإِنَّهُ - مَعَ أَنَّهُ أَعْلَمُ التَّابِعِينَ - لَمْ تَبْلُغْهُ السُّنَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. " وَالنِّكَاحُ الْمُبِيحُ " هُوَ النِّكَاحُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ النِّكَاحُ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ: «حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك» فَأَمَّا " نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ " فَإِنَّهُ لَا يُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَمُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا. وَكَذَلِكَ قَالَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ: إنَّهُ لَا يُبِيحُهَا إلَّا بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ؛ لَا نِكَاحِ مُحَلِّلٍ. وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي نِكَاحِ التَّحْلِيلِ. وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي " نِكَاحِ الْمُتْعَةِ " فَإِنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ خَيْرٌ مِنْ نِكَاحِ التَّحْلِيلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. " أَحَدُهَا " أَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ؛ بِخِلَافِ التَّحْلِيلِ. " الثَّانِي " أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَطَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ؛ بِخِلَافِ التَّحْلِيلِ فَإِنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ. " الثَّالِثُ " أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَهُ رَغْبَةٌ فِي الْمَرْأَةِ وَلِلْمَرْأَةِ رَغْبَةٌ فِيهِ إلَى أَجَلٍ؛ بِخِلَافِ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ لَهَا رَغْبَةٌ فِيهِ بِحَالٍ، وَهُوَ لَيْسَ لَهُ رَغْبَةٌ فِيهَا؛ بَلْ فِي أَخْذِ مَا يُعْطَاهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ رَغْبَةٌ فَهِيَ مِنْ رَغْبَتِهِ فِي الْوَطْءِ؛ لَا فِي اتِّخَاذِهَا زَوْجَةً، مِنْ جِنْسِ رَغْبَةِ الزَّانِي؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ، وَإِنْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً. إذْ اللَّهُ عَلِمَ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُحِلَّهَا لَهُ. وَلِهَذَا تُعْدَمُ فِيهِ خَصَائِصُ النِّكَاحِ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ الْمَعْرُوفَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] وَالتَّحْلِيلُ فِيهِ الْبِغْضَةُ وَالنُّفْرَةُ؛ وَلِهَذَا لَا يُظْهِرُهُ

أَصْحَابُهُ؛ بَلْ يَكْتُمُونَهُ كَمَا يُكْتَمُ السِّفَاحُ. وَمِنْ شَعَائِرِ النِّكَاحِ إعْلَانُهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ» . وَلِهَذَا يَكْفِي فِي إعْلَانِهِ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَطَائِفَةٌ أُخْرَى تُوجِبُ الْإِشْهَادَ وَالْإِعْلَانَ؛ فَإِذَا تَوَاصَوْا بِكِتْمَانِهِ بَطَلَ. وَمِنْ ذَلِكَ الْوَلِيمَةُ عَلَيْهِ، وَالنِّثَارُ، وَالطِّيبُ، وَالشَّرَابُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَاتُ النَّاسِ فِي النِّكَاحِ. وَأَمَّا " التَّحْلِيلُ " فَإِنَّهُ لَا يُفْعَلُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّ أَهْلَهُ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَكُونَ الْمُحَلِّلُ زَوْجَ الْمَرْأَةِ، وَلَا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ امْرَأَتَهُ؛ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ اسْتِعَارَتُهُ لِيَنْزُوَ عَلَيْهَا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ تَسْمِيَتُهُ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؛ وَلِهَذَا شُبِّهَ بِحِمَارِ الْعُشْرِيِّينَ الَّذِي يُكْتَرَى لِلتَّقْفِيزِ عَلَى الْإِنَاثِ؛ وَلِهَذَا لَا تَبْقَى الْمَرْأَةُ مَعَ زَوْجِهَا بَعْدَ التَّحْلِيلِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَهُ؛ بَلْ يَحْصُلُ بَيْنَهُمَا نَوْعٌ مِنْ النُّفْرَةِ. وَلِهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي التَّحْلِيلِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ يَأْمُرُ بِهِ الشَّارِعُ: صَارَ الشَّيْطَانُ يُشَبِّهُ بِهِ أَشْيَاءَ مُخَالِفَةً لِلْإِجْمَاعِ، فَصَارَ طَائِفَةٌ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ يَظُنُّونَ أَنَّ وِلَادَتَهَا لِذَكَرٍ يُحِلُّهَا، أَوْ إنْ وَطِئَهَا بِالرِّجْلِ عَلَى قَدَمِهَا أَوْ رَأْسِهَا أَوْ فَوْقَ سَقْفٍ أَوْ سُلَّمٍ هِيَ تَحْتَهُ يُحِلُّهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُمَا إذَا الْتَقَيَا بِعَرَفَاتٍ، كَمَا الْتَقَى آدَم وَامْرَأَتُهُ أَحَلَّهَا ذَلِكَ. وَمِنْهُنَّ مَنْ إذَا تَزَوَّجَتْ بِالْمُحَلَّلِ بِهِ لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ نَفْسِهَا؛ بَلْ تُمَكِّنُهُ مِنْ أَمَةٍ لَهَا. وَمِنْهُنَّ مَنْ تُعْطِيهِ شَيْئًا، وَتُوصِيهِ بِأَنْ يُقِرَّ بِوَطْئِهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَلِّلُ الْأُمَّ وَبِنْتَهَا. إلَى أُمُورٍ أُخَرَ قَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، بَيَّنَّاهَا فِي " كِتَابِ بَيَانِ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ ". وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَنْسُوخَ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَمَا تَنَازَعَ فِيهِ السَّلَفُ خَيْرٌ مِنْ مِثْلِ هَذَا، فَإِنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ تَأْتِي بِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا عَدَدَ لَهُ لَكَانَ هَذَا مُمْكِنًا وَإِنْ كَانَ هَذَا مَنْسُوخًا. وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَسْتَكْرِيَ مَنْ يَطَؤُهَا فَهَذَا لَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ. وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّحْلِيلِ يَفْعَلُونَ أَشْيَاءَ مُحَرَّمَةً بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الْمُعْتَدَّةَ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِ زَوْجِهَا أَنْ يُصَرِّحَ بِخُطْبَتِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ عِدَّةِ طَلَاقٍ أَوْ عِدَّةِ وَفَاةٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]

فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمُوَاعَدَةِ سِرًّا، وَعَنْ عَزْمَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ، حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي عِدَّةِ الْمَوْتِ فَهُوَ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ أَشَدُّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَدْ تَرْجِعُ إلَى زَوْجِهَا؛ بِخِلَافِ مَنْ مَاتَ عَنْهَا. وَأَمَّا " التَّعْرِيضُ " فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا، وَلَا يَجُوزُ فِي عِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ وَفِيمَا سِوَاهُمَا. فَهَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُوَاعِدَهَا سِرًّا، وَلَا يَعْزِمُ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ ثَانٍ وَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَحِلَّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُوَاعِدَهَا سِرًّا، وَلَا يَعْزِمَ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَذَلِكَ أَشَدُّ وَأَشَدُّ وَإِذَا كَانَتْ مَعَ زَوْجِهَا لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْطُبَهَا، لَا تَصْرِيحًا، وَلَا تَعْرِيضًا؛ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِذَا كَانَتْ لَمْ تَتَزَوَّجْ بَعْدُ لَمْ يَحِلَّ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا أَنْ يَخْطِبَهَا؛ لَا تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا. بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَخِطْبَتُهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ أَعْظَمُ مِنْ خِطْبَتِهَا بَعْدَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالثَّانِي. وَهَؤُلَاءِ " أَهْلُ التَّحْلِيلِ " قَدْ يُوَاعِدُ أَحَدُهُمْ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا، وَيَعْزِمَانِ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَقَبْلَ نِكَاحِ الثَّانِي عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ بَعْدَ النِّكَاحِ الثَّانِي نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ، وَيُعْطِيهَا مَا تُنْفِقُهُ عَلَى شُهُودِ عَقْدِ التَّحْلِيلِ، وَلِلْمُحَلِّلِ، وَمَا يُنْفِقُهُ عَلَيْهَا فِي عِدَّةِ التَّحْلِيلِ، وَالزَّوْجُ الْمُحَلِّلُ لَا يُعْطِيهَا مَهْرًا، وَلَا نَفَقَةَ عِدَّةٍ، وَلَا نَفَقَةَ طَلَاقٍ، فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي هَذِهِ وَقْتَ نِكَاحِهَا بِالثَّانِي أَنْ يَخْطِبَهَا الْأَوَّلُ - لَا تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا - فَكَيْفَ إذَا خَطَبَهَا قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالثَّانِي؟ أَوْ إذَا كَانَ بَعْدَ أَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّانِي لَا يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُوَاعِدَهَا سِرًّا، وَلَا يَعْزِمَ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ: فَكَيْفَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُطَلِّقَ؟ ، بَلْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ، بَلْ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ، فَهَذَا كُلُّهُ يَحْرُمُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّحْلِيلِ يَفْعَلُهُ، وَلَيْسَ فِي التَّحْلِيلِ صُورَةٌ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى حِلِّهَا وَلَا صُورَةٌ أَبَاحَهَا النَّصُّ؛ بَلْ مِنْ صُوَرِ التَّحْلِيلِ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَمِنْهَا مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ. وَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» مِنْهُمْ؛ وَهَذَا وَغَيْرُهُ يُبَيِّنُ أَنَّ مِنْ التَّحْلِيلِ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْكِحَةِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا السَّلَفُ؛ وَبِكُلِّ حَالٍ فَالصَّحَابَةُ أَفْضَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَبَعْدَهُمْ التَّابِعُونَ، كَمَا ثَبَتَ فِي

حلف بالطلاق أنه ما يتزوج فلانة ثم بدا له أن ينكحها

الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» فَنِكَاحٌ تَنَازَعَ السَّلَفُ فِي جَوَازِهِ أَقْرَبُ مِنْ نِكَاحٍ أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَإِذَا تَنَازَعَ فِيهِ الْخَلَفُ فَإِنَّ أُولَئِكَ أَعْظَمُ عِلْمًا وَدِينًا؛ وَمَا أَجْمَعُوا عَلَى تَعْظِيمِ تَحْرِيمِهِ كَانَ أَمْرُهُ أَحَقَّ مِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَإِنْ اشْتَبَهَ تَحْرِيمُهُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ مَا يَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا] 537 - 139 - سُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ مَا يَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ وَفِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَشَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَ، فَهَلْ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ نُوَّر اللَّهُ مَرْقَدَهُ وَضَرِيحَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَلَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ إذَا تَزَوَّجَهَا عِنْدَ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا. وَإِذَا شَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا، وَإِنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا كَانَ أَمْرُهَا بِيَدِهَا كَانَ هَذَا الشَّرْطُ صَحِيحًا لَازِمًا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، وَمَتَى تَزَوَّجَ عَلَيْهَا فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا إنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الطلاق

[كِتَابُ الطَّلَاقِ] [مَسْأَلَةٌ مُسِنَّة كَانَتْ تَحِيض فَشَرِبَتْ دَوَاءً فَانْقَطَعَ دَمُهَا] ِ 538 - 1 مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ مُسِنَّةٍ لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ الْإِيَاسِ، وَكَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ، فَشَرِبَتْ دَوَاءً فَانْقَطَعَ دَمُهَا وَاسْتَمَرَّ انْقِطَاعُهُ نَحْوَ خَمْسِ سِنِينَ، ثُمَّ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَهِيَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، فَهَلْ تَكُونُ عِدَّتُهَا مِنْ حِينِ الطَّلَاقِ بِالشُّهُورِ، أَوْ تَتَرَبَّصُ حَتَّى تَبْلُغَ سِنَّ الْآيِسَاتِ؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ الدَّمَ لَا يَأْتِي فِيمَا بَعْدُ بِحَالٍ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ الدَّمُ وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَعُودَ، فَإِنَّهَا تَتَرَبَّصُ سَنَةً، ثُمَّ تَتَزَوَّجُ، كَمَا قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمَرْأَةِ يَرْتَفِعُ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ، تَتَرَبَّصُ سَنَةً، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، كَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا تَنْتَظِرُ حَتَّى تَدْخُلَ فِي سِنِّ الْآيِسَاتِ فَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ جِدًّا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ الَّذِي لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِمِثْلِهِ، وَتُمْنَعُ مِنْ النِّكَاحِ وَقْتَ حَاجَتِهَا إلَيْهِ، وَيُؤْذَنُ لَهَا فِيهِ حِينَ لَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عَلَى امْرَأَتِهِ إنَّ مَا فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ يُحِبُّكِ] 539 - 2 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عَلَى امْرَأَتِهِ إنَّ مَا فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ يُحِبُّكِ، فَهَلْ يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ طُولَ لِسَانِك، أَوْ مَنْ يُحِبُّكِ مَعَ طُولِ لِسَانِكِ، وَلَا يَعْرِفُ أَحَدًا يُحِبُّهَا فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ،

مسألة الأيمان ثلاثة أقسام

وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُحِبُّهَا حُبًّا مُطْلَقًا بَلْ كَانَ وَاحِدٌ يُبْغِضُهَا مِنْ وَجْهٍ لِأَجْلِ شَرِّهَا فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 540 - 3 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى أَخِيهِ بِالطَّلَاقِ لَوْ أَعْطَيْتنِي مِلْءَ ثَوْبِك ذَهَبًا مَا أَعْطَيْتُك هَذِهِ الْحَاجَةَ، ثُمَّ إنَّهُ أَعْطَاهُ تِلْكَ الْحَاجَةَ بِعَيْنِهَا، فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ قَدْ يَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا، أَوْ مُتَأَوِّلًا، أَوْ يَكُونُ قَدْ امْتَنَعَ لِسَبَبٍ، وَزَالَ ذَلِكَ السَّبَبُ، أَوْ حَلَفَ يَعْتَقِدُهُ بِصِفَةٍ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهَا، فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ عَلَى الْأَقْوَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْأَيْمَانُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ] 541 - 4 - مَسْأَلَةٌ: قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ يَمِينًا مِنْ الْأَيْمَانِ، فَالْأَيْمَانُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا لَيْسَ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ، كَالْكَعْبَةِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالْمَشَايِخِ، وَالْمُلُوكِ وَالْآبَاءِ؛ وَتُرْبَتِهِمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذِهِ يَمِينٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ، وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ بَلْ هِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالنَّهْيُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِمْ. فَفِي الصَّحِيحِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» ، وَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ» ، وَفِي

السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» . وَالثَّانِي: الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ. فَهَذِهِ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ فِيهَا الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْحَلِفِ بِاَللَّهِ مَقْصُودُ الْحَالِفِ بِهَا تَعْظِيمَ الْخَالِقِ - لَا الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ - كَالْحَلِفِ بِالنَّذْرِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صِيَامُ شَهْرٍ أَوْ الْحَجُّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ. أَوْ الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا. أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَكُلُّ مَا أَمْلِكُهُ حَرَامٌ. أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا. أَوْ لَا أَفْعَلُهُ. أَوْ إنْ فَعَلْته فَنِسَائِي طَوَالِقُ، وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ، وَكُلُّ مَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ. وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. قِيلَ إذَا حَنِثَ لَزِمَهُ مَا عَلَّقَهُ وَحَلَفَ بِهِ. وَقِيلَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ يُجْزِيهِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَالْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ يَلْزَمُهُ مَا حَلَفَ بِهِ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْمُوَافِقُ لِلْأَقْوَالِ الثَّابِتَةِ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي جَمِيعِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] . وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» . فَإِذَا قَالَ: الْحَلَالُ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ، أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ: أَجْزَأَهُ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَإِنْ كَفَّرَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ فَهُوَ أَحْسَنُ. وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ يُخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ الْعِتْقِ، أَوْ إطْعَامِ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ، أَوْ كِسْوَتِهِمْ. وَإِذَا أَطْعَمَهُمْ أَطْعَمَ كُلَّ وَاحِدٍ جِرَايَةً مِنْ الْجِرَايَاتِ الْمَعْرُوفَةِ فِي بَلَدِهِ، مِثْلُ:

فصل الطلاق الذي يقع بلا ريب

أَنْ يُطْعِمَ ثَمَانِ أَوَاقٍ، أَوْ تِسْعَ أَوَاقٍ بِالشَّامِيِّ، وَيُطْعِمَ مَعَ ذَلِكَ إدَامَهَا؛ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ الشَّامِ فِي إعْطَاءِ الْجِرَايَاتِ خُبْزًا وَإِدَامًا. وَإِذَا كَفَّرَ يَمِينَهُ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ. وَأَمَّا إذَا قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، مِثْلُ أَنْ يُنَجِّزَ الطَّلَاقَ فَيُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِصِفَةٍ يَقْصِدُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَهَا، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِلطَّلَاقِ إذَا فَعَلْت أَمْرًا مِنْ الْأُمُورِ، فَيَقُولُ لَهَا: إنْ فَعَلْته فَأَنْتِ طَالِقٌ. قَصْدُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إذَا فَعَلَتْهُ، فَهَذَا مُطْلَقٌ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ السَّلَفِ وَجَمَاهِيرِ الْخَلَفِ؛ بِخِلَافِ مَنْ قَصْدُهُ أَنْ يَنْهَاهَا وَيَزْجُرَهَا بِالْيَمِينِ؛ وَلَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ الَّذِي يَكْرَهُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَلِّقَهَا؛ بَلْ هُوَ مُرِيدٌ لَهَا وَإِنْ فَعَلَتْهُ؛ لَكِنَّهُ قَصَدَ الْيَمِينَ لِمَنْعِهَا عَنْ الْفِعْلِ؛ لَا مُرِيدًا أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ وَإِنْ فَعَلَتْهُ، فَهَذَا حَالِفٌ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، بَلْ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا تَقَدَّمَ. [فَصَلِّ الطَّلَاقُ الَّذِي يَقَعُ بِلَا رَيْبٍ] فَصْلٌ وَالطَّلَاقُ الَّذِي يَقَعُ بِلَا رَيْبٍ هُوَ الطَّلَاقُ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ وَأَبَاحَهُ، وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا، أَوْ بَعْدَ مَا يَبِينُ حَمْلُهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً. فَأَمَّا الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ: مِثْلُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْحَيْضِ، أَوْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ أَنْ يَطَأَهَا وَقَبْلَ أَنْ يَبِينَ حَمْلُهَا. فَهَذَا الطَّلَاقُ مُحَرَّمٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَتَنَازَعُوا فِيمَا يَقَعُ بِهَا، فَقِيلَ: يَقَعُ بِهَا الثَّلَاثُ، وَقِيلَ: لَا يَقَعُ بِهَا إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ فِي الْحَيْضِ وَبَعْدَ الْوَطْءِ، هَلْ يَلْزَمُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ، كَمَا لَا يَلْزَمُ النِّكَاحُ الْمُحَرَّمُ، وَالْبَيْعُ الْمُحَرَّمُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةٌ» . وَثَبَتَ أَيْضًا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ «

فصل طلاق السنة وطلاق البدعة

أَنَّ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هِيَ وَاحِدَةٌ» . وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ خِلَافُ هَذِهِ السُّنَّةِ، بَلْ مَا يُخَالِفُهَا إمَّا أَنَّهُ ضَعِيفٌ؛ بَلْ مَرْجُوحٌ. وَإِمَّا إنَّهُ صَحِيحٌ لَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، كَمَا قَدْ بُسِطَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصَلِّ طَلَاقُ السُّنَّةِ وَطَلَاقُ الْبِدْعَة] فَصْلٌ الطَّلَاقُ مِنْهُ طَلَاقُ سُنَّةٍ أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَطَلَاقُ بِدْعَةٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ. فَطَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا، أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا قَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا. فَإِنْ طَلَّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ، أَوْ وَطِئَهَا وَطَلَّقَهَا بَعْدَ الْوَطْءِ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا فَهَذَا طَلَاقٌ مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يَلْزَمُ؟ أَوْ لَا يَلْزَمُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ. وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ، أَوْ بِكَلِمَاتٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ قَبْلَ أَنْ يُرَاجِعَهَا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْفَ طَلْقَةٍ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ. وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ، فَهَذَا حَرَامٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، فَهُوَ أَيْضًا حَرَامٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ: إذَا طَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً لَمْ يُطَلِّقْهَا الثَّانِيَةَ حَتَّى يُرَاجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ، أَوْ يَتَزَوَّجَهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ بَعْدَ الْعِدَّةِ، فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّانِيَةَ وَكَذَلِكَ الثَّالِثَةُ، فَإِذَا طَلَّقَهَا الثَّالِثَةَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَأَمَّا لَوْ طَلَّقَهَا الثَّلَاثَ طَلَاقًا مُحَرَّمًا، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةً جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ. وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ، وَيَنْكِحَهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ بَعْدَ الْعِدَّةِ. وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ؛

فصل حلف الرجل بالحرام

وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ؛ لِدَلَائِلَ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ وَاحِدَةً» . وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ وَرَدَّهَا عَلَيْهِ» وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ ثَبَّتَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ. وَضَعَّفَ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمْ، مَا رُوِيَ «أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ وَقَدْ اسْتَحْلَفَهُ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً؟» فَإِنَّ رُوَاةَ هَذَا مَجَاهِيلُ لَا يُعْرَفُ حِفْظُهُمْ وَعَدْلُهُمْ؛ وَرُوَاةُ الْأَوَّلِ مَعْرُوفُونَ بِذَلِكَ. وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِسْنَادٍ مَقْبُولٍ أَنَّ أَحَدًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَلْزَمَهُ الثَّلَاثَ؛ بَلْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كُلُّهَا كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ وَلَكِنْ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ: " أَنَّ فُلَانًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ". أَيْ ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَةً وَجَاءَ: «إنَّ الْمُلَاعِنَ طَلَّقَ ثَلَاثًا» وَتِلْكَ امْرَأَةٌ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى رَجْعَتِهَا؛ بَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ سَوَاءٌ طَلَّقَهَا أَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا، كَمَا لَوْ طَلَّقَ الْمُسْلِمُ امْرَأَتَهُ إذَا ارْتَدَّتْ ثَلَاثًا. وَكَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ امْرَأَةُ الْيَهُودِيِّ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا؛ أَوْ أَسْلَمَ زَوْجُ الْمُشْرِكَةِ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا. وَإِنَّمَا الطَّلَاقُ الشَّرْعِيُّ أَنْ يُطَلِّقَ مَنْ يَمْلِكُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا أَوْ يَتَزَوَّجَهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصَلِّ حَلَفَ الرَّجُل بِالْحَرَامِ] فَصْلٌ إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِالْحَرَامِ فَقَالَ: الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا. أَوْ الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا. أَوْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ فَعَلْت كَذَا. أَوْ مَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ يَحْرُمُ عَلَيَّ إنْ فَعَلْت كَذَا. أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَلَهُ زَوْجَةٌ: فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ وَلَكِنَّ الْقَوْلَ الرَّاجِحَ أَنَّ هَذِهِ يَمِينٌ مِنْ الْأَيْمَانِ لَا يَلْزَمُهُ بِهَا

مسألة الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان

طَلَاقٌ، وَلَوْ قَصَدَ بِذَلِكَ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ حَتَّى لَوْ قَالَ: أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَهُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْت عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَقَصَدَ بِهِ الطَّلَاقَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الظِّهَارَ طَلَاقًا، وَالْإِيلَاءَ طَلَاقًا، فَرَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَجَعَلَ فِي الظِّهَارِ الْكَفَّارَةَ الْكُبْرَى. وَجَعَلَ الْإِيلَاءَ يَمِينًا يَتَرَبَّصُ فِيهَا الرَّجُلُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ يُسَرِّحَ بِإِحْسَانٍ. كَذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إنَّهُ إذَا كَانَ مُزَوَّجًا فَحَرَّمَ امْرَأَتَهُ أَوْ حَرَّمَ الْحَلَالَ مُطْلَقًا كَانَ مُظَاهِرًا، وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَإِذَا حَلَفَ بِالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَحَنِثَ فِي يَمِينِهِ أَجْزَأَتْهُ الْكَفَّارَةُ فِي مَذْهَبِهِ، لَكِنْ قِيلَ: إنَّ الْوَاجِبَ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَسَوَاءٌ حَلَفَ، أَوْ أَوْقَعَ. وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَدَ. وَقِيلَ: بَلْ إنْ حَلَفَ بِهِ أَجْزَأَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَإِنْ أَوْقَعَهُ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ. وَهَذَا أَقْوَى وَأَقْيَسُ عَلَى أُصُولِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. فَالْحَالِفُ بِالْحَرَامِ يُجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا يُجْزِئُ الْحَالِفَ بِالنَّذْرِ إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ. أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ كَذَلِكَ إذَا حَلَفَ بِالْعِتْقِ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ وَكَذَلِكَ الْحَلِفُ. بِالطَّلَاقِ يُجْزِئُ فِيهِ أَيْضًا كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا أَفْتَى بِهِ [جَمَاعَةٌ] مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَالثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ لَا يُخَالِفُ ذَلِكَ؛ بَلْ مَعْنَاهُ يُوَافِقُهُ. فَكُلُّ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ فِي أَيْمَانِهِمْ فَفِيهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْصُودُ الرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ أَنْ يُعْتِقَ أَوْ أَنْ يُظَاهِرَ، فَهَذَا يَلْزَمُهُ مَا أَوْقَعَهُ، سَوَاءٌ كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا. وَلَا يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْإِمْسَاك بِمَعْرُوفِ أَوْ التَّسْرِيح بِإِحْسَانٍ] 542 - 5 - مَسْأَلَةٌ: قَاعِدَةٌ نِكَاحِيَّةٌ () : فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] إلَى قَوْلِهِ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]

إلَى قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . فَجَعَلَ الْمُبَاحَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ. وَأَخْبَرَ أَنَّ الرِّجَالَ لَيْسُوا أَحَقَّ بِالرَّدِّ إلَّا إذَا أَرَادُوا إصْلَاحًا؛ وَجَعَلَ لَهُنَّ مِثْلَ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] ، وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] . وَقَوْلُهُ هُنَا: {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ رَضِيَتْ بِغَيْرِ الْمَعْرُوفِ لَكَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ الْعَضْلُ، وَالْمَعْرُوفُ تَزْوِيجُ الْكُفْءِ. وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ: مَهْرُ مِثْلِهَا مِنْ الْمَعْرُوفِ؛ فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُ أُولَئِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] إلَى قَوْلِهِ: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] . فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ التَّرَاضِيَ بِالْمَعْرُوفِ. وَالْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ: التَّسْرِيحُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنَّ لَهُنَّ وَعَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ: " لَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ". فَهَذَا الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْوَاجِبُ الْعَدْلُ فِي جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ مِنْ أُمُورِ النِّكَاحِ وَحُقُوقِ الزَّوْجَيْنِ؛ فَكَمَا أَنَّ مَا يَجِبُ لِلْمَرْأَةِ عَلَيْهِ مِنْ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ هُوَ بِالْمَعْرُوفِ؛ وَهُوَ الْعُرْفُ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ فِي حَالِهِمَا نَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً، وَإِنْ كَانَ

ذَلِكَ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ حَالِهِمَا مِنْ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَالزَّمَانِ كَالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ وَالْمَكَانِ فَيُطْعِمُهَا فِي كُلِّ بَلَدٍ مِمَّا هُوَ عَادَةُ أَهْلِ الْبَلَدِ وَهُوَ الْعُرْفُ بَيْنَهُمْ. وَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ لَهَا عَلَيْهِ مِنْ الْمُتْعَةِ وَالْعِشْرَةِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَهَا، وَيَطَأَهَا بِالْمَعْرُوفِ. وَيَخْتَلِفَ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ حَالِهَا وَحَالِهِ. وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْوَطْءِ الْوَاجِبِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْمَعْرُوفِ؛ لَا بِتَقْدِيرٍ مِنْ الشَّرْعِ، قَرَّرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمِثَالُ الْمَشْهُورُ هُوَ النَّفَقَةُ، فَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِالْمَعْرُوفِ تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ نَوْعًا وَقَدْرًا: مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ، أَوْ مُدًّا وَنِصْفًا، أَوْ مُدَّيْنِ؛ قِيَاسًا عَلَى الْإِطْعَامِ الْوَاجِبِ فِي الْكَفَّارَةِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ مَا عَلَيْهِ الْأُمَّةُ عِلْمًا وَعَمَلًا قَدِيمًا وَحَدِيثًا؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِهِنْدَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ، لَمَّا قَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» . فَأَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْكِفَايَةَ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ يُقَدِّرْ لَهَا نَوْعًا وَلَا قَدْرًا، وَلَوْ تَقَدَّرَ ذَلِكَ بِشَرْعٍ أَوْ غَيْرِهِ لَبَيَّنَ لَهَا الْقَدْرَ وَالنَّوْعَ، كَمَا بَيَّنَ فَرَائِضَ الزَّكَاةِ وَالدِّيَاتِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي خُطْبَتِهِ الْعَظِيمَةِ بِعَرَفَاتٍ: لَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» . وَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْكِفَايَةُ بِالْمَعْرُوفِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكِفَايَةَ بِالْمَعْرُوفِ تَتَنَوَّعُ بِحَالَةِ الزَّوْجَةِ فِي حَاجَتِهَا، وَيَتَنَوَّعُ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ، وَيَتَنَوَّعُ حَالُ الزَّوْجِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ، وَلَيْسَتْ كِسْوَةُ الْقَصِيرَةِ الضَّئِيلَةِ كَكِسْوَةِ الطَّوِيلَةِ الْجَسِيمَةِ، وَلَا كِسْوَةُ الشِّتَاءِ كَكِسْوَةِ الصَّيْفِ، وَلَا كِفَايَةُ طَعَامِهِ كَطَعَامِهِ، وَلَا طَعَامُ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ كَالْبَارِدَةِ، وَلَا الْمَعْرُوفُ فِي بِلَادِ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، كَالْمَعْرُوفِ فِي بِلَادِ الْفَاكِهَةِ وَالْخَمِيرِ. وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد، وَابْنِ مَاجَهْ، «عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ النُّمَيْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ،

أَنَّهُ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: تُطْعِمُهَا إذَا أَكَلْت، وَتَكْسُوهَا إذَا اكْتَسَيْت؛ وَلَا تَضْرِبْ الْوَجْهَ؛ وَلَا تُقَبِّحْ؛ وَلَا تَهْجُرْ إلَّا فِي الْبَيْتِ» . فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أَنَّ لِلزَّوْجَةِ مَرَّةً أَنْ تَأْخُذَ كِفَايَةَ وَلَدِهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَقَالَ فِي الْخُطْبَةِ الَّتِي خَطَبَهَا يَوْمَ أَكْمَلَ اللَّهُ الدِّينَ فِي أَكْبَرِ مَجْمَعٍ كَانَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ: «لَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» . وَقَالَ لِلسَّائِلِ الْمُسْتَفْتِي لَهُ عَنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ: «تُطْعِمُهَا إذَا أَكَلْت، وَتَكْسُوهَا إذَا اكْتَسَيْت» ، لَمْ يَأْمُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ؛ لَكِنْ قَيَّدَ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ تَارَةً، وَبِالْمُوَاسَاةِ بِالزَّوْجِ أُخْرَى. وَهَكَذَا قَالَ فِي نَفَقَةِ الْمَمَالِيكِ؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «هُمْ إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ؛ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ؛ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ؛ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا يُطِيقُ» . فَفِي الزَّوْجَةِ وَالْمَمْلُوكِ أَمْرُهُ وَاحِدٌ: تَارَةً يَذْكُرُ أَنَّهُ يَجِبُ الرِّزْقُ وَالْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ. وَتَارَةً يَأْمُرُ بِمُوَاسَاتِهِمْ بِالنَّفْسِ. فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَ الْمَعْرُوفَ هُوَ الْوَاجِبُ، وَالْمُوَاسَاةُ مُسْتَحَبَّةٌ. وَقَدْ يُقَالُ أَحَدُهُمَا تَفْسِيرٌ لِلْآخَرِ. وَعَلَى هَذَا فَالْوَاجِبُ هُوَ الرِّزْقُ وَالْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ فِي النَّوْعِ، وَالْقَدْرِ، وَصِفَةِ الْإِنْفَاقِ. وَإِنْ كَانَ الْعُلَمَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ.

أَمَّا النَّوْعُ، فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يُعْطِيَهَا مَكِيلًا كَالْبُرِّ، وَلَا مَوْزُونًا كَالْخُبْزِ، وَلَا ثَمَنَ ذَلِكَ كَالدَّرَاهِمِ؛ بَلْ يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ. فَإِذَا أَعْطَاهَا كِفَايَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عَادَتُهُمْ أَكْلَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ فَيُعْطِيهَا ذَلِكَ. أَوْ يَكُونَ أَكْلَ الْخُبْزِ وَالْإِدَامِ فَيُعْطِيهَا ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ عَادَتُهُمْ أَنْ يُعْطِيَهَا حَبًّا فَتَطْحَنَهُ فِي الْبَيْتِ فَعَلَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ يَطْحَنُ فِي الطَّاحُونِ وَيَخْبِزُ فِي الْبَيْتِ فَعَلَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ يَخْبِزُ فِي الْبَيْتِ فَعَلَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ يَشْتَرِي خُبْزًا مِنْ السُّوقِ فَعَلَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الطَّبِيخُ وَنَحْوُهُ فَعَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ، فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ، وَلَا حَبَّاتٌ أَصْلًا؛ لَا بِشَرْعٍ، وَلَا بِفَرْضٍ؛ فَإِنْ تَعَيَّنَ ذَلِكَ دَائِمًا مِنْ الْمُنْكَرِ لَيْسَ مِنْ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ مُضِرٌّ بِهِ تَارَةً وَبِهَا أُخْرَى. وَكَذَلِكَ الْقَدْرُ، لَا يَتَعَيَّنُ مِقْدَارٌ مُطَّرِدٌ؛ بَلْ تَتَنَوَّعُ الْمَقَادِيرُ بِتَنَوُّعِ الْأَوْقَاتِ. وَأَمَّا الْإِنْفَاقُ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْوَاجِبَ تَمْلِيكُهَا النَّفَقَةَ، وَالْكِسْوَةَ. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ التَّمْلِيكُ، وَهُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الْمَعْرُوفُ؛ بَلْ عُرْفُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ يَأْتِي بِالطَّعَامِ إلَى مَنْزِلِهِ، فَيَأْكُلَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَمَمْلُوكُهُ: تَارَةً جَمِيعًا، وَتَارَةً أَفْرَادًا. وَيَفْضُلُ مِنْهُ فَضْلٌ تَارَةً فَيَدَّخِرُونَهُ، وَلَا يَعْرِفُ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ يُمَلِّكُهَا كُلَّ يَوْمٍ دَرَاهِمَ تَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمَالِكِ؛ بَلْ مَنْ عَاشَرَ امْرَأَةً بِمِثْلِ هَذَا الْفَرْضِ كَانَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَعَاشَرَا بِغَيْرِ الْمَعْرُوفِ وَتَضَارَّا فِي الْعِشْرَةِ؛ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ أَحَدُهُمَا ذَلِكَ بِصَاحِبِهِ عِنْدَ الضَّرَرِ؛ لَا عِنْدَ الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْجَبَ فِي الزَّوْجَةِ مِثْلَ مَا أَوْجَبَ فِي الْمَمْلُوكِ. تَارَةً قَالَ: «لَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» ، كَمَا قَالَ فِي الْمَمْلُوكِ. وَتَارَةً قَالَ: «تُطْعِمُهَا إذَا أَكَلْت وَتَكْسُوهَا إذَا اكْتَسَيْت» . كَمَا قَالَ فِي الْمَمْلُوكِ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَمْلِيكُ الْمَمْلُوكِ نَفَقَتَهُ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَقْتَضِي إيجَابَ التَّمْلِيكِ. وَإِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فَمَتَى اعْتَرَفَتْ الزَّوْجَةُ أَنَّهُ يُطْعِمُهَا إذَا أَكَلَ وَيَكْسُوهَا إذَا اكْتَسَى وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ لِمِثْلِهَا فِي بَلَدِهَا فَلَا حَقَّ لَهَا سِوَى ذَلِكَ. وَإِنْ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ أَمَرَهُ الْحَاكِمُ أَنْ يُنْفِقَ بِالْمَعْرُوفِ؛ بَلْ وَلَا لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِدَرَاهِمَ مُقَدَّرَةٍ مُطْلَقًا، أَوْ حَبِّ مِقْدَارٍ مُطْلَقٍ؛ لَكِنْ يَذْكُرُ الْمَعْرُوفَ الَّذِي يَلِيقُ بِهِمَا.

فصل قسم الابتداء والوطء والعشرة والمتعة

[فَصَلِّ قَسْمُ الِابْتِدَاءِ وَالْوَطْءِ وَالْعِشْرَةِ وَالْمُتْعَةِ] فَصْلٌ وَكَذَلِكَ قَسْمُ الِابْتِدَاءِ وَالْوَطْءِ وَالْعِشْرَةِ وَالْمُتْعَةِ وَاجِبَانِ، كَمَا قَدْ قَرَّرْنَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ عَشْرَةِ أَدِلَّةٍ، وَمَنْ شَكَّ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ فَقَدْ أَبْعَدَ تَأَمُّلِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالسِّيَاسَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. ثُمَّ الْوَاجِبُ قِيلَ: مَبِيتُ لَيْلَةٍ مِنْ أَرْبَعِ لَيَالٍ، وَالْوَطْءُ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَرَّةً، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْمَوْلَى وَالْمُتَزَوِّجِ أَرْبَعًا. وَقِيلَ: إنَّ الْوَاجِبَ وَطْؤُهَا بِالْمَعْرُوفِ، فَيَقُلْ: وَيَكْثُرُ بِحَسَبِ حَاجَتِهَا وَقُدْرَتِهِ، كَالْقُوتِ سَوَاءٌ. فَصْلٌ وَكَذَلِكَ مَا عَلَيْهَا مِنْ مُوَافَقَتِهِ فِي الْمَسْكَنِ وَعِشْرَتِهِ وَمُطَاوَعَتِهِ فِي الْمُتْعَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ. عَلَيْهَا أَنْ تَسْكُنَ مَعَهُ فِي أَيِّ بَلَدٍ، أَوْ دَارٍ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ تَشْتَرِطْ خِلَافَهُ؛ وَعَلَيْهَا أَنْ لَا تُفَارِقَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ إلَّا لِمُوجِبٍ شَرْعِيٍّ، فَلَا تَنْتَقِلُ، وَلَا تُسَافِرُ، وَلَا تَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ إلَّا بِإِذْنِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ» بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ وَالْأَسِيرِ، وَعَلَيْهَا تَمْكِينُهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا إذَا طَلَبَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِالْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ اسْتِمْتَاعًا يَضُرُّ بِهَا، وَلَا يُسْكِنُهَا مَسْكَنًا يَضُرُّ بِهَا، وَلَا يَحْبِسُهَا حَبْسًا يَضُرُّ بِهَا. [فَصَلِّ خدمة الزَّوْجَة لزوجها] فَصْلٌ وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ عَلَيْهَا أَنْ تَخْدُمَهُ فِي مِثْلِ فِرَاشِ الْمَنْزِلِ؛ وَمُنَاوَلَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْخُبْزِ، وَالطَّحْنِ، وَالطَّعَامِ لِمَمَالِيكِهِ، وَبَهَائِمِهِ: مِثْلُ عَلَفِ دَابَّتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تَجِبُ الْخِدْمَةُ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، كَضَعْفِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْعِشْرَةُ وَالْوَطْءُ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مُعَاشَرَةً لَهُ بِالْمَعْرُوفِ؛ بَلْ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ الَّذِي هُوَ نَظِيرُ الْإِنْسَانِ وَصَاحِبُهُ فِي الْمَسْكَنِ إنْ لَمْ يُعَاوِنْهُ عَلَى مَصْلَحَةٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَاشَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ. وَقِيلَ - وَهُوَ الصَّوَابُ - وُجُوبُ الْخِدْمَةِ؛ فَإِنَّ الزَّوْجَ سَيِّدُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ وَهِيَ عَانِيَةٌ عِنْدَهُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَعَلَى الْعَانِي وَالْعَبْدِ الْخِدْمَةُ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: تَجِبُ الْخِدْمَةُ الْيَسِيرَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تَجِبُ الْخِدْمَةُ

فصل شرط أحد الزوجين على الآخر شرطا لا يحرم حلالا ولا يحلل حراما

بِالْمَعْرُوفِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَخْدُمَهُ الْخِدْمَةَ الْمَعْرُوفَةَ مِنْ مِثْلِهَا لِمِثْلِهِ، وَيَتَنَوَّعُ ذَلِكَ بِتَنَوُّعِ الْأَحْوَالِ: فَخِدْمَةُ الْبَدْوِيَّةِ لَيْسَتْ كَخِدْمَةِ الْقَرَوِيَّةِ، وَخِدْمَةُ الْقَوِيَّةِ لَيْسَتْ كَخِدْمَةِ الضَّعِيفَةِ. [فَصَلِّ شَرَطَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخِر شَرْطًا لَا يُحَرِّمُ حَلَالًا وَلَا يُحَلَّلُ حَرَامًا] فَصْلٌ وَالْمَعْرُوفُ فِيمَا لَهُ وَلَهَا هُوَ مُوجِبُ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يُرْجَعُ فِي مُوجِبِهِ إلَى الْعُرْفِ، كَمَا يُوجِبُ الْعَقْدُ الْمُطْلَقُ فِي الْبَيْعِ النَّقْدَ الْمَعْرُوفَ فَإِنْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ شَرْطًا لَا يُحَرِّمُ حَلَالًا وَلَا يُحَلِّلُ حَرَامًا فَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ؛ فَإِنَّ مُوجِبَاتِ الْعُقُودِ تُتَلَقَّى مِنْ اللَّفْظِ تَارَةً. وَمِنْ الْعُرْفِ تَارَةً أُخْرَى؛ لَكِنَّ كِلَاهُمَا مُقَيَّدٌ بِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَإِنَّ لِكُلٍّ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ أَنْ يُوجِبَ لِلْآخَرِ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَمْ يَمْنَعْهُ اللَّهُ مِنْ إيجَابِهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ أَنْ يُوجِبَ فِي الْمُعَاوَضَةِ مَا يُبَاحُ بَذْلُهُ بِلَا عِوَضٍ: كَعَارِيَّةِ الْبُضْعِ؛ وَالْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ؛ فَلَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يَجِبَ بِالشَّرْطِ، فَإِنَّهُ إذَا حَرُمَ بَذْلُهُ كَيْفَ يَجِبُ بِالشَّرْطِ؟ ، فَهَذِهِ أُصُولٌ جَامِعَةٌ مَعَ اخْتِصَارٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْفَرْق بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْحَلِفِ] 543 - 6 - مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّلَاقِ، وَالْحَلِفِ وَإِيضَاحِ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ -. الصِّيَغُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ، ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: صِيغَةُ التَّنْجِيزِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: امْرَأَتِي طَالِقٌ. أَوْ: أَنْتِ طَالِقٌ. أَوْ: فُلَانَةُ طَالِقٌ. أَوْ هِيَ مُطَلَّقَةٌ. وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَلَا تَنْفَعُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا فِيهِ كَفَّارَةٌ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ. أَوْ عَلَيَّ صِيَامُ شَهْرٍ. أَوْ: عِتْقُ رَقَبَةٍ. أَوْ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ. أَوْ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي؛ فَهَذِهِ كُلُّهَا إيقَاعَاتٌ لِهَذِهِ الْعُقُودِ بِصِيَغِ التَّنْجِيزِ وَالْإِطْلَاقِ.

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَحْلِفَ بِذَلِكَ، فَيَقُولُ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا. أَوْ لَا أَفْعَلُ كَذَا. أَوْ يَحْلِفُ عَلَى غَيْرِهِ - كَعَبْدِهِ وَصَدِيقِهِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ يَبَرُّ قَسَمَهُ - لَيَفْعَلَن كَذَا. أَوْ لَا يَفْعَلُ كَذَا. أَوْ يَقُولُ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَأَفْعَلَن كَذَا. أَوْ لَا أَفْعَلُهُ. أَوْ يَقُولُ: عَلَيَّ الْحَجُّ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا. أَوْ لَا أَفْعَلُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَهَذِهِ صِيَغُ قَسَمٍ، وَهُوَ حَالِفٌ بِهَذِهِ الْأُمُورِ؛ لَا مَوْقِعَ لَهَا. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: إنَّهُ إذَا حَنِثَ لَزِمَهُ مَا حَلَفَ بِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَالثَّالِثُ: يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَلِفِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . وَقَالَ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] . وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَأَبِي مُوسَى، أَنَّهُ قَالَ: «وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» . وَجَاءَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي مُوسَى؛ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ. وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ حَلَفَ بِيَمِينٍ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَحَنِثَ أَجْزَأَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَمَنْ حَلَفَ بِأَيْمَانِ الشِّرْكِ: مِثْلُ أَنْ يَحْلِفَ بِتُرْبَةِ أَبِيهِ؛ أَوْ الْكَعْبَةِ، أَوْ نِعْمَةِ السُّلْطَانِ، أَوْ حَيَاةِ الشَّيْخِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ: فَهَذِهِ الْيَمِينُ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ، وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا إذَا حَنِثَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ الصِّيَغِ: أَنْ يُعَلِّقَ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ أَوْ النَّذْرَ بِشَرْطٍ؛ فَيَقُولُ: إنْ كَانَ كَذَا فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ. أَوْ الْحَجُّ. أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ. وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَهَذَا يُنْظَرُ إلَى مَقْصُودِهِ، فَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَحْلِفَ بِذَلِكَ لَيْسَ غَرَضُهُ وُقُوعَ هَذِهِ الْأُمُورِ - كَمَنْ لَيْسَ غَرَضُهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إذَا وَقَعَ الشَّرْطُ - فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْحَالِفِ؛ وَهُوَ مِنْ بَابِ الْيَمِينِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ وُقُوعَ هَذِهِ الْأُمُورِ: كَمَنْ غَرَضُهُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ وُقُوعِ

الشَّرْطِ: مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ أَبْرَأَتْنِي مِنْ طَلَاقِك فَأَنْتَ طَالِقٌ. فَتُبْرِئُهُ. أَوْ يَكُونُ غَرَضُهُ أَنَّهَا إذَا فَعَلَتْ فَاحِشَةً أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَيَقُولُ: إذَا فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ؛ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ غَرَضُهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهَا لِيَمْنَعَهَا؛ وَلَوْ فَعَلَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي طَلَاقِهَا، فَإِنَّهَا تَارَةً يَكُونُ طَلَاقُهَا أَكْرَهَ إلَيْهِ مِنْ الشَّرْطِ، فَيَكُونُ حَالِفًا. وَتَارَةً يَكُونُ الشَّرْطُ الْمَكْرُوهُ أَكْرَهَ إلَيْهِ مِنْ طَلَاقِهَا. فَيَكُونُ مُوقِعًا لِلطَّلَاقِ إذَا وُجِدَ ذَلِكَ الشَّرْطُ، فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ، فَشُفِيَ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ. فَالْأَصْلُ فِي هَذَا: أَنْ يُنْظَرَ إلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَقْصُودِهِ، فَإِنْ كَانَ غَرَضُهُ أَنْ تَقَعَ هَذِهِ الْأُمُورُ وَقَعَتْ مُنَجَّزَةً أَوْ مُعَلَّقَةً إذَا قَصَدَ وُقُوعَهَا عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ. وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَحْلِفَ بِهَا؛ وَهُوَ يَكْرَهُ وُقُوعَهَا إذَا حَنِثَ وَإِنْ وَقَعَ الشَّرْطُ فَهَذَا حَالِفٌ بِهَا؛ لَا مُوقِعٌ لَهَا، فَيَكُونُ قَوْلُهُ مِنْ بَابِ الْيَمِينِ؛ لَا مِنْ بَابِ التَّطْلِيقِ، وَالنَّذْرِ، فَالْحَالِفُ هُوَ الَّذِي يَلْتَزِمُ مَا يَكْرَهُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ، كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلَ كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ؛ أَوْ نَصْرَانِيٌّ، وَنِسَائِي طَوَالِقُ، وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ، وَعَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَمِينٌ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَقْصِدُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ مِنْ نَاذِرٍ وَمُطَلِّقٍ وَمُعَلِّقٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْصِدُ وَيَخْتَارُ لُزُومَ مَا الْتَزَمَهُ، وَكِلَاهُمَا مُلْتَزِمٌ، لَكِنَّ هَذَا الْحَالِفَ يَكْرَهُ وُقُوعَ اللَّازِمِ وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ الْمَلْزُومُ، كَمَا إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ، فَإِنَّ هَذَا يَكْرَهُ الْكُفْرَ، وَلَوْ وَقَعَ الشَّرْطُ: فَهَذَا حَالِفٌ. وَالْمُوقِعُ يَقْصِدُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ اللَّازِمِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ الْمَلْزُومِ؛ سَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ مُرَادًا لَهُ، أَوْ مَكْرُوهًا، أَوْ غَيْرَ مُرَادٍ لَهُ: فَهَذَا مُوقِعٌ لَيْسَ بِحَالِفٍ. وَكِلَاهُمَا مُلْتَزِمٌ مُعَلِّقٌ؛ لَكِنْ هَذَا الْحَالِفُ يَكْرَهُ وُقُوعَ اللَّازِمِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَكَابِرِ التَّابِعِينَ، وَعَلَيْهِ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. كَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمَا: فِي تَعْلِيقِ النَّذْرِ. قَالُوا: إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ النَّذْرَ فَقَالَ: لَئِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ الْحَجُّ. فَهُوَ نَاذِرٌ إذَا شَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ لَزِمَهُ الْحَجُّ فَهَذَا حَالِفٌ تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَا حَجَّ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِثْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ. وَزَيْنَبَ رَبِيبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي مَنْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ. قَالُوا: " يُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ ". هَذَا مَعَ أَنَّ الْعِتْقَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ؛ فَالطَّلَاقُ لَا يَلْزَمُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

الطَّلَاقُ عَنْ وَطَرٍ، وَالْعِتْقُ مَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ ". ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا يَقَعُ بِمَنْ غَرَضُهُ أَنْ يُوقِعَهُ؛ لَا لِمَنْ يَكْرَهُ وُقُوعَهُ، كَالْحَالِفِ بِهِ، وَالْمُكْرَهِ عَلَيْهِ، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: كُلُّ يَمِينٍ وَإِنْ عَظُمَتْ فَكَفَّارَتُهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ. وَهَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ: مِنْ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالنَّذْرِ. وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ مَذْهَبُ خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ لَكِنْ فِيهِمْ مَنْ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ: كَدَاوُد، وَأَصْحَابِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ: كَطَاوُسٍ، وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَالْأَيْمَانُ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا الْخَلْقُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: يَمِينٌ مُحْتَرَمَةٌ مُنْعَقِدَةٌ: كَالْحَلِفِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى: فَهَذِهِ فِيهَا الْكَفَّارَةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. الثَّانِي: الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ: كَالْحَالِفِ بِالْكَعْبَةِ. فَهَذِهِ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْقِدَ الْيَمِينَ لِلَّهِ، فَيَقُولُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ. أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ. أَوْ فَنِسَائِي طَوَالِقُ. أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذِهِ فِيهَا الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ: إمَّا لُزُومُ الْمَحْلُوفِ بِهِ، وَإِمَّا الْكَفَّارَةُ، وَإِمَّا لَا هَذَا وَلَا هَذَا. وَلَيْسَ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَّا يَمِينَانِ: يَمِينٌ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهَا الْكَفَّارَةُ. أَوْ يَمِينٌ لَيْسَتْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ: فَهَذِهِ لَا شَيْءَ فِيهَا إذَا حَنِثَ. فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ إنْ كَانَتْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهَا كَفَّارَةٌ؛ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَلْزَمْ بِهَا شَيْءٌ. فَأَمَّا إثْبَاتُ يَمِينٍ يَلْزَمُ الْحَالِفَ بِهَا مَا الْتَزَمَهُ، وَلَا تُجْزِئُهُ فِيهَا كَفَّارَةٌ: فَهَذَا لَيْسَ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ حُكْمَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ. وَذَكَرَ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا حُكْمَ طَلَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 2] .

وَقَالَ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا - فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 1 - 2] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] فَهُوَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ حُكْمَ الطَّلَاقِ، وَبَيَّنَ فِي تِلْكَ حُكْمَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ. وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْرِفُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، فَيَعْرِفُوا مَا يَدْخُلُ فِي الطَّلَاقِ وَمَا يَدْخُلُ فِي أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَحْكُمُوا فِي هَذَا بِمَا حَكَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا يَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ فَيَجْعَلُوا حُكْمَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَحُكْمَ طَلَاقِهِمْ حُكْمَ أَيْمَانِهِمْ؛ فَإِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ اشْتَبَهَ بَعْضُ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ عَرَفَ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَاَلَّذِينَ مَيَّزُوا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ هُمْ أَجَلُّ قَدْرًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ هَذَا وَهَذَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] . فَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَالِاعْتِبَارِ - الَّذِي هُوَ أَصَحُّ الْقِيَاسِ وَأَجْلَاهُ - إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ صَلَاحِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ إذَا فَرَّقُوا بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُ، فَإِنَّ الَّذِينَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا أَوْقَعَهُمْ هَذَا الِاشْتِبَاهُ: إمَّا فِي آصَارٍ وَأَغْلَالٍ، وَأَمَّا فِي مَكْرٍ وَاحْتِيَالٍ: كَالِاحْتِيَالِ فِي أَلْفَاظِ الْأَيْمَانِ، وَالِاحْتِيَالِ بِطَلَبِ إفْسَادِ النِّكَاحِ، وَالِاحْتِيَالِ بِدَوْرِ الطَّلَاقِ وَالِاحْتِيَالِ بِخَلْعِ الْيَمِينِ، وَالِاحْتِيَالِ بِالتَّحْلِيلِ. وَاَللَّهُ

فصل التعليق الذي يقصد به إيقاع الطلاق والذي يقصد به اليمين

أَغْنَى الْمُسْلِمِينَ بِنَبِيِّهِمْ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] . أَيْ يُخَلِّصُهُمْ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ؛ وَمِنْ الدُّخُولِ فِي مُنْكَرَاتِ أَهْلِ الْحِيَلِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصَلِّ التَّعْلِيق الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ إيقَاعُ الطَّلَاق وَاَلَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ] فَصْلٌ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ وَاَلَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ: فَالْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِلْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مَكْرُوهًا لَهُ، لَكِنَّهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ فَإِنَّهُ يُرِيدُ الطَّلَاقَ؛ لِكَوْنِ الشَّرْطِ أَكْرَهَ إلَيْهِ مِنْ الطَّلَاقِ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَكْرَهُ طَلَاقَهَا، وَيَكْرَهُ الشَّرْطَ، لَكِنْ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ فَإِنَّهُ يَخْتَارُ طَلَاقَهَا: مِثْلُ أَنْ يَكُونَ كَارِهًا لِلتَّزَوُّجِ بِامْرَأَةٍ بَغِيٍّ أَوْ فَاجِرَةٍ أَوْ خَائِنَةٍ أَوْ هُوَ لَا يَخْتَارُ طَلَاقَهَا؛ لَكِنْ إذَا فَعَلَتْ هَذِهِ الْأُمُورَ: اخْتَارَ طَلَاقَهَا؛ فَيَقُولُ إنْ زَنَيْت أَوْ سَرَقْت أَوْ خُنْت فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَمُرَادُهُ إذَا فَعَلْت ذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَهَا: إمَّا عُقُوبَةً لَهَا؛ وَإِمَّا كَرَاهَةً لِمَقَامِهِ مَعَهَا عَلَى هَذَا الْحَالِ: فَهَذَا مُوقِعٌ لِلطَّلَاقِ عِنْدَ الصِّفَةِ، لَا حَالِفٌ، وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي مِثْلِ هَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ: كَابْنِ مَسْعُودٍ؛ وَابْنِ عُمَرَ؛ وَعَنْ التَّابِعِينَ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ؛ وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ قَالَ فِي مِثْلِ هَذَا: إنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ؛ وَلَكِنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الشِّيعَةِ، وَطَائِفَةٌ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ. وَهَذَا لَيْسَ بِحَالِفٍ، وَلَا يَدْخُلُ فِي لَفْظِ الْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَلَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ سَمَّى هَذَا حَالِفًا، كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي كُلَّ مُعَلِّقٍ حَالِفًا؛ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي كُلَّ مُنَجِّزٍ لِلطَّلَاقِ حَالِفًا. وَهَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتُ الثَّلَاثَةُ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي اللُّغَةِ؛ وَلَا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، وَلَا كَلَامِ الصَّحَابَةِ؛ وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَلِكَ يَمِينًا لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَمِينِ. مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ عِنْدَ الْمُسَمَّى. وَهُوَ ظَنُّهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الصِّفَةِ. وَأَمَّا التَّعْلِيقُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ فَيُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْ مَعْنَاهُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ، بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْ مَعْنَاهُ: صِيغَةُ الْقَسَمِ. وَهَذَا الْقَسَمُ إذَا ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ فَإِنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ كَارِهًا لِلْجَزَاءِ؛ وَهُوَ أَكْرَهُ إلَيْهِ مِنْ الشَّرْطِ: فَيَكُونُ

المرأة إذا وقع بها الطلاق الثلاث

كَارِهًا لِلشَّرْطِ؛ وَهُوَ لِلْجَزَاءِ أَكْرَهُ، وَيَلْتَزِمُ أَعْظَمَ الْمَكْرُوهَيْنِ عِنْدَهُ لِيَمْتَنِعَ بِهِ مِنْ أَدْنَى الْمَكْرُوهَيْنِ. فَيَقُولُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ. أَوْ عَبِيدِي أَحْرَارٌ. أَوْ عَلَيَّ الْحَجُّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. أَوْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ زَنَيْت أَوْ سَرَقْت أَوْ خُنْت: فَأَنْتِ طَالِقٌ يَقْصِدُ زَجْرَهَا أَوْ تَخْوِيفَهَا بِالْيَمِينِ، لَا إيقَاعَ الطَّلَاقِ إذَا فَعَلَتْ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُرِيدًا لَهَا وَإِنْ فَعَلْت ذَلِكَ؛ لِكَوْنِ طَلَاقِهَا أَكْرَهَ إلَيْهِ مِنْ مَقَامِهَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَهُوَ عَلَّقَ بِذَلِكَ لِقَصْدِ الْحَظْرِ وَالْمَنْعِ؛ لَا لِقَصْدِ الْإِيقَاعِ: فَهَذَا حَالِفٌ لَيْسَ بِمُوقِعٍ. وَهَذَا هُوَ الْحَالِفُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ الَّذِي تُجْزِئُهُ الْكَفَّارَةُ. وَالنَّاسُ يَحْلِفُونَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ، وَقَدْ يَحْلِفُونَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ الَّتِي فِي مَعْنَاهَا؛ فَإِنْ عُلِمَ هَذَا وَهَذَا سَوَاءٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمُلْتَزِمُ لِأَمْرٍ عِنْدَ الشَّرْطِ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُلْتَزَمُ قُرْبَةً، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ بِهِ، لَا الْحَلِفُ بِهِ، فَلَوْ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ. كَالتَّطْلِيقِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَمْ يَلْزَمْهُ. وَلَوْ الْتَزَمَ الْقُرْبَةَ كَالصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ عَلَى وَجْهِ الْحَلِفِ بِهَا لَمْ تَلْزَمْهُ، بَلْ تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ الصَّحَابَةِ، وَجُمْهُورِ السَّلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَهَذَا الْحَالِفُ بِالطَّلَاقِ هُوَ الْتَزَمَ وُقُوعَهُ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ، وَهُوَ يَكْرَهُ وُقُوعَهُ، إذَا أَوْجَدَ الشَّرْطَ كَمَا يَكْرَهُ وُقُوعَ الْكُفْرِ إذَا حَلَفَ بِهِ، وَكَمَا يَكْرَهُ وُجُوبَ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ إذَا حَلَفَ بِهَا، وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ هَذَا حَالِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ، فَيُقَالُ: النَّصُّ وَرَدَ فِيمَنْ حَلَفَ بِالْمَخْلُوقَاتِ، وَلِهَذَا جَعَلَهُ شِرْكًا؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ عَقَدَ الْيَمِينَ لِلَّهِ فَهُوَ أَبْلَغُ مِمَّنْ عَقَدَهَا بِاَللَّهِ، وَلِهَذَا كَانَ النَّذْرُ أَبْلَغَ مِنْ الْيَمِينِ. فَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِيمَا عُقِدَ لِلَّهِ أَوْلَى مِنْ وُجُوبِهَا فِيمَا عُقِدَ بِاَللَّهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [الْمَرْأَة إذَا وَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ] 544 - 7 - سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فِيمَنْ يَقُولُ إنَّ الْمَرْأَةَ. إذَا وَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ، تُبَاحُ بِدُونِ نِكَاحٍ ثَانٍ لِلَّذِي طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؟ وَمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمَا صِفَةُ النِّكَاحِ الثَّانِي الَّذِي يُبِيحُهَا أَفْتُونَا؟

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. إذَا وَقَعَ بِالْمَرْأَةِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ. لَمْ تَحِلَّ لِمُطَلِّقِهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، وَقَضَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَقُلْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهَا تُبَاحُ بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ، بِدُونِ نِكَاحِ زَوْجٍ ثَانٍ، وَمَنْ نَقَلَ هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ طَائِفَةً مِنْ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ، اعْتَقَدَ فِي بَعْضِ صُوَرِ التَّعْلِيقِ، وَهِيَ صُورَةُ التَّسْرِيحِ. أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَقَعُ مِنْهُ بَعْدَ هَذَا طَلَاقٌ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ جَمَاهِيرُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَرَدُّوا هَذَا الْقَوْلَ، وَهُوَ قَوْلٌ مُحْدَثٌ، لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا التَّابِعِينَ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا نُظَرَائِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ بِشُبْهَةٍ وَقَعَتْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَّاهَا وَبَيَّنَّا فَسَادَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَمَنْ قَالَ: إنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ لَا يَقَعُ بِحَالٍ، فَقَدْ جَعَلَ نِكَاحَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ نِكَاحِ النَّصَارَى. وَاَللَّهُ قَدْ شَرَعَ الطَّلَاقَ فِي الْجُمْلَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَمَنْ قَالَ: إنَّهَا تُبَاحُ بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِدُونِ زَوْجٍ ثَانٍ، فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَمَنْ اسْتَحَلَّ وَطْأَهَا بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ وَقَعَ بِهِ الثَّلَاثُ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا عُرِّفَ الْحُكْمَ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى اسْتِحْلَالِ ذَلِكَ، فَهُوَ مُرْتَدٌّ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ، بِخِلَافِ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَسَاغَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدِهِمْ، تَنَازَعُوا فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ. هَلْ يَقَعُ فِيهَا الطَّلَاقُ أَوْ لَا يَقَعُ؟ وَهَلْ يَقَعُ وَاحِدَةٌ أَوْ ثَلَاثٌ؟ وَتَنَازَعُوا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ هَلْ الطَّلَاقُ مُبَاحٌ أَوْ مُحَرَّمٌ، وَلَمْ يَتَنَازَعُوا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ، إذَا لَمْ تَسْأَلْهُ الطَّلَاقَ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ، حَتَّى تَطْهُرَ فَيُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، وَإِنَّهُ يُبَاحُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، كَمَا إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ فَإِنَّنَا مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ مُبَاحٌ، فَلَا كَرَاهَةَ وَبِدُونِ الْحَاجَةِ مُكْرَهٌ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَتَحْرُمُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ وَمَوَارِدِ النِّزَاعِ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. وَالْمَسَائِلُ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ، مِنْ مَسَائِلِ الطَّلَاقِ كَثِيرَةٌ، كَمَسَائِلِ الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْخَفِيَّةِ، هَلْ تَقَعُ بِهَا وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ أَوْ يَقَعُ بِالظَّاهِرَةِ، وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ أَوْ ثَلَاثٌ، وَهَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهَا لَا تُبَاحُ بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ إلَّا بِنِكَاحِ زَوْجٍ ثَانٍ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْوَطْءِ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.

مسألة حلف بالطلاق على أمر من الأمور ثم حنث في يمينه

كَمَا ثَبَتَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ نِزَاعٌ إلَّا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إذَا كَانَ النِّكَاحُ نِكَاحَ رَغْبَةٍ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الدُّخُولِ، وَمَنْ نَقَلَ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ مَالِكٍ أَوْ الشَّافِعِيِّ أَوْ دَاوُد أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَقَدْ أَخْطَأَ، إنْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يُقَالُ: إنَّهُ أَعْلَمُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَقَوْلُهُ لِامْرَأَةِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ، لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك» ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّهَا لَا تُبَاحُ لِلْأَوَّلِ إلَّا بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ، وَهُوَ النِّكَاحُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي الْعَادَةِ بِخِلَافِ نِكَاحِ التَّحْلِيلِ، فَإِنَّ جُمْهُورَ السَّلَفِ لَا يُبِيحُونَهَا بِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ ثُمَّ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ] 545 - 8 - مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فِي مَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ، ثُمَّ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، هَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا؟ وَفِي مَنْ طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، هَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ أَيْضًا أَمْ لَا؟ وَفِي مَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، هَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا أَمْ وَاحِدَةً؟ وَفِي مَنْ قَالَ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، هَلْ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ كَمَا قَالَ أَمْ كَيْفَ الْحُكْمُ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَفِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، حَتَّى اعْتَقَدَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ إجْمَاعٌ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ عَامَّتُهُمْ عَلَيْهِ حُجَّةً، وَحُجَّتُهُمْ عَلَيْهِ ضَعِيفَةٌ جِدًّا، وَهِيَ: أَنَّهُ الْتَزَمَ أَمْرًا عِنْدَ وُجُودِ شَرْطٍ فَلَزِمَهُ مَا الْتَزَمَهُ. وَهَذَا مَنْقُوضٌ بِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ، وَبَعْضُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ: كَنَذْرِ الطَّلَاقِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالْمُبَاحِ، وَكَالْتِزَامِ الْكُفْرِ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ؛ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يُقَالُ بِهِ إلَّا وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ فِي الشَّرْعِ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٌ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مُوجِبُ الْعَقْدِ لُزُومَ مَا الْتَزَمَهُ صَارَ يَظُنُّ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ هَذَا عَقْدٌ لَازِمٌ، وَهَذَا يُوَافِقُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ مُوجِبَةً وَمُحَرِّمَةً، كَمَا يُقَالُ: إنَّهُ كَانَ

[شَرْعُ] مَنْ قَبْلَنَا. لَكِنْ نَسَخَ هَذَا شَرْعُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَرَضَ لِلْمُسْلِمِينَ تَحِلَّةَ أَيْمَانِهِمْ، وَجَعَلَ لَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا عَقْدَ الْيَمِينِ بِمَا فَرَضَهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِلَا رَيْبٍ؛ إلَّا عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ يُرْوَى عَنْ شُرَيْحٍ، وَيُذْكَرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ فِيمَا إذَا قَدَّمَ الطَّلَاقَ. وَإِذَا قِيلَ: يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ؛ فَإِنْ نَوَى بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ تَوْكِيدَ الْأُولَى - لَا إنْشَاءَ يَمِينٍ أُخْرَى - لَمْ يَقَعْ بِهِ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ؛ وَإِنْ أَطْلَقَ وَقَعَ بِهِ ثَلَاثٌ وَقِيلَ: لَا يَقَعُ بِهِ إلَّا وَاحِدَةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ. وَهَذَا مَذْهَبُ دَاوُد وَأَصْحَابُهُ وَطَوَائِفَ مِنْ الشِّيعَةِ. وَيَذْكُرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ؛ بَلْ هُوَ مَأْثُورٌ عَنْ طَائِفَةٍ صَرِيحًا كَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ رِوَايَةَ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ. وَأَصْلُ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ وَالنَّذْرِ: لَغْوٌ، كَالْحَلِفِ بِالْمَخْلُوقَاتِ. وَيُفْتِي بِهِ فِي الْيَمِينِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا بِالْتِزَامِ الطَّلَاقِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ: كَالْقَفَّالِ، وَصَاحِبِ " التَّتِمَّةِ " وَيُنْقَلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَصًّا؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي. أَوْ لَازِمٌ لِي، وَنَحْوُ ذَلِكَ: صِيغَةُ نَذْرٍ، لَا صِيغَةُ إيقَاعٍ، كَقَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ. وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُطَلِّقَ لَمْ يَلْزَمْهُ طَلَاقٌ بِلَا نِزَاعٍ؛ وَلَكِنْ فِي لُزُومِهِ الْكَفَّارَةَ لَهُ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إمَّا مُطْلَقًا. وَإِمَّا إذَا قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ. وَالثَّانِي: لَا. وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَالْقَفَّالِ، وَالْبَغَوِيِّ، وَغَيْرِهِمَا. فَمَنْ جَعَلَ هَذَا نَذْرًا، وَلَمْ يُوجِبْ الْكَفَّارَةَ فِي نَذْرِ الطَّلَاقِ: يُفْتِي بِأَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَا أَفْتَى بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَمَنْ قَالَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ لَزِمَهُ عَلَى قَوْلِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا يُفْتِي بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَبَنَوْهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِنَذْرِ الْمَعَاصِي وَالْمُبَاحَاتِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِتَفْرِيقِهِ بَيْنَ أَنْ

يَقُولَ: عَلَيَّ نَذْرٌ. فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ: إنْ فَعَلْته فَعَلَيَّ نَذْرٌ. فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. فَفَرَّقَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ نَذْرِ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ بِنَذْرِ الطَّلَاقِ. وَأَحْمَدَ عِنْدَهُ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ الْمَنْصُوصِ عَنْهُ: أَنَّ نَذْرَ الطَّلَاقِ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَالْحَلِفُ بِنَذْرِهِ عَلَيْهِ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَجَعَلَهُ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا هُوَ الْمُرَجَّحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَذَكَرُوا ذَلِكَ فِي نَذْرِ جَمِيعِ الْمُبَاحَاتِ؛ لَكِنَّ قَوْلَهُ: الطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ، فِيهِ صِيغَةُ إيقَاعٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، فَإِنْ نَوَى بِذَلِكَ النَّذْرَ فَفِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَهُ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ: إنَّ هَذِهِ يَمِينٌ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَجْرِي فِيهَا مَا يَجْرِي فِي أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْحِنْثِ؛ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْحَالِفُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ فَلَهُ أَنْ يُوقِعَهُ وَلَا كَفَّارَةَ. وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: كَطَاوُسٍ، وَغَيْرِهِ. وَهُوَ مُقْتَضَى الْمَنْقُولِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْبَابِ وَبِهِ يُفْتِي كَثِيرٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى يُقَالَ: إنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ مَنْ يُفْتِي بِذَلِكَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى نُصُوصِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأُصُولُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِذَا كَرَّرَ الْيَمِينَ الْمُكَفِّرَةَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ: فَهَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؟ أَوْ كَفَّارَاتٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. أَشْهَرُهُمَا عَنْهُ تُجْزِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ حَكَاهَا ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، كَمَا حَكَوْهَا فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ وَالنَّذْرِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ: فَفِيهَا الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ؛ لَكِنْ هُنَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ: إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ، كَمَا قَالُوا ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ. فَيَصِحُّ نَذْرُهُ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ. وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَحَفْصَةَ، وَزَيْنَبَ. وَرَوَوْهُ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ. وَأُمِّ سَلَمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ: كَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ، وَغَيْرِهِمَا، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ صَحَابِيٍّ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ؛ لَا فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، وَلَا فِي الْحَلِفِ بِالْعَتَاقِ؛ بَلْ إذَا قَالَ الصَّحَابَةُ: إنَّ

الْحَالِفَ بِالْعِتْقِ لَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ، فَالْحَالِفُ بِالطَّلَاقِ أَوْلَى عِنْدَهُمْ. وَهَذَا كَالْحَلِفِ بِالنَّذْرِ مِثْلُ: أَنْ يَقُولَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ. أَوْ صَوْمُ سَنَةٍ. أَوْ ثُلُثُ مَالِي صَدَقَةٌ. فَإِنَّ هَذَا يَمِينٌ تُجْزِئُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِثْلُ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ التَّابِعِينَ: كَطَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ، وَعِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصِ عَنْهُ، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ بِلَا نِزَاعٍ عَنْهُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اخْتَارَهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ كَابْنِ وَهْبٍ، وَابْنِ أَبِي الْغَمْرِ، وَأَفْتَى ابْنُ الْقَاسِمِ ابْنَهُ بِذَلِكَ. وَالْمَعْرُوفُ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَحْلِفَ بِالطَّلَاقِ، أَوْ الْعَتَاقِ، أَوْ النَّذْرِ: إمَّا أَنْ تُجْزِئَهُ الْكَفَّارَةُ فِي كُلِّ يَمِينٍ. وَإِمَّا أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَهُ كَمَا حَلَفَ بِهِ؛ بَلْ إذَا كَانَ قَوْلُهُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ رَقَبَةً. وَقَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ لَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ؛ بَلْ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَوْ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ لَزِمَهُ بِالِاتِّفَاقِ، فَقَوْلُهُ: فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ، لِأَنَّ قَصْدَ الْيَمِينِ إذَا مُنِعَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْوُجُوبُ فِي الْإِعْتَاقِ وَالْعِتْقِ فَلَأَنْ يَمْنَعَ لُزُومَ الْعِتْقِ وَحْدَهُ أَوْلَى. وَأَيْضًا: فَإِنَّ ثُبُوتَ الْحُقُوقِ فِي الذِّمَمِ أَوْسَعَ نُفُوذًا؛ فَإِنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ وَالْعَبْدَ قَدْ تَثْبُتُ الْحُقُوقُ فِي ذِمَمِهِمْ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُمْ، فَإِذَا كَانَ قَصَدَ الْيَمِينَ مَعَ ثُبُوتِ الْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ فِي الذِّمَّةِ [مَمْنُوعٌ] ، فَلَأَنْ يَمْنَعَ وُقُوعَهُ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَإِذَا كَانَ الْعِتْقُ الَّذِي يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ لَا يَلْزَمُهُ إذَا قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ فَالطَّلَاقُ الَّذِي لَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَ إذَا قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ؛ فَإِنَّ التَّعْلِيقَ إنَّمَا يَلْزَمُ فِيهِ الْجَزَاءُ إذَا قَصَدَ وُجُوبَ الْجَزَاءِ عِنْدَ وُجُوبِ الشَّرْطِ، كَقَوْلِهِ: إنْ أَبْرَأْتِنِي مِنْ صَدَاقِك فَأَنْتَ طَالِقٌ، وَإِنْ شَفَا اللَّهُ مَرِيضِي فَثُلُثُ مَالِي صَدَقَةٌ. وَأَمَّا إذَا كَانَ يَكْرَهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ لِيَحُضَّ نَفْسَهُ أَوْ يَمْنَعَهَا، أَوْ يَحُضَّ غَيْرَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ: فَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ، وَمَالِي صَدَقَةٌ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ، وَنِسَائِي طَوَالِقُ، وَعَلَيَّ عَشْرُ حِجَجٍ، وَصَوْمٌ: فَهَذَا حَالِفٌ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ وَسَائِرِ الطَّوَائِفِ.

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] . وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فِي الصَّحِيحِ، أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ [أَيْمَانَ] جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لَفْظًا وَمَعْنًى؛ وَلَمْ يَخُصَّهُ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ؛ بَلْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ تُحَقِّقُ عُمُومَهُ. وَالْيَمِينُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ مُحْتَرَمٌ مُنْعَقِدٌ مُكَفَّرٌ، كَالْحَلِفِ بِاَللَّهِ. وَنَوْعٌ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ، وَلَا مُنْعَقِدٌ، وَلَا مُكَفَّرٌ. وَهُوَ الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ. فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِينُ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهَا الْكَفَّارَةُ. وَهِيَ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مِنْ الثَّانِي. وَأَمَّا إثْبَاتُ يَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ؛ غَيْرِ مُكَفَّرَةٍ فَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَتَقْسِيمُ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ إلَى يَمِينٍ مُكَفَّرَةٍ وَغَيْرِ مُكَفَّرَةٍ كَتَقْسِيمِ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ إلَى خَمْرٍ، وَغَيْرِ خَمْرٍ. وَتَقْسِيمِ السَّفَرِ إلَى طَوِيلٍ وَقَصِيرٍ. وَتَقْسِيمِ الْمَيْسِرِ إلَى مُحَرَّمٍ وَغَيْرِ مُحَرَّمٍ؛ بَلْ الْأُصُولُ تَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ. وَبَسْطُ الْكَلَامِ لَهُ مَوْضُوعٌ آخَرُ. لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ الثَّالِثَ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ الْكَفَّارَةِ فِي جَمِيعِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي لَا تَتَنَاقَضُ، وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَكَابِرِ التَّابِعِينَ: إمَّا فِي جَمِيعِ الْأَيْمَانِ. وَإِمَّا فِي بَعْضِهَا. وَتَعْلِيلِ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَمِينٌ. وَالتَّعْلِيلُ بِذَلِكَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ. وَالصِّيَغُ ثَلَاثَةٌ: صِيغَةُ تَنْجِيزٍ: كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. فَهَذِهِ لَيْسَتْ يَمِينًا، وَلَا كَفَّارَةَ فِي هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَالثَّانِي: صِيغَةُ قَسَمٍ، كَمَا إذَا قَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَن كَذَا. فَهَذِهِ يَمِينٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْفُقَهَاءِ.

وَالثَّالِثُ: صِيغَةُ تَعْلِيقٍ. فَهَذِهِ إنْ قَصَدَ بِهَا الْيَمِينَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الثَّانِي بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا إنْ قَصَدَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الشَّرْطِ: مِثْلُ أَنْ يَخْتَارَ طَلَاقَهَا إذَا أَعْطَتْهُ الْعِوَضَ، فَيَقُولُ: إنْ أَعْطَيْتنِي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَيَخْتَارُ طَلَاقَهَا إذَا أَتَتْ كَبِيرَةً، فَيَقُولُ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ زَنَيْت، أَوْ سَرَقْت. وَقَصْدُهُ الْإِيقَاعُ عِنْدَ الصِّفَةِ؛ لَا الْحَلِفُ: فَهَذَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالصِّفَةِ رُوِيَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِيهِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ: كَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمُعَاوِيَةَ، وَكَثِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ: وَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ وَمَا عَلِمْت أَحَدًا نَقَلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ الطَّلَاقَ بِالصِّفَةِ لَا يَقَعُ، وَإِنَّمَا عُلِمَ النِّزَاعُ فِيهِ عَنْ بَعْضِ الشِّيعَةِ، وَعَنْ ابْنِ حَزْمٍ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ. وَهَؤُلَاءِ الشِّيعَةُ بَلَغَتْهُمْ فَتَاوَى عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْبَيْتِ فِيمَنْ قَصْدُهُ الْحَلِفُ: فَظَنُّوا أَنَّ كُلَّ تَعْلِيقٍ كَذَلِكَ، كَمَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الْجُمْهُورِ بَلَغَتْهُمْ فَتَاوَى عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِيمَنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِصِفَةٍ أَنَّهُ يَقَعُ عِنْدَهَا: فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يَمِينٌ. وَجَعَلُوا كُلَّ تَعْلِيقٍ يَمِينًا، كَمَنْ قَصْدُهُ الْيَمِينُ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ، وَاَلَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ؛ كَمَا لَمْ يُفَرِّقْ أُولَئِكَ بَيْنَهُمَا فِي نَفْسِ الطَّلَاقِ. وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ أَفْتَى فِي الْيَمِينِ بِلُزُومِ الطَّلَاقِ. كَمَا لَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا مِنْهُمْ أَفْتَى فِي التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ، حَتَّى قَالَ بِهِ دَاوُد وَأَصْحَابُهُ. فَفَرَّقُوا بَيْنَ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ وَاَلَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ، كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا فِي تَعْلِيقِ النَّذْرِ وَغَيْرِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ يَكْرَهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ وَإِنْ وُجِدَتْ الصِّفَةُ، كَقَوْلِ الْمُسْلِمِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ: فَهُوَ يَكْرَهُ الْكُفْرَ وَإِنْ وُجِدَتْ الصِّفَةُ؛ إنَّمَا الْتِزَامُهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ، وَلِيَمْتَنِعَ بِهِ مِنْ الشَّرْطِ؛ لَا لِقَصْدِ وُجُودِهِ عِنْدَ الصِّفَةِ. وَهَكَذَا الْحَلِفُ بِالْإِسْلَامِ لَوْ قَالَ الذِّمِّيُّ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ. وَالْحَالِفُ بِالنَّذْرِ وَالْحَرَامِ وَالظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ، وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ، وَنِسَائِي طَوَالِقُ، وَمَالِي صَدَقَةٌ فَهُوَ يَكْرَهُ هَذَا اللَّوَازِمَ وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ، وَإِنَّمَا عَلَّقَهَا لِيَمْنَعَ نَفْسَهُ مِنْ الشَّرْطِ؛ لَا لِقَصْدِ وُقُوعِهَا، وَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ فَالتَّعْلِيقُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ مِنْ بَابِ الْإِيقَاعِ، وَاَلَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ مِنْ بَابِ

فصل الطلاق في الحيض

الْيَمِينِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَحْكَامَ الطَّلَاقِ، وَأَحْكَامَ الْأَيْمَانِ. وَإِذَا قَالَ: إنْ سَرَقْت. إنْ زَنَيْت: فَأَنْتَ طَالِقٌ. فَهَذَا قَدْ يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقَامُهَا مَعَ هَذَا الْفِعْلِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ طَلَاقِهَا؛ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ زَجْرُهَا وَتَخْوِيفُهَا لِئَلَّا تَفْعَلَ: فَهَذَا حَالِفٌ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَقَدْ يَكُونُ قَصْدُهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِرَاقُهَا أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ الْمَقَامِ مَعَهَا مَعَ ذَلِكَ، فَيَخْتَارُ إذَا فَعَلَتْهُ أَنْ تَطْلُقَ مِنْهُ: فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصَلِّ الطَّلَاق فِي الْحَيْضِ] فَصْلٌ: أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَهُوَ قَوْلُهُ لَهَا: أَنْت طَالِقٌ وَهِيَ حَائِضٌ، فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ فِي تَحْرِيمِهِ نِزَاعٌ، وَهُوَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ. وَأَمَّا طَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَا يَمَسُّهَا فِيهِ، أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا؛ فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ؛ أَوْ بَعْدَ مَا وَطِئَهَا وَقَبْلَ أَنْ يَسْتَبِينَ حَمْلُهَا لَهُ: فَهُوَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] . وَفِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ: «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ فِيهَا النِّسَاءُ» . وَأَمَّا جَمْعُ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مُحَرَّمٌ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: تَدَبَّرْت الْقُرْآنَ فَإِذَا كُلُّ طَلَاقٍ فِيهِ فَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ - يَعْنِي طَلَاقَ الْمَدْخُولِ بِهَا - غَيْرَ قَوْلِهِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]

، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَهَلْ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ قَبْلَ الرَّجْعَةِ بِأَنْ يُفَرِّقَ الطَّلَاقَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ فَيُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ طُهْرٍ طَلْقَةً؟ فِيهِ، قَوْلَانِ: هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. إحْدَاهُمَا: لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِيَةُ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ الَّتِي اخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَأَصْحَابِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنْ جَمَعَ الثَّلَاثَ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ؛ بَلْ هُوَ تَرْكُ الْأَفْضَلِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: اخْتَارَهَا الْخِرَقِيِّ. وَاحْتَجُّوا «بِأَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ، طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَبُو حَفْصِ بْنُ الْمُغِيرَةِ ثَلَاثًا، وَبِأَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا، وَبِأَنَّ الْمُلَاعِنَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ» . وَأَجَابَ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّ حَدِيثَ فَاطِمَةَ وَامْرَأَةِ رِفَاعَةَ إنَّمَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَاتٍ، هَكَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الثَّالِثَةَ آخِرُ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ؛ لَمْ يُطَلِّقْ ثَلَاثًا لَا هَذَا وَلَا هَذَا مُجْتَمَعَاتٍ. وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ: طَلَّقَ ثَلَاثًا. يَتَنَاوَلُ مَا إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَاتٍ. بِأَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يُرَاجِعَهَا، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يُرَاجِعَهَا، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يُرَاجِعَهَا؛ ثُمَّ يُطَلِّقَهَا. وَهَذَا طَلَاقٌ سُنِّيٌّ وَاقِعٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَعْنَى الطَّلَاقِ ثَلَاثًا. وَأَمَّا جَمْعُ الثَّلَاثِ بِكَلِمَةٍ فَهَذَا كَانَ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ. إنَّمَا يَقَعُ قَلِيلًا؛ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْقَلِيلِ الْمُنْكَرِ دُونَ الْكَثِيرِ الْحَقِّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يُطَلِّقُ مُجْتَمَعَاتٍ لَا هَذَا وَلَا هَذَا؛ بَلْ هَذَا قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ؛ بَلْ هُوَ بِخِلَافِ الدَّلِيلِ. وَأَمَّا الْمُلَاعِنُ فَإِنَّ طَلَاقَهُ وَقَعَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ؛ أَوْ بَعْدَ وُجُوبِ الْإِبَانَةِ الَّتِي تَحْرُمُ بِهَا الْمَرْأَةُ أَعْظَمَ مِمَّا يَحْرُمُ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَانَ مُؤَكِّدًا لِمُوجِبِ اللِّعَانِ، وَالنِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي طَلَاقِ مَنْ يُمْكِنُهُ إمْسَاكُهَا؛ لَا سِيَّمَا وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الثَّلَاثِ لَمْ يَقَعْ بِهَا ثَلَاثٌ وَلَا غَيْرُهَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا دَلَّ عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ. وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ لَمْ يَقَعْ بِهَا، إذْ لَوْ وَقَعَتْ لَكَانَتْ قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَامْتَنَعَ حِينَئِذٍ أَنْ يُفَرِّقَ

النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا صَارَا أَجْنَبِيَّيْنِ، وَلَكِنَّ غَايَةَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: حَرَّمَهَا عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا. فَيُقَالُ: فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُحَرِّمَهَا عَلَيْهِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؛ فَلَمَّا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا دَلَّ عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ، وَإِنَّ الثَّلَاثَ لَمْ تَقَعْ جَمِيعًا؛ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ: إنَّهُ يَقَعُ بِهَا وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ فِيهِ حِينَئِذٍ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. «وَقَوْلُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: طَلَّقَهَا ثَلَاثًا. فَأَنْفَذَهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ احْتَاجَ إلَى إنْفَاذِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاخْتِصَاصِ الْمُلَاعِنِ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ شَرْعِهِ أَنَّهَا تَحْرُمُ بِالثَّلَاثِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُلَاعِنِ اخْتِصَاصٌ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إنْفَاذٍ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ الْمُلَاعِنُ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثَ أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ أَنْفَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقْصُودَهُ، بَلْ زَادَهُ؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَ اللِّعَانِ أَبْلَغُ مِنْ تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ؛ إذْ تَحْرِيمُ اللِّعَانِ لَا يَزُولُ وَإِنْ نَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَهُوَ مُؤَبَّدٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لَا يَزُولُ بِالتَّوْبَةِ. وَاسْتَدَلَّ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبِحْ إلَّا الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ، وَإِلَّا الطَّلَاقَ لِلْعِدَّةِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] إلَى قَوْلِهِ: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] . وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الرَّجْعِيِّ. وَقَوْلِهِ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إرْدَافُ الطَّلَاقِ لِلطَّلَاقِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ أَوْ يُرَاجِعَهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ الطَّلَاقَ لِلْعِدَّةِ. أَيْ لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ، فَمَتَى طَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ قَبْلَ الرَّجْعَةِ بَنَتْ عَلَى الْعِدَّةِ وَلَمْ تَسْتَأْنِفْهَا بِاتِّفَاقِ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ عَنْ خِلَاسٍ وَابْنِ حَزْمٍ فَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ فَإِنَّ هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ إضْرَارَ امْرَأَتِهِ طَلَّقَهَا حَتَّى إذَا شَارَفَتْ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لِيُطِيلَ حَبْسَهَا، فَلَوْ كَانَ إذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ إلَى أَنْ يُرَاجِعَهَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَصَرَهُمْ عَلَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ دَفْعًا لِهَذَا الضَّرَرِ، كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُسْتَقِرًّا عِنْدَ اللَّهِ أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تُسْتَأْنَفُ بِدُونِ رَجْعَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ؟ أَوْ يَقَعُ وَلَا يُسْتَأْنَفُ لَهُ الْعِدَّةُ؟ وَابْنُ حَزْمٍ إنَّمَا أَوْجَبَ اسْتِئْنَافَ الْعِدَّةِ بِأَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ، فَلَا يَكُونُ طَلَاقٌ إلَّا يَتَعَقَّبُهُ عِدَّةٌ؛ إذْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ؛ فَلَزِمَهُ عَلَى ذَلِكَ هَذَا الْقَوْلُ الْفَاسِدُ.

وَأَمَّا مَنْ أَخَذَ بِمُقْتَضَى الْقُرْآنِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ فَإِنَّهُ يَقُولُ: إنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ هُوَ مَا يَتَعَقَّبُهُ الْعِدَّةُ، وَمَا كَانَ صَاحِبُهُ مُخَيَّرًا فِيهَا بَيْنَ الْإِمْسَاكِ بِمَعْرُوفٍ وَالتَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ، وَهَذَا مُنْتَفٍ فِي إيقَاعِ الثَّلَاثِ فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ الرَّجْعَةِ، فَلَا يَكُونُ جَائِزًا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا لِلْعِدَّةِ، وَلِأَنَّهُ قَالَ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] فَخَيَّرَهُ بَيْنَ الرَّجْعَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَدَعَهَا تَقْضِي الْعِدَّةَ فَيُسَرِّحَهَا بِإِحْسَانٍ، فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَانِيَةً قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَمْ يُمْسِكْ بِمَعْرُوفٍ وَلَمْ يُسَرِّحْ بِإِحْسَانٍ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] . فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا حَالُ كُلِّ مُطَلَّقَةٍ، فَلَمْ يُشْرَعْ إلَّا هَذَا الطَّلَاقُ، ثُمَّ قَالَ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ، أَيْ: هَذَا الطَّلَاقُ الْمَذْكُورُ (مَرَّتَانِ) . وَإِذَا قِيلَ: سَبَّحَ مَرَّتَيْنِ. أَوْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَنْطِقَ بِالتَّسْبِيحِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ: طَلَّقَ مَرَّتَيْنِ إلَّا إذَا طَلَّقَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَإِذَا قَالَ: أَنْت طَالِقٌ ثَلَاثًا. أَوْ مَرَّتَيْنِ: لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: طَلَّقَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ؛ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: طَلَّقَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ؛ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . فَهَذِهِ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ لَمْ يَشْرَعْهَا اللَّهُ إلَّا بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ مَرَّتَيْنِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] الْآيَةَ. وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ، وَهُوَ يَعُمُّ كُلَّ طَلَاقٍ، فَعُلِمَ أَنَّ جَمِيعَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ. وَدَلَائِلُ تَحْرِيمِ الثَّلَاثِ كَثِيرَةٌ قَوِيَّةٌ: مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْآثَارِ، وَالِاعْتِبَارِ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ " الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ " وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْهُ قَدْرُ الْحَاجَةِ، كَمَا

ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ إبْلِيسَ يَنْصِبُ عَرْشَهُ عَلَى الْبَحْرِ، وَيَبْعَثُ سَرَايَاهُ: فَأَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، فَيَأْتِيهِ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ: مَا زِلْت بِهِ حَتَّى فَعَلَ كَذَا؛ حَتَّى يَأْتِيَهُ الشَّيْطَانُ فَيَقُولَ: مَا زِلْت بِهِ حَتَّى فَرَّقْت بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ؛ فَيُدْنِيَهُ مِنْهُ؛ وَيَقُولُ: أَنْتَ، أَنْتَ، وَيَلْتَزِمُهُ» . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي ذَمِّ السِّحْرِ: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ الْمُخْتَلِعَاتِ وَالْمُنْتَزِعَاتِ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ» . وَفِي السُّنَنِ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ» . وَلِهَذَا لَمْ يُبَحْ إلَّا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَإِذَا كَانَ إنَّمَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ، فَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِوَاحِدَةٍ، فَمَا زَادَ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى الْحَظْرِ. الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ الَّذِي يُسَمَّى " طَلَاقَ الْبِدْعَةِ " إذَا أَوْقَعَهُ الْإِنْسَانُ هَلْ يَقَعُ، أَمْ لَا؟ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ بِوُقُوعِهِ مَعَ الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَقَعُ. مِثْلُ طَاوُسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَخِلَاسٍ، وَعُمَرَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ. وَأَهْلِ الظَّاهِرِ: كَدَاوُد، وَأَصْحَابِهِ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ. وَيُرْوَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: دَاوُد وَأَصْحَابُهُ؛ لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَقُولُ بِتَحْرِيمِ الثَّلَاثِ. وَمِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ مَجْمُوعُ الثَّلَاثِ إذَا أَوْقَعَهَا جَمِيعًا؛ بَلْ يَقَعُ مِنْهَا وَاحِدَةٌ؛ وَلَمْ يُعْرَفْ قَوْلُهُ فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ؛ وَلَكِنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ جَمِيعًا قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالشِّيعَةِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: إذَا أَوْقَعَ الثَّلَاثَ جُمْلَةً لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ أَصْلًا، لَكِنَّ هَذَا قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ لَا يُعْرَفُ لِقَائِلِهِ سَلَفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالشِّيعَةِ؛ لَكِنْ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ لَا يَقُولُ بِتَحْرِيمِ جَمْعِ

الثَّلَاثِ؛ فَلِذَا يُوقِعُهَا، وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً. وَمِنْهُمْ مَنْ عُرِفَ قَوْلُهُ فِي الثَّلَاثِ وَلَمْ يُعْرَفْ قَوْلُهُ فِي الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ، كَمَنْ يُنْقَلُ عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. وَابْنِ عُمَرَ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ. وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى أَشْهَرُ وَأَثْبَتُ: أَنَّهُ يَقَع. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدٍ. وَأَمَّا جَمْعُ الثَّلَاثِ: فَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ فِيهَا كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ: رُوِيَ الْوُقُوعُ فِيهَا عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَرُوِيَ عَدَمُ الْوُقُوعِ فِيهَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعَنْ عُمَرَ صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَعَنْ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُغِيثٍ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " الْمُقْنِعَ فِي أُصُولِ الْوَثَائِقِ. وَبَيَانُ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الدَّقَائِقِ ": وَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بَعْدَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مُطَلِّقٌ كَمْ يَلْزَمُهُ مِنْ الطَّلَاقِ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: يَلْزَمُهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: " ثَلَاثًا " لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُخْبِرًا عَمَّا مَضَى فَيَقُولُ: طَلَّقْت ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يُخْبِرُ عَنْ ثَلَاثِ طَلْقَاتٍ أَتَتْ مِنْهُ فِي ثَلَاثَةِ أَفْعَالٍ كَانَتْ مِنْهُ، فَذَلِكَ يَصِحُّ. وَلَوْ طَلَّقَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَالَ: طَلَّقْتهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَكَانَ كَاذِبًا، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ ثَلَاثًا يُرَدِّدُ الْحَلِفَ كَانَتْ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ وَأَمَّا لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ فَقَالَ: أَحْلِفُ بِاَللَّهِ ثَلَاثًا لَمْ يَكُنْ حَلَفَ إلَّا يَمِينًا وَاحِدَةً، وَالطَّلَاقُ مِثْلُهُ: قَالَ: وَمِثْلُ ذَلِكَ قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَوَيْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ عَنْ ابْنِ وَضَّاحٍ يَعْنِي الْإِمَامَ مُحَمَّدَ بْنَ وَضَّاحٍ - الَّذِي يَأْخُذُ عَنْ طَبَقَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَسَحْنُونَ بْنِ سَعِيدٍ وَطَبَقَتِهِمْ قَالَ: وَبِهِ قَالَ مِنْ شُيُوخِ قُرْطُبَةَ ابْنُ زِنْبَاعٍ شَيْخُ هُدًى، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْحُسَيْنِيُّ فَقِيهُ عَصْرِهِ، وَابْنُ بَقِيٍّ بْنِ مَخْلَدٍ، وَأَصْبَغُ بْنُ الْحُبَابِ، وَجَمَاعَةٌ سِوَاهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ قُرْطُبَةَ، وَذُكِرَ هَذَا عَنْ بِضْعَةَ عَشَرَ فَقِيهًا مِنْ فُقَهَاءِ طُلَيْطِلَة الْمُتَعَبِّدِينَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. قُلْت: وَقَدْ ذَكَرَهُ التِّلِمْسَانِيُّ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ مِنْ

أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ. حَكَاهُ عَنْ الْمَازِنِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ هَذَا رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ، وَكَانَ يُفْتِي بِذَلِكَ أَحْيَانًا الشَّيْخُ أَبُو الْبَرَكَاتِ بْنُ تَيْمِيَّةَ، وَهُوَ وَغَيْرُهُ يَحْتَجُّونَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا عَنْ طَاوُسٍ، «وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا أَمْرًا كَانَ لَهُمْ، فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: هَاتِ مِنْ هَنَاتِك،، أَلَمْ يَكُنْ طَلَاقُ الثَّلَاثِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً؟ قَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ وَأَجَازَهُ» . وَاَلَّذِينَ رَدُّوا هَذَا الْحَدِيثَ تَأَوَّلُوهُ بِتَأْوِيلَاتٍ ضَعِيفَةٍ، وَكَذَلِكَ كُلُّ حَدِيثٍ فِيهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْزَمَ الثَّلَاثَ بِيَمِينٍ أَوْقَعَهَا جُمْلَةً، أَوْ أَنَّ أَحَدًا فِي زَمَنِهِ أَوْقَعَهَا جُمْلَةً فَأَلْزَمَهُ بِذَلِكَ» : مِثْلُ حَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ، وَآخَرَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَآخَرَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكُلُّهَا أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، بَلْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ، وَيَعْرِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِنَقْدِ الْحَدِيثِ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَقْوَى مَا رَدُّوهُ بِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ أَفْتَى بِلُزُومِ الثَّلَاثِ. وَجَوَابُ الْمُسْتَدِلِّينَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُهَا وَاحِدَةً؛ وَثَبَتَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُوَافِقُ حَدِيثَ طَاوُسٍ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ؛ وَلَمْ يَثْبُتْ خِلَافُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَالْمَرْفُوعُ: «إنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ؛ حَدَّثَنَا أَبِي؛ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي دَاوُد بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ؛ «قَالَ: طَلَّقَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ أَخُو بَنِي الْمُطَّلِبِ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا

فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؛ فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا. قَالَ: فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ: كَيْفَ طَلَّقْتهَا؟ قَالَ: فَقَالَ: طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا قَالَ: فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّهَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ فَأَرْجِعْهَا إنْ شِئْت. قَالَ: فَرَاجَعَهَا» ؛ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إنَّمَا الطَّلَاقُ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ. قُلْت: وَهَذَا الْحَدِيثُ قَالَ فِيهِ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي دَاوُد؛ وَدَاوُد مِنْ شُيُوخِ مَالِكٍ وَرِجَالِ الْبُخَارِيِّ؛ وَابْنِ إِسْحَاقَ إذَا قَالَ: حَدَّثَنِي. فَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَهَذَا إسْنَادٌ جَيِّدٌ؛ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو دَاوُد هَذَا الطَّرِيقَ الْجَيِّدَ؛ فَلِذَلِكَ ظَنَّ أَنَّ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً بَائِنًا أَصَحُّ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ؛ بَلْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَجَّحَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلَى تِلْكَ؛ وَهُوَ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَهَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ رُكَانَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَهُوَ رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَهُوَ أَثْبَتُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ وَنَافِعِ بْنِ عُجَيْنٍ: «أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ، وَإنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَحْلَفَهُ، فَقَالَ: مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً؟» فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَجَاهِيلُ لَا تُعْرَفُ أَحْوَالُهُمْ، وَلَيْسُوا فُقَهَاءَ، وَقَدْ ضَعَّفَ حَدِيثَهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ حَزْمٍ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدِيثُ رُكَانَةَ فِي أَلْبَتَّةَ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدِيثُ رُكَانَةَ لَا يَثْبُتُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ، لِأَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ يَرْوِيهِ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا "، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ " ثَلَاثًا " أَلْبَتَّةَ. فَقَدْ اسْتَدَلَّ أَحْمَدُ عَلَى بُطْلَانِ حَدِيثِ أَلْبَتَّةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَبَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ مَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا طَلَّقَ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ، وَقَدْ بَيَّنَهُ غَيْرُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ هُوَ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي دَاوُد بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ إسْنَادٌ ثَابِتٌ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى زَوْجِهَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ»

وَصَحَّحَ ذَلِكَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَابْنُ إِسْحَاقَ إذَا قَالَ: حَدَّثَنِي. فَحَدِيثُهُ صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ إنَّمَا يُخَافُ عَلَيْهِ التَّدْلِيسُ إذَا عَنْعَنَ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَكِلَاهُمَا يُوَافِقُ حَدِيثَ طَاوُسٍ عَنْهُ، وَأَحْمَدُ كَانَ يُعَارِضُ حَدِيثَ طَاوُسٍ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَنَحْوَهُ. وَكَانَ أَحْمَدُ يَرَى جَمْعَ الثَّلَاثِ جَائِزًا، ثُمَّ رَجَعَ أَحْمَدُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ تَدَبَّرْت الْقُرْآنَ فَوَجَدْت الطَّلَاقَ الَّذِي فِيهِ هُوَ الرَّجْعِيُّ. أَوْ كَمَا قَالَ. وَاسْتَقَرَّ مَذْهَبُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ، وَتَبَيَّنَ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ أَنَّهَا كَانَتْ مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَاتٍ؛ لَا مَجْمُوعَةً، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُ حَدِيثَانِ عَنْ النَّبِيِّ: أَنَّ مَنْ جَمَعَ ثَلَاثًا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا وَاحِدَةٌ. وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ؛ بَلْ الْقُرْآنُ يُوَافِقُ ذَلِكَ، وَالنَّهْيُ عِنْدَهُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ. فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَالْأُصُولُ الثَّابِتَةُ عَنْهُ تَقْتَضِي مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا وَاحِدَةٌ، وَعُدُولُهُ عَنْ الْقَوْلِ بِحَدِيثِ رُكَانَةَ وَغَيْرِهِ كَانَ أَوَّلًا لَمَّا عَارَضَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مِنْ جَوَازِ جَمْعِ الثَّلَاثِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ؛ ثُمَّ إنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْمُعَارَضَةِ، وَتَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُ هَذَا الْمُعَارِضِ. وَإِنْ جَمَعَ الثَّلَاثَ لَا يَجُوزُ: فَوَجَبَ عَلَى أَصْلِهِ الْعَمَلُ بِالنُّصُوصِ السَّالِمَةِ عَنْ الْمُعَارِضِ، وَلَيْسَ يُعَلُّ حَدِيثُ طَاوُسٍ بِفُتْيَا ابْنِ عَبَّاسٍ بِخِلَافِهِ: وَهَذَا عَلِمَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: وَلَكِنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِهِ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ عُذْرَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْإِلْزَامِ بِالثَّلَاثِ. وَابْنُ عَبَّاسٍ عُذْرَهُ هُوَ الْعُذْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ لَمَّا تَتَابَعُوا فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ اسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ عَلَى ذَلِكَ فَعُوقِبُوا بِلُزُومِهِ، بِخِلَافِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُكْثِرِينَ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ. وَهَذَا كَمَا أَنَّهُمْ لَمَّا أَكْثَرُوا شُرْبَ الْخَمْرِ وَاسْتَخَفُّوا بِحَدِّهَا كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ فِيهَا ثَمَانِينَ، وَيَنْفِي فِيهَا، وَيَحْلِقُ الرَّأْسَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَمَا قَاتَلَ عَلِيٌّ بَعْضَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ هُوَ مِمَّا كَانُوا يُعَاقَبُونَ بِهِ أَحْيَانًا: إمَّا مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ، وَإِمَّا بِدُونِهِ. فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ، وَالْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ عُقُوبَةً لَهُ لِيَمْتَنِعَ عَنْ الطَّلَاقِ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَمَنْ

وَافَقَهُ كَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ حَرَّمُوا الْمَنْكُوحَةَ فِي الْعِدَّةِ عَلَى النَّاكِحِ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ فَعُوقِبَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَالْحُكْمَانِ لَهُمَا عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ أَنْ يُفَرِّقَا بَيْنَهُمَا بِلَا عِوَضٍ إذَا رَأَيَا الزَّوْجَ ظَالِمًا مُعْتَدِيًا؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَنْعِهِ مِنْ الظُّلْمِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الزَّوْجَةِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْآثَارُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَإِلْزَامُ عُمَرَ بِالثَّلَاثِ لَمَّا أَكْثَرُوا مِنْهُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ رَآهُ عُقُوبَةً تُسْتَعْمَلُ وَقْتَ الْحَاجَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَآهُ شَرْعًا لَازِمًا؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الرُّخْصَةَ كَانَتْ لَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يُوقِعُونَهُ إلَّا قَلِيلًا: وَهَكَذَا كَمَا اخْتَلَفَ كَلَامُ النَّاسِ فِي نَهْيِهِ عَنْ الْمُتْعَةِ: هَلْ كَانَ نَهْيَ اخْتِيَارٍ؛ لِأَنَّ إفْرَادَ الْحَجِّ بِسَفْرَةٍ وَالْعُمْرَةِ بِسُفْرَةٍ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ التَّمَتُّعِ؟ أَوْ كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ الْفَسْخِ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِالصَّحَابَةِ؟ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالصَّحَابَةُ قَدْ نَازَعُوهُ فِي ذَلِكَ، وَخَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى وَغَيْرِهِمْ: فِي الْمُتْعَةِ فِي الْإِلْزَامِ بِالثَّلَاثِ. وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ وَجَبَ رَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، كَمَا أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَرَى أَنَّ الْمَبْتُوتَةَ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى، وَنَازَعَهُ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى قَوْلِهِمْ. وَكَانَ هُوَ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَرَيَانِ أَنَّ الْجُنُبَ لَا يَتَيَمَّمُ، وَخَالَفَهُمَا عَمَّارٌ وَأَبُو مُوسَى وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَأَطْبَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ؛ لَمَّا كَانَ مَعَهُمْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا كَثِيرٌ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَا أَخَذَ النَّاسُ بِهِ. وَاَلَّذِينَ لَا يَرَوْنَ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ لَازِمًا يَقُولُونَ: هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ: كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ: أَنَّ إيقَاعَاتِ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ لَا تَقَعُ لَازِمَةً: كَالْبَيْعِ الْمُحَرَّمِ، وَالنِّكَاحِ الْمُحَرَّمِ، وَالْكِتَابَةِ الْمُحَرَّمَةِ، وَلِهَذَا أَبْطَلُوا نِكَاحَ الشِّغَارِ، وَنِكَاحَ الْمُحَلِّلِ، وَأَبْطَلَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ الْبَيْعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِنْدَ النِّدَاءِ؛ وَهَذَا بِخِلَافِ الظِّهَارِ الْمُحَرَّمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَفْسَهُ مُحَرَّمٌ؛ كَمَا يَحْرُمُ الْقَذْفُ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَسَائِرُ الْأَقْوَالِ الَّتِي هِيَ فِي نَفْسِهَا مُحَرَّمَةٌ: فَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْقَسِمَ إلَى صَحِيحٍ وَغَيْرِ صَحِيحٍ؛ بَلْ صَاحِبُهَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِكُلِّ حَالٍ، فَعُوقِبَ الْمُظَاهِرُ بِالْكَفَّارَةِ، وَلَمْ يَحْصُلْ مَا قَصَدَهُ بِهِ مِنْ الطَّلَاقِ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِهِ الطَّلَاقَ وَهُوَ مُوجِبُ لَفْظِهِ؛ فَأَبْطَلَ الشَّارِعُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مُحَرَّمٌ؛ وَأَوْجَبَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ. أَمَّا الطَّلَاقُ

فَجِنْسُهُ مَشْرُوعٌ: كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ؛ فَهُوَ يَحِلُّ تَارَةً، وَيَحْرُمُ تَارَةً فَيَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ، كَمَا يَنْقَسِمُ الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ. وَالنَّهْيُ فِي هَذَا الْجِنْسِ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُطَلِّقُونَ بِالظِّهَارِ فَأَبْطَلَ الشَّارِعُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مُحَرَّمٌ: كَانَ مُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ مُحَرَّمٍ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِلَّا فَهُمْ كَانُوا يَقْصِدُونَ الطَّلَاقَ بِلَفْظِ الظِّهَارِ؛ كَلَفْظِ الْحَرَامِ. وَهَذَا قِيَاسُ أَصْلِ الْأَئِمَّةِ: مَالِكٍ؛ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. وَلَكِنْ الَّذِي خَالَفُوا قِيَاسَ أُصُولِهِمْ فِي الطَّلَاقِ خَالَفُوهُ لِمَا بَلَغَهُمْ مِنْ الْآثَارِ. فَلَمَّا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اعْتَدَّ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ الَّتِي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ قَالُوا: هُمْ أَعْلَمُ بِقِصَّتِهِ، فَاتَّبَعُوهُ فِي ذَلِكَ. وَمَنْ نَازَعَهُمْ يَقُولُ: مَا زَالَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ يَرْوُونَ أَحَادِيثَ وَلَا تَأْخُذُ الْعُلَمَاءُ بِمَا فَهِمُوهُ مِنْهَا؛ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَا رَوَوْهُ؛ لَا بِمَا رَأَوْهُ وَفَهِمُوهُ. وَقَدْ تَرَكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ قَوْلَهُ: «فَاقْدُرُوا لَهُ» ، وَتَرَكَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمَا تَفْسِيرَهُ لِحَدِيثِ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ» مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ. وَتَرَكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ تَفْسِيرَهُ لِقَوْلِهِ: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] . وَقَوْلُهُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا. وَكَذَلِكَ إذَا خَالَفَ الرَّاوِي مَا رَوَاهُ، كَمَا تَرَكَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا؛ مَعَ أَنَّهُ رَوَى «حَدِيثَ بَرِيرَةَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ خَيَّرَهَا بَعْدَ أَنْ بِيعَتْ وَعَتَقَتْ» ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَا رَوَوْهُ، لَا مَا رَأَوْهُ وَفَهِمُوهُ. وَلَمَّا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ عَنْ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ أَلْزَمُوا بِالثَّلَاثِ الْمَجْمُوعَةِ قَالُوا: لَا يُلْزِمُونَ بِذَلِكَ إلَّا وَذَلِكَ مُقْتَضَى الشَّرْعِ؛ وَاعْتَقَدَ طَائِفَةٌ لُزُومَ هَذَا الطَّلَاقِ وَإِنَّ ذَلِكَ إجْمَاعٌ؛ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَعْلَمُوا خِلَافًا ثَابِتًا؛ لَا سِيَّمَا وَصَارَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ مَعْرُوفًا عَنْ الشِّيعَةِ الَّذِينَ لَمْ يَنْفَرِدُوا عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِحَقٍّ. قَالَ الْمُسْتَدِلُّونَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ بَعْضُ الشِّيعَةِ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَقُولُونَ:

جَامِعُ الثَّلَاثِ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ. هَذَا الْقَوْلُ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ؛ بَلْ قَدْ تَقَدَّمَ الْإِجْمَاعُ عَلَى بَعْضِهِ؛ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ هَلْ يَلْزَمُهُ وَاحِدَةٌ؟ أَوْ يَقَعُ ثَلَاثٌ؟ وَالنِّزَاعُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ ثَابِتٌ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ؛ وَلَيْسَ مَعَ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ شَرْعًا لَازِمًا لِلْأُمَّةِ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا: مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إجْمَاعٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ احْتَجَّ عَلَى هَذَا بِالْكِتَابِ، وَبَعْضُهُمْ بِالسُّنَّةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ: وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِحُجَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ لَكِنَّ الْمُنَازَعَ يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا حُجَجٌ ضَعِيفَةٌ، وَأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالِاعْتِبَارَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ اللُّزُومِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا إجْمَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ بَلْ الْآثَارُ الثَّابِتَةُ عَمَّنْ أُلْزِمَ بِالثَّلَاثِ مَجْمُوعَةً عَنْ الصَّحَابَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِمَّا شَرَعَهُ النَّبِيُّ لِأُمَّتِهِ شَرْعًا لَازِمًا، كَمَا شُرِعَ تَحْرِيمُ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ؛ بَلْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ فِي الْعُقُوبَةِ بِإِلْزَامِ ذَلِكَ إذَا كَثُرَ وَلَمْ يَنْتَهِ النَّاسُ عَنْهُ. وَقَدْ ذُكِرَتْ الْأَلْفَاظُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ الصَّحَابَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَلْزَمُوا بِالثَّلَاثِ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ بِإِيقَاعِهَا جُمْلَةً، فَأَمَّا مَنْ كَانَ يَتَّقِي اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] فَمَنْ لَا يَعْلَمُ التَّحْرِيمَ حَتَّى أَوْقَعَهَا، ثُمَّ لَمَّا عَلِمَ التَّحْرِيمَ تَابَ وَالْتَزَمَ أَنْ لَا يَعُودَ إلَى الْمُحَرَّمِ، فَهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَاقَبَ؛ وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ: الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْقِيَاسِ، مَا يُوجِبُ لُزُومَ الثَّلَاثِ لَهُ، وَنِكَاحُهُ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ، وَامْرَأَتُهُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْغَيْرِ بِيَقِينٍ، وَفِي إلْزَامِهِ بِالثَّلَاثِ إبَاحَتُهَا لِلْغَيْرِ مَعَ تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَذَرِيعَةٌ إلَى نِكَاحِ التَّحْلِيلِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَنِكَاحُ التَّحْلِيلِ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ وَخُلَفَائِهِ. وَلَمْ يُنْقَلْ قَطُّ أَنَّ امْرَأَةً أُعِيدَتْ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ عَلَى عَهْدِهِمْ إلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ؛ بَلْ: «لَعَنَ النَّبِيُّ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» ، وَ «لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَكَاتِبَهُ» . وَلَمْ يَذْكُرْ فِي التَّحْلِيلِ الشُّهُودَ وَلَا الزَّوْجَةَ وَلَا الْوَلِيَّ؛ لِأَنَّ التَّحْلِيلَ الَّذِي

كَانَ يُفْعَلُ كَانَ مَكْتُومًا بِقَصْدِ الْمُحَلِّلِ أَوْ يَتَوَاطَأُ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُطَلِّقُ الْمُحَلَّلُ لَهُ، وَالْمَرْأَةُ وَوَلِيُّهَا لَا يَعْلَمُونَ قَصْدَهُ، وَلَوْ عَلِمُوا لَمْ يَرْضَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْتَقْبَحَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ عِنْدَ النَّاسِ؛ وَلِأَنَّ عَادَاتِهِمْ لَمْ تَكُنْ بِكِتَابَةِ الصَّدَاقِ فِي كِتَابٍ، وَلَا إشْهَادَ عَلَيْهِ؛ بَلْ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ وَيُعْلِنُونَ النِّكَاحَ، وَلَا يَلْتَزِمُونَ أَنْ يُشْهِدُوا عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ وَقْتَ الْعَقْدِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ؛ وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ فِي الْإِشْهَادِ عَلَى النِّكَاحِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. هَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ. فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَحْلِيلٌ ظَاهِرٌ، وَرَأَى فِي إنْفَاذِ الثَّلَاثِ زَجْرًا لَهُمْ عَنْ الْمُحَرَّمِ، فَعَلَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ. أَمَّا إذَا كَانَ الْفَاعِلُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، وَإِنْفَاذُ الثَّلَاثِ يُفْضِي إلَى وُقُوعِ التَّحْلِيلِ الْمُحَرَّمِ - بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - وَالِاعْتِقَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَالَ مَفْسَدَةٌ حَقِيقِيَّةٌ بِمَفَاسِدَ أَغْلَظَ مِنْهَا؛ بَلْ جَعْلُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ، كَمَا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ أَوْلَى؛ وَلِهَذَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِثْلُ أَبِي الْبَرَكَاتِ يُفْتُونَ بِلُزُومِ الثَّلَاثِ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، كَمَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ. وَهَذَا: إمَّا لِكَوْنِهِمْ رَأَوْهُ مِنْ بَابِ التَّعْزِيرِ الَّذِي يَجُوزُ فِعْلُهُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ؛ كَالزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعِينَ فِي الْخَمْرِ وَالنَّفْيِ فِيهِ، وَحَلْقِ الرَّأْسِ. وَإِمَّا لِاخْتِلَافِ اجْتِهَادِهِمْ: فَرَأَوْهُ تَارَةً لَازِمًا. وَتَارَةً غَيْرَ لَازِمٍ. وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ. لِأُمَّتِهِ شَرْعًا لَازِمًا إنَّمَا لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ نَسْخٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِأَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْصِدَ هَذَا؛ لَا سِيَّمَا الصَّحَابَةُ؛ لَا سِيَّمَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ؛ وَإِنَّمَا يَظُنُّ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ أَهْلُ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ: كَالرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ أَوْ يُفَسِّقُونَهُ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ أَحَدًا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُقِرَّهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا إقْرَارٌ عَلَى أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ، وَالْأُمَّةُ مَعْصُومَةٌ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ: كَعِيسَى بْنِ أَبَانَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ يُنْسَخُ بِهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكُنَّا نَتَأَوَّلُ كَلَامَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَدُلُّ عَلَى نَصٍّ نَاسِخٍ، فَوَجَدْنَا مَنْ ذُكِرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْإِجْمَاعَ نَفْسَهُ نَاسِخًا، فَإِنْ كَانُوا أَرَادُوا ذَلِكَ فَهَذَا قَوْلٌ يُجَوِّزُ تَبْدِيلَ الْمُسْلِمِينَ دِينَهُمْ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ، كَمَا تَقُولُ النَّصَارَى مِنْ: أَنَّ الْمَسِيحَ سَوَّغَ لِعُلَمَائِهِمْ أَنْ يُحَرِّمُوا مَا رَأَوْا تَحْرِيمَهُ مَصْلَحَةً،

وَيُحِلُّوا مَا رَأَوْا تَحْلِيلَهُ مَصْلَحَةً، وَلَيْسَ هَذَا دِينُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا كَانَ الصَّحَابَةُ يُسَوِّغُونَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ. وَمَنْ اعْتَقَدَ فِي الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِلُّونَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ كَمَا يُسْتَتَابُ أَمْثَالُهُ؛ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ الْحَاكِمُ وَالْمُفْتِي فَيُصِيبُ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرَانِ، وَيُخْطِئُ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ. وَمَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرْعًا مُعَلَّقًا بِسَبَبٍ إنَّمَا يَكُونُ مَشْرُوعًا عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ: كَإِعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ؛ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَبَعْضُ النَّاسِ ظَنَّ أَنَّ هَذَا نُسِخَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ أَغْنَى عَنْ التَّأَلُّفِ، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] ، وَهَذَا الظَّنُّ غَلَطٌ؛ وَلَكِنَّ عُمَرُ اسْتَغْنَى فِي زَمَنِهِ عَنْ إعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَتَرَكَ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ؛ لَا لِنَسْخِهِ، كَمَا لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ عُدِمَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ابْنُ السَّبِيلِ، وَالْغَارِمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمُتْعَةُ الْحَجِّ قَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ نَهَى عَنْهَا، وَكَانَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ يَقُولُونَ: لَمْ يُحَرِّمْهَا؛ وَإِنَّمَا قَصَدَ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِالْأَفْضَلِ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَمِرَ أَحَدُهُمْ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُمْرَةَ أَفْضَلُ مِنْ عُمْرَةِ الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، حَتَّى إنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ مَنْصُوصٌ عَنْهُ: أَنَّهُ إذَا اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَفْرَدَ الْحَجَّ فِي أَشْهُرِهِ: فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ مُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ؛ مَعَ قَوْلِهِمَا بِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ الْمُجَرَّدِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إنَّ عُمَرَ أَرَادَ فَسْخَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ. قَالُوا، إنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ بِهِ لَا يَجُوزُ، وَأَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ مِنْ الْفَسْخِ كَانَ خَاصًّا بِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَآخَرُونَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ قَابَلُوا هَذَا، وَقَالُوا: بَلْ الْفَسْخُ وَاجِبٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ أَحَدٌ إلَّا مُتَمَتِّعًا: مُبْتَدَأً، أَوْ فَاسِخًا، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَالشِّيعَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْفَسْخَ جَائِزٌ، وَهُوَ أَفْضَلُ. وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُفْسَخَ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: كَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ؛ وَلَا يُمْكِنُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً مُجْمَعًا عَلَيْهَا إلَّا أَنْ يَحُجَّ مُتَمَتِّعًا ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ. فَأَمَّا حَجُّ الْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ: فَفِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ كَمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الصَّوْمِ

فِي السَّفَرِ، وَجَوَازِ الْإِتْمَامِ فِي السَّفَرِ، وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الصَّوْمِ وَالْقَصْرِ فِي الْجُمْلَةِ. وَعُمَرُ لَمَّا نَهَى عَنْ الْمُتْعَةِ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ: كَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِمْ؛ بِخِلَافِ نَهْيِهِ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ فَإِنَّ عَلِيًّا وَسَائِرَ الصَّحَابَةِ وَافَقُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْكَرَ عَلِيٌّ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إبَاحَةَ الْمُتْعَةِ، قَالَ: إنَّك امْرُؤٌ تَائِهٌ؛ «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ حَرَّمَ مُتْعَةَ النِّسَاءِ، وَحَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ عَامَ خَيْبَرَ» ، فَأَنْكَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إبَاحَةَ الْحُمُرِ، وَإِبَاحَةَ مُتْعَةِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يُبِيحُ هَذَا وَهَذَا، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عَلِيٌّ ذَلِكَ وَذَكَرَ لَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ الْمُتْعَةَ، وَحَرَّمَ الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ» . وَيَوْمَ خَيْبَرَ كَانَ تَحْرِيمُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ. وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْمُتْعَةِ فَإِنَّهُ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ. وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهَا حُرِّمَتْ؛ ثُمَّ أُبِيحَتْ، ثُمَّ حُرِّمَتْ. فَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ ثَلَاثًا؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. فَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَنَفَذْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَنْفَذَهُ عَلَيْهِمْ: هُوَ بَيَانُ أَنَّ النَّاسَ أَحْدَثُوا مَا اسْتَحَقُّوا عِنْدَهُ أَنْ يَنْفُذَ عَلَيْهِمْ الثَّلَاثُ، فَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ كَالنَّهْيِ عَنْ مُتْعَةِ الْفَسْخِ؛ لِكَوْنِ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِالصَّحَابَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ هَذَا كَانَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ مَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَ الصَّحَابَةِ بِذَلِكَ. وَبِهَذَا أَيْضًا تَبْطُلُ دَعْوَى مَنْ ظَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخًا كَنَسْخِ مُتْعَةِ النِّسَاءِ. وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ عُمَرَ رَأَى ذَلِكَ لَازِمًا فَهُوَ اجْتِهَادٌ مِنْهُ اجْتَهَدَهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ؛ لِظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ خَاصًّا. وَهَذَا قَوْلٌ مَرْجُوجٌ قَدْ أَنْكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ هِيَ مَعَ مَنْ أَنْكَرَهُ. وَهَكَذَا الْإِلْزَامُ بِالثَّلَاثِ؛ مَنْ جَعَلَ قَوْلَ عُمَرَ فِيهِ شَرْعًا لَازِمًا قِيلَ لَهُ: فَهَذَا اجْتِهَادُهُ قَدْ نَازَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ وَجَبَ رَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، وَالْحُجَّةُ مَعَ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ الْمَرْجُوحَ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عُمَرُ جَعَلَ هَذَا عُقُوبَةً تُفْعَلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَهَذَا أَشْبَهُ الْأَمْرَيْنِ بِعُمَرَ، ثُمَّ الْعُقُوبَةُ بِذَلِكَ يَدْخُلُهَا الِاجْتِهَادُ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعُقُوبَةَ بِذَلِكَ: هَلْ

تُشْرَعُ؟ أَمْ لَا؟ فَقَدْ يَرَى الْإِمَامُ أَنْ يُعَاقِبَ بِنَوْعٍ لَا يَرَى الْعُقُوبَةَ بِهِ غَيْرُهُ، كَتَحْرِيقِ عَلِيٍّ الزَّنَادِقَةَ بِالنَّارِ؛ وَقَدْ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعُقُوبَةَ إنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، فَمَنْ كَانَ مِنْ الْمُتَّقِينَ اسْتَحَقَّ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعُقُوبَةَ؛ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ مُحَرَّمٌ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ تَابَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنْ لَا يُطَلِّقَ إلَّا طَلَاقًا سُنِّيًّا؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ فِي بَابِ الطَّلَاقِ. فَمِثْلُ هَذَا لَا يَتَوَجَّهُ إلْزَامُهُ بِالثَّلَاثِ مَجْمُوعَةً؛ بَلْ يَلْزَمُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ عَظِيمَةٌ؛ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ مُجَلَّدَيْنِ؛ وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهَا هَهُنَا تَنْبِيهًا لَطِيفًا. وَاَلَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّعْزِيرِ الَّذِي يَجُوزُ فِعْلُهُ بِحَسَبِ الْعَادَةِ: كَالزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعِينَ فِي الْخَمْرِ. وَإِمَّا لِاخْتِلَافِ اجْتِهَادِهِمْ فَرَأَوْهُ لَازِمًا، وَتَارَةً غَيْرَ لَازِمٍ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِكَوْنِ لُزُومِ الثَّلَاثِ شَرْعًا لَازِمًا، كَسَائِرِ الشَّرَائِعِ: فَهَذَا لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الرَّاجِحِ لِهَذَا الْمُوقِعِ أَنْ يَلْتَزِمَ طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَيُرَاجِعَ امْرَأَتَهُ؛ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِكَوْنِهَا كَانَتْ حَائِضًا، إذَا كَانَ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ وَتَابَ مِنْ الْبِدْعَةِ فَصْلٌ وَأَمَّا الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ فَمَنْشَأُ النِّزَاعِ فِي وُقُوعِهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَمَّا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، حَتَّى تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ» . فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: «فَلْيُرَاجِعْهَا» أَنَّهَا رَجْعَةُ الْمُطَلَّقَةِ. وَبَنَوْا عَلَى هَذَا أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ فِي الْحَيْضِ يُؤْمَرُ بِرَجْعَتِهَا مَعَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ. وَهَلْ هُوَ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ؟ أَوْ أَمْرُ إيجَابٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. وَالِاسْتِحْبَابُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَالْوُجُوبُ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَهَلْ يُطَلِّقُهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي يَلِي حَيْضَةَ الطَّلَاقِ؟ أَوْ لَا يُطَلِّقُهَا إلَّا فِي طُهْرٍ مِنْ حَيْضَةٍ ثَانِيَةٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَوَجْهَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَهَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ الثَّانِي؟ جُمْهُورُهُمْ لَا يُوجِبُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُهُ، وَهُوَ وَجْهٌ

فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ؛ وَهُوَ قَوِيٌّ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مَنْ يُوقِعُ الطَّلَاقَ؛ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ فِي الدَّلِيلِ. وَتَنَازَعُوا فِي عِلَّةِ مَنْعِ طَلَاقِ الْحَائِضِ، هَلْ هُوَ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ، كَمَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ؟ أَوْ لِكَوْنِهِ حَالَ الزُّهْدِ فِي وَطْئِهَا، فَلَا تَطْلُقُ إلَّا فِي حَالِ رَغْبَةٍ فِي الْوَطْءِ؛ لِكَوْنِ الطَّلَاقِ مَمْنُوعًا لَا يُبَاحُ إلَّا لِحَاجَةٍ، كَمَا يَقُولُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ؟ أَوْ هُوَ تَعَبُّدٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: قَوْلُهُ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» لَا يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بَلْ لَمَّا طَلَّقَهَا طَلَاقًا مُحَرَّمًا حَصَلَ مِنْهُ إعْرَاضٌ عَنْهَا وَمُجَانَبَةٌ لَهَا؛ لِظَنِّهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى مَا كَانَتْ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «لِمَنْ بَاعَ صَاعًا بِصَاعَيْنِ: هَذَا هُوَ الرِّبَا، فَرَدَّهُ» . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ فَجَزَّأَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَرَدَّ أَرْبَعَةً لِلرِّقِّ» . وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ زَيْنَبَ عَلَى زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ» . فَهَذَا رَدٌّ لَهَا. «وَأَمَرَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَرُدَّ الْغُلَامَ الَّذِي بَاعَهُ دُونَ أَخِيهِ» . «وَأَمَرَ بَشِيرًا أَنْ يَرُدَّ الْغُلَامَ الَّذِي وَهَبَهُ لِابْنِهِ» . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ. وَلَفْظُ " الْمُرَاجَعَةِ " تَدُلُّ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْحَالِ الْأَوَّلِ. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ. كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230] . وَقَدْ يَكُونُ بِرُجُوعِ بَدَنِ كُلٍّ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ هُنَاكَ طَلَاقٌ، كَمَا إذَا أَخْرَجَ الزَّوْجَةَ أَوْ الْأَمَةَ مِنْ دَارِهِ فَقِيلَ لَهُ: رَاجِعْهَا، فَأَرْجَعَهَا كَمَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ حِينَ رَاجَعَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ. وَفِي كِتَابِ عُمَرَ لِأَبِي مُوسَى: وَأَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ. وَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ " الْمُرَاجَعَةِ " يَقْتَضِي الْمُفَاعَلَةَ. وَالرَّجْعَةُ مِنْ الطَّلَاقِ يَسْتَقِلُّ بِهَا الزَّوْجُ بِمُجَرَّدِ كَلَامِهِ، فَلَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ فِيهَا لَفْظُ الْمُرَاجَعَةِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا رَدَّ بَدَنَ

الْمَرْأَةِ إلَيْهِ فَرَجَعَتْ بِاخْتِيَارِهَا فَإِنَّهُمَا قَدْ تَرَاجَعَا، كَمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالْعَقْدِ بِاخْتِيَارِهِمَا بَعْدَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَأَلْفَاظُ الرَّجْعَةِ مِنْ الطَّلَاقِ: هِيَ الرَّدُّ، وَالْإِمْسَاكُ. وَتُسْتَعْمَلُ فِي اسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] . وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَلَاقٌ، وَقَالَ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . وَالْمُرَادُ بِهِ الرَّجْعَةُ بَعْدَ الطَّلَاقِ. وَالرَّجْعَةُ يَسْتَقِلُّ بِهَا الزَّوْجُ، وَيُؤْمَرُ فِيهَا بِالْإِشْهَادِ. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْ ابْنَ عُمَرَ بِالْإِشْهَادِ، وَقَالَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» ، وَلَمْ يَقُلْ: لِيَرْتَجِعَهَا. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ: كَانَ ارْتِجَاعُهَا لِيُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي زِيَادَةً وَضَرَرًا عَلَيْهَا وَزِيَادَةً فِي الطَّلَاقِ الْمَكْرُوهِ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لَا لَهُ وَلَا لَهَا؛ بَلْ فِيهِ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ بِارْتِجَاعِهِ لِيُطَلِّقَ مَرَّةً ثَانِيَةً زِيَادَةَ ضَرَرٍ، وَهُوَ لَمْ يَمْنَعْهُ عَنْ الطَّلَاقِ؛ بَلْ أَبَاحَهُ لَهُ فِي اسْتِقْبَالِ الطُّهْرِ مَعَ كَوْنِهِ مُرِيدًا لَهُ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا، وَأَنْ يُؤَخِّرَ الطَّلَاقَ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي يُبَاحُ فِيهِ، كَمَا يُؤْمَرُ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا قَبْلَ وَقْتِهِ أَنْ يَرُدَّ مَا فَعَلَ وَيَفْعَلَهُ إنْ شَاءَ فِي وَقْتِهِ. لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» . وَالطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ. وَأَمْرُهُ بِتَأْخِيرِ الطَّلَاقِ إلَى الطُّهْرِ الثَّانِي لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْوَطْءِ فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ. فَإِنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا فِيهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَلِّقَهَا إلَّا قَبْلَ الْوَطْءِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي أَمْرِهِ بِإِمْسَاكِهَا إلَيْهِ إلَّا بِزِيَادَةِ ضَرَرٍ عَلَيْهَا إذَا طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ مُعَاقَبَةٌ لَهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، فَعُوقِبَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَبَسْطُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَاسْتِيفَاءُ كَلَامِ الطَّائِفَتَيْنِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْأَقْوَالِ وَمَأْخَذِهَا. لَا رَيْبَ أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ وَلَا يَقُومُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى زَوَالِهِ بِالطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ؛ بَلْ النُّصُوصُ وَالْأُصُولُ تَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل قول الحالف الطلاق يلزمني على مذاهب الأئمة الأربعة

[فَصَلِّ قَوْلُ الْحَالِفِ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي عَلَى مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ] فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ الْحَالِفِ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي عَلَى مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، أَوْ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُلْزِمُهُ بِالطَّلَاقِ؛ لَا مَنْ يُجَوِّزُ فِي الْحَلِفِ بِهِ كَفَّارَةً. أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ: عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُلْزِمُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا عَلَى أَغْلَظِ قَوْلٍ قِيلَ فِي الْإِسْلَامِ. أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا أَنِّي لَا أَسْتَفْتِي مَنْ يُفْتِينِي بِالْكَفَّارَةِ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ. أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا وَلَا أَسْتَفْتِي مَنْ يُفْتِينِي بِحِلِّ يَمِينِي أَوْ رَجْعَةٍ فِي يَمِينِي. وَنَحْوِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَغْلُظُ فِيهَا اللُّزُومُ تَغْلِيظًا يُؤَكِّدُ بِهِ لُزُومَ الْمُعَلَّقِ عِنْدَ الْحِنْثِ؛ لِئَلَّا يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ عِنْدَ الْيَمِينِ يُرِيدُ تَأْكِيدَ يَمِينِهِ بِكُلَّمَا يَخْطِرُ بِبَالِهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّأْكِيدِ، وَيُرِيدُ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْ الْحِنْثِ فِيهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُهُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لَا يُخْرِجُ هَذِهِ الْعُقُودَ عَنْ أَنْ تَكُونَ أَيْمَانًا مُكَفَّرَةً، وَلَوْ غَلَّظَ الْأَيْمَانَ الَّتِي شُرِعَ أَنَّ فِيهَا الْكَفَّارَةَ بِمَا غُلِّظَ، وَلَوْ قَصَدَ أَنْ لَا يَحْنَثَ فِيهَا بِحَالٍ: فَذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ شَرْعَ اللَّهِ. وَأَيْمَانُ الْحَالِفِينَ لَا تُغَيِّرُ شَرَائِعَ الدِّينِ؛ بَلْ مَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِهِ قَبْلَ يَمِينِهِ فَقَدْ أَمَرَ بِهِ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَالْيَمِينُ مَا زَادَتْهُ إلَّا تَوْكِيدًا. وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ أَحَدًا بِتَرْكِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ، وَلَا بِفِعْلِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَوْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ؟ ، وَهَذَا مِثْلُ الَّذِي يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ: مِنْ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَطَاعَةِ السُّلْطَانِ، وَمُنَاصَحَتِهِ وَتَرْكِ الْخُرُوجِ، وَمُحَارَبَتِهِ، وَقَضَاءِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ، وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ الْأُمُورُ كَانَتْ قَبْلَ الْيَمِينِ وَاجِبَةً، وَهِيَ بَعْدَ الْيَمِينِ أَوْجَبُ. وَمَا كَانَ مُحَرَّمًا قَبْلَ الْيَمِينِ فَهُوَ بَعْدَ الْيَمِينِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ يُبَايِعُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى طَاعَتِهِ وَالْجِهَادِ مَعَهُ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ وَلَوْ لَمْ يُبَايِعُوهُ، فَالْبَيْعَةُ أَكَّدَتْهُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُضَ مِثْلَ هَذَا الْعَقْدِ. وَكَذَلِكَ مُبَايَعَةُ السُّلْطَانِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُضَهَا وَلَوْ لَمْ يَحْلِفْ، فَكَيْفَ إذَا حَلَفَ؟ ، بَلْ لَوْ عَاقَدَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ عَلَى بَيْعٍ؛ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ نِكَاحٍ: لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَغْدِرَ بِهِ، وَلَوَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ

بِهَذَا الْعَقْدِ فَكَيْفَ بِمُعَاقَدَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ: مِنْ طَاعَتِهِمْ، وَمُنَاصَحَتِهِمْ، وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ. فَكُلُّ عَقْدٍ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ بِدُونِ الْيَمِينِ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ كَانَتْ الْيَمِينُ مُوَكِّدَةً لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَجُزْ فَسْخُ مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا، إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» . وَمَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ الْيَمِينِ إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ لَمْ يَصِرْ حَرَامًا؛ بَلْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَعَلَهُ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِرْ وَاجِبًا عَلَيْهِ، بَلْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ وَلَا يَفْعَلَهُ، وَلَوْ غَلَّظَ فِي الْيَمِينِ بِأَيِّ شَيْءٍ غَلَّظَهَا، فَأَيْمَانُ الْحَالِفِينَ لَا تُغَيِّرُ شَرَائِعَ الدِّينِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ بِيَمِينِهِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، وَلَا يُوجِبُ بِيَمِينِهِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ. هَذَا هُوَ شَرْعُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا شَرْعُ مَنْ قَبْلَهُ فَكَانَ فِي شَرْعِ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ شَيْئًا حَرُمَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَن شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِمْ كَفَّارَةٌ، فَقَالَ تَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عمران: 93] فَإِسْرَائِيلُ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا فَحَرُمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّنَا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . وَهَذَا الْفَرْضُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87] {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 88] {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89] .

وَلِهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا كَفَّارَةٌ بَلْ كَانَتْ الْيَمِينُ تُوجِبُ عَلَيْهِمْ فِعْلَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَمَرَ اللَّهُ أَيُّوبَ أَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ ضِغْثًا فَيَضْرِبَ بِهِ وَلَا يَحْنَثَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَوْ كَانَ فِي شَرْعِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَانَ ذَلِكَ أَيْسَرَ عَلَيْهِ مِنْ ضَرْبِ امْرَأَتِهِ وَلَوْ بِضِغْثٍ؛ فَإِنَّ أَيُّوبَ كَانَ قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَا يُوجِبُونَهُ بِالْيَمِينِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجِبُ بِالشَّرْعِ، كَانَتْ الْيَمِينُ عِنْدَهُمْ كَالنَّذْرِ. وَالْوَاجِبُ بِالشَّرْعِ قَدْ يُرَخَّصُ فِيهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، كَمَا يُرَخَّصُ فِي الْجِلْدِ الْوَاجِبِ فِي الْحَدِّ إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّفْرِيقَ؛ بِخِلَافِ مَا الْتَزَمَهُ الْإِنْسَانُ بِيَمِينِهِ فِي شَرْعِنَا فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِالشَّرْعِ فَيَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَهُ، وَلَهُ مَخْرَجٌ مِنْ ذَلِكَ فِي شَرْعِنَا بِالْكَفَّارَةِ. وَلَكِنَّ بَعْضَ عُلَمَائِنَا لَمَّا ظَنُّوا أَنَّ الْأَيْمَانَ مَنْ مَا لَا مَخْرَجَ لِصَاحِبِهِ مِنْهُ بَلْ يَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَهُ، فَظَنُّوا أَنَّ شَرْعَنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَشَرْعِ بَنِي إسْرَائِيلَ احْتَاجُوا إلَى الِاحْتِيَالِ فِي الْأَيْمَانِ: إمَّا فِي لَفْظِ الْيَمِينِ، وَإِمَّا بِخَلْعِ الْيَمِينِ، وَإِمَّا بِدَوْرِ الطَّلَاقِ، وَإِمَّا يُجْعَلُ النِّكَاحُ فَاسِدًا فَلَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ. وَإِنْ غُلِبُوا عَنْ هَذَا كُلِّهِ دَخَلُوا فِي التَّحْلِيلِ؛ وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَمَا وَضَعَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156] {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] . وَصَارَ مَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمَّتِهِ هُوَ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَمَا أُحْدِثَ غَيْرُهُ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ مَعَ شَرْعِهِ؛ وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ قَالُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ لَهُمْ سَعْيٌ مَشْكُورٌ وَعَمَلٌ مَبْرُورٌ، وَهُمْ مَأْجُورُونَ عَلَى ذَلِكَ مُثَابُونَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ مَسَائِلِ

النِّزَاعِ الَّتِي تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ فَأَصْوَبُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ: مَنْ أَصَابَ هَذَا الْقَوْلَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمَنْ لَمْ يُؤَدِّهِ اجْتِهَادُهُ إلَّا إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ؛ وَالْقَوْلُ الْمُوَافِقُ لِسُنَّتِهِ مَعَ الْقَوْلِ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ طَرِيقٍ سَهْلٍ مُخَصَّبٍ يُوصِلُ إلَى الْمَقْصُودِ، وَتِلْكَ الْأَقْوَالُ فِيهَا بُعْدٌ، وَفِيهَا وُعُورَةٌ، وَفِيهَا حُدُوثَهُ. فَصَاحِبُهَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّعَبِ وَالْجَهْدِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي الطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَلِهَذَا أَذَاعُوا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى تِلْكَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ مِنْ لُزُومِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: مِنْ الْقَطِيعَةِ، وَالْفُرْقَةِ؛ وَتَشْتِيتِ الشَّمْلِ، وَتَخْرِيبِ الدِّيَارِ، وَمَا يُحِبُّهُ الشَّيْطَانُ وَالسَّحَرَةُ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَمَا يَظْهَرُ مَا فِيهَا مِنْ الْفَسَادِ لِكُلِّ عَاقِلٍ. ثُمَّ إمَّا أَنْ يَلْزَمُوا هَذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَيَدْخُلُوا فِي الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ. وَإِمَّا أَنْ يَدْخُلُوا فِي مُنْكَرَاتِ أَهْلِ الِاحْتِيَالِ، وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ مِنْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بِمَا أَغْنَاهُمْ بِهِ مِنْ الْحَلَالِ. فَالطُّرُقُ ثَلَاثَةٌ: إمَّا الطَّرِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمَحْضَةُ الْمُوَافِقَةُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهِيَ طَرِيقُ أَفَاضِلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ. وَإِمَّا طَرِيقَةُ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَالْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ سَلَكَهَا مِنْ سَادَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَهُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا أُتُوا بِهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . وَهَذَا كَالْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ إذَا أَدَّى اجْتِهَادُ كُلِّ فِرْقَةٍ إلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ: فَكُلُّهُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مُقِيمُونَ لِلصَّلَاةِ؛ لَكِنَّ الَّذِي أَصَابَ الْقِبْلَةَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَهُ أَجْرَانِ وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] . وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ: بِمَعْنَى أَنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ؛ وَلَكِنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَا شَرَعَ اللَّهُ تَكْفِيرَهُ مِنْ الْأَيْمَانِ هُوَ مُكَفَّرٌ، وَلَوْ غَلَّظَهُ بِأَيِّ وَجْهٍ غُلِّظَ، وَلَوْ الْتَزَمَ أَنْ لَا يُكَفِّرَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَهُ؛ فَإِنَّ الْتِزَامَهُ أَنْ لَا يُكَفِّرَهُ الْتِزَامٌ لِتَحْرِيمِ مَا

أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ بَلْ عَلَيْهِ فِي يَمِينِهِ الْكَفَّارَةُ. فَهَذَا الْمُلْتَزِمُ لِهَذَا الِالْتِزَامِ الْغَلِيظِ هُوَ يَكْرَهُ لُزُومَهُ إيَّاهُ، وَكُلَّمَا غُلِّظَ كَانَ لُزُومُهُ لَهُ أَكْرَهُ إلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ لِقَصْدِهِ الْحَظْرَ وَالْمَنْعَ؛ لِيَكُونَ لُزُومُهُ لَهُ مَانِعًا مِنْ الْحِنْثِ؛ لَمْ يَلْتَزِمْهُ لِقَصْدِ لُزُومِهِ إيَّاهُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَصْدَ يُنَاقِضُ عَقْدَ الْيَمِينِ؛ فَإِنَّ الْحَالِفَ لَا يَحْلِفُ إلَّا بِالْتِزَامِ مَا يَكْرَهُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ؛ وَلَا يَحْلِفُ قَطُّ إلَّا بِالْتِزَامِهِ مَا يُرِيدُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ، فَلَا يَقُولُ حَالِفٌ إنْ فَعَلْتُ كَذَا غَفَرَ اللَّهُ لِي، وَلَا أَمَاتَنِي عَلَى الْإِسْلَامِ؛ بَلْ يَقُولُ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ، أَوْ نِسَائِي طَوَالِقُ، أَوْ عَبِيدِي أَحْرَارٌ. أَوْ كُلُّ مَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ، أَوْ عَلَيَّ عَشْرُ حِجَجٍ حَافِيًا مَكْشُوفَ الرَّأْسِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، أَوْ فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا عَلَى أَغْلَظِ قَوْلٍ. وَقَدْ يَقُولُ مَعَ ذَلِكَ: عَلَيَّ أَنْ لَا أَسْتَفْتِيَ مَنْ يُفْتِينِي بِالْكَفَّارَةِ، وَيَلْتَزِمُ عِنْدَ غَضَبِهِ مِنْ اللَّوَازِمِ مَا يَرَى أَنَّهُ لَا مَخْرَجَ لَهُ مِنْهُ إذَا حَنِثَ. لِيَكُونَ لُزُومُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ الْحِنْثِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَقْصِدُ قَطُّ أَنْ يَقَعَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ اللَّوَازِمِ وَإِنْ وَقَعَ الشَّرْطُ أَوْ لَمْ يَقَعْ، وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهَا تَلْزَمُهُ الْتَزَمَهَا لِاعْتِقَادِهِ لُزُومَهَا إيَّاهُ مَعَ كَرَاهَتِهِ لَأَنْ يَلْتَزِمَهُ؛ لَا مَعَ إرَادَتِهِ أَنْ يَلْتَزِمَهُ، وَهَذَا هُوَ الْحَالِفُ، وَاعْتِقَادُ لُزُومِ الْجَزَاءِ غَيْرُ قَصْدِهِ لِلُزُومِ الْجَزَاءِ. فَإِنْ قَصَدَ لُزُومَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ: لَزِمَهُ مُطْلَقًا؛ وَلَوْ كَانَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ فَلَوْ كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ الْأَمْرَ، أَوْ إذَا فَعَلَ هُوَ ذَلِكَ الْأَمْرَ، فَقَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا تَفْعَلِينَ كَذَا. وَقَصْدُهُ أَنَّهَا تَفْعَلُهُ فَتَطْلُقُ: لَيْسَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَنْهَاهَا عَنْ الْفِعْلِ، وَلَا هُوَ كَارِهٌ لِطَلَاقِهَا؛ بَلْ هُوَ مُرِيدٌ لِطَلَاقِهَا: طَلُقَتْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ حَالِفًا؛ بَلْ هُوَ مُعَلِّقٌ لِلطَّلَاقِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ الْإِيقَاعَ، فَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ هُنَا عِنْدَ الْحِنْثِ فِي اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ. وَمَقْصُودُهُ مَقْصُودُ التَّعْلِيقِ. وَالطَّلَاقُ هُنَا إنَّمَا وَقَعَ عِنْدَ الشَّرْطِ الَّذِي قَصَدَ إيقَاعَهُ عِنْدَهُ؛ لَا عِنْدَ مَا هُوَ حِنْثٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ إذْ الِاعْتِبَارُ بِقَصْدِهِ وَمُرَادِهِ؛ لَا بِظَنِّهِ وَاعْتِقَادِهِ: فَهُوَ الَّذِي تُبْنَى عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» .

وَالسَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَجَمَاهِيرُ الْخَلَفِ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ إذَا قُصِدَ بِهِ الطَّلَاقُ فَهُوَ طَلَاقٌ، وَإِنْ قُصِدَ بِهِ غَيْرُ الطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا. وَلَيْسَ لِلطَّلَاقِ عِنْدَهُمْ لَفْظٌ مُعَيَّنٌ؛ فَلِهَذَا يَقُولُونَ: إنَّهُ يَقَعُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ. وَلَفْظُ الصَّرِيحِ عِنْدَهُمْ كَلَفْظِ الطَّلَاقِ لَوْ وَصَلَهُ بِمَا يُخْرِجُهُ عَنْ طَلَاقِ الْمَرْأَةِ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْت طَالِقٌ مِنْ وِثَاقِ الْحَبْسِ، أَوْ مِنْ الزَّوْجِ الَّذِي كَانَ قَبْلِي وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالْمَرْأَةُ إذَا أَبْغَضَتْ الرَّجُلَ كَانَ لَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] . وَهَذَا الْخُلْعُ تَبِينُ بِهِ الْمَرْأَةُ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ إلَّا بِرِضَاهَا، وَلَيْسَ هُوَ كَالطَّلَاقِ الْمُجَرَّدِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقَعُ رَجْعِيًّا لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ بِدُونِ رِضَاهَا؛ لَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْخُلْعِ: هَلْ يَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ مَحْسُوبَةٌ مِنْ الثَّلَاثِ؟ أَوْ تَقَعُ بِهِ فُرْقَةٌ بَائِنَةٌ وَلَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بَلْ هُوَ فَسْخٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ. وَالْأَوَّلُ: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَكَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ، وَنُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ؛ لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، بَلْ ضَعَّفَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ جَمِيعَ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فُرْقَةٌ بَائِنَةٌ، وَلَيْسَ مِنْ الثَّلَاثِ وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِهِ: كَطَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ؛ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَدَاوُد، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْخُلْعَ بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَكَانَ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا.

ثُمَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ تَنَازَعُوا: هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْخُلْعُ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ؟ أَوْ لَا يَكُونُ إلَّا بِلَفْظِ الْخُلْعِ وَالْفَسْخِ وَالْمُفَادَاةِ، وَيُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَنْوِيَ الطَّلَاقَ؟ أَوْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَهُ أَوْ لَا يَنْوِيَهُ، وَهُوَ خُلْعٌ بِأَيِّ لَفْظٍ وَقَعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ؟ عَلَى أَوْجُهٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. أَصَحُّهَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَخِيرُ، وَهُوَ: أَنَّ الْخُلْعَ هُوَ الْفُرْقَةُ بِعِوَضٍ، فَمَتَى فَارَقَهَا بِعِوَضٍ فَهِيَ مُفْتَدِيَةٌ لِنَفْسِهَا بِهِ، وَهُوَ خَالِعٌ لَهَا بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ قَطُّ لَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَلَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْخُلْعِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؛ بِلَا كَلَامِهِمْ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ. وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْخُلْعِ هَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَمْ لَا؟ قَالَ: وَأَحْسَبُ الَّذِينَ قَالُوا هُوَ طَلَاقٌ هُوَ فِيمَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَالطَّحَاوِيُّ أَنَّ هَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يَحْكِ عَنْ أَحَدٍ هَذَا؛ بَلْ ظَنَّ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ. وَهَذَا بَنَاهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا وَاحِدًا فَإِنَّ حُكْمَهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ. وَفِي مَذْهَبِهِ نِزَاعٌ فِي الْأَصْلِ. وَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَإِنَّ أُصُولَهُ وَنُصُوصَهُ وَقَوْلَ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ بِمَعَانِيهَا لَا بِالْأَلْفَاظِ، وَفِي مَذْهَبِهِ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُ تَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ، وَهَذَا يُذْكَرُ فِي التَّكَلُّمِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَفِي الْمُزَارَعَةِ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَلْفَاظَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ، وَأَلْفَاظَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَبَيَّنَّا أَنَّهَا بَيِّنَةٌ فِي عَدَمِ التَّفْرِيقِ. وَأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ لَا تَحْتَمِلُ التَّفْرِيقَ، وَكَذَلِكَ أُصُولُ أَحْمَدَ. وَسَبَبُهُ ظَنُّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ الْآثَارَ الثَّابِتَةَ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ تَدُلُّ دَلَالَةً بَيِّنَةً أَنَّهُ خُلْعٌ. وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ تُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ. وَالطَّلَاقُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ. قَالَ هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ طَلَاقٌ بَائِنٌ مَحْسُوبٌ مِنْ الثَّلَاثِ أَصْلًا. بَلْ كُلُّ طَلَاقٍ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ، وَقَالَ هَؤُلَاءِ: وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْت طَالِقٌ طَلْقَةً بَائِنَةٌ لَمْ يَقَعْ بِهَا إلَّا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ؛ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ قَالُوا: وَتَقْسِيمُ الطَّلَاقِ إلَى رَجْعِيٍّ

وَبَائِنٍ تَقْسِيمٌ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَهَذَا قَوْلُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ؛ فَإِنَّ كُلَّ طَلَاقٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَا يَقَعُ إلَّا رَجْعِيًّا. وَإِنْ قَالَ: أَنْت طَالِقٌ طَلْقَةً بَائِنَةٌ أَوْ طَلَاقًا بَائِنًا: لَمْ يَقَعْ بِهِ عِنْدَهُمَا إلَّا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَأَمَّا الْخُلْعُ فَفِيهِ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِهِمَا. فَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الصَّحِيحِ طَرَدَ هَذَا الْأَصْلَ، وَاسْتَقَامَ قَوْلَهُ، وَلَمْ يَتَنَاقَضْ كَمَا يَتَنَاقَضُ غَيْرُهُ؛ إلَّا مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: إنَّ الْخُلْعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ يَقَعُ طَلَاقًا بَائِنًا، فَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا فِي الْجُمْلَةِ طَلَاقًا بَائِنًا مَحْسُوبًا مِنْ الثَّلَاثِ فَنَقَضُوا أَصْلَهُمْ الصَّحِيحَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَقَالَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ: إذَا وَقَعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ كَانَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا؛ لَا بَائِنًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَجْعَلَهُ طَلَاقًا بَائِنًا لِمُخَالَفَةِ الْقُرْآنِ؛ وَظَنَّ أَنَّهُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ يَكُونُ طَلَاقًا فَجَعَلَهُ رَجْعِيًّا، وَهَذَا خَطَأٌ؛ فَإِنَّ مَقْصُودَ الِافْتِدَاءِ لَا يَحْصُلُ إلَّا مَعَ الْبَيْنُونَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ حُصُولُ الْبَيْنُونَةِ بِالْخُلْعِ مِمَّا لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لَكِنَّ بَعْضَهُمْ جَعَلَهُ جَائِزًا؛ فَقَالَ: لِلزَّوْجِ أَنْ يَرُدَّ الْعِوَضَ وَيُرَاجِعَهَا؛ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ وَحْدَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ، وَلَكِنْ لَوْ اتَّفَقَا عَلَى فَسْخِهِ كَالتَّقَايُلِ: فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ آخَرُ، كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ يُبَيِّنُ أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا يَكُونُ إلَّا رَجْعِيًّا، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ طَلَاقٌ بَائِنٌ إلَّا قَبْلَ الدُّخُولِ. وَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى، وَهِيَ إنَّمَا تَحْصُلُ بِالثَّلَاثِ لَا بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ مُطْلَقَةً، لَا يَحِلُّ بِهَا لَا بَيْنُونَةٌ كُبْرَى، وَلَا صُغْرَى. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ عَامَّةً طَلَاقُهُمْ الْفِدَاءُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ الْفِدَاءُ بِطَلَاقٍ. وَرَدُّ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ وَخُلْعٍ مَرَّةً. وَبِهَذَا أَخَذَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ؛ لَكِنْ تَنَازَعَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ: هَلْ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَعْنَى إذَا كَانَ وَاحِدًا فَالِاعْتِبَارُ بِأَيِّ لَفْظٍ وَقَعَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَقَاصِدِ الْعُقُودِ وَحَقَائِقِهَا لَا بِاللَّفْظِ وَحْدَهُ، فَمَا كَانَ خُلْعًا فَهُوَ خُلْعٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ، وَمَا كَانَ طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاقٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ. وَمَا كَانَ يَمِينًا فَهُوَ يَمِينٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ، وَمَا كَانَ إيلَاءً فَهُوَ إيلَاءٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ، وَمَا كَانَ ظِهَارًا فَهُوَ ظِهَارٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ.

وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ " الطَّلَاقَ " " وَالْيَمِينَ " " وَالظِّهَارَ " " وَالْإِيلَاءَ " " وَالِافْتِدَاءَ " وَهُوَ الْخُلْعُ، وَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ حُكْمًا، فَيَجِبُ أَنْ نَعْرِفَ حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَنُدْخِلَ فِي الطَّلَاقِ مَا كَانَ طَلَاقًا، وَفِي الْيَمِينِ مَا كَانَ عَيْنًا، وَفِي الْخُلْعِ مَا كَانَ خُلْعًا، وَفِي الظِّهَارِ مَا كَانَ ظِهَارًا؛ وَفِي الْإِيلَاءِ مَا كَانَ إيلَاءً. وَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ عَنْ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَائِهِمْ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بَعْضُ ذَلِكَ بِبَعْضٍ، فَيَجْعَلُ مَا هُوَ ظِهَارٌ طَلَاقًا، فَيَكْثُرُ بِذَلِكَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ الَّذِي يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيَحْتَاجُونَ إمَّا إلَى دَوَامِ الْمَكْرُوهِ؛ وَإِمَّا إلَى زَوَالِهِ بِمَا هُوَ أَكْرَهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ، وَهُوَ نِكَاحُ التَّحْلِيلِ. وَأَمَّا الطَّلَاقُ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ إذَا أَرَادَ طَلَاقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، أَوْ كَانَتْ حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا، ثُمَّ يَدَعَهَا تَتَرَبَّصُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا غَرَضٌ؟ سَرَّحَهَا بِإِحْسَانٍ. ثُمَّ إنْ بَدَا لَهُ بَعْدَ هَذَا إرْجَاعُهَا يَتَزَوَّجُهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، ثُمَّ إذَا أَرَادَ ارْتِجَاعَهَا أَوْ تَزَوُّجَهَا، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلَّقَهَا فَهَذَا طَلَاقُ السُّنَّةِ الْمَشْرُوعِ. وَمَنْ لَمْ يُطَلِّقْ إلَّا طَلَاقَ السُّنَّةِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ نِكَاحِ التَّحْلِيلِ وَغَيْرِهِ؛ بَلْ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ لَهُ فِي كُلِّ طَلْقَةٍ رَجْعَةٌ، أَوْ عَقْدٌ جَدِيدٌ: فَهُنَا قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَلَا يَجُوزُ عَوْدُهَا إلَيْهِ بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ أَصْلًا؛ بَلْ قَدْ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَاتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُهُ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ، فَلَا يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَحَدًا مِنْ خُلَفَائِهِ أَوْ أَصْحَابِهِ أَعَادَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا إلَى زَوْجِهَا بَعْدَ نِكَاحِ تَحْلِيلٍ أَبَدًا، وَلَا كَانَ نِكَاحُ التَّحْلِيلِ ظَاهِرًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ بَلْ كَانَ مَنْ يَفْعَلُهُ سِرًّا، وَقَدْ لَا تَعْرِفُ الْمَرْأَةُ وَلَا وَلِيُّهَا وَقَدْ «لَعَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» ، وَفِي الرِّبَا قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَكَاتِبَهُ» فَلَعَنَ الْكَاتِبَ وَالشُّهُودَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْهَدُونَ عَلَى دَيْنِ الرِّبَا، وَلَمْ يَكُونُوا يَشْهَدُونَ عَلَى نِكَاحِ التَّحْلِيلِ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْتَبُ فِيهِ صَدَاقٌ كَمَا تُكْتَبُ الدُّيُونُ، وَلَا كَانُوا يَشْهَدُونَ فِيهِ لِأَجْلِ الصَّدَاقِ، بَلْ كَانُوا يَعْقِدُونَهُ بَيْنَهُمْ، وَقَدْ عُرِفُوا بِهِ، وَيَسُوقُ الرَّجُلُ الْمَهْرَ لِلْمَرْأَةِ فَلَا يَبْقَى لَهَا عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ رَسُولُ اللَّهِ فِي نِكَاحِ التَّحْلِيلِ الْكَاتِبَ وَالشُّهُودَ كَمَا ذَكَرَهُمْ فِي الرِّبَا. وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِشْهَادِ عَلَى النِّكَاحِ حَدِيثٌ. وَنِزَاعُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. فَقِيلَ: يَجِبُ الْإِعْلَانُ أَشْهَدُوا أَوْ لَمْ يُشْهِدُوا، فَإِذَا أَعْلَنُوهُ وَلَمْ يُشْهِدُوا تَمَّ الْعَقْدُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ. وَقِيلَ: يَجِبُ الْإِشْهَادُ: أَعْلَنُوهُ أَوْ لَمْ يُعْلِنُوهُ، فَمَتَى أَشْهَدُوا وَتَوَاصَوْا بِكِتْمَانِهِ لَمْ يَبْطُلْ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ. وَقِيلَ: يَجِبُ الْأَمْرَانِ الْإِشْهَادُ وَالْإِعْلَانُ. وَقِيلَ: يَجِبُ أَحَدُهُمَا. وَكِلَاهُمَا يُذْكَرُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَأَمَّا نِكَاحُ السِّرِّ الَّذِي يَتَوَاصَوْنَ بِكِتْمَانِهِ وَلَا يُشْهِدُونَ عَلَيْهِ أَحَدًا، فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ السِّفَاحِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] {وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5] () . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعِهَا. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ الثَّابِتَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنْ الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ؛ وَبَيْنَ الْأَقْوَالِ الْمَرْجُوحَةِ، وَأَنَّ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَجْمَعُ مَصَالِحَ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ؛ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ فِي شَرِيعَتِهِ مَا فَرَّقَهُ فِي شَرَائِعَ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْكَمَالِ؛ إذْ لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ، فَكَمُلَ بِهِ الْأَمْرُ، كَمَا كَمُلَ بِهِ الدِّينُ. فَكِتَابُهُ أَفْضَلُ الْكُتُبِ، وَشَرْعُهُ أَفْضَلُ الشَّرَائِعِ، وَمِنْهَاجُهُ أَفْضَلُ الْمَنَاهِجِ، وَأُمَّتُهُ خَيْرُ الْأُمَمِ، وَقَدْ عَصَمَهَا اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ فَلَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ؛ وَلَكِنْ يَكُونُ عِنْدَ بَعْضِهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ بَعْضٍ، وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]

فَهَذَانِ نَبِيَّانِ كَرِيمَانِ حَكَمَا فِي قِصَّةٍ فَخَصَّ اللَّهُ أَحَدَهُمَا بِالْفَهْمِ؛ وَلَمْ يَعِبْ الْآخَرَ؛ بَلْ أَثْنَى عَلَيْهِمَا جَمِيعًا بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ. وَهَكَذَا حُكْمُ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَخُلَفَاءِ الرُّسُلِ الْعَامِلِينَ بِالْكِتَابِ. وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ الَّتِي قَضَى فِيهَا دَاوُد وَسُلَيْمَانُ لِعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا وَمَا يُشْبِهُهَا أَيْضًا قَوْلَانِ. مِنْهُمْ مَنْ يَقْضِي بِقَضَاءِ دَاوُد. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْضِي بِقَضَاءِ سُلَيْمَانَ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَقُولُ بِهِ؛ بَلْ قَدْ لَا يَعْرِفُهُ. وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَأَمَّا إذَا " حَلَفَ بِالْحَرَامِ " فَقَالَ: الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَوْ الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَوْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ فَعَلْتُ كَذَا، أَوْ مَا يَحِلُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَحْرُمُ عَلَيَّ إنْ فَعَلْتُ كَذَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَلَهُ زَوْجَةٌ. فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ لَكِنَّ الْقَوْلَ الرَّاجِحَ أَنَّ هَذِهِ يَمِينٌ لَا يَلْزَمُهُ بِهَا طَلَاقٌ، وَلَوْ قَصَدَ بِذَلِكَ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ، حَتَّى لَوْ قَالَ: أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَهُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْت عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَقَصَدَ بِهِ الطَّلَاقَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الظِّهَارَ طَلَاقًا، وَالْإِيلَاءَ طَلَاقًا. فَرَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَجَعَلَ فِي الظِّهَارِ الْكَفَّارَةَ الْكُبْرَى، وَجَعَلَ الْإِيلَاءَ يَمِينًا يَتَرَبَّصُ فِيهَا الرَّجُلُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. فَإِمَّا أَنْ يَمْسِكَ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ يُسَرِّحَ بِإِحْسَانٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إنَّهُ إذَا كَانَ مُزَوَّجًا فَحَرَّمَ امْرَأَتَهُ أَوْ حَرَّمَ الْحَلَالَ مُطْلَقًا كَانَ مُظَاهِرًا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ. وَإِذَا حَلَفَ بِالظِّهَارِ، أَوْ الْحَرَامِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، وَحَنِثَ فِي يَمِينِهِ: أَجْزَأَتْهُ الْكَفَّارَةُ فِي مَذْهَبِهِ، لَكِنْ قِيلَ: إنَّ الْوَاجِبَ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ، سَوَاءٌ حَلَفَ أَوْ أَوْقَعَ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَدَ. وَقِيلَ: بَلْ إنْ حَلَفَ بِهِ أَجْزَأَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِنْ أَوْقَعَهُ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ. وَهَذَا أَقْوَى وَأَقْيَسُ عَلَى أَصْلِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. فَالْحَالِفُ بِالْحَرَامِ تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا تُجْزِئُ

مسألة الفرق بين الطلاق الحلال والطلاق الحرام

الْحَالِفَ بِالنَّذْرِ إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ، أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ. وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ بِالْعِتْقِ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَكَذَلِكَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ تُجْزِئُ أَيْضًا فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا أَفْتَى مَنْ أَفْتَى بِهِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَالثَّابِتِ عَنْ الصَّحَابَةِ لَا يُخَالِفُ ذَاكَ، بَلْ مَعْنَاهُ يُوَافِقُهُ. وَكُلُّ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيْمَانِهِمْ فَفِيهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْصُودُ الرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ يُعْتِقَ أَوْ أَنْ يُظَاهِرَ: فَهَذَا يَلْزَمُهُ مَا أَوْقَعَهُ، سَوَاءٌ كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا، فَلَا تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [مَسْأَلَةٌ الْفَرْق بَيْنَ الطَّلَاقِ الْحَلَالِ وَالطَّلَاقِ الْحَرَامِ] 546 - 9 - مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَيْضًا عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّلَاقِ الْحَلَالِ وَالطَّلَاقِ الْحَرَامِ؟ وَعَنْ الطَّلَاقِ الْحَرَامِ هَلْ هُوَ لَازِمٌ أَوْ لَيْسَ بِلَازِمٍ؟ وَعَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ؟ وَعَنْ حُكْمِ الْحَلِفِ بِلَفْظِ الْحَرَامِ، هَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَمْ لَا؟ وَعَنْ بَسْطِ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: الطَّلَاقُ مِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ. فَالطَّلَاقُ الْمُبَاحُ - بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ - هُوَ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً؛ إذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضَتِهَا، بَعْدَ أَنْ تَغْتَسِلَ وَقَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا ثُمَّ يَدَعَهَا فَلَا يُطَلِّقَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. وَهَذَا الطَّلَاقُ يُسَمَّى " طَلَاقَ السُّنَّةِ " فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ فَلَهُ ذَلِكَ بِدُونِ رِضَاهَا وَلَا رِضَا وَلِيِّهَا. وَلَا مَهْرٍ جَدِيدٍ. وَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى تَقْضِيَ الْعِدَّةَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَرِّحَهَا بِإِحْسَانٍ فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ؛ لَكِنْ يَكُونُ بِعَقْدٍ؛ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا ابْتِدَاءً أَوْ تَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ ثُمَّ ارْتَجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ، أَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ وَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا؛ فَإِنَّهُ يُطَلِّقُهَا كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ إذَا ارْتَجَعَهَا، أَوْ تَزَوَّجَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً، وَأَرَادَ أَنْ

يُطَلِّقَهَا، فَإِنَّهُ يُطَلِّقُهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا طَلَّقَهَا الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ وَرَسُولُهُ، وَحِينَئِذٍ فَلَا تُبَاحُ لَهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ النِّكَاحَ الْمَعْرُوفَ الَّذِي يَفْعَلُهُ النَّاسُ إذَا كَانَ الرَّجُلُ رَاغِبًا فِي نِكَاحِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ يُفَارِقُهَا. فَأَمَّا إنْ تَزَوَّجَهَا بِقَصْدِ أَنْ يُحِلَّهَا لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَكَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ، وَالْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِمَّا لَا تَحِيضُ لِصِغَرِهَا أَوْ كِبَرِهَا؛ فَإِنَّهُ يُطَلِّقُهَا مَتَى شَاءَ، سَوَاءٌ كَانَ وَطِئَهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ يَطَؤُهَا؛ فَإِنَّ هَذِهِ عِدَّتَهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. فَفِي أَيِّ وَقْتٍ طَلَّقَهَا لِعِدَّتِهَا؛ فَإِنَّهَا لَا تَعْتَدُّ بِقُرُوءٍ، وَلَا بِحَمْلٍ؛ لَكِنْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُسَمِّي هَذَا " طَلَاقَ سُنَّةٍ " وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُسَمِّيهِ " طَلَاقَ سُنَّةٍ " وَلَا " بِدْعَةٍ ". وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ، أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ أَنْ وَطِئَهَا وَقَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا: فَهَذَا الطَّلَاقُ مُحَرَّمٌ، وَيُسَمَّى " طَلَاقَ الْبِدْعَةِ " وَهُوَ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا، وَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا: فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا. وَهَلْ يُسَمَّى هَذَا طَلَاقَ سُنَّةٍ؟ أَوْ لَا يُسَمَّى طَلَاقَ سُنَّةٍ، وَلَا بِدْعَةٍ؟ فِيهِ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ. وَهَذَا الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ فِي الْحَيْضِ، وَبَعْدَ الْوَطْءِ وَقَبْلَ تَبَيُّنِ الْحَمْلِ هَلْ يَقَعُ؟ أَوْ لَا يَقَعُ؟ سَوَاءٌ كَانَتْ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا، فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ؛ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ. أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ. أَوْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، أَوْ عَشْرَ طَلْقَاتٍ، أَوْ مِائَةَ طَلْقَةٍ. أَوْ أَلْفَ طَلْقَةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ فَهَذَا لِلْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، وَمِنْ السَّلَفِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا. وَفِيهِ قَوْلٌ رَابِعٌ مُحْدَثٌ مُبْتَدَعٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ طَلَاقٌ مُبَاحٌ لَازِمٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْقَدِيمَةِ عَنْهُ: اخْتَارَهَا الْخِرَقِيِّ.

الثَّانِي: أَنَّهُ طَلَاقٌ مُحَرَّمٌ لَازِمٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهُ. اخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْقُولٌ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ، مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ. وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِهِمْ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْقُولٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ الْقَوْلَانِ؛ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ؛ مِثْلُ طَاوُسٍ وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو؛ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ؛ وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَابْنِهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَلِهَذَا ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ مَنْ ذَهَبَ مِنْ الشِّيعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الرَّابِعُ: الَّذِي قَالَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ: فَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ: فَإِنَّ كُلَّ طَلَاقٍ شَرَعَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إنَّمَا هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ؛ لَمْ يَشْرَعْ اللَّهُ لِأَحَدٍ أَنْ يُطَلِّقَ الثَّلَاثَ جَمِيعًا، وَلَمْ يُشْرَعْ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا طَلَاقًا بَائِنًا، وَلَكِنْ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بَانَتْ مِنْهُ، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَانَتْ مِنْهُ. فَالطَّلَاقُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ: الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ: وَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فِي الْعِدَّةِ وَرِثَهُ الْآخَرُ. وَالطَّلَاقُ الْبَائِنُ: وَهُوَ مَا يَبْقَى بِهِ خَاطِبًا مِنْ الْخُطَّابِ، لَا تُبَاحُ لَهُ إلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ. وَالطَّلَاقُ الْمُحَرِّمُ لَهَا: لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَهُوَ فِيمَا إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ، كَمَا أَذِنَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَهُوَ: أَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ، أَوْ يَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا، أَوْ يَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ. فَهَذَا الطَّلَاقُ الْمُحَرِّمُ لَهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا طَلَاقٌ بَائِنٌ يُحْسَبُ مِنْ الثَّلَاثِ.

وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَدَاوُد وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ " الْخُلْعَ " فَسْخٌ لِلنِّكَاحِ وَفِرْقَةٌ بَائِنَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، لَا يُحْسَبُ مِنْ الثَّلَاثِ. وَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ: كَابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ؛ وَإِنَّمَا عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ؛ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مَعْرُوفَةٌ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْخُلْعَ طَلَاقًا؛ لَكِنْ ضَعَّفَهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ، كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ؛ وَابْنِ خُزَيْمَةَ؛ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَغَيْرِهِمْ، كَمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْهُمْ. وَالْخُلْعُ: أَنْ تَبْذُلَ الْمَرْأَةُ عِوَضًا لِزَوْجِهَا؛ لِيُفَارِقَهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228] {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ - وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 230 - 231] فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُطَلَّقَاتِ بَعْدَ الدُّخُولِ يَتَرَبَّصْنَ أَيْ يَنْتَظِرْنَ ثَلَاثَ قُرُوءٍ.

" وَالْقُرْءُ " عِنْدَ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ: كَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَغَيْرِهِمْ: الْحَيْضُ. فَلَا تَزَالُ فِي الْعِدَّةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَيْضَةُ الثَّالِثَةُ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِطَعْنِهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَهِيَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 49] . ثُمَّ قَالَ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] . أَيْ فِي ذَلِكَ التَّرَبُّصِ. ثُمَّ قَالَ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] . فَبَيَّنَ أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ أَحَقَّ بِرَدِّهَا: هُوَ (مَرَّتَانِ) مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، كَمَا إذَا قِيلَ لِلرَّجُلِ: سَبِّحْ مَرَّتَيْنِ. أَوْ سَبِّحْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. أَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ. فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ. سُبْحَانَ اللَّهِ. حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْعَدَدَ. فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْمُلَ ذَلِكَ فَيَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ. لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَّحَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: الطَّلَاقُ طَلْقَتَانِ. بَلْ قَالَ: {مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْت طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ عَشْرًا، أَوْ أَلْفًا. لَمْ يَكُنْ قَدْ طَلَّقَهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، «وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ جُوَيْرِيَةَ: لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ. سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ. سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَى نَفْسِهِ. سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ التَّسْبِيحَ بِعَدَدِ ذَلِكَ، «كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَوَاتِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا. وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ» .

لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ سَبَّحَ تَسْبِيحًا بِقَدْرِ ذَلِكَ. فَالْمِقْدَارُ تَارَةً يَكُونُ وَصْفًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ، وَفِعْلُهُ مَحْصُورٌ. وَتَارَةً يَكُونُ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ، فَذَاكَ الَّذِي يُعَظِّمُ قَدْرَهُ؛ وَإِلَّا فَلَوْ قَالَ الْمُصَلِّي فِي صَلَاتِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ. لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَّحَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَلَمَّا شَرَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُسَبِّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيَحْمَدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيُكَبِّرَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ. فَلَوْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، عَدَدَ خَلْقِهِ. لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَّحَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَلَا نَعْرِفُ أَنَّ أَحَدًا طَلَّقَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَلْزَمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالثَّلَاثِ، وَلَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَا حَسَنٌ، وَلَا نَقَلَ أَهْلُ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ شَيْئًا؛ بَلْ رُوِيَتْ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ، بَلْ مَوْضُوعَةٌ؛ بَلْ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ: طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةٌ. فَقَالَ عُمَرُ: إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ طَاوُسٍ «أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَتَعْلَمُ إنَّمَا كَانَتْ الثَّلَاثُ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَثَلَاثًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: هَاتِ مِنْ هَنَاتِكَ، أَلَمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً؟ قَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي دَاوُد بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: طَلَّقَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ أَخُو بَنِي الْمُطَّلِبِ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا؛ قَالَ: فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ طَلَّقَتْهَا؟ قَالَ: طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا. قَالَ؛ فَقَالَ: فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ فَأَرْجِعْهَا إنْ شِئْتَ. قَالَ: فَرَجَعَهَا» .

فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ؛ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْمُخْتَارَةِ " الَّذِي هُوَ أَصَحُّ مِنْ " صَحِيحِ الْحَاكِمِ ". وَهَكَذَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثٍ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ " مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فِي مَجَالِسَ لَأَمْكَنَ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ قَدْ ارْتَجَعَهَا؛ فَإِنَّهَا عِنْدَهُ، وَالطَّلَاقُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ يَقَعُ. وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ فِي جَانِبِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ تَفْصِيلٌ، كَقَوْلِهِ: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» ، أَوْ: «لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» . وَهُوَ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَقَدْ يَحْمِلُ الْخَبَثَ، وَقَدْ لَا يَحْمِلُهُ. وَقَوْلُهُ: «فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ» . وَهِيَ إذَا لَمْ تَكُنْ سَائِمَةً قَدْ يَكُونُ فِيهَا الزَّكَاةُ - زَكَاةُ التِّجَارَةِ - وَقَدْ لَا يَكُونُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ، وَمَنْ لَمْ يُقِمْهَا فَقَدْ يُغْفَرُ لَهُ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَكَقَوْلِهِ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة: 218] . وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَقَدْ يَعْمَلُ عَمَلًا آخَرَ يَرْجُو بِهِ رَحْمَةَ اللَّهِ مَعَ الْإِيمَانِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. فَلَوْ كَانَ فِي مَجَالِسَ فَقَدْ يَكُونُ لَهُ فِيهَا رَجْعَةٌ، وَقَدْ لَا يَكُونُ؛ بِخِلَافِ الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ صَاحِبِهِ بِأَنَّهُ لَا يُرَاجِعُهَا فِيهِ؛ فَإِنَّ لَهُ

فِيهِ الرَّجْعَةَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ: «ارْجِعْهَا إنْ شِئْت» ، وَلَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» . فَأَمَرَهُ بِالرَّجْعَةِ، وَالرَّجْعَةُ يَسْتَقِلُّ بِهَا الزَّوْجُ: بِخِلَافِ الْمُرَاجَعَةِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ «أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللَّهُ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً؟ فَقَالَ: مَا أَرَدْت بِهَا إلَّا وَاحِدَةً. فَرَدَّهَا إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَأَبُو دَاوُد لَمَّا لَمْ يَرْوِ فِي سُنَنِهِ الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ: حَدِيثُ " أَلْبَتَّةَ " أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ: «أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا» ، لِأَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ أَعْلَمُ؛ لَكِنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَكَابِرَ الْعَارِفُونَ بِعِلَلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ فِيهِ: كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْبُخَارِيِّ، وَغَيْرِهِمَا وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ، وَغَيْرِهِ: ضَعَّفُوا حَدِيثَ أَلْبَتَّةَ، وَبَيَّنُوا أَنَّ رُوَاتَهُ قَوْمٌ مَجَاهِيلُ، لَمْ تُعْرَفْ عَدَالَتُهُمْ وَضَبْطُهُمْ، وَأَحْمَدُ أَثْبَتَ حَدِيثَ الثَّلَاثِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ الصَّوَابُ مِثْلُ قَوْلِهِ: حَدِيثُ رُكَانَةَ لَا يَثْبُتُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدِيثُ رُكَانَةَ فِي " أَلْبَتَّةَ " لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ يَرْوِيهِ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا» . وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ مَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا طَلَّقَ أَلْبَتَّةَ. وَأَحْمَدُ إنَّمَا عَدَلَ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ الثَّلَاثَ جَائِزَةٌ، مُوَافَقَةً لِلشَّافِعِيِّ. فَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: حَدِيثُ رُكَانَةَ مَنْسُوخٌ. ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ طَلَاقٌ مُبَاحٌ إلَّا الرَّجْعِيُّ عَدَلَ: عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ أَفْتَى بِخِلَافِهِ، وَهَذَا عِلَّةٌ عِنْدَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ؛ لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى الَّتِي عَلَيْهَا أَصْحَابُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُ الْعَمَلَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَعْذَارُ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الَّذِينَ أَلْزَمُوا مَنْ أَوْقَعَ جُمْلَةَ الثَّلَاثِ بِهَا مِثْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ أَكْثَرُوا مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ جَمْعِ الثَّلَاثِ، وَلَا يَنْتَهُونَ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِعُقُوبَةٍ: رَأَى عُقُوبَتَهُمْ بِإِلْزَامِهَا: لِئَلَّا يَفْعَلُوهَا، إمَّا مِنْ نَوْعِ التَّعْزِيرِ الْعَارِضِ الَّذِي يُفْعَلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، كَمَا كَانَ يَضْرِبُ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ، وَيَحْلِقُ الرَّأْسَ. وَيَنْفِي، وَكَمَا «مَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ الِاجْتِمَاعِ بِنِسَائِهِمْ» ، وَإِمَّا ظَنًّا أَنَّ جَعْلَهَا وَاحِدَةً كَانَ مَشْرُوطًا

بِشَرْطٍ وَقَدْ زَالَ، كَمَا ذَهَبَ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي مُتْعَةِ الْحَجِّ: إمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا مُتْعَةَ الْفَسْخِ. وَالْإِلْزَامُ بِالْفُرْقَةِ لِمَنْ لَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبِ: مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ؛ لَكِنْ تَارَةً يَكُونُ حَقًّا لِلْمَرْأَةِ، كَمَا فِي الْعِنِّينِ، وَالْمَوْلَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَالْعَاجِزِ عَنْ النَّفَقَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ. وَتَارَةً يُقَالُ: إنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ، كَمَا فِي تَفْرِيقِ الْحَكَمَيْنِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ إذَا لَمْ يُجْعَلَا وَكِيلَيْنِ، وَكَمَا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِالْمَوْلَى عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إذَا لَمْ يَفِ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ، كَمَا قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: إنَّهُمَا إذَا تَطَاوَعَا فِي الْإِتْيَانِ فِي الدُّبُرِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَالْأَبُ الصَّالِحُ إذَا أَمَرَ ابْنَهُ بِالطَّلَاقِ لَمَّا رَآهُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْوَلَدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَهُ. كَمَا قَالَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، كَمَا «أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ أَنْ يُطِيعَ أَبَاهُ لَمَّا أَمَرَهُ أَبُوهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ» . فَالْإِلْزَامُ إمَّا مِنْ الشَّارِعِ: وَإِمَّا مِنْ الْإِمَامِ بِالْفُرْقَةِ إذَا لَمْ يَقُمْ الزَّوْجُ بِالْوَاجِبِ: هُوَ مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ. فَلَمَّا كَانَ النَّاسُ إذَا لَمْ يُلْزَمُوا بِالثَّلَاثِ يَفْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ رَأَى عُمَرُ إلْزَامَهُمْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْزَمُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ؛ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ نَازَعُوا مَنْ قَالَ ذَلِكَ: إمَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا التَّعْزِيرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ. إمَّا لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُعَاقِبْ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَهَذَا فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، وَأَمَّا مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا بِجَهْلٍ أَوْ تَأْوِيلٍ فَلَا وَجْهَ لِإِلْزَامِهِ بِالثَّلَاثِ. وَهَذَا شَرْعٌ شَرَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا شَرَعَ نَظَائِرَهُ لَمْ يَخُصَّهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إنَّ مَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ - التَّمَتُّعَ كَمَا أَمَرَ بِهِ أَصْحَابُهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ - هُوَ شَرْعٌ مُطْلَقٌ، كَمَا أَخْبَرَ بِهِ لَمَّا «سُئِلَ أَعُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا؟ أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: لَا؛ بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ، دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَإِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّمَا شُرِعَ لِلشُّيُوخِ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِمْ مِثْلُ بَيَانِ جَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ: قَوْلٌ فَاسِدٌ؛ لِوُجُوهٍ مَبْسُوطَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] ، فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ تَنَازُعِهِمْ بِرَدِّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. فَمَا تَنَازَعَ فِيهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يُوجِبُ الْإِلْزَامَ بِالثَّلَاثِ بِمَنْ أَوْقَعَهَا جُمْلَةً بِكَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ بِدُونِ رَجْعَةٍ أَوْ عُقْدَةٍ؛ بَلْ إنَّمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْإِلْزَامُ بِذَلِكَ مَنْ طَلَّقَ الطَّلَاقَ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ الْقِيَاسُ وَالِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ أُصُولِ الشَّرْعِ؛ فَإِنَّ كُلَّ عَقْدٍ يُبَاحُ تَارَةً وَيَحْرُمُ تَارَةً - كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ - إذَا فُعِلَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرَّمِ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا نَافِذًا كَمَا يَلْزَمُ الْحَلَالُ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَمِنْ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَقَعُ بَاطِلًا غَيْرَ لَازِمٍ، وَكَذَلِكَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ بَيْعِ الْمُحَرَّمَاتِ: كَالْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ؛ وَالْمَيْتَةِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا كَانَ مُحَرَّمَ الْجِنْسِ كَالظِّهَارِ، وَالْقَذْفِ، وَالْكَذِبِ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا يَسْتَحِقُّ مَنْ فَعَلَهُ الْعُقُوبَةَ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَحْكَامِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ تَارَةً حَلَالًا وَتَارَةً حَرَامًا حَتَّى يَكُونَ تَارَةً صَحِيحًا وَتَارَةً فَاسِدًا. وَمَا كَانَ مُحَرَّمًا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مُبَاحًا مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ - كَافْتِدَاءِ الْأَسِيرِ، وَاشْتِرَاءِ الْمَجْحُودِ عِتْقُهُ، وَرِشْوَةِ الظَّالِمِ لِدَفْعِ ظُلْمَةٍ أَوْ لِبَذْلِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ، وَكَاشْتِرَاءِ الْإِنْسَانِ الْمُصَرَّاةَ وَمَا دُلِّسَ عَيْبُهُ، وَإِعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لِيَفْعَلَ الْوَاجِبَ أَوْ لِيَتْرُكَ الْمُحَرَّمَ، وَكَبَيْعِ الْجَالِبِ لِمَنْ تُلْقَى مِنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ - الْمَظْلُومَ يُبَاحُ لَهُ فِعْلُهُ، وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ، وَلَهُ أَنْ يُمْضِيَهُ؛ بِخِلَافِ الظَّالِمِ فَإِنَّ مَا فَعَلَهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ. وَالطَّلَاقُ هُوَ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَارَةً، وَحَرَّمَهُ أُخْرَى. فَإِذَا فُعِلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا نَافِذًا كَمَا يَلْزَمُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]

فَبَيَّنَ أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْمَدْخُولِ بِهَا - وَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ - (مَرَّتَانِ) وَبَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ: إمَّا (إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) بِأَنْ يُرَاجِعَهَا فَتَبْقَى زَوْجَتُهُ، وَتَبْقَى مَعَهُ عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ. وَإِمَّا (تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) بِأَنْ يُرْسِلَهَا إذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 49] . ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] . وَهَذَا هُوَ الْخُلْعُ سَمَّاهُ " افْتِدَاءً " لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَفْتَدِي نَفْسَهَا مِنْ أَسْرِ زَوْجِهَا، كَمَا يَفْتَدِي الْأَسِيرُ وَالْعَبْدُ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِمَا يَبْذُلُهُ. قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] يَعْنِي الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] يَعْنِي هَذَا الزَّوْجُ الثَّانِي {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 230] يَعْنِي عَلَيْهَا وَعَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ {أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا - فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 1 - 2] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] . وَفِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ. فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَغَيَّضَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ بَعْدُ أَمْسَكَهَا. وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا. فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» ، () وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا

طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا» وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ " قَرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ: " الطَّلَاقُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهَانِ حَلَالٌ. وَوَجْهَانِ حَرَامٌ. فَأَمَّا اللَّذَانِ هُمَا حَلَالٌ: فَأَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ طَاهِرًا فِي غَيْرِ جِمَاعٍ. أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا. وَأَمَّا اللَّذَانِ هُمَا حَرَامٌ: فَأَنْ يُطَلِّقَهَا حَائِضًا. أَوْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الْجِمَاعِ لَا يَدْرِي اشْتَمَلَ الرَّحِمُ عَلَى وَلَدٍ أَمْ لَا. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إلَّا إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا، وَهَذَا هُوَ الطَّلَاقُ لِلْعِدَّةِ. أَيْ: لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الطُّهْرُ أَوْ الْعِدَّةُ. فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْعِدَّةِ يَكُونُ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ، وَيَكُونُ قَدْ طَوَّلَ عَلَيْهَا التَّرَبُّصَ. وَطَلَّقَهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بِهِ إلَى طَلَاقِهَا، وَالطَّلَاقُ فِي الْأَصْلِ مِمَّا يُبْغِضُهُ. وَهُوَ أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ. وَإِنَّمَا أَبَاحَ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ كَمَا تُبَاحُ الْمُحَرَّمَاتُ لِلْحَاجَةِ: فَلِهَذَا حَرَّمَهَا بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ عُقُوبَةً لَهُ، لِيَنْتَهِيَ الْإِنْسَانُ عَنْ إكْثَارِ الطَّلَاقِ. فَإِذَا طَلَّقَهَا لَمْ تَزَلْ فِي الْعِدَّةِ مُتَرَبِّصَةً ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، وَهُوَ مَالِكٌ لَهَا يَرِثُهَا وَتَرِثُهُ، وَلَيْسَ لَهُ فَائِدَةٌ فِي تَعْجِيلِ الطَّلَاقِ قَبْلَ وَقْتِهِ؛ كَمَا لَا فَائِدَةَ فِي مُسَابَقَةِ الْإِمَامِ، وَلِهَذَا لَا يُعْتَدُّ لَهُ بِمَا فَعَلَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ؛ بَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ إذَا تَعَمَّدَ ذَلِكَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَهُوَ لَا يَزَالُ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يُسَلِّمَ. وَلِهَذَا جَوَّزَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْخُلْعَ فِي الْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى قَوْلِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ؛ بَلْ فُرْقَةٌ بَائِنَةٌ، وَهُوَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَحْمَدَ؛ وَلِأَنَّهَا تَمْلِكُ نَفْسَهَا بِالِاخْتِلَاعِ فَلَهُمَا فَائِدَةٌ فِي تَعْجِيلِ الْإِبَانَةِ لِرَفْعِ الشَّرِّ الَّذِي بَيْنَهُمَا؛ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَعْجِيلِهِ قَبْلَ وَقْتِهِ؛ بَلْ ذَلِكَ شَرٌّ بِلَا خَيْرٍ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ طَلَاقٌ فِي وَقْتٍ لَا يُرْغَبُ فِيهَا، وَقَدْ لَا يَكُونُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَقْتَ الرَّغْبَةِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ حَاجَةٍ. «وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ عُمَرَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» مِمَّا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ فِي مُرَادِ النَّبِيِّ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَفَهِمَ مِنْهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، أَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ لَزِمَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا؛ ثُمَّ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ إنْ شَاءَ. وَتَنَازَعَ هَؤُلَاءِ: هَلْ الِارْتِجَاعُ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي؟ وَفِي حِكْمَةِ هَذَا النَّهْيِ؛ أَقْوَالٌ: ذَكَرْنَاهَا وَذَكَرْنَا مَأْخَذَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَفَهِمَ طَائِفَةٌ أُخْرَى: أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا فَارَقَهَا بِبَدَنِهِ كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ مِنْ الرَّجُلِ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ اعْتَزَلَهَا بِبَدَنِهِ وَاعْتَزَلَتْهُ بِبَدَنِهَا؛ «فَقَالَ لِعُمَرَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» ، وَلَمْ يَقُلْ: فَلْيَرْتَجِعْهَا. " وَالْمُرَاجَعَةُ " مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ: أَيْ تَرْجِعُ إلَيْهِ بِبَدَنِهَا فَيَجْتَمِعَانِ كَمَا كَانَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَلْزَمْهُ، فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الَّذِي أَبَاحَ اللَّهُ فِيهِ الطَّلَاقَ طَلَّقَهَا حِينَئِذٍ إنْ شَاءَ. قَالَ هَؤُلَاءِ: وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ لَزِمَ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَمْرِ بِالرَّجْعَةِ لِيُطَلِّقَهَا طَلْقَةً ثَانِيَةً فَائِدَةٌ؛ بَلْ فِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَيْهِمَا؛ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِي الطَّلَاقِ مَعَ الْأَوَّلِ تَكْثِيرُ الطَّلَاقِ؛ وَتَطْوِيلُ الْعِدَّةِ، وَتَعْذِيبُ الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ؛ بَلْ إذَا وَطِئَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا؛ أَوْ تَطْهُرَ الطُّهْرَ الثَّانِيَ. وَقَدْ يَكُونُ زَاهِدًا فِيهَا يَكْرَهُ أَنْ يَطَأَهَا فَتَعْلَقُ مِنْهُ؛ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا؟ ، وَلِهَذَا لَمْ يُوجِبْ الْوَطْءَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلَكِنْ أَخَّرَ الطَّلَاقَ إلَى الطُّهْرِ الثَّانِي. وَلَوْلَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَوَّلًا لَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُبِيحَ لَهُ الطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ فِي إمْسَاكِهَا فَائِدَةٌ مَقْصُودَةٌ بِالنِّكَاحِ إذَا كَانَ لَا يُمْسِكُهَا إلَّا لِأَجْلِ الطَّلَاقِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يَحْصُلْ إلَّا زِيَادَةُ ضَرَرٍ عَلَيْهِمَا، وَالشَّارِعُ لَا يَأْمُرُ بِذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ طَلَاقِهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ لِيَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْوَطْءِ الَّذِي لَا يَعْقُبُهُ طَلَاقٌ: فَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا، أَوْ وَطِئَهَا أَوْ حَاضَتْ بَعْدَ ذَلِكَ: فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا؛ وَلِأَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ وَطْئِهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الثَّانِي: دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى طَلَاقِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِيهَا إذْ لَوْ كَانَتْ لَهُ فِيهَا رَغْبَةٌ لَجَامَعَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ. قَالُوا: لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ ابْنَ عُمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ وَهُوَ يَرْتَجِعُهَا لَأَمَرَ بِالْإِشْهَادِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الطَّلَاقَ فِي غَيْرِ آيَةٍ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِالرَّجْعَةِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ؛ بَلْ قَالَ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]

، فَخُيِّرَ الزَّوْجُ إذَا قَارَبَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بَيْنَ أَنْ يُمْسِكَهَا بِمَعْرُوفٍ - وَهُوَ الرَّجْعَةُ - وَبَيْنَ أَنْ يُسَيِّبَهَا فَيُخَلِّيَ سَبِيلَهَا إذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ؛ وَلَا يَحْبِسَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَمَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً عَلَيْهِ فِي الْعِدَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] . وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ قَدْ لَزِمَ لَكَانَ حَصَلَ الْفَسَادُ الَّذِي كَرِهَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَذَلِكَ الْفَسَادُ لَا يَرْتَفِعُ بِرَجْعَةٍ يُبَاحُ لَهُ الطَّلَاقُ بَعْدَهَا، وَالْأَمْرُ بِرَجْعَةٍ لَا فَائِدَةَ فِيهَا مِمَّا تَنَزَّهَ عَنْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ رَاغِبًا فِي الْمَرْأَةِ فَلَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا، وَإِنْ كَانَ رَاغِبًا عَنْهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا، فَلَيْسَ فِي أَمْرِهِ بِرَجْعَتِهَا مَعَ لُزُومِ الطَّلَاقِ لَهُ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ؛ بَلْ زِيَادَةُ مَفْسَدَةٍ: وَيَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْأَمْرِ بِمَا يَسْتَلْزِمُ زِيَادَةَ الْفَسَادِ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ لِمَنْعِ الْفَسَادِ، فَكَيْفَ يَأْمُرُ بِمَا يَسْتَلْزِمُ زِيَادَةَ الْفَسَادِ؟ ، وَقَوْلُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ أَشْبَهُ بِالْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ، فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُتَنَاقِضٌ؛ إذْ الْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ: أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ إذَا فُعِلَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرَّمِ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً صَحِيحَةً، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ نَازَعَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فَالصَّوَابُ مَعَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ كَانُوا يَسْتَدِلُّونَ عَلَى فَسَادِ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَةِ بِتَحْرِيمِ الشَّارِعِ لَهَا، وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُمْ. وَأَيْضًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِهَا لَمْ يَكُنْ عَنْ الشَّارِعِ مَا يُبَيِّنُ الصَّحِيحَ مِنْ الْفَاسِدِ، فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا: النَّهْيُ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ. قَالُوا: نَعْلَمُ صِحَّةَ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودِ وَفَسَادَهَا بِجَعْلِ الشَّارِعِ هَذَا شَرْطًا أَوْ مَانِعًا وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ هَذَا صَحِيحٌ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْإِخْبَارِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ مِثْلُ قَوْلِهِ: الطَّهَارَةُ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ وَالْكُفْرُ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا الْعَقْدُ، وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ لَا تَصِحُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ بَلْ إنَّمَا فِي كَلَامِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالتَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ، وَفِي نَفْيِ الْقَبُولِ وَالصَّلَاحِ، كَقَوْلِهِ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ

وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ» ، وَقَوْلُهُ: " هَذَا لَا يَصْلُحُ ". وَفِي كَلَامِهِ: " إنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ كَذَا " وَفِي كَلَامِهِ: الْوَعْدُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ فَلَمْ نَسْتَفِدْ الصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ إلَّا بِمَا ذَكَرَهُ، وَهُوَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ بَيَّنَ ذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ قَطْعًا. وَأَيْضًا فَالشَّارِعُ يُحَرِّمُ الشَّيْءَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الْخَالِصَةِ، أَوْ الرَّاجِحَةِ. وَمَقْصُودُهُ بِالتَّحْرِيمِ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ الْفَسَادِ، وَجَعَلَهُ مَعْدُومًا. فَلَوْ كَانَ مَعَ التَّحْرِيمِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَلَالِ فَيَجْعَلُهُ لَازِمًا نَافِذًا كَالْحَلَالِ لَكَانَ ذَلِكَ إلْزَامًا مِنْهُ بِالْفَسَادِ الَّذِي قَصَدَ عَدَمَهُ. فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَسَادُ قَدْ أَرَادَ عَدَمَهُ مَعَ أَنَّهُ أَلْزَمَ النَّاسَ بِهِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ الشَّارِعُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: إنَّهُ إنَّمَا حَرَّمَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ لِئَلَّا يَنْدَمَ الْمُطَلِّقُ؛ دَلَّ عَلَى لُزُومِ النَّدَمِ لَهُ إذَا فَعَلَهُ. وَهَذَا يَقْتَضِي صِحَّتَهُ. فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا يَتَضَمَّنُ أَنْ كُلَّمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ يَكُونُ صَحِيحًا، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ. فَيُقَالُ: إنْ كَانَ مَا قَالَهُ هَذَا صَحِيحًا هُنَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ؛ إذْ لَوْ كَانَ فَاسِدًا لَمْ تَحْصُلْ الْقَطِيعَةُ، وَهَذَا جَهْلٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ بَيَّنَ حِكْمَتَهُ فِي مَنْعِهِ مِمَّا نَهَى عَنْهُ، وَأَنَّهُ لَوْ أَبَاحَهُ لَلَزِمَ الْفَسَادُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا خَالَتِهَا؛ فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ» ، وَنَحْوُ ذَلِكَ: يُبَيِّنُ أَنَّ الْفِعْلَ لَوْ أُبِيحَ لَحَصَلَ بِهِ الْفَسَادُ، فَحَرُمَ مَنْعًا مِنْ هَذَا الْفَسَادِ. ثُمَّ الْفَسَادُ يَنْشَأُ مِنْ إبَاحَتِهِ وَمِنْ فِعْلِهِ. وَإِذَا اعْتَقَدَ الْفَاعِلُ أَنَّهُ مُبَاحٌ، أَوْ أَنَّهُ صَحِيحٌ فَإِمَّا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ بَاطِلٌ وَالْتِزَامُ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا تَحْصُلُ الْمَفْسَدَةُ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الْمَفْسَدَةُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْمَفَاسِدُ فِيهَا فِتْنَةٌ وَعَذَابٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] . وَقَوْلُ الْقَائِلِ: لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ غَيْرَ لَازِمٍ لَمْ يَحْصُلْ الْفَسَادُ. فَيُقَالُ: هَذَا هُوَ

مَقْصُودُ الشَّارِعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَهَى عَنْهُ، وَحَكَمَ بِبُطْلَانِهِ، لِيَزُولَ الْفَسَادُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَفَعَلَهُ النَّاسُ وَاعْتَقَدُوا صِحَّتَهُ فَيَلْزَمُ الْفَسَادُ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ، وَأَنَّهُ شَرْعِيٌّ، وَأَنَّهُ يُسَمَّى بَيْعًا، وَنِكَاحًا، وَصَوْمًا. كَمَا يَقُولُونَ فِي نَهْيِهِ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ، وَلَعْنِهِ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ، وَنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، وَنَهْيِهِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَيُقَالُ: أَمَّا تَصَوُّرُهُ حِسًّا فَلَا رَيْبَ فِيهِ. وَهَذَا كَنَهْيِهِ عَنْ نِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَعَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْت شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ. فَقَالَ: لَا هُوَ حَرَامٌ ثُمَّ قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» فَتَسْمِيَتُهُ لِهَذَا نِكَاحًا وَبَيْعًا لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا بَاطِلًا؛ بَلْ دَلَّ عَلَى إمْكَانِهِ حِسًّا. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّهُ شَرْعِيٌّ: إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُسَمَّى بِمَا أَسْمَاهُ بِهِ الشَّارِعُ؛ فَهَذَا صَحِيحٌ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِيهِ: فَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ رَتَّبَ

عَلَيْهِ حُكْمَهُ، وَجَعَلَهُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَيَلْزَمُ النَّاسَ حُكْمُهُ؛ كَمَا فِي الْمُبَاحِ فَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ فِي أَكْثَرِ الصُّوَرِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ فِي صُورَةٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يَحْتَجُّ بِهِ هَؤُلَاءِ بِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ؛ فَلَيْسَ مَعَهُمْ صُورَةٌ قَدْ ثَبَتَ فِيهَا مَقْصُودُهُمْ؛ لَا بِنَصٍّ، وَلَا إجْمَاعٍ. وَكَذَلِكَ " الْمُحَلِّلُ " الْمَلْعُونُ، لَعَنَهُ لِأَنَّهُ قَصَدَ التَّحْلِيلَ لِلْأَوَّلِ بِعَقْدِهِ؛ لَا لِأَنَّهُ أَحَلَّهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ لَكَانَ قَدْ أَحَلَّهَا بِالْإِجْمَاعِ؛ وَهَذَا غَيْرُ مَلْعُونٍ بِالْإِجْمَاعِ فَعُلِمَ أَنَّ اللَّعْنَةَ لِمَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ. وَعُلِمَ أَنَّ الْمَلْعُونَ لَمْ يُحَلِّلْهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَدَلَّتْ اللَّعْنَةُ عَلَى تَحْرِيمِ فِعْلِهِ، وَالْمُنَازِعُ يَقُولُ فِعْلُهُ مُبَاحٌ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ مَعَهُمْ: بَلْ الصَّوَابُ مَعَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَمَنْ خَرَجَ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ جَوَابٌ صَحِيحٌ وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضَ، كَمَا تَنَاقَضَ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذِهِ. وَالْأُصُولُ الَّتِي لَا تَنَاقُضَ فِيهَا مَا أُثْبِتَ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ. وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَالتَّنَاقُضُ مَوْجُودٌ فِيهِ، وَلَيْسَ هُوَ حُجَّةٌ عَلَى أَحَدٍ. وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا يَتَنَاقَضُ هُوَ مُوَافِقٌ لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ؛ بَلْ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ النَّصُّ قَدْ دَلَّ عَلَى الْحُكْمِ؛ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَهَذَا مَعْنَى الْعِصْمَةِ؛ فَإِنَّ كَلَامَ الْمَعْصُومِ لَا يَتَنَاقَضُ، وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْصُومٌ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ مَعْصُومٌ فِيمَا شَرَعَهُ لِلْأُمَّةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ الْأُمَّةُ أَيْضًا مَعْصُومَةٌ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ؛ بِخِلَافِ مَا سِوَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلَائِقِ الْإِيمَانَ بِهِ وَطَاعَتَهُ، وَتَحْلِيلَ مَا حَلَّلَهُ وَتَحْرِيمَ مَا حَرَّمَهُ، وَهُوَ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، فَالْمُؤْمِنُونَ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ الْهُدَى وَالرَّشَادِ؛ هُمْ مُتَّبِعُونَ. وَالْكُفَّارُ أَهْلُ النَّارِ، وَأَهْلُ الْغَيِّ، وَالضَّلَالِ هُمْ الَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوهُ. وَمَنْ آمَنَ بِهِ بَاطِنًا، وَظَاهِرًا، وَاجْتَهَدَ فِي مُتَابَعَتِهِ: فَهُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْطَأَ وَغَلِطَ فِي بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ، فَلَمْ يُبَلِّغْهُ أَوْ لَمْ يَفْهَمْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ

الْمُؤْمِنِينَ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قَدْ فَعَلْت ". وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ؛ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] . فَقَدْ خَصَّ أَحَدَ النَّبِيَّيْنِ الْكَرِيمَيْنِ بِالتَّفَهُّمِ مَعَ ثَنَائِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ أُوتِيَ عِلْمًا وَحُكْمًا. فَهَكَذَا إذَا خَصَّ اللَّهُ أَحَدَ الْعَالَمِينَ بِعِلْمِ أَمْرٍ وَفَهْمِهِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ ذَمَّ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ مِنْ الْعُلَمَاءِ. بَلْ كُلُّ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْ الدِّينِ مَا فَهِمَهُ غَيْرُهُ. وَقَدْ قَالَ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ - وَبَعْضُهُمْ يَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ طَلَبَ عِلْمًا فَأَدْرَكَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمَنْ طَلَبَ عِلْمًا فَلَمْ يُدْرِكْهُ فَلَهُ أَجْرٌ» . وَهَذَا يُوَافِقُ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» () . وَهَذِهِ الْأُصُولُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ مِمَّا يَقُولُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: إنَّهُ لَازِمٌ. وَالسَّلَفُ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالْجُمْهُورُ يُسَلِّمُونَ: أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ. وَلَا يَذْكُرُونَ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ هَذِهِ الصُّورَةِ فَرْقًا صَحِيحًا. وَهَذَا مِمَّا تَسَلَّطَ بِهِ عَلَيْهِمْ مَنْ نَازَعُوهُمْ فِي أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ. وَاحْتَجَّ بِمَا سَلَّمُوهُ لَهُ مِنْ الصُّوَرِ؛ وَهَذِهِ حُجَّةٌ جَدَلِيَّةٌ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ قَوْلِهِ؛ وَإِنَّمَا تُفِيدُ أَنَّ مُنَازَعِيهِ أَخْطَئُوا: إمَّا فِي صُورَةِ النَّقْضِ وَإِمَّا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَخَطَؤُهُمْ فِي إحْدَاهُمَا لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخَطَأُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ بَلْ هَذَا الْأَصْلُ أَصْلٌ عَظِيمٌ عَلَيْهِ مَدَارُ كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ

نَقْضُهُ بِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ مَعَهُمْ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ؛ بَلْ الْأُصُولُ وَالنُّصُوصُ لَا تُوَافِقُ؛ بَلْ تُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ. وَمَنْ تَدَبَّرَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشْرَعْ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ جُمْلَةً قَطُّ. وَأَمَّا الطَّلَاقُ الْبَائِنُ فَإِنَّهُ شَرَعَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَطَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ لِمَنْ لَمْ يَجْعَلْ الثَّلَاثَ الْمَجْمُوعَةَ إلَّا وَاحِدَةً: أَنْتُمْ خَالَفْتُمْ عُمَرَ؛ وَقَدْ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى الْتِزَامِ ذَلِكَ فِي زَمَنِ عُمَرَ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ ذَلِكَ إجْمَاعًا، فَيَقُولُ لَهُمْ: أَنْتُمْ خَالَفْتُمْ عُمَرَ فِي الْأَمْرِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، بَلْ وَفِي الْأَمْرِ الَّذِي مَعَهُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَإِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُجَوِّزُ التَّحْلِيلَ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " لَا أُوتِيَ بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتهمَا ". وَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ، مِثْلُ: عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَغَيْرِهِ؛ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَعَادَ الْمَرْأَةَ إلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ. وَعُمَرَ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ مَعَهُمْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ: «كَلَعْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَقَدْ خَالَفَهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ اجْتِهَادًا، وَاَللَّهُ يَرْضَى عَنْ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: " إنَّهَا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ ". وَأَكْثَرُهُمْ يُخَالِفُونَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ: إنَّهُ خَيَّرَ الْمَفْقُودَ إذَا رَجَعَ فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ الْمَهْرِ. وَهَذَا أَيْضًا مَعْرُوفٌ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ: كَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ. وَذَكَرَهُ أَحْمَدُ عَنْ ثَمَانِيَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ: إلَى أَيِّ شَيْءٍ يَذْهَبُ الَّذِي يُخَالِفُ هَؤُلَاءِ؟ ، وَمَعَ هَذَا فَأَكْثَرُهُمْ يُخَالِفُونَ عُمَرَ وَسَائِرَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْقِضُ حُكْمَ مَنْ حَكَمَ بِهِ. وَعُمَرُ وَالصَّحَابَةُ جَعَلُوا الْأَرْضَ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً؛ كَأَرْضِ الشَّامِ، وَمِصْرَ، وَالْعِرَاقِ، وَخُرَاسَانَ، وَالْمَغْرِبِ، فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ؛ وَلَمْ يَقْسِمْ عُمَرُ وَلَا عُثْمَانُ أَرْضًا فَتَحَهَا عَنْوَةً، وَلَمْ يَسْتَطِبْ عُمَرُ أَنْفُسَ جَمِيعِ الْغَانِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَرَضِينَ؛ وَإِنْ ظَنَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ اسْتَطَابُوا أَنْفُسَهُمْ فِي السَّوَادِ، بَلْ طَلَبَ مِنْهُمْ بِلَالٌ وَالزُّبَيْرُ وَغَيْرُهُمَا قِسْمَةَ أَرْضِ الْعَنْوَةِ فَلَمْ يُجِبْهُمْ، وَمَعَ هَذَا فَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ يُخَالِفُ عُمَرَ وَالصَّحَابَةَ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ

مِنْ زَمَنِهِمْ؛ بَلْ يُنْقَضُ حُكْمُ مَنْ حَكَمَ بِحُكْمِهِمْ أَيْضًا. فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ لَمْ يُخَمِّسُوا قَطُّ مَالَ فَيْءٍ وَلَا خَمَّسَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا جَعَلُوا خُمُسَ الْغَنِيمَةِ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ مُتَسَاوِيَةٍ، وَمَعَ هَذَا: فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُخَالِفُ ذَلِكَ. وَنَظَائِرُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ. وَالْأَصْلُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ: إنَّمَا تَنَازَعُوا فِيهِ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] . وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَظُنَّ بِالصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ شَرِيعَتِهِ؛ بَلْ هَذَا مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ؛ وَلَا يَجُوزُ دَعْوَى نَسْخِ مَا شَرَعَهُ الرَّسُولُ بِإِجْمَاعِ أَحَدٍ بَعْدَهُ، كَمَا يَظُنُّ طَائِفَةٌ مِنْ الْغَالِطِينَ؛ بَلْ كُلَّمَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ إلَّا مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ لَا مُخَالِفًا لَهُ؛ بَلْ كُلُّ نَصٍّ مَنْسُوخٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَمَعَ الْأُمَّةِ النَّصُّ النَّاسِخُ لَهُ؛ تَحْفَظُ الْأُمَّةُ النَّصَّ النَّاسِخَ كَمَا تَحْفَظُ النَّصَّ الْمَنْسُوخَ، وَحِفْظُ النَّاسِخِ أَهَمُّ عِنْدَهَا وَأَوْجَبُ عَلَيْهَا مِنْ حِفْظِ الْمَنْسُوخِ، وَيَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ مَعَهُ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ نَصِّ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَلَكِنْ قَدْ يَجْتَهِدُ الْوَاحِدُ وَيُنَازِعُهُ غَيْرُهُ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ. هَذَا مِنْهَا، كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا. وَلِهَذَا لَمَّا رَأَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ الْمَبْتُوتَةَ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ فَظَنَّ أَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَيْهِ نَازَعَهُ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَهَا السُّكْنَى فَقَطْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى. وَكَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ، وَهِيَ الَّتِي رَوَتْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ لَكِ نَفَقَةٌ وَلَا سُكْنَى» . فَلَمَّا احْتَجُّوا عَلَيْهَا بِحُجَّةِ عُمَرَ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] . قَالَتْ هِيَ وَغَيْرُهَا مِنْ الصَّحَابَةِ - كَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ

وَغَيْرِهِمَا: هَذَا فِي الرَّجْعِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ؟ ، وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ مَعَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا فِي: " الطَّلَاقِ "، لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] . قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ؛ فَإِنَّهُ لَوْ شَرَعَ إيقَاعَ الثَّلَاثِ عَلَيْهِ لَكَانَ الْمُطَلِّقُ يَنْدَمُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَا سَبِيلَ إلَى رَجْعَتِهَا: فَيَحْصُلُ لَهُ ضَرَرٌ بِذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا يَنْفَعُهُمْ، وَنَهَاهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى أَيْضًا بَعْدَ ذَلِكَ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] . وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ؛ لَا يَكُونُ فِي الثَّلَاثِ، وَلَا فِي الْبَائِنِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] . فَأَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ؛ وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهَا مَأْمُورٌ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، قِيلَ: أَمْرَ إيجَابٍ. وَقِيلَ: أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ: أَنَّ الْإِشْهَادَ هُوَ الطَّلَاقُ، وَظَنَّ أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي لَا يُشْهَدُ عَلَيْهِ لَا يَقَعُ. وَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَخِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ بِهِ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ أُذِنَ فِيهِ أَوَّلًا، وَلَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِالْإِشْهَادِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ حِينَ قَالَ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] . وَالْمُرَادُ هُنَا بِالْمُفَارَقَةِ: تَخْلِيَةُ سَبِيلِهَا إذَا قَضَتْ الْعِدَّةَ، وَهَذَا لَيْسَ بِطَلَاقٍ وَلَا بِرَجْعَةٍ وَلَا نِكَاحٍ. وَالْإِشْهَادُ فِي هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَعُلِمَ أَنَّ الْإِشْهَادَ إنَّمَا هُوَ عَلَى الرَّجْعَةِ. وَمِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ: أَنَّهُ قَدْ يُطَلِّقُهَا وَيَرْتَجِعُهَا، فَيُزَيِّنُ لَهُ الشَّيْطَانُ كِتْمَانَ ذَلِكَ حَتَّى يُطَلِّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَاقًا مُحَرَّمًا وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ، فَتَكُونُ مَعَهُ حَرَامًا، فَأَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الرَّجْعَةِ لِيَظْهَرَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَتْ بِهِ طَلْقَةٌ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ وَجَدَ اللُّقَطَةَ أَنْ يُشْهِدَ

عَلَيْهَا؛ لِئَلَّا يُزَيِّنَ الشَّيْطَانُ كِتْمَانَ اللُّقَطَةِ؛ وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا بَلْ خَلَّى سَبِيلَهَا فَإِنَّهُ يَظْهَرُ لِلنَّاسِ أَنَّهَا لَيْسَتْ امْرَأَتَهُ؛ بَلْ هِيَ مُطَلَّقَةٌ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا بَقِيَتْ زَوْجَةً عِنْدَهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي النَّاسُ أَطَلَّقَهَا أَمْ لَمْ يُطَلِّقْهَا. وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّفَاحِ وَاِتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى؛ وَلِهَذَا مَضَتْ السُّنَّةُ بِإِعْلَانِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَالسِّفَاحِ مَكْتُومًا؛ لَكِنْ؛ هَلْ الْوَاجِبُ مُجَرَّدُ الْإِشْهَادِ؟ أَوْ مُجَرَّدُ الْإِعْلَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إشْهَادٌ؟ أَوْ يَكْفِي أَيُّهُمَا كَانَ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، كَمَا قَدْ ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] . وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ. وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى مُرَادَةٌ مِنْ هَذَا النَّصِّ الْعَامِّ، فَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ فِي الطَّلَاقِ فَطَلَّقَ كَمَا أَمَرَ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا مِمَّا ضَاقَ عَلَى غَيْرِهِ، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَيَفْعَلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وَمَنْ كَانَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ طَلَاقِ الْبِدْعَةِ، فَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ مُحَرَّمٌ، أَوْ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ مُحَرَّمٌ: فَهَذَا إذَا عَرَفَ التَّحْرِيمَ وَتَابَ صَارَ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ فَاسْتَحَقَّ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا. وَمَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ، وَفِعْلُ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا مَنْ يُفْتِيهِ بِأَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ: فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عُقُوبَةً بِقَدْرِ ظُلْمِهِ، كَمُعَاقَبَةِ أَهْلِ السَّبْتِ بِمَنْعِ الْحِيتَانِ أَنْ تَأْتِيَهُمْ، فَإِنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَعُوقِبَ بِالضِّيقِ. وَإِنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَعَرَّفَهُ الْحَقَّ، وَأَلْهَمَهُ التَّوْبَةَ، وَتَابَ: " فَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ "، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ دَخَلَ فِيمَنْ يَتَّقِي اللَّهَ، فَيَسْتَحِقُّ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، فَإِنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ. فَكُلُّ مَنْ تَابَ فَلَهُ فَرَجٌ فِي شَرْعِهِ؛ بِخِلَافِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا فَإِنَّ التَّائِبَ مِنْهُمْ كَانَ يُعَاقَبُ بِعُقُوبَاتٍ: كَقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا يَقُولُ لَهُ: لَوْ اتَّقَيْت اللَّهَ لَجَعَلَ لَك مَخْرَجًا. وَكَانَ تَارَةً يُوَافِقُ عُمَرَ فِي الْإِلْزَامِ بِذَلِكَ لِلْمُكْثِرِينَ مِنْ فِعْلِ الْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِمْ؛ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ

أَنَّهُ كَانَ تَارَةً لَا يَلْزَمُ إلَّا وَاحِدَةً. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَغْضَبُ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ، وَيَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أَتَى الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ فَقَدْ تَبَيَّنَ لَهُ؛ وَإِلَّا فَوَاَللَّهِ مَا لَنَا طَاقَةٌ بِكُلِّ مَا تُحْدِثُونَ. وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَلَا أَبِي بَكْرٍ؛ وَلَا عُمَرَ؛ وَلَا عُثْمَانَ؛ وَلَا عَلِيٍّ " نِكَاحُ تَحْلِيلٍ " ظَاهِرٌ تَعْرِفُهُ الشُّهُودُ وَالْمَرْأَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ. وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ أَنَّهُمْ أَعَادُوا الْمَرْأَةَ عَلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ، فَإِنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يُطَلِّقُونَ فِي الْغَالِبِ طَلَاقَ السُّنَّةِ. وَلَمْ يَكُونُوا يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ نَقْلٌ خَاصٌّ فِي الْحَلِفِ؛ وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْهُمْ الْكَلَامُ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ؛ لَا فِي الْحَلِفِ بِهِ. وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ بِهِ، كَمَا يُعْرَفُ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّذْرِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَطْلُبُ مِنْ اللَّهِ حَاجَةً فَقَالَ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرَضِي. أَوْ قَضَى دَيْنِي، أَوْ خَلَّصَنِي مِنْ هَذِهِ الشِّدَّةِ؛ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. أَوْ أَصُومَ شَهْرًا؛ أَوْ أُعْتِقَ رَقَبَةً؛ فَهَذَا تَعْلِيقُ نَذْرٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَإِذَا عَلَّقَ النَّذْرَ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ فَقَالَ: إنْ سَافَرْت مَعَكُمْ إنْ زَوَّجْتِ فُلَانًا. أَنْ أَضْرِبَ فُلَانًا. إنْ لَمْ أُسَافِرْ مِنْ عِنْدِكُمْ؛ فَعَلَيَّ الْحَجُّ. أَوْ: فَمَالٍ صَدَقَةٌ. أَوْ: فَعَلَيَّ عِتْقٌ. فَهَذَا عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ هُوَ حَالِفٌ بِالنَّذْرِ؛ لَيْسَ بِنَاذِرٍ. فَإِذَا لَمْ يَفِ بِمَا الْتَزَمَهُ أَجْزَأَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَكَذَلِكَ أَفْتَى الصَّحَابَةُ فِيمَنْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ. أَنَّهُ يَمِينٌ يُجْزِيهِ فِيهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ التَّابِعِينَ فِي هَذَا كُلِّهِ لَمَّا أَحْدَثَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ تَحْلِيفَ النَّاسِ بِأَيْمَانِ الْبَيْعَةِ - وَهُوَ التَّحْلِيفُ بِالطَّلَاقِ؛ وَالْعَتَاقِ؛ وَالتَّحْلِيفُ بِاسْمِ اللَّهِ؛ وَصَدَقَةِ الْمَالِ. وَقِيلَ: كَانَ فِيهَا التَّحْلِيفُ بِالْحَجِّ - تَكَلَّمَ حِينَئِذٍ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ، وَتَكَلَّمُوا فِي بَعْضِهَا عَلَى ذَلِكَ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إذَا حَنِثَ بِهَا لَزِمَهُ مَا الْتَزَمَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَلْزَمُهُ إلَّا الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلَى هَذَا جِنْسُ أَيْمَانِ أَهْلِ الشِّرْكِ؛ لَا يَلْزَمُ بِهَا شَيْءٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هِيَ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ يَلْزَمُ فِيهَا مَا يَلْزَمُ فِي سَائِرِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ. وَاتَّبَعَ هَؤُلَاءِ مَا نُقِلَ فِي هَذَا الْجِنْسِ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ لَمْ تَكُنْ امْرَأَةٌ تُرَدُّ

إلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ، وَكَانَ إنَّمَا يُفْعَلُ سِرًّا؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ؛ وَشَاهِدَيْهِ، وَكَاتِبَهُ وَلَعَنَ الْمُحَلِّلَ، وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. «وَلَعَنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرِّبَا: الْآخِذَ، وَالْمُعْطِيَ، وَالشَّاهِدَيْنِ، وَالْكَاتِبَ» ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ يُكْتَبُ وَيُشْهَدُ عَلَيْهِ، وَلَعَنَ فِي التَّحْلِيلِ: الْمُحَلِّلَ، وَالْمُحَلَّلَ لَهُ، وَلَمْ يَلْعَنْ الشَّاهِدَيْنِ وَالْكَاتِبَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِهِ تُكْتَبُ الصَّدَاقَاتُ فِي كِتَابٍ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ الصَّدَاقَ فِي الْعَادَةِ الْعَامَّةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَا يَبْقَى دِينَارٌ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى كِتَابٍ وَشُهُودٍ، وَكَانَ الْمُحَلِّلُ يَكْتُمُ ذَلِكَ هُوَ وَالزَّوْجُ الْمُحَلَّلُ لَهُ. وَالْمَرْأَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ وَالشُّهُودُ لَا يَدْرُونَ بِذَلِكَ. «وَلَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» إذْ كَانُوا هُمْ الَّذِينَ فَعَلُوا الْمُحَرَّمَ؛ دُونَ هَؤُلَاءِ. وَالتَّحْلِيلُ لَمْ يَكُونُوا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي الْأَمْرِ الْغَالِبِ، إذْ كَانَ الرَّجُلُ إنَّمَا يَقَعُ مِنْهُ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ إذَا طَلَّقَ بَعْدَ رَجْعَةٍ أَوْ عَقْدٍ فَلَا يَنْدَمُ بَعْدَ الثَّلَاثِ إلَّا نَادِرٌ مِنْ النَّاسِ؛ وَكَانَ يَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ عِصْيَانِهِ وَتَعَدِّيهِ لِحُدُودِ اللَّهِ فَيَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، فَيَلْعَنُ مَنْ يَقْصِدُ تَحْلِيلَ الْمَرْأَةِ لَهُ؛ وَيَلْعَنُ هَؤُلَاءِ أَيْضًا: لِأَنَّهُمَا تَعَاوَنَا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. فَلَمَّا حَدَثَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ، أَنَّ الْحَانِثَ يَلْزَمُهُ مَا أَلْزَمَهُ نَفْسَهُ، وَلَا تُجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ يَلْزَمُ، وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ يَقَعُ وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ يَقَعُ. وَكَانَ بَعْضُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ الصَّحَابَةُ؛ وَبَعْضُهَا مِمَّا قِيلَ بَعْدَهُمْ: كَثُرَ اعْتِقَادُ النَّاسِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، مَعَ مَا يَقَعُ مِنْ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ وَالْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِمُفَارَقَةِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، فَصَارَ الْمُلْزِمُونَ بِالطَّلَاقِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا حِزْبَيْنِ: حِزْبًا: اتَّبَعُوا مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ فِي تَحْرِيمِ التَّحْلِيلِ، فَحَرَّمُوا هَذَا مَعَ تَحْرِيمِهِمْ لِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ، فَصَارَ فِي قَوْلِهِمْ مِنْ الْأَغْلَالِ وَالْآصَارِ وَالْحَرَجِ الْعَظِيمِ الْمُفْضِي إلَى مَفَاسِدَ عَظِيمَةٍ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. أُمُورٌ، مِنْهَا، رِدَّةُ بَعْضِ النَّاسِ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمَّا أَفْتَى بِلُزُومِ مَا الْتَزَمَهُ. وَمِنْهَا سَفْكُ الدَّمِ الْمَعْصُومِ.

وَمِنْهَا: زَوَالُ الْعَقْلِ. وَمِنْهَا: الْعَدَاوَةُ بَيْنَ النَّاسِ. وَمِنْهَا: تَنْقِيصُ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ. إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْآثَامِ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْعِظَامِ. وَحِزْبًا: رَأَوْا أَنْ يُزِيلُوا ذَلِكَ الْحَرَجَ الْعَظِيمَ بِأَنْوَاعٍ مِنْ الْحِيَلِ الَّتِي بِهَا تَعُودُ الْمَرْأَةُ إلَى زَوْجِهَا. وَكَانَ مِمَّا أُحْدِثَ أَوَّلًا نِكَاحُ التَّحْلِيلِ. وَرَأَى طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ فَاعِلَهُ يُثَابُ؛ لِمَا رَأَى فِي ذَلِكَ مِنْ إزَالَةِ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ بِإِعَادَةِ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا، وَكَانَ هَذَا حِيلَةً فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ لِرَفْعِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ. ثُمَّ أُحْدِثَ فِي الْأَيْمَانِ حِيَلٌ أُخْرَى. فَأُحْدِثَ أَوَّلًا الِاحْتِيَالُ فِي لَفْظِ الْيَمِينِ، ثُمَّ أُحْدِثَ الِاحْتِيَالُ بِخَلْعِ الْيَمِينِ؛ ثُمَّ أُحْدِثَ الِاحْتِيَالُ بِدَوْرِ الطَّلَاقِ، ثُمَّ أُحْدِثَ الِاحْتِيَالُ بِطَلَبِ إفْسَادِ النِّكَاحِ. وَقَدْ أَنْكَرَ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّتُهُمْ هَذِهِ الْحِيَلَ وَأَمْثَالَهَا، وَرَأَوْا أَنَّ فِي ذَلِكَ إبْطَالَ حِكْمَةِ الشَّرِيعَةِ، وَإِبْطَالَ حَقَائِقِ الْأَيْمَانِ الْمُودَعَةِ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَجُعِلَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الْمُخَادَعَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ، حَتَّى قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ: " يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَأَنَّمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ، لَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ "، ثُمَّ تَسَلَّطَ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى الْقَدْحِ فِي الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ وَنَصَرَهُ وَعَزَّرَهُ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَصُدُّونَ بِهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَمْنَعُونَ مَنْ أَرَادَ الْإِيمَانَ بِهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَمْتَنِعُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِهِ عَنْ الْإِيمَانِ، كَمَا أَخْبَرَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَبَيَّنُ لَهُ مَحَاسِنُ الْإِسْلَامِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ التَّحْلِيلِ، فَإِنَّهُ الَّذِي لَا يَجِدُ فِيهِ مَا يَشْفِي الْغَلِيلَ. وَقُلْ قَالَ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156] {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] . فَوَصَفَ رَسُولَهُ بِأَنَّهُ يَأْمُرُ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ، وَيَنْهَى عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ،

وَيُحِلُّ كُلَّ طَيِّبٍ، وَيُحَرِّمُ كُلَّ خَبِيثٍ، وَيَضَعُ الْآصَارَ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ. وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمَرْجُوحَةِ فَهِيَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُبْتَدَعَةِ الَّتِي أَحْسَنُ أَحْوَالِهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ الشَّرْعِ الْمَنْسُوخِ الَّذِي رَفَعَهُ اللَّهُ بِشَرْعِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ كَانَ قَائِلُهُ مِنْ أَفْضَلِ الْأُمَّةِ وَأَجَلِّهَا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ مُجْتَهِدٌ قَدْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ، وَهُوَ مُثَابٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَتَقْوَاهُ، مَغْفُورٌ لَهُ خَطَؤُهُ، فَلَا يَلْزَمُ الرَّسُولَ قَوْلٌ قَالَهُ غَيْرُهُ بِاجْتِهَادِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِمَنْ بَعَثَهُ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَجَيْشٍ: «وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَسَأَلُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك وَحُكْمِ أَصْحَابِك» . وَهَذَا يُوَافِقُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ لَمَّا حَكَّمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ حَاصَرَهُمْ، فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ. فَأَنْزَلَهُمْ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُمْ حِلْفًا وَهُمْ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنْ يُحْسِنَ إلَيْهِمْ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ خِلَافَ مَا يَظُنُّ بِهِ بَعْضُ قَوْمِهِ: كَانَ مُقَدِّمًا لِرِضَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى رِضَى قَوْمِهِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا مَاتَ اهْتَزَّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ فَرَحًا بِقُدُومِ رُوحِهِ. فَحَكَمَ فِيهِمْ: أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُسْبَى حَرِيمُهُمْ، وَتُقْسَمُ أَمْوَالُهُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ» وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]

فَهَذَانِ نَبِيَّانِ كَرِيمَانِ حُكِّمَا فِي حُكُومَةٍ وَاحِدَةٍ، فَخَصَّ اللَّهُ أَحَدَهُمَا بِفَهْمِهَا مَعَ ثَنَائِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ آتَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا فَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ الْمُجْتَهِدُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِلْمُصِيبِ مِنْهُمْ أَجْرَانِ، وَلِلْآخَرِ أَجْرٌ. وَكُلٌّ مِنْهُمْ مُطِيعٌ لِلَّهِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ، وَلَا يُكَلِّفُهُ اللَّهُ مَا عَجَزَ عَنْ عِلْمِهِ وَمَعَ هَذَا فَلَا يَلْزَمُ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلُ غَيْرِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الشَّرِيعَةِ شَيْءٌ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُحْدَثَةِ؛ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ شَنِيعَةً. وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ إذَا تَكَلَّمُوا بِاجْتِهَادِهِمْ يُنَزِّهُونَ شَرْعَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ خَطَئِهِمْ وَخَطَأِ غَيْرِهِمْ. كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي الْمُفَوَّضَةِ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي؛ فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الصِّدِّيقِ فِي الْكَلَالَةِ وَكَذَلِكَ عَنْ عُمَرَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصِيبُونَ فِيمَا يَقُولُونَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى يُوجَدَ النَّصُّ مُوَافِقًا لِاجْتِهَادِهِمْ، كَمَا وَافَقَ النَّصُّ اجْتِهَادَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا كَانُوا أَعْلَمَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَبِمَا يَجِبُ مِنْ تَعْظِيمِ شَرْعِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُضِيفُوا إلَيْهِ إلَّا مَا عَلِمُوهُ مِنْهُ؛ وَمَا أَخْطَئُوا فِيهِ - وَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ - قَالُوا: إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] . وَقَالَ: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54] وَقَالَ: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6] . وَلِهَذَا تَجِدُ الْمَسَائِلَ الَّتِي تَنَازَعَتْ فِيهَا الْأُمَّةُ عَلَى أَقْوَالٍ؛ وَإِنَّمَا الْقَوْلُ الَّذِي بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدٌ مِنْهَا، وَسَائِرُهَا إذَا كَانَ أَهْلُهَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ: فَهُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، مَأْجُورُونَ غَيْرُ مَأْزُورِينَ؛ كَمَا إذَا خَفِيَتْ جِهَةُ الْقِبْلَةِ فِي السَّفَرِ اجْتَهَدَ كُلُّ قَوْمٍ فَصَلَّوْا إلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ؛ فَإِنَّ الْكَعْبَةَ لَيْسَتْ إلَّا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَسَائِرُ الْمُصَلِّينَ مَأْجُورِينَ عَلَى صَلَاتِهِمْ حَيْثُ اتَّقُوا مَا اسْتَطَاعُوا. وَمِنْ آيَاتِ مَا بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ إذَا ذُكِرَ مَعَ غَيْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَيَّنِ ظَهَرَ

مسألة طلاق السكران

النُّورُ وَالْهُدَى عَلَى مَا بُعِثَ بِهِ؛ وَعُلِمَ أَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ دُونَهُ؛ فَإِنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ؛ وَخَيْرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] . وَهَذَا التَّحَدِّي وَالتَّعْجِيزُ. ثَابِتٌ فِي لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعْنَاهُ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمِنْ أَمْثَالِ ذَلِكَ: مَا تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ مِنْ مَسَائِلِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّك تَجِدُ الْأَقْوَالَ فِي ثَلَاثَةٍ: قَوْلٌ فِيهِ آصَارٌ وَأَغْلَالٌ. وَقَوْلٌ فِيهِ خِدَاعٌ وَاحْتِيَالٌ. وَقَوْلٌ فِيهِ عِلْمٌ وَاعْتِدَالٌ. وَقَوْلٌ يَتَضَمَّنُ نَوْعًا مِنْ الظُّلْمِ وَالِاضْطِرَابِ. وَقَوْلٌ يَتَضَمَّنُ نَوْعًا مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَاحِشَةِ وَالْعَارِ. وَقَوْلٌ يَتَضَمَّنُ سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَتَجِدُهُمْ فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ بِالنَّذْرِ؛ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ يُسْقِطُ أَيْمَانَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجْعَلُهَا بِمَنْزِلَةِ أَيْمَانِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَوْلٌ يَجْعَلُ الْأَيْمَانَ اللَّازِمَةَ لَيْسَ فِيهَا كَفَّارَةٌ وَلَا تَحِلَّةٌ، كَمَا كَانَ شَرْعُ غَيْرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَقَوْلٌ يُقِيمُ حُرْمَةَ أَيْمَانِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ؛ وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَيْمَانِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْأَوْثَانِ، وَيَجْعَلُ فِيهَا مِنْ الْكَفَّارَةِ وَالتَّحْلِيلِ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ وَالتَّنْزِيلُ وَاخْتَصَّ بِهِ أَهْلُ الْقُرْآنِ دُونَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَهَذَا هُوَ الشَّرْعُ الَّذِي جَاءَ بِهِ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ؛ وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ. - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ - الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ؛ وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ. [مَسْأَلَةٌ طَلَاق السَّكْرَان] 547 - 10 - مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ السَّكْرَانِ غَائِبِ الْعَقْلِ، هَلْ يَحْنَثُ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَمْ لَا؟ أَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ فَلَا تَنْعَقِدُ يَمِينُ السَّكْرَانِ وَلَا يَقَعُ أَيَّةُ طَلَاقٍ إذَا طَلَّقَ، هَذَا ثَابِتٌ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ فِيمَا أَعْلَمُ. وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ كَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِ. وَهُوَ إحْدَى

مسألة الحلف بالطلاق

الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ كَالطَّحَاوِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، «عَنْ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ لَمَّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَسْتَنْكِهُوهُ لِيَعْلَمُوا هَلْ هُوَ سَكْرَانٌ أَمْ لَا» ، فَإِنْ كَانَ سَكْرَانًا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ عُلِمَ أَنَّ أَقْوَالَهُ بَاطِلَةٌ كَأَقْوَالِ الْمَجْنُونِ؛ وَلِأَنَّ السَّكْرَانَ - وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا فِي الشُّرْبِ فَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ: «وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ تَنَاوَلَ شَيْئًا مُحَرَّمًا جَعَلَهُ مَجْنُونًا. فَإِنَّ جُنُونَهُ وَإِنْ حَصَلَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ وَمَقَاصِدَهَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّوَابُ. وَإِنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِالسَّكْرَانِ قَوْلٌ لَيْسَ لَهُ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ مُحَقِّقِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، كَأَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيَّ، وَأَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ، يَجْعَلُونَ الشَّرَائِعَ فِي النَّشْوَانِ، فَأَمَّا الَّذِي عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ فَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ بِلَا رَيْبٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا مِمَّنْ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ، كَمَا أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَمَنْ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ] 548 - 11 - مَسْأَلَةٌ: فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ: هَذَا مُخْتَصَرُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ فِيمَا يَجْرِي غَالِبًا عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ عَلَى سَبِيلِ اللَّجَاجِ وَاللَّغْوِ وَالْيَمِينِ وَالتَّغْلِيظِ طَلَبًا لِإِبْعَادِ مَا يَكْرَهُونَ فِعْلَهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ الْمَحْلُوفَ فِيهِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: وَالطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ الشَّيْءَ ثُمَّ يَقْصِدُ فِعْلَهُ فَيَفْعَلُهُ وَيَجْرِي قَوْلُهُ ذَلِكَ

مَجْرَى الْقَسَمِ وَالْيَمِينِ لِدُخُولِ وَاوِ الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ: وَالطَّلَاقُ وَالِالْتِزَامُ بِمَا لَا يَلْزَمُ إلَّا بِطَرِيقِهِ. أَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ: إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِالطَّلَاقِ فَقَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا؛ أَوْ لَا أَفْعَلُهُ. أَوْ الطَّلَاقُ لَازِمٌ لِي لَأَفْعَلَنَّهُ، أَوْ إنْ لَمْ أَفْعَلْهُ فَالطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي. أَوْ لَازِمٌ، وَنَحْوُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْتِزَامَ الطَّلَاقِ فِي يَمِينِهِ، ثُمَّ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ: فَهَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مَذَاهِبِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسِهِ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: كَالْقَفَّالِ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْمُتَوَلِّي صَاحِبِ " التَّتِمَّةِ " وَبِهِ يُفْتِي وَيَقْضِي فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ فِي بِلَادِ الشَّرْقِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَالْعِرَاقِ، وَخُرَاسَانَ، وَالْحِجَازِ، وَالْيَمَنِ وَغَيْرِهَا. وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ - كَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ - كَانُوا يُفْتُونَ وَيَقْضُونَ فِي بِلَادِ فَارِسَ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ إلَى الْيَوْمِ، فَإِنَّهُمْ خَلْقٌ عَظِيمٌ، وَفِيهِمْ قُضَاةٌ وَمُفْتُونَ عَدَدٌ كَثِيرٌ. وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ: كَطَاوُسٍ وَغَيْرِ طَاوُسٍ. وَبِهِ يُفْتِي كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَغْرِبِ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ بَعْضُ شُيُوخِ مِصْرَ يُفْتِي بِذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ وَأُصُولُ مَذْهَبِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَلَوْ حَلَفَ بِالثَّلَاثِ، فَقَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي ثَلَاثًا لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْ، فَكَانَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَدَاوُد وَغَيْرِهِمْ يُفْتُونَ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الثَّلَاثَ؛ لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُوقِعُ بِهِ وَاحِدَةً، وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ فِي التَّنْجِيزِ؛ فَضْلًا عَنْ التَّعْلِيقِ وَالْيَمِينِ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ اتَّبَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَدَاوُد فِي التَّنْجِيزِ وَالتَّعْلِيقِ، وَالْحَلِفِ. وَمِنْ السَّلَفِ طَائِفَةٌ مِنْ أَعْيَانِهِمْ فَرَّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا.

وَاَلَّذِينَ لَمْ يُوقِعُوا طَلَاقًا قَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا: مِنْهُمْ مَنْ لَا يُوقِعُ بِهِ طَلَاقًا؛ وَلَا يَأْمُرُهُ بِكَفَّارَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْمُرُهُ بِكَفَّارَةٍ. وَبِكُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَفْتَى كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ بَسَطْتُ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَأَلْفَاظَهُمْ، وَمَنْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ؛ وَالْكُتُبَ الْمَوْجُودُ ذَلِكَ فِيهَا؛ وَالْأَدِلَّةَ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ تَبْلُغُ عِدَّةَ مُجَلَّدَاتٍ. وَهَذَا بِخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ؛ وَهُوَ فِيمَا إذَا حَلَفَ بِصِيغَةِ اللُّزُومِ مِثْلُ قَوْلِهِ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهَذَا النِّزَاعُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ مُنَجَّزًا، أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ، أَوْ مَحْلُوفًا بِهِ: فَفِي الْمَذْهَبَيْنِ: هَلْ ذَلِكَ صَرِيحٌ؟ أَوْ كِنَايَةٌ؟ أَوْ لَا صَرِيحٌ وَلَا كِنَايَةٌ فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَاهُ؟ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ قَوْلَانِ هَلْ ذَلِكَ صَرِيحٌ؛ أَوْ كِنَايَةٌ وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ أَوْ التَّعْلِيقِ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ الْحَلِفَ: فَالنِّزَاعُ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ هَذِهِ الصِّيغَةِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ مَنْ أَفْتَى بِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ، وَخَالَفَ كُلَّ قَوْلٍ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ؛ وَاقْتَفَى مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ؛ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] . بَلْ أَجْمَعَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَتْبَاعُهُمْ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ مِثْلُهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَنْ قَضَى بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَجُزْ نَقْضُ حُكْمِهِ. وَمَنْ أَفْتَى بِهِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْفُتْيَا سَاغَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجُزْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا عَلَى مَنْ قَلَّدَهُ. وَلَوْ قَضَى أَوْ أَفْتَى بِقَوْلٍ سَائِغٍ يَخْرُجُ عَنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا ثَبَتَ فِيهِ النِّزَاعُ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُخَالِفْ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا مَعْنَى ذَلِكَ؛ بَلْ كَانَ الْقَاضِي بِهِ وَالْمُفْتِي بِهِ يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ - كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - فَإِنَّ هَذَا يُسَوَّغُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ وَيُفْتِيَ بِهِ. وَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ نَقْضُ حُكْمِهِ إذَا حَكَمَ، وَلَا مَنْعُهُ مِنْ الْحُكْمِ بِهِ، وَلَا مِنْ الْفُتْيَا بِهِ، وَلَا مَنْعُ أَحَدٍ مِنْ تَقْلِيدِهِ، وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَسُوغُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ بَلْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ، مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ؛

فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] . فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالرَّدِّ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، وَهُوَ الرَّدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَرُدَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: بَلْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعُ قَوْلِنَا دُونَ الْقَوْلِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقِيمَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا - كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ، فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَجِبُ اسْتِتَابَةُ مِثْلِ هَذَا وَعُقُوبَتُهُ، كَمَا يُعَاقَبُ أَمْثَالُهُ. فَإِذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ، وَتَمَسَّكَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ؛ لَمْ يُحْتَجَّ عَلَى قَوْلِهِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ - كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - وَلَيْسَ مَعَ صَاحِبِ الْقَوْلِ الْآخَرِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَبْطُلُ بِهِ قَوْلُهُ: لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ حُجَّةٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ الَّذِي يَحْتَجُّ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ جَوَّزَ أَنْ يُمْنَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْقَوْلِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَوْجَبَ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ الْقَوْلِ الَّذِي يُنَاقِضُهُ بِلَا حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ تُوجِبُ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعَ هَذَا الْقَوْلِ، وَتُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعَ ذَلِكَ الْقَوْلِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ انْسَلَخَ مِنْ الدِّينِ تَجِبُ اسْتِتَابَتُهُ وَعُقُوبَتُهُ كَأَمْثَالِهِ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا فَيُعْذَرُ بِالْجَهْلِ أَوَّلًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَدَلَائِلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنْ أَصَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى، وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ: فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَكُلُّ يَمِينٍ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: مِثْلُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَالظِّهَارِ، وَالْحَرَامِ، وَالْحَلِفِ بِالْحَجِّ، وَالْمَشْيِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالصِّيَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ: فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، سَوَاءٌ حَلَفَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ فَقَالَ: الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي: أَوْ الْعِتْقُ يَلْزَمُنِي: لَأَفْعَلَنَّ كَذَا. أَوْ حَلَفَ بِصِيغَةِ الْعِتْقِ فَقَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ الْحَرَامُ، وَنِسَائِي طَوَالِقُ، أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ، أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ، وَعَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاتَّفَقَتْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ يَسُوغُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ

فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ جَمِيعِهَا بِأَنَّهُ إذَا حَنِثَ لَا يَلْزَمُهُ مَا حَلَفَ بِهِ؛ بَلْ إمَّا أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَإِمَّا أَنْ تَجْزِيَهُ الْكَفَّارَةُ. وَيَسُوغُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَقْضِيَ بِذَلِكَ. وَمَا زَالَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُفْتِي بِذَلِكَ مِنْ حِينِ حَدَثَ الْحَلِفُ بِهَا. وَإِلَى هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ؛ مِنْهُمْ مَنْ يُفْتِي بِالْكَفَّارَةِ فِيهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يُفْتِي بِأَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا، وَلَا لُزُومَ الْمَحْلُوفِ بِهِ كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُفْتِي بِلُزُومِ الْمَحْلُوفِ بِهِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي الْأُمَّةِ مَنْ يُفْتِي بِهَا بِالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْحَرَامِ وَالنَّذْرِ. وَأَمَّا إذَا حَلَفَ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَالْكَعْبَةِ، وَالْمَلَائِكَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. فَالْأَيْمَانُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَمَّا الْحَلِفُ بِاَللَّهِ فَفِيهِ الْكَفَّارَةُ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ؛ إلَّا الْحَلِفَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَالْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَقَدْ عَدَّى بَعْضُ أَصْحَابِ ذَلِكَ إلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ. وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا عُقِدَ مِنْ الْأَيْمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ هَذِهِ الْأَيْمَانُ فَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فِي بَعْضِهَا: فَهَذَا كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ النِّزَاعِ يَدَّعِي فِيهَا الْإِجْمَاعَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ النِّزَاعَ، وَمَقْصُودُهُ أَنِّي لَا أَعْلَمُ نِزَاعًا. فَمَنْ عَلِمَ النِّزَاعَ وَأَثْبَتَهُ كَانَ مُثْبِتًا عَالِمًا، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ فِي السَّلَفِ وَالْخَلْفِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ مَنْ أَلْزَمَ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ غَيْرَهُ نَصُّ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ؛ كَانَ الْقَوْلُ يَنْفِي لُزُومَهُ سَائِغًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ قَاضِيًا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ أَنْ يَقْضِيَ بِذَلِكَ، وَلَا يَمْنَعَ مُفْتِيًا يَصْلُحُ لِلْفُتْيَا أَنْ يُفْتِيَ بِذَلِكَ؛ بَلْ هُمْ يُسَوِّغُونَ الْفُتْيَا وَالْقَضَاءَ فِي أَقْوَالٍ ضَعِيفَةٍ؛ لِوُجُودِ الْخِلَافِ فِيهَا، فَكَيْفَ يَمْنَعُونَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الشَّرْعِيُّ، وَالْقَوْلُ بِهِ ثَابِتٌ عَنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ بَلْ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ ثَبَتَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَفْتَوْا فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الطَّلَاقِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْحَالِفَ بِهِ؛ بَلْ يَجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُمْ فِي الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ؟ ، وَهَلْ يُظَنُّ بِالصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِيمَنْ حَلَفَ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ الطَّاعَاتِ - كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْحَجِّ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْعَلَ

هَذِهِ الطَّاعَاتِ، بَلْ يَجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ وَيَقُولُونَ فِيمَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ؛ بَلْ يُبْغِضُهُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مَنْ حَلَفَ بِهِ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ حَلَفَ بِالْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ كُفْرٌ وَلَا إسْلَامٌ؛ فَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ وَفَعَلَهُ لَمْ يَصِرْ يَهُودِيًّا بِالِاتِّفَاقِ. وَهَلْ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ؛ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ؛ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ؛ وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ إذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَصِيرُ كَافِرًا إذَا حَنِثَ وَحَلَفَ بِهِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ. قَالُوا: لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ لِلْكُفْرِ، وَالْجُمْهُورُ قَالُوا: لَا يَكْفُرُ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ أَنْ لَا يَلْزَمُهُ الْكُفْرُ؛ فَلِبُغْضِهِ لَهُ حَلَفَ بِهِ. وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ إنَّمَا يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لِفَرْطِ بُغْضِهِ لَهُ. وَبِهَذَا فَرَّقَ الْجُمْهُورُ بَيْنَ نَذْرِ التَّبَرُّرِ، وَنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، قَالُوا: لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَصْدُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ؛ بِخِلَافِ الثَّانِي. فَإِذَا قَالَ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ. أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ: لَزِمَهُ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَمَّا إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ. أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ. وَقَصْدُهُ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ فَهَذَا مَوْضِعُ النِّزَاعِ؛ هَلْ يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ فِي الصُّورَتَيْنِ؟ أَوْ لَا يَلْزَمُهُ فِي الصُّورَتَيْنِ؟ أَوْ يَجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؟ أَوْ يَجْزِيهِ الْكَفَّارَةُ فِي تَعْلِيقِ الْوُجُوبِ دُونَ تَعْلِيقِ الْوُقُوعِ؟ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي الطَّلَاقِ. وَلَوْ قَالَ الْيَهُودِيُّ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ وَفَعَلَهُ لَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْحَالِفَ حَلَفَ بِمَا يَلْزَمُهُ وُقُوعُهُ. وَهَكَذَا إذَا قَالَ الْمُسْلِمُ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَنِسَائِي طَوَالِقُ، وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ؛ وَأَنَا يَهُودِيٌّ، وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ نِسَاءَهُ، وَيُعْتِقَ عَبِيدَهُ، وَيُفَارِقُ دِينَهُ، مَعَ أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وُقُوعُ الْعِتْقِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَبْعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ، مِثْلُ: ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَحَفْصَةَ، وَزَيْنَبَ رَبِيبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا قَالُوا هُمْ وَأَئِمَّةُ التَّابِعِينَ إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ الْمَحْلُوفُ بِهِ؛ بَلْ يَجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ - مَعَ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.

فَكَيْفَ يَسُوغُ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ أَنْ يُلْزِمَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ الشَّرْعِيَّةِ، مَعَ مَا لَهُمْ [مِنْ] مَصْلَحَةِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ صِيَانَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَحَرِيمِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، وَأَعْرَاضِهِمْ، وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَصِلَةِ أَرْحَامِهِمْ؛ وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: مَا يُوجِبُ تَرْجِيحَهُ لِمَنْ لَا يَكُونُ عَارِفًا بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ عَارِفًا بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَإِنَّ الْقَائِلَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ لَيْسَ مَعَهُ مِنْ الْحُجَّةِ مَا يُقَاوِمُ قَوْلَ مَنْ نَفَى وُقُوعَ الطَّلَاقِ. [وَلَوْ] اجْتَهَدَ مَنْ اجْتَهَدَ فِي إقَامَةِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ سَالِمٍ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْحَالِفِ لَعَجَزَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا عَجَزَ عَنْ تَحْدِيدِ ذَلِكَ. فَهَلْ يَسُوغُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا يُخَالِفُ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَخْرُجَ عَنْ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. وَهُوَ لَمْ يُعَارِضْ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا وَلَا مَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ وَيُقَدِّمُ عَلَيْهِ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ لَيْسَ لِأَحَدٍ الْمَنْعُ مِنْ الْفُتْيَا بِهِ وَالْقَضَاءِ بِهِ. وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ رُجْحَانُهُ، فَكَيْفَ إذَا ظَهَرَ رُجْحَانُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبَيَّنَ مَا لِلَّهِ فِيهِ مِنْ الْمِنَّةِ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وَقَالَ فِي كِتَابِهِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» . وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: «إذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْتَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتهَا» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ الْكَفَّارَةَ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ» . وَقَالَ

الْبُخَارِيُّ: مَنْ اسْتَلَجَّ فِي أَهْلِهِ فَهُوَ أَعْظَمُ إثْمًا. فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " يَلِجُّ " مِنْ اللَّجَاجِ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ هَذِهِ الْأَيْمَانُ " نَذْرُ اللَّجَاجِ، وَالْغَضَبِ ". وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: صِيغَةُ التَّنْجِيزِ، وَالْإِرْسَالِ: كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ مُطَلَّقَةٌ، فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. الثَّانِي صِيغَةُ قَسَمٍ: كَقَوْلِهِ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا. أَوْ لَا أَفْعَلُ كَذَا. فَهَذَا يَمِينٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَاتِّفَاقِ طَوَائِفِ الْفُقَهَاءِ، وَاتِّفَاقِ الْعَامَّةِ، وَاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَرْضِ. الثَّالِثُ صِيغَةُ تَعْلِيقٍ: كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ. فَهَذِهِ إنْ كَانَ قَصْدُهُ بِهِ الْيَمِينَ - وَهُوَ الَّذِي يَكْرَهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ مُطْلَقًا كَمَا يَكْرَهُ الِانْتِقَالَ عَنْ دِينِهِ - إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ. أَوْ يَقُولُ الْيَهُودِيُّ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ؛ فَهُوَ يَمِينٌ حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. فَإِنَّ الْيَمِينَ هِيَ مَا تَضَمَّنَتْ حَضًّا، أَوْ مَنْعًا، أَوْ تَصْدِيقًا، أَوْ تَكْذِيبًا بِالْتِزَامِ مَا يَكْرَهُ الْحَالِفُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ. فَالْحَالِفُ لَا يَكُونُ حَالِفًا إلَّا إذَا كَرِهَ وُقُوعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ. فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا، سَوَاءٌ كَانَ يُرِيدُ الشَّرْطَ وَحْدَهُ وَلَا يَكْرَهُ الْجَزَاءَ عِنْدَ وُقُوعِهِ، أَوْ كَانَ يُرِيدُ الْجَزَاءَ عِنْدَ وُقُوعِهِ غَيْرَ مُرِيدٍ لَهُ، أَوْ كَانَ مُرِيدًا لَهُمَا. فَأَمَّا إذَا كَانَ كَارِهًا لِلشَّرْطِ وَكَارِهًا لِلْجَزَاءِ مُطْلَقًا - يَكْرَهُ وُقُوعَهُ؛ وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ لِيَمْنَعَ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ الشَّرْطِ؛ أَوْ لِيَحُضَّ بِذَلِكَ - فَهَذَا يَمِينٌ. وَإِنْ قَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ وُجُودِ الْجَزَاءِ، كَقَوْلِهِ: إنْ أَعْطَيْتنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِذَا طَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِذَا زَنَيْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَقَصْدُهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ. الْفَاحِشَةِ؛ لَا مُجَرَّدُ الْحَلِفِ عَلَيْهَا؛ فَهَذَا لَيْسَ بِيَمِينٍ؛ وَلَا كَفَّارَةَ فِي هَذَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ؛ بَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ عِنْدَ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. فَالْيَمِينُ الَّتِي يَقْصِدُ بِهَا الْحَضَّ، أَوْ الْمَنْعَ، أَوْ التَّصْدِيقَ؛ أَوْ التَّكْذِيبَ بِالْتِزَامِهِ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ مَا يَكْرَهُ وُقُوعَهُ - سَوَاءٌ كَانَتْ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ؛ أَوْ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ: يَمِينٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْخَلْقِ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ كَوْنَ الْكَلَامِ يَمِينًا مِثْلُ كَوْنِهِ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا وَخَبَرًا.

وَهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ: الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا تَتَنَوَّعُ اللُّغَاتُ فِي الْأَلْفَاظِ؛ لَا فِي الْمَعَانِي؛ بَلْ مَا كَانَ مَعْنَاهُ يَمِينًا أَوْ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا عِنْدَ الْعَجَمِ، فَكَذَلِكَ مَعْنَاهُ يَمِينٌ أَوْ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَهَذَا أَيْضًا يَمِينُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -؛ وَهُوَ يَمِينٌ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ، وَيَمِينٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كُلِّهِمْ. وَإِذَا كَانَ يَمِينًا فَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِلْيَمِينِ إلَّا حُكْمَانِ: إمَّا أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ مُنْعَقِدَةً مُحْتَرَمَةً فَفِيهَا الْكَفَّارَةُ. وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ مُنْعَقِدَةً مُحْتَرَمَةً - كَالْحَلِفِ بِالْمَخْلُوقَاتِ: مِثْلُ الْكَعْبَةِ، وَالْمَلَائِكَةِ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ - فَهَذَا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ. فَأَمَّا يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ، مُحْتَرَمَةٌ، غَيْرُ مُكَفَّرَةٍ: فَهَذَا حُكْمٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَقُومُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ سَالِمٌ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمَقَامَ. فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِينُ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ دَخَلَتْ فِي قَوْله تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَيْمَانِهِمْ؛ بَلْ كَانَتْ مِنْ الْحَلِفِ بِالْمَخْلُوقَاتِ: فَلَا يَجِبُ بِالْحِنْثِ لَا كَفَّارَةٌ وَلَا غَيْرُهَا، فَتَكُونُ مُهْدَرَةً. فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِلْزَامَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ لِلْحَالِفِ مِنْ يَمِينِهِ حُكْمٌ يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَحَسَبُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ. فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ الْعَمَلُ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْقَوْلِ: فَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ مَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ النِّزَاعِ وَالْأَدِلَّةِ. وَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ وَخَفِيَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ كَأَنْ حَسِبَهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ سَائِغًا لَا يُمْنَعُ مِنْ الْحُكْمِ بِهِ وَالْفُتْيَا بِهِ. أَمَّا إلْزَامُ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَمَنْعِهِمْ مِنْ الْقَوْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ: فَهَذَا خِلَافُ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ. فَمَنْ مَنَعَ الْحُكْمَ وَالْفُتْيَا بِعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَتَقْلِيدِ مَنْ نَفَى بِذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ. وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ، فَهَذَا حَسْبُهُ أَنْ يُعْذَرَ؛ لَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَمُعَانِدٌ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ إذَا ظَهَرَ لَهُ، وَلَا يُصْغِي لِمَنْ يَقُولُهُ لِيَعْرِفَ مَا قَالَ؛ بَلْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]

مسألة تزوج بامرأة وفي ظاهر الحال أنه حر

فَإِنَّهُ: إمَّا مُقَلِّدٌ، وَإِمَّا مُجْتَهِدٌ. فَالْمُقَلِّدُ لَا يُنْكِرُ الْقَوْلَ الَّذِي يُخَالِفُ مَتْبُوعَهُ إنْكَارَ مَنْ يَقُولُ هُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُحَرِّمَ الْقَوْلَ بِهِ، وَيُوجِبَ الْقَوْلَ بِقَوْلِ سَلَفِهِ. وَالْمُجْتَهِدُ يَنْظُرُ وَيُنَاظِرُ، وَهُوَ مَعَ ظُهُورِ قَوْلِهِ لَا يُسَوِّغُ قَوْلَ مُنَازَعِيهِ الَّذِي سَاغَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَهُوَ مَا لَمْ يَظْهَرْ أَنَّهُ خَالَفَ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا، فَمَنْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ التَّقْلِيدِ السَّائِغِ وَالِاجْتِهَادِ كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنْ الَّذِينَ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170] . وَكَانَ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ. وَمَنْ قَالَ إنَّهُ اتَّبَعَ هَذِهِ الْفُتْيَا فَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ وَلَدُ زِنًا؛ كَانَ هَذَا الْقَائِلُ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، وَالْمُشَاقَّةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ إذَا كَانَ الْمُلْتَزَمُ بِهِ قُرْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى يَقْصِدُ بِهِ الْقُرْبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَزِمَهُ فِعْلُهُ، أَوْ الْكَفَّارَةُ. وَلَوْ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ، كَالتَّطْلِيقِ، وَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ وَمِثْلُ ذَلِكَ: لَمْ يَلْزَمْهُ؛ بَلْ يَجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ يُكْرَهُ وُقُوعُهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ، كَمَا يُكْرَهُ وُقُوعُ الْكُفْرِ؛ فَلَا يَقَعُ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَفِي ظَاهِرِ الْحَالِ أَنَّهُ حُرٌّ] 549 - 12 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ، وَفِي ظَاهِرِ الْحَالِ أَنَّهُ حُرٌّ، فَأَقَامَتْ فِي صُحْبَتِهِ إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا وَلَمْ يَرُدَّهَا، وَطَالَبَتْهُ بِحُقُوقِهَا، فَقَالَ: أَنَا مَمْلُوكٌ يَجِبُ الْحَجْرُ عَلَيَّ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ بِحَقِّ الزَّوْجَةِ عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ؟ . الْجَوَابُ: حَقُّ الزَّوْجَةِ ثَابِتٌ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ، لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُجَرَّدَ دَعْوَاهُ الرِّقَّ لَا يُسْقِطُ حَقَّهَا، وَالْحَالُ مَا ذُكِرَ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي

مسألة مالكي المذهب حصل له نكد بينه وبين والد زوجته

النَّاسِ الْحُرِّيَّةُ، وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِلَا بَيِّنَةٍ وَلَمْ يُعْرَفْ خِلَافُ ذَلِكَ فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ، فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: أَحَدُهَا: يُقْبَلُ فِيمَا عَلَيْهِ دُونَ مَا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي قَوْلٍ لَهُمَا. الثَّانِي: لَا يُقْبَلُ بِحَالٍ، كَقَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَالثَّالِثُ: يُقْبَلُ قَوْلُهُ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، فَإِذَا كَانَ مَعَ دَعْوَى الْمُدَّعِي لِرِقِّهِ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِمَا يُسْقِطُ حَقَّهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، فَكَيْفَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ الرِّقَّ؟ وَكَيْفَ وَلَهُ خَيْرٌ وَإِقْطَاعٌ وَهُوَ مُنْتَسِبٌ؟ وَقَدْ ادَّعَى الْحُرِّيَّةَ حَتَّى زُوِّجَ بِهَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ كَذَبَ وَلَيْسَ عَلَيْهَا وَادَّعَى الْحُرِّيَّةَ حَتَّى تَزَوَّجَ بِهَا، وَدَخَلَ، فَهَذَا قَدْ جَنَى بِكَذِبِهِ وَتَلْبِيسِهِ، وَالرَّقِيقُ إذَا جَنَى تَعَلَّقَتْ جِنَايَتُهُ بِرَقَبَتِهِ، فَلَهَا أَنْ تَطْلُبَ حَقَّهَا مِنْ رَقَبَتِهِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ سَيِّدُهُ أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَدَاءِ حَقِّهَا فَلَهُ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ مَالِكِيّ الْمَذْهَبِ حَصَلَ لَهُ نَكَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِ زَوْجَتِهِ] 550 - 13 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مَالِكِيِّ الْمَذْهَبِ حَصَلَ لَهُ نَكَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِ زَوْجَتِهِ، فَحَضَرَ قُدَّامَ الْقَاضِي. فَقَالَ الزَّوْجُ لِوَالِدِ الزَّوْجَةِ: إنْ أَبْرَأَتْنِي ابْنَتُكَ أَوْقَعْتُ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ. فَقَالَ وَالِدُهَا: أَنَا أَبْرَأْتُكَ، فَحَضَرَ الزَّوْجُ وَوَالِدُ الزَّوْجَةِ قُدَّامَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، فَأَبْرَأَهُ وَالِدُهَا بِغَيْرِ حُضُورِهَا، وَبِغَيْرِ إذْنِهَا: فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ أَمْ لَا؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَنْصُوصِ الْمَعْرُوفِ عَنْهُمْ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يُخَالِعَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِ ابْنَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا، أَوْ لَمْ تَكُنْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ بِمَالِهَا فَلَا يَمْلِكُهُ، كَمَا لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ سَائِرِ دُيُونِهَا. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخَالِعَ عَنْ ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، لِكَوْنِهِ يَلِي مَالَهَا. وَرَوَى عَنْهُ: أَنَّ لَهُ أَنْ يُخَالِعَ

عَنْ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ مُطْلَقًا؛ لِكَوْنِهِ يُجْبِرُهَا عَلَى النِّكَاحِ. وَرُوِيَ عَنْهُ: يُخَالِعُ عَنْ ابْنَتِهِ مُطْلَقًا، كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ لِلْمَصْلَحَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهًا مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي حَقِّ الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ أَنْ يُخَالِعَهَا بِالْإِبْرَاءِ مِنْ نِصْفِ مَهْرِهَا إذَا قُلْنَا: إنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الْوَلِيُّ؛ وَخَطَّأَهُ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ بَعْدَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ إسْقَاطَ حَقِّهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ فَجَوَازُ ذَلِكَ لِمَنْفَعَتِهَا وَهُوَ يُخَلِّعُهَا مِنْ الزَّوْجِ أَوْلَى؛ وَلِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ كُلِّهِمْ أَنْ يَخْتَلِعَهَا الزَّوْجُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ؛ وَكَذَلِكَ لَهَا أَنْ تُخَالِعَهُ بِمَالِهَا إذَا ضَمِنَ ذَلِكَ الزَّوْجُ. فَإِذًا جَازَ لَهُ أَنْ يَخْتَلِعَهَا وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهَا ضَرَرٌ إلَّا إسْقَاطَ نِصْفِ صَدَاقِهَا. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ يَخْرُجُ عَلَى أُصُولِ أَحْمَدَ مِنْ وُجُوهٍ. مِنْهَا: أَنَّ الْأَبَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ وَيُخَلِّعَ امْرَأَةَ ابْنِهِ الطِّفْلِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ. وَمَالِكٌ يُجَوِّزُ الْخُلْعَ دُونَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ فِي الْخُلْعِ مُعَاوَضَةٌ. وَأَحْمَدُ يَقُولُ: لَهُ التَّطْلِيقُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لَهُ لِتَخْلِيصِهِ مِنْ حُقُوقِ الْمَرْأَةِ وَضَرَرِهَا، وَكَذَلِكَ لَا فَرْقَ فِي إسْقَاطِ حُقُوقِهِ بَيْنَ الْمَالِ وَغَيْرِ الْمَالِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لِلْحَكَمِ فِي الشِّقَاقِ أَنْ يُخَلِّعَ الْمَرْأَةَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهَا بِدُونِ إذْنِهَا؛ وَيُطَلِّقُ عَلَى الزَّوْجِ بِدُونِ إذْنِهِ: كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ الْمَرْأَةَ بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَعِنْدَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الْأَبَ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَلَهُ أَنْ يُسْقِطَ نِصْفَ الصَّدَاقِ. وَمَذْهَبُهُ أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَتَمَلَّكَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا لَا يَضُرُّ بِالْوَلَدِ، حَتَّى لَوْ زَوَّجَهَا وَاشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ بَعْضَ الصَّدَاقِ: جَازَ لَهُ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ لَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَالتَّمَلُّكِ هَذَا التَّصَرُّفُ لَمْ يَبْقَ إلَّا طَلَبُهُ لِفُرْقَتِهَا، وَذَلِكَ يَمْلِكُهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَيَجُوزُ عِنْدَهُ لِلْأَبِ أَنْ يُعْتِقَ بَعْضَ رَقَبَةِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ لِلْمَصْلَحَةِ. فَقَدْ يُقَالُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إنْ كَانَتْ تَحْتَ حِجْرِ الْأَبِ لَهُ أَنْ يُخَالِعَ مُعَاوَضَةً وَافْتِدَاءً لِنَفْسِهَا مِنْ الزَّوْجِ فَيَمْلِكُهُ الْأَبُ. كَمَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ، وَكَمَا يَمْلِكُ افْتِدَاءَهَا مِنْ الْأَسْرِ؛ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ مَصْلَحَةً لَهَا. وَقَدْ يُقَالُ: قَدْ لَا يَكُونُ مَصْلَحَتُهَا فِي الطَّلَاقِ؛ وَلَكِنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهِ؛ فَإِذَا بَذَلَ لَهُ الْعِوَضَ مِنْ غَيْرِهَا لَمْ يُمْكِنْهَا مَنْعُهُ مِنْ الْبَذْلِ. فَأَمَّا إسْقَاطُ مَهْرِهَا وَحَقِّهَا

مسألة ثيب بالغ لم يكن وليها إلا الحاكم فزوجها

الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ بِالنِّكَاحِ فَقَدْ يَكُونُ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ. وَالْأَبُ قَدْ يَكُونُ غَرَضُهُ بِاخْتِلَاعِهَا حَظَّهُ لَا لِمَصْلَحَتِهَا، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ حَقِّهَا بِمُجَرَّدِ حَظِّهِ بِالِاتِّفَاقِ. فَعَلَى قَوْلِ مَنْ يُصَحِّحُ الْإِبْرَاءَ يَقَعُ الْإِبْرَاءُ وَالطَّلَاقُ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُجَوِّزُ إبْرَاءَهُ إنْ ضَمِنَهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِلَا نِزَاعٍ، وَكَانَ عَلَى الْأَبِ لِلزَّوْجِ مِثْلُ الصَّدَاقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ. وَعِنْدَهُ فِي الْجَدِيدِ: إنَّمَا عَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَأَمَّا إنْ لَمْ يَضْمَنْهُ إنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِالْإِبْرَاءِ. فَقَالَ لَهُ: إنْ أَبْرَأَتْنِي فَهِيَ طَالِقٌ. فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا اعْتَقَدَ الزَّوْجُ أَنَّهُ تَبَرَّأَ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْأَبِ بِقَدْرِ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي الْأُخْرَى لَا يَقَعُ شَيْءٌ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ. وَالْأَوَّلُونَ قَالُوا: وُجِدَ الْإِبْرَاءُ. وَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ الْأَبُ ضَامِنًا بِهَذَا الْإِبْرَاءِ. وَأَمَّا إنْ طَلَّقَهَا لَمْ يُعَلِّقْهُ عَلَى الْإِبْرَاءِ فَإِنَّهُ يَقَعُ؛ لَكِنْ عِنْدَ أَحْمَدَ يَضْمَنُ لِلزَّوْجِ الصَّدَاقَ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَضْمَنُ لَهُ شَيْئًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ شَيْئًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ ثَيِّب بَالِغ لَمْ يَكُنْ وَلِيُّهَا إلَّا الْحَاكِمُ فَزَوَّجَهَا] 551 - 14 - مَسْأَلَةٌ فِي ثَيِّبٍ بَالِغٍ لَمْ يَكُنْ وَلِيُّهَا إلَّا الْحَاكِمُ فَزَوَّجَهَا الْحَاكِمُ لِعَدَمِ الْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ خَالَعَهَا الزَّوْجُ وَأَبْرَأَتْهُ مِنْ الصَّدَاقِ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ، فَهَلْ تَصِحُّ الْمُخَالَعَةُ وَالْإِبْرَاءُ؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَتْ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ جَازَ خُلْعُهَا، وَإِبْرَاؤُهَا بِدُونِ إذْنِ الْحَاكِمِ. [مَسْأَلَةٌ الْمَسْأَلَةُ السُّرَيْجِيَّةُ بَاطِلَةٌ فِي الْإِسْلَامِ] 552 - 15 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ اعْتَقَدَ مَسْأَلَةَ الدَّوْرِ الْمُسْنَدَةِ لِابْنِ سُرَيْجٍ، ثُمَّ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى شَيْءٍ لَا يَفْعَلُهُ ثُمَّ فَعَلَهُ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَرَاجَعَ زَوْجَتَهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْت طَالِقٌ: فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثَ؟ أَمْ يَسْتَعْمِلُ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى: الْمُشَارَ إلَيْهَا؟ الْجَوَابُ: الْمَسْأَلَةُ السُّرَيْجِيَّةُ بَاطِلَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، مُحْدَثَةٌ، لَمْ يُفْتِ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِيهِمْ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ، وَأَنْكَرَ

ذَلِكَ عَلَيْهِمْ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّ مَا قَالَهُ أُولَئِكَ يَظْهَرُ فَسَادُهُ مِنْ وُجُوهٍ. مِنْهَا أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ الطَّلَاقَ كَمَا أَبَاحَ النِّكَاحَ، وَأَنَّ دِينَ الْمُسْلِمِينَ مُخَالِفٌ لِدِينِ النَّصَارَى الَّذِي لَا يُبِيحُونَ الطَّلَاقَ، فَلَوْ كَانَ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَمْتَنِعُ مَعَهُ الطَّلَاقُ لَصَارَ دِينُ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ دِينِ النَّصَارَى. وَشُبْهَةُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتَ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَاقًا مُنَجَّزًا: لَزِمَ أَنْ يَقَعَ الْمُعَلَّقُ، وَلَوْ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ يَقَعُ الْمُنْجَزُ، فَكَانَ وُقُوعُهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُقُوعِهِ: فَلَا يَقَعُ؛ وَهَذَا خَطَأٌ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: لَوْ وَقَعَ الْمُنَجَّزُ لَوَقَعَ الْمُعَلَّقُ. إنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا؛ فَأَمَّا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بَاطِلًا لَا يَلْزَمُ وُقُوعُ التَّعْلِيقِ. وَالتَّعْلِيقُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ مَضْمُونَهُ وُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ، وَوُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ بَاطِلٌ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَضْمُونُهُ أَيْضًا إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي لَمْ يَقَعْ عَلَيْك طَلَاقِي. وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَقَعْ الشَّرْطُ لَمْ يَقَعْ الْجَزَاءُ. وَإِذَا وَقَعَ الشَّرْطُ لَزِمَ الْوُقُوعُ. فَلَوْ قِيلَ: لَا يَقَعُ مَعَ ذَلِكَ. لَزِمَ أَنْ يَقَعَ وَلَا يَقَعُ، وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. وَأَيْضًا فَالطَّلَاقُ إذَا وَقَعَ لَمْ يَرْتَفِعْ بَعْدَ وُقُوعِهِ، فَلَمَّا كَانَ كَلَامُ الْمُطَلِّقِ يَتَضَمَّنُ مُحَالًا فِي الشَّرِيعَةِ - وَهُوَ وُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ - وَمُحَالًا فِي الْعَقْلِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَعَدَمِ وُقُوعِهِ: كَانَ الْقَائِلُ بِالتَّسْرِيجِ مُخَالِفًا لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ؛ لَكِنْ إذَا اعْتَقَدَ الْحَالِفُ صِحَّةَ هَذَا الْيَمِينِ بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ، وَطَلَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ: لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ التَّكَلُّمَ بِمَا يَعْتَقِدُهُ طَلَاقًا؛ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ الْعَجَمِيُّ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَهُوَ لَا يَفْهَمُهُ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ لَوْ خَاطَبَ مَنْ يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً بِالطَّلَاقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَوْ تَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُ التَّسْرِيجِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ لَمْ يَكُنْ ظُهُورُ الْحَقِّ لَهُ فِيمَا بَعْدُ مُوجِبًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إنْ احْتَاطَ فَرَاجَعَ امْرَأَتَهُ خَوْفًا أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ وَقَعَ بِهِ، أَوْ مُعْتَقِدًا وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِهِ لَمْ يَقَعْ. وَلَوْ أَقَرَّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُ التَّسْرِيجِ أَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ لَمْ يَقَعْ بِهَذَا الْإِقْرَارِ شَيْءٌ، وَلَوْ اعْتَقَدَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فَرَاجَعَ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ قَدْ حَنِثَ فِيهِ مَرَّةً فَلَا يَحْنَثُ فِيهِ مَرَّةً ثَانِيَةً: لَمْ يَقَعْ بِهِ: فَهَذَا الْفِعْلُ شَيْءٌ وَالْيَمِينُ الَّتِي حَلَفَ

مسألة قال إن جاءت زوجتي ببنت فهي طالق

بِهَا أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الشَّيْءَ بَاقِيَةٌ، فَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْيَمِينِ بَاقِيًا فَهِيَ بَاقِيَةٌ، وَإِنْ زَالَ سَبَبُ الْيَمِينِ فَلَهُ فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ؛ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَحْنَثْ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ الْبَيْنُونَةَ حَصَلَتْ وَانْقَطَعَ حُكْمُ الْيَمِينِ الْأَوْلَى لَمْ يَحْنَثْ؛ لِاعْتِقَادِهِ زَوَالَ الْيَمِينِ، كَمَا لَا يَحْنَثُ الْجَاهِلُ بِأَنَّ مَا فَعَلَهُ هُوَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لِزَوْجَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: أَنْتِ طَالِقٌ. فَإِنَّهُ تَقَعُ هَذِهِ الطَّلْقَةُ، وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ بِهَذِهِ الطَّلْقَةِ قَدْ كَمُلَتْ ثَلَاثًا، وَأَقَرَّ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، لَمْ يَقَعْ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ شَيْءٌ، وَلَا بِهَذَا الْإِقْرَارِ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ إنْ جَاءَتْ زَوْجَتِي بِبِنْتٍ فَهِيَ طَالِقٌ] 553 - 16 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ جَرَى مِنْهُ كَلَامٌ فِي زَوْجَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ، فَقَالَ: إنْ جَاءَتْ زَوْجَتِي بِبِنْتٍ فَهِيَ طَالِقٌ، ثُمَّ إنَّهُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ جَرَى بَيْنَهُمْ كَلَامٌ فَنَزَلَ عَنْ طَلْقَةٍ، ثُمَّ أَنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَضَعَتْ بِنْتًا، فَهَلْ يَقَعُ عَلَى الزَّوْجِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ قَدْ أَبَانَهَا بِالطَّلْقَةِ بِأَنْ تَكُونَ الطَّلْقَةُ بِعِوَضٍ، أَوْ وَدَعَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَفِيهَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَحَدُهُمَا يَقَعُ وَهُوَ رِوَايَةٌ مُخَرَّجَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُبِنْهَا بَلْ رَاجَعَ فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّ النِّكَاحَ بَاقٍ فَإِنْ وُجِدَتْ الصِّفَةُ الْمُعَلَّقُ بِهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ مِنْ زَوْجَتِهِ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ مَا يَطَؤُهَا لِسِتَّةِ شُهُورٍ] 554 - 17 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ حَلَفَ مِنْ زَوْجَتِهِ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ مَا يَطَؤُهَا لِسِتَّةِ شُهُورٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ لَهَا غَيْرُ طَلْقَةٍ وَنِيَّتُهُ أَنْ لَا يَطَأَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ، فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ مَاذَا يَفْعَلُ؟ الْجَوَابُ: إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ فَلَهُ وَطْؤُهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ تُطَالِبْهُ بِالْوَطْءِ عِنْدَ انْقِضَاءِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؛ هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ وَهُوَ يُسَمَّى مُوَلِّيًا.

مسألة من طلق زوجته طلقة رجعية

[مَسْأَلَةٌ مِنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً] مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَ الشُّهُودِ قَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: قُلْ طَلَّقْتُهَا عَلَى دِرْهَمٍ، فَقَالَ ذَلِكَ، فَلَمَّا فَعَلَ، قَالُوا لَهُ: قَدْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا فَلَا تَرْجِعُ إلَيْكَ إلَّا بِرِضَاهَا، فَإِذَا وَقَعَ الْمَنْعُ، هَلْ يَسْقُطُ حَقُّهُمَا مَعَ غَرَرِهِ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً رَجْعِيَّةً ثُمَّ إنَّ الشَّاهِدَ قَدْ لَقَّنَهُ أَنْ يَقُولَ طَلَّقَهَا عَلَى دِرْهَمٍ، فَقَالَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ يُقَرِّرُ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ لَا لِشَيْءٍ طَلَاقًا آخَرَ لَمْ يَقَعْ بِهِ غَيْرُ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ رَجْعِيًّا لَا بَائِنًا. وَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ الثَّانِي إنْشَاءً لِطَلَاقٍ آخَرَ ثَانٍ، وَقَالَ إنَّمَا قُلْتُهُ إقْرَارًا بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّ الطَّلَاقَ بِالْعِوَضِ يُبِينُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، لَا سِيَّمَا وَقَرِينَةُ الْحَالِ تُصَدِّقُهُ، فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا ثُمَّ حَضَرَ عِنْدَ الشُّهُودِ فَإِنَّمَا حَضَرَ لِيَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا وَقَعَ مِنْ الطَّلَاقِ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَلِيُّهَا فَاسِقٌ] 556 - 19 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَلِيُّهَا فَاسِقٌ، يَأْكُلُ الْحَرَامَ، وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَالشُّهُودُ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثَ فَهَلْ لَهُ بِذَلِكَ الرُّخْصَةُ فِي رَجْعَتِهَا؟ الْجَوَابُ: إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ، وَمَنْ أَخَذَ يَنْظُرُ بَعْدَ الطَّلَاقِ فِي صِفَةِ الْعَقْدِ وَلَمْ يَنْظُرْ فِي صِفَتِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ الْمُتَعَدِّينَ لِحُدُودِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَحِلَّ مَحَارِمَ اللَّهِ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ، وَالطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَالنِّكَاحُ بِوِلَايَةِ الْفَاسِقِ يَصِحُّ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا] 557 - 20 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، وَهِيَ بِكْرٌ، فَهَلْ لَهُ سَبِيلٌ فِي مُرَاجَعَتِهَا؟

مسألة نوى أن يطلق زوجته إذا حاضت

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الطَّلَاقُ ثَلَاثٌ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ الدُّخُولِ سَوَاءٌ فِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِذَلِكَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. [مَسْأَلَةٌ نَوَى أَنْ يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ إذَا حَاضَتْ] 558 - 21 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ نَوَى أَنْ يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ إذَا حَاضَتْ وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِطَلَاقٍ؛ فَلَمَّا أَنْ حَاضَتْ عَلِمَ أَنَّهَا طَلُقَتْ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَقَالَ لِلشُّهُودِ: آنَ طَلْقَةُ زَوْجَتِي. قَالُوا: مَتَى طَلَّقْتَهَا؟ قَالَ: أَوَّلَ أَمْسِ؛ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ، فَلَمَّا مَضَى حَيْضَتَانِ غَيْرُ الْحَيْضَةِ الَّتِي ظَنَّ أَنَّهَا طَلُقَتْ فِيهَا زَوَّجَهَا الشُّهُودُ بِرَجُلٍ آخَرَ، ثُمَّ مَكَثَتْ عِنْدَهُ وَطَلَّقَهَا، ثُمَّ وَفَّتْ عِدَّتَهَا، ثُمَّ أَرَادَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ رَدَّهَا: فَهَلْ هِيَ حَلَالٌ لَهُ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ أَمْ يَجِبُ عَقْدٌ جَدِيدٌ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا إذَا نَوَى أَنَّهُ سَيُطَلِّقُهَا إذَا حَاضَتْ فَهَذَا لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ. وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ تِلْكَ النِّيَّةَ طَلَاقٌ فَأَقَرَّ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِتِلْكَ النِّيَّةِ لَمْ يَقَعْ بِهَذَا الْإِقْرَارِ فِي الْبَاطِنِ؛ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ بِهِ فِي الْحُكْمِ. وَإِذَا لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى زَوْجِيَّتِهِ فِي الْبَاطِنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ لَهُ زَوْجَةٌ طَلَبَتْ مِنْهُ الطَّلَاقَ وَطَلَّقَهَا] 559 - 22 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ طَلَبَتْ مِنْهُ الطَّلَاقَ، وَطَلَّقَهَا وَقَالَ: مَا بَقِيَتْ أَعُودُ إلَيْهَا أَبَدًا فَوَجَدَهُ صَاحِبُهُ، فَقَالَ: مَا أُصَدِّقُ عَلَى هَذَا إلَّا إنْ قُلْتَ كُلَّمَا تَزَوَّجْتُ هَذِهِ كَانَتْ طَالِقًا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَلَمْ يَرَى الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ، فَهَلْ أَنْ يَرُدَّهَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا إنْ قَصَدَ كُلَّمَا تَزَوَّجْتُهَا بِرَجْعَةٍ أَوْ عَقْدٍ جَدِيدٍ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فَمَتَى ارْتَجَعَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ طَلُقَتْ ثَانِيَةً، ثُمَّ إنْ ارْتَجَعَهَا طَلُقَتْ ثَالِثَةً، وَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا بَانَتْ مِنْهُ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَمَنْ قَالَ إنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذَا كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ قَالَ: إنَّ هَذِهِ إذَا تَزَوَّجَهَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ فَهَذِهِ لَمَّا عَلَّقَ طَلَاقَهَا كَانَتْ رَجْعِيَّةً، وَالرَّجْعِيَّةُ كَالزَّوْجَةِ فِي مِثْلِ هَذَا لَكِنْ تَخَلَّلَ الْبَيْنُونَةُ، هَلْ يَقَعُ

مسألة طلق زوجته في مرض الموت طلقة واحدة قبل الدخول بها

حُكْمُ؟ الصِّفَةِ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى الْفَرْقِ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ عَلَى النِّكَاحِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي عِدَّةٍ أَوْ لَا يَكُونَ، فَعَلَى مَذْهَبِهِ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَا إذَا تَزَوَّجَهَا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ إنَّ الْبَيْنُونَةَ تَقْطَعُ حُكْمَ الصِّفَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: إذَا تَزَوَّجَهَا، كَقَوْلِهِ: إذَا دَخَلْتِ الدَّارَ، وَإِذَا بَانَتْ أَحَلَّتْ هَذِهِ الْيَمِينَ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ، وَهُوَ الَّذِي يُرَجِّحُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ الْتِزَامٌ مِنْهُ لِمَذْهَبٍ بِعَيْنِهِ، وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ بَلْ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ كَانَ بَائِنًا بِعِوَضٍ وَالتَّعْلِيقُ بَعْدَ هَذَا فِي الْعِدَّةِ وَغَيْرِهِ تَعْلِيقٌ بِأَجْنَبِيَّةٍ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ إذَا تَزَوَّجَهَا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي مَرَض الْمَوْت طَلْقَةً وَاحِدَةً قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا] 560 - 23 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ طَلَاقَ الْفَارِّ، وَيُعَامَلُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَتَرِثُهُ الزَّوْجَةُ، وَتَسْتَكْمِلُ جَمِيعَ صَدَاقِهَا عَلَيْهِ، أَمْ لَا تَرِثُ، وَتَأْخُذُ نِصْفَ الصَّدَاقِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْمُطَلِّقِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ تَوْرِيثُهَا، كَمَا قَضَى بِذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِامْرَأَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفِ تُمَاضَرَ بِنْتِ الْأَصْبَغِ، وَقَدْ كَانَ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا هَلْ تَرِثُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَالْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى قَوْلَيْنِ الْعُلَمَاءُ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهَا تَرِثُ أَيْضًا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ قَدْ رَوَى أَنَّ عُثْمَانَ وَرَّثَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ إنَّمَا وَرِثَتْ لِتَعَلُّقِ حَقِّهَا بِالتَّرِكَةِ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَصَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي حَقِّهَا وَحَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ لِوَارِثٍ، وَلَا يَمْلِكُهُ لِغَيْرِ وَارِثٍ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، كَمَا لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَلَمَّا كَانَ تَصَرُّفُهُ

مسألة له زوجة فحلف أبوها أنه ما يخليها معه

فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَرَثَةِ كَتَصَرُّفِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، لَا يَمْلِكُ قَطْعَ إرْثِهَا، فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ بَعْدَ مَرَضِهِ. وَهَذَا هُوَ طَلَاقُ الْفَارِّ الْمَشْهُورُ بِهَذَا الِاسْمِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَفْتَى بِهِ. [مَسْأَلَةٌ لَهُ زَوْجَةٌ فَحَلَفَ أَبُوهَا أَنَّهُ مَا يُخَلِّيهَا مَعَهُ] 561 - 24 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ، فَحَلَفَ أَبُوهَا أَنَّهُ مَا يُخَلِّيهَا مَعَهُ وَضَرَبَهَا وَقَالَ لَهَا أَبُوهَا: إبْرِيهِ، فَأَبْرَأَتْهُ، وَطَلَّقَهَا طَلْقَةً، ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهَا لَمْ تُبْرِهِ إلَّا خَوْفًا مِنْ أَبِيهَا، فَهَلْ تَقَعُ عَلَى الزَّوْجَةِ الطَّلْقَةُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إنْ كَانَتْ أَبْرَأَتْهُ مُكْرَهَةً بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ وَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَ حِجْرِ الْأَبِ وَقَدْ رَأَى الْأَبُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي مَصْلَحَةٍ لَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ أَحَدُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. 562 - 25 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَجَاءَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، وَأَوْصَاهُ الشُّهُودُ أَوْ غَيْرُهُمْ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ يَقُولَ لَهَا: إذَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتَ طَالِقٌ قَبْلَ طَلَاقِك ثَلَاثًا، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ الْعَقْدُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ النِّكَاحُ صَحِيحٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافٍ. وَالتَّسْرِيجُ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ بِهِ لَا يُفْسِدُ النِّكَاحَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، لَكِنَّهُ إنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَكْثَرِهِمْ. [مَسْأَلَةٌ حُنِقَ مِنْ زَوْجَتِهِ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا] 563 - 26 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ حُنِقَ مِنْ زَوْجَتِهِ، فَقَالَ: أَنْت طَالِقٌ ثَلَاثًا. قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ: قُلْ السَّاعَةَ، قَالَ السَّاعَةَ، وَنَوَى الِاسْتِثْنَاءَ

مسألة الإكراه على الطلاق

الْجَوَابُ: إذَا كَانَ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَمَقْصُودُهُ تَخْوِيفًا بِهَذَا الْكَلَامِ لَا إيقَاعَ الطَّلَاقِ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ لَا يَقَعُ، وَمَذْهَبَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ يَقَعُ، كَمَا رَوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. لَكِنَّ هَذَا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ وَاعْتِقَادُهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ صَارَ الْكَلَامُ عِنْدَهُ كَلَامًا لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ، فَلَمْ يَقْصِدْ التَّكَلُّمَ بِالطَّلَاقِ، وَاذَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ بِكَلَامٍ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مِثْلُ مَا لَوْ تَكَلَّمَ الْعَجَمِيُّ بِلَفْظٍ وَهُوَ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ، وَطَلَاقُ الْهَازِلِ وَقَعَ لِأَنَّ قَصْدَ الْمُتَكَلِّمِ الطَّلَاقَ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ إيقَاعَهُ، وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، وَهُوَ يُشْبِهُ مَا لَوْ رَأَى امْرَأَةً فَقَالَ أَنْت طَالِقٌ يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً فَبَانَتْ امْرَأَتُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْإِكْرَاه عَلَى الطَّلَاقِ] 564 - 27 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ؟ الْجَوَابُ: إذَا أُكْرِهَ بِغَيْرِ حَقٍّ عَلَى الطَّلَاقِ لَمْ يَقَعْ بِهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ: كَمَالِكٍ. وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَغَيْرِهِ. وَإِذَا كَانَ حِينَ الطَّلَاقِ قَدْ أَحَاطَ بِهِ أَقْوَامٌ يُعْرَفُونَ بِأَنَّهُمْ يُعَادُونَهُ، أَوْ يَضْرِبُونَهُ، وَلَا يُمْكِنُهُ إذْ ذَاكَ أَنْ يَدْفَعَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ، وَادَّعَى أَنَّهُمْ أَكْرَهُوهُ عَلَى الطَّلَاقِ: قُبِلَ قَوْلُهُ. فَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ بِالطَّلَاقِ يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ، وَادَّعَى الْإِكْرَاهَ: قُبِلَ قَوْلُهُ وَفِي تَحْلِيفِهِ نِزَاعٌ. [مَسْأَلَةٌ زُوِّجَ بِامْرَأَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مُسْلِمَةٌ وَالْأُخْرَى كِتَابِيَّةٌ] 565 - 28 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ زُوِّجَ بِامْرَأَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مُسْلِمَةٌ وَالْأُخْرَى كِتَابِيَّةٌ، ثُمَّ قَالَ: إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ، وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ فَلِمَنْ تَكُونُ التَّرِكَةُ مِنْ بَعْدِهِ؟ وَأَيُّهُمَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا تَفْصِيلٌ وَنِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ

يُطَلِّقَ مُعَيَّنَةً وَيَنْسَاهَا أَوْ يَجْهَلَ عَيْنَهَا، وَبَيْنَ أَنْ يُطَلِّقَ مُبْهَمَةً وَيَمُوتَ قَبْلَ تَمْيِيزِهَا بِتَعْيِينِهِ أَوْ يَعْرِفَهُ: ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْجَمِيعِ كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يَقَعُ إلَّا بِوَاحِدَةٍ، كَقَوْلِ الثَّلَاثَةِ. وَإِذَا قَدَّرَ تَعَيُّنَهَا وَلَمْ تَعَيَّنَ، فَهَلْ تُقَسَّمُ التَّرِكَةُ بَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ وَغَيْرِهَا، كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ، أَوْ يُوقَفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَصْطَلِحَا، كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، أَوْ يُقْرَعَ بَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ وَغَيْرِهَا، كَمَا يَقُولُهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ وَالْقُرْعَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ هِيَ قُرْعَةٌ عَلَى الْمَالِ، فَلِهَذَا قَالَ بِهَا مَنْ لَمْ يُرِدْ الْقُرْعَةَ فِي الْمُطَلَّقَاتِ. وَالصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْمُطَلَّقَةُ مُبْهَمَةً أَوْ مَجْهُولَةً أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ، فَإِذَا خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ لَمْ تَرِثْ هِيَ وَلَا الذِّمِّيَّةُ شَيْئًا. أَمَّا هِيَ فَلِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ، وَأَمَّا الذِّمِّيَّةُ فَإِنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ. وَإِنْ خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى الذِّمِّيَّةِ وَرِثَتْ الْمُسْلِمَةُ مِيرَاثَ زَوْجَةٍ كَامِلَةٍ، هَذَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ طَلَاقًا مُحْرِمًا لِلْمِيرَاثِ مِثْلُ أَنْ يُبِينَهَا فِي صِحَّتِهِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فِي الصِّحَّةِ، وَالْمَرَضِ، وَمَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهَذِهِ زَوْجَتُهُ تَرِثُ وَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَتَنْقَضِي بِذَلِكَ عِدَّتُهَا عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ: أَنَّهَا تَعْتَدُّ أَطْوَلَ الْأَجَلَيْنِ مِنْ مُدَّةِ الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْبَائِنَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ تَرِثُ، إذَا كَانَ طَلَّقَهَا طَلَاقًا فِيهِ يَقْصِدُ حِرْمَانَهَا الْمِيرَاثَ، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَهُوَ يَرِثُهَا وَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ يَرِثُهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَلِلشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ كَذَلِكَ لَكِنَّ قَوْلَهُ الْجَدِيدَ أَنَّهَا لَا تَرِثُ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُتَّهَمْ بِقَصْدِ حِرْمَانِهَا فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرِثُ. فَعَلَى هَذَا لَا تَرِثُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الطَّلَاقِ الَّذِي لَمْ يُعَيِّنْ فِيهِ لَا يَظْهَرُ فِيهِ قَصْدُ الْحِرْمَانِ، وَمَنْ وَرَّثَهَا مُطْلَقًا كَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فَالْحُكْمُ عِنْدَهُ كَذَلِكَ، وَإِذَا وَرِثَتْ الْمَبْتُوتَةُ فَقِيلَ تَعْتَدُّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقِيلَ: تَعْتَدُّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ فَقَطْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ الْمَشْهُورُ عَنْهُ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا صُورَةُ أَنَّهَا لَمْ تَتَبَيَّنْ الْمُطَلَّقَةُ فَإِحْدَاهُمَا، وَجَبَتْ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَالْأُخْرَى عِدَّةُ الطَّلَاقِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ إحْدَى الْعِدَّتَيْنِ

مسألة قال كل شيء أملكه علي حرام

اشْتَبَهَ الْوَاجِبُ بِغَيْرِهِ، فَلِهَذَا كَانَ الْأَظْهَرُ هُنَا وُجُوبَ الْعِدَّتَيْنِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، لِأَنَّ الذِّمَّةَ لَا تَبْرَأُ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ إلَّا بِذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ كُلُّ شَيْءٍ أَمْلِكُهُ عَلَيَّ حَرَامٌ] 566 - 29 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَالَ كُلُّ شَيْءٍ أَمْلِكُهُ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَهَلْ تَحْرُمُ امْرَأَتُهُ وَأَمَتُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: أَمَّا غَيْرُ الزَّوْجَةِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا نِزَاعٌ: هَلْ تَطْلُقُ؟ أَوْ تُوجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ ظِهَارٍ؟ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ هُوَ طَلَاقٌ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ. [مَسْأَلَةٌ تَخَاصَمَ مَعَ زَوْجَتِهِ فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقهَا وَاحِدَةً فَقَالَ ثَلَاثَةً] 567 - 30 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَخَاصَمَ مَعَ زَوْجَتِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ: هِيَ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً فَسَبَقَ لِسَانُهُ فَقَالَ ثَلَاثَةً، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نِيَّتَهُ فَمَا الْحُكْمُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إذَا سَبَقَ لِسَانُهُ بِالثَّلَّاتِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَإِنَّمَا قَصَدَ وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ بِهِ إلَّا وَاحِدَةً، بَلْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ طَاهِرٌ فَسَبَقَ لِسَانُهُ بِطَالِقٍ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَأَفْتَاهُ مُفْتٍ بِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ] 568 - 31 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، وَأَفْتَاهُ مُفْتٍ بِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ، فَقَلَّدَهُ الزَّوْجُ وَوَطِئَ زَوْجَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَتَتْ مِنْهُ بِوَلَدٍ: فَقِيلَ: إنَّهُ وَلَدُ زِنًا؟ الْجَوَابُ: مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالَةِ، وَالْمُشَاقَّةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ اعْتَقَدَ الزَّوْجُ أَنَّهُ نِكَاحٌ سَائِغٌ إذَا وَطِئَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ فِيهِ وَلَدُهُ وَيَتَوَارَثَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النِّكَاحُ بَاطِلًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، سَوَاءٌ كَانَ النَّاكِحُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا. وَالْيَهُودِيُّ إذَا تَزَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ كَانَ

وَلَدُهُ مِنْهُ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ وَيَرِثُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النِّكَاحُ بَاطِلًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ اسْتَحَلَّهُ كَانَ كَافِرًا تَجِبُ اسْتِتَابَتُهُ. وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الْجَاهِلُ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا كَمَا يَفْعَلُ جُهَّالُ الْأَعْرَابِ وَوَطِئَهَا يَعْتَقِدُهَا زَوْجَةً كَانَ وَلَدُهُ مِنْهَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ وَيَرِثُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. فَإِنَّ " ثُبُوتَ النَّسَبِ " لَا يَفْتَقِرُ إلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ بَلْ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» فَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَوَطِئَهَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ: إمَّا لِجَهْلِهِ. وَإِمَّا لِفَتْوَى مُفْتٍ مُخْطِئٍ قَلَّدَهُ الزَّوْجُ. وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ النَّسَبُ، وَيَتَوَارَثَانِ بِالِاتِّفَاقِ؛ بَلْ وَلَا تُحْسَبُ الْعِدَّةُ إلَّا مِنْ حِينِ تَرَكَ وَطْأَهَا؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَطَؤُهَا يَعْتَقِدُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، فَهِيَ فِرَاشٌ لَهُ فَلَا تَعْتَدُّ مِنْهُ حَتَّى تَتْرُكَ الْفِرَاشَ. وَمَنْ نَكَحَ امْرَأَةً " نِكَاحًا فَاسِدًا، مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ، أَوْ مُخْتَلَفًا فِي فَسَادِهِ أَوْ مَلَكَهَا مِلْكًا مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ، أَوْ مُخْتَلَفًا فِي فَسَادِهِ، أَوْ وَطِئَهَا يَعْتَقِدُهَا زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ، أَوْ أَمَتَهُ الْمَمْلُوكَةَ: فَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْهَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ، وَيَتَوَارَثَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْوَلَدُ أَيْضًا يَكُونُ حُرًّا؛ وَإِنْ كَانَ الْمَوْطُوءَةُ مَمْلُوكَةً لِلْغَيْرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَوُطِئَتْ بِدُونِ إذْنِ سَيِّدِهَا؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْوَاطِئُ مَغْرُورًا بِهَا زُوِّجَ بِهَا وَقِيلَ: هِيَ حُرَّةٌ، أَوْ بِيعَتْ فَاشْتَرَاهَا يَعْتَقِدُهَا مِلْكًا لِلْبَائِعِ؛ فَإِنَّمَا وَطِئَ مَنْ يَعْتَقِدُهَا زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ، أَوْ أَمَتَهُ الْمَمْلُوكَةَ: فَوَلَدُهُ مِنْهَا حُرٌّ؛ لِاعْتِقَادِهِ. وَإِنْ كَانَ اعْتِقَادُهُ مُخْطِئًا، وَبِهَذَا قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ. فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَطِئُوا وَجَاءَهُمْ أَوْلَادٌ لَوْ كَانُوا قَدْ وَطِئُوا فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ مُتَّفَقٍ عَلَى فَسَادِهِ، وَكَانَ الطَّلَاقُ وَقَعَ بِهِمْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ وَطِئُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ النِّكَاحَ بَاقٍ؛ لِإِفْتَاءِ مَنْ أَفْتَاهُمْ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ: كَانَ نَسَبُ الْأَوْلَادِ بِهِمْ لَاحِقًا، وَلَمْ يَكُونُوا أَوْلَادَ زِنًا؛ بَلْ يَتَوَارَثُونَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. هَذَا فِي الْمُجْمَعِ عَلَى فَسَادِهِ فَكَيْفَ فِي الْمُخْتَلَفِ فِي فَسَادِهِ؟ وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي وَطِئَ بِهِ قَوْلًا ضَعِيفًا: كَمَنْ وَطِئَ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ أَوْ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ؛ فَإِنَّ هَذَا إذَا وَطِئَ فِيهِ يَعْتَقِدُهُ نِكَاحًا لَحِقَهُ فِيهِ النَّسَبُ، فَكَيْفَ بِنِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، وَقَدْ ظَهَرَتْ حُجَّةُ الْقَوْلِ بِصِحَّتِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ

مسألة غصبوه على طلاق زوجته فطلقها طلقة واحدة

وَالْقِيَاسِ، وَظَهَرَ ضَعْفُ الْقَوْلِ الَّذِي يُنَاقِضُهُ، وَعَجَزَ أَهْلُهُ عَنْ نُصْرَتِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ؛ لِانْتِفَاءِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ؟ ، فَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا النِّكَاحَ أَوْ مِثْلَهُ يَكُونُ فِيهِ الْوَلَدُ وَلَدُ زِنًا [لَا] يَتَوَارَثَانِ هُوَ وَأَبُوهُ الْوَاطِئُ: مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. مُنْسَلِخٌ مِنْ رُتْبَةِ الدِّينِ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا عُرِّفَ وَبُيِّنَ لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَاءَهُ الرَّاشِدِينَ وَسَائِرَ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَلْحَقُوا أَوْلَادَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بِآبَائِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً بِالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِي لُحُوقِ النَّسَبِ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ جَائِزًا فِي شَرْعِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ مَنْ أَصَرَّ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْفُتْيَا بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ دَاعِيَ الْإِجْمَاعِ عَلَى وُقُوعِهِ، أَوْ قَالَ إنَّ الْوَلَدَ وَلَدُ زِنًا هُوَ الْمُخَالِفُ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّ الْمُفْتِيَ بِذَلِكَ أَوْ الْقَاضِيَ بِذَلِكَ لَا يَسُوغُ لَهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ الْمَنْعُ مِنْ الْفُتْيَا بِقَوْلِهِ وَلَا الْقَضَاءِ بِذَلِكَ وَلَا الْحُكْمِ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْأَحْكَامُ بَاطِلَةٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. [مَسْأَلَةٌ غَصَبُوهُ عَلَى طَلَاقِ زَوْجَتِهِ فَطَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً] 569 - 32 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مُسِكَ وَضُرِبَ، وَسَحَبُوهُ وَغَصَبُوهُ عَلَى طَلَاقِ زَوْجَتِهِ، فَطَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَرَاحَتْ وَهِيَ حَامِلَةٌ مِنْهُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذَا الطَّلَاقُ لَا يَقَعُ. وَأَمَّا نِكَاحُهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَهُوَ نِكَاحٌ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ: وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ، فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ وَقَعَ؟ ، وَيُعَزَّرُ مَنْ أَكْرَهَهُ عَلَى الطَّلَاقِ، وَمَنْ تَوَلَّى هَذَا النِّكَاحَ الْمُحَرَّمَ الْبَاطِلَ. وَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَقْضِيَ الْعِدَّةَ مِنْ الْأَوَّلِ بِالْوَضْعِ. وَالْعِدَّةَ مِنْ الثَّانِي فِيهَا خِلَافٌ. إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ النِّكَاحَ مُحَرَّمٌ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا إنْ كَانَ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ النِّكَاحِ فَلَا بُدَّ أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي.

مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَهُوَ سَاكِنٌ بِهَا فِي مَنْزِلِ سَكَنِهَا: إنْ قَعَدْت عِنْدَكُمْ فَأَنْتَ طَالِقٌ؛ وَإِنْ سَكَنْت عِنْدَكُمْ فَأَنْتَ طَالِقٌ؛ ثُمَّ قَالَ أَيْضًا: أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ؛ ثُمَّ انْتَقَلَ بِنَفْسِهِ وَمَتَاعِهِ دُونَ زَوْجَتِهِ إلَى مَكَان آخَرَ؛ وَعَادَتْ زَوْجَتُهُ إلَى مَكَانِهَا الْأَوَّلِ؛ فَإِذَا عَادَ وَقَعَدَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ يَقَعُ عَلَيْهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ؟ أَمْ طَلْقَتَانِ؟ وَهَلْ السَّكَنُ هُوَ الْقُعُودُ؟ أَوْ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ؟ وَإِذَا لَمْ يَنْوِ بِالْحَرَامِ الطَّلَاقَ: هَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ نَوَى؟ وَهَلْ إذَا كَانَ مَذْهَبٌ تَزُولُ بِهِ هَذِهِ الصُّورَةُ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِهِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إنْ قَعَدْت عِنْدَكُمْ وَإِنْ سَكَنْت عِنْدَكُمْ فَإِنْ كَانَ نِيَّةُ الْحَالِفِ بِالْقُعُودِ إذَا انْتَقَضَ سَبَبُ تِلْكَ الْحَالِ؛ بِمَنْزِلَةِ مَنْ دُعِيَ إلَى غَدَاءٍ فَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يَتَغَدَّى؛ فَإِنَّ سَبَبَ الْيَمِينِ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْغَدَاءَ الْمُعَيَّنَ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِغَدَاءٍ غَيْرِ ذَلِكَ: وَهَكَذَا إذَا كَانَ قَدْ زَارَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ قَوْمًا فَرَأَى مِنْ الْأَحْوَالِ مَا كَرِهَ أَنْ تُقِيمَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ عِنْدَهُمْ فَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يُقِيمُ، وَلَا يَسْكُنُ، وَقَصَدَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، أَوْ كَانَ سَبَبُ الْيَمِينِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا إنْ كَانَ قَدْ نَوَى الْعُمُومَ بِحَيْثُ قَصَدَ أَنَّهُ لَا يَقْعُدُ عِنْدَهُمْ وَلَا يُسَاكِنُهُمْ بِحَالٍ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِالْقُعُودِ. وَإِنْ أَطْلَقَ الْيَمِينَ فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَحَيْثُ يَحْنَثُ بِالْقُعُودِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْقُعُودُ الَّذِي قَصَدَهُ هُوَ السُّكْنَى لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْثَرَ مِنْ طَلْقَةٍ؛ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ كَمَا لَوْ كَرَّرَ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِنْ كَانَ الْقُعُودُ دَاخِلًا فِي ضِمْنِ السُّكْنَى - كَمَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ - فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُدَاخِلُ الصِّفَاتِ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ أَكَلْت تُفَّاحَةً وَاحِدَةً: فَقَدْ قِيلَ: تَقَعُ طَلْقَتَانِ؛ لِوُجُودِ الصِّفَتَيْنِ. وَقِيلَ: لَا يَقَعُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةً أَيْضًا. وَهُوَ أَقْوَى، فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّك طَالِقٌ سَوَاءٌ أَكَلْت تُفَّاحَةً كَامِلَةً أَوْ نِصْفَهَا، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إنْ قَعَدْت. فَالْقُعُودُ " لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ " يُرَادُ بِهِ السُّكْنَى مُشْتَمِلًا عَلَى الْقُعُودِ، وَيَكُونُ أَوَّلًا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَقْعُدُ، ثُمَّ حَلَفَ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ السُّكْنَى فَإِذَا سَكَنَ كَانَ

الْأَوَّلُ بَعْضَ الثَّانِي، فَلَا يَقَعُ أَكْثَرُ مِنْ طَلْقَةٍ إذَا قِيلَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ عَلَى أَقْوَى الْقَوْلَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ " فَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا فَفَعَلَهُ: فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ؛ بَلْ حَرَّمَهَا تَحْرِيمًا: فَهَذَا عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ، وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ فِي الصُّورَتَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ: يَقُولُونَ: إنَّ الْحَرَامَ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ إذَا لَمْ يَنْوِهِ، كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَإِنْ كَانَ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَتْبَاعِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ صَارَ بِحُكْمِ الْعُرْفِ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ: فَهَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ. وَقَدْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يَرَوْنَ لَفْظَ " الظِّهَارِ " صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، حَتَّى تَظَاهَرَ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ مِنْ امْرَأَتِهِ الْمُجَادَلَةِ، الَّتِي ثَبَتَ حُكْمُهَا فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] . وَأَفْتَاهَا النَّبِيُّ أَوَّلًا بِالطَّلَاقِ، حَتَّى نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الظِّهَارَ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ، وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ. وَالْحَرَامُ نَظِيرُ الظِّهَارِ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ لَهَا بِالْمُحَرَّمَةِ، وَهَذَا نَطَقَ بِالتَّحْرِيمِ، وَكِلَاهُمَا مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ، فَقَدْ دَلَّ كِتَابُ اللَّهِ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينٌ بِقَوْلِهِ: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلَى قَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . مَعَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ. وَأَمَّا تَقْلِيدُ الْمُسْتَفْتِي لِلْمُفْتِي فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ وَلَا شُرِعَ لَهُ الْتِزَامُ قَوْلِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فِي كُلِّ مَا يُوجِبُهُ وَيُحَرِّمُهُ وَيُبِيحُهُ؛ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عَلَى الْمُسْتَفْتِي أَنْ يُقَلِّدَ الْأَعْلَمَ الْأَرْوَعَ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ اسْتِفْتَاؤُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْمُفْتِينَ؛ [وَ] إذَا كَانَ لَهُ نَوْعُ

مسألة متزوج من امرأتين فاختارت إحداهن الطلاق

تَمْيِيزٍ، فَقَدْ قِيلَ: يَتَّبِعُ أَيَّ الْقَوْلَيْنِ أَرْجَحُ عِنْدَهُ بِحَسَبِ تَمْيِيزِهِ، فَإِنَّ هَذَا أَوْلَى مِنْ التَّخْيِيرِ الْمُطْلَقِ. وَقِيلَ: لَا يَجْتَهِدُ إلَّا إذَا صَارَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ. فَإِذَا تَرَجَّحَ عِنْدَ الْمُسْتَفْتِي أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: إمَّا لِرُجْحَانِ دَلِيلِهِ بِحَسَبِ تَمْيِيزِهِ، وَإِمَّا لِكَوْنِ قَائِلِهِ أَعْلَمَ وَأَوْرَعَ؛ فَلَهُ ذَلِكَ وَإِنْ خَالَفَ قَوْلُهُ الْمَذْهَبَ. 571 - 34 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَخَاصَمَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ، وَانْجَرَحَ مِنْهَا؛ فَقَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي مِنْك ثَلَاثًا: إنْ قُلْت طَلِّقْنِي طَلَّقْتُك. فَسَكَتَتْ، ثُمَّ قَالَتْ لِأُمِّهَا: أَيُّ شَيْءٌ يَقُولُ؟ قَالَتْ أُمُّهَا: يَقُولُ كَذَا. قَوْلِي لَهُ: طَلِّقْنِي. ثُمَّ قَالَتْ الْمَرْأَةُ: طَلِّقْنِي. فَهَلْ يَقَعُ طَلَاقٌ بِوَاحِدَةٍ؛ أَوْ بِثَلَاثٍ؟ أَوْ لَا يَقَعُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ: إذَا لَمْ يَنْوِ بِقَوْلِهِ: إذَا قُلْت طَلِّقْنِي طَلَّقْتُك، أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي الْمَجْلِسِ؛ بَلْ يُطَلِّقُهَا عِنْدَ الشُّهُودِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَمْ يَحْنَثْ إذَا افْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ؛ لَكِنْ يُطَلِّقُهَا بَعْدَ ذَلِكَ الطَّلَاقِ الَّذِي قَصَدَ بِيَمِينِهِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْصِدْ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا، وَلَا اثْنَتَيْنِ أَجْزَأَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً. هَذَا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ إجَابَةَ سُؤَالِهَا مُطْلَقًا. وَأَمَّا إذَا قَصَدَ إجَابَةَ سُؤَالِهَا إذَا كَانَتْ طَالِبَةً لِلطَّلَاقِ، فَإِذَا رَجَعَتْ، وَقَالَتْ: لَا أُرِيدُ الطَّلَاقَ: لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ إذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مُتَزَوِّج مِنْ امْرَأَتَيْنِ فَاخْتَارَتْ إحْدَاهُنَّ الطَّلَاقَ] 572 - 35 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ لِامْرَأَتَيْنِ فَاخْتَارَتْ إحْدَاهُنَّ الطَّلَاقَ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ مِنْ الِاثْنَتَيْنِ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا، وَلَا يُوَكِّلُ عَنْهُ فِي طَلَاقِهَا، ثُمَّ حَدَثَ عُرْسٌ لَهَا فَنُكِحَتْ عَلَيْهِ، فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا تَرُوحِي فَقَالَتْ نَزِّلْنِي طَلْقَةً، فَإِنْ نَزَّلَهَا طَلْقَةً يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. مَتَى طَلَّقَهَا الطَّلَاقَ الَّذِي حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ

مسألة متزوج له أولاد ووالدته تكره الزوجة وتريد طلاقها

وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ، وَحَنِثَ أَيْضًا فِي الطَّلَاقِ الَّذِي حَلَفَ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مُتَزَوِّج لَهُ أَوْلَادٌ وَوَالِدَتُهُ تَكْرَهُ الزَّوْجَةَ وَتُرِيد طَلَاقهَا] 573 - 36 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ وَلَهُ أَوْلَادٌ، وَوَالِدَتُهُ تَكْرَهُ الزَّوْجَةَ وَتُشِيرُ عَلَيْهِ بِطَلَاقِهَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ طَلَاقُهَا؟ الْجَوَابُ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِقَوْلِ أُمِّهِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَبَرَّ أُمَّهُ وَلَيْسَ تَطْلِيقُ امْرَأَتِهِ مِنْ بِرِّهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ هَذَا ابْنُ زَوْجِك لَا يَدْخُلُ لِي بَيْتًا] 574 - 37 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَذَا ابْنُ زَوْجِك لَا يَدْخُلُ لِي بَيْتًا؛ فَإِنَّهُ ابْنِي رَبَّيْته؛ فَلَمَّا اشْتَكَاهُ لِأَبِيهِ قَالَ لِلزَّوْجِ: إنْ أَبْرَأَتْك امْرَأَتُك تُطَلِّقْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَتَى بِهَا، فَقَالَ لَهَا الزَّوْجُ: إنْ أَبْرَأْتنِي مِنْ كِتَابِك، وَمِنْ الْحُجَّةِ الَّتِي لَك عَلَيَّ: فَأَنْتَ طَالِقٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. وَانْفَصَلَا، وَطَلَعَ الزَّوْجُ إلَى بَيْتِ جِيرَانِهِ، فَقَالَ: هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَنَزَلَ إلَى الشُّهُودِ فَسَأَلُوهُ كَمْ طَلَّقْت؟ قَالَ: ثَلَاثًا عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ: فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثَ؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا كَانَ إبْرَاؤُهَا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ لَيْسَ مُطْلَقًا بَلْ بِشَرْطِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَانَتْ مِنْهُ، وَلَمْ يَقَعْ بِهَا بَعْدَ هَذَا طَلَاقٌ، وَالشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْعَقْدِ كَالشَّرْطِ الْمُقَارِنِ، وَالشَّرْطُ الْعُرْفِيُّ كَاللَّفْظِيِّ. وَقَوْلُ هَذَا الَّذِي مِنْ جِهَتِهَا لَهُ: إنْ جَاءَتْ زَوْجَتُك وَأَبْرَأَتْك تُطَلِّقُهَا؟ وَقَوْلُهُ اشْتِرَاطٌ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا إذَا أَبْرَأَتْهُ، وَمَجِيئُهُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: أَنْتِ إنْ أَبْرَأْتِينِي قَالَتْ: نَعَمْ. مُتَنَزِّلٌ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا أَبْرَأَتْهُ يُطَلِّقُهَا: بِحَيْثُ لَوْ قَالَتْ: أَبْرَأْته وَامْتَنَعَ لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ؛ فَإِنَّ هَذَا إيجَابٌ وَقَبُولٌ فِي الْعُرْفِ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الشُّرُوطِ وَدَلَالَةِ الْحَالِ؛ وَالتَّقْدِيرُ: أَبْرَأْتُك بِشَرْطِ أَنْ تُطَلِّقَنِي. [مَسْأَلَةٌ قَالَ لِصِهْرِهِ إنْ جِئْت لِي بِكِتَابِي وَأَبْرَأْتَنِي مِنْهُ فَبِنْتُك طَالِقٌ] 575 - 38 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَالَ لِصِهْرِهِ: إنْ جِئْت لِي بِكِتَابِي وَأَبْرَأْتَنِي مِنْهُ فَبِنْتُك طَالِقٌ ثَلَاثًا؛ فَجَاءَ لَهُ بِكِتَابٍ غَيْرِ كِتَابِهِ؛ فَقَطَّعَهُ الزَّوْجُ وَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ هُوَ كِتَابُهُ أَمْ لَا؟

مسألة أقامت في صحبته خمسة عشر يوما ثم طلقها الطلاق البائن

فَقَالَ أَبُو الزَّوْجَةِ: اشْهَدُوا عَلَيْهِ أَنَّ بِنْتِي تَحْتَ حِجْرِي، وَاشْهَدُوا عَلَيَّ أَنِّي أَبْرَأْته مِنْ كِتَابِهَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ إنَّهُ مَكَثَ سَاعَةً وَجَاءَ أَبُو الزَّوْجَةِ بِحُضُورِ الشُّهُودِ؛ وَقَالَ لَهُ: أَيَّ شَيْءٍ قُلْت يَا زَوْجُ؟ فَقَالَ الزَّوْجُ: اشْهَدُوا عَلَيَّ أَنَّ بِنْتَ هَذَا طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ إنَّ الزَّوْجَ ادَّعَى أَنَّ هَذَا الطَّلَاقَ الصَّرِيحَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ الْأَوَّلَ صَحِيحٌ: فَهَلْ يَقَعُ؟ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: قَوْلُهُ الْأَوَّلُ مُعَلَّقٌ عَلَى الْإِبْرَاءِ، فَإِنْ لَمْ يُبْرِهِ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ الثَّانِي فَهُوَ إقْرَارٌ مِنْهُ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ وَقَعَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَقَعْ فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِالثَّانِي شَيْءٌ. 576 - 39 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَخَاصَمَ مَعَ زَوْجَتِهِ وَهِيَ مَعَهُ بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَتْ لَهُ: طَلِّقْنِي. فَقَالَ: إنْ أَبْرَأْتِينِي فَأَنْتَ طَالِقٌ، فَقَالَتْ: أَبْرَأَك اللَّهُ مِمَّا يَدَّعِي النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ. فَقَالَ لَهَا: أَنْت طَالِقٌ. وَظَنَّ أَنَّهُ يُبَرَّأُ مِنْ الْحُقُوقِ، وَهُوَ شَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا تَدَّعِي النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ إذَا كَانَتْ رَشِيدَةً. [مَسْأَلَةٌ أَقَامَتْ فِي صُحْبَتهِ خَمْسَة عَشْرَ يَوْمًا ثُمَّ طَلَّقَهَا الطَّلَاقَ الْبَائِنَ] 577 - 40 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَأَقَامَتْ فِي صُحْبَتِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا الطَّلَاقَ الْبَائِنَ، وَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ بِزَوْجٍ آخَرَ بَعْدَ إخْبَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ الْأَوَّلِ؛ ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي بَعْدَ مُدَّةِ سِتِّ سِنِينَ، وَجَاءَتْ بِابْنَةٍ، وَادَّعَتْ أَنَّهَا مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ: فَهَلْ يَصِحُّ دَعْوَاهَا. وَيَلْزَمُ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْبِنْتَ، وَهَذَا الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ مُقِيمَانِ بِبَلَدٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ لَهَا مَانِعٌ مِنْ دَعْوَى النِّسَاءٍ، وَلَا طَالَبَتْهُ بِنَفَقَةٍ وَلَا فَرْضٍ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَا يَلْحَقُ هَذَا الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ الْبِنْتُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهَا وَالْحَالَةُ

مسألة امرأة مبغضة لزوجها طلبت الانخلاع منه

هَذِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ بَلْ لَوْ ادَّعَتْ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ فِي حَالٍ يَلْحَقُ بِهِ نَسَبُهُ إذَا وَلَدَتْهُ وَكَانَتْ مُطَلَّقَةً وَأَنْكَرَ هُوَ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْهُ لَمْ تُقْبَلْ فِي دَعْوَى الْوِلَادَةِ بِلَا نِزَاعٍ، حَتَّى تُقِيمَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً. وَيَكْفِي امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ: عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا بُدَّ مِنْ امْرَأَتَيْنِ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَيَحْتَاجُ عِنْدَهُ إلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ. وَيَكْفِي يَمِينُهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً فَفِيهَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا، كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: يُقْبَلُ، كَمَذْهَبِ مَالِكٍ. وَأَمَّا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَمَضَى لَهَا أَكْثَرُ الْحَمْلِ، ثُمَّ ادَّعَتْ وُجُودَ حَمْلٍ مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ الْمُطَلِّقِ: فَهَذِهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا بِلَا نِزَاعٍ، بَلْ لَوْ أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا وَلِدُونِ مُدَّةِ الْحَمْلِ: فَهَلْ يَلْحَقُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ يَلْحَقُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لَكِنْ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ. وَهَذَا النِّزَاعُ إذَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ إخْبَارِهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَلْحَقُ نَسَبُهُ بِالْأَوَّلِ قَوْلًا وَاحِدًا. فَإِذَا عَرَفْتَ مَذْهَبَ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فَكَيْفَ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ بِدَعْوَاهَا بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ. وَلَوْ قَالَتْ وَلَدْته ذَلِكَ الزَّمَنَ قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَنِي لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا أَيْضًا؛ بَلْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا عَلَى فِرَاشِهِ. وَلَوْ قَالَتْ هِيَ: وَضَعْت هَذَا الْحَمْلَ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَ بِالثَّانِي، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ ذَلِكَ: فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا أَنَّهَا لَمْ تَضَعْهَا قَبْلَ تَزَوُّجِهَا بِالثَّانِي؛ لَا سِيَّمَا مَعَ تَأَخُّرِ دَعْوَاهَا إلَى أَنْ تَزَوَّجَتْ الثَّانِيَ؛ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهَا فِي دَعْوَاهَا؛ لَا سِيَّمَا عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ فِي تَأَخُّرِ الدَّعْوَى الْمُمْكِنَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَحْوِهَا. [مَسْأَلَةٌ امْرَأَة مُبْغِضَة لِزَوْجِهَا طَلَبَتْ الِانْخِلَاعَ مِنْهُ] 578 - 41 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ مُبْغِضَةٍ لِزَوْجِهَا طَلَبَتْ الِانْخِلَاعَ مِنْهُ، وَقَالَتْ لَهُ: إنْ

مسألة الخلع الذي جاء به الكتاب والسنة

لَمْ تُفَارِقْنِي وَإِلَّا قَتَلْت نَفْسِي؛ فَأَكْرَهَهُ الْوَلِيُّ عَلَى الْفُرْقَةِ، وَتَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ، وَقَدْ طَلَبَهَا الْأَوَّلُ، وَقَالَ: إنَّهُ فَارَقَهَا مُكْرَهًا، وَهِيَ لَا تُرِيدُ إلَّا الثَّانِيَ؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ أُكْرِهَ عَلَى الْفُرْقَةِ بِحَقٍّ: مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مُقَصِّرًا فِي وَاجِبَاتِهَا، أَوْ مُضِرًّا لَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ كَانَتْ الْفُرْقَةُ صَحِيحَةً، وَالنِّكَاحُ الثَّانِي صَحِيحًا، وَهِيَ زَوْجَةُ الثَّانِي. وَإِنْ كَانَ أُكْرِهَ بِالضَّرْبِ أَوْ الْحَبْسِ وَهُوَ مُحْسِنٌ لِعِشْرَتِهَا حَتَّى فَارَقَهَا لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ؛ بَلْ إذَا أَبْغَضَتْهُ وَهُوَ مُحْسِنٌ إلَيْهَا فَإِنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ الْفُرْقَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْزَمَ بِذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا أُمِرَتْ الْمَرْأَةُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَا يُبِيحُ الْفَسْخَ. [مَسْأَلَةٌ الْخُلْعُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ] 579 - 42 - مَسْأَلَةٌ: مَا هُوَ الْخُلْعُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؟ الْجَوَابُ: الْخُلْعُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ: أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ كَارِهَةً لِلزَّوْجِ تُرِيدُ فِرَاقَهُ فَتُعْطِيهِ الصَّدَاقَ أَوْ بَعْضَهُ فِدَاءَ نَفْسِهَا، كَمَا يَفْتَدِي الْأَسِيرُ، وَأَمَّا إذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُرِيدًا لِصَاحِبِهِ، فَهَذَا الْخُلْعُ مُحْدَثٌ فِي الْإِسْلَامِ. 580 - 43 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ مُدَّةِ إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَحْسَنَتْ الْعِشْرَةَ مَعَهُ، وَفِي هَذَا الزَّمَانِ تَأْبَى الْعِشْرَةَ مَعَهُ، وَتُنَاشِزُهُ: فَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا؟ الْجَوَابُ: لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْشُزَ عَلَيْهِ وَلَا تَمْنَعَ نَفْسَهَا، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إلَى فِرَاشِهِ فَتَأْبَى عَلَيْهِ إلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى تُصْبِحَ» . فَإِذَا أَصَرَّتْ عَلَى النُّشُوزِ فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا، وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَقُومُ بِمَا يَجِبُ لِلرَّجُلِ عَلَيْهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَيُعْطِيَهَا الصَّدَاقَ؛ بَلْ هِيَ الَّتِي تَفْتَدِي نَفْسَهَا مِنْهُ، فَتَبْذُلَ صَدَاقَهَا لِيُفَارِقَهَا، كَمَا «أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِامْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ

مسألة خاصم زوجته وضربها فقالت له طلقني

أَنْ يُعْطِيَ صَدَاقَهَا فَيُفَارِقَهَا» . وَإِذَا كَانَ مُعْسِرًا بِالصَّدَاقِ لَمْ تَجُزْ مُطَالَبَتُهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. [مَسْأَلَةٌ خَاصَمَ زَوْجَتَهُ وَضَرَبَهَا فَقَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي] 581 - 44 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ خَاصَمَ زَوْجَتَهُ وَضَرَبَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: طَلِّقْنِي، فَقَالَ: أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ، فَهَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا مَنَعَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا إذَا طَلَبَهَا؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَا يَحِلُّ لَهَا النُّشُوزُ عَنْهُ وَلَا تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْهُ، بَلْ إذَا امْتَنَعَتْ مِنْهُ وَأَصَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَةً وَلَا قَسْمًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: قِيلَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ إذَا أَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، وَقِيلَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 582 - 45 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ امْرَأَةٌ كَسَاهَا كِسْوَةً مُثَمَّنَةً: مِثْلُ مَصَاغٍ، وَحُلِيٍّ وَقَلَائِدَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ خَارِجًا عَنْ كِسْوَةِ الْقِيمَةِ، وَطَلَبَتْ مِنْهُ الْمُخَالَعَةَ، وَعَلَيْهِ مَالٌ كَثِيرٌ مُسْتَحَقٌّ لَهَا عَلَيْهِ، وَطَلَبَ حُلِيَّهُ مِنْهَا لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى حَقِّهَا أَوْ عَلَى غَيْرِ حَقِّهَا، فَأَنْكَرَتْهُ، وَيَعْلَمُ أَنَّهَا تَحْلِفُ وَتَأْخُذُ الَّذِي ذَكَرَهُ عِنْدَهَا، وَالثَّمَنُ يَلْزَمُهُ؛ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَيْهَا؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ قَدْ أَعْطَاهَا ذَلِكَ الزَّائِدَ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ لَهَا فَقَدْ مَلَكَتْهُ، وَلَيْسَ لَهُ إذَا طَلَّقَهَا هُوَ ابْتِدَاءً أَنْ يُطَالِبَهَا بِذَلِكَ؛ لَكِنْ إنْ كَانَتْ الْكَارِهَةَ لِصُحْبَتِهِ، وَأَرَادَتْ الِاخْتِلَاعَ مِنْهُ: فَلْتُعْطِهِ مَا أَعْطَاهَا مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ الصَّدَاقِ الَّذِي سَاقَهُ

مسألة قالت له زوجته طلقني وأنا أبرأتك من جميع حقوقي

إلَيْهَا، وَالْبَاقِي فِي ذِمَّتِهِ؛ لِيَخْلَعَهَا، كَمَا مَضَتْ «سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، حَيْثُ أَمَرَهَا بِرَدِّ مَا أَعْطَاهَا» . وَإِنْ كَانَ قَدْ أَعْطَاهَا لِتَتَجَمَّلَ بِهِ، كَمَا يُرْكِبُهَا دَابَّتَهُ، وَيُحْذِيهَا غُلَامَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لَا عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ لِلْعَيْنِ: فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ مَتَى شَاءَ؛ سَوَاءٌ طَلَّقَهَا أَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا. وَإِنْ تَنَازَعَا هَلْ أَعْطَاهَا عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ؟ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ؟ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عُرْفٌ يُقْضَى بِهِ: فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهَا ذَلِكَ. وَإِنْ تَنَازَعَا هَلْ أَعْطَاهَا شَيْئًا أَوْ لَمْ يُعْطِهَا، وَلَمْ يَكُنْ حُجَّةٌ يُقْضَى لَهُ بِهَا؛ لَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ، وَلَا إقْرَارٌ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ: فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهَا. [مَسْأَلَةٌ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ طَلِّقْنِي وَأَنَا أَبْرَأْتُك مِنْ جَمِيعِ حُقُوقِي] 583 - 46 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ: طَلِّقْنِي وَأَنَا أَبْرَأْتُك مِنْ جَمِيعِ حُقُوقِي عَلَيْك؛ وَآخُذُ الْبِنْتَ بِكِفَايَتِهَا، يَكُونُ لَهَا عَلَيْك مِائَةُ دِرْهَمٍ. كُلَّ يَوْمٍ سُدُسُ دِرْهَمٍ. وَشَهِدَ الْعُدُولُ بِذَلِكَ فَطَلَّقَهَا عَلَى ذَلِكَ بِحُكْمِ الْإِبْرَاءِ أَوْ الْكَفَالَةِ: فَهَلْ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِفَرْضِ الْبِنْتِ بَعْدَ ذَلِكَ؟ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إذَا خَالَعَهَا عَلَى أَنْ تُبَرِّئَهُ مِنْ حُقُوقِهَا، وَتَأْخُذَ الْوَلَدَ بِكَفَالَتِهِ. وَلَا تُطَالِبُهُ بِنَفَقَةٍ. صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ: كَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِمَا؛ فَإِنَّهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ يَصِحُّ الْخُلْعُ بِالْمَعْدُومِ الَّذِي يُنْتَظَرُ وُجُودُهُ كَمَا تَحْمِلُ أَمَتَهَا وَشَجَرَهَا. وَأَمَّا نَفَقَةُ حَمْلِهَا وَرَضَاعِ وَلَدِهَا، وَنَفَقَتُهُ. فَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُودِهِ وَجَوَازِهِ؛ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ لَهُ: طَلِّقْنِي وَأَنَا أَبْرَأْتُك مِنْ حُقُوقِي وَأَنَا آخُذُ الْوَلَدَ بِكَفَالَتِهِ. وَأَنَا أَبْرَأْتُك مِنْ نَفَقَتِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ. وَإِذَا خَالَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ مَنْ يَرَى صِحَّةَ مِثْلِ هَذَا الْخُلْعِ - كَالْحَاكِمِ الْمَالِكِيِّ - لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَنْقُضَهُ، وَإِنْ رَآهُ فَاسِدًا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْرِضَ لَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا نَفَقَةً لِلْوَلَدِ؛ فَإِنَّ فِعْلَ الْحَاكِمِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ حُكْمٌ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَالْحَاكِمُ مَتَى عَقَدَ عَقْدًا سَاغَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ؛ أَوْ فَسَخَ فَسْخًا جَازَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ: لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ نَقْضُهُ.

مسألة له زوجة وهي ناشز تمنعه نفسها

[مَسْأَلَةٌ لَهُ زَوْجَةٌ وَهِيَ نَاشِزٌ تَمْنَعُهُ نَفْسَهَا] مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ، وَهِيَ نَاشِزٌ تَمْنَعُهُ نَفْسَهَا: فَهَلْ تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا وَكِسْوَتُهَا وَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا وَكِسْوَتُهَا إذَا لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ نَفْسِهَا، وَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا إذَا أَصَرَّتْ عَلَى النُّشُوزِ. وَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ إذَا طَالَبَهَا بِهِ؛ بَلْ هِيَ عَاصِيَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَفِي الصَّحِيحِ: «إذَا طَلَبَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ إلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ عَلَيْهِ كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى تُصْبِحَ» . 585 - 48 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ امْرَأَةٌ، وَقَدْ نَشَزَتْ عَنْهُ فِي بَيْتِ أَبِيهَا مِنْ مُدَّةِ ثَمَانِيَةِ شُهُورٍ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا؟ الْجَوَابُ: إذَا نَشَزَتْ عَنْهُ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا إذَا نَشَزَتْ؛ أَوْ آذَتْهُ، أَوْ اعْتَدَتْ عَلَيْهِ. 586 - 49 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَكَتَبَ كِتَابَهَا، وَدَفَعَ لَهَا الْحَالَّ بِكَمَالِهِ، وَبَقِيَ الْقِسْطُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ تَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَطَلَبَهَا لِلدُّخُولِ فَامْتَنَعَتْ وَلَهَا خَالَةٌ تَمْنَعُهَا، فَهَلْ تُجْبَرُ عَلَى الدُّخُولِ وَيَلْزَمُ خَالَتَهَا الْمَذْكُورَةَ تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا، وَالْحَالُ هَذِهِ، بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَلَا لِخَالَتِهَا وَلَا غَيْرِ خَالَتِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا، بَلْ تُعَزَّرُ الْخَالَةُ عَلَى مَنْعِهَا مِنْ فِعْلِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَتُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِلزَّوْجِ. 587 - 50 - مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْله تَعَالَى:

مسألة شافعي المذهب بانت منه زوجته بالطلاق الثلاث

{وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] . وَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} [المجادلة: 11] إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11] . يُبَيِّنُ لَنَا شَيْخُنَا هَذَا النُّشُوزَ مِنْ ذَاكَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. " النُّشُوزُ " فِي قَوْله تَعَالَى: {تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] هُوَ: أَنْ تَنْشِزَ عَنْ زَوْجِهَا فَتَنْفِرَ عَنْهُ بِحَيْثُ لَا تُطِيعُهُ إذَا دَعَاهَا لِلْفِرَاشِ، أَوْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ امْتِنَاعٌ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ طَاعَتِهِ. وَأَمَّا " النُّشُوزُ " فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} [المجادلة: 11] فَهُوَ النُّهُوضُ وَالْقِيَامُ وَالِارْتِفَاعُ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَادَّةِ هُوَ الِارْتِفَاعُ وَالْغِلَظُ، وَمِنْهُ النَّشَزُ مِنْ الْأَرْضِ؛ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ الْغَلِيظُ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} [البقرة: 259] أَيْ نَرْفَعُ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ. وَمَنْ قَرَأَ نَنْشُرُهَا أَرَادَ نُحْيِيهَا. فَسَمَّى الْمَرْأَةَ الْعَاصِيَةَ نَاشِزًا لِمَا فِيهَا مِنْ الْغِلَظِ وَالِارْتِفَاعِ عَنْ طَاعَةِ زَوْجِهَا، وَسُمِّيَ النُّهُوضُ نُشُوزًا لِأَنَّ الْقَاعِدَ يَرْتَفِعُ مِنْ الْأَرْضِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ شَافِعِيّ الْمَذْهَبِ بَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثَ] 588 - 51 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ شَافِعِيِّ الْمَذْهَبِ بَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثَ، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ وَبَانَتْ مِنْ الزَّوْجِ الثَّانِي، ثُمَّ أَرَادَتْ صُلْحَ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، لِأَنَّ لَهَا مِنْهُ أَوْلَادًا، فَقَالَ لَهَا: إنَّنِي لَسْت قَادِرًا عَلَى النَّفَقَةِ وَعَاجِزٌ عَنْ الْكِسْوَةِ فَأَبَتْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهَا: كُلَّمَا حَلَلْت لِي حَرُمْت عَلَيَّ، فَهَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، لَكِنْ فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

وَالثَّانِي: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، إمَّا كَفَّارَةُ ظِهَارٍ فِي قَوْلٍ وَإِمَّا كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي قَوْلٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، إنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ، لَكِنْ فِي التَّكْفِيرِ نِزَاعٌ، وَإِنَّمَا يَقُولُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمِثْلِ هَذِهِ مَنْ يُجَوِّزُ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ عَلَى النِّكَاحِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، بِشَرْطِ أَنْ يَرَى الْحَرَامَ طَلَاقًا. كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَإِذَا نَوَاهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فَعِنْدَهُمَا لَوْ قَالَ: كُلَّمَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتَ طَالِقٌ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ، فَكَيْفَ فِي الْحَرَامِ؟ لَكِنَّ أَحْمَدَ يُجَوِّزُ عَلَيْهِ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ تَصْحِيحَ الظِّهَارِ قَبْلَ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 589 - 52 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ حُنِقَ مِنْ زَوْجَتِهِ فَقَالَ: إنْ بَقِيت أَنْكِحُك أَنْكِحُ أُمِّي تَحْتَ سُتُورِ الْكَعْبَةِ. هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَالِحَهَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا نَكَحَهَا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ: عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكَيْنَا، وَلَا يَمَسَّهَا حَتَّى يُكَفِّرَ. 590 - 53 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلَيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: يَا أَخِي، لَا تَفْعَلْ هَذِهِ الْأُمُورَ بَيْنَ يَدَيْ امْرَأَتِك، قَبِيحٌ عَلَيْك، فَقَالَ: مَا هِيَ إلَّا مِثْلُ أُمِّي. فَقَالَ: لِأَيِّ شَيْءٍ قُلْت؟ سَمِعْت أَنَّهَا تَحْرُمُ بِهَذَا اللَّفْظِ، ثُمَّ كَرَّرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ: إي وَاَللَّهِ هِيَ عِنْدِي مِثْلُ أُمِّي: هَلْ تَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ بِهَذَا اللَّفْظِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: إنَّهَا مِثْلُ أُمِّي أَنَّهَا تَسْتُرُ عَلَيَّ وَلَا تَهْتِكُنِي وَلَا تَلُومُنِي، كَمَا تَفْعَلُ الْأُمُّ مَعَ وَلَدِهَا، فَإِنَّهُ يُؤَدَّبُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ: يَا أُخْتِي، فَأَدَّبَهُ - وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا لَمْ يُؤَدَّبْ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ الْمُنْكَرِ - وَقَالَ أُخْتُك هِيَ؟ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ امْرَأَتَهُ كَأُمِّهِ.

مسألة قال في غيظه لزوجته أنت علي حرام مثل أمي

وَإِنْ أَرَادَ بِهَا عِنْدِي مِثْلُ أُمِّي. أَيْ فِي الِامْتِنَاعِ عَنْ وَطْئِهَا، وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْرُمُ مِنْ الْأُمِّ، فَهِيَ مِثْلُ أُمِّي الَّتِي لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهَا: فَهَذَا مُظَاهِرٌ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُظَاهِرِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ فَيُعْتِقُ رَقَبَةً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا. وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ حَلَّ لَهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيَّ كَأُمِّي: فَهَذَا يَكُونُ مُظَاهِرًا فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. وَحُكِيَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ نِزَاعٌ فِي ذَلِكَ: هَلْ يَقَعُ بِهِ الثَّلَاثَ؟ أَمْ لَا؟ وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ حَتَّى يُكَفِّرَ بِاتِّفَاقِهِمْ، وَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 591 - 54 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ، وَأَرَادَ الدُّخُولَ اللَّيْلَةَ الْفُلَانِيَّةَ؛ وَإِلَّا كَانَتْ عِنْدِي مِثْلَ أُمِّي وَأُخْتِي، وَلَمْ تَتَهَيَّأْ لَهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ الَّذِي طَلَبَهَا فِيهِ: فَهَلْ يَقَعُ طَلَاقٌ؟ الْجَوَابُ: لَا يَقَعُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، لَكِنْ يَكُونُ مُظَاهِرًا فَإِذَا أَرَادَ الدُّخُولَ فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ قَبْلَ ذَلِكَ الْكَفَّارَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي " سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ " فَيُعْتِقُ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا. [مَسْأَلَةٌ قَالَ فِي غَيْظِهِ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ مِثْلُ أُمِّي] 592 - 55 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَالَ فِي غَيْظِهِ لِزَوْجَتِهِ: أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ مِثْلُ أُمِّي. الْجَوَابُ: هَذَا مُظَاهِرٌ مِنْ امْرَأَتِهِ، دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 2] {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 3] {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] .

مسألة قالت له زوجته أنت علي حرام مثل أبي وأمي

فَهَذَا إذَا أَرَادَ إمْسَاكَ زَوْجَتِهِ وَوَطْأَهَا فَإِنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ. [مَسْأَلَةٌ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ مِثْلُ أَبِي وَأُمِّي] 593 - 56 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ: أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ مِثْلُ أَبِي وَأُمِّي. وَقَالَ لَهَا: أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ مِثْلُ أُمِّي وَأُخْتِي: فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ؟ الْجَوَابُ: لَا طَلَاقَ بِذَلِكَ؛ وَلَكِنْ إنْ اسْتَمَرَّ عَلَى النِّكَاحِ فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَفَّارَةُ ظِهَارٍ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وَهِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا. 594 - 57 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ بَائِنٍ عَنْهُ إنْ رَدَدْتُك تَكُونِي مِثْلَ أُمِّي وَأُخْتِي: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهَا؟ وَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ؟ الْجَوَابُ: فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ، وَإِذَا رَدَّهَا فِي الْآخَرِ لَا شَيْءَ. وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي وَأُخْتِي] 594 - مُكَرَّرٌ 57 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْت عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي، وَأُخْتِي؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي وَأُخْتِي فِي الْكَرَامَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ يُشَبِّهُهَا بِأُمِّهِ وَأُخْتِهِ فِي " بَابِ النِّكَاحِ " فَهَذَا ظِهَارٌ، عَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ لِعَانًا، فَإِذَا أَمْسَكَهَا فَلَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ ظِهَارٍ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَهَا عِنْدَهُ أَرْبَعُ سِنِينَ لَمْ تَحِضْ] بَابُ فُتِيَا 595 - 58 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَهَا عِنْدَهُ أَرْبَعُ سِنِينَ لَمْ تَحِضْ، وَذَكَرَتْ

مسألة فسخ الحاكم نكاحها عقب الولادة

أَنَّ لَهَا أَرْبَعَ سِنِينَ قَبْلَ زَوَاجِهَا لَمْ تَحِضْ، فَحَصَلَ مِنْ زَوْجِهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ: فَكَيْفَ يَكُونُ تَزْوِيجُهَا بِالزَّوْجِ الْآخَرِ؟ وَكَيْفَ تَكُونُ الْعِدَّةُ وَعُمْرُهَا خَمْسُونَ سَنَةً؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذِهِ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّهَا قَدْ عَرَفَتْ أَنَّ حَيْضَهَا قَدْ انْقَطَعَ، وَقَدْ عَرَفَتْ أَنَّهُ قَدْ انْقَطَعَ انْقِطَاعًا مُسْتَمِرًّا؛ بِخِلَافِ الْمُسْتَرِيبَةِ الَّتِي لَا تَدْرِي مَا رَفَعَ حَيْضَهَا: هَلْ هُوَ ارْتِفَاعُ إيَاسٍ؟ أَوْ ارْتِفَاعٌ لِعَارِضٍ ثُمَّ يَعُودُ: كَالْمَرَضِ، وَالرَّضَاعِ؟ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ. فَمَا ارْتَفَعَ لِعَارِضٍ: كَالْمَرَضِ، وَالرَّضَاعِ، فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ زَوَالَ الْعَارِضِ بِلَا رَيْبٍ. وَمَتَى ارْتَفَعَ لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ؛ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ بَعْدَ أَنْ تَمْكُثَ مُدَّةَ الْحَمْلِ، كَمَا قَضَى بِذَلِكَ عُمَرُ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهَا تَمْكُثُ حَتَّى تَطْعَنَ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ، فَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ. وَفِي هَذَا ضَرَرٌ عَظِيمٌ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّهَا تَمْكُثُ عِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا تَتَزَوَّجُ. وَمِثْلُ هَذَا الْحَرَجِ مَرْفُوعٌ عَنْ الْأُمَّةِ؛ وَإِنَّمَا {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] فَإِنَّهُنَّ يَعْتَدِدْنَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ مُخْتَلِفُونَ: هَلْ لِلْإِيَاسِ سِنٌّ لَا يَكُونُ الدَّمُ بَعْدَهُ إلَّا دَمَ إيَاسَ؟ وَهَلْ ذَلِكَ السِّنُّ خَمْسُونَ، أَوْ سِتُّونَ؟ أَوْ فِيهِ تَفْصِيلٌ؟ وَمُتَنَازِعُونَ: هَلْ يُعْلَمُ الْإِيَاسُ بِدُونِ السِّنِّ؟ وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ قَدْ طَعَنَتْ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ الْخَمْسُونَ، وَلَهَا مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ لَمْ تَحِضْ، وَقَدْ ذَكَرَتْ أَنَّهَا شَرِبَتْ مَا يَقْطَعُ الدَّمَ، وَالدَّمُ يَأْتِي بِدَوَاءٍ: فَهَذِهِ لَا تَرْجُو عَوْدَ الدَّمِ إلَيْهَا، فَهِيَ مِنْ الْآيِسَاتِ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فَسَخَ الْحَاكِمُ نِكَاحَهَا عَقِبَ الْوِلَادَةِ] 596 - 59 مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ فَسَخَ الْحَاكِمُ نِكَاحَهَا عَقِبَ الْوِلَادَةِ، لِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ تَضَرُّرِهَا بِانْقِطَاعِ نَفَقَةِ زَوْجِهَا، وَعَدَمِ تَصَرُّفِهِ الشَّرْعِيِّ عَلَيْهَا الْمُدَّةَ الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا فَسْخُ النِّكَاحِ لِمِثْلِهَا. وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ شُهُورٍ مِنْ فَسْخِ النِّكَاحِ رَغِبَ فِيهَا مَنْ يَتَزَوَّجُهَا: فَهَلْ يَجُوزُ

مسألة فارقت زوجها وخطبها رجل في عدتها

أَنْ تَعْتَدَّ بِالشُّهُورِ؛ إذْ أَكْثَرُ النِّسَاءِ لَا يَحِضْنَ مَعَ الرَّضَاعَةِ أَوْ يَسْتَمِرُّ بِهَا الضَّرَرُ إلَى حَيْثُ يَنْقَضِي الرَّضَاعُ وَيَعُودُ إلَيْهَا حَيْضُهَا، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. بَلْ تَبْقَى فِي الْعِدَّةِ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ، وَإِنْ تَأَخَّرَ ذَلِكَ إلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الرَّضَاعِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَبِذَلِكَ قَضَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَلَمْ يُخَالِفْهُمَا أَحَدٌ. فَإِنْ أَحَبَّتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَسْتَرْضِعَ لِابْنِهَا مَنْ يُرْضِعُهُ لِتَحِيضَ، أَوْ تَشْرَبَ مَا تَحِيضُ بِهِ. فَلَهَا ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فَارَقَتْ زَوْجَهَا وَخَطَبَهَا رَجُلٌ فِي عِدَّتِهَا] 597 - 60 مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ فَارَقَتْ زَوْجَهَا وَخَطَبَهَا رَجُلٌ فِي عِدَّتِهَا وَهُوَ يُنْفِقُ عَلَيْهَا فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ فِي عِدَّةِ وَفَاةٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَيُعَاقَبُ الْخَاطِبُ وَالْمَخْطُوبَةُ جَمِيعًا، وَيُزْجَرُ عَنْ التَّزْوِيجِ بِهِمَا مُعَاقَبَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ مُرْضِعَةٌ لِوَلَدِهِ] 598 - 61 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ مُرْضِعَةٌ لِوَلَدِهِ، فَلَبِثَتْ مُطَلَّقَةً ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِرَجُلٍ آخَرَ، فَلَبِثَتْ مَعَهُ دُونَ شَهْرٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَبِثَتْ مُطَلَّقَةً ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَلَمْ تَحِضْ لَا فِي الثَّمَانِيَةِ الْأُولَى، وَلَا فِي مُدَّةِ عِصْمَتِهَا مَعَ الرَّجُلِ الثَّانِي، وَلَا فِي الثَّلَاثَةِ أَشْهُرٍ الْأَخِيرَةِ، ثُمَّ تَزَوَّجَ بِهَا الْمُطَلِّقُ الْأَوَّلُ أَبُو الْوَلَدِ، فَهَلْ يَصِحُّ هَذَانِ الْعَقْدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ وَلَا الثَّانِي بَلْ عَلَيْهَا أَنْ تُكْمِلَ عِدَّةَ

الْأَوَّلِ ثُمَّ تَقْضِي عِدَّةَ الثَّانِي، ثُمَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّتَيْنِ تَتَزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ مِنْهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 599 - 62 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَأَقَامَتْ فِي صُحْبَتِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ طَلَّقَهَا الطَّلَاقَ الْبَائِنَ، وَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ بِزَوْجٍ آخَرَ بَعْدَ إخْبَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ الْأَوَّلِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي بَعْدَ مُدَّةِ سِتِّ سِنِينَ، وَجَاءَتْ بِابْنَةٍ وَادَّعَتْ أَنَّهَا مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَهَلْ يَصِحُّ دَعْوَاهَا، وَيُلْزَمُ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْبِنْتَ، وَهَذَا الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ مُقِيمَانِ بِبَلَدٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ لَهَا مَانِعٌ مِنْ دَعْوَى النِّسَاءٍ، وَلَا طَالَبَتْهُ بِنَفَقَةٍ وَلَا فَرْضٍ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَا يُلْحِقُ هَذَا الْوَلَدَ الَّذِي هُوَ الْبِنْتُ مُجَرَّدُ دَعْوَاهَا وَالْحَالُ هَذِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، بَلْ لَوْ ادَّعَتْ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ فِي حَالٍ يَلْحَقُ بِهِ نَسَبُهُ إذَا وَلَدَتْهُ وَكَانَتْ مُطَلَّقَةً وَأَنْكَرَ هُوَ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْهُ لَمْ تُقْبَلْ فِي دَعْوَى الْوِلَادَةِ بِلَا نِزَاعٍ حَتَّى تُقِيمَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً، وَيَكْفِي امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا بُدَّ مِنْ امْرَأَتَيْنِ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَيَحْتَاجُ عِنْدَهُ إلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَيَكْفِي يَمِينُهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ، وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً فَفِيهَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، أَحَدُهُمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالثَّانِي يُقْبَلُ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ. وَأَمَّا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَمَضَى لَهَا أَكْثَرُ الْحَمْلِ ثُمَّ ادَّعَتْ وُجُودَ حَمْلٍ مِنْ الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ. فَهَذِهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا بِلَا نِزَاعٍ، بَلْ لَوْ أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا وَلِدُونِ مُدَّةِ الْحَمْلِ، فَهَلْ يَلْحَقُهُ، عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ، وَهَذَا النِّزَاعُ إذَا لَمْ تَتَزَوَّجْ. فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ إخْبَارِهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَلْحَقُ نَسَبُهُ بِالْأَوَّلِ قَوْلًا وَاحِدًا، فَإِذَا عَرَفْت مَذْهَبَ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، فَكَيْفَ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ بِدَعْوَاهَا بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ وَلَوْ قَالَتْ وَلَدْته ذَلِكَ الزَّمَنَ قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَنِي لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا أَيْضًا. بَلْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا عَلَى فِرَاشِهِ، وَلَوْ قَالَتْ هِيَ وَضَعْت هَذَا

مسألة ادعت عليه مطلقته بعد ست سنين ببنت

الْحَمْلَ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَ بِالثَّانِي، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا أَنَّهَا لَمْ تَضَعْهَا قَبْلَ تَزَوُّجِهَا بِالثَّانِي، لَا سِيَّمَا مَعَ تَأَخُّرِ دَعْوَاهَا إلَى أَنْ تَزَوَّجَتْ الثَّانِيَ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهَا فِي دَعْوَاهَا، لَا سِيَّمَا عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ فِي تَأَخُّرِ الدَّعْوَى الْمُمْكِنَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فِي مَسَائِل الْحَوَرِ وَنَحْوِهَا. [مَسْأَلَةٌ ادَّعَتْ عَلَيْهِ مُطَلَّقَتُهُ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِبِنْتٍ] 600 - 63 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ ادَّعَتْ عَلَيْهِ مُطَلَّقَتُهُ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِبِنْتٍ، وَبَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ، فَأَلْزَمَهُ بَعْضُ الْحُكَّامِ بِالْيَمِينِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَحْلِفُ أَنَّ هَذِهِ مَا هِيَ بِنْتِي؟ فَقَالَ الْحَاكِمُ: مَا تَحْلِفُ إلَّا أَنَّهَا مَا هِيَ بِنْتُهَا، فَامْتَنَعَ أَنْ يَحْلِفَ، إلَّا أَنَّهَا مَا هِيَ بِنْتِي، وَكَانَ مَعَهُ إنْسَانٌ فَقَالَ لِلْحَاكِمِ: هَذَا مَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهَا مَا هِيَ بِنْتُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، فَضَرَبَهُ الْحَاكِمُ بِالدِّرَّةِ، وَأَحْرَقَ بِهِ فَخَافَ الرَّجُلُ فَكَتَبَ عَلَيْهِ فَرْضَ الْبِنْتِ، فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْفَرْضُ؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا فِي الْعِدَّةِ، أَوْ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا فِي بَيْتِهِ، بِحَيْثُ أَمْكَنَ لُحُوقُ النَّسَبِ بِهِ، فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ، وَأَمْكَنَ أَنَّهَا وَلَدَتْهَا مِنْ الثَّانِي، فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا وَإِذَا حَلَفَتْ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا قَبْلَ نِكَاحِ الثَّانِي آخِرًا، وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ. [مَسْأَلَةٌ بَانَتْ فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَ شَهْرٍ وَنِصْفٍ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ] 601 - 64 مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ بَانَتْ فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَ شَهْرٍ وَنِصْفٍ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ؟ الْجَوَابُ: تُفَارِقُ هَذَا الثَّانِيَ، وَتُتِمُّ عِدَّةَ الْأَوَّلِ بِحَيْضَتَيْنِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَعْتَدُّ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي بِثَلَاثِ حَيْضَاتٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَزَوَّجُهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ. [مَسْأَلَةٌ مُعْتَدَّة عِدَّةَ وَفَاةٍ وَلَمْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِهَا] 602 - 65 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ مُعْتَدَّةٍ عِدَّةَ وَفَاةٍ. وَلَمْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِهَا بَلْ تَخْرُجُ فِي ضَرُورَتِهَا الشَّرْعِيَّةِ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا إعَادَةُ الْعِدَّةِ؟ وَهَلْ تَأْثَمُ بِذَلِكَ؟

مسألة أقر عند عدول أنه طلق امرأته

الْجَوَابُ: الْعِدَّةُ انْقَضَتْ بِمَعْنَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، وَلَا تَقْضِي الْعِدَّةَ، فَإِنْ كَانَتْ خَرَجَتْ لِأَمْرٍ يُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَلَمْ تَبِتْ إلَّا فِي مَنْزِلِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ خَرَجَتْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَبَاتَتْ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ بَاتَتْ فِي غَيْرِ ضَرُورَةٍ، أَوْ تَرَكَتْ الْإِحْدَادَ فَلْتَسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَتَتُبْ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهَا. 603 - 66 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ شَابَتْ لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ الْإِيَاسِ، وَكَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ، فَشَرِبَتْ دَوَاءً، فَانْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ وَاسْتَمَرَّ انْقِطَاعُهُ؛ ثُمَّ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَهِيَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ: فَهَلْ تَكُونُ عِدَّتُهَا مِنْ حِينِ الطَّلَاقِ بِالشُّهُورِ، أَوْ تَتَرَبَّصُ حَتَّى تَبْلُغَ سِنَّ الْآيِسَاتِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. إنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ الدَّمَ يَأْتِي فِيمَا بَعْدُ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ الدَّمُ وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَعُودَ فَإِنَّهَا تَتَرَبَّصُ بَعْدَ سَنَةٍ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ، كَمَا قَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الْمَرْأَةِ يَرْتَفِعُ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ، فَإِنَّهَا تَتَرَبَّصُ سَنَةً، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا تَدْخُلُ فِي سِنِّ الْآيِسَاتِ: فَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا؛ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ الَّذِي لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِمِثْلِهِ، أَوْ تُمْنَعُ مِنْ النِّكَاحِ وَقْتَ حَاجَتِهَا إلَيْهِ وَيُؤْذَنُ لَهَا فِيهِ حِينَ لَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ أَقَرَّ عِنْدَ عُدُولٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ] 604 - 67 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أَقَرَّ عِنْدَ عُدُولٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ مِنْ مُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَى الْعِدَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ تَزْوِيجُهَا لَهُ الْآنَ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا إنْ كَانَ الْمُقِرُّ فَاسِقًا أَوْ مَجْهُولًا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي إسْقَاطِ الْعِدَّةِ الَّتِي فِيهَا حَقُّ اللَّهِ وَلَيْسَ هَذَا إقْرَارًا مَحْضًا عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يُقْبَلَ مِنْ الْفَاسِقِ بَلْ فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ إذْ فِي الْعِدَّةِ حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِلزَّوْجِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ عَدْلًا غَيْرَ مُتَّهَمٍ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ غَائِبًا فَلَمَّا حَضَرَ أَخْبَرَهَا أَنَّهُ طَلَّقَ مِنْ

مسألة طلقها ثلاثا وله منها بنت ترضع

مُدَّةِ كَذَا وَكَذَا، فَهَلْ تَعْتَدُّ مِنْ حِينِ بَلَغَهَا الْخَبَرُ إذَا لَمْ تَقُمْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ أَوْ مِنْ حِينِ الطَّلَاقِ كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ هُوَ الثَّانِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَلَهُ مِنْهَا بِنْتٌ تَرْضَعُ] 605 - 68 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ وَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا. وَلَهُ مِنْهَا بِنْتٌ تَرْضَعُ وَقَدْ أَلْزَمُوهُ بِنَفَقَةِ الْعِدَّةِ، فَكَمْ تَكُونُ مُدَّةُ الْعِدَّةِ الَّتِي لَا تَحِيضُ فِيهَا لِأَجْلِ الرَّضَاعَةِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فَعِنْدَهُمْ لَا نَفَقَةَ لِلْمُعْتَدَّةِ الْبَائِنِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيُوجِبُ لَهَا النَّفَقَةَ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَإِذَا كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ فَلَا تَزَالُ فِي الْعِدَّةِ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ، وَالْمُرْضِعُ يَتَأَخَّرُ حَيْضُهَا فِي الْغَالِبِ. وَأَمَّا أَجْرُ الرَّضَاعِ فَلَهَا ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ إلَّا عَلَى الْمُوسِرِ فَأَمَّا الْمُعْسِرُ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ. 606 - 69 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ عَقَدَ الْعَقْدَ عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ بَالِغًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يُصِبْهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ عَقَدَ عَلَيْهَا شَخْصٌ آخَرُ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يُصِبْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَهَلْ يَجُوزُ لِلَّذِي طَلَّقَهَا أَوَّلًا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا؟ الْجَوَابُ: إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَهُوَ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَيَدْخُلَ بِهَا، فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ. [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَ زَوْجَتهُ ثَلَاثًا وَلَهُمَا وَلَدَانِ وَهِيَ مُقِيمَةٌ عِنْدَ الزَّوْجِ] 607 - 70 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا وَلَهُمَا وَلَدَانِ وَهِيَ مُقِيمَةٌ عِنْدَ الزَّوْجِ

فِي بَيْتِهِ مُدَّةَ سَنَتَيْنِ وَيُبْصِرُهَا وَتُبْصِرُهُ، فَهَلْ يَحِلُّ لَهَا الْأَكْلُ الَّذِي تَأْكُلُ مِنْ عِنْدِهِ أَمْ لَا وَهَلْ لَهُ عَلَيْهَا حُكْمٌ؟ الْجَوَابُ: الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا هِيَ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ الرَّجُلِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَجْنَبِيَّاتِ، فَلَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا إلَى مَا لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ وَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا حُكْمٌ أَصْلًا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَاطِئَهَا عَلَى أَنْ تُزَوَّجَ غَيْرَهُ ثُمَّ تُطَلِّقَهُ وَتَرْجِعُ إلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا مَا تُنْفِقُهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهَا لَوْ تَزَوَّجَتْ رَجُلًا غَيْرَهُ بِالنِّكَاحِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ مَاتَ زَوْجُهَا أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَجُزْ لِهَذَا الْأَوَّلِ أَنْ يَخْطُبَهَا فِي الْعِدَّةِ صَرِيحًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] . وَنَهَاهُ أَنْ يَعْزِمَ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ أَيْ حَتَّى تَقْضِيَ الْعِدَّةَ فَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَاهُ عَنْ هَذِهِ الْمُوَاعَدَةِ وَالْعَزْمِ فِي الْعِدَّةِ، فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ فِي عِصْمَةِ زَوْجِهَا، فَكَيْفَ إذَا كَانَ الرَّجُلُ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا بَعْدُ تَوَاعَدُ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَهُ ثُمَّ تُطَلِّقَهُ وَيَتَزَوَّجَ بِهَا الْمُوَاعِدُ، فَهَذَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، سَوَاءٌ قِيلَ: إنَّهُ يَصِحُّ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ أَوْ قِيلَ: لَا. فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ التَّصْرِيحَ بِخِطْبَةِ مُعْتَدَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ مُتَزَوِّجَةٍ بِغَيْرِهِ أَوْ بِخِطْبَةِ مُطَلَّقَةٍ ثَلَاثًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. 608 - 71 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ مُدَّةِ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَرُزِقَ مِنْهَا وَلَدًا لَهُ مِنْ الْعُمُرِ سَنَتَانِ، وَذَكَرَتْ أَنَّهَا لَمَّا تَزَوَّجَتْ لَمْ تَحِضْ إلَّا حَيْضَتَيْنِ، وَصَدَّقَهَا الزَّوْجُ، وَكَانَ قَدْ طَلَّقَهَا ثَانِيًا عَلَى هَذَا الْعَقْدِ الْمَذْكُورِ: فَهَلْ يَجُوزُ الطَّلَاقُ عَلَى هَذَا الْعَقْدِ الْمَفْسُوخِ؟ الْجَوَابُ: إنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ فِي كَوْنِهَا تَزَوَّجَتْ قَبْلَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَالنِّكَاحُ

مسألة مرضع استبطأت الحيض فتداوت لمجيئه

بَاطِلٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَهَا. وَعَلَيْهَا أَنْ تُكْمِلَ عِدَّةَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ تَعْتَدَّ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي. فَإِنْ كَانَتْ حَاضَتْ الثَّالِثَةَ قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا الثَّانِي فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّةُ الْأَوَّلِ؛ ثُمَّ إذَا فَارَقَهَا الثَّانِي اعْتَدَّتْ لَهُ ثَلَاثَ حِيَضٍ، ثُمَّ تُزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ. وَوَلَدُهُ وَلَدُ حَلَالٍ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ وُلِدَ بِوَطْءٍ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ لَا يَعْلَمُ فَسَادَهُ. [مَسْأَلَةٌ مُرْضِع اسْتَبْطَأَتْ الْحَيْضَ فَتَدَاوَتْ لِمَجِيئِهِ] 609 - 72 مَسْأَلَةٌ: فِي مُرْضِعٍ اسْتَبْطَأَتْ الْحَيْضَ، فَتَدَاوَتْ لِمَجِيءِ الْحَيْضِ، فَحَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ وَكَانَتْ مُطَلَّقَةً: فَهَلْ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا؛ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ إذَا أَتَى الْحَيْضُ الْمَعْرُوفُ لِذَلِكَ اعْتَدَّتْ بِهِ. كَمَا أَنَّهَا لَوْ شَرِبَتْ دَوَاءً قَطَعَ الْحَيْضَ أَوْ بَاعَدَ بَيْنَهُ: كَانَ ذَلِكَ طُهْرًا. وَكَمَا لَوْ جَاعَتْ أَوْ تَعِبَتْ؛ أَوْ أَتَتْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُسَخِّنُ طَبْعَهَا وَتُثِيرُ الدَّمَ فَحَاضَتْ بِذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا وَأَلْزَمَهَا بِوَفَاءِ الْعِدَّةِ فِي مَكَانِهَا] 610 - 73 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا وَأَلْزَمَهَا بِوَفَاءِ الْعِدَّةِ فِي مَكَانِهَا، فَخَرَجَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ تُوَفِّيَ الْعِدَّةَ وَطَلَبَهَا الزَّوْجُ مَا وَجَدَهَا، فَهَلْ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ؟ الْجَوَابُ: لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِنَفَقَةِ الْمَاضِي فِي مِثْلِ هَذِهِ الْعِدَّةِ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 611 - 74 مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ جَاءَهَا مَرَّةً، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخَرِ مِنْ السَّنَةِ، وَادَّعَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ، وَلَمْ تَكُنْ حَاضَتْ إلَّا مَرَّةً، فَلَمَّا عَلِمَ الزَّوْجُ الثَّانِي طَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً ثَانِيًا فِي الْعَاشِرِ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ السَّنَةِ، ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تُزَوَّجَ بِالْمُطَلِّقِ الثَّانِي، وَادَّعَتْ أَنَّهَا آيِسَةٌ: فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهَا وَهَلْ يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا؟

الْجَوَابُ: الْإِيَاسُ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْمَرْأَةِ؛ لَكِنْ هَذِهِ إذَا قَالَتْ إنَّهُ ارْتَفَعَ لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ فَإِنَّهَا تُؤَجَّلُ سَنَةً، فَإِنْ لَمْ تَحِضْ فِيهَا زُوِّجَتْ. وَإِذَا طَعَنَتْ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى تَأْجِيلٍ. وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ حَيْضَهَا ارْتَفَعَ بِمَرَضٍ أَوْ رَضَاعٍ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ حَتَّى يَزُولَ الْعَارِضُ. فَهَذِهِ الْمَرْأَةُ كَانَ عَلَيْهَا " عِدَّتَانِ ": عِدَّةٌ لِلْأَوَّلِ، وَعِدَّةٌ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي. وَنِكَاحُهُ. فَاسِدٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى طَلَاقٍ، فَإِذَا لَمْ تَحِضْ إلَّا مَرَّةً وَاسْتَمَرَّ انْقِطَاعُ الدَّمِ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ الْعِدَّتَيْنِ بِالشُّهُورِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ فِرَاقِ الثَّانِي إذَا كَانَتْ آيِسَةً. وَإِذَا كَانَتْ مُسْتَرِيبَةً كَانَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعِدَّتَيْنِ لَا تَتَدَاخَلَانِ: كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَتَدَاخَلُ الْعِدَّتَانِ مِنْ رَجُلَيْنِ؛ لَكِنْ عِنْدَهُ الْإِيَاسُ حُدَّ بِالسِّنِّ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ أَحْسَنُ قَوْلَيْ الْفُقَهَاءِ وَأَسْهَلُهُمَا، وَبِهِ قَضَى عُمَرُ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فَهَذِهِ الْمُسْتَرِيبَةُ تَبْقَى فِي عِدَّةٍ حَتَّى تَطْعَنَ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ، فَتَبْقَى عَلَى قَوْلِهِمْ تَمَامَ خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ سَنَةً لَا تَتَزَوَّجُ. وَلَكِنْ فِي هَذَا عُسْرٌ وَحَرَجٌ فِي الدِّينِ، وَتَضْيِيعُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. 612 - 75 مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ كَانَتْ تَحِيضُ وَهِيَ بِكْرٌ، فَلَمَّا تَزَوَّجَتْ وَلَدَتْ سِتَّةَ أَوْلَادٍ وَلَمْ تَحِضْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ زَوْجِهَا وَهِيَ مُرْضِعٌ، وَأَقَامَتْ عِنْدَ أَهْلِهَا نِصْفَ سَنَةٍ وَلَمْ تَحِضْ، وَجَاءَ رَجُلٌ يَتَزَوَّجُهَا غَيْرَ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَحَضَرُوا عِنْدَ قَاضٍ مِنْ الْقُضَاةِ، فَسَأَلَهَا عَنْ الْحَيْضِ؟ فَقَالَتْ: لِي مُدَّةُ سِنِينَ مَا حِضْت فَقَالَ الْقَاضِي: مَا يَحِلُّ لَك عِنْدِي زَوَاجٌ، فَزَوَّجَهَا حَاكِمٌ آخَرُ وَلَمْ يَسْأَلْهَا عَنْ الْحَيْضِ، فَبَلَغَ خَبَرُهَا إلَى قَاضٍ آخَرَ، فَاسْتَحْضَرَ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ، فَضَرَبَ الرَّجُلَ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَقَالَ: زَنَيْت، وَطَلَّقَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ فَهَلْ يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ قَدْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا بِمَرَضٍ أَوْ رَضَاعٍ فَإِنَّهَا تَتَرَبَّصُ حَتَّى يَزُولَ الْعَارِضُ وَتَحِيضَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ وَإِنْ كَانَ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ فَهَذِهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ: تَمْكُثُ سَنَةً، ثُمَّ تُزَوَّجُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ

مسألة خطبة المعتدة من طلاق بائن في العدة

الْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِهِ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ: وَإِنْ كَانَتْ " فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ " فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، وَاَلَّذِي فَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَصَابَ فِي ذَلِكَ، وَأَصَابَ فِي تَأْدِيبِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ مِنْ " الْقِسْمِ الثَّانِي " قَدْ زَوَّجَهَا حَاكِمٌ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَقَعْ بِهَا طَلَاقٌ، فَإِنَّ فِعْلَ الْحَاكِمِ لِمِثْلِ ذَلِكَ يَجُوزُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. [مَسْأَلَةٌ خِطْبَة الْمُعْتَدَّة مِنْ طَلَاق بَائِن فِي الْعِدَّة] 613 - 76 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا وَأَوْفَتْ الْعِدَّةَ عِنْدَهُ وَخَرَجَتْ بَعْدَ وَفَاءِ الْعِدَّةِ تَزَوَّجَتْ وَطَلُقَتْ فِي يَوْمِهَا. وَلَمْ يَعْلَمْ مُطَلِّقُهَا إلَّا ثَانِي يَوْمٍ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَّفِقَ مَعَهُمَا إذَا أَوْفَتْ عِدَّتَهَا أَنْ يُرَاجِعَهَا؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ لَهُ فِي زَمَنِ الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَخْطُبَهَا وَلَا يُنْفِقَ عَلَيْهَا لِيَتَزَوَّجَهَا وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّعْرِيضُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ بَائِنًا فَفِي جَوَازِ التَّعْرِيضِ نِزَاعٌ، هَذَا إذَا كَانَتْ قَدْ تَزَوَّجَتْ بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ قَدْ تَزَوَّجَتْ بِنِكَاحِ مُحَلِّلٍ، فَقَدْ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» . [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ بِبِكْرٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَلَمْ يُصِبْهَا] 614 - 77 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِبِنْتٍ بِكْرٍ. ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَلَمْ يُصِبْهَا فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا، عَقْدًا ثَانِيًا أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: طَلَاقُ الْبِكْرِ ثَلَاثًا كَطَلَاقِ الْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ. [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَمَنَعَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ] 615 - 78 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَمَنَعَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ إلَّا بِمِنْ يَخْتَارُ هُوَ وَتَوَعَّدَهَا عَلَى مُخَالَفَتِهِ، فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ بِذَلِكَ عَاصٍ آثِمٌ مُعْتَدٍ ظَالِمٌ، وَالْمَرْأَةُ إذَا

مسألة طلق زوجته ثلاثا فأوفت العدة ثم تزوجت بثان

تَزَوَّجَتْ بِكُفْءٍ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهَا الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ بَلْ يُزَوِّجُهَا بِهِ فَكَيْفَ مُطَلِّقُهَا؟ وَإِنْ اعْتَدَى عَلَيْهَا بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ مِنْ الْمُعْتَدِينَ عَنْ مِثْلِ هَذَا. [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا فَأَوْفَتْ الْعِدَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِثَانٍ] 616 - 79 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ أَوْفَتْ الْعِدَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ ثَانٍ، وَهُوَ الْمُسْتَحِلُّ، فَهَلْ الِاسْتِحْلَالُ يَجُوزُ بِحُكْمِ مَا جَرَى لِرِفَاعَةِ مَعَ زَوْجَتِهِ فِي أَيَّامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ لَا؟ ثُمَّ إنَّهَا أَتَتْ لِبَيْتِ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ طَالِبَةً لِبَعْضِ حَقِّهَا فَغَلَبَهَا عَلَى نَفْسِهَا، ثُمَّ أَنَّهَا قَعَدَتْ أَيَّامًا وَخَافَتْ فَادَّعَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ لِكَيْ يَرُدَّهَا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ، فَرَاجَعَهَا إلَى عِصْمَتِهِ بِعَقْدٍ شَرْعِيٍّ، وَأَقَامَ مَعَهَا أَيَّامًا فَظَهَرَ عَلَيْهَا الْحَمْلُ وَعَلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ كَاذِبَةً فِي الْحَيْضِ، فَاعْتَزَلَهَا إلَى أَنْ تَهْتَدِيَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا إذَا تَزَوَّجَهَا زَوْجٌ لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ، فَهَذَا الْمُحَلِّلُ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» ، وَأَمَّا حَدِيثُ رِفَاعَةَ فَذَاكَ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا ثَابِتًا، لَمْ يَكُنْ قَدْ تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا لِلْمُطَلِّقِ، وَإِذَا تَزَوَّجَتْ بِالْمُحَلِّلِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، إذْ غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ مَوْطُوءَةً فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ. فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْهُ. وَمَا كَانَ يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ وَطْؤُهَا وَإِذَا وَطِئَهَا فَهُوَ زَانٍ عَاهِرٌ. وَنِكَاحُهَا بِالْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ ثَلَاثًا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَزِلَهَا فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَ بِالْمُحَلِّلِ. فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي وَطِئَهَا فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ. وَلَا يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِالْوَاطِئِ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ. لِأَنَّ عِدَّتَهُ انْقَضَتْ وَتَزَوَّجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَنْ وَطِئَهَا. وَهَذَا يَقْطَعُ حُكْمَ الْفِرَاشِ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ؛ وَلَا يَلْحَقُ بِوَطْئِهِ زِنًا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» ، لَكِنْ إنْ عَلِمَ الْمُحَلِّلُ أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ بَلْ مِنْ هَذَا الْعَاهِرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ فَيُلَاعِنَهَا لِعَانًا يَنْقَطِعُ فِيهِ نَسَبُ الْوَلَدِ. وَيَلْحَقُ نَسَبُ الْوَلَدِ بِأُمِّهِ وَلَا يَلْحَقُ بِالْعَاهِرِ بِحَالٍ.

مسألة أمة متزوجة وسافر زوجها وباعها سيدها

[مَسْأَلَةٌ أَمَة مُتَزَوِّجَة وَسَافَرَ زَوْجُهَا وَبَاعَهَا سَيِّدُهَا] مَسْأَلَةٌ: فِي أَمَةٍ مُتَزَوِّجَةٍ وَسَافَرَ زَوْجُهَا وَبَاعَهَا سَيِّدُهَا. وَشَرَطَ أَنَّ لَهَا زَوْجًا فَقَعَدَتْ عِنْدَ الَّذِي اشْتَرَاهَا أَيَّامًا، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَعْتَقَهَا، فَتَزَوَّجَتْ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ لَهَا زَوْجًا، فَلَمَّا جَاءَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ مِنْ السَّفَرِ أَعْطَى سَيِّدَهَا الَّذِي بَاعَهَا الْكِتَابَ لِزَوْجِهَا الَّذِي جَاءَ مِنْ السَّفَرِ. الْكِتَابَ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ شَرْعِيٍّ، فَهَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ بِكِتَابِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا شَرْعِيًّا، إمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْحُرِّ بِالْأَمَةِ، وَإِمَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بِأَنْ يَكُونَ عَادِمًا الطُّولَ خَائِفًا مِنْ الْعَنَتِ نِكَاحُهُ لَا يَبْطُلُ بِعِتْقِهَا، بَلْ هِيَ زَوْجَتُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ لَهَا الْفَسْخُ، فَلَهَا أَنْ تَفْسَخَ النِّكَاحَ، فَإِذَا قَضَتْ عِدَّتَهُ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ، إنْ شَاءَتْ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَا خِيَارَ لَهَا بَلْ هِيَ زَوْجَتُهُ، وَمَتَى تَزَوَّجَتْ قَبْلَ أَنْ يَنْفَسِخَ النِّكَاحُ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ نِكَاحُهَا الْأَوَّلُ فَاسِدًا فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَتَتَزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. [مَسْأَلَةٌ أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا مِنْ جَمِيعِ صَدَاقِهَا] 618 - 81 مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا مِنْ جَمِيعِ صَدَاقِهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَشْهَدَ الزَّوْجُ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْمَذْكُورَةَ عَلَى الْبَرَاءَةِ، وَكَانَتْ الْبَرَاءَةُ تَقَدَّمَتْ عَلَى ذَلِكَ، فَهَلْ يَصِحُّ الطَّلَاقُ؟ وَإِذَا وَقَعَ يَقَعُ رَجْعِيًّا أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَا قَدْ تَوَاطَأَ عَلَى أَنْ تُوهِبَهُ الصَّدَاقَ وَتُبْرِيَهُ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فَأَبْرَأَتْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا كَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا بَائِنًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا: أَبْرِئِينِي وَأَنَا أُطَلِّقُك أَوْ إنْ أَبْرَأْتنِي طَلَّقْتُك وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ عِبَارَاتِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّهُ سَأَلَ الْإِبْرَاءَ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ أَنَّهَا أَبْرَأَتْهُ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ بَرَّأَتْهُ بَرَاءَةً لَا تَتَعَلَّقُ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ، وَلَكِنْ هَلْ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ فِي الْإِبْرَاءِ إذَا كَانَ يُمْكِنُ لِكَوْنِ مِثْلِ هَذَا الْإِبْرَاءِ لَا يَصْدُرُ فِي الْعَادَةِ إلَّا لَأَنْ يُمْسِكَهَا أَوْ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ قَدْ طَابَتْ

مسألة نكاح اعتقد الزوج أنه نكاح سائغ

نَفْسُهَا بِالْإِبْرَاءِ مُطْلَقًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً مِنْهَا لَا بِسَبَبٍ مِنْهُ وَلَا عِوَضٍ فَهُنَا لَا تَرْجِعُ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ نِكَاح اعْتَقَدَ الزَّوْجُ أَنَّهُ نِكَاحٌ سَائِغٌ] 619 - 82 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ قَالَ مَنْ تَبِعَ هَذِهِ الْفُتْيَا وَعَمِلَ بِهَا فَوَلَدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَدُ زِنًا. فَإِنَّهُ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، وَالْمُشَاقَّةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ اعْتَقَدَ الزَّوْجُ أَنَّهُ نِكَاحٌ سَائِغٌ إذَا وَطِئَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ فِيهِ وَلَدُهُ وَيَتَوَارَثَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النِّكَاحُ بَاطِلًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، سَوَاءٌ كَانَ النَّاكِحُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا، وَالْيَهُودِيُّ إذَا تَزَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ كَانَ وَلَدُهُ مِنْهَا يَلْحَقُهُ بِنَسَبِهِ وَيَرِثُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النِّكَاحُ بَاطِلًا، بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ اسْتَحَلَّهُ كَانَ كَافِرًا تَجِبُ اسْتِتَابَتُهُ. وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الْجَاهِلُ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ فِي عِدَّتِهَا كَمَا يَفْعَلُ جُهَّالُ الْأَعْرَابِ وَوَطِئَهَا يَعْتَقِدُهَا زَوْجَةً كَانَ وَلَدُهُ مِنْهَا يَلْحَقُهُ بِنَسَبِهِ وَيَرِثُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ، فَإِنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» فَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَوَطِئَهَا، يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ إمَّا لِجَهْلِهِ، وَإِمَّا لِمُفْتٍ مُخْطِئٍ قَلَّدَهُ الزَّوْجُ، وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ النَّسَبُ وَيَتَوَارَثَانِ بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ وَلَا تُحْسَبُ الْعِدَّةُ إلَّا مِنْ حِينِ تَرَكَ وَطْأَهَا، فَإِنَّهُ كَانَ يَطَؤُهَا مُعْتَقِدًا أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَهِيَ فِرَاشٌ لَهُ، فَلَا تَعْتَدُّ لَهُ حَتَّى يَزُولَ الْفِرَاشُ. وَمَتَى نَكَحَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا، مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِي فَسَادِهِ لَوْ مَلَكَهَا مِلْكًا فَاسِدًا مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِي فَسَادِهِ، وَوَطِئَهَا يَعْتَقِدُهَا زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ أَوْ أَمَتَهُ الْمَمْلُوكَةَ، فَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْهَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ وَيَتَوَارَثَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْوَلَدُ يَكُونُ أَيْضًا حُرًّا وَإِنْ كَانَتْ الْمَوْطُوءَةُ مَمْلُوكَةً لِلْغَيْرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَوُطِئَتْ بِدُونِ إذْنِ سَيِّدِهَا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْوَاطِئُ مَغْرُورًا زُوِّجَ بِهَا وَقِيلَ لَهُ هِيَ حُرَّةٌ، أَوْ بِيعَتْ مِنْهُ

فَاشْتَرَاهَا يَعْتَقِدُهَا مِلْكًا لِلْبَائِعِ فَإِنَّمَا وَطِئَ مَنْ يَعْتَقِدُهَا زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ أَوْ أَمَتَهُ الْمَمْلُوكَةَ، فَوَلَدُهُ مِنْهَا حُرٌّ لِأَجْلِ اعْتِقَادِهِ، وَإِنْ كَانَ اعْتِقَادُهُ مُخْطِئًا. وَبِهَذَا قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ. فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَطِئُوا أَوْ جَاءَهُمْ أَوْلَادٌ لَوْ كَانُوا قَدْ وَطِئُوا فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ مُتَّفَقٍ عَلَى فَسَادِهِ، وَكَانَ الطَّلَاقُ وَقَعَ بِهِمْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ وَطِئُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ النِّكَاحَ بَاقٍ، لِأَجْلِ فُتْيَا مَنْ أَفْتَاهُمْ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ نَسَبُ الْأَوْلَادِ بِهِمْ لَاحِقًا. وَلَمْ يَكُونُوا أَوْلَادَ زِنًا. بَلْ يَتَوَارَثُونَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. هَذَا فِي الْمُجْمَعِ عَلَى فَسَادِهِ. فَكَيْفَ فِي الْمُخْتَلَفِ فِي فَسَادِهِ. وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي وَطِئَ بِهِ ضَعِيفًا. كَمَنْ وَطِئَ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، أَوْ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ. فَإِنَّ هَذَا إذَا وَطِئَ فِيهِ يَعْتَقِدُهُ نِكَاحًا لَحِقَهُ فِيهِ النَّسَبُ؛ فَكَيْفَ بِنِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، وَقَدْ ظَهَرَتْ حُجَّةُ الْقَوْلِ بِصِحَّتِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ. وَظَهَرَ ضَعْفُ الْقَوْلِ الَّذِي يُنَاقِضُهُ. وَعَجَزَ أَهْلُهُ عَنْ نُصْرَتِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ لِانْتِفَاءِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ. فَمَنْ قَالَ إنَّ هَذَا النِّكَاحَ أَوْ مِثْلَهُ يَكُونُ الْوَلَدُ فِيهِ وَلَدَ زِنًا لَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ وَلَا يَتَوَارَثُ هُوَ وَأَبُوهُ الْوَاطِئُ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. مُنْسَلِخٌ مِنْ رِبْقَةِ الدِّينِ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا عُرِّفَ وَبُيِّنَ لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَاءَهُ الرَّاشِدِينَ وَسَائِرَ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَلْحَقُوا أَوْلَادَ الْجَاهِلِيَّةِ بِآبَائِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً بِالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِي لُحُوقِ النَّسَبِ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ جَائِزًا فِي شَرْعِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْفُتْيَا بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى وُقُوعِهِ وَقَالَ إنَّ الْوَلَدَ وَلَدُ زِنًا، هُوَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّ الْمُفْتِيَ بِذَلِكَ أَوْ الْقَاضِيَ بِهِ فَعَلَ مَا يَسُوغُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ الْمَنْعُ مِنْ الْفُتْيَا بِقَوْلِهِ أَوْ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ، وَلَا الْحُكْمُ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْأَحْكَامُ الْمُخَالِفَةُ لِلْإِجْمَاعِ بَاطِلَةٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب النفقات

[كِتَابُ النَّفَقَاتِ] مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ عِنْدَ قَوْمٍ مُدَّةَ سَنَةٍ، ثُمَّ جَرَى بَيْنَهُمْ كَلَامٌ، فَادَّعُوا عَلَيْهِ بِكِسْوَةِ سَنَةٍ، فَأَخَذُوهَا مِنْهُ، ثُمَّ ادَّعُوا عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ، وَقَالُوا: هِيَ تَحْتَ الْحَجْرِ؛ وَمَا أَذِنَّا لَك أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهَا: فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. إذَا كَانَ الزَّوْجُ تَسَلَّمَهَا التَّسْلِيمَ الشَّرْعِيَّ وَهُوَ أَوْ أَبُوهُ أَوْ نَحْوُهُمَا يُطْعِمُهَا كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ: لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ وَلَا لَهَا أَنْ تَدَّعِيَ بِالنَّفَقَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْإِنْفَاقُ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ، وَكَذَلِكَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ؛ بَلْ مَنْ كَلَّفَ الزَّوْجَ أَنْ يُسَلِّمَ إلَى أَبِيهَا دَرَاهِمَ لِيَشْتَرِيَ لَهَا بِهَا مَا يُطْعِمُهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ؛ وَإِنْ [كَانَ] هَذَا قَدْ قَالَهُ بَعْضُ النَّاسِ. فَكَيْفَ إذَا كَانَ قَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا بِإِقْرَارِ الْأَبِ لَهَا بِذَلِكَ؛ وَتَسْلِيمِهَا إلَيْهِمْ؛ مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ الْأَكْلِ؛ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَطْلُبَ النَّفَقَةَ؛ وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا أَنْفَقُوا عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ فِي الشَّرِيعَةِ لَا تَحْتَمِلُهُ أَصْلًا. وَمَنْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا أَنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ لَهَا كَالدَّيْنِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْبِضَهُ الْوَلِيُّ، وَهُوَ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ: كَانَ مُخْطِئًا مِنْ وُجُوهٍ. مِنْهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالنَّفَقَةِ إطْعَامُهَا؛ لَا حِفْظُ الْمَالِ لَهَا. الثَّانِي: أَنَّ قَبْضَ الْوَلِيِّ لَهَا لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنِهِ؛ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ لَهَا بِالشَّرْعِ، وَالشَّارِعُ أَوْجَبَ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا، فَلَوْ نَهَى الْوَلِيُّ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ. الرَّابِعُ: إقْرَارُهُ

مسألة ناشز ينفق زوجها عليها أخذها والدها وسافر من غير إذن الزوج

لَهَا مَعَ حَاجَتِهِ إلَى النَّفَقَةِ إذْنٌ عُرْفِيٌّ وَلَا يُقَالُ. إنَّهُ لَمْ يَأْمَنْ الزَّوْجَ عَلَى النَّفَقَةِ؛ لِوَجْهَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ الِائْتِمَانَ بِهَا حَصَلَ بِالشَّرْعِ، كَمَا أُوتُمِنَ الزَّوْجُ عَلَى بَدَنِهَا، وَالْقَسْمِ لَهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِهَا؛ فَإِنَّ الرِّجَالَ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ، وَالنِّسَاءُ عَوَانٌ عِنْدَ الرِّجَالِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. الثَّانِي: أَنَّ الِائْتِمَانَ الْعُرْفِيَّ كَاللَّفْظِيِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ نَاشِز يُنْفِق زَوْجهَا عَلَيْهَا أَخَذَهَا وَالِدهَا وَسَافَرَ مِنْ غَيْر إِذْن الزَّوْج] 621 - 2 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَدَخَلَ بِهَا، وَهُوَ مُسْتَمِرُّ النَّفَقَةِ، وَهِيَ نَاشِزٌ، ثُمَّ إنَّ وَالِدَهَا أَخَذَهَا وَسَافَرَ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ: فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا سَافَرَ بِهَا بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ، وَتُعَزَّرُ الزَّوْجَةُ إذَا كَانَ التَّخَلُّفُ يُمْكِنُهَا، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا مِنْ حِينِ سَافَرَتْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . 622 - 3 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَدَخَلَ بِهَا وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ [فِي] النَّفَقَةِ وَهِيَ نَاشِزٌ. ثُمَّ إنَّ وَلَدَهَا أَخَذَهَا وَسَافَرَ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا سَافَرَ بِهَا بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ. وَتُعَزَّرُ الزَّوْجَةُ إذَا كَانَ التَّخَلُّفُ يُمْكِنُهَا، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا مِنْ حِينِ سَافَرَتْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 623 - 4 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مَاتَتْ زَوْجَتُهُ، وَخَلَّفَتْ لَهُ ثَلَاثَ بَنَاتٍ: فَأَعْطَاهُمْ لِحَمِيهِ وَحَمَاتَهُ وَقَالَ: رُوحُوا بِهِمْ إلَى بَلَدِكُمْ، حَتَّى أَجِيءَ إلَيْهِمْ؛ فَغَابَ عَنْهُمْ ثَلَاثَ سِنِينَ فَهَلْ عَلَى وَالِدِهِمْ نَفَقَتُهُمْ وَكِسْوَتُهُمْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: مَا أَنْفَقُوهُ عَلَيْهِمْ بِالْمَعْرُوفِ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ بِهِ عَلَى وَالِدِهِمْ فَلَهُمْ الرُّجُوعُ

مسألة قال لزوجته لأهجرنك إن كنت لا تصلين فتركت الصلاة

بِهِ عَلَيْهِ، إذَا كَانَ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ لِزَوْجَتِهِ لَأَهْجُرَنك إنْ كُنْت لَا تُصَلِّينَ فَتَرَكَتْ الصَّلَاةِ] 624 - 5 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ، وَقَالَ: لَأَهْجُرَنك إنْ كُنْت مَا تُصَلِّينَ فَامْتَنَعَتْ مِنْ الصَّلَاةِ وَلَمْ تُصَلِّ، وَهَجَرَ الرَّجُلُ فِرَاشَهَا. فَهَلْ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةٌ أَمْ لَا؟ وَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهَا إذَا تَرَكَتْ الصَّلَاةَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا امْتَنَعَتْ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ. وَهَجْرُ الرَّجُلِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا إذَا امْتَنَعَتْ مِنْ تَمْكِينِهِ إلَّا مَعَ تَرْكِ الصَّلَاةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً وَكَانَتْ حَامِلًا فَأَسْقَطَتْ] 625 - 6 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَكَانَتْ حَامِلًا فَأَسْقَطَتْ: فَهَلْ تَسْقُطُ عَنْهُ النَّفَقَةُ، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ. إذَا أَلْقَتْ سَقْطًا انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ، وَسَقَطَتْ بِهِ النَّفَقَةُ وَسَوَاءٌ كَانَ قَدْ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ أَمْ لَا، إذَا كَانَ قَدْ تَبَيَّنَ فِيهِ خَلْقُ الْإِنْسَانِ؛ فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ فَفِيهِ نِزَاعٌ. [مَسْأَلَةٌ عَجَزَ عَنْ الْكَسْبِ وَلَا لَهُ شَيْءٌ وَلَهُ زَوْجَةٌ وَأَوْلَادٌ] 626 - 7 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ عَجَزَ عَنْ الْكَسْبِ، وَلَا لَهُ شَيْءٌ، وَلَهُ زَوْجَةٌ وَأَوْلَادٌ: فَهَلْ يَجُوزُ لِوَلَدِهِ الْمُوسِرِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ، وَعَلَى زَوْجَتِهِ، وَإِخْوَتِهِ الصِّغَارِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَعَمْ عَلَى الْوَلَدِ الْمُوسِرِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَبِيهِ وَزَوْجَةِ أَبِيهِ، وَعَلَى إخْوَتِهِ الصِّغَارِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ عَاقًّا لِأَبِيهِ، قَاطِعًا لِرَحِمِهِ مُسْتَحِقًّا لِعُقُوبَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 627 - 8 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ بِنْتٌ لَهَا سَبْعُ سِنِينَ، وَلَهَا وَالِدَةٌ مُتَزَوِّجَةٌ، وَقَدْ أَخَذَهَا بِحُكْمِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ بِحَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ لَهَا كَافِلٌ غَيْرُهُ، وَقَدْ اخْتَارَتْ أُمُّ الْمَذْكُورَةِ أَنْ

مسألة طلقها ثلاثا وأبرأته من حقوق الزوجية قبل علمها بالحمل

تَأْخُذَهَا مِنْ الرَّجُلِ بِكَفَالَتِهَا إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، وَهُوَ يَخَافُ أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِ فِيمَا بَعْدُ بِالْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ، وَكَيْفَ نُسْخَةُ مَا يُكْتَبُ بَيْنَهُمَا. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. مَا دَامَ الْوَلَدُ عِنْدَهَا وَهِيَ تُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَخَذَتْهُ عَلَى أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِهَا وَلَا تَرْجِعُ عَلَى الْأَبِ: لَا نَفَقَةَ لَهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. أَيْ لَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَتْ هَذِهِ الْمُدَّةَ؛ لَكِنْ لَوْ أَرَادَتْ أَنْ تُطَالِبَ بِالنَّفَقَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ الْوَلَدَ مِنْهَا أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَجْمَعُ لَهُمَا بَيْنَ الْحَضَانَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَمُطَالَبَةِ الْأَبِ بِالنَّفَقَةِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا بِلَا نِزَاعٍ؛ لَكِنْ لَوْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ: فَهَلْ يَكُونُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا لَازِمًا؟ هَذَا فِيهِ خِلَافٌ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ هُوَ لَازِمٌ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا ضَرَرَ لِلْأَبِ فِي هَذَا الِالْتِزَامِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَأَبْرَأَتْهُ مِنْ حُقُوق الزَّوْجِيَّةِ قَبْل عِلْمِهَا بِالْحَمْلِ] 628 - 9 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا، وَأَبْرَأَتْ الزَّوْجَ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ قَبْلَ عِلْمِهَا بِالْحَمْلِ. فَلَمَّا بَانَ الْحَمْلُ طَالَبَتْ الزَّوْجَ بِفَرْضِ الْحَمْلِ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذُكِرَ لَمْ تَدْخُلْ نَفَقَةُ الْحَمْلِ فِي الْإِبْرَاءِ، وَكَانَ لَهَا أَنْ تَطْلُبَ نَفَقَةَ الْحَمْلِ وَلَوْ عَلِمَتْ بِالْحَمْلِ وَأَبْرَأَتْهُ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ فَقَطْ لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ نَفَقَةُ الْحَمْلِ، لِأَنَّهَا تَجِبُ بَعْدَ زَوَالِ النِّكَاحِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ لِلْحَمْلِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، كَأُجْرَةِ الرَّضَاعِ وَفِي الْآخَرِ هِيَ لِلزَّوْجَةِ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ، فَتَكُونُ مِنْ جِنْسِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ؛ كَأُجْرَةِ الرَّضَاعِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِبْرَاءُ بِمُقْتَضَى أَنَّهُ لَا تَبْقَى بَيْنَهُمَا مُطَالَبَةٌ بَعْدَ النِّكَاحِ أَبَدًا، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَمَقْصُودُهُمَا الْمُبَارَاةُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِلْآخَرِ مُطَالَبَةٌ بِوَجْهٍ فَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْإِبْرَاءُ مِنْ نَفَقَةِ الْحَمْلِ. [مَسْأَلَةٌ لَهُ وَلَدٌ وَطَلَبَ مِنْهُ مَا يُمَوِّنُهُ] 629 - 10 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ وَلَدٌ، وَطَلَبَ مِنْهُ مَا يُمَوِّنُهُ؟

الْجَوَابُ: إذَا كَانَ مُوسِرًا وَأَبُوهُ مُحْتَاجًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ تَمَامَ كِفَايَتِهِ وَكَذَلِكَ إخْوَتَهُ إذَا كَانُوا عَاجِزِينَ عَنْ الْكَسْبِ: فَعَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِمْ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَبِيهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَحْتَاجُهُ بِغَيْرِ إذْنِ الِابْنِ؛ وَلَيْسَ لِلِابْنِ مَنْعُهُ. 630 - 11 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ عَلَيْهِ وَقْفٌ مِنْ جَدِّهِ ثُمَّ عَلَى وَلَدِهِ؛ وَهُوَ يَتَنَاوَلُ أُجْرَتَهُ؛ وَلَهُ مِلْكٌ زَادَ أُجْرَةً كَثِيرَةً وَغَيْرَهَا؛ وَالْكُلُّ مُعَطَّلٌ، وَلَهُ وَلَدٌ مُعْسِرٌ؛ وَلَهُ أَهْلٌ وَأَوْلَادٌ؛ فَطَلَبَ ابْنُهُ بَعْضَ الْأَمَاكِنِ لِيُدَوْلِبَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ: فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْأَبِ أَنْ يُؤَجِّرَهُمْ وَيُنْفِقَ عَلَى وَلَدِهِ؟ أَوْ تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ مَعَ غِنَى الْوَالِدِ وَإِعْسَارِ الْوَلَدِ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ. عَلَيْهِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ بِالْمَعْرُوفِ إذَا كَانَ الْوَلَدُ فَقِيرًا عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ وَالْوَالِدُ مُوسِرًا، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْوَلَدِ إلَّا بِإِجَارَةِ مَا هُوَ مُتَعَطِّلٌ فِي عَقَارِهِ، وَبِعِمَارَةِ مَا يُمْكِنُ عِمَارَتُهُ مِنْهُ، أَوْ يُمَكِّنُ الْوَلَدَ مِنْ أَنْ يُؤَجِّرَ وَيُعَمِّرَ مَا يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ؛ فَعَلَى الْوَالِدِ ذَلِكَ؛ بَلْ مَنْ كَانَ لَهُ عَقَارٌ لَا يُعَمِّرُهُ وَلَا يُؤَجِّرُهُ فَهُوَ سَفِيهٌ مُبَذِّرٌ لِمَالِهِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ؛ لِئَلَّا يُضَيِّعَ مَالَهُ. فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ لِأَجْلِ مَصْلَحَتِهِ، وَمَصْلَحَةِ وَلَدِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 631 - 12 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ وَلَدٌ كَبِيرٌ، فَسَافَرَ مَعَ كَرَائِمِ أَمْوَالِهِ فِي الْبَحْرِ الْمَالِحِ، وَلَهُ آخَرُ مُرَاهِقٌ مِنْ أُمٍّ أُخْرَى مُطَلَّقَةٍ مِنْهُ، وَلَهَا أَبٌ وَأُمٌّ؛ وَالْوَلَدُ عِنْدَهُمْ مُقِيمٌ، فَأَرَادَ وَالِدُهُ أَخْذَهُ وَتَسْفِيرَهُ صُحْبَةَ أَخِيهِ بِغَيْرِ رِضَا الْوَالِدَةِ، وَغَيْرِ رِضَا الْوَلَدِ: فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: يُخَيَّرُ الْوَلَدُ بَيْنَ أَبَوَيْهِ: فَإِنْ اخْتَارَ الْمُقَامَ عِنْدَ أُمِّهِ وَهِيَ غَيْرُ مُزَوَّجَةٍ كَانَ عِنْدَهَا وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ تَسْفِيرُهُ؛ لَكِنْ يَكُونُ عِنْدَ أَبِيهِ نَهَارًا لِيُعَلِّمَهُ وَيُؤَدِّبَهُ وَعِنْدَ أُمِّهِ لَيْلًا. وَإِنْ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْأَبِ كَانَ عِنْدَهُ. وَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْأَبِ وَرَأَى مِنْ الْمَصْلَحَةِ لَهُ

مسألة نفقة الزوجة إذا كانت مريضة

تَسْفِيرَهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْوَلَدِ فَلَهُ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ نَفَقَة الزَّوْجَة إذَا كَانَتْ مَرِيضَة] 632 - 13 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ، وَلَهُ مُدَّةُ سَبْعِ سِنِينَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا؛ لِأَجْلِ مَرَضِهَا: فَهَلْ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ نَفَقَةً، أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَسْتَحِقُّ وَحَكَمَ عَلَيْهِ حَاكِمٌ: فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إعْطَاؤُهُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. [مَسْأَلَةٌ نَفَقَةُ الْيَتَامَى] 633 - 14 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً حَمَلَتْ مِنْهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَزَوَّجَ بِهَا: فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْوَلَدِ فِي تَرْبِيَتِهِ، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْوَلَدُ وَلَدُ زِنًا؛ لَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ؛ فَإِنَّهُ يَتِيمٌ مِنْ الْيَتَامَى، وَنَفَقَةُ الْيَتَامَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ مُؤَكَّدَةٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ طَلَبَ مِنْ رَجُلٍ أَنْ يُطَبِّبَهُ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ فَفَعَلَ] 634 - 15 - مَسْأَلَةٌ: فِي مَرِيضٍ طَلَبَ مِنْ رَجُلٍ أَنْ يُطَبِّبَهُ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ فَفَعَلَ، فَهَلْ لِلْمُنْفِقِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَرِيضَ بِالنَّفَقَةِ؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ يُنْفِقُ طَالِبًا لِلْعِوَضِ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْعِوَضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مُزَوَّجَة مُحْتَاجَة فَهَلْ تَكُونُ نَفَقَتُهَا وَاجِبَةً عَلَى زَوْجِهَا] 635 - 16 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ مُزَوَّجَةٍ مُحْتَاجَةٍ. فَهَلْ تَكُونُ نَفَقَتُهَا وَاجِبَةً عَلَى زَوْجِهَا؟ أَوْ مِنْ صَدَاقِهَا؟

مسألة نفقة الوالد هل تجب على ولده

الْجَوَابُ: الْمُزَوَّجَةُ الْمُحْتَاجَةُ نَفَقَتُهَا عَلَى زَوْجِهَا وَاجِبَةٌ مِنْ غَيْرِ صَدَاقِهَا، وَأَمَّا صَدَاقُهَا الْمُؤَخَّرُ فَيَجُوزُ أَنْ تُطَالِبَهُ؛ وَإِنْ أَعْطَاهَا فَحَسَنٌ؛ وَإِنْ امْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ حَتَّى يَقَعَ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ: بِمَوْتٍ، أَوْ طَلَاقٍ، أَوْ نَحْوِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 636 - 17 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ مُطَلَّقَةٌ، وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ؛ وَقَدْ بَلَغَ مِنْ الْعُمُرِ سَبْعَ سِنِينَ، وَهُمْ يُرِيدُونَ فَرْضَهُ. وَقَدْ تَزَوَّجَتْ أُمُّهُ؛ وَكَفَلَتْهُ جَدَّتُهُ، وَوَجَّهَتْ كَفِيلَهُ، وَسَافَرُوا بِهِ إلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَغَيَّبُوهُ مُدَّةَ سَبْعِ سِنِينَ؛ وَطَلَبَ مِنْهُ فَرْضَ السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ؟ . الْجَوَابُ: إذَا حَكَمَ لَهُ حَاكِمٌ لَمْ يَكُنْ لِأُمِّهِ أَنْ تُغَيِّبَهُ عَنْهُ؛ وَإِذَا غَيَّبَتْهُ عَنْهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِالنَّفَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَلَا بِمَا أَنْفَقَتْهُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ نَفَقَةُ الْوَالِد هَلْ تَجِبُ عَلَى وَلَدِهِ] 637 - 18 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ وَلَدٌ، وَلَهُ مَالٌ، وَالْوَالِدُ فَقِيرٌ وَلَهُ عَائِلَةٌ وَزَوْجَهُ غَيْرُ وَالِدَةٍ لِوَلَدِهِ الْكَبِيرِ: فَهَلْ يَجِبُ عَلَى وَلَدِهِ نَفَقَةُ وَالِدِهِ، وَنَفَقَةُ إخْوَتِهِ وَزَوْجَتِهِ، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَ الْأَبُ عَاجِزًا عَنْ النَّفَقَةِ، وَالِابْنُ قَادِرًا عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ فَعَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ. 638 - 19 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ عَاجِزٍ عَنْ نَفَقَةِ بِنْتِهِ، وَكَانَ غَائِبًا وَهِيَ عِنْدَ أُمِّهَا، وَجَدَّتُهَا تُنْفِقُ عَلَيْهَا؛ مَعَ أَنَّهَا مُوسِرَةٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضٌ: فَهَلْ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّفَقَةِ الْمُدَّةَ الَّتِي كَانَ عَاجِزًا عَنْ النَّفَقَةِ فِيهَا؟ وَهَلْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي إعْسَارِهِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ لَهُ

مسألة ادعى على أبيه بالصداق والكسوة بعد وفاة أمه

مَالٌ؟ أَوْ قَوْلُ الْمُدَّعِي؟ وَإِذَا كَانَ مُقِيمًا فِي بَلَدٍ فِيهَا خَيَّرَهُ، وَيُرِيدُ أَخْذَ بِنْتِهِ مَعَهُ، وَهُوَ يُسَافِرُ سَفَرَ نَقْلَةٍ: فَيَسْتَحِقُّ السَّفَرَ بِهَا، وَتَكُونُ الْحَضَانَةُ لِأُمِّهَا؟ الْجَوَابُ: أَمَّا الْمُدَّةُ الَّتِي كَانَ عَاجِزًا عَنْ النَّفَقَةِ فِيهَا فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ، وَلَا رُجُوعَ لِمَنْ أَنْفَقَ فِيهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ بِغَيْرِ نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا إذَا أَنْفَقَ مُنْفِقٌ بِدُونِ إذْنِهِ مَعَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ. فَقِيلَ: يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي قَوْلٍ. وَلَا يَجُوزُ حَبْسُهُ عَلَى هَذِهِ النَّفَقَةِ، وَلَا عَلَى الرُّجُوعِ بِهَا حَتَّى يَثْبُتَ الْوُجُوبُ بِيَسَارِهِ. فَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْيَسَارِ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ: فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِذَا كَانَ مُقِيمًا فِي غَيْرِ بَلَدِ الْأُمِّ فَالْحَضَانَةُ لَهُ؛ لَا لِلْأُمِّ؛ وَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ أَحَقَّ بِالْحَضَانَةِ فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ. وَهَذَا أَيْضًا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 639 - 20 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ بِامْرَأَةٍ، وَلَهَا وَلَدٌ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَهُ فَرْضٌ عَلَى أَبِيهِ تَتَنَاوَلُهُ أُمُّهُ، وَالزَّوْجُ يَقُومُ بِالصَّبِيِّ بِكُلْفَتِهِ وَمُؤْنَتِهِ مُدَّةَ سِنِينَ، وَحِينَ تَزَوَّجَ الرَّجُلُ كَانَ مِنْ الصَّدَاقِ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ حَالَّةً، فَشَارَطَتْهُ عَلَى أَنَّهَا لَا تُطَالِبُهُ بِهَا إذَا كَانَ يُنْفِقُ عَلَى الْوَلَدِ مَا دَامَ الصَّبِيُّ عِنْدَهُ؛ وَلَمْ تُعَيِّنْ لَهُ كُلْفَةً، وَلَا نَفَقَةً: فَهَلْ لَهُ مُطَالَبَةُ أُمِّ الصَّبِيِّ بِكُلْفَةِ مُدَّةِ مُقَامِهِ عِنْدَهُ؟ . الْجَوَابُ: إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ وَلَمْ يُوَفِّ امْرَأَتَهُ بِمَا شَرَطَتْ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِمَا أَنْفَقَهُ عَلَى الصَّبِيِّ إذَا كَانَ الْإِنْفَاقُ بِمَعْرُوفٍ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مُتَبَرِّعًا بِذَلِكَ، سَوَاءٌ أَنْفَقَ بِإِذْنِ أُمِّهِ، أَمْ لَا. [مَسْأَلَةٌ ادَّعَى عَلَى أَبِيهِ بِالصَّدَاقِ وَالْكِسْوَةِ بَعْد وَفَاة أُمِّهِ] 640 - 21 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ تُوُفِّيَتْ، وَخَلَّفَتْ مِنْ الْوَرَثَةِ وَلَدًا ذَكَرًا، وَقَدْ ادَّعَى عَلَى أَبِيهِ بِالصَّدَاقِ وَالْكِسْوَةِ: فَهَلْ يَلْزَمُ الزَّوْجَ الْكِسْوَةُ الْمَاضِيَةُ قَبْلَ مَوْتِهَا وَالِابْنُ مُحْتَاجٌ؟

مسألة تزوج بامرأة ما ينتفع بها وتطلب منه نفقة وكسوة

الْجَوَابُ: إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ فَعَلَى الْأَبِ أَنْ يُوَفِّيَهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ؛ بَلْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلِابْنِ مِيرَاثٌ، وَكَانَ مُحْتَاجًا عَاجِزًا عَنْ الْكِسْوَةِ: فَعَلَى الْأَبِ إذَا كَانَ مُوسِرًا أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ، وَعَلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ الْمُحْتَاجِينَ وَالْعَاجِزِينَ عَنْ الْكَسْبِ. 641 - 22 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ وَلَدٌ، وَتُوُفِّيَ وَلَدُهُ، وَخَلَّفَ وَلَدًا عُمْرُهُ ثَمَانِ سِنِينَ، وَالزَّوْجَةُ تُطَالِبُ الْجَدَّ بِالْفَرْضِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ تَزَوَّجَتْ وَطَلُقَتْ؛ وَلَمْ يَعْرِفْ الْجَدُّ بِهَا وَقَدْ أَخَذَتْ الْوَلَدَ وَسَافَرَتْ، وَلَا يَعْلَمُ الْجَدُّ بِهَا: فَهَلْ يَلْزَمُ الْجَدَّ فَرْضٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إذَا تَزَوَّجَتْ الْأُمُّ فَلَا حَضَانَةَ لَهَا، وَإِذَا سَافَرَتْ سَفَرَ نَقْلَةٍ فَالْحَضَانَةُ لِلْجَدِّ دُونَهَا؛ وَمَنْ حَضَنَتْهُ وَلَمْ يَكُنْ الْحَضَانَةُ لَهَا وَطَالَبَتْ بِالنَّفَقَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ؛ فَإِنَّهَا ظَالِمَةٌ بِالْحَضَانَةِ؛ فَلَا تَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِالنَّفَقَةِ: وَإِنْ كَانَ الْجَدُّ عَاجِزًا عَنْ نَفَقَةِ ابْنِ ابْنِهِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ. [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ مَا يَنْتَفِعُ بِهَا وَتَطْلُبُ مِنْهُ نَفَقَةً وَكِسْوَة] 642 - 23 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ مَا يَنْتَفِعُ بِهَا، وَلَا تُطَاوِعُهُ فِي أَمْرٍ، وَتَطْلُبُ مِنْهُ نَفَقَةً وَكِسْوَةً، وَقَدْ ضَيَّقَتْ عَلَيْهِ أُمُورَهُ: فَهَلْ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ نَفَقَةً، وَكِسْوَةً؟ الْجَوَابُ: إذَا لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ نَفْسِهَا، أَوْ خَرَجَتْ مِنْ دَارِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ: فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كِسْوَةَ؛ وَكَذَلِكَ إذَا طَلَبَ مِنْهَا أَنْ تُسَافِرَ مَعَهُ فَلَمْ تَفْعَلْ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كِسْوَةَ، فَحَيْثُ كَانَتْ نَاشِزًا، عَاصِيَةً لَهُ فِيمَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهَا طَاعَتُهُ لَمْ يَجِبْ لَهَا نَفَقَةٌ وَلَا كِسْوَةٌ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ يَجُوز لِعَامِلِ الْقِرَاضِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ] 643 - 24 - مَسْأَلَةٌ: هَلْ يَجُوزُ لِلْعَامِلِ فِي الْقِرَاضِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالِ الْقَارِضِ حَضَرًا وَسَفَرًا؟ وَإِذَا جَازَ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْسُطَ لَذِيذَ الْأَكْلِ وَالتَّنَعُّمَاتِ مِنْهُ أَمْ يَقْتَصِرُ عَلَى كِفَايَتِهِ الْمُعْتَادَةِ؟

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا شَرْطٌ فِي النَّفَقَةِ جَازَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هُنَاكَ عُرْفٌ وَعَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ بَيْنَهُمْ وَأَطْلَقَ الْعَقْدَ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى تِلْكَ الْعَادَةِ، وَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: لَهُ النَّفَقَةُ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ، كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنْ لَا نَفَقَةَ بِحَالٍ، وَلَوْ شَرَطَهَا وَحَيْثُ كَانَتْ لَهُ النَّفَقَةُ فَلَيْسَ لَهُ النَّفَقَةُ إلَّا بِالْمَعْرُوفِ، وَأَمَّا الْبَسْطُ الْخَارِجُ عَنْ الْمَعْرُوفِ فَيَكُونُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ. 644 - 25 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ خَطَبَ امْرَأَةً فَسَأَلَ عَنْ نَفَقَتِهِ، فَقِيلَ لَهُ مِنْ الْجِهَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ شَيْءٌ؟ فَأَبَى الْوَلِيُّ تَزْوِيجَهَا، فَذَكَرَ الْخَاطِبُ أَنَّ فُقَهَاءَ الْحَنَفِيَّةِ جَوَّزُوا تَنَاوُلَ ذَلِكَ، فَهَلْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَحَدٌ فِي جَوَازِ تَنَاوُلِهِ مِنْ الْجِهَاتِ؟ وَهَلْ لِلْوَلِيِّ الْمَذْكُورِ دَفْعُ الْخَاطِبِ بِهَذَا السَّبَبِ مَعَ رِضَاءِ الْمَخْطُوبَةِ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا الْفُقَهَاءُ الْأَئِمَّةُ الَّذِينَ يُفْتَى بِقَوْلِهِمْ، فَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ جَوَازَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ فِي أَوَائِلِ الدَّوْلَةِ السَّلْجُوقِيَّةِ أَفْتَى طَائِفَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِجَوَازِ ذَلِكَ، وَحَكَى أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ إجْمَاع الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ الشَّهِيدُ التُّرْكِيُّ قَدْ أَبْطَلَ جَمِيعَ الْوَظَائِفِ الْمُحْدَثَةِ بِالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَمِصْرَ وَالْحِجَازِ، وَكَانَ أَعْرَفَ النَّاسِ بِالْجِهَادِ، وَهُوَ الَّذِي أَقَامَ الْإِسْلَامَ بَعْدَ اسْتِيلَاءِ الْإِفْرِنْجِ وَالْقَرَامِطَةِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ فَعَلَ مَا يَعْتَقِدُ حُكْمَهُ مُتَأَوِّلًا تَأْوِيلًا سَائِغًا، لَا سِيَّمَا مَعَ حَاجَتِهِ لَمْ يُجْعَلْ فَاسِقًا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ. لَكِنْ بِكُلِّ حَالٍ فَالْوَلِيُّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مُوَلِّيَتَهُ مِمَّنْ يَتَنَاوَلُ مِثْلَ هَذَا الرِّزْقِ الَّذِي يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا سِيَّمَا وَأَنَّ رِزْقَهَا مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ يُطْعِمُهَا مِنْ غَيْرِهِ أَوْ تَأْكُلُ هِيَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُتَأَوِّلًا فِيمَا يَأْكُلُهُ.

مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 233] إلَى قَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233] . مَعَ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] إلَى قَوْلِهِ: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7] . فِي ذَلِكَ أَنْوَاعٌ مِنْ الْأَحْكَامِ بَعْضُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا مُتَنَازَعٌ فِيهِ. وَإِذَا تَدَبَّرْت كِتَابَ اللَّهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ يَفْصِلُ النِّزَاعَ بَيْنَ مَنْ يُحْسِنُ الرَّدَّ إلَيْهِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ إلَى ذَلِكَ؛ فَهُوَ إمَّا لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ، فَيُعْذَرُ. أَوْ لِتَفْرِيطِهِ فَيُلَامُ. وقَوْله تَعَالَى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا تَمَامُ الرَّضَاعَةِ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غِذَاءٌ مِنْ الْأَغْذِيَةِ. وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ مَنْ يَقُولُ: الرَّضَاعُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ. وَقَوْلُهُ: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ " الْحَوْلَيْنِ " يَقَعُ عَلَى حَوْلٍ وَبَعْضِ آخَرَ. وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِهِمْ، يُقَالُ: لِفُلَانٍ عِشْرُونَ عَامًا إذَا أَكْمَلَ ذَلِكَ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا: لَمَّا جَازَ أَنْ يَقُولَ: " حَوْلَيْنِ " وَيُرِيدُ أَقَلَّ مِنْهُمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203] . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَتَعَجَّلُ فِي يَوْمٍ وَبَعْضِ آخَرَ؛ وَتَقُولُ: لَمْ أَرَ فُلَانًا يَوْمَيْنِ. وَإِنَّمَا تُرِيدُ يَوْمًا وَبَعْضَ آخَرَ. قَالَ: {كَامِلَيْنِ} لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَصَ مِنْهُمَا. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] ، فَإِنَّ لَفْظَ " الْعَشَرَةِ " يَقَعُ عَلَى تِسْعَةٍ وَبَعْضِ الْعَاشِرِ. فَيُقَالُ: أَقَمْت عَشَرَةَ أَيَّامٍ. وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْهَا. فَقَوْلُهُ هُنَاكَ {كَامِلَةٌ} بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ هُنَا {كَامِلَيْنِ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ: قَالَ «الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مَوْفُورًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ» . فَالْكَامِلُ الَّذِي لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ؛ إذْ الْكَمَالُ ضِدُّ النُّقْصَانِ. وَأَمَّا

الْمُوَفَّرُ " فَقَدْ قَالَ: أَجْرُهُمْ مُوَفَّرًا. يُقَالُ: الْمُوَفَّرُ. لِلزَّائِدِ؛ وَيُقَالُ: لَمْ يُكْلَمْ. أَيْ يُجْرَحْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " كِتَابِ الزُّهْدِ «عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى: وَمَا ذَاكَ لِهَوَانِهِمْ عَلَيَّ وَلَكِنْ لِيَسْتَكْمِلُوا نَصِيبَهُمْ مِنْ كَرَامَتِي سَالِمًا مُوَفَّرًا؛ لَمْ تَكَلُّمُهُ الدُّنْيَا وَلَمْ تَكَلُّمُهُ نُطْعَةُ الْهَوَى» . وَكَانَ هَذَا تَغْيِيرَ الصِّفَةِ، وَذَاكَ نُقْصَانَ الْقَدْرِ. وَذَكَرَ " أَبُو الْفَرَجِ " هَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْوَالِدَاتِ؟ أَوْ يَخْتَصُّ بِالْمُطَلَّقَاتِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالْخُصُوصُ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ، وَمُقَاتِلٍ، فِي آخَرِينَ. وَالْعُمُومُ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي آخَرِينَ. قَالَ الْقَاضِي: وَلِهَذَا نَقُولُ: لَهَا أَنْ تُؤَجِّرَ نَفْسَهَا لِرَضَاعِ وَلَدِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مَعَ الزَّوْجِ، أَوْ مُطَلَّقَةً. قُلْت: الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهَا أَوْجَبَتْ لِلْمُرْضِعَاتِ رِزْقَهُنَّ وَكِسْوَتَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ؛ لَا زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ يَقُولُ: تُؤَجِّرُ نَفْسَهَا بِأُجْرَةٍ غَيْرِ النَّفَقَةِ. وَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا؛ بَلْ إذَا كَانَتْ الْآيَةُ عَامَّةً دَلَّتْ عَلَى أَنَّهَا تُرْضِعُ وَلَدَهَا مَعَ إنْفَاقِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ حَامِلًا فَإِنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا وَتَدْخُلُ نَفَقَةُ الْوَلَدِ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتَغَذَّى بِغِذَاءِ أُمِّهِ. وَكَذَلِكَ فِي حَالِ الرَّضَاعِ فَإِنَّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ هِيَ نَفَقَةُ الْمُرْتَضِعِ. وَعَلَى هَذَا فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ؛ فَاَلَّذِينَ خَصُّوهُ بِالْمُطَلَّقَاتِ أَوْجَبُوا نَفَقَةً جَدِيدَةً بِسَبَبِ الرَّضَاعِ، كَمَا ذَكَرَ فِي " سُورَةِ الطَّلَاقِ " وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْمُطَلَّقَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] قَدْ عُلِمَ أَنَّ مَبْدَأَ الْحَوْلِ مِنْ حِينِ الْوِلَادَةِ وَالْكَمَالُ إلَى نَظِيرِ ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ مِنْ عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ كَانَ الْكَمَالُ فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ فِي مِثْلِ تِلْكَ السَّاعَةِ؛ فَإِنَّ الْحَوْلَ الْمُطْلَقَ هُوَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْ الشَّهْرِ الْهِلَالِيِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} [التوبة: 36] وَهَكَذَا مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعِدَّةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، أَوَّلُهَا مِنْ حِينِ الْمَوْتِ وَآخِرُهَا إذَا مَضَتْ عَشْرٌ بَعْدَ نَظِيرِهِ؛ فَإِذَا كَانَ فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ فَآخِرُهَا خَامِسَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، وَكَذَلِكَ الْأَجَلُ الْمُسَمَّى فِي الْبُيُوعِ وَسَائِرِ مَا يُؤَجَّلُ بِالشَّرْعِ وَبِالشَّرْطِ.

وَلِلْفُقَهَاءِ هُنَا قَوْلَانِ آخَرَانِ ضَعِيفَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إذَا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ كَانَ جَمِيعُ الشُّهُورِ بِالْعَدَدِ، فَيَكُونُ الْحَوْلَانِ ثَلَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَزِيدُ الْمُدَّةُ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَهُوَ غَلَطٌ بَيِّنٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: مِنْهَا وَاحِدٌ بِالْعَدَدِ، وَسَائِرُهَا بِالْأَهِلَّةِ. وَهَذَا أَقْرَبُ؛ لَكِنْ فِيهِ غَلَطٌ؛ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا إذَا كَانَ الْمَبْدَأُ عَاشِرَ الْمُحَرَّمِ وَقَدْ نَقَصَ الْمُحَرَّمُ كَانَ تَمَامُهُ تَاسِعَهُ، فَيَكُونُ التَّكْمِيلُ أَحَدَ عَشَرَ، فَيَكُونُ الْمُنْتَهَى حَادِيَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ غَلَطٌ أَيْضًا. وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَى الْأُمِّ إرْضَاعَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {يُرْضِعْنَ} خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ؛ وَلِهَذَا تَأَوَّلَهَا مَنْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَهَذَا الْأَمْرُ انْصَرَفَ إلَى الْآبَاءِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ الِاسْتِرْضَاعَ؛ لَا عَلَى الْوَالِدَاتِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] وَقَوْلُهُ: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] فَلَوْ كَانَ مُتَحَتِّمًا عَلَى الْوَالِدَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ. فَيُقَالُ: بَلْ الْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّ لِلِابْنِ عَلَى الْأُمِّ الْفِعْلَ، وَعَلَى الْأَبِ النَّفَقَةَ وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا تَعَيَّنَ عَلَيْهَا، وَهِيَ تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ، وَالْأَجْنَبِيَّةُ تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا. وقَوْله تَعَالَى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ إتْمَامَ الرَّضَاعِ وَيَجُوزُ الْفِطَامُ قَبْلَ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَصْلَحَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233] ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْصَلُ إلَّا بِرِضَى الْأَبَوَيْنِ، فَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا الْإِتْمَامَ وَالْآخَرُ الْفِصَالَ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ لِمَنْ أَرَادَ الْإِتْمَامَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] . وقَوْله تَعَالَى: {يُرْضِعْنَ} صِيغَةُ خَبَرٍ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ، وَالتَّقْدِيرُ وَالْوَالِدَةُ مَأْمُورَةٌ بِإِرْضَاعِهِ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ إذَا أُرِيدَ إتْمَامُ الرَّضَاعَةِ؛ فَإِذَا أَرَادَتْ الْإِتْمَامَ كَانَتْ مَأْمُورَةً

بِذَلِكَ، وَكَانَ عَلَى الْأَبِ رِزْقُهَا وَكِسْوَتُهَا، وَإِنْ أَرَادَ الْأَبُ الْإِتْمَامَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُبَحْ الْفِصَالُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا جَمِيعًا. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] . وَلَفْظَةُ {مِنْ} [البقرة: 4] إمَّا أَنْ يُقَالَ: هُوَ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا وَيَدْخُلُ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، فَمَنْ أَرَادَ الْإِتْمَامَ أَرْضَعْنَ لَهُ. وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: قَوْله تَعَالَى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] إنَّمَا هُوَ الْمَوْلُودُ لَهُ وَهُوَ الْمُرْضَعُ لَهُ. فَالْأُمُّ تَلِدُ لَهُ وَتَرْضِعُ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} [الطلاق: 6] . وَالْأُمُّ كَالْأَجِيرِ مَعَ الْمُسْتَأْجِرِ. فَإِنْ أَرَادَ الْأَبُ الْإِتْمَامَ أَرْضَعْنَ لَهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ لَا يُتِمَّ [فَلَهُ ذَلِكَ] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَمَنْطُوقُ الْآيَةِ أَمْرُهُنَّ بِإِرْضَاعِهِ عِنْدَ إرَادَةِ الْأَبِ، وَمَفْهُومُهَا أَيْضًا جَوَازُ الْفَصْلِ بِتَرَاضِيهِمَا. يَبْقَى إذَا أَرَادَتْ الْأُمُّ دُونَ الْأَبِ مَسْكُوتًا عَنْهُ؛ لَكِنْ مَفْهُومُ قَوْله تَعَالَى: {عَنْ تَرَاضٍ} [البقرة: 233] أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ؛ وَلَكِنْ تَنَاوَلَهُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، فَإِنَّهَا إذَا أَرْضَعَتْ تَمَامَ الْحَوْلِ فَلَهُ أَرْضَعَتْ، وَكَفَتْهُ بِذَلِكَ مُؤْنَةَ الطِّفْلِ، فَلَوْلَا رَضَاعَهَا لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يُطْعِمَهُ شَيْئًا آخَرَ. فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَّنَ أَنَّ عَلَى الْأُمِّ الْإِتْمَامَ إذَا أَرَادَ الْأَبُ، وَفِي تِلْكَ بَيَّنَ أَنَّ عَلَى الْأَبِ الْأَجْرَ إذَا أَبَتْ الْمَرْأَةُ قَالَ مُجَاهِدٌ: " التَّشَاوُرُ " فِيمَا دُونَ الْحَوْلَيْنِ: إنْ أَرَادَتْ أَنْ تَفْطِمَ وَأَبَى فَلَيْسَ لَهَا، وَإِنْ أَرَادَ هُوَ وَلَمْ تُرِدْ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَقَعَ ذَلِكَ عَلَى تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ، يَقُولُ: غَيْرُ مُسِيئِينَ إلَى أَنْفُسِهِمَا وَلَا رَضِيعِهِمَا. وقَوْله تَعَالَى: {إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . قَالَ إذَا أَسْلَمْتُمْ أَيُّهَا الْآبَاءُ إلَى أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ أَجْرَ مَا أَرْضَعْنَ قَبْلَ امْتِنَاعِهِنَّ؛ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَقِيلَ: إذَا أَسْلَمْتُمْ إلَى الظِّئْرِ أَجْرَهَا: بِالْمَعْرُوفِ، رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: {أَتَيْتُمْ} بِالْقَصْرِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وَلَمْ يَقُلْ: وَعَلَى الْوَالِدِ كَمَا قَالَ وَالْوَالِدَاتُ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الَّتِي تَلِدُهُ، وَأَمَّا الْأَبُ فَلَمْ يَلِدْهُ؛ بَلْ هُوَ مَوْلُودٌ لَهُ لَكِنْ إذَا قُرِنَ بَيْنَهُمَا قِيلَ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] فَأَمَّا مَعَ الْإِفْرَادِ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَتُهُ وَالِدًا، بَلْ أَبًا. وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْوَلَدَ وَلَدٌ لِلْأَبِ؛ لَا لِلْأُمِّ؛ وَلِهَذَا كَانَ

عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ حَمْلًا وَأُجْرَةُ رَضَاعِهِ. وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْله تَعَالَى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49] ، فَجَعَلَهُ مَوْهُوبًا لِلْأَبِ، وَجَعَلَ بَيْتَهُ فِي قَوْلِهِ: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] وَإِذَا كَانَ الْأَبُ هُوَ الْمُنْفِقُ عَلَيْهِ جَنِينًا وَرَضِيعًا، وَالْمَرْأَةُ وِعَاءٌ: فَالْوَلَدُ زَرْعٌ لِلْأَبِ قَالَ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] . فَالْمَرْأَةُ هِيَ الْأَرْضُ الْمَزْرُوعَةُ، وَالزَّرْعُ فِيهَا لِلْأَبِ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَسْقِيَ الرَّجُلُ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» . يُرِيدُ بِهِ النَّهْيَ عَنْ وَطْءِ الْحَبَالَى، فَإِنَّ مَاءَ الْوَاطِئِ يَزِيدُ فِي الْحَمْلِ كَمَا يَزِيدُ الْمَاءُ فِي الزَّرْعِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الصَّحِيحِ: «لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنَةً تَدْخُلُ مَعَهُ مِنْ قَبْرِهِ، كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ، وَكَيْفَ يَسْتَعْبِدُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ؟» . وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ لِلْأَبِ وَهُوَ زَرْعُهُ كَانَ هَذَا مُطَابِقًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك» . وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» فَقَدْ حَصَلَ الْوَلَدُ مِنْ كَسْبِهِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ؛ فَإِنَّ الزَّرْعَ الَّذِي فِي الْأَرْضِ كَسْبُ الْمُزْدَرِعِ لَهُ الَّذِي بَذَرَهُ وَسَقَاهُ وَأَعْطَى أُجْرَةَ الْأَرْضِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ أَعْطَى الْمَرْأَةَ مَهْرَهَا، وَهُوَ أَجْرُ الْوَطْءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] . وَهُوَ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 2] . وَقَدْ فُسِّرَ {مَا كَسَبَ} بِالْوَلَدِ. فَالْأُمُّ هِيَ الْحَرْثُ وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا

زَرَعَ، وَالْأَبُ اسْتَأْجَرَهَا بِالْمَهْرِ كَمَا يَسْتَأْجِرُ الْأَرْضَ، وَأَنْفَقَ عَلَى الزَّرْعِ بِإِنْفَاقِهِ لَمَّا كَانَتْ حَامِلًا، ثُمَّ أَنْفَقَ عَلَى الرَّضِيعِ، كَمَا يُنْفِقُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ إذَا كَانَ مَسْتُورًا وَإِذَا بَرَزَ؛ فَالزَّرْعُ هُوَ الْوَلَدُ، وَهُوَ مِنْ كَسْبِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا لَا يَضُرُّ بِهِ؛ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَإِنَّ مَالَهُ لِلْأَبِ مُبَاحٌ، وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِلِابْنِ فَهُوَ مُبَاحٌ لِلْأَبِ أَنْ يَمْلِكَهُ وَإِلَّا بَقِيَ لِلِابْنِ؛ فَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يَتَمَلَّكْهُ وَرِثَ عَنْ الِابْنِ. وَلِلْأَبِ أَيْضًا أَنْ يَسْتَخْدِمَ الْوَلَدَ مَا لَمْ يَضُرَّ بِهِ. وَفِي هَذَا وُجُوبُ طَاعَةِ الْأَبِ عَلَى الِابْنِ إذَا كَانَ الْعَمَلُ مُبَاحًا لَا يَضُرُّ بِالِابْنِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَخْدَمَ عَبْدَهُ فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ اعْتَدَى عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ فَالِابْنُ أَوْلَى. وَنَفْعُ الِابْنِ لَهُ إذَا لَمْ يَأْخُذْهُ الْأَبُ؛ بِخِلَافِ نَفْعِ الْمَمْلُوكِ فَإِنَّهُ لِمَالِكِهِ، كَمَا أَنَّ مَالَهُ لَوْ مَاتَ لِمَالِكِهِ لَا لِوَارِثِهِ. وَدَلَّ مَا ذَكَرَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَطَأَ حَامِلًا مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا كَانَ كَسَقْيِ الزَّرْعِ يَزِيدُ فِيهِ وَيُنَمِّيهِ وَيَبْقَى لَهُ شِرْكَةٌ فِي الْوَلَدِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِعْبَادُ هَذَا الْوَلَدِ، فَلَوْ مَلَكَ أَمَةً حَامِلًا مِنْ غَيْرِهِ وَوَطِئَهَا حَرُمَ اسْتِعْبَادُ هَذَا الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ سَقَاهُ؛ وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَيْفَ يَسْتَعْبِدُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ» . " وَكَيْفَ يُوَرِّثُهُ " أَيْ يَجْعَلُهُ مَوْرُوثًا مِنْهُ " وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ ". وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ: كَيْفَ يَجْعَلُهُ وَارِثًا. فَقَدْ غَلِطَ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ كَانَتْ أَمَةً لِلْوَاطِئِ، وَالْعَبْدُ لَا يُجْعَلُ وَارِثًا، إنَّمَا يُجْعَلُ مَوْرُوثًا. فَأَمَّا إذَا اُسْتُبْرِئَتْ الْمَرْأَةُ عُلِمَ أَنَّهُ لَا زَرْعَ هُنَاكَ. وَلَوْ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ عِنْدَ مَنْ لَا يَطَؤُهَا فَفِيهِ نِزَاعٌ، وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهُ لَا زَرْعَ هُنَاكَ، وَظُهُورُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ هُنَا أَقْوَى مِنْ بَرَاءَتِهَا مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ بِحَيْضَةٍ؛ فَإِنَّ الْحَامِلَ قَدْ يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ الدَّمِ مِثْلُ دَمِ الْحَيْضِ؛ وَإِنْ كَانَ نَادِرًا. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُوَ حَيْضٌ أَوْ لَا؟ فَالِاسْتِبْرَاءُ لَيْسَ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ؛ بَلْ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ. وَالْبَكَارَةُ وَكَوْنُهَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِصَبِيٍّ أَوْ امْرَأَةٍ أَدَلُّ عَلَى الْبَرَاءَةِ وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ صَادِقًا وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ اسْتَبْرَأَهَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَاسْتِبْرَاءُ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ وَالْعَجُوزِ وَالْآيِسَةِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ. وَلِهَذَا اضْطَرَبَ الْقَائِلُونَ هَلْ تُسْتَبْرَأُ بِشَهْرٍ؟ أَوْ شَهْرٍ وَنِصْفٍ؟ أَوْ شَهْرَيْنِ؟ أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ؟ وَكُلُّهَا أَقْوَالٌ ضَعِيفَةٌ. وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمْ يَكُنْ يَسْتَبْرِئُ الْبِكْرَ، وَلَا

يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْ بِالِاسْتِبْرَاءِ إلَّا فِي الْمُسْبَيَاتِ، كَمَا قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ» لَمْ يَأْمُرْ كُلَّ مَنْ وَرِثَ أَمَةً أَوْ اشْتَرَاهَا أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ فِي زَمَنِهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِالْحَالِ؛ لِإِمْكَانِ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا. وَكَذَلِكَ مَنْ مُلِكَتْ وَكَانَ سَيِّدُهَا يَطَؤُهَا وَلَمْ يَسْتَبْرِئْهَا؛ لَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ هَذَا؛ إذْ لَمْ يَكُنْ الْمُسْلِمُونَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا؛ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَحَدٌ أَنْ يَبِيعَ أَمَتَهُ الْحَامِلَ مِنْهُ؛ بَلْ لَا يَبِيعُهَا إذَا وَطِئَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، فَلَا يَحْتَاجُ الْمُشْتَرِي إلَى اسْتِبْرَاءٍ ثَانٍ. وَلِهَذَا لَمْ يَنْهَ عَنْ وَطْءِ الْحَبَالَى مِنْ [السَّادَاتِ] إذَا مُلِكَتْ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ يَقَعُ؛ بَلْ هَذِهِ دَخَلَتْ فِي نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْ يَسْقِيَ الرَّجُلُ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» . وقَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . وَقَالَ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْآيَةِ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَجْرَ هُوَ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُسَمًّى يَرْجِعَانِ إلَيْهِ. " وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ " إنَّمَا تُقَدَّرُ بِالْمُسَمَّى إذَا كَانَ هُنَاكَ مُسَمًّى يَرْجِعَانِ إلَيْهِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ لَمَّا كَانَ السِّلْعَةُ هِيَ أَوْ مِثْلُهَا بِثَمَنٍ مُسَمًّى وَجَبَ ثَمَنُ الْمِثْلِ إذَا أُخِذَتْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَكَمَا قَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةُ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ الْعَبْدُ» فَهُنَاكَ أُقِيمَ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ وَمِثْلَهُ يُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَتُعْرَفُ الْقِيمَةُ الَّتِي هِيَ السِّعْرُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ الْأَجِيرُ وَالصَّانِعُ كَمَا نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِعَلِيٍّ: «أَنْ يُعْطِيَ الْجَازِرَ مِنْ الْبُدْنِ شَيْئًا وَقَالَ: نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا» . فَإِنَّ الذَّبْحَ وَقِسْمَةَ اللَّحْمِ عَلَى الْمُهْدِي؛ فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْجَازِرِ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ، وَهُوَ يَسْتَحِقُّ نَظِيرَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِثْلُهُ إذَا عَمِلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ

الْجِزَارَةَ مَعْرُوفَةٌ، وَلَهَا عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصِّنَاعَاتِ: كَالْحِيَاكَةِ، وَالْخِيَاطَةِ، وَالْبِنَاءِ. وَقَدْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَخِيطُ بِالْأُجْرَةِ عَلَى عَهْدِهِ فَيَسْتَحِقُّ هَذَا الْخَيَّاطُ مَا يَسْتَحِقُّهُ نُظَرَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ أَجِيرُ الْخِدْمَةِ يَسْتَحِقُّ مَا يَسْتَحِقُّهُ نَظِيرُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ النَّاسِ. وَأَمَّا " الْأُمُّ الْمُرْضِعَةُ " فَهِيَ نَظِيرُ سَائِرِ الْأُمَّهَاتِ الْمُرْضِعَاتِ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَلَيْسَ لَهُنَّ عَادَةٌ مُقَدَّرَةٌ إلَّا اعْتِبَارَ حَالِ الرَّضَاعِ بِمَا ذُكِرَ، وَهِيَ إذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْهُ وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ اسْتَحَقَّتْ نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ نَفَقَةٌ عَلَى الْحَمْلِ. وَهَذَا أَظْهَرُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] . وَلِلْعُلَمَاءِ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ نَفَقَةُ زَوْجَةٍ مُعْتَدَّةٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يُوجِبُ النَّفَقَةَ لِلْبَائِنِ كَمَا يُوجِبُهَا لِلرَّجْعِيَّةِ، كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ؛ وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ؛ وَلَكِنْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَيْسَ لِكَوْنِهَا حَامِلًا تَأْثِيرٌ، فَإِنَّهُمْ يُنْفِقُونَ عَلَيْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ؛ سَوَاءٌ كَانَتْ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا نَفَقَةَ زَوْجَةٍ؛ لِأَجْلِ الْحَمْلِ؛ كَأَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَهَذَا قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ نَفَقَةُ زَوْجَةٍ فَقَدْ وَجَبَ لِكَوْنِهَا زَوْجَةً؛ لَا لِأَجْلِ الْوَلَدِ. وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ الْوَلَدِ فَنَفَقَةُ الْوَلَدِ تَجِبُ مَعَ غَيْرِ الزَّوْجَةِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى سَرِيَّتِهِ الْحَامِلِ إذَا أَعْتَقَهَا. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: هَلْ وَجَبَتْ النَّفَقَةُ لِلْحَمْلِ؟ أَوْ لَهَا مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَإِنْ أَرَادُوا لَهَا مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ. أَيْ لِهَذِهِ الْحَامِلِ مِنْ أَجْلِ حَمْلِهَا فَلَا فَرْقَ. وَإِنْ أَرَادُوا - وَهُوَ مُرَادُهُمْ - أَنَّهُ يَجِبُ لَهَا نَفَقَةُ زَوْجَةٍ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ: فَهَذَا تَنَاقُضٌ، فَإِنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَجِبُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَمْلٌ. وَنَفَقَةُ الْحَمْلِ تَجِبُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِلْحَمْلِ؛ وَلَهَا مِنْ أَجْلِ

مسألة المرأة والرجل إذا تحاكما في النفقة والكسوة

الْحَمْلِ؛ لِكَوْنِهَا حَامِلًا بِوَلَدِهِ؛ فَهِيَ نَفَقَةٌ عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ أَبَاهُ، لَا عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا زَوْجَةً. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ؛ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا؛ فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، وَقَالَ هُنَا: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . فَجَعَلَ أَجْرَ الْإِرْضَاعِ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْحَامِلِ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَجْرَ الْإِرْضَاعِ يَجِبُ عَلَى الْأَبِ لِكَوْنِهِ أَبًا، فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْحَامِلِ؛ وَلِأَنَّ نَفَقَةَ الْحَامِلِ وَرِزْقَهَا وَكِسْوَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ؛ وَقَدْ جُعِلَ أَجْرُ الْمُرْضِعَةِ كَذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ قَالَ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] أَيْ وَارِثِ الطِّفْلِ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْأَبِ. وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ وَالرَّضَاعِ مِنْ " بَابِ نَفَقَةِ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ "؛ لَا مِنْ " بَابِ نَفَقَةِ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ ". وَعَلَى هَذَا فَلَوْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةٌ بَلْ كَانَتْ حَامِلًا بِوَطْءِ شُبْهَةٍ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ أَوْ كَانَتْ حَامِلًا مِنْهُ وَقَدْ أَعْتَقَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْحَمْلِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْإِرْضَاعِ؛ وَلَوْ كَانَ الْحَمْلُ لِغَيْرِهِ، كَمَنْ وَطِئَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِنِكَاحٍ أَوْ شُبْهَةٍ أَوْ إرْثٍ فَالْوَلَدُ هُنَا لِسَيِّدِ الْأَمَةِ، فَلَيْسَ عَلَى الْوَاطِئِ شَيْءٌ وَإِنْ كَانَ زَوْجًا، وَلَوْ تَزَوَّجَ عَبْدٌ حُرَّةً فَحَمَلَتْ مِنْهُ فَالنَّسَبُ هَهُنَا لَاحِقٌ؛ لَكِنَّ الْوَلَدَ حُرٌّ؛ وَالْوَلَدُ الْحُرُّ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى أَبِيهِ الْعَبْدِ؛ وَلَا أُجْرَةُ رَضَاعِهِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ مَالٌ يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى وَلَدِهِ، وَسَيِّدُهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي وَلَدِهِ؛ فَإِنَّ وَلَدَهُ: إمَّا حُرٌّ، وَإِمَّا مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِ الْأَمَةِ، نَعَمْ، لَوْ كَانَتْ الْحَامِلُ أَمَةً وَالْوَلَدُ حُرٌّ مِثْلُ الْمَغْرُورِ الَّذِي اشْتَرَى أَمَةً فَظَهَرَ أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِغَيْرِ الْبَائِعِ، أَوْ تَزَوَّجَ حُرَّةً فَظَهَرَ أَنَّهَا أَمَةً؛ فَهُنَا الْوَلَدُ حُرٌّ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً مَمْلُوكَةً لِغَيْرِ الْوَاطِئِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَطِئَ مَنْ يَعْتَقِدُهَا مَمْلُوكَةً لَهُ أَوْ زَوْجَةً حُرَّةً، وَبِهَذَا قَضَتْ الصَّحَابَةُ لِسَيِّدِ الْأَمَةِ بِشِرَاءِ الْوَلَدِ وَهُوَ نَظِيرُهُ فَهُنَا الْآنَ يُنْفِقُ عَلَى الْحَامِلِ كَمَا يُنْفِقُ عَلَى الْمُرْضِعَةِ لَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَة وَالرَّجُل إذَا تَحَاكَمَا فِي النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ] 646 - 27 - مَسْأَلَةٌ: فِي الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ إذَا تَحَاكَمَا فِي النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ؛ هَلْ الْقَوْلُ

قَوْلُهَا؟ أَمْ قَوْلُ الرَّجُلِ؟ وَهَلْ لِلْحَاكِمِ تَقْدِيرُ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ؟ وَالْمَسْئُولُ بَيَانُ حُكْمِ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِدَلَائِلِهِمَا. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُقِيمَةً فِي بَيْتِ زَوْجِهَا مُدَّةً تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ وَتَكْتَسِي كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ؛ ثُمَّ تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ هِيَ: أَنْت مَا أَنْفَقْتَ عَلَيَّ وَلَا كَسَوْتَنِي؛ بَلْ حَصَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِكَ. وَقَالَ هُوَ: بَلْ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ كَانَتْ مِنِّي. فَفِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ. " أَحَدُهُمَا ": الْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يُصْدِقَهَا تَعَلُّمَ صِنَاعَةٍ وَتَتَعَلَّمَهَا ثُمَّ يَتَنَازَعَا فِيمَنْ عَلَّمَهَا، فَيَقُولُ هُوَ: أَنَا عَلَّمْتهَا وَتَقُولُ هِيَ: أَنَا تَعَلَّمْتهَا مِنْ غَيْرِهِ. فَفِيهَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَالصَّحِيحُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يُوَافِقُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ عِنْدَهُ، كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُونَ: وَجَبَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الصِّلَةِ فَتَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَالْجُمْهُورُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ يَقُولُونَ، وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، فَلَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ. وَلَكِنْ إذَا تَنَازَعَا فِي قَبْضِهَا فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدُ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمَقْبُوضِ، كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي قَبْضِ الصَّدَاقِ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ؛ فَإِذَا كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّ الرَّجُلَ يُنْفِقُ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهِ وَيَكْسُوهَا وَادَّعَتْ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يَسُوغُ غَيْرُهُ لِأَوْجُهٍ. " أَحَدُهَا " أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُمْ امْرَأَةٌ قُبِلَ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ مَقْبُولًا فِي ذَلِكَ لَكَانَتْ الْهِمَمُ مُتَوَفِّرَةً عَلَى دَعْوَى النِّسَاءِ، وَذَلِكَ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ. فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَقِرًّا بَيْنَهُمْ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا. " الثَّانِي " أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الرَّجُلِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَكَانَ يَحْتَاجُ إلَى الْإِشْهَادِ عَلَيْهَا كُلَّمَا أَطْعَمَهَا وَكَسَاهَا، وَكَانَ تَرْكُهُ ذَلِكَ تَفْرِيطًا مِنْهُ إذَا تَرَكَ الْإِشْهَادَ عَلَى

الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ مُسْلِمٌ عَلَى عَهْدِ السَّلَفِ. " الثَّالِثُ " أَنَّ الْإِشْهَادَ فِي هَذَا مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ فَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، كَالْإِشْهَادِ عَلَى الْوَطْءِ؛ فَإِنَّهُمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي الْوَطْءِ وَهِيَ ثَيِّبٌ لَمْ يُقْبَلْ مُجَرَّدُ قَوْلِهَا فِي عَدَمِ الْوَطْءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ [قَوْلَ] الرَّجُلِ، أَوْ يُؤْمَرُ بِإِخْرَاجِ الْمَنِيِّ، أَوْ يُجَامِعُهَا فِي مَكَان وَقَرِيبٌ مِنْهُمَا مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْوَطْءِ. عَلَى مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ مِنْ النِّزَاعِ. فَهُنَا دَعْوَاهَا وَافَقَتْ الْأَصْلَ، وَلَمْ تُقْبَلْ لِتَعَذُّرِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَالْإِنْفَاقُ فِي الْبُيُوتِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَلَا يُكَلَّفُ النَّاسُ الْإِشْهَادَ عَلَى إعْطَاءِ النَّفَقَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا بِدْعَةٌ فِي الدِّينِ، وَحَرَجٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاتِّبَاعٌ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. " الرَّابِعُ " أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَنَازِعُونَ: هَلْ يَجِبُ تَمْلِيكُ النَّفَقَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا شَيْئًا؛ بَلْ يُطْعِمَهَا وَيَكْسُوَهُمَا بِالْمَعْرُوفِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ فِي النِّسَاءِ: «لَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» كَمَا فِي الْمَمْلُوكِ " وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ " وَقَالَ: «حَقُّهَا أَنْ تُطْعِمَهَا إذْ طَعِمَتْ، وَتَكْسُوَهَا إذَا اكْتَسَيْتَ» كَمَا قَالَ فِي الْمَمَالِيكِ: «إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ» . هَذِهِ عَادَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ لَا يُعْلَمُ قَطُّ أَنَّ رَجُلًا فَرَضَ لِزَوْجَتِهِ نَفَقَةً؛ بَلْ يُطْعِمُهَا وَيَكْسُوهَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، كَمَا لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْفَاقِ عَلَى رَقِيقِهِ وَبَهَائِمِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ الزَّوْجُ سَيِّدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَقَرَأَ قَوْلَهُ: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25] وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ

النِّكَاحُ رِقٌّ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ مَنْ يُرِقُّ كَرِيمَتَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، وَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ» فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ عَانِيَةٌ عِنْدَ الرَّجُلِ؛ وَالْعَانِي الْأَسِيرُ وَأَنَّ الرَّجُلَ أَخَذَهَا بِأَمَانَةِ اللَّهِ، فَهُوَ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا أَبَاحَ اللَّهُ لِلرَّجُلِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ أَنْ يَضْرِبَهَا، وَإِنَّمَا يُؤَدِّبُ غَيْرَهُ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ؛ فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُؤْتَمَنًا عَلَيْهَا، وَلَهُ عَلَيْهَا وِلَايَةٌ: كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ وَوَلِيَ عَلَيْهِ، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْيَتِيمِ، وَكَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ وَالشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ وَالْمُسَاقِي وَالْمُزَارِعِ فِيمَا أَنْفَقَهُ عَلَى مَالِ الشِّرْكَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ. وَعَقْدُ النِّكَاحِ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ، وَالرَّجُلُ مُؤْتَمَنٌ فِيهِ فَقَبُولُ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ قَبُولِ قَوْلِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَتْ الْمَرْأَةُ نَفَقَتَهَا مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَادَّعَتْ أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهَا نَفَقَةً: قُبِلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ سَلَّطَهَا عَلَى ذَلِكَ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدَ: «خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» لَمَّا قَالَتْ: إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ؛ وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي، فَقَالَ: «خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الزَّوْجُ مُسَافِرًا عَنْهَا مُدَّةً وَهِيَ مُقِيمَةً فِي بَيْتِ أَبِيهَا وَادَّعَتْ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ لَهَا نَفَقَةً، وَلَا أَرْسَلَ إلَيْهَا بِنَفَقَةٍ: فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفْصِيلِ فِي الْمَاضِي مُطْلَقًا فِي هَذَا الْبَابِ. وَهَذِهِ الْمَعَانِي مَنْ تَدَبَّرَهَا تَبَيَّنَ لَهُ سِرُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ قَبُولَ قَوْلِ النِّسَاءِ فِي عَدَمِ النَّفَقَةِ فِي الْمَاضِي فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ وَالْفَسَادِ. مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ. وَهُوَ يُؤَوَّلُ إلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُقِيمُ مَعَ الزَّوْجِ خَمْسِينَ سَنَةً، ثُمَّ تَدَّعِي نَفَقَةَ خَمْسِينَ سَنَةً وَكِسْوَتَهَا، وَتَدَّعِي أَنَّ زَوْجَهَا مَعَ يَسَارِهِ وَفَقْرِهَا لَمْ يُطْعِمْهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ شَيْئًا، وَهَذَا مِمَّا يَتَبَيَّنُ النَّاسُ كَذِبَهَا فِيهِ قَطْعًا؛ وَشَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ مُنَزَّهَةٌ عَنْ أَنْ يُحْكَمَ فِيهَا بِالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ، وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ.

فصل تقدير الحاكم النفقة والكسوة

" الْوَجْهُ الْخَامِسُ " أَنَّ الْأَصْلَ الْمُسْتَقَرَّ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْيَمِينَ مَشْرُوعَةٌ فِي جَنَبَةِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ؛ سَوَاءٌ تُرَجِّحُ ذَلِكَ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ؛ أَوْ الْيَدُ الْحِسِّيَّةُ، أَوْ الْعَادَةُ الْعَمَلِيَّةُ. وَلِهَذَا إذَا تَرَجَّحَ جَانِبُ الْمُدَّعِي كَانَتْ الْيَمِينُ مَشْرُوعَةً فِي حَقِّهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ؛ كَالْأَيْمَانِ فِي الْقَسَامَةِ، وَكَمَا لَوْ أَقَامَ شَاهِدًا عَدْلًا فِي الْأَمْوَالِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُدَّعِي حُجَّةٌ تُرَجِّحُ جَانِبَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فِي الزَّوْجَيْنِ إذَا تَنَازَعَا فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ إيَّاهُ، فَيُحْكَمُ لِلْمَرْأَةِ بِمَتَاعِ النِّسَاءِ وَلِلرَّجُلِ بِمَتَاعِ الرِّجَالِ؛ وَإِنْ كَانَتْ الْيَدُ الْحِسِّيَّةُ مِنْهُمَا ثَابِتَةً عَلَى هَذَا وَهَذَا، لِأَنَّهُ يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَتَصَرَّفُ فِي مَتَاعِ جِنْسِهِ. وَهُنَا الْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِأَنَّ الرَّجُلَ يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَيَكْسُوهَا فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهَا جِهَةٌ تُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى نَفْسِهَا أُجْرِيَ الْأَمْرُ عَلَى الْعَادَةِ. " الْوَجْهُ السَّادِسُ " أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ أَكَلَتْ وَاكْتَسَتْ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الزَّوْجِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ. وَالْأَصْلُ عَدَمُ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ مِنْهُ، كَمَا قُلْنَا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي أَنَّهُ عَلَّمَهَا الصِّنَاعَةَ وَالْقِرَاءَةَ الَّتِي أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَهَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْحَادِثَ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ الْمَعْلُومِ؛ كَمَا لَوْ سَقَطَ فِي الْمَاءِ نَجَاسَةٌ فَرُئِيَ مُتَغَيِّرًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَشُكَّ هَلْ تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ غَيْرِهَا؟ فَأَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ يُضَافُ التَّغَيُّرُ إلَى النَّجَاسَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْتَى عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ فِيمَا إذَا رَمَى الصَّيْدَ وَغَابَ عَنْهُ وَلَمْ يَجِدْ فِيهِ أَثَرًا غَيْرَ سَهْمِهِ أَنَّهُ يَأْكُلُهُ» ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ سَبَبٍ آخَرَ زَهَقَتْ بِهِ نَفْسُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَرَدَّى فِي مَاءٍ، أَوْ خَالَطَ كَلْبَهُ كِلَابٌ أُخْرَى، فَإِنَّ تِلْكَ الْأَسْبَابَ شَارَكَتْ فِي الزَّهُوقِ. وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ غَيْرُ هَذَا. [فَصَلِّ تَقْدِيرُ الْحَاكِمِ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ] فَصْلٌ وَأَمَّا تَقْدِيرُ الْحَاكِمِ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ، فَهَذَا يَكُونُ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِيهَا كَمَا يُقَدِّرُ مَهْرَ الْمِثْلِ إذَا تَنَازَعَا فِيهِ، وَكَمَا يُقَدِّرُ مِقْدَارَ الْوَطْءِ إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ يَضْرِبُهَا، فَإِنَّ الْحُقُوقَ الَّتِي لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُهَا إلَّا بِالْمَعْرُوفِ مَتَى تَنَازَعَ فِيهَا الْخَصْمَانِ قَدَّرَهَا وَلِيُّ

الْأَمْرِ وَأَمَّا الرَّجُلُ إذَا كَانَ يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ مِثْلِهِ لِمِثْلِهَا: فَهَذَا يَكْفِي، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيرِ الْحَاكِمِ. وَلَوْ طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا نَفَقَةً يُسَلِّمُهَا إلَيْهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا بِالْمَعْرُوفِ فَالصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّهُ لَا يُفْرَضُ لَهَا نَفَقَةٌ، وَلَا يَجِبُ تَمْلِيكُهَا ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْعَدْلِ. وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مَرْجِعُهَا إلَى الْعُرْفِ، وَلَيْسَتْ مُقَدَّرَةً بِالشَّرْعِ؛ بَلْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْبِلَادِ وَالْأَزْمِنَةِ وَحَالُ الزَّوْجَيْنِ وَعَادَتُهُمَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» وَقَالَ: «لَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» .

كتاب الحدود

[كِتَابُ الْحُدُودِ] [الْجِنَايَاتُ] [مَسْأَلَةٌ حُكْم قَتْلِ الْمُتَعَمِّدِ] ِ الْجِنَايَاتُ 647 - 1 مَسْأَلَةٌ: فِي حُكْمِ قَتْلِ الْمُتَعَمِّدِ؟ وَمَا هُوَ: هَلْ إنْ قَتَلَهُ عَلَى مَالٍ؟ أَوْ حِقْدٍ؟ أَوْ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ قَتْلُ الْمُتَعَمِّدِ؟ وَقَالَ قَائِلٌ: إنْ كَانَ قَتَلَ عَلَى مَالٍ فَمَا هُوَ هَذَا، أَوْ عَلَى حِقْدٍ؛ أَوْ عَلَى دِينٍ: فَمَا هُوَ مُتَعَمِّدٌ. فَقَالَ الْقَائِلُ: فَالْمُتَعَمِّدُ؟ قَالَ: إذَا قَتَلَهُ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَمَّا إذَا قَتَلَهُ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ: مِثْلُ مَا يُقَاتِلُ النَّصْرَانِيُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى دِينِهِمْ: فَهَذَا كَافِرٌ شَرٌّ مِنْ الْكَافِرِ الْمُعَاهِدِ، فَإِنَّ هَذَا كَافِرٌ مُحَارِبٌ بِمَنْزِلَةِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ وَهَؤُلَاءِ مُخَلَّدُونَ فِي جَهَنَّمَ، كَتَخْلِيدِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ. وَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ قَتْلًا مُحَرَّمًا، لِعَدَاوَةٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ خُصُومَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ؛ وَلَا يَكْفُرُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَإِنَّمَا يُكَفِّرُ بِمِثْلِ هَذَا الْخَوَارِجُ؛ وَلَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِتَخْلِيدِ فُسَّاقِ الْمِلَّةِ. وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] . وَجَوَابُهُمْ: عَلَى أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ لِقَتْلِهِ عَلَى إيمَانِهِ. وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَمْ يَحْمِلُوهَا عَلَى هَذَا؛ بَلْ قَالُوا: هَذَا وَعِيدٌ مُطْلَقٌ قَدْ فَسَّرَهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وَفِي ذَلِكَ حِكَايَةٌ عَنْ بَعْضِ

أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ كَانَ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالَ عَمْرٌو: يُؤْتَى بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لِي: يَا عَمْرُو مِنْ أَيْنَ قُلْتَ: إنِّي لَا أَغْفِرُ لِقَاتِلٍ؟ فَأَقُولُ أَنْتَ يَا رَبِّ قُلْتَ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] . قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: فَإِنْ قَالَ لَكَ: فَإِنِّي قُلْتَ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . فَمِنْ أَيْنَ عَلِمْت أَنِّي لَا أَشَاءُ أَنْ أَغْفِرَ لِهَذَا؟ فَسَكَتَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، 648 - 2 سُئِلَ عَنْ الْقَاتِلِ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً: هَلْ تُدْفَعُ الْكَفَّارَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] ؟ أَوْ يُطَالَبُ بِدِيَةِ الْقَاتِلِ؟ الْجَوَابُ: قَتْلُ الْخَطَأِ: لَا يَجِبُ فِيهِ إلَّا الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ، وَلَا إثْمَ فِيهِ. وَأَمَّا الْقَاتِلُ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْإِثْمُ، فَإِذَا عَفَى عَنْهُ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، أَوْ أَخَذُوا الدِّيَةَ: لَمْ يَسْقُطْ بِذَلِكَ حَقُّ الْمَقْتُولِ فِي الْآخِرَةِ. وَإِذَا قَتَلُوهُ فَفِيهِ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ لَا يَسْقُطَ؛ لَكِنَّ الْقَاتِلَ إذَا كَثُرَتْ حَسَنَاتُهُ أُخِذَ مِنْهُ بَعْضُهَا مَا يُرْضِي بِهِ الْمَقْتُولَ، أَوْ يُعَوِّضُهُ اللَّهُ مِنْ عِنْدِهِ إذَا تَابَ الْقَاتِلُ تَوْبَةً نَصُوحًا. وَقَاتِلُ الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، وَالدِّيَةُ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ وَالْمُعَاهَدِ كَمَا قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ؛ وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ مُتَقَدِّمٌ؛ لَكِنَّ بَعْضَ مُتَأَخِّرِي الظَّاهِرِيَّةِ زَعَمَ أَنَّهُ الَّذِي لَا دِيَةَ لَهُ. وَأَمَّا " الْقَاتِلُ عَمْدًا " فَفِيهِ الْقَوَدُ، فَإِنْ اصْطَلَحُوا عَلَى الدِّيَةِ جَازَ ذَلِكَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، فَكَانَتْ الدِّيَةُ مِنْ مَالِ الْقَاتِلِ؛ بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَإِنَّ دِيَتَهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَأَمَّا " الْكَفَّارَةُ " فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: قَتْلُ الْعَمْدِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفَّرَ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ. هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، كَمَا اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ الزِّنَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفَّرَ؛ فَإِنَّمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِوَطْءِ الْمُظَاهِرِ، وَالْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: بَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْعَمْدِ، وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِثْمَ لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ الْكَفَّارَةِ.

مسألة جماعة اشتركوا في قتل رجل وله ورثة صغار وكبار

[مَسْأَلَةٌ جَمَاعَة اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ رَجُلٍ وَلَهُ وَرَثَةٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ] مَسْأَلَةٌ: فِي جَمَاعَةٍ اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ رَجُلٍ، وَلَهُ وَرَثَةٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ: فَهَلْ لِأَوْلَادِهِ الْكِبَارِ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ؛ أَمْ لَا؟ وَإِذَا وَافَقَ وَلِيُّ الصِّغَارِ - الْحَاكِمُ أَوْ غَيْرُهُ - عَلَى الْقَتْلِ مَعَ الْكِبَارِ: فَهَلْ يَقْتُلُونَ، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِهِ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى جَمِيعِهِمْ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَقْتُلُوا، وَلَهُمْ أَنْ يَعْفُوا. فَإِذَا اتَّفَقَ الْكِبَارُ مِنْ الْوَرَثَةِ عَلَى قَتْلِهِمْ فَلَهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، [وَأَحْمَدَ] فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. [وَكَذَا إذَا وَافَقَ وَلِيُّ الصِّغَارِ الْحَاكِمُ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى الْقَتْلِ مَعَ الْكِبَارِ فَيَقْتُلُونَ] . [مَسْأَلَةٌ الْقَاتِلُ عَمْدًا إذَا اُقْتُصَّ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا] 650 - 4 - مَسْأَلَةٌ: فِي عَنْ الْإِنْسَانِ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا أَوْ خَطَأً، وَأَخَذَ مِنْهُ الْقِصَاصَ فِي الدُّنْيَا أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ وَالسُّلْطَانُ: فَهَلْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْآخِرَةِ، أَمْ لَا؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَمَّا الْقَاتِلُ خَطَأً فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ قِصَاصٌ؛ لَا فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْآخِرَةِ؛ لَكِنَّ الْوَاجِبَ فِي ذَلِكَ الْكَفَّارَةُ، وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِ الْقَتِيلِ، إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا. وَأَمَّا " الْقَاتِلُ عَمْدًا " إذَا اُقْتُصَّ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا: فَهَلْ لِلْمَقْتُولِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فِي الْآخِرَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَكَذَلِكَ غَيْرِهِ فِيمَا أَظُنُّ مَنْ يَقُولُ: لَا حَقَّ لَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ عَلَيْهِ حَقٌّ؛ فَإِنَّ حَقَّهُ لَمْ يَسْقُطْ بِقَتْلِ الْوَرَثَةِ، كَمَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ اللَّهِ بِذَلِكَ؛ وَكَمَا لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَظْلُومِ الَّذِي غُصِبَ مَالُهُ وَأُعِيدَ إلَى وَرَثَتِهِ؛ بَلْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الظَّالِمَ بِمَا حَرَمَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي حَيَاتِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة قتل رجلا عمدا وزوجة المقتول حامل

[مَسْأَلَةٌ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا وَزَوْجَةُ الْمَقْتُولِ حَامِلٌ] مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا؛ وَلِلْمَقْتُولِ بِنْتٌ عُمُرُهَا خَمْسُ سِنِينَ، وَزَوْجَتُهُ حَامِلٌ مِنْهُ، وَأَبْنَاءُ عَمٍّ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ قَبْلَ بُلُوغِ الْبِنْتِ وَوَضْعِ الْحَمْلِ؛ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَيْسَ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ أَنْ يَقْتَصُّوا مِنْهُ؛ إلَّا عِنْدَ مَالِكٍ، فَإِنَّ عِنْدَهُ لِلْعَصَبَةِ أَنْ يَقْتَصُّوا مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ. أَمَّا إنْ وَضَعَتْ بِنْتًا أَوْ بِنْتَيْنِ بِحَيْثُ يَكُونُ لِابْنَيْ الْعَمِّ نَصِيبٌ مِنْ التَّرِكَةِ: كَانَ لِلْعَصَبَةِ أَنْ يَقْتَصُّوا قَبْلَ بُلُوغِ الْبَنَاتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ؛ وَلَمْ يَجُزْ لَهُنَّ الْقِصَاصُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ؛ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَهَلْ لِوَلِيِّ الْبَنَاتِ كَالْحَاكِمِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُنَّ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَالصُّلْحِ عَلَى مَالٍ؟ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. " إحْدَاهُمَا " وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ جَوَازُ ذَلِكَ. " وَالثَّانِيَةُ " لَا يَجُوزُ الْقِصَاصُ؛ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ؛ لَكِنْ إذَا كَانَتْ الْبَنَاتُ مَحَاوِيجَ هَلْ لِوَلِيِّهِنَّ الْمُصَالَحَةُ عَلَى مَالٍ لَهُنَّ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. [مَسْأَلَةٌ قَتَلَهُ جَمَاعَةٌ وَكَانَ اثْنَانِ حَاضِرَانِ قَتْلَهُ] 652 - 6 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَتَلَهُ جَمَاعَةٌ وَكَانَ اثْنَانِ حَاضِرَانِ قَتْلَهُ، وَاتَّفَقَ الْجَمَاعَةُ عَلَى قَتْلِهِ، وَقَاضِي النَّاحِيَةِ عَايَنَ الضَّرْبَ فِيهِ وَنُوَّابُ الْوِلَايَةِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ضَرَبَهُ حَتَّى مَاتَ وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّ لِأَوْلِيَاءِ الدَّمِ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ كُلَّهُمْ، وَلَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا بَعْضَهُمْ. وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ عَيْنُ الْقَاتِلِ فَلِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ قَتَلَهُ وَيُحْكَمُ لَهُمْ بِالدَّمِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ مَعْصُومٍ بِحَيْثُ إنَّ جَمِيعَهُمْ بَاشَرُوا قَتْلَهُ] 653 - 7 - مَسْأَلَةٌ: فِي جَمَاعَةٍ اجْتَمَعُوا وَتَحَالَفُوا عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَقَدْ أَخَذُوا مَعَهُمْ جَمَاعَةً أُخْرَى مَا حَضَرُوا تَحْلِيفَهُمْ، وَتَقَدَّمُوا إلَى الشَّخْصِ وَضَرَبُوهُ بِالسَّيْفِ،

مسألة فيمن اتفق على قتله أولاده وجواره ورجل أجنبي

وَالدَّبَابِيسِ؛ وَرَمَوْهُ فِي الْبَحْرِ: فَهَلْ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمْ جَمِيعِهِمْ، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ مَعْصُومٍ بِحَيْثُ إنَّهُمْ جَمِيعَهُمْ بَاشَرُوا قَتْلَهُ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَيْهِمْ جَمِيعِهِمْ؛ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ بَاشَرَ وَبَعْضُهُمْ قَائِمٌ يَحْرُسُ الْمُبَاشِرَ، وَيُعَاوِنُهُ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ الْقَوَدُ إلَّا عَلَى الْمُبَاشِرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، بِحَيْثُ إنَّهُ لَا بُدَّ فِي فِعْلِ كُلِّ شَخْصٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلزُّهُوقِ. وَالثَّانِي: يَجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ؛ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَإِنْ قَتَلَهُ لِغَرَضٍ خَاصٍّ: مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ، أَوْ خُصُومَةٌ، أَوْ يَكْرَهُونَهُ عَلَى فِعْلٍ لَا يُبِيحُ قَتْلَهُ: فَهُنَا الْقَوَدُ لِوَارِثِهِ: إنْ شَاءَ قَتَلَ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ. وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ فَلِمَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّهُ، وَالْحَاكِمُ نَائِبُهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي لَا حَتَّى يَبْلُغَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ اتَّفَقَ عَلَى قَتْلِهِ أَوْلَادُهُ وَجِوَارُهُ وَرَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ] 654 - 8 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ اتَّفَقَ عَلَى قَتْلِهِ أَوْلَادُهُ، وَجِوَارُهُ، وَرَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ: فَمَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِهِ جَازَ قَتْلُهُمْ جَمِيعِهِمْ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ لِلْمُشَارِكِينَ فِي قَتْلِهِ؛ بَلْ لِغَيْرِهِمْ مِنْ وَرَثَتِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ كَانُوا هُمْ أَوْلِيَاءَهُ؛ وَكَانُوا أَيْضًا هُمْ الْوَارِثِينَ لِمَالِهِ؛ فَإِنَّ الْقَاتِلَ لَا يَرِثُ الْمَقْتُولَ. وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ حَقٌّ لَا فِي دَمِهِ، وَلَا فِي مَالِهِ؛ بَلْ الْإِخْوَةُ لَهُمْ الْخِيَارُ: إنْ شَاءُوا قَتَلُوا جَمِيعَ الْمُشْتَرِكِينَ فِي قَتْلِهِ الْبَالِغَ مِنْهُمْ، وَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا بَعْضَهُمْ. وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَأَمَّا الْمُبَاشِرُونَ لِقَتْلِهِ فَيَجُوزُ قَتْلُهُمْ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَأَمَّا الَّذِينَ أَعَانُوا بِمِثْلِ إدْخَالِ الرَّجُلِ إلَى الْبَيْتِ، وَحِفْظِ الْأَبْوَابِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ:

مسألة تضاربا وتخانقا فوقع أحدهما فمات

فَفِي قَتْلِهِمْ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَيَجُوزُ قَتْلُهُمْ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَالْمُمْسِكُ يُقْتَلُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا مِيرَاثَ لَهُمَا. وَإِنْ كَانَ الصِّغَارُ مِنْ أَوْلَادِهِ أَعَانُوا أَيْضًا عَلَى قَتْلِهِ لَمْ يَكُنْ دَمُهُ إلَيْهِمْ، وَلَا إلَى وَلِيِّهِمْ؛ بَلْ إلَى الْإِخْوَةِ. وَأَمَّا مِيرَاثُهُمْ مِنْ مَالِهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ مِنْ مَالِهِ، وَالصِّغَارُ يُعَاقَبُونَ بِالتَّأْدِيبِ وَلَا يُقْتَلُونَ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ: الصِّغَارُ يَرِثُونَ مِنْ مَالِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَضَارَبَا وَتَخَانَقَا فَوَقَعَ أَحَدُهُمَا فَمَاتَ] 655 - 9 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلَيْنِ تَضَارَبَا وَتَخَانَقَا، فَوَقَعَ أَحَدُهُمَا فَمَاتَ: فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. إذَا خَنَقَهُ الْخَنْقَ الَّذِي يَمُوتُ بِهِ الْمَرْءُ غَالِبًا وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَوْ ادَّعَى أَنَّ هَذَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ. فَأَمَّا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ غُشِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْخَنْقِ، وَرَفَسَهُ الْآخَرُ بِرِجْلِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ فَمِهِ شَيْءٌ فَمَاتَ: فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ بِلَا رَيْبٍ، فَإِنَّ هَذَا قَاتِلٌ نَفْسًا عَمْدًا؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ يُكَافِئُهُ بِأَنْ يَكُونَ حُرًّا مُسْلِمًا، فَيُسَلَّمُ إلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ إنْ شَاءُوا أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ. [مَسْأَلَةٌ تَخَاصَمَا وَتَقَابَضَا فَقَامَ وَاحِد وَنَطَحَ الْآخِر فِي أَنْفِهِ فَجَرَى دَمُهُ] 656 - 10 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلَيْنِ تَخَاصَمَا وَتَقَابَضَا فَقَامَ وَاحِدٌ وَنَطَحَ الْآخَرَ فِي أَنْفِهِ، فَجَرَى دَمُهُ، فَقَامَ الَّذِي جَرَى دَمُهُ خَنَقَهُ وَرَفَسَهُ بِرِجْلِهِ فِي مَخَاصِيهِ فَوَقَعَ مَيِّتًا؟ الْجَوَابُ: يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْخَانِقِ الَّذِي رَفَسَ الْآخَرَ فِي أُنْثَيَيْهِ؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ قَدْ يَقْتُلُ غَالِبًا؛ فَإِنَّ مَوْتَهُ بِهَذَا الْفِعْلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ بِهِ مَا يَقْتُلُ غَالِبًا؛ وَالْفِعْلُ الَّذِي يَقْتُلُ غَالِبًا يَجِبُ بِهِ الْقَوَدُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ: مِثْلُ مَا لَوْ ضَرَبَهُ فِي أُنْثَيَيْهِ حَتَّى مَاتَ فَيَجِبُ الْقَوَدُ، وَلَوْ خَنَقَهُ حَتَّى مَاتَ وَجَبَ

مسألة ضرب رجلا ضربة فمكث زمانا ثم مات

الْقَوَدُ، فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَا؟ ، وَوَلِيُّ الْمَقْتُولِ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ قَتَلَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ؛ وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْقَاتِلِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ وَلَا لِبَيْتِ الْمَالِ؛ وَإِنَّمَا الْحَقُّ فِي ذَلِكَ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ. [مَسْأَلَةٌ ضَرَبَ رَجُلًا ضَرْبَةً فَمَكَثَ زَمَانًا ثُمَّ مَاتَ] 657 - 11 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا ضَرْبَةً فَمَكَثَ زَمَانًا ثُمَّ مَاتَ، وَالْمُدَّةُ الَّتِي مَكَثَ فِيهَا كَانَ ضَعِيفًا مِنْ الضَّرْبَةِ: مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. إذَا ضَرَبَهُ عُدْوَانًا فَهَذَا شِبْهُ عَمْدٍ فِيهِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ، وَلَا قَوَدَ فِيهِ، وَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مَوْتُهُ مِنْ الضَّرْبَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ يَهُودِيّ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ] 658 - 12 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ يَهُودِيٍّ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ: فَهَلْ يُقْتَلُ بِهِ؟ أَوْ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ الذِّمِّيِّ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» . وَلَكِنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ. فَقِيلَ: الدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَقِيلَ: ثُلُثُ دِيَتِهِ. وَقِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فَيَجِبُ فِي الْعَمْدِ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّ مُسْلِمًا قَتَلَ ذِمِّيًّا فَغَلَّظَ عَلَيْهِ. وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ كَمَالَ الدِّيَةِ. وَفِي الْخَطَأِ نِصْفُ الدِّيَةِ. فَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ جَعَلَ دِيَةَ الذِّمِّيِّ نِصْفَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ» . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ تَجِبُ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ أَيْضًا، وَهِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ.

مَسْأَلَةٌ: فِي طَائِفَةٍ تُسَمَّى " الْعَشِيرَةِ قَيْسٌ وَيَمَنٌ " يَكْثُرُ الْقَتْلُ بَيْنَهُمْ، وَلَا يُبَالُونَ بِهِ وَإِذَا طُلِبَ مِنْهُمْ الْقَاتِلُ أَحْضَرُوا شَخْصًا غَيْرَ الْقَاتِلِ يَتَّفِقُونَ مَعَهُ عَلَى أَنْ يَعْتَرِفَ بِالْقَتْلِ عِنْدَ وَلِيِّ الْأَمْرِ، فَإِذَا اعْتَرَفَ جَهَّزُوا إلَى الْمُتَوَلِّي مِنْ يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ قَرَابَةِ الْمَقْتُولِ، وَيَقُولُ: أَنَا قَدْ أَبَرَيْت هَذَا الْقَاتِلَ مِمَّا اسْتَحَقَّهُ عَلَيْهِ، وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَإِقَامَةِ الْفِتَنِ، فَإِذَا رَأَى وَلِيُّ الْأَمْرِ وَضْعَ دِيَةِ الْمَقْتُولِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ مِنْ الطَّوَائِفِ الَّذِينَ أَثْبَتَ أَسْمَاءَهُمْ فِي الدِّيوَانِ عَلَى جَمِيعِ الطَّوَائِفِ مِنْهُمْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ أَوْ رَأَى وَضْعَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ مَحَلَّةِ الْقَاتِلِ، كَمَا نُقِلَ [عَنْ] بَعْضِ الْأَئِمَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؟ أَوْ رَأَى تَعْزِيرَ هَؤُلَاءِ الْعَشِيرِ عِنْدَ إظْهَارِهِمْ الْفِتَنَ وَسَفْكَ الدِّمَاءِ وَالْفَسَادَ بِوَضْعِ مَالٍ عَلَيْهِمْ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ، لِيَكُفَّ نُفُوسِهِمْ الْعَادِيَةَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ: فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ، أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. الْجَوَابُ: أَيَّدَهُ اللَّهُ. الْحَمْدُ لِلَّهِ: أَمَّا إذَا عُرِفَ الْقَاتِلُ فَلَا تُوضَعُ الدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ مَكَانِ الْمَقْتُولِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ لَا بِبَيِّنَةٍ وَلَا إقْرَارٍ: فَفِي مِثْلِ هَذَا تُشْرَعُ الْقَسَامَةُ. فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ حَلَفَ الْمُدَّعُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِصَّةِ الْقَتِيلِ الَّذِي وُجِدَ بِخَيْبَرَ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفُوا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ أَوَّلًا؛ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ هِيَ فِي جَنْبِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ. فَأَمَّا إذَا عُرِفَ الْقَاتِلُ فَإِنْ كَانَ قَتَلَهُ لِأَخْذِ مَالِ فَهُوَ مُحَارِبٌ يَقْتُلُهُ الْإِمَامُ حَدًّا وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ؛ لَا أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، وَلَا غَيْرِهِمْ. وَإِنْ قَتَلَ لِأَمْرٍ خَاصٍّ فَهَذَا أَمْرُهُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، فَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا عَنْهُ. وَلِلْإِمَامِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنْ يَجْلِدَهُ مِائَةً، وَيَحْبِسَهُ سَنَةً. فَهَذَا التَّعْزِيرُ يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ. وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ قَدْ رَضُوا بِقَتْلِ صَاحِبِهِمْ فَلَا أَرْغَمَ اللَّهُ إلَّا بِآنَافِهِمْ. وَإِذَا قِيلَ: تُوضَعُ الدِّيَةُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ عَلَى أَهْلِ الْمَكَانِ مَعَ الْقَسَامَةِ فِي الدِّيَةِ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ؛ لَا لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ: إنَّ دِيَةَ الْمَقْتُولِ لِبَيْتِ الْمَالِ. وَكَذَلِكَ لَا تُوضَعُ الدِّيَةُ بِدُونِ قَسَامَةٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَهَؤُلَاءِ الْمَعْرُوفُونَ بِالْفِتَنِ وَالْفَسَادِ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُمْسِكَ مِنْهُمْ مَنْ عُرِفَ بِذَلِكَ

مسألة فيمن قال أنا ضاربه والله قاتله

فَيَحْبِسَهُ؛ وَلَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى أَرْضٍ أُخْرَى لِيَكُفَّ بِذَلِكَ شَرَّهُ وَعُدْوَانَهُ. فَفِي الْعُقُوبَاتِ الْجَارِيَةِ عَلَى سُنَنِ الْعَدْلِ وَالشَّرْعِ مَا يَعْصِمُ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ، وَيُغْنِي وُلَاةَ الْأُمُورِ عَنْ وَضْعِ جِبَايَاتٍ تُفْسِدُ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ. وَمَنْ اُتُّهِمَ بِقَتْلٍ وَكَانَ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ فَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُعَاقِبَهُ تَعْزِيرًا عَلَى فُجُورِهِ، وَتَعْزِيرًا لَهُ، وَبِهَذَا وَأَمْثَالِهِ يَحْصُلُ مَقْصُودُ السِّيَاسَةِ الْعَادِلَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ قَالَ أَنَا ضَارِبُهُ وَاَللَّهُ قَاتِلُهُ] 660 - 14 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ قَالَ: أَنَا ضَارِبُهُ، وَاَللَّهُ قَاتِلُهُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذَا يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ؛ وَاَللَّهُ قَاتِلُهُ. إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ قَابِضٌ رُوحَهُ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُمِيتُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَهُوَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَهَذَا لَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ مُوجِبُ الْقَتْلِ بِذَلِكَ؛ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ. 661 - 15 - سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ رَاكِبٍ فَرَسٍ، مَرَّ بِهِ دَبَّابٌ وَمَعَهُ دُبٌّ، فَجَفَلَ الْفَرَسُ وَرَمَى رَاكِبَهُ، ثُمَّ هَرَبَ وَرَمَى رَجُلًا فَمَاتَ؟ الْجَوَابُ: لَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْفَرَسِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، لَكِنَّ الدَّبَّابَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 662 - 16 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أُخِذَ لَهُ مَالٌ فَاتَّهَمَ بِهِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ ذُكِرَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فَضَرَبَهُ عَلَى تَقْرِيرِهِ فَأَقَرَّ، ثُمَّ أَنْكَرَ. فَضَرَبَهُ حَتَّى مَاتَ: فَمَا عَلَيْهِ؟ وَلَمْ يَضْرِبْهُ إلَّا لِأَجْلِ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِذَلِكَ. الْجَوَابُ: عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً كَفَّارَةً، وَتَجِبُ دِيَةُ هَذَا الْمَقْتُولِ؛ إلَّا أَنْ يُصَالِحَ وَرَثَتُهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ قَدْ فَعَلَ بِهِ فِعْلًا يَقْتُلُ غَالِبًا بِلَا حَقٍّ وَلَا شُبْهَةٍ لَوَجَبَ الْقَوَدُ، وَلَوْ كَانَ بِحَقٍّ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة قال المضروب ما قاتلي إلا فلان

مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ جُنْدِيٍّ وَلَهُ أَقْطَاعٌ فِي بَلَدِ الرِّيعِ، وَقَالَ: فِي الْبَلَدِ قَتِيلٌ، فَقَالُوا: إنَّ الْفَلَّاحَ النَّصْرَانِيَّ الَّذِي هُوَ مِنْ الرِّيعِ هُوَ الْقَاتِلُ فَطُلِبَ الْقَاتِلُ إلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ فَلَمْ يُوجَدْ؛ وَمَسَكُوا أَخَا النَّصْرَانِيِّ الْمَتْهُومَ وَهُوَ فِي السِّجْنِ، وَمَعَ ذَلِكَ يُتَطَلَّبُونَ الْجُنْدِيَّ بِإِحْضَارِ النَّصْرَانِيِّ وَلَمْ يَكُنْ ضَامِنًا؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَ الْجُنْدِيُّ لَا يَعْلَمُ حَالَ الْمُتَّهَمِ وَلَا هُوَ ضَامِنٌ لَهُ لَمْ تَجُزْ مُطَالَبَتُهُ لَكِنْ إذَا كَانَ مَطْلُوبًا بِحَقٍّ وَهُوَ يَعْرِفُ مَكَانَهُ دَلَّ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَكَانَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. 664 - 18 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ عَثَرَ عَلَى سَبْعَةِ أَنْفُسٍ، فَحَصَلَ بَيْنَهُمْ خُصُومَةٌ؛ فَقَامُوا بِأَجْمَعِهِمْ ضَرَبُوهُ بِحَضْرَةِ رَجُلَيْنِ لَا يَقْرَبَا لِهَؤُلَاءِ وَلَا لِهَؤُلَاءِ؛ وَعَايَنَاهُ إلَى أَنْ مَاتَ مِنْ ضَرْبِهِمْ، فَمَا يَلْزَمُ السَّبْعَةَ الَّذِينَ يُسَاعِدُونَ عَلَى قَتْلِهِ؟ الْجَوَابُ: إذَا شَهِدَ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ شَاهِدَانِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَدَالَتُهُمَا: فَهَذَا لَوْثٌ إذَا حَلَفَ مَعَهُ الْمُدَّعُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا - أَيْمَانُ الْقَسَامَةِ - عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ حُكِمَ لَهُمْ بِالدَّمِ؛ وَإِنْ أَقْسَمُوا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فَفِي الْقَوَدِ نِزَاعٌ. وَأَمَّا إنْ ادَّعَوْا أَنَّ الْقَتْلَ كَانَ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ مِثْلُ أَنْ يَضْرِبُوهُ بِعَصًا ضَرْبًا لَا يَقْتُلُ مِثْلَهُ غَالِبًا: فَهُنَا إذَا ادَّعَوْا عَلَى الْجَمَاعَةِ أَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي ذَلِكَ فَدَعْوَاهُمْ مَقْبُولَةٌ وَيَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ الْمَضْرُوبُ مَا قَاتِلِي إلَّا فُلَانٌ] 665 - 19 - مَسْأَلَةٌ: عَمَّا إذَا قَالَ الْمَضْرُوبُ: مَا قَاتِلِي إلَّا فُلَانٌ: فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَا يُؤْخَذُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ بِلَا نِزَاعٍ؛ وَلَكِنْ هَلْ يَكُونُ قَوْلُهُ لَوْثًا يَحْلِفُ مَعَهُ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّونَ دَمَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ؟

مسألة واعد آخر على قتل مسلم بمال معين

عَلَى قَوْلَيْنِ مَذْكُورَيْنِ، لِلْعُلَمَاءِ: " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ لَيْسَ بِلَوْثٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ. " وَالثَّانِي "، أَنَّهُ لَوْثٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ 666 - 20 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلَيْنِ شَرِبَا؛ وَكَانَ مَعَهُمَا رَجُلٌ آخَرُ، فَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَرْجِعُوا إلَى بُيُوتِهِمْ تَكَلَّمَا فَضَرَبَ وَاحِدٌ صَاحِبَهُ ضَرْبَةً بِالدَّبُّوسِ، فَوَقَعَ عَنْ فَرَسِهِ، فَوَقَفَ عِنْدَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي مَعَهُمَا حَتَّى رَكِبَ فَرَسَهُ وَجَاءَ مَعَهُ إلَى مَنْزِلِهِ؛ وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَهُ؛ فَوَقَعَ عَنْ فَرَسِهِ ثَانِيَةً، ثُمَّ أَنَّهُ أَصْبَحَ مَيِّتًا، فَسَأَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَيِّتِ ذَلِكَ الرَّجُلَ خُفْيَةً؛ وَلَمْ يُعْلِمْهُ بِمَوْتِهِ، فَذَكَرَ لَهُ قَضِيَّتَهُمَا، فَشَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِأَنَّ فُلَانًا ضَرَبَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ الشُّهُودُ مِنْ الْمَيِّتِ؛ وَأَنَّ الْمَتْهُومَ لَمْ يُظْهِرْ نَفْسَهُ خَوْفَ الْعُقُوبَةِ؛ لِكَيْ لَا يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ، وَلِلْمَيِّتِ بِنْتٌ تُوضَعُ، وَإِخْوَةٌ؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ الَّذِي شَرِبَ الْخَمْرَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ فَهَذَا إذَا قَتَلَ فَهُوَ قَاتِلٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ وَعُقُوبَةُ قَاتِلِ النَّفْسِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ قَدْ سَكِرَ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ وَقَتَلَ: فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَيُسَلَّمُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ لِيَقْتُلُوهُ إنْ شَاءُوا؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ؛ لَكِنْ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ يُوجِبُونَ عَلَيْهِ الْقَوَدَ؛ كَمَا يُوجِبُونَهُ عَلَى الصَّاحِي، فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِالْقَتْلِ إلَّا وَاحِدٌ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ إلَّا أَنْ يَحْلِفَ مَعَ ذَلِكَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ خَمْسِينَ يَمِينًا؛ وَهَذَا إذَا مَاتَ بِضَرْبِهِ، وَكَانَ ضَرَبَهُ عُدْوَانًا مَحْضًا، فَأَمَّا إنْ مَاتَ مَعَ ضَرْبِ الْآخَرِ: فَفِي الْقَوَدِ نِزَاعٌ، وَكَذَلِكَ إنْ ضَرَبَهُ دَفْعًا لِعُدْوَانِهِ عَلَيْهِ، أَوْ ضَرَبَهُ مِثْلَ مَا ضَرَبَهُ، سَوَاءٌ مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ أَوْ غَيْرِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ وَاعَدَ آخَرَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِمَالٍ مُعَيَّنٍ] 667 - 21 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ وَاعَدَ آخَرَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِمَالٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ قَتَلَهُ، فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ؟ فَأَجَابَ: نَعَمْ إذَا قَتَلَهُ الْمَوْعُودُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَجَبَ الْقَوَدُ، وَأَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ

القاتل ولده عمدا لمن ديته

بِالْخِيَارِ: إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ، وَإِنْ أَحَبُّوا عَفَوْا وَأَمَّا الْوَاعِدُ فَيَجِبُ أَنْ يُعَاقَبَ عُقُوبَةً تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ هَذَا. وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ. [الْقَاتِل وَلَدَهُ عَمْدًا لِمَنْ دِيَتُهُ] 668 - 22 سُئِلَ عَنْ الْقَاتِلِ وَلَدَهُ عَمْدًا لِمَنْ دِيَتُهُ؟ الْجَوَابُ: وَأَمَّا الْوَارِثُ كَالْأَبِ وَغَيْرِهِ إذَا قَتَلَ مُوَرِّثَهُ عَمْدًا فَإِنَّهُ لَا يَرِثُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ؛ وَلَا دِيَتَهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ بَلْ تَكُونُ دِيَتُهُ كَسَائِرِ مَالِهِ يُحْرَمُهَا الْقَاتِلُ أَبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَيَرِثُهَا سَائِرُ الْوَرَثَةِ غَيْرُ الْقَاتِلِ. 669 - 23 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَخَاصَمَ مَعَ شَخْصٍ، فَرَاحَ إلَى بَيْتِهِ، فَحَصَلَ لَهُ ضَعْفٌ، فَلَمَّا قَارَبَ الْوَفَاةَ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّ قَاتِلَهُ فُلَانٌ فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ قَتَلَك؟ فَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا. فَهَلْ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، أَمْ لَا؟ وَلَيْسَ بِهَذَا الْمَرِيضِ أَثَرُ قَتْلٍ وَلَا ضَرْبٍ أَصْلًا وَقَدْ شَهِدَ خَلْقٌ مِنْ الْعُدُولِ أَنَّهُ لَمْ يَضْرِبْهُ، وَلَا فَعَلَ بِهِ شَيْئًا؟ الْجَوَابُ: أَمَّا بِمُجَرَّدِ هَذَا الْقَوْلِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْيَمِينُ بِنَفْيِ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ، إمَّا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ. وَإِمَّا خَمْسُونَ يَمِينًا: كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَالْعُلَمَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي الرَّجُلِ إذَا كَانَ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ - كَجُرْحٍ أَوْ أَثَرِ ضَرْبٍ - فَقَالَ فُلَانٌ: ضَرَبَنِي عَمْدًا: هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ لَوْثًا؟ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: لَيْسَ بِلَوْثٍ؛ وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ لَوْثٌ، فَإِذَا حَلَفَ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ خَمْسِينَ يَمِينًا حُكِمَ بِهِ. وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ قِيلَ: لَمْ تَكُنْ خَطَأً، فَكَيْفَ وَلَيْسَ بِهِ أَثَرُ قَتْلٍ؛ وَقَدْ شَهِدَ النَّاسُ بِمَا شَهِدُوا بِهِ: فَهَذِهِ الصُّورَةُ لَيْسَ فِيهَا قَسَامَةٌ بِلَا رَيْبٍ عَلَى مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ اُتُّهِمَ بِقَتِيلٍ] 670 - 24 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ اُتُّهِمَ بِقَتِيلٍ: فَهَلْ يُضْرَبُ لِيُقِرَّ؟ أَمْ لَا؟

مسألة حلف أولياء المقتول خمسين يمينا أن المخاصم هو الذي قتله

الْجَوَابُ: إنْ كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ وَهُوَ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ قَتَلَهُ جَازَ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ أَنْ يَحْلِفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّونَ دَمَهُ، وَأَمَّا ضَرْبُهُ لِيُقِرَّ فَلَا يَجُوزُ إلَّا مَعَ الْقَرَائِنِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَتَلَهُ، فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ جَوَّزَ تَقْرِيرَهُ بِالضَّرْبِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَبَعْضُهُمْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا. [مَسْأَلَةٌ حَلَفَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُول خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّ الْمُخَاصِم هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ] 671 - 25 - مَسْأَلَةٌ: فِي أَهْلِ قَرْيَتَيْنِ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ فِي الِاعْتِقَادِ، وَخَاصَمَ رَجُلٌ آخَرَ فِي غَنَمٍ ضَاعَتْ لَهُ، وَقَالَ: مَا يَكُونُ عِوَضُ هَذَا إلَّا رَقَبَتُك. ثُمَّ وُجِدَ هَذَا مَقْتُولًا، وَأَثَرُ الدَّمِ أَقْرَبُ إلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي مِنْهَا الْمُتَّهَمُ، وَذَكَرَ رَجُلٌ لَهُ قَتْلَهُ؟ الْجَوَابُ: إذَا حَلَفَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّ ذَلِكَ الْمُخَاصِمَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ حُكِمَ لَهُمْ بِدَمِهِ؛ وَبَرَاءَةِ مَنْ سِوَاهُ، فَإِنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالْخُصُومَةِ وَالْوَعِيدِ بِالْقَتْلِ وَأَثَرُ الدَّمِ وَغَيْرُ ذَلِكَ لَوْثٌ وَقَرِينَةٌ وَأَمَارَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُتَّهَمَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ، فَإِذَا حَلَفُوا مَعَ ذَلِكَ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ الشَّرْعِيَّةِ اسْتَحَقُّوا دَمَ الْمُتَّهَمِ، وَسُلِّمَ إلَيْهِمْ بِرُمَّتِهِ، كَمَا قَضَى بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَضِيَّةِ الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرَ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى أَهْلِ الْبُقْعَةِ جِنَايَةٌ؛ لَا فِي الْعَادَةِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَلَا فِي حُكْمِ الشَّرِيعَةِ. [مَسْأَلَةٌ اُتُّهِمَا بِقَتِيلٍ فَعُوقِبَا فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا قَتَلَاهُ] 672 - 26 - مَسْأَلَةٌ: فِي شَخْصَيْنِ اُتُّهِمَا بِقَتِيلٍ، فَأُمْسِكَا، وَعُوقِبَا الْعُقُوبَةَ الْمُؤْلِمَةَ، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى رَفِيقِهِ، وَلَمْ يُقِرَّ الْآخَرُ، وَلَا اعْتَرَفَ بِشَيْءٍ: فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: إنْ شَهِدَ شَاهِدٌ مَقْبُولٌ عَلَى شَخْصٍ أَنَّهُ قَتَلَهُ كَانَ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ أَنْ يَحْلِفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّوا الدَّمَ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ الصِّدْقُ؛ وَإِلَّا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يُؤَاخَذُ بِلَا حُجَّةٍ.

مسألة فيمن اتهموا بقتيل فضربوهم واعترف واحد منهم بالعقوبة

[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ اُتُّهِمُوا بِقَتِيلِ فَضَرَبُوهُمْ وَاعْتَرَفَ وَاحِد مِنْهُمْ بِالْعُقُوبَةِ] مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ اُتُّهِمُوا بِقَتِيلٍ فَضَرَبُوهُمْ، وَاعْتَرَفَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِالْعُقُوبَةِ: فَهَلْ يَسْرِي عَلَى الْبَاقِي؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إنْ أَقَرَّ وَاحِدٌ عَدْلٌ أَنَّهُ قَتَلَهُ كَانَ لَوْثًا، فَلِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ أَنْ يَحْلِفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيَسْتَحِقُّوا بِهِ الدَّمَ. وَأَمَّا إذَا أَقَرَّ مُكْرَهًا، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ صِدْقُ إقْرَارِهِ: فَهُنَا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَلَا يُؤْخَذُ هُوَ بِهِ وَلَا غَيْرُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 674 - 28 - سُئِلَ عَنْ سِفَارَةٍ جَاءَتْهُمْ حَرَامِيَّةٌ فَقَاتَلُوهُمْ، فَقَتَلَ الْحَرَامِيَّةُ مِنْ السِّفَارَةِ رَجُلًا، ثُمَّ إنَّ ابْنَ عَمِّ الْمَقْتُولِ اتَّبَعَ الْحَرَامِيَّةَ هُوَ وَنَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَلَحِقَهُمْ، وَقَبَضَهُمْ وَسَأَلَ عَنْ الْقَاتِلِ، فَعَيَّنَ الْحَرَامِيَّةُ شَخْصًا مِنْهُمْ، وَقَالُوا: هَذَا قَتَلَ ابْنَ عَمِّك: فَقَتَلَهُ؛ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ طَلَعَ الْقَاتِلُ أَخَا ذَلِكَ الشَّخْصِ الَّذِي عَيَّنَهُ الْحَرَامِيَّةُ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا الْمُسَافِرُ الْمَقْتُولُ ظُلْمًا فَيَجِبُ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ مِنْ الْحَرَامِيَّةِ الْقَوَدُ بِشُرُوطِهِ، وَأَمَّا الشَّخْصُ الثَّانِي الْمَقْتُولُ ظُلْمًا إذَا كَانَ مَعْصُومًا فَإِنْ كَانَ الدَّالُّ عَلَيْهِ مُتَعَمِّدًا الْكَذِبَ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا وَجَبَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إنْ كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ؛ وَإِلَّا فَعَلَيْهِ. وَأَمَّا قَاتِلُهُ فَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ قَتْلَهُ بِلَا خَطَأٍ فِيهِ؛ فَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يُطَالِبُوا بِالدِّيَةِ لَهُ، أَوْ لِعَاقِلَتِهِ؛ لَكِنْ إذَا ضَمِنَ الدِّيَةَ رُجِعَ بِهَا عَلَى الدَّالِّ أَوْ عَاقِلَتِهِ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُضَافُ إلَيْهِ الْقَتْلُ فِي مِثْلِ هَذَا؛ وَلِهَذَا يَجِبُ قَتْلُهُ إذَا تَعَمَّدَ الْكَذِبَ؛ كَمَا يَجِبُ الْقَتْلُ عَلَى الشُّهُودِ إذَا رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا الْكَذِبَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ أَبٌ وَأُمٌّ قَدْ وَهَبَا لِلْقَاتِلِ دَمَ وَلَدِهِمَا] 675 - 29 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَتَلَ قَتِيلًا؛ وَلَهُ أَبٌ وَأُمٌّ، وَقَدْ وَهَبَا لِلْقَاتِلِ دَمَ وَلَدِهِمَا، وَكَتَبَا عَلَيْهِ حُجَّةً أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ بِلَادَهُمْ، وَلَا يَسْكُنُ فِيهَا، وَمَتَى سَكَنَ فِي الْبِلَادِ كَانَ دَمُ وَلَدِهِمَا عَلَى الْقَاتِلِ، فَإِذَا سَكَنَ: فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ الْمُطَالَبَةُ بِالدَّمِ؛ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا عَفَوْا عَنْهُ بِهَذَا الشَّرْطِ وَلَمْ يَفِ بِهَذَا الشَّرْطِ لَمْ يَكُنْ

مسألة صبي دون البلوغ جنى جناية

الْعَفْوُ لَازِمًا؛ بَلْ لَهُمْ أَنْ يُطَالِبُوهُ بِالدِّيَةِ فِي قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَبِالدَّمِ فِي قَوْلٍ آخَرَ. وَسَوَاءٌ قِيلَ: هَذَا الشَّرْطُ صَحِيحٌ؛ أَمْ فَاسِدٌ. وَسَوَاءٌ قِيلَ: يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِفَسَادِهِ، أَوْ لَا يَفْسُدُ؛ فَإِنَّ ذَيْنِكَ الْقَوْلَيْنِ مَبْنِيَّانِ عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ. [مَسْأَلَةٌ صَبِيّ دُونَ الْبُلُوغِ جَنَى جِنَايَةً] 676 - 30 - مَسْأَلَةٌ: فِي صَبِيٍّ دُونَ الْبُلُوغِ جَنَى جِنَايَةً يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا دِيَةٌ: مِثْلُ أَنْ يَكْسِرَ سِنًّا، أَوْ يَفْقَأَ عَيْنًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ خَطَأً. فَهَلْ لِأَوْلِيَاءِ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذُوا دِيَةَ الْجِنَايَةِ مِنْ أَبِي الصَّبِيِّ وَحْدَهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا؟ أَمْ يَطْلُبُوهَا مِنْ عَمِّ الصَّبِيِّ أَوْ ابْنِ عَمِّهِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ خَطَأً فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِلَا رَيْبٍ؛ كَالْبَالِغِ وَأَوْلَى. وَإِنْ فَعَلَ عَمْدًا فَعَمْدُهُ خَطَأٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ عَنْهُ وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عَمْدَهُ إذَا كَانَ غَيْرَ بَالِغٍ فِي مَالِهِ. وَأَمَّا الْعَاقِلَةُ الَّتِي تَحْمِلُ، فَهُمْ عَصَبَتُهُ: كَالْعَمِّ وَبَنِيهِ، وَالْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا أَبُو الرَّجُلِ وَابْنُهُ فَهُوَ مِنْ عَاقِلَتِهِ أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: أَبُوهُ وَابْنُهُ لَيْسَا مِنْ الْعَاقِلَةِ. وَاَلَّذِي " تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ " بِالِاتِّفَاقِ مَا كَانَ فَوْقَ ثُلُثِ الدِّيَةِ: مِثْلَ قَلْعِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ: وَأَمَّا دُونَ الثُّلُثِ: كَدِيَةِ السِّنِّ: وَهُوَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَدِيَةُ الْأُصْبُعِ وَهِيَ عُشْرُ الدِّيَةِ: فَهَذَا لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ؛ بَلْ هُوَ فِي مَالِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ دِيَةِ السِّنِّ وَالْمُوضِحَةِ، وَهُوَ الْمُقَدَّرُ كَأَرْشِ الشَّجَّةِ الَّتِي دُونَ الْمُوضِحَةِ. وَإِذَا وَجَبَ عَلَى الصَّبِيِّ شَيْءٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ حَمَلَهُ عَنْهُ أَبُوهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهُ فِي ذِمَّتِهِ؛ وَلَيْسَ عَلَى أَبِيهِ شَيْءٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة قال لزوجته أسقطي ما في بطنك والإثم علي

[مَسْأَلَةٌ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَسْقِطِي مَا فِي بَطْنِك وَالْإِثْمُ عَلَيَّ] مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَسْقِطِي مَا فِي بَطْنِك وَالْإِثْمُ عَلَيَّ. فَإِذَا فَعَلَتْ هَذَا، وَسَمِعَتْ مِنْهُ: فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا مِنْ الْكَفَّارَةِ؟ الْجَوَابُ: إنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِمَا كَفَّارَةُ عِتْقِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدَا فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَعَلَيْهِمَا غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ لِوَارِثِهِ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْهُ؛ لَا لِلْأَبِ فَإِنَّ الْأَبَ هُوَ الْآمِرُ بِقَتْلِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا. [مَسْأَلَةٌ إسْقَاطُ الْحَمْلِ] 678 - 32 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ عَدْلٍ لَهُ جَارِيَةٌ اعْتَرَفَ بِوَطْئِهَا بِحَضْرَةِ عُدُولٍ، وَأَنَّهَا حَبِلَتْ مِنْهُ، وَأَنَّهُ سَأَلَ بَعْضَ النَّاسِ عَنْ أَشْيَاءَ تُسْقِطُ الْحَمْلَ، وَأَنَّهُ ضَرَبَ الْجَارِيَةَ ضَرْبًا مُبَرِّحًا عَلَى فُؤَادِهَا فَأَسْقَطَتْ عَقِيبَ ذَلِكَ؛ وَأَنَّ الْجَارِيَةَ قَالَتْ: إنَّهُ كَانَ يُلَطِّخُ ذَكَرَهُ بِالْقَطِرَانِ وَيَطَؤُهَا حَتَّى يُسْقِطَهَا، وَأَنَّهُ أَسْقَاهَا السُّمَّ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُسْقِطَةِ مُكْرَهَةً. فَمَا يَجِبُ عَلَى مَالِك الْجَارِيَةِ بِمَا ذُكِرَ؟ وَهَلْ هَذَا مُسْقِطٌ لِعَدَالَتِهِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ: إسْقَاطُ الْحَمْلِ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مِنْ الْوَأْدِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير: 8] {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 9] وَقَدْ قَالَ: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الشَّخْصَ أَسْقَطَ الْحَمْلَ خَطَأً مِثْلُ أَنْ يَضْرِبَ الْمَرْأَةَ خَطَأً فَتُسْقِطُ: فَعَلَيْهِ غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ؛ بِنَصِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَتَكُونُ قِيمَةُ الْغُرَّةِ بِقَدْرِ عُشْرِ دِيَةِ الْأُمِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. كَذَلِكَ عَلَيْهِ " كَفَّارَةُ الْقَتْلِ " عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 92] وَأَمَّا إذَا

مسألة حامل تعمدت إسقاط الجنين

تَعَمَّدَ الْإِسْقَاطَ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِمَّا يَقْدَحُ فِي دِينِهِ وَعَدَالَتِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ حَامِل تَعَمَّدَتْ إسْقَاطَ الْجَنِينِ] 679 - 33 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ حَامِلٍ تَعَمَّدَتْ إسْقَاطَ الْجَنِينِ إمَّا بِضَرْبٍ وَإِمَّا بِشُرْبِ دَوَاءٍ: فَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا؟ الْجَوَابُ: يَجِبُ عَلَيْهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ غُرَّةُ: عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، تَكُونُ هَذِهِ الْغُرَّةُ لِوَرَثَةِ الْجَنِينِ؛ غَيْرِ أُمِّهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ كَانَتْ الْغُرَّةُ لِأَبِيهِ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُسْقِطَ عَنْ الْمَرْأَةِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَيَكُونُ قِيمَةُ الْغُرَّةِ عُشْرُ دِيَةٍ، أَوْ خَمْسِينَ دِينَارًا. وَعَلَيْهَا أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ صَامَتْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ أَطْعَمَتْ سِتِّينَ مِسْكِينًا. [مَسْأَلَةٌ دَفَنَتْ ابْنَهَا بِالْحَيَاةِ حَتَّى مَاتَ لِمَرَضِهَا وَمَرَضه] 680 - 34 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ دَفَنَتْ ابْنَهَا بِالْحَيَاةِ حَتَّى مَاتَ؛ فَإِنَّهَا كَانَتْ مَرِيضَةً؛ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَضَجِرَتْ مِنْهُ: فَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَهَذَا هُوَ الْوَأْدُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير: 8] {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 9] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ " النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك. قِيلَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك» . وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ حَرَّمَ قَتْلَ الْوَلَدِ مَعَ الْحَاجَةِ وَخَشْيَةِ الْفَقْرِ فَلِأَنَّ

يَحْرُمَ قَتْلُهُ بِدُونِ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَهَذِهِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ يَجِبُ عَلَيْهَا الدِّيَةُ تَكُونُ لِوَرَثَتِهِ؛ لَيْسَ لَهَا مِنْهَا شَيْءٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 681 - 35 - سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَلْطِمُ الرَّجُلَ، أَوْ يُكَلِّمُهُ، أَوْ يَسُبُّهُ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ؟ الْجَوَابُ: وَأَمَّا " الْقِصَاصُ فِي اللَّطْمَةِ، وَالضَّرْبَةِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَمَذْهَبُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ الْقِصَاصَ ثَابِتٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيِّ. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ مِنْ ذَلِكَ قِصَاصٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِيهِ مُتَعَذِّرَةٌ فِي الْغَالِبِ، وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ؛ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَضَتْ بِالْقِصَاصِ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ سُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ مُتَعَذِّرَةٌ. فَيُقَالُ: لَا بُدَّ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ مِنْ عُقُوبَةٍ: إمَّا قِصَاصٌ، وَإِمَّا تَعْزِيرٌ. فَإِذَا جُوِّزَ أَنْ يُعَزَّرَ تَعْزِيرًا غَيْرَ مَضْبُوطِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ فَلَأَنْ يُعَاقَبَ إلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الضَّبْطِ مِنْ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَالْعَدْلُ فِي الْقِصَاصِ مُعْتَبَرٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الضَّارِبَ إذَا ضَرَبَ ضَرْبَةً مِثْلَ ضَرْبَتِهِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا كَانَ هَذَا أَقْرَبَ إلَى الْعَدْلِ مِنْ أَنْ يُعَزَّرَ بِالضَّرْبِ بِالسَّوْطِ؛ فَاَلَّذِي يَمْنَعُ الْقِصَاصَ فِي ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ الظُّلْمِ يُبِيحُ مَا هُوَ أَعْظَمُ ظُلْمًا مِمَّا فَرَّ مِنْهُ. فَعُلِمَ أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ أَعْدَلُ وَأَمْثَلُ. وَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَسُبَّهُ كَمَا يَسُبُّهُ: مِثْلُ أَنْ يَلْعَنَهُ كَمَا يَلْعَنُهُ. أَوْ يَقُولُ: قَبَّحَك اللَّهُ. فَيَقُولُ: قَبَّحَك اللَّهُ. أَوْ: أَخْزَاك اللَّهُ. فَيَقُولُ لَهُ: أَخْزَاك اللَّهُ. أَوْ يَقُولُ: يَا كَلْبُ، يَا خِنْزِيرُ، فَيَقُولُ: يَا كَلْبُ، يَا خِنْزِيرُ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُحَرَّمَ الْجِنْسِ مِثْلَ تَكْفِيرِهِ أَوْ الْكَذِبِ

مسألة حر وعبد حملا خشبة فأصابت رجلا فأقام يومين وتوفي

عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَهُ وَلَا يَكْذِبَ عَلَيْهِ. وَإِذَا لَعَنَ أَبَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَلْعَنَ أَبَاهُ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ لَمْ يَظْلِمْهُ. 682 - 36 - سُئِلَ عَمَّنْ ضَرَبَ غَيْرَهُ فَعَطَّلَ مَنْفَعَةَ أُصْبُعِهِ؟ الْجَوَابُ: إذَا تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَةُ أُصْبُعِهِ بِالْجِنَايَةِ الَّتِي اعْتَدَى فِيهَا وَجَبَتْ دِيَةُ الْإِصْبَعِ، وَهِيَ عُشْرُ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ حُرّ وَعَبْد حَمَلَا خَشَبَةً فَأَصَابَتْ رَجُلًا فَأَقَامَ يَوْمَيْنِ وَتُوُفِّيَ] 683 - 37 - مَسْأَلَةٌ: عَنْ اثْنَيْنِ: أَحَدُهُمَا حُرٌّ، وَالْآخَرُ عَبْدٌ: حَمَلُوا خَشَبَةً فَتَهَوَّرَتْ مِنْهُمْ الْخَشَبَةُ مِنْ غَيْرِ عَمْدٍ؛ فَأَصَابَتْ رَجُلًا؛ فَأَقَامَ يَوْمَيْنِ وَتُوُفِّيَ: فَمَا يَجِبُ عَلَى الْحُرِّ وَالْعَبْدِ؟ وَمَاذَا يَجِبُ عَلَى مَالِكِ الْعَبْدِ إذَا تَغَيَّبَ الْعَبْدُ؟ الْجَوَابُ: إذَا حَصَلَ مِنْهُمَا تَفْرِيطٌ أَوْ عُدْوَانٌ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُفَرِّطُ بِوُقُوفِهِ حَيْثُ لَا يَصْلُحُ فَلَا ضَمَانَ. وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ تَفْرِيطٌ مِنْهُمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ السَّبَبِ فَلَا ضَمَانَ. وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ فَنَصِيبُ الْعَبْدِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ، فَإِنْ شَاءَ سَيِّدُهُ أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي الْجِنَايَةِ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَفْتَدِيَهُ. وَإِذَا افْتَدَاهُ فَإِنَّهُ يَفْتَدِيهِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ وَقَدْرِ جِنَايَتِهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ عَنْهُ، وَفِي الْأُخْرَى وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ يَفْدِيهِ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ بَالِغًا مَا بَلَغَ. فَأَمَّا إنْ جَنَى الْعَبْدُ وَهَرَبَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ لِسَيِّدِهِ تَسْلِيمُهُ فَلَيْسَ عَلَى السَّيِّدِ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 684 - 38 - مَسْأَلَةٌ: فِي ثَلَاثَةٍ حَمَلُوا عَامُودَ رُخَامٍ، ثُمَّ إنَّ مِنْهُمْ اثْنَيْنِ رَمَوْا الْعَمُود عَلَى الْآخَرِ فَكَسَرُوا رِجْلَهُ: فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. نَعَمْ إذَا أَلْقَوْا عَلَيْهِ عَامُودَ الرُّخَامِ حَتَّى كَسَرُوا سَاقَهُ وَجَبَ

مسألة رأى رجلا قتل ثلاثة في شهر رمضان ولحس السيف بفمه

ضَمَانُ ذَلِكَ؛ لَكِنْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُوجِبُ بَعِيرَيْنِ مِنْ الْإِبِلِ، كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ فِيهِ حُكُومَةً، وَهُوَ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ لَا كَسْرَ بِهِ، ثُمَّ يُقَوَّمُ مَكْسُورًا؛ فَيُنْظَرُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ: فَيَجِبُ بِقِسْطِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 685 - 39 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلَيْنِ تَخَاصَمَا وَتَمَاسَكَا بِالْأَيْدِي، وَلَمْ يَضْرِبْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا مَرِيضًا، ثُمَّ تَفَارَقَا فِي عَافِيَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ أُسْبُوعٍ تُوُفِّيَ أَحَدُهُمَا، وَهَرَبَ الْآخَرُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَمُسِكَ أَبُو الْهَارِبِ وَأَلْزَمُوهُ بِإِحْضَارِ وَلَدِهِ، فَاعْتَقَدَ أَنَّ الْخَصْمَ لَمْ يَمُتْ؛ وَالْتَزَمَ لِأَهْلِهِ أَنَّهُ مَهْمَا تَمَّ عَلَيْهِ كَانَ هُوَ الْقَائِمُ بِهِ؛ فَلَمَّا مَاتَ اعْتَقَلُوا أَبَاهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَرَاضَى أَبُوهُ أَهْلَ الْمَيِّتِ بِمَالٍ، وَأُبْرِئَ الْمَتْهُومُ وَكُلُّ أَهْلِهِ: فَهَلْ لِهَذَا الْمُلْتَزِمِ بِالْمَبْلَغِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي عَمِّهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَبْلَغِ وَهَلْ يُبَرَّأُ الْهَارِبُ؟ الْجَوَابُ: إنْ ثَبَتَ أَنَّ الْهَارِبَ قَتَلَهُ خَطَأً بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَرِيضًا وَقَدْ ضَرَبَهُ الْآخَرُ ضَرْبًا شَدِيدًا يَزِيدُ فِي مَرَضِهِ، وَكَانَ سَبَبًا فِي مَوْتِهِ: فَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ. فَعَلَى عَصَبَةِ بَنِي الْعَمِّ وَغَيْرِهِمَا أَنْ يَتَحَمَّلُوا هَذَا الْقَدْرَ الَّذِي رَضِيَ بِهِ أَهْلُ الْقَتِيلِ فَإِنَّهُ أَخَفُّ مِنْ الدِّيَةِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لَكِنْ أُخِذَ الْأَبُ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهِ: لَمْ يَلْزَمْهُمْ بِإِقْرَارِ الْأَبِ شَيْءٌ؛ وَلَيْسَ لِأَهْلِ الدِّيَةِ الَّذِينَ صَالَحُوا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ أَنْ يُطَالِبُوا بِأَكْثَرَ مِنْهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَأَى رَجُلًا قَتَلَ ثَلَاثَةً فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَحِسَ السَّيْفَ بِفَمِهِ] 686 - 40 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ رَأَى رَجُلًا قَتَلَ ثَلَاثَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَحِسَ السَّيْفَ بِفَمِهِ. وَأَنَّ وَلِيُّ الْأَمْرِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأَنَّ الَّذِي رَآهُ قَدْ وَجَدَهُ فِي مَكَان لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَسْكِهِ: فَهَلْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْقَاتِلَ الْمَذْكُورَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ وَإِذَا قَتَلَهُ هَلْ يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُطَالَبُ بِدَمِهِ؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ قَاطِعُ طَرِيقٍ قَتَلَهُمْ لِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَجَبَ قَتْلُهُ، وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ

مسألة رجلين قبض أحدهما لواحد والآخر ضربه فشلت يده

عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ قَتَلَهُمْ لِغَرَضٍ خَاصٍّ مِثْلُ خُصُومَةٍ بَيْنَهُمْ، أَوْ عَدَاوَةٍ: فَأَمْرُهُ إلَى وَرَثَةِ الْقَتِيلِ: إنْ أَحَبُّوا قَتْلَهُ قَتَلُوهُ، وَإِنْ أَحَبُّوا عَفَوْا عَنْهُ، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْوَرَثَةِ الْآخَرِينَ. وَأَمَّا إنْ كَانَ قَاطِعُ طَرِيقٍ: فَقِيلَ: بِإِذْنِ الْإِمَامِ؛ فَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْإِمَامَ أَذِنَ فِي قَتْلِهِ بِدَلَائِلِ الْحَالِ جَازَ أَنْ يَقْتُلَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ وُلَاةَ الْأُمُورِ يَطْلُبُونَهُ لِيَقْتُلُوهُ، وَأَنَّ قَتْلَهُ وَاجِبٌ فِي الشَّرْعِ: فَهَذَا يَعْرِفُ أَنَّهُمْ آذِنُونَ فِي قَتْلِهِ؛ وَإِذَا وَجَبَ قَتْلُهُ كَانَ قَاتِلُهُ مَأْجُورًا فِي ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلَيْنِ قَبَضَ أَحَدُهُمَا لِوَاحِدٍ وَالْآخَرُ ضَرَبَهُ فَشُلَّتْ يَدُهُ] 687 - 41 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلَيْنِ قَبَضَ أَحَدُهُمَا لِوَاحِدٍ، وَالْآخَرُ ضَرَبَهُ فَشُلَّتْ يَدُهُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الِاثْنَيْنِ الْقَوَدُ إنْ وَجَبَ، وَإِلَّا فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ وَجَدَ عِنْدَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا فَقَتَلَهَا] 688 - 42 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ وَجَدَ عِنْدَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا فَقَتَلَهَا، ثُمَّ تَابَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَكَانَ لَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ، فَلَمَّا كَبِرَ أَحَدُهُمَا أَرَادَ أَدَاءَ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَلَمْ يَجِدْ قُدْرَةً عَلَى الْعِتْقِ، فَأَرَادَ أَنْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ: فَهَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْقَاتِلِ؟ وَهَلْ يُجْزِي قِيَامُ الْوَلَدِ بِهَا؟ وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ امْرَأَةً فَحَاضَتْ فِي زَمَنِ الشَّهْرَيْنِ: هَلْ يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ؟ وَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا أَنَّ الطُّهْرَ يَحْصُلُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْإِمْسَاكُ، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إنْ كَانَ قَدْ وَجَدَهُمَا يَفْعَلَانِ الْفَاحِشَةَ وَقَتَلَهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ؛ وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْ وَطْئِهَا بِالْكَلَامِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي بَيْتِك فَفَقَأْت عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْك شَيْءٌ» " وَ «نَظَرَ رَجُلٌ مَرَّةً فِي بَيْتِهِ فَجَعَلَ يَتْبَعُ عَيْنَهُ بِمِدْرًى لَوْ أَصَابَتْهُ لَقَلَعْت عَيْنَهُ» وَقَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ» . وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالْكَلَامِ. وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

مسألة رجل ضرب رجلا بسيف شل يده ثم دفع إليه أربعة أفدنة طين

وَبِيَدِهِ سَيْفٌ مُتَلَطِّخٌ بِدَمٍ قَدْ قَتَلَ امْرَأَتَهُ، فَجَاءَ أَهْلُهَا يَشْكُونَ عَلَيْهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: إنِّي قَدْ وَجَدْت لَكَاعًا قَدْ تَفْخَذهَا فَضَرَبْت مَا هُنَالِكَ بِالسَّيْفِ فَأَخَذَ السَّيْفَ فَهَزَّهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ إلَيْهِ، فَقَالَ: إنْ عَادَ فَعُدْ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ يَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْهُ إذَا كَانَ الزَّانِي مُحْصَنًا، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ هُوَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ أَوْ غَيْرُهُ، كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ إنَّمَا مَأْخَذُهُ أَنَّهُ جَنَى عَلَى حُرْمَتِهِ فَهُوَ كَفَقْءِ عَيْنِ النَّاظِرِ، وَكَاَلَّذِي انْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِ الْعَاضِّ حَتَّى سَقَطَتْ ثَنَايَاهُ، فَأَهْدَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَمَهُ، وَقَالَ: «يَدَعُ يَدَهُ فِي فِيك فَتَقْضِمُهَا كَمَا يَقْضِمُ الْفَحْلُ؟» وَهَذَا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ الْقَوْلُ بِهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ، قَالَ: لِأَنَّ دَفْعَ الصَّائِلِ يَكُونُ بِالْأَسْهَلِ. وَالنَّصُّ يُقَدَّمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ، فَقَدْ دَخَلَ اللِّصُّ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَأَصْلَتَ لَهُ السَّيْفَ، قَالُوا: فَلَوْلَا أَنَّا نَهَيْنَاهُ عَنْهُ لَضَرَبَهُ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ، وَأَخَذَ بِذَلِكَ. وَأَمَّا إنْ كَانَ الرَّجُلُ لَمْ يَفْعَلْ بَعْدُ فَاحِشَةً؛ وَلَكِنْ وَصَلَ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ، وَالْأَحْوَطُ لِهَذَا أَنْ يَتُوبَ مِنْ الْقَتْلِ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ نِزَاعٌ، فَإِذَا كَفَّرَ فَقَدْ فَعَلَ الْأَحْوَطَ؛ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ. وَأَمَّا قَتْلُ الْعَمْدِ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: كَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. وَإِذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَمْ يُكَفِّرْ فَلْيُطْعِمْ عَنْهُ وَلِيُّهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَإِنَّهُ بَدَلُ الصِّيَامِ الَّذِي عَجَزَتْ عَنْهُ قُوَّتُهُ، فَإِذَا أَطْعَمَ عَنْهُ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ فَهَذَا أَوْلَى. وَالْمَرْأَةُ إنْ صَامَتْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَمْ يَقْطَعْ الْحَيْضُ تَتَابُعَهَا، بَلْ تَبْنِي بَعْدَ الطُّهْرِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا بِسَيْفٍ شَلَّ يَدَهُ ثُمَّ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَفْدِنَةٍ طِينٍ] 689 - 43 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا بِسَيْفٍ شَلَّ يَدَهُ، ثُمَّ أَنَّهُ جَاءَهُ وَدَفَعَ إلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَفْدِنَةٍ طِينٍ سَوَاءٌ؛ مُصَالَحَةً، ثُمَّ أَكَلَهَا اثْنَيْ عَشَرَ سَنَةً، وَلَمْ يَكْتُبْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ

مسألة رجل ضرب رجلا فتحول حنكه

أَبَدًا، وَحَالُ الْمَضْرُوبِ ضَعِيفٌ: فَهَلْ يَلْزَمُ الضَّارِبَ الدِّيَةُ؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ صَالَحَهُ عَنْ شَلَلِ يَدِهِ عَلَى شَيْءٍ وَجَبَ مَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ؛ وَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا أَنْ يَزِيدَهُ، وَلَا لِهَذَا أَنْ يُنْقِصَهُ. وَأَمَّا إنْ كَانَ أَعْطَاهُ شَيْئًا بِلَا مُصَالَحَةٍ فَلَهُ أَنْ يَطْلُبَ تَمَامَ حَقِّهِ. وَشَلَلُ الْيَدِ فِيهِ دِيَةُ الْيَدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا فَتَحَوَّلَ حَنَكُهُ] 690 - 44 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا فَتَحَوَّلَ حَنَكُهُ، وَوَقَعَتْ أَنْيَابُهُ، وَخَيَّطُوا حَنَكَهُ بِالْإِبَرِ فَمَا يَجِبُ؟ الْجَوَابُ: يَجِبُ فِي الْأَسْنَانِ فِي كُلِّ سِنٍّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ خَمْسُونَ دِينَارًا أَوْ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَيَجِبُ فِي تَحْوِيلِ الْحَنَكِ الْأَرْشُ: يُقَوَّمُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ عَبْدٌ سَلِيمٌ، ثُمَّ يُقَوَّمُ وَهُوَ عَبْدٌ مَعِيبٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ، فَيَجِبُ بِنِسْبَتِهِ مِنْ الدِّيَةِ. وَإِذَا كَانَتْ الضَّرْبَةُ مِمَّا تَقْلَعُ الْأَسْنَانَ فِي الْعَادَةِ فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَهُوَ أَنْ يُقْلَعَ لَهُ مِثْلَ تِلْكَ الْأَسْنَانِ مِنْ الضَّارِبِ. [مَسْأَلَةٌ مُسْلِمٍ قَتَلَ مُسْلِمًا مُتَعَمِّدًا بِغَيْرِ حَقٍّ ثُمَّ تَابَ فَهَلْ تُرْجَى لَهُ التَّوْبَةُ] 691 - 45 - مَسْأَلَةٌ: فِي مُسْلِمٍ قَتَلَ مُسْلِمًا مُتَعَمِّدًا بِغَيْرِ حَقٍّ، ثُمَّ تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَهَلْ تُرْجَى لَهُ التَّوْبَةُ، وَيَنْجُو مِنْ النَّارِ، أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةٌ، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: قَاتِلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ عَلَيْهِ حَقَّانِ: حَقٌّ لِلَّهِ بِكَوْنِهِ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ وَانْتَهَكَ حُرُمَاتِهِ. فَهَذَا الذَّنْبُ يَغْفِرُهُ اللَّهُ بِالتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] أَيْ لِمَنْ تَابَ. وَقَالَ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 69] {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70]

مسألة رجلين اختلفا في قتل النفس عمدا

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَجُلًا، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ: هَلْ مَنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: أَبَعْدَ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ تَكُونُ لَك تَوْبَةٌ؟ فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً؟ ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَك وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ وَلَكِنْ ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا فَإِنَّ فِيهَا قَوْمًا صَالِحِينَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فِي الطَّرِيقِ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ؛ فَبَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَأَمَرَ أَنْ يُقَاسَ فَإِلَى أَيِّ الْقَرْيَتَيْنِ كَانَ أَقْرَبَ أُلْحِقَ بِهِ؛ فَوَجَدُوهُ أَقْرَبَ إلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ» . وَالْحَقُّ الثَّانِي: حَقُّ الْآدَمِيِّينَ. فَعَلَى الْقَاتِلِ أَنْ يُعْطِيَ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ، فَيُمَكِّنَهُمْ مِنْ الْقِصَاصِ؛ أَوْ يُصَالِحَهُمْ بِمَالٍ، أَوْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ الْعَفْوَ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ حَقِّهِمْ، وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ. وَهَلْ يَبْقَى لِلْمَقْتُولِ عَلَيْهِ حَقٌّ يُطَالِبُهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ؛ وَمَنْ قَالَ يَبْقَى لَهُ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَكْثِرُ الْقَاتِلَ مِنْ الْحَسَنَاتِ حَتَّى يُعْطِيَ الْمَقْتُولَ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِقَدْرِ حَقِّهِ، وَيَبْقَى لَهُ مَا يَبْقَى، فَإِذَا اسْتَكْثَرَ الْقَاتِلُ التَّائِبُ مِنْ الْحَسَنَاتِ رُجِيَتْ لَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ؛ وَأَنْجَاهُ مِنْ النَّارِ [وَلَا يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ] . [مَسْأَلَةٌ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي قَتْلِ النَّفْسِ عَمْدًا] 692 - 46 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي قَتْلِ النَّفْسِ عَمْدًا. فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إنَّ هَذَا ذَنْبٌ لَا يُغْفَرُ وَقَالَ الْآخَرُ: إذَا تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا حَقُّ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِاسْتِغْفَارِ الظَّالِمِ الْقَاتِلِ؛ لَا فِي قَتْلِ

مسألة اتهموه النصارى في قتل نصارى ولم يظهر عليه

النَّفْسِ؛ وَلَا فِي سَائِرِ مَظَالِمِ الْعِبَادِ؛ فَإِنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِ لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِغْفَارِ؛ لَكِنْ تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الظَّلَمَةِ؛ فَيَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ بِالتَّوْبَةِ الْحَقَّ الَّذِي لَهُ. وَأَمَّا حُقُوقُ الْمَظْلُومِينَ فَإِنَّ اللَّهَ يُوَفِّيهِمْ إيَّاهَا: إمَّا مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ، وَإِمَّا مِنْ عِنْدِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ اتَّهَمُوهُ النَّصَارَى فِي قَتْلِ نَصَارَى وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ] 693 - 47 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ اتَّهَمُوهُ النَّصَارَى فِي قَتْلِ نَصَارَى وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ؛ فَأَحْضَرُوهُ إلَى النَّائِبِ بِالْكُرْكِ؛ وَأَلْزَمُوهُ أَنْ يُعَاقِبَهُ، فَعُوقِبَ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يُقِرَّ بِشَيْءٍ: فَمَا يَلْزَمُ النَّصَارَى الَّذِينَ الْتَزَمُوا بِدَمِهِ؟ الْجَوَابُ: يَجِبُ عَلَيْهِمْ ضَمَانُ الَّذِي الْتَزَمُوا دَمَهُ إنْ مَاتَ تَحْتَ الْعُقُوبَةِ بَلْ يُعَاقَبُونَ كَمَا عُوقِبَ أَيْضًا؛ كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَضَى نَحْوَ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [حَدُّ الزِّنَا] [مَسْأَلَة زَنَى بِأُخْتِهِ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ] حَدُّ الزِّنَا 694 - 48 - سُئِلَ: عَمَّنْ زَنَى بِأُخْتِهِ: مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ الْجَوَابُ: وَأَمَّا مَنْ زَنَى بِأُخْتِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَجَبَ قَتْلُهُ، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ «الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، قَالَ: مَرَّ بِي خَالِي أَبُو بُرْدَةَ، وَمَعَهُ رَايَةٌ، فَقُلْت: أَيْنَ تَذْهَبُ يَا خَالِي، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ؛ فَأَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَأُخَمِّسَ مَالَهُ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مُزَوَّجَة لَهَا أَوْلَادٌ أَقَامَتْ مَعَ شَخْصٍ عَلَى الْفُجُورِ] 695 - 49 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ مُزَوَّجَةٍ بِزَوْجٍ كَامِلٍ، وَلَهَا أَوْلَادٌ، فَتَعَلَّقَتْ بِشَخْصٍ مِنْ الْأَطْرَافِ أَقَامَتْ مَعَهُ عَلَى الْفُجُورِ، فَلَمَّا ظَهَرَ أَمْرُهَا سَعَتْ فِي مُفَارَقَةِ الزَّوْجِ: فَهَلْ بَقِيَ لَهَا حَقٌّ عَلَى أَوْلَادِهَا بَعْدَ هَذَا الْفِعْلِ؟ وَهَلْ عَلَيْهِمْ إثْمٌ فِي قَطْعِهَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ

مسألة بلد فيها جوار سائبات يزنون مع النصارى والمسلمين

تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهَا قَتْلُهَا سِرًّا؟ وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُهُ يَأْثَمُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. الْوَاجِبُ عَلَى أَوْلَادِهَا وَعَصَبَتِهَا أَنْ يَمْنَعُوهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنْ لَمْ تَمْتَنِعْ إلَّا بِالْحَبْسِ حَبَسُوهَا؛ وَإِنْ احْتَاجَتْ إلَى الْقَيْدِ قَيَّدُوهَا، وَمَا يَنْبَغِي لِلْوَلَدِ أَنْ يَضْرِبَ أُمَّهُ. وَأَمَّا بِرُّهَا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهَا بِرَّهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ مُقَاطَعَتُهَا بِحَيْثُ تَتَمَكَّنُ بِذَلِكَ مِنْ السُّوءِ؛ بَلْ يَمْنَعُوهَا بِحَسَبِ قُدْرَتِهِمْ. وَإِنْ احْتَاجَتْ إلَى رِزْقٍ وَكِسْوَةٍ رَزَقُوهَا، وَكَسَوْهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهَا بِقَتْلٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَعَلَيْهِمْ الْإِثْمُ فِي ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ بَلَدٍ فِيهَا جَوَارٍ سَائِبَاتٌ يَزْنُونَ مَعَ النَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ] 696 - 50 - مَسْأَلَةٌ: فِي بَلَدٍ فِيهَا جَوَارٍ سَائِبَاتٍ يَزْنُونَ مَعَ النَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ؟ الْجَوَابُ: عَلَى سَيِّدِ الْأَمَةِ إذًا إنْ زَنَتْ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدَّ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا؛ ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا؛ ثُمَّ إنْ زَنَتْ فِي الرَّابِعَةِ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِظَفِيرٍ» وَالظَّفِيرُ الْحَبْلُ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَكَانَ إصْرَارُهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ قَادِحًا فِي عَدَالَتِهِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ يُرْسِلُهَا لِتَبْغِيَ وَتُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ مَهْرِ الْبِغَاءِ، أَوْ يَأْخُذُ هُوَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ: فَهَذَا مِمَّنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ وَهُوَ فَاسِقٌ خَبِيثٌ؛ آذِنٌ فِي الْكَبِيرَةِ، وَآخِذٌ مَهْرَ الْبَغِيِّ؛ وَلَمْ يَنْهَهَا عَنْ الْفَاحِشَةِ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعَدَّلًا؛ بَلْ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الْغَلِيظَةَ حَتَّى يَصُونَ إمَاءَهُ. وَأَقَلُّ الْعُقُوبَةِ أَنْ يُهْجَرَ فَلَا يُسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ إذَا أَمْكَنَتْ الصَّلَاةُ خَلْفَ غَيْرِهِ، وَلَا يُسْتَشْهَدَ وَلَا يُوَلَّى وِلَايَةً أَصْلًا. وَمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ؛ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَكَانَ مُرْتَدًّا لَا تَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ. وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ عُرِّفَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا.

مسألة حلف لولده إن فعل منكرا أقام عليه الحد

[مَسْأَلَة حَلَفَ لِوَلَدِهِ إنْ فَعَلَ مُنْكَرًا أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ] سُئِلَ: عَمَّنْ حَلَفَ لِوَلَدِهِ أَنَّهُ إنْ فَعَلَ مُنْكَرًا يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَأَقَرَّ لِوَالِدِهِ فَضَرَبَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَبَقِيَ تَغْرِيبُ عَامٍ: فَهَلْ يَجُوزُ فِي تَغْرِيبِ الْعَامِ كَفَّارَةٌ، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُ إذَا غَرَّبَهُ فِي الْحَبْسِ وَلَوْ فِي دَارِ الْأَبِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَ مُطْلِقًا غَيْرَ مُقَيِّدٍ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَيْدُ، وَلَا جَعْلُهُ فِي مَكَان مُظْلِمٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا فَتَابَ قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ] 698 - 52 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا فَتَابَ قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ: فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ بِالتَّوْبَةِ؟ الْجَوَابُ: إنْ تَابَ مِنْ الزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ؛ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ، قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ إلَى الْإِمَامِ: فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنْهُ، كَمَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُحَارِبِينَ بِالْإِجْمَاعِ إذَا تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ. [مَسْأَلَة رَجُلٍ أَذْنَبَ ذَنْبًا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدٌّ مِنْ الْحُدُودِ ثُمَّ تَابَ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ] 699 - 53 - سُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ أَذْنَبَ ذَنْبًا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدٌّ مِنْ الْحُدُودِ: مِثْلُ جَلْدٍ، أَوْ حَصْبٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ، وَأَقْلَعَ، وَاسْتَغْفَرَ، وَنَوَى أَنْ لَا يَعُودَ: فَهَلْ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ؟ أَوْ يَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَأْتِيَ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَيُعَرِّفَهُ بِذَنْبِهِ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ؛ أَمْ لَا؟ وَهَلْ سَتْرُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَتَوْبَتُهُ أَفْضَلُ، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إذَا تَابَ تَوْبَةً صَحِيحَةً تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى أَنْ يُقِرَّ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ» وَفِي الْأَثَرِ أَيْضًا: «إذَا أَذْنَبَ سِرًّا فَلْيَتُبْ سِرًّا، وَمَنْ أَذْنَبَ عَلَانِيَةً فَلْيَتُبْ عَلَانِيَةً» وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] الْآيَةَ.

مسألة إثم المعصية وحد الزنا هل تزاد في الأيام المباركة

[مَسْأَلَةٌ إثْمِ الْمَعْصِيَةِ وَحَدِّ الزِّنَا هَلْ تُزَادُ فِي الْأَيَّامِ الْمُبَارَكَةِ] مَسْأَلَةٌ: فِي إثْمِ الْمَعْصِيَةِ، وَحَدِّ الزِّنَا: هَلْ تُزَادُ فِي الْأَيَّامِ الْمُبَارَكَةِ، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ. الْمَعَاصِي فِي الْأَيَّامِ الْمُفَضَّلَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الْمُفَضَّلَةِ تُغَلَّظُ وَعِقَابُهَا بِقَدْرِ فَضِيلَةِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. [مَسْأَلَةٌ امْرَأَةٍ قَوَّادَةٍ تَجْمَعُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ] 701 - 55 مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ قَوَّادَةٍ تَجْمَعُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءِ، وَقَدْ ضُرِبَتْ، وَحُبِسَتْ؟ ثُمَّ عَادَتْ تَفْعَلُ ذَلِكَ، وَقَدْ لَحِقَ الْجِيرَانَ الضَّرَرُ بِهَا: فَهَلْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ نَقْلَهَا مِنْ بَيْنِهِمْ، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ، لِوَلِيِّ الْأَمْرِ كَصَاحِبِ الشُّرْطَةِ أَنْ يَصْرِفَ ضَرَرَهَا بِمَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً: إمَّا بِحَبْسِهَا، وَإِمَّا بِنَقْلِهَا عَنْ الْحَرَائِرِ؛ وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَرَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَأْمُرُ الْعُزَّابَ أَنْ لَا تَسْكُنَ بَيْنَ الْمُتَأَهِّلِينَ، وَأَنْ لَا يَسْكُنَ الْمُتَأَهِّلُ بَيْنَ الْعُزَّابِ؛ وَهَكَذَا فَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَنَفَوْا شَابًّا خَافُوا الْفِتْنَةَ بِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى الْبَصْرَةِ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَى الْمُخَنَّثِينَ وَأَمَرَ بِنَفْيِهِمْ مِنْ الْبُيُوتِ» خَشْيَةَ أَنْ يُفْسِدُوا النِّسَاءَ. فَالْقَوَّادَةُ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَاَللَّهُ يُعَذِّبُهَا مَعَ أَصْحَابِهَا. [مَسْأَلَةٌ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ بَعْدَ إدْرَاكِهِمَا مَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا] 702 - 56 مَسْأَلَةٌ: فِي " الْفَاعِلِ، وَالْمَفْعُولِ بِهِ " بَعْدَ إدْرَاكِهِمَا مَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا؟ وَمَا يُطَهِّرُهُمَا؟ وَمَا يَنْوِيَانِ عِنْدَ الطَّهَارَةِ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ فَيَجِبُ قَتْلُهُمَا رَجْمًا بِالْحِجَارَةِ، سَوَاءً كَانَا مُحْصَنَيْنِ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ؛ لِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» وَلِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتَّفَقُوا عَلَى

مسألة من أتى بهيمة

قَتْلِهِمَا. وَعَلَيْهِمَا الِاغْتِسَالُ مِنْ الْجَنَابَةِ، تَرْتَفِعُ الْجَنَابَةُ مِنْ الِاغْتِسَالِ؛ لَكِنْ لَا يَطْهُرَانِ مِنْ نَجَاسَةِ الذَّنْبِ إلَّا بِالتَّوْبَةِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ: «أَنَّهُمَا لَوْ اغْتَسَلَا بِالْمَاءِ يَنْوِيَانِ رَفْعَ الْجَنَابَةِ وَاسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ» . [مَسْأَلَةٌ مَنْ أَتَى بَهِيمَةً] 703 - 57 مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ فِي " التَّهْذِيبِ ": مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوا الْمَفْعُولَ، وَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ بِهَا: فَهَلْ يَجِبُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذَا فِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ: «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ، وَاقْتُلُوهَا» وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ؛ كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. [مَسْأَلَةٌ قَذَفَ رَجُلًا لِأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى حَرِيمِ النَّاسِ وَهُوَ كَاذِبٌ عَلَيْهِ] 704 - 58 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ قَذَفَ رَجُلًا لِأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى حَرِيمِ النَّاسِ، وَهُوَ كَاذِبٌ عَلَيْهِ: فَمَا يَجِبُ عَلَى الْقَاذِفِ؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى افْتِرَائِهِ عَلَى هَذَا الشَّخْصِ بِمَا يَزْجُرُهُ وَأَمْثَالَهُ، إذَا طَلَبَ الْمَقْذُوفُ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَلَهُ مُطَلَّقَةٌ] 705 - 59 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَلَهُ مُطَلَّقَةٌ، وَشَرَطَ إنْ رَدَّ مُطَلَّقَتَهُ كَانَ الصَّدَاقُ حَالًّا، ثُمَّ إنَّهُ رَدَّ الْمُطَلَّقَةَ، وَقَذَفَ هُوَ وَمُطَلَّقَتُهُ عِرْضَ الزَّوْجَةِ، وَرَمَوْهَا بِالزِّنَا؛ بِأَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْ الزِّنَا، وَطَلَّقَهَا بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا: فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمَا؟ وَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُمَا؟ وَهَلْ يَسْقُطُ الصَّدَاقُ، أَمْ لَا؟

مسألة رجل قال لرجل أنت فاسق شارب الخمر

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَمَّا مُطَلَّقَتُهُ فَتُحَدُّ عَلَى قَذْفِهَا ثَمَانِينَ جَلْدَةً إذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمَقْذُوفَةُ، وَلَا تُقْبَلُ لَهَا شَهَادَةٌ أَبَدًا، لِأَنَّهَا فَاسِقَةٌ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً إذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ، وَلَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ أَبَدًا، وَهُوَ فَاسِقٌ إذَا لَمْ يَتُبْ. وَهَلْ لَهُ إسْقَاطُ الْحَدِّ بِاللِّعَانِ؟ فِيهِ لِلْفُقَهَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. قِيلَ: يُلَاعِنُ. وَقِيلَ: لَا يُلَاعِنُ. وَقِيلَ: إنْ كَانَ ثَمَّ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ لَاعَنَ؛ وَإِلَّا فَلَا. وَصَدَاقُهَا بَاقٍ عَلَيْهِ لَا يَسْقُطُ بِاللِّعَانِ، كَمَا سَنَّ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا كُلُّهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ إلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَوَازِ اللِّعَانِ فَفِيهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ. أَحَدُهَا: لَا يُلَاعِنُ؛ بَلْ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ، وَتَسْقُطُ شَهَادَتُهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: يُلَاعِنُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ. وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ هُنَاكَ حَمْلٌ لَاعَنَ؛ لِنَفْيِهِ؛ وَإِلَّا فَلَا. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ أَنْتَ فَاسِقٌ شَارِبُ الْخَمْرِ] 706 - 60 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ: أَنْت فَاسِقٌ شَارِبُ الْخَمْرِ، وَمَنَعَهُ مِنْ أُجْرَةِ مِلْكِهِ الَّذِي يَمْلِكُ انْتِفَاعَهُ شَرْعًا؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا وَجَبَ عَلَى الْقَاذِفِ حَدُّ الْقَذْفِ إذَا طَلَبَهُ الْمَقْذُوفُ، وَأَمَّا شَتْمُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ إذَا كَانَ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُعَزَّرَ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا ضَرْبُهُ وَحَبْسُهُ إذَا كَانَ ظَالِمًا؛ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ، وَمَا عَطَّلَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ ضَمِنَهُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ قَذَفَ رَجُلًا وَقَالَ لَهُ أَنْتَ عِلْقٌ وَلَدُ زِنًا] 707 - 61 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَذَفَ رَجُلًا، وَقَالَ لَهُ: أَنْت عِلْقٌ، وَلَدُ زِنًا: فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ؟

حد المسكر

الْجَوَابُ: إذَا قَذَفَهُ بِالزِّنَا أَوْ اللِّوَاطِ كَقَوْلِهِ: أَنْتَ عِلْقٌ وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ حُرًّا مُسْلِمًا لَمْ يَشْتَهِرْ عَنْهُ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ إذَا طَلَبَهُ الْمَقْذُوفُ وَهُوَ ثَمَانُونَ جَلْدَةً إنْ كَانَ الْقَاذِفُ حُرًّا؛ وَأَرْبَعُونَ إنْ كَانَ رَقِيقًا: عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. [حَدُّ الْمُسْكِرِ] [مَسْأَلَةٌ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ هَلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ] حَدُّ الْمُسْكِرِ 708 - 62 مَسْأَلَةٌ: فِي " الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ " هَلْ (فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ، وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) ؟ وَمَا هِيَ الْمَنَافِعُ؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلُ مَا نَزَلَتْ فِي الْخَمْرِ؛ فَإِنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ؛ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ فِيهَا إثْمًا وَهُوَ مَا يَحْصُلُ بِهَا مِنْ تَرْكِ الْمَأْمُورِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورِ، وَفِيهَا مَنْفَعَةٌ وَهُوَ مَا يَحْصُلُ مِنْ اللَّذَّةِ، وَمَنْفَعَةِ الْبَدَنِ، وَالتِّجَارَةِ فِيهَا، فَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَشْرَبْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرِبَ؛ ثُمَّ بَعْدَ هَذَا شَرِبَ قَوْمٌ الْخَمْرَ فَقَامُوا يُصَلُّونَ وَهُمْ سُكَارَى؛ فَخَلَطُوا فِي الْقِرَاءَةِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فَنَهَاهُمْ عَنْ شُرْبِهَا قُرْبَ الصَّلَاةِ؛ فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهَا. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] . فَحَرَّمَهَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ؛ فَقَالُوا: انْتَهَيْنَا. وَمَضَى حِينَئِذٍ أَمْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِرَاقَتِهَا؛ فَكُسِرَتْ الدِّنَانُ وَالظُّرُوفُ؛ وَلُعِنَ عَاصِرُهَا؛ وَمُعْتَصِرُهَا؛ وَشَارِبُهَا؛ وَآكِلُ ثَمَنِهَا. [مَسْأَلَةٌ هَلْ يَجُوزُ شُرْبُ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ غَيْرِ خَمْرِ] 709 - 63 - مَسْأَلَةٌ: هَلْ يَجُوزُ شُرْبُ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ غَيْرِ خَمْرِ الْعِنَبِ: كَالصَّرْمَاءِ وَالْقَمْزِ، وَالْمِزْرِ؟ أَوْ لَا يَحْرُمُ إلَّا الْقَدَحُ الْأَخِيرُ؟

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ «أَبِي مُوسَى قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ الْبِتْعِ وَهُوَ الْعَسَلُ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ. وَالْمِزْرِ وَهُوَ مِنْ الذُّرَةِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» " وَعَنْ «عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْبِتْعِ وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ، وَكَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ، فَقَالَ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ «رَجُلًا مِنْ الْيَمَنِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ مِنْ الذُّرَةِ، يُقَالُ لَهُ: الْمِزْرُ فَقَالَ: أَمُسْكِرٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إنَّ عَلَى اللَّهِ عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ؛ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ» . فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ أَشْرِبَةٍ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ كَالْمِزْرِ وَغَيْرِهِ فَأَجَابَهُمْ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ، وَقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ: «إنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَرَادَ كُلَّ شَرَابٍ كَانَ جِنْسُهُ مُسْكِرًا حَرَامٌ سَوَاءٌ سَكِرَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ، كَمَا فِي خَمْرِ الْعِنَبِ. وَلَوْ أَرَادَ بِالْمُسْكِرِ الْقَدَحَ الْأَخِيرَ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ الشَّرَابُ كُلُّهُ حَرَامًا؛ وَلَكَانَ بَيَّنَ لَهُمْ؛ فَيَقُولُ اشْرَبُوا مِنْهُ وَلَا تَسْكَرُوا. وَلِأَنَّهُ «سَأَلَهُمْ عَنْ الْمِزْرِ أَمُسْكِرٌ هُوَ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . فَلَمَّا سَأَلَهُمْ " أَمُسْكِرٌ هُوَ؟ " إنَّمَا أَرَادَ يُسْكِرُ كَثِيرُهُ كَمَا يُقَالُ الْخُبْزُ يُشْبِعُ؛ وَالْمَاءُ يُرْوِي، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الرِّيُّ وَالشِّبَعُ بِالْكَثِيرِ مِنْهُ لَا بِالْقَلِيلِ. كَذَلِكَ الْمُسْكِرُ إنَّمَا يَحْصُلُ السُّكْرُ بِالْكَثِيرِ مِنْهُ، فَلَمَّا قَالُوا لَهُ: هُوَ مُسْكِرٌ. قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمُسْكِرِ كَمَا يُرَادُ بِالْمُشْبِعِ وَالْمُرَوِّي وَنَحْوِهِمَا، وَلَمْ يُرِدْ آخِرَ قَدَحٍ؛ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ؛ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» وَفِي لَفْظٍ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» وَمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ لَا يَقُولُ: إنَّهُ خَمْرٌ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامًا. وَفِي السُّنَنِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ الْحِنْطَةِ

خَمْرًا، وَمِنْ الشَّعِيرِ خَمْرًا، وَمِنْ الزَّبِيبِ خَمْرًا، وَمِنْ الْعَسَلِ خَمْرًا» وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: مِنْ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ؛ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُبَيِّنُ أَنَّ الْخَمْرَ الَّتِي حَرَّمَهَا اسْمٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْعَسَلِ، أَوْ التَّمْرِ، أَوْ الْحِنْطَةِ، أَوْ الشَّعِيرِ؛ أَوْ لَبَنِ الْخَيْلِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَفِي السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ؛ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ الْفَرْقُ مِنْهُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ؛ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وَغَيْرِهِمْ، وَصَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ: مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَأَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ، وَالْآثَارِ. وَلَكِنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ فِي النَّبِيذِ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَشْرَبُونَ النَّبِيذَ: فَظَنُّوا أَنَّهُ الْمُسْكِرُ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ النَّبِيذُ الَّذِي شَرِبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْبِذُونَ التَّمْرَ أَوْ الزَّبِيبَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَحْلُوَا، فَيَشْرَبُهُ أَوَّلَ يَوْمٍ، وَثَانِيَ يَوْمٍ؛ وَثَالِثَ يَوْمٍ؛ وَلَا يَشْرَبُهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ؛ لِئَلَّا تَكُونَ الشِّدَّةُ قَدْ بَدَتْ فِيهِ؛ وَإِذَا اشْتَدَّ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَشْرَبْ. وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا» وَرُوِيَ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَنْ شَرِبَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الصِّرْمَا وَغَيْرَ ذَلِكَ؛ وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ وَاضِحٌ؛ فَإِنَّ خَمْرَ الْعِنَبِ قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا؛ وَلَا فَرْقَ فِي الْحِسِّ وَلَا الْعَقْلِ بَيْنَ خَمْرِ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْعَسَلِ؛ فَإِنَّ هَذَا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ؛ وَهَذَا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ؛ وَهَذَا يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ؛ وَهَذَا يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ.

مسألة نبيذ التمر والزبيب والمزر والسويقة

وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَالِاعْتِبَارِ؛ وَهَذَا هُوَ " الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ " وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ؛ فَلَا يُفَرِّقُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَ شَرَابٍ مُسْكِرٍ وَشَرَابٍ مُسْكِرٍ فَيُبِيحُ قَلِيلَ هَذَا وَلَا يُبِيحُ قَلِيلَ هَذَا؛ بَلْ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا وَإِذَا كَانَ قَدْ حَرُمَ الْقَلِيلُ مِنْ أَحَدِهِمَا حَرُمَ الْقَلِيلُ مِنْهُمَا؛ فَإِنَّ الْقَلِيلَ يَدْعُو إلَى الْكَثِيرِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِاجْتِنَابِ الْخَمْرِ، وَلِهَذَا يُؤْمَرُ بِإِرَاقَتِهَا؛ وَيَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهَا، وَحُكِمَ بِنَجَاسَتِهَا؛ وَأُمِرَ بِجَلْدِ شَارِبِهَا، كُلُّ ذَلِكَ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ؛ فَكَيْفَ يُبِيحُ الْقَلِيلَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ،، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ نَبِيذِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْمِزْرِ وَالسَّوِيقَةِ] 710 - 64 مَسْأَلَةٌ: فِي نَبِيذِ التَّمْرِ؛ وَالزَّبِيبِ، وَالْمِزْرِ، " وَالسَّوِيقَةِ " الَّتِي تُعْمَلُ مِنْ الْجَزَرِ، الَّذِي يُعْمَلُ مِنْ الْعِنَبِ، يُسَمَّى " النَّصُوحَ ": هَلْ هُوَ حَلَالٌ؟ وَهَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ فَهُوَ خَمْرٌ، فَهُوَ حَرَامٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ «أَبِي مُوسَى: أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ شَرَابٍ يُصْنَعُ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ وَشَرَابٍ يُصْنَعُ مِنْ الْعَسَلِ يُقَالُ لَهُ الْبِتْعُ وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَوَامِعَ الْكَلِمِ، فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» وَفِي لَفْظِ الصَّحِيحِ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ؛ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» وَقَدْ صَحَّحَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ. وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَصِيرَ الْعِنَبِ النِّيءِ إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ الَّتِي تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَتُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ. وَكُلُّ مَا كَانَتْ فِيهِ هَذِهِ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ فَهُوَ خَمْرٌ مِنْ أَيِّ مَادَّةٍ كَانَ: مِنْ الْحُبُوبِ؛ وَالثِّمَارِ؛

مسألة النصوح هل هو حلال أم حرام

وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَسَوَاءٌ كَانَ نِيئًا أَوْ مَطْبُوخًا؛ لَكِنَّهُ إذَا طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ لَمْ يَبْقَ مُسْكِرًا؛ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ أَفَاوِيهُ أَوْ نَوْعٌ آخَرُ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ «أَنَّ كُلَّ مَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ، وَهَذَا الْمُسْكِرُ يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى شَارِبِهِ؛ وَهُوَ نَجِسٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ. وَكَذَلِكَ " الْحَشِيشَةُ " الْمُسْكِرَةُ يَجِبُ فِيهَا الْحَدُّ؛ وَهِيَ نَجِسَةٌ فِي أَصَحِّ الْوُجُوهِ؛ وَقَدْ قِيلَ: إنَّهَا طَاهِرَةٌ. وَقِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَ يَابِسِهَا وَمَائِعِهَا: وَالْأَوَّلُ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهَا تُسْكِرُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَالْخَمْرِ النِّيءِ؛ بِخِلَافِ مَا لَا يُسْكِرُ بَلْ يُغَيِّبُ الْعَقْلَ كَالْبَنْجِ؛ أَوْ يُسْكِرُ بَعْدَ الِاسْتِحَالَةِ كَجَوْزَةِ الطِّيبِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَجِسٍ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْحَشِيشَةَ لَا تُسْكِرُ وَإِنَّمَا تُغَيِّبُ الْعَقْلَ بِلَا لَذَّةٍ فَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ أَمْرهَا؛ فَإِنَّهُ لَوْلَا مَا فِيهَا مِنْ اللَّذَّةِ لَمْ يَتَنَاوَلُوهَا وَلَا أَكَلُوهَا؛ بِخِلَافِ الْبَنْجِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا لَذَّةَ فِيهِ. وَالشَّارِعُ فَرَّقَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ بَيْنَ مَا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ وَمَا لَا تَشْتَهِيهِ فَمَا لَا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ اكْتَفَى فِيهِ بِالزَّاجِرِ الشَّرْعِيِّ؛ فَجَعَلَ الْعُقُوبَةَ فِيهِ التَّعْزِيرَ. وَأَمَّا مَا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ فَجَعَلَ فِيهِ مَعَ الزَّاجِرِ الشَّرْعِيِّ زَاجِرًا طَبِيعِيًّا وَهُوَ الْحَدُّ. " وَالْحَشِيشَةُ " مِنْ هَذَا الْبَابِ. [مَسْأَلَةٌ النَّصُوحِ هَلْ هُوَ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ] 711 - 65 مَسْأَلَةٌ: فِي " النَّصُوحِ " هَلْ هُوَ حَلَالٌ، أَمْ حَرَامٌ؟ وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَعْمَلُهُ. " وَصُورَتُهُ " أَنْ يَأْخُذَ ثَلَاثِينَ رِطْلًا مِنْ مَاءِ عِنَبٍ، وَيُغْلَى حَتَّى يَبْقَى ثُلُثُهُ؛ فَهَلْ هَذِهِ صُورَتُهُ؟ وَقَدْ نَقَلَ مَنْ فَعَلَ بَعْضَ ذَلِكَ أَنَّهُ يُسْكِرُ؛ وَهُوَ الْيَوْمَ جِهَارًا فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَمِصْرَ؛ وَنَقُولُ لَهُمْ: هُوَ حَرَامٌ؛ فَيَقُولُونَ: كَانَ عَلَى زَمَنِ عُمَرَ؛ وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَنَهَى عَنْهُ؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. قَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ أَنَّهُ حَرَّمَ كُلَّ مُسْكِرٍ، وَجَعَلَهُ خَمْرًا، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» وَفِي لَفْظٍ «كُلُّ

مُسْكِرٍ حَرَامٌ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى، «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَرَابِ الْعَسَلِ، يُسَمَّى الْمِزْرَ، وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ؛ فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ - مِنْبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: مِنْ الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ؛ وَالْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ؛ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. وَهُوَ فِي السُّنَنِ مُسْنَدٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» وَقَدْ صَحَّحَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْحُفَّاظِ. وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. فَذَهَبَ أَهْلُ الْحِجَازِ، وَالْيَمَنِ؛ وَمِصْرَ؛ وَالشَّامِ، وَالْبَصْرَةِ، وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ: كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ كُلَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ؛ وَهُوَ خَمْرٌ عِنْدَهُمْ مِنْ أَيِّ مَادَّةٍ كَانَتْ: مِنْ الْحُبُوبِ. وَالثِّمَارِ، وَغَيْرِهَا، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْعِنَبِ؛ أَوْ التَّمْرِ؛ أَوْ الْحِنْطَةِ، أَوْ الشَّعِيرِ، أَوْ لَبَنِ الْخَيْلِ؛ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ كَانَ نِيًّا أَوْ مَطْبُوخًا، وَسَوَاءٌ ذَهَبَ ثُلُثَاهُ، أَوْ ثُلُثُهُ؛ أَوْ نِصْفُهُ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ. فَمَتَى كَانَ كَثِيرُهُ مُسْكِرًا حَرُمَ قَلِيلُهُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَهُمْ. وَمَعَ هَذَا فَهُمْ يَقُولُونَ بِمَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ؛ فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ، وَأَرَادَ أَنْ يَطْبُخَ لِلْمُسْلِمِينَ شَرَابًا لَا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ طَبَخَ الْعَصِيرَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ، وَصَارَ مِثْلَ الرُّبِّ، فَأَدْخَلَ فِيهِ أُصْبُعَهُ فَوَجَدَهُ غَلِيظًا، فَقَالَ: كَأَنَّهُ الطَّلَا. يَعْنِي الطَّلَا الَّذِي يُطْلَى بِهِ الْإِبِلُ، فَسَمَّوْا ذَلِكَ " الطَّلَا ". فَهَذَا الَّذِي أَبَاحَهُ عُمَرُ لَمْ يَكُنْ يُسْكِرُ، وَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ جَعْفَرٍ صَاحِبُ الْخَلَّالِ: أَنَّهُ مُبَاحٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْكِرُ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ: إنَّهُ يُبَاحُ مَعَ كَوْنِهِ مُسْكِرًا. وَلَكِنْ نَشَأَتْ " شُبْهَةٌ " مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا الْمَطْبُوخَ قَدْ يُسْكِرُ؛ لِأَشْيَاءَ إمَّا لِأَنَّ طَبْخَهُ لَمْ يَكُنْ تَامًّا؛ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا صِفَةَ طَبْخِهِ أَنَّهُ يُغْلَى عَلَيْهِ أَوَّلًا حَتَّى يَذْهَبَ وَسَخُهُ، ثُمَّ يُغْلَى

مسألة فيمن قال إن خمر العنب والحشيشة يجوز بعضه إذا لم يسكر

عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ، فَإِذَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَالْوَسَخُ فِيهِ كَانَ الذَّاهِبُ مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَسَخَ يَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ غَيْرِ الذَّاهِبِ وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ يُضَافُ إلَى الْمَطْبُوخِ مِنْ الْأَفَاوِيهِ وَغَيْرِهَا مَا يُقَوِّيهِ وَيَشُدُّهُ حَتَّى يَصِيرَ مُسْكِرًا، فَيَصِيرُ بِذَلِكَ مِنْ بَابِ الْخَلِيطَيْنِ، وَقَدْ اسْتَفَاضَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْخَلِيطَيْنِ» لِتَقْوِيَةِ أَحَدِهِمَا صَاحِبَهُ، كَمَا نَهَى عَنْ خَلِيطِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَعَنْ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلِلْعُلَمَاءِ نِزَاعٌ فِي " الْخَلِيطَيْنِ " إذَا لَمْ يُسْكِرْ، كَمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي نَبِيذِ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي لَا يَشْتَدُّ مَا فِيهَا بِالْغَلَيَانِ، وَكَمَا تَنَازَعُوا فِي الْعَصِيرِ وَالنَّبِيذِ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَأَمَّا إذَا صَارَ الْخَلِيطَانِ مِنْ الْمُسْكِرِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ. فَاَلَّذِي أَبَاحَهُ عُمَرُ مِنْ الْمَطْبُوخِ كَانَ صِرْفًا، فَإِذَا خَلَطَهُ بِمَا قَوَّاهُ وَذَهَبَ ثُلُثَاهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَا أَبَاحَهُ عُمَرُ. وَرُبَّمَا يَكُونُ لِبَعْضِ الْبِلَادِ طَبِيعَةٌ يُسْكِرُ فِيهَا مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ فَيَحْرُمُ إذَا أَسْكَرَ؛ فَإِنَّ مَنَاطَ التَّحْرِيمِ هُوَ السُّكْرُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ عُمَرَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَبَاحَ مُسْكِرًا فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمْ. . [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ قَالَ إنَّ خَمْرَ الْعِنَبِ وَالْحَشِيشَةِ يَجُوزُ بَعْضُهُ إذَا لَمْ يُسْكِرْ] 712 - 66 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ قَالَ: إنَّ خَمْرَ الْعِنَبِ وَالْحَشِيشَةِ يَجُوزُ بَعْضُهُ إذَا لَمْ يُسْكِرْ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ: فَهَلْ هُوَ صَادِقٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؟ أَمْ كَاذِبٌ فِي نَقْلِهِ؟ وَمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ: هَلْ يَكْفُرُ، أَمْ لَا؟ وَذَكَرَ أَنَّ قَلِيلَ الْمِزْرِ يَجُوزُ شُرْبُهُ فَهَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ خَمْرِ الْعِنَبِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ؟ أَمْ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ كَمَا ادَّعَاهُ هَذَا الرَّجُلُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا الْخَمْرُ الَّتِي هِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ الَّذِي إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ فَيَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ نَقَلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إبَاحَةَ قَلِيلِ ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ؛ بَلْ مَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَلَوْ اسْتَحَلَّ شُرْبَ الْخَمْرِ بِنَوْعِ شُبْهَةٍ وَقَعَتْ لِبَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهَا إنَّمَا تَحْرُمُ عَلَى الْعَامَّةِ؛ لَا

عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ؛ فَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ كَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا عَلَى أَنَّ مُسْتَحِلَّ ذَلِكَ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ أَقَرَّ بِالتَّحْرِيمِ جُلِدَ، وَإِنْ أَصَرَّ عَلَى اسْتِحْلَالِهَا قُتِلَ. بَلْ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُحَرِّمُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِنْ أَشْرِبَةٍ أُخَرَ: وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهَا خَمْرًا، كَنَبِيذِ التَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ النِّيءِ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عِنْدَهُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ إذَا كَانَ مُسْكِرًا، وَكَذَلِكَ الْمَطْبُوخُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ الَّذِي لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عِنْدَهُ قَلِيلُهُ إذَا كَانَ كَثِيرُهُ يُسْكِرُ. فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الْأَرْبَعَةُ تَحْرُمُ عِنْدَهُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ مِنْهَا. وَإِنَّمَا وَقَعَتْ " الشُّبْهَةُ " فِي سَائِرِ الْمُسْكِرِ كَالْمِزْرِ الَّذِي يُصْنَعُ مِنْ الْقَمْحِ وَنَحْوِهِ: فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ عِنْدَنَا شَرَابًا يُقَالُ لَهُ " الْبِتْعُ " مِنْ الْعَسَلِ؛ وَشَرَابًا مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ " الْمِزْرُ " وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ فَهُوَ حَرَامٌ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» " وَفِي السُّنَنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» وَاسْتَفَاضَتْ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ. فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ مَدِينَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَابٌ يَشْرَبُونَهُ إلَّا مِنْ التَّمْرِ، فَكَانَتْ تِلْكَ خَمْرَهُمْ، وَجَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ» وَالْمُرَادُ بِهِ النَّبِيذُ الْحُلْوُ، وَهُوَ أَنْ يُوضَعَ التَّمْرُ أَوْ الزَّبِيبُ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَحْلُوَ ثُمَّ يَشْرَبَهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَاهُمْ أَنْ يَنْتَبِذُوا فِي الْقَرْعِ وَالْخَشَبِ وَالْحَجَرِ وَالظَّرْفِ الْمُزَفَّتِ، لِأَنَّهُمْ إذَا انْتَبَذُوا فِيهَا دَبَّ السُّكْرُ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَيَشْرَبُ الرَّجُلُ مُسْكِرًا، وَنَهَاهُمْ عَنْ الْخَلِيطَيْنِ مِنْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُقَوِّي الْآخَرَ؛ وَنَهَاهُمْ عَنْ شُرْبِ النَّبِيذِ بَعْدَ ثَلَاثٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ فِيهِ السُّكْرُ وَالْإِنْسَانُ لَا يَدْرِي. كُلُّ ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَمَنْ اعْتَقَدَ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النَّبِيذَ الَّذِي أَرْخَصَ فِيهِ يَكُونُ مُسْكِرًا - يَعْنِي مِنْ نَبِيذِ الْعَسَلِ،

مسألة فيمن يأكل الحشيشة ما يجب عليه

وَالْقَمْحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَالَ: يُبَاحُ أَنْ يُتَنَاوَلَ مِنْهُ مَا لَمْ يُسْكِرْ - فَقَدْ أَخْطَأَ. وَأَمَّا جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ فَعَرَفُوا أَنَّ الَّذِي أَبَاحَهُ هُوَ الَّذِي لَا يُسْكِرُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ فِي النَّصِّ، وَالْقِيَاسِ. وَأَمَّا " النَّصُّ " فَالْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ فِيهِ. وَأَمَّا " الْقِيَاسُ " فَلِأَنَّ جَمِيعَ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي كَوْنِهَا تُسْكِرُ، وَالْمَفْسَدَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي هَذَا مَوْجُودَةٌ فِي هَذَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بَلْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ الْعَدْلِ وَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ حَرَامٌ، وَالْحَشِيشَةُ الْمُسْكِرَةُ حَرَامٌ، وَمَنْ اسْتَحَلَّ السُّكْرَ مِنْهَا فَقَدْ كَفَرَ؛ بَلْ هِيَ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ نَجِسَةٌ كَالْخَمْرِ. فَالْخَمْرُ كَالْبَوْلِ، وَالْحَشِيشَةُ كَالْعَذِرَةِ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ يَأْكُلُ الْحَشِيشَةَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ] الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذِهِ الْحَشِيشَةُ الصُّلْبَةُ حَرَامٌ، سَوَاءٌ سَكِرَ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَسْكَرْ؛ وَالسُّكْرُ مِنْهَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ وَزَعَمَ أَنَّهُ حَلَالٌ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ مُرْتَدًّا، لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا إنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ قُرْبَةً، وَقَالَ: هِيَ لُقَيْمَةُ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ، وَتُحَرِّكُ الْعَزْمَ السَّاكِنَ إلَى أَشْرَفِ الْأَمَاكِنِ، وَتَنْفَعُ فِي الطَّرِيقِ: فَهُوَ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ دِينِ النَّصَارَى الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ؛ وَمِنْ جِنْسِ مَنْ يَعْتَقِدُ الْفَوَاحِشَ قُرْبَةً وَطَاعَةً؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] وَمَنْ كَانَ يَسْتَحِلُّ ذَلِكَ جَاهِلًا وَقَدْ سُمِعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ: حَرَّمُوهَا مِنْ غَيْرِ عَقْلٍ وَنَقْلٍ ... وَحَرَامٌ تَحْرِيمُ غَيْرِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ مَا يَعْرِفُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَالسُّكْرُ مِنْهَا حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ وَلَمْ يُقِرَّ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا مُرْتَدًّا، كَمَا تَقَدَّمَ. وَكُلُّ مَا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ فَإِنَّهُ حَرَامٌ وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ بِهِ نَشْوَةٌ وَلَا طَرَبٌ، فَإِنَّ تَغَيُّبَ الْعَقْلِ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ

الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا تَعَاطِي " الْبَنْجِ " الَّذِي لَمْ يُسْكِرْ، وَلَمْ يُغَيِّبْ الْعَقْلَ. فَفِيهِ التَّعْزِيرُ. وَأَمَّا الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَعَلِمُوا أَنَّهَا مُسْكِرَةٌ؛ وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُهَا الْفُجَّارُ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ النَّشْوَةِ وَالطَّرَبِ، فَهِيَ تُجَامِعُ الشَّرَابَ الْمُسْكِرَ فِي ذَلِكَ، وَالْخَمْرُ تُوجِبُ الْحَرَكَةَ وَالْخُصُومَةَ، وَهَذِهِ تُوجِبُ الْفُتُورَ وَالذِّلَّةَ، وَفِيهَا مَعَ ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الْمِزَاجِ وَالْعَقْلِ؛ وَفَتْحِ بَابِ الشَّهْوَةِ؛ وَمَا تُوجِبُهُ مِنْ الدِّيَاثَةِ: مِمَّا هِيَ مِنْ شَرِّ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ فِي النَّاسِ بِحُدُوثِ التَّتَارِ. وَعَلَى تَنَاوُلِ الْقَلِيلِ مِنْهَا وَالْكَثِيرِ حَدُّ الشُّرْبِ: ثَمَانُونَ سَوْطًا؛ أَوْ أَرْبَعُونَ. إذَا كَانَ مُسْلِمًا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ الْمُسْكِرِ، وَيُغَيِّبُ الْعَقْلَ. وَتَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَتِهَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: إنَّهَا لَيْسَتْ نَجِسَةً. وَالثَّانِي: أَنَّ مَائِعَهَا نَجِسٌ؛ وَأَنَّ جَامِدَهَا طَاهِرٌ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهَا نَجِسَةٌ كَالْخَمْرِ؛ فَهَذِهِ تُشْبِهُ الْعَذِرَةَ؛ وَذَلِكَ يُشْبِهُ الْبَوْلَ، وَكِلَاهُمَا مِنْ الْخَبَائِثِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَمَنْ ظَهَرَ مِنْهُ أَكْلُ الْحَشِيشَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ شُرْبُ الْخَمْرِ؛ وَشَرٌّ مِنْهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ؛ وَيُهْجَرُ، وَيُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا يُعَاقَبُ هَذَا؛ لِلْوَعِيدِ الْوَارِدِ فِي الْخَمْرِ؛ مِثْلُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ، وَشَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا؛ وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا؛ وَحَامِلَهَا، وَآكِلَ ثَمَنِهَا» وَمِثْلُ قَوْلِهِ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا؛ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ فَإِنْ عَادَ وَشَرِبَهَا لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا؛ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَهَا لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا؛ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَهَا فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ؛ وَهِيَ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ» وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» «وَسُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كُلُّ مُسْكِرِ حَرَامٌ» .

مسألة فيما يجب على آكل الحشيشة

[مَسْأَلَةٌ فِيمَا يَجِبُ عَلَى آكِلِ الْحَشِيشَةِ] ِ؟ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ أَكْلَهَا جَائِزٌ حَلَالٌ مُبَاحٌ؟ الْجَوَابُ: أَكْلُ هَذِهِ الْحَشِيشَةِ الصُّلْبَةِ حَرَامٌ، وَهِيَ مِنْ أَخْبَثِ الْخَبَائِثِ الْمُحَرَّمَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَلَ مِنْهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا؛ لَكِنَّ الْكَثِيرَ الْمُسْكِرَ مِنْهَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ كَافِرًا مُرْتَدًّا؛ لَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يُدْفَنُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَحُكْمُ الْمُرْتَدِّ شَرٌّ مِنْ حُكْمِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ يَحِلُّ لِلْعَامَّةِ أَوْ لِلْخَاصَّةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا لُقْمَةُ الْفِكْرِ وَالذِّكْرِ، وَأَنَّهَا تُحَرِّكُ الْعَزْمَ السَّاكِنَ إلَى أَشْرَفِ الْأَمَاكِنِ، وَأَنَّهُمْ لِذَلِكَ يَسْتَعْمِلُونَهَا. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ ظَنَّ أَنَّ الْخَمْرَ تُبَاحُ لِلْخَاصَّةِ، مُتَأَوِّلًا قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة: 93] فَلَمَّا رُفِعَ أَمْرُهُمْ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَتَشَاوَرَ الصَّحَابَةُ فِيهِمْ اتَّفَقَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى أَنَّهُمْ إنْ أَقَرُّوا بِالتَّحْرِيمِ جُلِدُوا، وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى الِاسْتِحْلَالِ قُتِلُوا. وَهَكَذَا حَشِيشَةُ الْعُشْبِ مَنْ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهَا وَتَنَاوَلَهَا فَإِنَّهُ يُجْلَدُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ سَوْطًا، أَوْ أَرْبَعِينَ. هَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَقَدْ تَوَقَّفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي الْجَلْدِ، لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهَا مُزِيلَةٌ لِلْعَقْلِ، غَيْرُ مُسْكِرَةٍ، كَالْبَنْجِ وَنَحْوِهِ، مِمَّا يُغَطِّي الْعَقْلَ مِنْ غَيْرِ سُكْرٍ، فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ: إنْ كَانَ مُسْكِرًا فَفِيهِ جَلْدُ الْخَمْرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا فَفِيهِ التَّعْزِيرُ بِمَا دُونَ ذَلِكَ. وَمَنْ اعْتَقَدَ حِلَّ ذَلِكَ كَفَرَ وَقُتِلَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَشِيشَةَ مُسْكِرَةٌ كَالشَّرَابِ؛ فَإِنَّ آكِلِيهَا يَنْتَشُونَ بِهَا، وَيُكْثِرُونَ تَنَاوُلَهَا، بِخِلَافِ الْبَنْجِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُنْشِي، وَلَا يُشْتَهَى. وَقَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ أَنَّ مَا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ كَالْخَمْرِ وَالزِّنَا فَفِيهِ الْحَدُّ وَمَا لَا تَشْتَهِيهِ كَالْمَيْتَةِ فَفِيهِ التَّعْزِيرُ. " وَالْحَشِيشَةُ " مِمَّا يَشْتَهِيهَا آكِلُوهَا، وَيَمْتَنِعُونَ عَنْ تَرْكِهَا؛ وَنُصُوصُ التَّحْرِيمِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى مَنْ يَتَنَاوَلُهَا كَمَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ فِي النَّاسِ أَكْلُهَا

مسألة فيمن يأخذ شيئا من العنب ويضيف إليه أصنافا من العطر ثم يغليه

قَرِيبًا مِنْ نَحْوِ ظُهُورِ التَّتَارِ؛ فَإِنَّهَا خَرَجَتْ، وَخَرَجَ مَعَهَا سَيْفُ التَّتَارِ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ الْعِنَبِ وَيُضِيفُ إلَيْهِ أَصْنَافًا مِنْ الْعِطْرِ ثُمَّ يَغْلِيهِ] 715 - 69 - مَسْأَلَةٌ. فِيمَنْ يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ الْعِنَبِ، وَيُضِيفُ إلَيْهِ أَصْنَافًا مِنْ الْعِطْرِ ثُمَّ يَغْلِيهِ إلَى أَنْ يَنْقُصَ الثُّلُثُ، وَيَشْرَبُ مِنْهُ لِأَجْلِ الدَّوَاءِ، وَمَتَى أَكْثَرَ شُرْبَهُ أَسْكَرَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. مَتَى كَانَ كَثِيرُهُ يُسْكِرُ فَهُوَ حَرَامٌ، وَهُوَ خَمْرٌ، وَيُحَدُّ صَاحِبُهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْبِتْعِ وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ، وَكَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ فَقَالَ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ «أَبِي مُوسَى، قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ،: أَفْتِنَا فِي شَرَابٍ كُنَّا نَصْنَعُهُ فِي الْيَمَنِ الْبِتْعِ وَهُوَ مِنْ نَبِيذِ الْعَسَلِ، يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ، فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» " وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ «رَجُلًا مِنْ حُبْشَانِ الْيَمَنِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَرَابٍ يَصْنَعُونَهُ بِأَرْضِهِمْ يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ فَقَالَ: أَيُسْكِرُ؟ قَالَ نَعَمْ. فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ؛ إنَّ عَلَى اللَّهِ عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ؛ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ» " وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» وَقَدْ صَحَّحَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ. وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ. وَإِذَا طُبِخَ الْعَصِيرُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثُهُ أَوْ نِصْفُهُ وَهُوَ يُسْكِرُ فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ بَلْ هُوَ خَمْرٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَأَمَّا إنْ ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ: فَهَذَا لَا يُسْكِرُ فِي الْعَادَةِ، إلَّا إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ مَا يُقَوِّيهِ، أَوْ لِسَبَبٍ آخَرَ فَمَتَى أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ " الطِّلَاءُ " الَّذِي أَبَاحَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا إنْ

مسألة المداومة على شرب الخمر وترك الصلاة

أَسْكَرَ بَعْدَ مَا طُبِخَ وَذَهَبَ ثُلُثَاهُ: فَهُوَ حَرَامٌ أَيْضًا عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. [مَسْأَلَةٌ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ] 716 - 70 - مَسْأَلَةٌ: فِي الْمُدَاوَمَةِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، وَتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَمَا حُكْمُهُ فِي الْإِصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا " شَارِبُ الْخَمْرِ " فَيَجِبُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ أَنْ يُجْلَدَ الْحَدَّ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَحَدُّهُ أَرْبَعُونَ جَلْدَةً، أَوْ ثَمَانُونَ جَلْدَةً. فَإِنَّ جَلْدَهُ ثَمَانِينَ جَازَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فَفِي الْإِجْزَاءِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ يَجِبُ الثَّمَانُونَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ أَنَّ الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةَ تَعْزِيرٌ يُرْجَعُ فِيهَا إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، فَإِنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الشُّرْبِ أَوْ إصْرَارِ الشَّارِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعَلَ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُعَزِّرُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَنْفِي الشَّارِبَ عَنْ بَلَدِهِ، وَيُمَثِّلُ بِهِ بِحَلْقِ رَأْسِهِ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إنْ شَرِبَهَا فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إنْ شَرِبَهَا فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إنْ شَرِبَهَا فِي الثَّالِثَةِ، أَوْ الرَّابِعَةِ: فَاقْتُلُوهُ» . فَأَمَرَ بِقَتْلِ الشَّارِبِ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ لَا يُوجِبُونَ الْقَتْلَ؛ بَلْ يَجْعَلُونَ هَذَا الْحَدِيثَ مَنْسُوخًا؛ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ. وَطَائِفَةٌ يَقُولُونَ: إذَا لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ الشُّرْبِ إلَّا بِالْقَتْلِ جَازَ ذَلِكَ، كَمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي السُّنَنِ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَدَعُوا ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُمْ» . وَالْحَقُّ مَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ «رَجُلًا كَانَ يُدْعَى حِمَارًا، وَهُوَ كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ؛ فَكَانَ كُلَّمَا شَرِبَ جَلَدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَعَنَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: لَعَنَهُ اللَّهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ: لَا تَلْعَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ جُلِدَ مَعَ كَثْرَةِ شُرْبِهِ. وَأَمَّا " تَارِكُ الصَّلَاةِ " فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَأَكْثَرُهُمْ - كَمَالِكٍ

مسألة رجل عنده حجرة خلفها فلوة فهل يجوز الشرب من لبنها

وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ - يَقُولُونَ: إنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَهَلْ يُقْتَلُ كَافِرًا مُرْتَدًّا، أَوْ فَاسِقًا كَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فَإِذَا لَمْ تُمْكِنْ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى مِثْلِ هَذَا فَإِنَّهُ يُعْمَلُ مَعَهُ الْمُمْكِنُ: فَيُهْجَرُ: وَيُوَبَّخُ حَتَّى يَفْعَلَ الْمَفْرُوضَ، وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ، وَلَا يَكُونُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] مَعَ أَنَّ إضَاعَتَهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا، فَكَيْفَ بِتَارِكِهَا؟ . [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ عِنْدَهُ حُجْرَةٌ خَلْفَهَا فَلُوَّةٌ فَهَلْ يَجُوزُ الشُّرْبُ مِنْ لَبَنِهَا] 717 - 71 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ عِنْدَهُ حُجْرَةٌ خَلْفَهَا فَلُوَّةٌ: فَهَلْ يَجُوزُ الشُّرْبُ مِنْ لَبَنِهَا، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: يَجُوزُ الشُّرْبُ مِنْ لَبَنِهَا؛ إذَا لَمْ يَصِرْ مُسْكِرًا. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ اعْتَادَ أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ لَيْلَةٍ قَبْلَ الْعَصْرِ شَيْئًا مِنْ الْمَعَاجِينِ] 718 - 72 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ اعْتَادَ أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ لَيْلَةٍ قَبْلَ الْعَصْرِ شَيْئًا مِنْ الْمَعَاجِينِ مُدَّةَ سِنِينَ. فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَرَى فِيهِ أَشْيَاءَ مِنْ الْمَنَافِعِ: فَهَلْ يُبَاحُ ذَلِكَ لَهُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ ذَلِكَ يُغَيِّبُ الْعَقْلَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَكْلُهُ، فَإِنَّ كُلَّ مَا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ يَحْرُمُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. [مَسْأَلَة قَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ] 719 - 73 سُئِلَ: عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ» هَلْ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلٌ؟ وَمَنْ رَوَاهُ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ. لَهُ أَصْلٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَهُوَ ثَابِتٌ عِنْدَ أَهْلِ

مسألة هش الذرة فأخذ يغلي في قدره ثم ينزله ويعمل عليه قمحا

الْحَدِيثِ؛ لَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: هُوَ مَنْسُوخٌ. وَتَنَازَعُوا فِي نَاسِخِهِ؟ عَلَى عِدَّةِ أَقَاوِيلَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ حُكْمُهُ بَاقٍ. وَقِيلَ: بَلْ الْوُجُوبُ مَنْسُوخٌ، وَالْجَوَازُ بَاقٍ. وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَدَحَ فِيهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ هَشَّ الذُّرَةَ فَأَخَذَ يَغْلِي فِي قِدْرِهِ ثُمَّ يُنْزِلُهُ وَيَعْمَلُ عَلَيْهِ قَمْحًا] 720 - 74 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ هَشَّ الذُّرَةَ فَأَخَذَ يَغْلِي فِي قِدْرِهِ، ثُمَّ يُنْزِلُهُ وَيَعْمَلُ عَلَيْهِ قَمْحًا، وَيُخَلِّيهِ إلَى بُكْرَةٍ، وَيُصَفِّيهِ: فَيَكُونُ مِمَّا لَا يُسْكِرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، ثُمَّ يُخَلِّيهِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً بَعْدَ ذَلِكَ فَيَبْقَى يُسْكِرُ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: يَجُوزُ شُرْبُهُ مَا لَمْ يُسْكِرْ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. فَأَمَّا إذَا أَسْكَرَ فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوَاءٌ أَسْكَرَ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ، أَوْ قَبْلَ الثَّلَاثَةِ، وَمَتَى أَسْكَرَ حَرُمَ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . [مَسْأَلَةٌ الْخَمْرِ إذَا غَلَى عَلَى النَّارِ وَنَقَصَ الثُّلُثُ] 721 - 75 مَسْأَلَةٌ: فِي " الْخَمْرِ " إذَا غَلَى عَلَى النَّارِ وَنَقَصَ الثُّلُثُ: هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا صَارَ مُسْكِرًا فَإِنَّهُ حَرَامٌ تَجِبُ إرَاقَتُهُ، وَلَا يَحِلُّ بِالطَّبْخِ. وَأَمَّا إذَا طُبِخَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُسْكِرًا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَلَمْ يُسْكِرْ فَإِنَّهُ حَلَالٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا إنْ طُبِخَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُسْكِرًا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُهُ أَوْ نِصْفُهُ، فَإِنْ كَانَ مُسْكِرًا فَإِنَّهُ حَرَامٌ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ مَا لَمْ يُسْكِرْ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. [مَسْأَلَةٌ جَمَاعَة ثِقَات اجْتَمَعَتْ آرَاؤُهُمْ عَلَى أَكْلِ الْغُبَيْرَاءِ] 722 - 76 مَسْأَلَةٌ: فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رِجَالٍ كُهُولٍ وَشُبَّانٍ، وَهُمْ حُجَّاجٌ

مُوَاظِبُونَ عَلَى أَدَاءِ مَا اُفْتُرِضَ عَلَيْهِمْ: مِنْ صَوْمٍ، وَصَلَاةٍ، وَعِبَادَةٍ. وَفِيهِمْ كَبِيرُ الْقَدْرِ مَعْرُوفُونَ بِالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ؛ لَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ظَوَاهِرِ السُّوءِ وَالْفُسُوقِ، وَقَدْ اجْتَمَعَتْ عُقُولُهُمْ وَأَذْهَانُهُمْ وَرَأْيُهُمْ عَلَى أَكْلِ " الْغُبَيْرَاءِ " وَكَانَ قَوْلُهُمْ وَاعْتِقَادُهُمْ فِيهَا أَنَّهَا مَعْصِيَةٌ وَسَيِّئَةٌ؛ غَيْرَ أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَقُولُونَ فِي اعْتِقَادِهِمْ بِدَلِيلِ كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّهَا حَرَامٌ؛ غَيْرَ أَنَّ لَهُمْ وِرْدًا بِاللَّيْلِ، وَتَعَبُّدَاتٍ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا إذَا حَصَلَتْ نَشْوَتُهَا بِرُءُوسِهِمْ تَأْمُرُهُمْ بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ، وَلَا تَأْمُرُهُمْ بِسُوءٍ وَلَا فَاحِشَةٍ، وَنَسَبُوا أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا ضَرَرٌ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ أَكَلَهَا حَدٌّ مِنْ الْحُدُودِ؛ إلَّا أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِمُخَالَفَةِ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَاَللَّهُ يَغْفِرُ مَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ. وَاجْتَمَعَ بِهِمْ رَجُلٌ صَادِقُ الْقَوْلِ. وَذَكَرَ عَنْهُمْ ذَلِكَ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى أَكْلِهَا بِحُكْمِهِمْ عَلَيْهِ، وَحَدِيثِهِمْ لَهُ، وَاعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ: فَهَلْ يَجِبُ عَلَى آكِلِهَا حَدُّ شَارِبِ الْخَمْرِ أَمْ لَا؟ أَفْتَوْنَا. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَعَمْ يَجِبُ عَلَى آكِلِهَا حَدُّ شَارِبِ الْخَمْرِ. وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ ضُلَّالٌ جُهَّالٌ عُصَاةٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَكَفَى بِرَجُلٍ جَهْلًا أَنْ يَعْرِفَ بِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُحَرَّمٌ، وَأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: إنَّهُ تُطَيِّبُ لَهُ الْعِبَادَةَ، وَتُصْلِحُ لَهُ،،، وَيْحُ هَذَا الْقَائِلِ؟ ، أَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ عَلَى الْخَلْقِ مَا يَنْفَعُهُمْ، وَيُصْلِحُ لَهُمْ حَالَهُمْ؟ ، نَعَمْ قَدْ يَكُونُ فِي الشَّيْءِ مَنْفَعَةٌ وَفِيهِ مَضَرَّةٌ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهِ فَيُحَرِّمُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمَضَرَّةَ إذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ بَقِيَتْ الزِّيَادَةُ مَضَرَّةً مَحْضَةً، وَصَارَ هَذَا الرَّجُلُ كَأَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: خُذْ مِنِّي هَذَا الدِّرْهَمَ وَأَعْطِنِي دِينَارًا، فَجَهْلُهُ يَقُولُ لَهُ: هُوَ يُعْطِيك دِرْهَمًا فَخُذْهُ، وَالْعَقْلُ يَقُولُ: إنَّمَا يَحْصُلُ الدِّرْهَمُ بِفَوَاتِ الدِّينَارِ، وَهَذَا ضَرَرٌ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ؛ بَلْ جَمِيعُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إنْ ثَبَتَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ مَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ضَرَرُهُ أَكْثَرَ. فَهَذِهِ " الْحَشِيشَةُ الْمَلْعُونَةُ " هِيَ وَآكِلُوهَا وَمُسْتَحِلُّوهَا، الْمُوجِبَةُ لِسَخَطِ اللَّهِ وَسَخَطِ رَسُولِهِ وَسَخَطِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، الْمُعْرِضَةُ صَاحِبَهَا لِعُقُوبَةِ اللَّهِ؛ إذَا كَانَتْ كَمَا يَقُولُهُ

الضَّالُّونَ: مِنْ أَنَّهَا تَجْمَعُ الْهِمَّةَ؛ وَتَدْعُو إلَى الْعِبَادَةِ؛ فَإِنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ضَرَرٍ فِي دِينِ الْمَرْءِ وَعَقْلِهِ وَخُلُقِهِ وَطَبْعِهِ أَضْعَافَ مَا فِيهَا مِنْ خَيْرٍ؛ وَلَا خَيْرَ فِيهَا؛ وَلَكِنْ هِيَ تُحَلِّلُ الرُّطُوبَاتِ؛ فَتَتَصَاعَدُ الْأَبْخِرَةُ إلَى الدِّمَاغِ؛ وَتُورِثُ خَيَالَاتٍ فَاسِدَةً؛ فَيُهَوِّنُ عَلَى الْمَرْءِ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ عِبَادَةٍ؛ وَيَشْغَلُهُ بِتِلْكَ التَّخَيُّلَاتِ عَنْ إضْرَارِ النَّاسِ. وَهَذِهِ رِشْوَةُ الشَّيْطَانِ يَرْشُو بِهَا الْمُبْطِلِينَ لِيُطِيعُوهُ فِيهَا. بِمَنْزِلَةِ الْقِصَّةِ الْقَلِيلَةِ فِي الدِّرْهَمِ الْمَغْشُوشِ؛ وَكُلُّ مَنْفَعَةٍ تَحْصُلُ بِهَذَا السَّبَبِ فَإِنَّهَا تَنْقَلِبُ مَضَرَّةً فِي الْمَآلِ؛ وَلَا يُبَارَكُ لِصَاحِبِهَا فِيهَا؛ وَإِنَّمَا هَذَا نَظِيرُ السَّكْرَانِ بِالْخَمْرِ؛ فَإِنَّهَا تَطِيشُ عَقْلُهُ حَتَّى يَسْخُوَ بِمَالِهِ؛ وَيَتَشَجَّعُ عَلَى أَقْرَانِهِ؛ فَيَعْتَقِدُ الْغِرُّ أَنَّهَا أَوْرَثَتْهُ السَّخَاءَ وَالشُّجَاعَةَ وَهُوَ جَاهِلٌ؛ وَإِنَّمَا أَوْرَثَتْهُ عَدَمَ الْعَقْلِ. وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يَعْرِفُ قَدْرَ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَيَجُودُ بِجَهْلِهِ؛ لَا عَنْ عَقْلٍ فِيهِ. وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْحَشِيشَةُ الْمُسْكِرَةُ إذَا أَضْعَفَتْ الْعَقْلَ؛ وَفَتَحَتْ بَابَ الْخَيَالِ: تَبْقَى الْعَادَةُ فِيهَا مِثْلُ الْعِبَادَاتِ فِي الدِّينِ الْبَاطِلِ دِينِ النَّصَارَى؛ فَإِنَّ الرَّاهِبَ تَجِدُهُ يَجْتَهِدُ فِي أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ لَا يَفْعَلُهَا الْمُسْلِمُ الْحَنِيفُ؛ فَإِنَّ دِينَهُ بَاطِلٌ، وَالْبَاطِلُ خَفِيفٌ، وَلِهَذَا تَجُودُ النُّفُوسُ فِي السَّمَاعِ الْمُحَرَّمِ وَالْعِشْرَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِالْأَمْوَالِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ بِمَا لَا تَجُودُ بِهِ فِي الْحَقِّ؛ وَمَا هَذَا بِاَلَّذِي يُبِيحُ تِلْكَ الْمَحَارِمَ، أَوْ يَدْعُو الْمُؤْمِنَ إلَى فِعْلِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ لِأَنَّ الطَّبْعَ لَمَّا أَخَذَ نَصِيبَهُ مِنْ الْحَظِّ الْمُحَرَّمِ وَلَمْ يُبَالِ بِمَا بَذَلَهُ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ؛ وَلَيْسَ فِي هَذَا مَنْفَعَةٌ فِي دِينِ الْمَرْءِ وَلَا دُنْيَاهُ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لَذَّةُ سَاعَةٍ، بِمَنْزِلَةِ لَذَّةِ الزَّانِي حَالَ الْفِعْلِ، وَلَذَّةِ شِفَاءِ الْغَضَبِ حَالَ الْقَتْلِ، وَلَذَّةِ الْخَمْرِ حَالَ النَّشْوَةِ، ثُمَّ إذَا صَحَا مِنْ ذَلِكَ وَجَدَ عَمَلَهُ بَاطِلًا، وَذُنُوبَهُ مُحِيطَةً بِهِ، وَقَدْ نَقَصَ عَلَيْهِ عَقْلُهُ وَدِينُهُ وَخُلُقُهُ. وَأَيْنَ هَؤُلَاءِ الضُّلَّالُ مِمَّا تُورِثُهُ هَذِهِ الْمَلْعُونَةُ مِنْ قِلَّةِ الْغَيْرَةِ؛ وَزَوَالِ الْحَمِيَّةِ حَتَّى يَصِيرَ آكِلُهَا إمَّا دَيُّوثًا، وَإِمَّا مَأْبُونًا؛ وَإِمَّا كِلَاهُمَا. وَتُفْسِدُ الْأَمْزِجَةَ حَتَّى جَعَلَتْ خَلْقًا كَثِيرًا مَجَانِينَ وَتَجْعَلُ الْكَبِدَ بِمَنْزِلَةِ السَّفِنْجِ، وَمَنْ لَمْ يَجُنَّ مِنْهُمْ فَقَدْ أَعْطَتْهُ نَقْصَ الْعَقْلِ، وَلَوْ صَحَا مِنْهَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي عَقْلِهِ خَبَلٌ: ثُمَّ إنَّ كَثِيرَهَا يُسْكِرُ حَتَّى يَصُدَّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُوجِبُ قُوَّةَ نَفْسِ صَاحِبِهَا حَتَّى. يُضَارِبَ وَيُشَاتِمَ، فَكَفَى [بِالرَّجُلِ شَرًّا أَنَّهَا تَصُدُّهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ إذَا سَكِرَ مِنْهَا، وَقَلِيلُهَا وَإِنْ لَمْ يُسْكِرْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَلِيلِ الْخَمْرِ. ثُمَّ إنَّهَا تُورِثُ مِنْ مُهَانَةِ آكِلِهَا، وَدَنَاءَةِ نَفْسِهِ، وَانْفِتَاحِ شَهْوَتِهِ: مَا لَا يُورِثُهُ الْخَمْرُ. فَفِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا لَيْسَ فِي الْخَمْرِ؛ وَإِنْ كَانَ فِي الْخَمْرِ

مسألة رجل مدمن على المحرمات وهو مواظب على الصلوات الخمس

مَفْسَدَةٌ لَيْسَتْ فِيهَا وَهِيَ الْحِدَّةُ، فَهِيَ بِالتَّحْرِيمِ أَوْلَى مِنْ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ آكِلِ الْحَشِيشَةِ عَلَى نَفْسِهِ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْخَمْرِ؛ وَضَرَرُ شَارِبِ الْخَمْرِ عَلَى النَّاسِ أَشَدُّ؛ إلَّا أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ لِكَثْرَةِ أَكْلِ الْحَشِيشَةِ صَارَ الضَّرَرُ الَّذِي مِنْهَا عَلَى النَّاسِ أَعْظَمَ مِنْ الْخَمْرِ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْمَحَارِمَ لِأَنَّهَا تَضُرُّ أَصْحَابَهَا وَإِلَّا فَلَوْ ضَرَّتْ النَّاسَ وَلَمْ تَضُرَّهُ لَمْ يُحَرِّمْهَا؛ إذْ الْحَاسِدُ يَضُرُّهُ حَالُ الْمَحْسُودِ، وَلَمْ يُحَرِّمْ اللَّهُ اكْتِسَابَ الْمَعَالِي لِدَفْعِ تَضَرُّرِ الْحَاسِدِ. هَذَا وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ؛ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» وَهَذِهِ مُسْكِرَةٌ، وَلَوْ لَمْ يَشْمَلْهَا لَفْظٌ بِعَيْنِهَا لَكَانَ فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِأَجْلِهَا؛ مَعَ أَنَّ فِيهَا مَفَاسِدَ أُخَرَ غَيْرَ مَفَاسِدِ الْخَمْرِ تُوجِبُ تَحْرِيمَهَا] . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ مُدْمِنٍ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ مُوَاظِبٌ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ] 723 - 77 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مُدْمِنٍ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ، وَهُوَ مُوَاظِبٌ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَيُصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، فَهَلْ يُكَفَّرُ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ وَالِاسْتِغْفَارِ؟ . الْجَوَابُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُهُ بَلْ يُثِيبُهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ الْيَسِيرِ فَيَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ وَيُرْجَى لَهُ مِنْ اللَّهِ التَّوْبَةُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] . وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَتُبْ فَهَذَا أَمْرُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، هُوَ أَعْلَمُ بِمِقْدَارِ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ وَلَا يُشْهَدُ لَهُ بِجَنَّةٍ وَلَا نَارٍ، بِخِلَافِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ

مسألة اليهود والنصارى إذا اتخذوا خمورا هل يحل للمسلم إراقتها عليهم

يَقُولُونَ: إنَّهُ مَنْ فَعَلَ كَبِيرَةً أَحْبَطَتْ جَمِيعَ حَسَنَاتِهِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا الْإِحْبَاطِ، بَلْ أَهْلُ الْكَبَائِرِ مَعَهُمْ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ وَأَمْرُهُمْ إلَى اللَّهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] ، أَيْ: مِمَّنْ اتَّقَاهُ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ بِأَنْ يَكُونَ عَمَلًا صَالِحًا خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ خَالِصًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا، وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا، وَأَهْلُ الْوَعِيدِ لَا تَقْبَلُ الْعَمَلَ إلَّا مِمَّنْ اتَّقَاهُ بِتَرْكِ جَمِيعِ الْكَبَائِرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي قِصَّةِ حِمَارٍ الَّذِي كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَكَمَا فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ وَإِخْرَاجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32] الْآيَةَ. وَمَعَ هَذَا فَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» . وَقَالَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ» . وَقَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا» . . [مَسْأَلَةٌ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إذَا اتَّخَذُوا خُمُورًا هَلْ يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ إرَاقَتُهَا عَلَيْهِمْ] 724 - 78 مَسْأَلَةٌ: فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إذَا اتَّخَذُوا خُمُورًا هَلْ يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ إرَاقَتُهَا عَلَيْهِمْ؛ وَكَسْرُ أَوَانِيهِمْ وَهَجْمُ بُيُوتِهِمْ لِذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ هَجْمُ بُيُوتِ الْمُسْلِمِينَ إذَا عُلِمَ أَوْ ظُنَّ أَنَّ بِهَا خَمْرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِتُرَاقَ وَتُكْسَرَ الْأَوَانِي، وَيُتَجَسَّسَ عَلَى مَوَاضِعِهِ أَمْ لَا؟ ، وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى الْفَاعِلِ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ إذَا كَانَ مَأْمُورًا مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ بِذَلِكَ، أَمْ يَكُونُ مَعْذُورًا بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ دُونَ الْإِكْرَاهِ، وَإِذَا خَشِيَ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وُقُوعَ مَحْذُورٍ بِهِ، فَهَلْ يَكُونُ عُذْرًا لَهُ أَمْ لَا.

مسألة شارب الخمر هل يسلم عليه

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ أُقِرُّوا عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَهُ بِهِ فِي دِينِهِمْ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا الْمُسْلِمَ خَمْرًا وَلَا يُهْدُوهَا إلَيْهِ، وَلَا يُعَاوِنُوهُ عَلَيْهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْصِرُوهَا لِمُسْلِمٍ، وَلَا يَحْمِلُوهَا لَهُ وَلَا يَبِيعُوهَا مِنْ مُسْلِمٍ وَلَا ذِمِّيٍّ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا هُوَ مَشْرُوطٌ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَمَتَى فَعَلُوا ذَلِكَ اسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ الَّتِي تَرْدَعُهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ عَنْ ذَلِكَ. وَهَلْ يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ بِذَلِكَ وَتُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِجَاهِ أَحَدٍ مِمَّنْ يَخْدُمُونَهُ أَوْ مِمَّنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مِنْهُمْ، أَوْ غَيْرِهِمَا عَلَى إظْهَارِ شَيْءٍ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ، بَلْ كَمَا تَجِبُ عُقُوبَتُهُمْ تَجِبُ عُقُوبَةُ مَنْ يُعِينُهُمْ بِجَاهِهِ أَوْ غَيْرِ جَاهِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَإِذَا شَرِبَ الذِّمِّيُّ الْخَمْرَ فَهَلْ يُحَدُّ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْفُقَهَاءِ، قِيلَ يُحَدُّ وَقِيلَ لَا يُحَدُّ، وَقِيلَ يُحَدُّ إنْ سَكِرَ، وَهَذَا إذَا أَظْهَرَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا مَا يَخْتَفُونَ بِهِ فِي بُيُوتِهِمْ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالْمُسْلِمِينَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانُوا لَا يَنْتَهُونَ عَنْ إظْهَارِ الْخَمْرِ أَوْ عَنْ مُعَاوَنَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا أَوْ بَيْعِهَا وَهَدْيِهَا لِلْمُسْلِمِينَ إلَّا بِإِرَاقَتِهَا عَلَيْهِمْ فَإِنَّهَا تُرَاقُ عَلَيْهِمْ مَعَ مَا يُعَاقَبُونَ بِهِ، إمَّا بِمَا يُعَاقَبُ بِهِ نَاقِضُ الْعَهْدِ وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ شَارِبِ الْخَمْرِ هَلْ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ] 725 - 79 مَسْأَلَةٌ: فِي شَارِبِ الْخَمْرِ، هَلْ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَهَلْ إذَا سَلَّمَ رُدَّ عَلَيْهِ وَهَلْ تُشَيَّعُ جِنَازَتُهُ، وَهَلْ يُكَفَّرُ إذَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهَا؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ كَالْفَوَاحِشِ وَالْخَمْرِ وَالْعُدْوَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» . فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مُتَسَتِّرًا بِذَلِكَ وَلَيْسَ مُعْلِنًا لَهُ أُنْكِرَ عَلَيْهِ سِرًّا وَسُتِرَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَتَرَ عَبْدًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» إلَّا أَنْ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ وَالْمُعْتَدِي لَا بُدَّ مِنْ كَفِّ عُدْوَانِهِ وَإِذَا نَهَاهُ الْمَرْءُ سِرًّا فَلَمْ يَنْهَهُ فِعْلُ مَا يَنْكَفُّ بِهِ مِنْ هَجْرٍ وَغَيْرِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَنْفَعَ فِي الدِّينِ وَأَمَّا إذَا أَظْهَرَ الرَّجُلُ الْمُنْكَرَاتِ وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ عَلَانِيَةً وَلَمْ يَبْقَ

مسألة اليهود بمصر من أمصار المسلمين وقد كثرت منهم بيع الخمر

لَهُ غِيبَةٌ، وَوَجَبَ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَانِيَةً بِمَا يَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ هَجْرٍ وَغَيْرِهِ فَلَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا كَانَ الْفَاعِلُ كَذَلِكَ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ. وَيَنْبَغِي لِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ أَنْ يَهْجُرُوهُ مَيِّتًا كَمَا هَجَرُوهُ حَيًّا إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ كَفٌّ لِأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُجْرِمِينَ، فَيَتْرُكُونَ تَشْيِيعَ جِنَازَتِهِ كَمَا «تَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَرَائِمِ» ، وَكَمَا قِيلَ لِسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ إنَّ ابْنَك مَاتَ الْبَارِحَةَ فَقَالَ لَوْ مَاتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ، يَعْنِي لِأَنَّهُ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ كَقَاتِلِ نَفْسِهِ. وَقَدْ تَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ هَجَرَ الصَّحَابَةُ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ ظَهَرَ ذَنْبُهُمْ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ الْوَاجِبِ حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَإِذَا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ أُظْهِرَ لَهُ الْخَيْرُ وَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْفَوَاحِشِ أَوْ شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ وَيُعَرَّفُ التَّحْرِيمَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَكَانَ مُرْتَدًّا عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُدْفَنْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. [مَسْأَلَةٌ الْيَهُودِ بِمِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ كَثُرَتْ مِنْهُمْ بَيْعُ الْخَمْرِ] 726 - 80 مَسْأَلَةٌ: فِي الْيَهُودِ بِمِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ كَثُرَتْ مِنْهُمْ بَيْعُ الْخَمْرِ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ لَا يَبِيعُونَهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَمَتَى فَعَلُوا ذَلِكَ حَلَّ مِنْهُمْ مَا يَحِلُّ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَمَاذَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْ الْعُقُوبَةِ وَهَلْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ الْأَمْوَالَ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، يَسْتَحِقُّونَ عَلَى ذَلِكَ الْعُقُوبَةَ الَّتِي تَرْدَعُهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَيَنْتَقِضُ بِذَلِكَ عَهْدُهُمْ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا أُنْقِضَ عَهْدُهُمْ حَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ وَحَلَّ مِنْهُمْ مَا يَحِلُّ مِنْ الْمُحَارِبِينَ الْكُفَّارِ وَلِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ الَّتِي قَبَضُوهَا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا يَرُدَّهَا إلَى مَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ الْخَمْرَ فَإِنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَشِرَائِهَا وَبَيْعِهَا فَإِذَا اشْتَرَوْهَا كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَبِيعُ الْخَمْرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ بَاعَ خَمْرًا لَمْ يَمْلِكْ ثَمَنَهُ، فَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ أَخَذَ الْخَمْرَ فَشَرِبَهَا لَمْ يُجْمَعْ لَهُ بَيْنَ الْعِوَضِ

التعزير

وَالْمُعَوَّضِ بَلْ يُؤْخَذُ هَذَا الْمَالُ فَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قِيلَ فِي مَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ عِوَضٌ عَنْ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ مُحَرَّمَةٍ إذَا كَانَ الْمَاضِي قَدْ اسْتَوْفَى الْعِوَضَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَ ذِمِّيٌّ لِذِمِّيٍّ خَمْرًا سِرًّا فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَإِذَا تَقَابَضَا جَازَ أَنْ يُعَامِلَهُ الْمُسْلِمُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ الَّذِي قَبَضَهُ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ كَمَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَوْ هَمَّ بِبَيْعِهَا وَأَخَذُوا مِنْهُمْ أَثْمَانَهَا بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُخَرِّبَ الْمَكَانَ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ كَالْحَانُوتِ وَالدَّارِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَيْثُ أَخْرَبَ حَانُوتَ رُوَيْشِدٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: إنَّمَا أَنْتَ فُوَيْسِقٌ لَسْت بِرُوَيْشِدٍ وَكَمَا أَحْرَقَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَرْيَةً كَانَ يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ. [التَّعْزِير] [مَسْأَلَةٌ أَمِير لَهُ مَمَالِيكُ فَهَلْ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى أَحَدِهِمْ حَدًّا] التَّعْزِير 727 - 81 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مِنْ أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ مَمَالِيكُ، وَعِنْدَهُ غِلْمَانٌ: فَهَلْ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى أَحَدِهِمْ حَدًّا إذَا ارْتَكَبَهُ؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِوَاجِبٍ إذَا تَرَكُوهُ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَنَحْوِهَا؟ وَمَا صِفَةُ السَّوْطِ الَّذِي يُعَاقِبُهُمْ بِهِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ كُلَّهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، وَأَقَلُّ مَا يَفْعَلُ أَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا مِنْهُمْ يَشْتَرِطُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، كَمَا يَشْتَرِطُ عَلَيْهِ مَا يَشْتَرِطُهُ مِنْ الْأَعْمَالِ، وَمَتَى خَرَجَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ طَرَدَهُ. وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى عُقُوبَتِهِمْ بِحَيْثُ يُقِرُّهُ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْعُرْفِ الَّذِي اعْتَادَهُ النَّاسُ وَغَيْرِهِ لَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ تَحْتَ حِمَايَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَزِّرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يُؤَدُّوا الْوَاجِبَاتِ وَيَتْرُكُوا الْمُحَرَّمَاتِ إلَّا بِالْعُقُوبَةِ، وَهُوَ الْمُخَاطِبُ بِذَلِكَ حِينَئِذٍ، فَإِنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَيْهِ وَغَيْرُهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ؛ مُرَاعَاةً لَهُ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُقِيمَ هُوَ الْوَاجِبَ وَلَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ بِالْوَاجِبِ صَارَ الْجَمِيعُ مُسْتَحَقِّينَ الْعُقُوبَةَ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ» وَقَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ

مسألة رجل يسفه على والديه فما يجب عليه

يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ يَضُرُّ بِهِمْ لِمَا يَتْرُكُونَهُ مِنْ حُقُوقِهِ، فَمِنْ الْقَبِيحِ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَى حُقُوقِهِ، وَلَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ. وَالتَّأْدِيبُ يَكُونُ بِسَوْطٍ مُعْتَدِلٍ، وَضَرْبٍ مُعْتَدِلٍ. وَلَا يَضْرِبُ الْوَجْهَ، وَلَا الْمَقَاتِلَ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ يُسَفِّهُ عَلَى وَالِدَيْهِ فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ] 728 - 82 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ يُسَفِّهُ عَلَى وَالِدَيْهِ: فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ الْجَوَابُ: إذَا شَتَمَ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَاعْتَدَى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُعَاقَبَ عُقُوبَةً بَلِيغَةً تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، بَلْ وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالُوا: وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ» " فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ جَعَلَ مِنْ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ أَبَا غَيْرِهِ لِئَلَّا يَسُبَّ أَبَاهُ فَكَيْفَ إذَا سَبَّ هُوَ أَبَاهُ مُبَاشَرَةً: فَهَذَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي تَمْنَعُهُ عَنْ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ الَّذِي قَرَنَ اللَّهُ حَقَّهُمَا بِحَقِّهِ حَيْثُ قَالَ: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] فَكَيْفَ بِسَبِّهِمَا؟ ،. [مَسْأَلَةٌ رَجُل مِنْ مُقَدِّمِي الْعَسْكَرِ كَذَبَ عَلَيْهِ بَعْض الْمَكَّاسِينَ حَتَّى ضَرَبَهُ] 729 - 83 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مِنْ أَكَابِرِ مُقَدِّمِي الْعَسْكَرِ مَعْرُوفٍ بِالْخَيْرِ وَالدِّينِ، وَكَذَبَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمَكَّاسِينَ، حَتَّى ضَرَبَهُ، وَعَلَّقَهُ، وَطَافَ بِهِ عَلَى حِمَارٍ؛ وَحَبَسَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: هَلْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ ضَرْبُ مَنْ ظَلَمَهُ؟

مسألة فيمن شتم رجلا وسبه

الْجَوَابُ: مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ وَظَلَمَهُ حَتَّى فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ تَجِبُ عُقُوبَتُهُ الَّتِي تَزْجُرُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ جُمْهُورُ السَّلَفِ يُثْبِتُونَ الْقِصَاصَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ؛ فَمَنْ ضَرَبَ غَيْرَهُ وَجَرَحَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ؛ كَمَا قَالَ «عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنِّي لَمْ أَبْعَثْ عُمَّالِي إلَيْكُمْ لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ، وَلَا لِيَأْخُذُوا أَمْوَالَكُمْ، وَلَكِنْ لِيُعَلِّمُوكُمْ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَيَقْسِمُوا بَيْنَكُمْ فَيْأَكُمْ، فَلَا يَبْلُغُنِي أَنَّ أَحَدًا ضَرَبَهُ عَامِلُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا أَقَدْتُهُ. فَرَاجَعَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَهُ لَهُمْ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَادَ مِمَّنْ ظَلَمَهُ» . . [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ شَتَمَ رَجُلًا وَسَبَّهُ] 730 - 84 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ شَتَمَ رَجُلًا وَسَبَّهُ؟ الْجَوَابُ: إذَا اعْتَدَى عَلَيْهِ بِالشَّتْمِ وَالسَّبِّ فَلَهُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْهِ؛ فَيَشْتُمَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَرَّمًا لِعَيْنِهِ: كَالْكَذِبِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ مُحَرَّمًا لِعَيْنِهِ كَالْقَذْفِ بِغَيْرِ الزِّنَا فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ تَعْزِيرًا بَلِيغًا يَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ مِنْ السُّفَهَاءِ، وَلَوْ عُزِّرَ عَلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّتْمِ جَازَ؛ وَهُوَ الَّذِي يُشْرَعُ إذَا تَكَرَّرَ سَفَهُهُ أَوْ عُدْوَانُهُ عَلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ شَتَمَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ أَنْتَ مَلْعُونٌ وَلَدُ زِنًا] 731 - 85 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ شَتَمَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: أَنْت مَلْعُونٌ، وَلَدُ زِنًا؟ الْجَوَابُ: يَجِبُ تَعْزِيرُهُ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ إنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مَا يَقْصِدُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ قَصْدُهُمْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ الْمَشْتُومَ فِعْلُهُ خَبِيثٌ كَفِعْلِ وَلَدِ الزِّنَا. [مَسْأَلَة سَامِرِيٍّ ضَرَبَ مُسْلِمًا وَشَتَمَهُ] 732 - 86 - سُئِلَ: عَنْ سَامِرِيٍّ ضَرَبَ مُسْلِمًا وَشَتَمَهُ؟ فَأَجَابَ: تَجِبُ عُقُوبَتُهُ عُقُوبَةً بَلِيغَةً تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة في الاستمناء

[مَسْأَلَة فِي الِاسْتِمْنَاءِ] سُئِلَ: عَنْ " الِاسْتِمْنَاءِ " فَأَجَابَ: أَمَّا الِاسْتِمْنَاءُ فَالْأَصْلُ فِيهِ التَّحْرِيمُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَعَلَى فَاعِلِهِ التَّعْزِيرُ؛ وَلَيْسَ مِثْلَ الزِّنَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة الِاسْتِمْنَاءُ بِالْيَدِ] 734 - 88 - سُئِلَ: عَنْ " الِاسْتِمْنَاءِ " هَلْ هُوَ حَرَامٌ؟ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: أَمَّا الِاسْتِمْنَاءُ بِالْيَدِ فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَكَذَلِكَ يُعَزَّرُ مَنْ فَعَلَهُ. وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ هُوَ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَأَكْثَرُهُمْ لَا يُبِيحُونَهُ لِخَوْفِ الْعَنَتِ وَلَا غَيْرَهُ، وَنُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُمْ رَخَّصُوا فِيهِ لِلضَّرُورَةِ: مِثْلُ أَنْ يَخْشَى الزِّنَا فَلَا يُعْصَمُ مِنْهُ إلَّا بِهِ، وَمِثْلُ أَنْ يَخَافَ إنْ لَمْ يَفْعَلْهُ أَنْ يَمْرَضَ، وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا بِدُونِ الضَّرُورَةِ فَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا رَخَّصَ فِيهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة رَجُلٍ يَهِيجُ عَلَيْهِ بَدَنُهُ فَيَسْتَمْنِيَ بِيَدِهِ] 735 - 89 - سُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ يَهِيجُ عَلَيْهِ بَدَنُهُ فَيَسْتَمْنِيَ بِيَدِهِ؛ وَبَعْضَ الْأَوْقَاتِ يُلْصِقُ وَرِكَيْهِ عَلَى ذَكَرِهِ؛ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ إزَالَةَ هَذَا بِالصَّوْمِ؛ لَكِنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا مَا نَزَلَ مِنْ الْمَاءِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لَكِنْ عَلَيْهِ الْغُسْلُ إذَا أَنْزَلَ الْمَاءَ الدَّافِقَ. وَأَمَّا إنْزَالُهُ بِاخْتِيَارِهِ بِأَنْ يَسْتَمْنِيَ بِيَدِهِ: فَهَذَا حَرَامٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ؛ وَهُوَ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ؛ بَلْ أَظْهَرُهُمَا. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لَكِنْ إنْ اُضْطُرَّ إلَيْهِ مِثْلُ أَنْ يَخَافَ الزِّنَا إنْ لَمْ يَسْتَمْنِ أَوْ يَخَافَ الْمَرَضَ: فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ؛ وَقَدْ رَخَّصَ فِي هَذِهِ الْحَالِ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَنَهَى عَنْهُ آخَرُونَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة فِي رَجُلٍ جَلَدَ ذَكَرَهُ بِيَدِهِ حَتَّى أَمْنَى] 736 - 90 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ جَلَدَ ذَكَرَهُ بِيَدِهِ حَتَّى أَمْنَى: فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟

مسألة رجل له ولد صغير فاتهم بالسرقة

الْجَوَابُ: وَأَمَّا جَلْدُ الذَّكَرِ بِالْيَدِ حَتَّى يُنْزِلَ فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مُطْلَقًا، وَعِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ حَرَامٌ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ مِثْلُ أَنْ يَخَافَ الْعَنَتَ، أَوْ يَخَافَ الْمَرَضَ، أَوْ يَخَافَ الزِّنَا: فَالِاسْتِمْنَاءُ أَصْلَحُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ فَاتُّهِمَ بِالسَّرِقَةِ] 737 - 91 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ فَاتُّهِمَ، وَضُرِبَ بِالْمَقَارِعِ؛ وَخَسِرَ وَالِدُهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ وُجِدَتْ السَّرِقَةُ فَجَاءَ صَاحِبُ السَّرِقَةِ وَصَالَحَ الْمَتْهُومِ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ: فَهَلْ يَصِحُّ مِنْهُ إبْرَاءُ بِغَيْرِ رِضَى وَالِدِهِ إذَا كَانَ تَحْتَ الْحَجْرِ؟ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ فَمَا يَجِبُ فِي دِيَةِ الضَّرْبِ؟ وَهَلْ لِوَالِدِهِ بَعْدَ إبْرَاءِ الصَّغِيرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِضَرْبِ وَلَدِهِ أَمْ لَا؟ أَجَابَ: إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ تَحْتَ حِجْرِ أَبِيهِ لَمْ يَصِحَّ صُلْحُهُ وَلَا إبْرَاؤُهُ. وَمَا غَرِمَهُ أَبُوهُ بِسَبَبِ هَذِهِ التُّهْمَةِ الْبَاطِلَةِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّمَهُ إيَّاهُ بِعُدْوَانِهِ، سَوَاءٌ أَبْرَأَهُ الِابْنُ أَوْ لَمْ يُبَرِّئْهُ، فَالْمَضْرُوبُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَضْرِبَ مَنْ طَلَبَ ضَرْبَهُ مِنْ الْمُتَّهَمِينَ لَهُ مِثْلُ مَا ضَرَبَهُ، إذَا لَمْ يَعْرَفْ بِالشَّرِّ قَبْلَ ذَلِكَ. هَكَذَا ذَكَرَهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ لِقَوْمٍ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَضْرِبَ رَجُلًا عَلَى تُهْمَةٍ: إنْ شِئْتُمْ ضَرَبْته لَكُمْ، فَإِنْ ظَهَرَ مَا لَكُمْ عِنْدَهُ وَإِلَّا ضَرَبْتُكُمْ مِثْلَ مَا ضَرَبْتُهُ فَقَالُوا هَذَا حُكْمُك؟ فَقَالَ: هَذَا حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَهَذَا فِي ضَرْبِ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالشَّرِّ، وَأَمَّا ضَرْبُ مَنْ عُرِفَ بِالشَّرِّ فَذَاكَ مَقَامٌ آخَرُ. وَقَدْ ثَبَتَ الْقِصَاصُ فِي الضَّرْبِ وَاللَّطْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَجَاءَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ؛ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يَرَى الْقِصَاصَ فِي مِثْلِ هَذَا؛ بَلْ يَرَى فِيهِ التَّعْزِيرَ، فَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ وَلَكِنْ هَلْ لِلْأَبِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّ الْقِصَاصِ الَّذِي لِابْنِهِ؟ أَمْ يَتْرُكُهُ حَتَّى يَبْلُغَ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ الِابْنُ بَالِغًا فَلَهُ الْعُقُوبَاتُ الْبَدَنِيَّةُ وَاسْتِبْقَاؤُهَا.

مسألة مسلم بدت منه معصية في حال صباه توجب مهاجرته ومجانبته

[مَسْأَلَةٌ مُسْلِمٍ بَدَتْ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ فِي حَالِ صَبَاهُ تُوجِبُ مُهَاجَرَتَهُ وَمُجَانَبَتَهُ] مَسْأَلَةٌ: فِي مُسْلِمٍ بَدَتْ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ فِي حَالِ صِبَاهُ تُوجِبُ مُهَاجَرَتَهُ وَمُجَانَبَتَهُ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَصْفَحُ عَنْهُ وَيَتَجَاوَزُ عَنْ كُلِّ مَا كَانَ مِنْهُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَا تَجُوزُ أُخُوَّتُهُ وَلَا مُصَاحَبَتُهُ فَأَيُّ الطَّائِفَتَيْنِ أَحَقُّ بِالْحَقِّ؟ الْجَوَابُ: لَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ تَابَ إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] () أَيْ لِمَنْ تَابَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَتَابَ الرَّجُلُ فَإِنْ عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا سَنَةً مِنْ الزَّمَانِ وَلَمْ يَنْقُضْ التَّوْبَةَ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ وَيُجَالَسُ وَيُكَلَّمُ، وَأَمَّا إذَا تَابَ وَلَمْ تَمْضِ عَلَيْهِ سَنَةٌ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ فِي الْحَالِ: يُجَالَسُ وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا بُدَّ مِنْ مُضِيِّ سَنَةٍ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِصِبْغِ بْنِ عِسْلٍ وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، فَمَنْ رَأَى أَنْ تُقْبَلَ تَوْبَةُ هَذَا التَّائِبِ وَيُجَالَسُ فِي الْحَالِ قَبْلَ اخْتِبَارِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِقَوْلٍ سَائِغٍ وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ يُؤَخَّرُ مُدَّةً حَتَّى يَعْمَلَ صَالِحًا وَيَظْهَرَ صِدْقُ تَوْبَتِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِقَوْلٍ سَائِغٍ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ. [مَسْأَلَةٌ بَيْعُ الْكَرْمِ لِمَنْ يَعْصِرُهُ خَمْرًا] 739 - 93 - مَسْأَلَةٌ: هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْكَرْمِ لِمَنْ يَعْصِرُهُ خَمْرًا إذَا اُضْطُرَّ صَاحِبُهُ إلَى ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعِنَبِ لِمَنْ يَعْصِرُهُ خَمْرًا، بَلْ قَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يَعْصِرُ الْعِنَبَ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا فَكَيْفَ بِالْبَائِعِ لَهُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مُعَاوَنَةً وَلَا ضَرُورَةَ إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ بَيْعُهُ رُطَبًا وَلَا تَزْبِيبُهُ فَإِنَّهُ يُتَّخَذُ خَلًّا أَوْ دِبْسًا وَنَحْوَ ذَلِكَ.

مسألة يهودي قال هؤلاء المسلمون الكلاب أبناء الكلاب يتعصبون علينا

[مَسْأَلَةٌ يَهُودِيٍّ قَالَ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ الْكِلَابُ أَبْنَاءُ الْكِلَابِ يَتَعَصَّبُونَ عَلَيْنَا] مَسْأَلَةُ: عَنْ يَهُودِيٍّ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ الْكِلَابُ أَبْنَاءُ الْكِلَابِ يَتَعَصَّبُونَ عَلَيْنَا وَكَانَ قَدْ خَاصَمَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ. وَعَنْ رَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يَشْتَكِيَ عَلَى رَجُلٍ فَشَفَعَ فِيهِ جَمَاعَةٌ فَقَالَ لَوْ جَاءَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِيهِ مَا قَبِلْتُ فَقَالُوا: كَفَرْتُ اسْتَغْفِرْ اللَّهَ مِنْ قَوْلِك فَقَالَ مَا أَقُولُ. وَأَمَّا الْيَهُودِيُّ: إذَا كَانَ أَرَادَ بِشَتْمِهِ طَائِفَةً مُعَيَّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ ذَلِكَ عُقُوبَةً تَزْجُرُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ - وَأَمَّا إنْ ظَهَرَ مِنْهُ قَصْدُ الْعُمُومِ فَإِنَّهُ يَنْتَقِضُ عَهْدُهُ بِذَلِكَ وَيَجِبُ قَتْلُهُ. وَأَمَّا قَوْلُ الرَّجُلِ: لَوْ جَاءَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ عَلَى ذَلِكَ. وَلَوْ تَابَ بَعْدَ رَفْعِهِ إلَى الْإِمَامِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَتْلُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. لَكِنْ إنْ تَابَ قَبْلَ رَفْعِهِ إلَى الْإِمَامِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَتْلُ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ عُزِّرَ بَعْدَ التَّوْبَةِ كَانَ سَائِغًا. . [قِتَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ] [مَسْأَلَةٌ طَائِفَتَيْنِ مِنْ الْفَلَّاحِينَ اقْتَتَلَتَا فَكَسَرَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى] قِتَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ 741 - 95 - مَسْأَلَةٌ: فِي طَائِفَتَيْنِ مِنْ الْفَلَّاحِينَ اقْتَتَلَتَا، فَكَسَرَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى؛ وَانْهَزَمَتْ الْمَكْسُورَةُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ جَمَاعَةٌ: فَهَلْ يُحْكَمُ لِلْمَقْتُولِينَ مِنْ الْمَهْزُومِينَ بِالنَّارِ، وَيَكُونُونَ دَاخِلِينَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَكُونُ حُكْمُ الْمُنْهَزِمِ حُكْمَ مَنْ يُقْتَلُ مِنْهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ؟ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إنْ كَانَ الْمُنْهَزِمُ قَدْ انْهَزَمَ بِنِيَّةِ التَّوْبَةِ عَنْ الْمُقَاتَلَةِ الْمُحَرَّمَةِ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِالنَّارِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ، وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ انْهِزَامُهُ عَجْزًا فَقَطْ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى خَصْمِهِ لَقَتَلَهُ، فَهُوَ فِي النَّارِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ» فَإِذَا كَانَ

مسألة البغاة والخوارج هل هي ألفاظ مترادفة

الْمَقْتُولُ فِي النَّارِ لِأَنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ فَالْمُنْهَزِمُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي الْإِرَادَةِ وَالْفِعْلِ، وَالْمَقْتُولُ أَصَابَهُ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَمْ يُصِبْ الْمَهْزُومَ؛ ثُمَّ إذَا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمُصِيبَةُ مُكَفِّرَةٌ لِإِثْمِ الْمُقَاتَلَةِ فَلَأَنْ لَا تَكُونَ مُصِيبَةُ الْهَزِيمَةِ مُكَفِّرَةً أَوْلَى؛ بَلْ إثْمُ الْمُنْهَزِمِ الْمُصِرِّ عَلَى الْمُقَاتَلَةِ أَعْظَمُ مِنْ إثْمِ الْمَقْتُولِ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَاسْتِحْقَاقُهُ لِلنَّارِ أَشَدُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ السَّيِّئِ بِمَوْتِهِ؛ وَهَذَا مُصِرٌّ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ: إنَّ مُنْهَزِمَ الْبُغَاةِ يُقْتَلُ إذَا كَانَ لَهُ طَائِفَةٌ يَأْوِي إلَيْهَا فَيُخَافُ عَوْدُهُ؛ بِخِلَافِ الْمُثْخَنِ بِالْجُرْحِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ. وَسَبَبُهُ أَنَّ هَذَا انْكَفَّ شَرُّهُ، وَالْمُنْهَزِمُ لَمْ يَنْكَفَّ شَرُّهُ. وَأَيْضًا فَالْمَقْتُولُ قَدْ يُقَالُ: إنَّهُ بِمُصِيبَةِ الْقَتْلِ قَدْ يُخَفَّفُ عَنْهُ الْعَذَابُ؛ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَمُصِيبَةُ الْهَزِيمَةِ دُونَ مُصِيبَةِ الْقَتْلِ. فَظَهَرَ أَنَّ الْمَهْزُومَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْمَقْتُولِ إذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ. وَمَنْ تَابَ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. [مَسْأَلَة الْبُغَاةِ وَالْخَوَارِجِ هَلْ هِيَ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ] 742 - 96 - سُئِلَ: عَنْ " الْبُغَاةِ، وَالْخَوَارِجِ ": هَلْ هِيَ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ؟ أَمْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؟ وَهَلْ فَرَّقَتْ الشَّرِيعَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَحْكَامِ الْجَارِيَةِ عَلَيْهِمَا، أَمْ لَا؟ وَإِذَا ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ الْأَئِمَّةَ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ، إلَّا فِي الِاسْمِ؛ وَخَالَفَهُ مُخَالِفٌ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَّقَ بَيْنَ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ النَّهْرَوَانِ: فَهَلْ الْحَقُّ مَعَ الْمُدَّعِي؟ أَوْ مَعَ مُخَالِفِهِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْأَئِمَّةَ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا فِي الِاسْمِ. فَدَعْوَى بَاطِلَةٌ، وَمُدَّعِيهَا مُجَازِفٌ، فَإِنَّ نَفْيَ الْفَرْقِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَجْعَلُونَ قِتَالَ أَبِي بَكْرٍ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ، وَقِتَالَ عَلِيٍّ الْخَوَارِجَ، وَقِتَالَهُ لِأَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قِتَالِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ. مِنْ بَابِ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ.

ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مِثْلَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَنَحْوَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِمْ بِكُفْرٍ وَلَا فِسْقٍ؛ بَلْ مُجْتَهِدُونَ: إمَّا مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُخْطِئُونَ. وَذُنُوبُهُمْ مَغْفُورَةٌ لَهُمْ. وَيُطْلِقُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْبُغَاةَ لَيْسُوا فُسَّاقًا. فَإِذَا جَعَلَ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ سَوَاءً لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْخَوَارِجُ وَسَائِرُ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْبَاقِينَ عَلَى الْعَدَالَةِ [سَوَاءً] ؛ وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ بِفِسْقِ الْبُغَاةِ، وَلَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ. وَأَمَّا جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ " الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ " وَبَيْنَ " أَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ " وَغَيْرِ أَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ. مِمَّنْ يُعَدُّ مِنْ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَالْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَعَلَيْهِ نُصُوصُ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ وَأَتْبَاعُهُمْ: مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ» وَهَذَا الْحَدِيثُ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ الطَّوَائِفِ الثَّلَاثَةِ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْمَارِقِينَ نَوْعٌ ثَالِثٌ لَيْسُوا مِنْ جِنْسِ أُولَئِكَ؛ فَإِنَّ طَائِفَةَ عَلِيٍّ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ طَائِفَةِ مُعَاوِيَةَ. وَقَالَ فِي حَقِّ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ: «يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَفِي لَفْظٍ: «لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ مَالَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ لَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ» . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ

أَحَادِيثَهُمْ فِي الصَّحِيحِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ وَرَوَى هَذَا الْبُخَارِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ؛ وَهِيَ مُسْتَفِيضَةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَلَقَّاةٌ بِالْقَبُولِ، أَجْمَعَ عَلَيْهَا عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ، وَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْخَوَارِجِ. وَأَمَّا " أَهْلُ الْجَمَلِ، وَصِفِّينَ " فَكَانَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ قَاتَلَتْ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَأَكْثَرُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ لَمْ يُقَاتِلُوا لَا مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَلَا مِنْ هَذَا الْجَانِبِ، وَاسْتَدَلَّ التَّارِكُونَ لِلْقِتَالِ بِالنُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَرْكِ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ، وَبَيَّنُوا أَنَّ هَذَا قِتَالُ فِتْنَةٍ. وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَسْرُورًا لِقِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَيَرْوِي الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ؛ وَأَمَّا قِتَالُ " صِفِّينَ " فَذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ نَصٌّ؛ وَإِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ رَآهُ، وَكَانَ أَحْيَانًا يَحْمَدُ مَنْ لَمْ يَرَ الْقِتَالَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَسَنِ: إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» " فَقَدْ مَدَحَ الْحَسَنَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِإِصْلَاحِ اللَّهِ بِهِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ: أَصْحَابِ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ تَرْكَ الْقِتَالِ كَانَ أَحْسَنَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْقِتَالُ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا. " وَقِتَالُ الْخَوَارِجِ " قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ، وَحَضَّ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يُسَوِّي بَيْنَ مَا أَمَرَ بِهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ مَا مَدَحَ تَارِكَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ؟ ،،. فَمَنْ سَوَّى بَيْنَ قِتَالِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ اقْتَتَلُوا بِالْجَمَلِ وَصِفِّينَ، وَبَيْنَ قِتَالِ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ، وَالْحَرُورِيَّةِ الْمُعْتَدِينَ: كَانَ قَوْلُهُمْ مِنْ جِنْسِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ الْمُبِينِ. وَلَزِمَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَصِيرَ مِنْ جِنْسِ الرَّافِضَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ أَوْ يُفَسِّقُونَ الْمُتَقَاتِلِينَ بِالْجَمَلِ وَصِفِّينَ، كَمَا يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ؛ فَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فِي كُفْرِهِمْ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى الصَّحَابَةِ الْمُقْتَتِلِينَ بِالْجَمَلِ وَصِفِّينَ، وَالْإِمْسَاكِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ. فَكَيْفَ نُشَبِّهُ هَذَا بِهَذَا؟ ،، وَأَيْضًا «فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ» قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلُوا. وَأَمَّا " أَهْلُ الْبَغْيِ " فَإِنَّ اللَّهَ

مسألة فيمن يلعن معاوية

تَعَالَى قَالَ فِيهِمْ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] فَلَمْ يَأْمُرْ بِقِتَالِ الْبَاغِيَةِ ابْتِدَاءً. فَالِاقْتِتَالُ ابْتِدَاءً لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ؛ وَلَكِنْ إذَا اقْتَتَلُوا أَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ؛ ثُمَّ إنْ بَغَتْ الْوَاحِدَةُ قُوتِلَتْ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ: إنَّ الْبُغَاةَ لَا يَبْتَدِئُونِ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُقَاتِلُوا. وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ: «أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَقَالَ: «لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنهُمْ قَتْلَ عَادٍ» . وَكَذَلِكَ مَانِعُوا الزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الصِّدِّيقَ وَالصَّحَابَةَ ابْتَدَءُوا قِتَالَهُمْ، قَالَ الصِّدِّيقُ: وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتهمْ عَلَيْهِ. وَهُمْ يُقَاتَلُونَ إذَا امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَإِنْ أَقَرُّوا بِالْوُجُوبِ. ثُمَّ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي كُفْرِ مَنْ مَنَعَهَا وَقَاتَلَ الْإِمَامَ عَلَيْهَا مَعَ إقْرَارِهِ بِالْوُجُوبِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، كَالرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي تَكْفِيرِ الْخَوَارِجِ وَأَمَّا أَهْلُ الْبَغْيِ الْمُجَرَّدِ فَلَا يَكْفُرُونَ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَصَّ عَلَى إيمَانِهِمْ وَأُخُوَّتِهِمْ مَعَ وُجُودِ الِاقْتِتَالِ وَالْبَغْيِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة فِيمَنْ يَلْعَنُ مُعَاوِيَةَ] 743 - 97 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ يَلْعَنُ مُعَاوِيَةَ فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ وَهَلْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْأَحَادِيثَ، وَهِيَ إذَا «اقْتَتَلَ خَلِيفَتَانِ فَأَحَدُهُمَا مَلْعُونٌ» ؟ وَأَيْضًا «أَنَّ عَمَّارًا تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» . وَقَتَلَهُ عَسْكَرُ مُعَاوِيَةَ؟ وَهَلْ سَبَوْا أَهْلَ الْبَيْتِ؟ أَوْ قَتَلَ الْحُجَّاجُ شَرِيفًا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. مَنْ لَعَنَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَنَحْوِهِمَا؛ وَمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ: كَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَنَحْوِهِمَا؛ أَوْ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ كَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَوْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعُمَرَ، أَوْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ الْبَلِيغَةِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ. وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يُعَاقَبُ بِالْقَتْلِ؟ أَوْ مَا دُونَ الْقَتْلِ؟ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» . وَاللَّعْنَةُ أَعْظَمُ مِنْ السَّبِّ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ» فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعْنَ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ. وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِيَارُ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» وَكُلُّ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُؤْمِنًا بِهِ فَلَهُ مِنْ الصُّحْبَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَغْزُو جَيْشٌ، فَيَقُولُ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيُفْتَحُ لَهُمْ. ثُمَّ يَغْزُو جَيْشٌ فَيَقُولُ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَيَقُولُونَ، نَعَمْ. فَيُفْتَحُ لَهُمْ، وَذَكَرَ الطَّبَقَةَ الثَّالِثَةَ» فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِرُؤْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا عَلَّقَهُ بِصُحْبَتِهِ. وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ " الصُّحْبَةِ، فِيهِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ: كَانَ مَنْ اخْتَصَّ مِنْ الصَّحَابَةِ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ يُوصَفُ بِتِلْكَ الصُّحْبَةِ، دُونَ مَنْ لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهَا، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لَمَّا اخْتَصَمَ هُوَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ: «يَا خَالِدُ، لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» فَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ هُوَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا قَبْلَ الْفَتْحِ فَتْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنْفَقُوا وَقَاتَلُوا دُونَ أُولَئِكَ، قَالَ تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] وَالْمُرَادُ " بِالْفَتْحِ " فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا بَايَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَكَانَ الَّذِينَ بَايَعُوهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَهُمْ الَّذِينَ فَتَحُوا خَيْبَرَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» . " وَسُورَةُ الْفَتْحِ " الَّذِي فِيهَا ذَلِكَ أَنْزَلَهَا اللَّهُ قَبْلَ أَنْ تُفْتَحَ مَكَّةُ؛ بَلْ قَبْلَ أَنْ يَعْتَمِرَ

النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ قَدْ بَايَعَ أَصْحَابَهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَصَالَحَ الْمُشْرِكِينَ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ الْمَشْهُورَ، وَبِذَلِكَ الصُّلْحِ حَصَلَ مِنْ الْفَتْحِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ؛ مَعَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ كَرِهَهُ خَلْقٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ حَتَّى قَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ: أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا الرَّأْيَ، فَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرَهُ لَرَدَدْتُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَخَلَ هُوَ وَمَنْ اعْتَمَرَ مَعَهُ مَكَّةَ مُعْتَمِرِينَ، وَأَهْلُ مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ؛ وَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الثَّامِنِ فَتَحَ مَكَّةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ؛ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27] فَوَعَدَهُمْ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ آمَنِينَ، وَأَنْجَزَ مَوْعِدَهُ مِنْ الْعَامِ الثَّانِي، وَأَنْزَلَ فِي ذَلِكَ: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] وَذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ " سُورَةَ الْفَتْحِ " نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا بَيِّنًا. " وَالْمَقْصُودُ " أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَحِبُوهُ قَبْلَ الْفَتْحِ اُخْتُصُّوا مِنْ الصُّحْبَةِ بِمَا اسْتَحَقُّوا بِهِ التَّفْضِيلَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، حَتَّى «قَالَ لِخَالِدٍ: لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي» فَإِنَّهُمْ صَحِبُوهُ قَبْلَ أَنْ يَصْحَبَهُ خَالِدٌ وَأَمْثَالُهُ. وَلَمَّا كَانَ " لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ مَزِيَّةِ الصُّحْبَةِ مَا تَمَيَّزَ بِهِ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ خَصَّهُ بِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّهُ «كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَلَامٌ، فَطَلَبَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ عُمَرَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَامْتَنَعَ عُمَرُ، وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ لَهُ مَا جَرَى؛ ثُمَّ إنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَخَرَجَ يَطْلُبُ أَبَا بَكْرٍ فِي بَيْتِهِ، فَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا جَاءَ عُمَرُ أَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْضَبُ لِأَبِي بَكْرٍ؛ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنِّي جِئْت إلَيْكُمْ فَقُلْت: إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ، فَقُلْتُمْ كَذَبْت، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْت فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي؟ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي؟» فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا. فَهُنَا خَصَّهُ بِاسْمِ الصُّحْبَةِ، كَمَا خَصَّهُ بِهِ الْقُرْآنُ فِي قَوْله تَعَالَى

{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: بَلْ نَفْدِيك بِأَنْفُسِنَا؛ وَأَمْوَالِنَا. قَالَ: فَجَعَلَ النَّاسُ يَعْجَبُونَ أَنْ ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْمُخَيَّرُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ» . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنْ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيْنَا فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا؛ وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي، سُدُّوا كُلَّ خَوْخَةٍ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ " وَهَذَا مِنْ أَصَحِّ حَدِيثٍ يَكُونُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ بِأَقْوَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَفْعَالِهِ، وَأَحْوَالِهِ. " وَالْمَقْصُودُ " أَنَّ الصُّحْبَةَ فِيهَا خُصُوصٌ وَعُمُومٌ، وَعُمُومُهَا يَنْدَرِجُ فِيهِ كُلُّ مَنْ رَآهُ مُؤْمِنًا بِهِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: صَحِبْتُهُ سَنَةً؛ وَشَهْرًا، وَسَاعَةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ. " وَمُعَاوِيَةُ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَأَمْثَالُهُمْ " مِنْ الْمُؤْمِنِينَ؛ لَمْ يَتَّهِمْهُمْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ بِنِفَاقٍ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ «عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ لَمَّا بَايَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: عَلَى أَنْ يَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي. فَقَالَ: يَا عَمْرُو، أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِسْلَامَ الْهَادِمُ هُوَ إسْلَامُ الْمُؤْمِنِينَ؛ لَا إسْلَامُ الْمُنَافِقِينَ. وَأَيْضًا فَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَأَمْثَالُهُ مِمَّنْ قَدِمَ مُهَاجِرًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ هَاجَرُوا إلَيْهِ مِنْ بِلَادِهِمْ طَوْعًا لَا كَرْهًا، وَالْمُهَاجِرُونَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُنَافِقٌ؛ وَإِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ فِي بَعْضِ مَنْ دَخَلَ مِنْ الْأَنْصَارِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْصَارَ هُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ؛ فَلَمَّا أَسْلَمَ أَشْرَافُهُمْ وَجُمْهُورُهُمْ احْتَاجَ الْبَاقُونَ أَنْ يُظْهِرُوا الْإِسْلَامَ نِفَاقًا؛ لِعِزِّ الْإِسْلَامِ وَظُهُورِهِ فِي قَوْمِهِمْ. وَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ فَكَانَ أَشْرَافُهُمْ وَجُمْهُورُهُمْ كُفَّارًا فَلَمْ يَكُنْ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ إلَّا مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ فَإِنَّهُ كَانَ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ يُؤْذَى وَيُهْجَرُ؛ وَإِنَّمَا الْمُنَافِقُ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ لِمَصْلَحَةِ دُنْيَاهُ. وَكَانَ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ بِمَكَّةَ يَتَأَذَّى فِي دُنْيَاهُ؛ ثُمَّ لَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ مَعَهُ أَكْثَرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُنِعَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْهِجْرَةِ إلَيْهِ، كَمَا مُنِعَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ مِثْلُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ أَخُو خَالِدٍ أَخُو أَبِي جَهْلٍ لِأُمِّهِ؛ وَلِهَذَا

كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْنُتُ لِهَؤُلَاءِ وَيَقُولُ فِي قُنُوتِهِ: «اللَّهُمَّ نَجِّ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَك عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سَنِينًا كَسِنِي يُوسُفَ» . وَالْمُهَاجِرُونَ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ اتَّهَمَهُ أَحَدٌ بِالنِّفَاقِ؛ بَلْ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ مَشْهُودٌ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ " وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ ". وَأَمَّا " مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَأَمْثَالُهُ " مِنْ الطُّلَقَاءِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ: كَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ حَسُنَ إسْلَامُهُمْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُتَّهَمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِنِفَاقٍ. وَمُعَاوِيَةُ قَدْ اسْتَكْتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ، وَقِه الْعَذَابَ» . وَكَانَ أَخُوهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ خَيْرًا مِنْهُ وَأَفْضَلُ، وَهُوَ أَحَدُ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي فَتْحِ الشَّامِ، وَوَصَّاهُ بِوَصِيَّةٍ مَعْرُوفَةٍ، وَأَبُو بَكْرٍ مَاشٍ، وَيَزِيدُ رَاكِبٌ، فَقَالَ لَهُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ إمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ. فَقَالَ: لَسْتُ بِرَاكِبٍ، وَلَسْتَ بِنَازِلٍ، إنِّي أَحْتَسِبُ خُطَايَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ هُوَ الْأَمِيرُ الْآخَرُ وَالثَّالِثُ شُرَحْبِيلُ ابْنُ حَسَنَةَ، وَالرَّابِعُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَهُوَ أَمِيرُهُمْ الْمُطْلَقُ، ثُمَّ عَزَلَهُ عُمَرُ، وَوَلَّى أَبَا عُبَيْدَةَ عَامِرَ بْنَ الْجَرَّاحِ، الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهِدَ لَهُ أَنَّهُ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَكَانَ فَتْحُ الشَّامِ عَلَى يَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَفَتْحُ الْعِرَاقِ عَلَى يَدِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. ثُمَّ لَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ اسْتَعْمَلَ أَخَاهُ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ فِرَاسَةً، وَأَخْبَرِهِمْ بِالرِّجَالِ، وَأَقْوَمِهِمْ بِالْحَقِّ، وَأَعْلَمِهِمْ بِهِ، حَتَّى قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ ضَرَبَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» وَقَالَ: «لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ فِيكُمْ عُمَرُ» وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا سَمِعْت عُمَرَ يَقُولُ فِي الشَّيْءِ: إنِّي لِأَرَاهُ كَذَا وَكَذَا إلَّا كَانَ كَمَا رَآهُ. وَقَدْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا رَآك الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّك» . وَلَا اسْتَعْمَلَ عُمَرُ قَطُّ؛ بَلْ وَلَا أَبُو بَكْرٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ:

مُنَافِقًا، وَلَا اسْتَعْمَلَا مِنْ أَقَارِبِهِمَا، وَلَا كَانَ تَأْخُذُهُمَا فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ؛ بَلْ لَمَّا قَاتَلَا أَهْلَ الرِّدَّةِ وَأَعَادُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ مَنَعُوهُمْ رُكُوبَ الْخَيْلِ وَحَمْلَ السِّلَاحِ حَتَّى تَظْهَرَ صِحَّةُ تَوْبَتِهِمْ، وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَهُوَ أَمِيرُ الْعِرَاقِ: لَا تَسْتَعْمِلْ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَلَا تُشَاوِرْهُمْ فِي الْحَرْبِ. فَإِنَّهُمْ كَانُوا أُمَرَاءَ أَكَابِرَ: مِثْلُ طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيِّ، وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَالْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيِّ، وَأَمْثَالُهُمْ، فَهَؤُلَاءِ لَمَّا تَخَوَّفَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مِنْهُمْ نَوْعَ نِفَاقٍ لَمْ يُوَلِّهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَلَوْ كَانَ " عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ " " وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَأَمْثَالُهُمَا " مِمَّنْ يُتَخَوَّفُ مِنْهُمَا النِّفَاقُ لَمْ يُوَلَّوْا عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ قَدْ أَمَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُوَلِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مُنَافِقًا، وَقَدْ اسْتَعْمَلَ عَلَى نَجْرَانَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَبَا مُعَاوِيَةَ، وَمَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو سُفْيَانَ نَائِبُهُ عَلَى نَجْرَانَ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ إسْلَامَ مُعَاوِيَةَ خَيْرٌ مِنْ إسْلَامِ أَبِيهِ أَبِي سُفْيَانَ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَؤُلَاءِ مُنَافِقِينَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْتَمِنُهُمْ عَلَى أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ؟ ،،، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَغَيْرَهُمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْفِتَنِ مَا كَانَ، وَلَمْ يَتَّهِمْهُمْ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ، لَا مُحَارَبُوهُمْ، وَلَا غَيْرُ مُحَارِبِيهِمْ: بِالْكَذِبِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ بَلْ جَمِيعُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ صَادِقُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، مَأْمُونُونَ عَلَيْهِ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَالْمُنَافِقُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ بَلْ هُوَ كَاذِبٌ عَلَيْهِ، مُكَذِّبٌ لَهُ. وَإِذَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ، مُحِبِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ: فَمَنْ لَعَنَهُمْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مَا مَعْنَاهُ: «أَنَّ رَجُلًا يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَكَانَ كُلَّمَا شَرِبَ أُتِيَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَلَدَهُ فَأُتِيَ بِهِ إلَيْهِ مَرَّةً، فَقَالَ رَجُلٌ: لَعَنَهُ اللَّهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتِي بِهِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ النَّبِيُّ لَا تَلْعَنُوهُ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ لَمْ يُحِبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَإِنْ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي الْإِيمَانِ وَمَا يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ حُبٍّ وَغَيْرِهِ. هَذَا مَعَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ الْخَمْرَ، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ، وَآكِلَ ثَمَنِهَا» وَقَدْ نَهَى عَنْ لَعْنَةِ هَذَا الْمُعَيَّنِ، لِأَنَّ اللَّعْنَةَ مِنْ " بَابِ الْوَعِيدِ " فَيُحْكَمُ بِهِ عُمُومًا. وَأَمَّا الْمُعَيَّنُ فَقَدْ يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْوَعِيدُ لِتَوْبَةٍ صَحِيحَةٍ، أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ أَوْ مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ، أَوْ شَفَاعَةٍ

مَقْبُولَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي ضَرَرُهَا يَرْفَعُ الْعُقُوبَةَ عَنْ الْمُذْنِبِ. فَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ ذَنْبٌ مُحَقَّقٌ. وَكَذَلِكَ " حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ، فَعَلَ مَا فَعَلَ وَكَانَ يُسِيءُ إلَى مَمَالِيكِهِ حَتَّى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ غُلَامَهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاَللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ النَّارَ. قَالَ: كَذَبْت، إنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا، وَالْحُدَيْبِيَةَ» . وَفِي الصَّحِيحِ «عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَهُ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَقَالَ لَهُمَا: ائْتِيَا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً، وَمَعَهَا كِتَابٌ، قَالَ عَلِيٌّ: فَانْطَلَقْنَا تَتَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى لَقِينَا الظَّعِينَةَ، فَقُلْنَا: أَيْنَ الْكِتَابُ؟ فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ فَقُلْنَا لَهَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ، أَوْ لَأُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، قَالَ فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِذَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبٍ إلَى بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا هَذَا يَا حَاطِبُ؟ فَقَالَ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا فَعَلْتُ هَذَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي، وَلَا رِضَاءً بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ؛ وَلَكِنْ كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهِمْ أَهَالِيَهُمْ بِمَكَّةَ، فَأَحْبَبْت إذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْهُمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي. وَفِي لَفْظٍ: وَعَلِمْت أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّك. يَعْنِي لِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ رَسُولَهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا. فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُمْ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ» فَهَذِهِ السَّيِّئَةُ الْعَظِيمَةُ غَفَرَهَا اللَّهُ لَهُ بِشُهُودِ بَدْرٍ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَةَ الْعَظِيمَةَ يَغْفِرُ اللَّهُ بِهَا السَّيِّئَةَ الْعَظِيمَةَ، وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَأَمْثَالُ ذَلِكَ: مَعَ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] وَلِهَذَا لَا يُشْهَدُ لِمُعَيَّنٍ بِالْجَنَّةِ إلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ، وَلَا يُشْهَدُ عَلَى مُعَيَّنٍ بِالنَّارِ إلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ؛ وَلَا يُشْهَدُ لَهُمْ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ مِنْ انْدِرَاجِهِمْ فِي الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْدَرِجُ فِي الْعُمُومَيْنِ فَيَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8]

وَالْعَبْدُ إذَا اجْتَمَعَ لَهُ سَيِّئَاتٌ وَحَسَنَاتٌ فَإِنَّهُ وَإِنْ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ، وَلَا يُحْبِطُ حَسَنَاتِ الْمُؤْمِنِ لِأَجْلِ مَا صَدَرَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَقُولُ بِحُبُوطِ الْحَسَنَاتِ كُلِّهَا بِالْكَبِيرَةِ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِتَخْلِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِشَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهَا وَأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَبْقَى مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فَاسِدَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ. وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ لَا يَعْتَقِدُونَ عِصْمَةَ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا الْقَرَابَةِ وَلَا السَّابِقِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ؛ بَلْ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ وُقُوعُ الذُّنُوبِ مِنْهُمْ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ، وَيَرْفَعُ بِهَا دَرَجَاتِهِمْ، وَيَغْفِرُ لَهُمْ بِحَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33] {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 34] {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 35] وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ - أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} [الأحقاف: 15 - 16] . وَلَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - هُمْ الَّذِينَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ الْإِصْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ. فَأَمَّا الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءُ؛ وَالصَّالِحُونَ: فَلَيْسُوا بِمَعْصُومِينَ. وَهَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ. وَأَمَّا مَا اجْتَهَدُوا فِيهِ: فَتَارَةً يُصِيبُونَ، وَتَارَةً يُخْطِئُونَ. فَإِذَا اجْتَهَدُوا فَأَصَابُوا فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدُوا وَأَخْطَئُوا فَلَهُمْ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ، وَخَطَؤُهُمْ مَغْفُورٌ لَهُمْ. وَأَهْلُ الضَّلَالِ يَجْعَلُونَ الْخَطَأَ وَالْإِثْمَ مُتَلَازِمَيْنِ: فَتَارَةً يُغْلُونَ فِيهِمْ؛ وَيَقُولُونَ: إنَّهُمْ مَعْصُومُونَ. وَتَارَةً يَجْفُونَ عَنْهُمْ؛ وَيَقُولُونَ: إنَّهُمْ بَاغُونَ بِالْخَطَأِ. وَأَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ لَا يُعْصَمُونَ. وَلَا يُؤْثَمُونَ.

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَوَلَّدَ كَثِيرٌ مِنْ فِرَقِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ. فَطَائِفَةٌ سَبَّتْ السَّلَفَ وَلَعَنَتْهُمْ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذُنُوبًا، وَأَنَّ مَنْ فَعَلَهَا يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَةَ؛ بَلْ قَدْ يُفَسِّقُونَهُمْ؛ أَوْ يُكَفِّرُونَهُمْ، كَمَا فَعَلَتْ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ كَفَّرُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَمَنْ تَوَلَّاهُمَا، وَلَعَنُوهُمْ، وَسَبُّوهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا قِتَالَهُمْ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى فِرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَتُقَاتِلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ لِأَجْلِ الْحَقِّ» وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمَارِقَةُ الَّذِينَ مَرَقُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَفَّرُوا كُلَّ مَنْ تَوَلَّاهُ. وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ افْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ مَعَ عَلِيٍّ، وَفِرْقَةٌ مَعَ مُعَاوِيَةَ. فَقَاتَلَ هَؤُلَاءِ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ، فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَمَا ثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ «قَالَ عَنْ الْحَسَنِ ابْنِهِ: إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» " فَأَصْلَحَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ شِيعَةِ عَلِيٍّ وَشِيعَةِ مُعَاوِيَةَ ". «وَأَثْنَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْحَسَنِ بِهَذَا الصُّلْحِ الَّذِي كَانَ عَلَى يَدَيْهِ وَسَمَّاهُ سَيِّدًا بِذَلِكَ؛ لِأَجْلِ أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيَرْضَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَلَوْ كَانَ الِاقْتِتَالُ الَّذِي حَصَلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَلْ يَكُونُ الْحَسَنُ قَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ، أَوْ الْأَحَبَّ إلَى اللَّهِ وَهَذَا النَّصُّ الصَّحِيحُ الصَّرِيحُ يُبَيِّنُ أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ مَحْمُودٌ، مَرْضِيٌّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَضَعُهُ عَلَى فَخِذِهِ، وَيَضَعُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُمَا، وَأُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهُمَا» وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا ظَهَرَ فِيهِ مَحَبَّتُهُ وَدَعْوَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَإِنَّهُمَا كَانَا أَشَدَّ النَّاسِ رَغْبَةً فِي الْأَمْرِ الَّذِي مَدَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ الْحَسَنَ؛ وَأَشَدَّ النَّاسِ كَرَاهَةً لِمَا يُخَالِفُهُ. وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقَتْلَى مِنْ أَهْلِ صِفِّينَ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْزِلَةِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ، الَّذِينَ أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ مَدَحَ الصُّلْحَ بَيْنَهُمْ وَلَمْ يَأْمُرْ بِقِتَالِهِمْ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ مُتَّفِقِينَ عَلَى قِتَالِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ، وَظَهَرَ مِنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السُّرُورُ بِقِتَالِهِمْ؛ وَمِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَمْرَ بِقِتَالِهِمْ: مَا قَدْ ظَهَرَ عَنْهُ وَأَمَّا قِتَالُ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُرْوَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ أَثَرٌ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ سُرُورٌ؛ بَلْ ظَهَرَ مِنْهُ

الْكَآبَةُ، وَتَمَنَّى أَنْ لَا يَقَعَ، وَشَكَرَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ، وَبَرَّأَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَأَجَازَ التَّرَحُّمَ عَلَى قَتْلَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا اتِّفَاقُ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مُؤْمِنَةٌ. وَقَدْ شَهِدَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ اقْتِتَالَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُخْرِجُهُمْ عَنْ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10] فَسَمَّاهُمْ " مُؤْمِنِينَ " وَجَعَلَهُمْ " إخْوَةً " مَعَ وُجُودِ الِاقْتِتَالِ وَالْبَغْيِ. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ «إذَا اقْتَتَلَ خَلِيفَتَانِ فَأَحَدُهُمَا مَلْعُونٌ» كَذِبٌ مُفْتَرًى لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ الْمُعْتَمَدَةِ. " وَمُعَاوِيَةُ " لَمْ يَدَّعِ الْخِلَافَةَ؛ وَلَمْ يُبَايَعْ لَهُ بِهَا حِينَ قَاتَلَ عَلِيًّا، وَلَمْ يُقَاتِلْ عَلَى أَنَّهُ خَلِيفَةٌ، وَلَا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْخِلَافَةَ، وَيُقِرُّونَ لَهُ بِذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ يُقِرُّ بِذَلِكَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْهُ، وَلَا كَانَ مُعَاوِيَةُ وَأَصْحَابُهُ يَرَوْنَ أَنْ يَبْتَدِئُوا عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ بِالْقِتَالِ، وَلَا يَعْلُوا. بَلْ لَمَّا رَأَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ وَمُبَايَعَتُهُ، إذْ لَا يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ إلَّا خَلِيفَةٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُمْ خَارِجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ يَمْتَنِعُونَ عَنْ هَذَا الْوَاجِبِ، وَهُمْ أَهْلُ شَوْكَةٍ رَأَى أَنْ يُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يُؤَدُّوا هَذَا الْوَاجِبَ، فَتَحْصُلَ الطَّاعَةُ وَالْجَمَاعَةُ. وَهُمْ قَالُوا: إنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ إذَا قُوتِلُوا عَلَى ذَلِكَ كَانُوا مَظْلُومِينَ قَالُوا: لِأَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَتُهُ فِي عَسْكَرِ عَلِيٍّ، وَهُمْ غَالِبُونَ لَهُمْ شَوْكَةٌ، فَإِذَا امْتَنَعْنَا ظَلَمُونَا وَاعْتَدَوْا عَلَيْنَا، وَعَلِيٌّ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُمْ، كَمَا لَمْ يُمْكِنْهُ الدَّفْعُ عَنْ عُثْمَانَ؛ وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نُبَايِعَ خَلِيفَةً يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْصِفَنَا وَيَبْذُلَ لَنَا الْإِنْصَافَ. وَكَانَ فِي جُهَّالِ الْفَرِيقَيْنِ مَنْ يَظُنُّ بِعَلِيٍّ وَعُثْمَانَ ظُنُونًا كَاذِبَةً، بَرَّأَ اللَّهُ مِنْهَا عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ، كَانَ يُظَنَّ بِعَلِيٍّ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ عُثْمَانَ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَحْلِفُ وَهُوَ الْبَارُّ الصَّادِقُ بِلَا

يَمِينٍ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ، وَلَا رَضِيَ بِقَتْلِهِ، وَلَمْ يُمَالِئْ عَلَى قَتْلِهِ. وَهَذَا مَعْلُومٌ بِلَا رَيْبٍ مِنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَكَانَ أُنَاسٌ مِنْ مُحِبِّي عَلِيٍّ وَمِنْ مُبْغِضِيهِ يُشِيعُونَ ذَلِكَ عَنْهُ: فَمُحِبُّوهُ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ الطَّعْنَ عَلَى عُثْمَانَ بِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ، وَأَنَّ عَلِيًّا أَمَرَ بِقَتْلِهِ. وَمُبْغِضُوهُ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ الطَّعْنَ عَلَى عَلِيٍّ، وَأَنَّهُ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ الْخَلِيفَةِ الْمَظْلُومِ الشَّهِيدِ، الَّذِي صَبَرَ نَفْسَهُ وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْهَا، وَلَمْ يَسْفِكْ دَمَ مُسْلِمٍ فِي الدَّفْعِ عَنْهُ، فَكَيْفَ فِي طَلَبِ طَاعَتِهِ؟ ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَسَبَّبُ بِهَا الزَّائِغُونَ عَلَى الْمُتَشَيِّعِينَ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَالْعَلَوِيَّةِ. وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ الْمُتَشَيِّعِينَ مُقِرَّةٌ مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مُعَاوِيَةُ كُفْئًا لِعَلِيٍّ بِالْخِلَافَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةً مَعَ إمْكَانِ اسْتِخْلَافِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ فَإِنَّ فَضْلَ عَلِيٍّ وَسَابِقِيَّتَهُ، وَعِلْمَهُ، وَدِينَهُ، وَشَجَاعَتَهُ، وَسَائِرَ فَضَائِلِهِ: كَانَتْ عِنْدَهُمْ ظَاهِرَةٌ مَعْرُوفَةٌ، كَفَضْلِ إخْوَانِهِ: أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَغَيْرِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى غَيْرُهُ وَغَيْرُ سَعْدٍ، وَسَعْدٌ كَانَ قَدْ تَرَكَ هَذَا الْأَمْرَ وَكَانَ الْأَمْرُ قَدْ انْحَصَرَ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ؛ فَلَمَّا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ لَمْ يَبْقَ لَهَا مُعَيَّنٌ إلَّا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَإِنَّمَا وَقَعَ الشَّرُّ بِسَبَبِ قَتْلِ عُثْمَانَ، فَحَصَلَ بِذَلِكَ قُوَّةُ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَضَعْفُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، حَتَّى حَصَلَ مِنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ مَا صَارَ يُطَاعُ فِيهِ مَنْ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ بِالطَّاعَةِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْجَمَاعَةِ وَالِائْتِلَافِ، وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ؛ وَلِهَذَا قِيلَ: مَا يَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ مِنْ الْفُرْقَةِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ «أَنَّ عَمَّارًا تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» فَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ طَعَنَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لَكِنْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَهُوَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ: قَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاغِيَةِ الطَّالِبَةُ بِدَمِ عُثْمَانَ، كَمَا قَالُوا: نَبْغِي ابْنَ عَفَّانَ بِأَطْرَافِ الْأَسَلِّ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ بَلْ يُقَالُ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهُوَ حَقٌّ كَمَا قَالَهُ، وَلَيْسَ فِي كَوْنِ عَمَّارًا تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ مَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] فَقَدْ

جَعَلَهُمْ مَعَ وُجُودِ الِاقْتِتَالِ وَالْبَغْيِ مُؤْمِنِينَ إخْوَةً؛ بَلْ مَعَ أَمْرِهِ بِقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ جَعَلَهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ بَغْيًا وَظُلْمًا أَوْ عُدْوَانًا يُخْرِجُ عُمُومَ النَّاسِ عَنْ الْإِيمَانِ، وَلَا يُوجِبُ لَعْنَتَهُمْ؛ فَكَيْفَ يُخْرِجُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْ خَيْرِ الْقُرُونِ؟ ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ بَاغِيًا، أَوْ ظَالِمًا، أَوْ مُعْتَدِيًا، أَوْ مُرْتَكِبًا مَا هُوَ ذَنْبٌ فَهُوَ " قِسْمَانِ " مُتَأَوِّلٌ، وَغَيْرُ مُتَأَوِّلٍ، فَالْمُتَأَوِّلُ الْمُجْتَهِدُ: كَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، الَّذِينَ اجْتَهَدُوا، وَاعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ حِلَّ أُمُورٍ، وَاعْتَقَدَ الْآخَرُ تَحْرِيمَهَا كَمَا اسْتَحَلَّ بَعْضُهُمْ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْأَشْرِبَةِ، وَبَعْضُهُمْ بَعْضَ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ وَبَعْضُهُمْ بَعْضَ عُقُودِ التَّحْلِيلِ وَالْمُتْعَةِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، فَقَدْ جَرَى ذَلِكَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ خِيَارِ السَّلَفِ. فَهَؤُلَاءِ الْمُتَأَوِّلُونَ الْمُجْتَهِدُونَ غَايَتُهُمْ أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ. وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي الْحَرْثِ، وَخَصَّ أَحَدَهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ، مَعَ ثَنَائِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ. وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا فَهِمَ أَحَدُهُمْ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ الْآخَرُ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ مَلُومًا وَلَا مَانِعًا لِمَا عُرِفَ مِنْ عِلْمِهِ وَدِينِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ يَكُونُ إثْمًا وَظُلْمًا، وَالْإِصْرَارُ عَلَيْهِ فِسْقًا، بَلْ مَتَى عَلِمَ تَحْرِيمَهُ ضَرُورَةً كَانَ تَحْلِيلُهُ كُفْرًا. فَالْبَغْيُ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. أَمَّا إذَا كَانَ الْبَاغِي مُجْتَهِدًا وَمُتَأَوِّلًا، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّهُ بَاغٍ، بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي اعْتِقَادِهِ: لَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُ " بَاغِيًا " مُوجِبَةً لِإِثْمِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تُوجِبَ فِسْقَهُ. وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِقِتَالِ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ يَقُولُونَ: مَعَ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ قِتَالُنَا لَهُمْ لِدَفْعِ ضَرَرِ بَغْيِهِمْ؛ لَا عُقُوبَةً لَهُمْ؛ بَلْ لِلْمَنْعِ مِنْ الْعُدْوَانِ. وَيَقُولُونَ: إنَّهُمْ بَاقُونَ عَلَى الْعَدَالَةِ؛ لَا يَفْسُقُونَ. وَيَقُولُونَ هُمْ كَغَيْرِ الْمُكَلَّفِ، كَمَا يُمْنَعُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالنَّاسِي وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمُ مِنْ الْعُدْوَانِ أَنْ لَا يَصْدُرَ مِنْهُمْ؛ بَلْ تُمْنَعُ الْبَهَائِمُ مِنْ الْعُدْوَانِ. وَيَجِبُ عَلَى مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً الدِّيَةُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَهَكَذَا مَنْ رُفِعَ إلَى الْإِمَامِ مِنْ أَهْلِ الْحُدُودِ وَتَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَأَقَامَ عَلَيْهِ

الْحَدَّ، وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَالْبَاغِي الْمُتَأَوِّلُ يُجْلَدُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ. ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ " الْبَغْيُ " بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ: يَكُونُ ذَنْبًا، وَالذُّنُوبُ تَزُولُ عُقُوبَتُهَا بِأَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ: بِالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ، وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ " إنَّ عَمَّارًا تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ " لَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لِمُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ؛ بَلْ يُمْكِنُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ تِلْكَ الْعِصَابَةُ الَّتِي حَمَلَتْ عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلَتْهُ، وَهِيَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعَسْكَرِ، وَمَنْ رَضِيَ بِقَتْلِ عَمَّارٍ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهَا، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ كَانَ فِي الْمُعَسْكَرِ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَتْلِ عَمَّارٍ: كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَغَيْرِهِ؛ بَلْ كُلُّ النَّاسِ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِقَتْلِ عَمَّارٍ، حَتَّى مُعَاوِيَةَ، وَعَمْرٍو. وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ تَأَوَّلَ أَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ؛ دُونَ مُقَاتِلِيهِ: وَأَنَّ عَلِيًّا رَدَّ هَذَا التَّأْوِيلَ بِقَوْلِهِ: فَنَحْنُ إذًا قَتَلْنَا حَمْزَةَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا قَالَهُ عَلِيٌّ هُوَ الصَّوَابُ؛ لَكِنْ مَنْ نَظَرَ فِي كَلَامِ الْمُتَنَاظِرِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ وَلَا مُلْكٌ، وَأَنَّ لَهُمْ فِي النُّصُوصِ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ مَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِكَثِيرٍ. وَمَنْ تَأَوَّلَ هَذَا التَّأْوِيلَ لَمْ يَرَ أَنَّهُ قَتَلَ عَمَّارًا، فَلَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ بَاغٍ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ بَاغٍ وَهُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَاغٍ: فَهُوَ مُتَأَوِّلٌ مُخْطِئٌ. وَالْفُقَهَاءُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ رَأْيُهُ الْقِتَالُ مَعَ مَنْ قَتَلَ عَمَّارًا؛ لَكِنْ لَهُمْ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِمَا أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ: مِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْقِتَالَ مَعَ عَمَّارٍ وَطَائِفَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْإِمْسَاكَ عَنْ الْقِتَالِ مُطْلَقًا. وَفِي كُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ طَوَائِفُ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ. فَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَمَّارٌ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَأَبُو أَيُّوبَ. وَفِي الثَّانِي سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ؛ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَنَحْوُهُمْ. وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْأَكَابِرِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا عَلَى هَذَا الرَّأْيِ؛ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَسْكَرَيْنِ بَعْدَ عَلِيٍّ أَفْضَلُ مِنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَكَانَ مِنْ الْقَاعِدِينَ. " وَحَدِيثُ عَمَّارٍ " قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ رَأَى الْقِتَالَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَاتِلُوهُ بُغَاةً فَاَللَّهُ يَقُولُ: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] وَالْمُتَمَسِّكُونَ يَحْتَجُّونَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْ

النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي «أَنَّ الْقُعُودَ عَنْ الْفِتْنَةِ خَيْرٌ مِنْ الْقِتَالِ فِيهَا» وَتَقُولُ: إنَّ هَذَا الْقِتَالَ وَنَحْوَهُ هُوَ قِتَالُ الْفِتْنَةِ؛ كَمَا جَاءَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ تُبَيِّنُ ذَلِكَ؛ وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْ بِالْقِتَالِ؛ وَلَمْ يَرْضَ لَهُ؛ وَإِنَّمَا رَضِيَ بِالصُّلْحِ؛ وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِقِتَالِ الْبَاغِي؛ وَلَمْ يَأْمُرْ بِقِتَالِهِ ابْتِدَاءً؛ بَلْ قَالَ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] قَالُوا: وَالِاقْتِتَالُ الْأَوَّلُ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ؛ وَلَا أَمَرَ كُلَّ مَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ بَغَى عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَتَلَ كُلَّ بَاغٍ كَفَرَ؛ بَلْ غَالِبُ الْمُؤْمِنِينَ؛ بَلْ غَالِبُ النَّاسِ: لَا يَخْلُو مِنْ ظُلْمٍ وَبَغْيٍ؛ وَلَكِنْ إذَا اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَالْوَاجِبُ الْإِصْلَاحُ بَيْنَهُمَا؛ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا مَأْمُورَةً بِالْقِتَالِ، فَإِذَا بَغَتْ الْوَاحِدَةُ بَعْدَ ذَلِكَ قُوتِلَتْ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَتْرُكْ الْقِتَالَ؛ وَلَمْ تُجِبْ إلَى الصُّلْحِ؛ فَلَمْ يَنْدَفِعْ شَرُّهَا إلَّا بِالْقِتَالِ فَصَارَ قِتَالُهَا بِمَنْزِلَةِ قِتَالِ الصَّائِلِ الَّذِي لَا يَنْدَفِعُ ظُلْمُهُ عَنْ غَيْرِهِ إلَّا بِالْقِتَالِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ حُرْمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» . قَالُوا: فَبِتَقْدِيرِ أَنَّ جَمِيعَ الْعَسْكَرِ بُغَاةٌ فَلَمْ نُؤْمَرْ بِقِتَالِهِمْ ابْتِدَاءً؛ بَلْ أُمِرْنَا بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ. " وَأَيْضًا، فَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ إذَا كَانَ الَّذِينَ مَعَ عَلِيٍّ نَاكِلِينَ عَنْ الْقِتَالِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا كَثِيرِي الْخِلَافِ عَلَيْهِ ضَعِيفِي الطَّاعَةِ لَهُ. " وَالْمَقْصُودُ " أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يُبِيحُ لَعْنَ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا يُوجِبُ فِسْقَهُ. وَأَمَّا " أَهْلُ الْبَيْتِ " فَلَمْ يَسُبُّوا قَطُّ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَلَمْ يَقْتُلْ الْحَجَّاجُ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَإِنَّمَا قَتَلَ رِجَالًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ، وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَلَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ وَلَا بَنُو هَاشِمٍ وَلَا بَنُو أُمَيَّةَ حَتَّى فَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا؛ حَيْثُ لَمْ يَرَوْهُ كُفْئًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة الفتن التي تقع من أهل البر

[مَسْأَلَةٌ الْفِتَنِ الَّتِي تَقَعُ مِنْ أَهْلِ الْبِرِّ] مَسْأَلَةٌ: فِي الْفِتَنِ الَّتِي تَقَعُ مِنْ أَهْلِ الْبِرِّ وَأَمْثَالِهَا؛ فَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَسْتَبِيحُ بَعْضُهُمْ حُرْمَةَ بَعْضٍ: فَمَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذِهِ الْفِتَنُ وَأَمْثَالُهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَكْبَرِ الْمُنْكَرَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105] {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106] . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا حَتَّى صَارَ عَنْهُمْ مِنْ الْكُفْرِ مَا صَارَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» فَهَذَا مِنْ الْكُفْرِ؛ وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ لَا يَكْفُرُ بِالذَّنْبِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10] فَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ بَيْنَ الْمُقْتَتِلِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ: أَخْبَرَ أَنَّهُمْ إخْوَةٌ، وَأَمَرَ أَوَّلًا بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ إنْ اقْتَتَلُوا: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} [الحجرات: 9] وَلَمْ يَقْبَلُوا الصَّلَاحَ: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات: 9] فَأَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ بَعْدَ أَنْ {تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] أَيْ تَرْجِعَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ. فَمَنْ رَجَعَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ وَجَبَ أَنْ يُعْدَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، وَيُقْسَطَ

بَيْنَهُمَا. فَقَبْلَ أَنْ نُقَاتِلَ الطَّائِفَةَ الْبَاغِيَةَ وَبَعْدَ اقْتِتَالِهِمَا أُمِرْنَا بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُقْهَرْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ بِقِتَالٍ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُسْعَى بَيْنَ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ بِالصُّلْحِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَرَسُولُهُ. وَيُقَالُ لِهَذِهِ: مَا تَنْقِمُ مِنْ هَذِهِ؟ وَلِهَذِهِ: مَا تَنْقِمُ مِنْ هَذِهِ؟ فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا اعْتَدَتْ عَلَى الْأُخْرَى: بِإِتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ الْأَنْفُسِ، وَالْأَمْوَالِ: كَانَ عَلَيْهَا ضَمَانُ مَا أَتْلَفَتْهُ. وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ أَتْلَفُوا لِهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ أَتْلَفُوا لِهَؤُلَاءِ تَقَاصُّوا بَيْنَهُمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] وَقَدْ ذَكَرَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فِي طَائِفَتَيْنِ اقْتَتَلَتَا فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ بِالْمُقَاصَّةِ، قَالَ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] وَالْعَفْوُ الْفَضْلُ فَإِذَا فَضَلَ لِوَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ شَيْءٌ عَلَى الْأُخْرَى {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ يُؤَدِّيهِ بِإِحْسَانٍ، وَإِنْ تَعَذَّرَ أَنْ تَضْمَنَ وَاحِدَةٌ لِلْأُخْرَى، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَحَمَّلَ الرَّجُلُ حَمَالَةً يُؤَدِّيهَا لِصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ زَكَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْأَلَ النَّاسَ فِي إعَانَتِهِ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ: يَا قَبِيصَةُ إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِثَلَاثَةٍ: رَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَيَسْأَلُ حَتَّى يَجِدَ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ، ثُمَّ يُمْسِكُ. وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ؛ فَإِنَّهُ يَقُومُ ثَلَاثَةً مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ؛ فَيَقُولُونَ: قَدْ أَصَابَ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَيَسْأَلُ حَتَّى يَجِدَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ وَسَدَادًا مِنْ عَيْشٍ؛ ثُمَّ يُمْسِكُ. وَرَجُلٌ يَحْمِلُ حَمَالَةً فَيَسْأَلُ حَتَّى يَجِدَ حَمَالَتَهُ، ثُمَّ يُمْسِكُ» . وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَادِرٍ أَنْ يَسْعَى فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ وَيَأْمُرَهُمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مَهْمَا أَمْكَنَ. وَمَنْ كَانَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ يَظُنُّ أَنَّهُ مَظْلُومٌ مَبْغِيٌّ عَلَيْهِ فَإِذَا صَبَرَ وَمَنْ أَعَزَّهُ اللَّهُ وَنَصَرَهُ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ؛ وَلَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] وَقَالَ تَعَالَى:

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 42] {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] فَالْبَاغِي الظَّالِمُ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْبَغْيَ مَصْرَعُهُ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَلَوْ بَغَى جَبَلٌ عَلَى جَبَلٍ لَجَعَلَ اللَّهُ الْبَاغِيَ مِنْهُمَا دَكًّا. وَمِنْ حِكْمَةِ الشِّعْرِ: قَضَى اللَّهُ أَنَّ الْبَغْيَ يُصْرَعُ أَهْلُهُ ... وَأَنَّ عَلَى الْبَاغِي تَدُورُ الدَّوَائِرُ وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 23] الْآيَةَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَحْرَى أَنْ يُعَجَّلَ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْبَغْيِ، وَمَا حَسَنَةٌ أَحْرَى أَنْ يُعَجَّلَ لِصَاحِبِهَا الثَّوَابُ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ» فَمَنْ كَانَ مِنْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ بَاغِيًا ظَالِمًا فَلِيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَتُبْ، وَمَتَى كَانَ مَظْلُومًا مَبْغِيًّا عَلَيْهِ وَصَبَرَ كَانَ لَهُ الْبُشْرَى مِنْ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] قَالَ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ: هُمْ الَّذِينَ لَا يَظْلِمُونَ إذَا ظُلِمُوا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فِي حَقِّ عَدُوِّهِمْ: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] وَقَالَ يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا فَعَلَ بِهِ إخْوَتُهُ مَا فَعَلُوا فَصَبَرَ وَاتَّقَى حَتَّى نَصَرَهُ اللَّهُ وَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي عِزِّهِ: {قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] فَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ بِصِدْقٍ وَعَدْلٍ، وَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ، وَصَبَرَ عَلَى أَذَى الْآخَرِ وَظُلْمِهِ لَمْ يَضُرَّهُ كَيْدُ الْآخَرِ؛ بَلْ يَنْصُرُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ الْفِتَنُ سَبَبُهَا الذُّنُوبُ وَالْخَطَايَا فَعَلَى كُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ وَيَتُوبَ إلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرْفَعُ الْعَذَابَ، وَيُنْزِلُ الرَّحْمَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَكْثَرَ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ

مسألة طائفتان يزعمان أنهما من أمة محمد تتداعيان بدعوة الجاهلية

مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] {أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود: 2] {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] . [مَسْأَلَةٌ طَائِفَتَانِ يَزْعُمَانِ أَنَّهُمَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ تَتَدَاعَيَانِ بِدَعْوَةِ الْجَاهِلِيَّةِ] 745 - 99 - مَسْأَلَةٌ: طَائِفَتَانِ يَزْعُمَانِ أَنَّهُمَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ تَتَدَاعَيَانِ بِدَعْوَةِ الْجَاهِلِيَّةِ: كَأَسَدٍ وَهِلَالٍ، وَثَعْلَبَةَ، وَحَرَامٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَبَيْنَهُمْ أَحْقَادٌ وَدِمَاءٌ؛ فَإِذَا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ سَعَى الْمُؤْمِنُونَ بَيْنَهُمْ لِقَصْدِ التَّأْلِيفِ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ؛ فَيَقُولُ أُولَئِكَ الْبَاغُونَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا طَلَبَ الثَّأْرِ بِقَوْلِهِ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]- إلَى قَوْلِهِ - {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ثُمَّ إنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُعَرِّفُونَهُمْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَقْضِي إلَى الْكُفْرِ: مَنْ قَتَلَ النُّفُوسَ، وَنَهَبَ الْأَمْوَالَ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ لَنَا عَلَيْهِمْ حُقُوقٌ، فَلَا نُفَارِقُ حَتَّى نَأْخُذَ ثَأْرَنَا بِسُيُوفِهِمْ، ثُمَّ يَحْمِلُونَ عَلَيْهِمْ، فَمَنْ انْتَصَرَ مِنْهُمْ بَغَى وَتَعَدَّى وَقَتَلَ النَّفْسَ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ. فَهَلْ يَجِبُ قِتَالُ الطَّائِفَةِ الْبَاغِيَةِ وَقَتْلِهَا، بَعْدَ أَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ؟ أَوْ مَاذَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ بِهَذِهِ الطَّائِفَةِ الْبَاغِيَةِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ: قِتَالُ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، حَتَّى قَالَ: «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا. أَلَا

لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» وَالْوَاجِبُ فِي مِثْلِ هَذَا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، حَيْثُ قَالَ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10] فَيَجِبُ الْإِصْلَاحُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْإِصْلَاحُ لَهُ طُرُقٌ. " مِنْهَا " أَنْ تُجْمَعَ أَمْوَالُ الزَّكَوَاتِ وَغَيْرِهَا حَتَّى يُدْفَعَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْغُرْمَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، يُبِيحُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الزَّكَاةِ بِقَدْرِ مَا غَرِمَ، كَمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا، كَمَا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ: إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَيَسْأَلُ حَتَّى يَجِدَ حَمَالَتَهُ، ثُمَّ يُمْسِكُ. وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ وَسَأَلَ حَتَّى يَجِدَ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ، ثُمَّ يُمْسِكُ. وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ، فَيَقُولُونَ: قَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَيَسْأَلُ؛ حَتَّى يَجِدَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَسَدَادًا مِنْ عَيْشٍ، ثُمَّ يُمْسِكُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ يَأْكُلُهُ صَاحِبُهُ سُحْتًا» . وَمِنْ طُرُقِ الصُّلْحِ أَنْ تَعْفُوَ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا عَنْ بَعْضِ مَالِهَا عِنْدَ الْأُخْرَى مِنْ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] وَمِنْ طُرُقِ الصُّلْحِ أَنْ يُحَكَّمَ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ، فَيُنْظَرَ مَا أَتْلَفَتْهُ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ الْأُخْرَى مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، فَيَتَقَاصَّانِ {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] وَإِذَا فَضَلَ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ. فَإِنْ كَانَ يَجْهَلُ عَدَدَ الْقَتْلَى، أَوْ مِقْدَارَ الْمَالِ: جَعَلَ الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ. وَإِذَا

ادَّعَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى بِزِيَادَةٍ: فَإِمَّا أَنْ تُحَلِّفَهَا عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، وَإِمَّا تَمْتَنِعَ عَنْ الْيَمِينِ فَيَقْضِيَ بِرَدِّ الْيَمِينِ أَوْ النُّكُولِ. فَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ تَبْغِي بِأَنْ تَمْتَنِعَ عَنْ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ، وَلَا تُجِيبَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتُقَاتِلُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ تَطْلُبُ قِتَالَ الْأُخْرَى وَإِتْلَافَ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِهِ؛ فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى كَفِّهَا إلَّا بِالْقَتْلِ قُوتِلَتْ حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ؛ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ تُلْزَمَ بِالْعَدْلِ بِدُونِ الْقِتَالِ مِثْلُ أَنْ يُعَاقِبَ بَعْضَهُمْ، أَوْ يَحْبِسَ؛ أَوْ يَقْتُلَ مَنْ وَجَبَ قَتْلُهُ مِنْهُمْ، وَنَحْوُ ذَلِكَ: عَمِلَ ذَلِكَ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْقِتَالِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْنَا طَلَبَ الثَّأْرِ. فَهُوَ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبْ عَلَى مَنْ لَهُ عِنْدَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ مَظْلِمَةٌ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ؛ بَلْ لَمْ يَذْكُرْ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ فِي الْقُرْآنِ إلَّا نَدَبَ فِيهَا إلَى الْعَفْوِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] وَقَالَ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] فَهَذَا مَعَ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُنَا كَحُكْمِهِمْ مِمَّا لَمْ يُنْسَخْ مِنْ الشَّرَائِعِ: فَالْمُرَادُ بِذَلِكَ التَّسْوِيَةُ فِي الدِّمَاءِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ : «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ» . فَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ رَئِيسًا مُطَاعًا مِنْ قَبِيلَةٍ شَرِيفَةٍ وَالْمَقْتُولُ سُوقِيًّا طَارِفًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ كَبِيرًا وَهَذَا صَغِيرًا، أَوْ هَذَا غَنِيًّا وَهَذَا فَقِيرًا وَهَذَا عَرَبِيًّا وَهَذَا عَجَمِيًّا، أَوْ هَذَا هَاشِمِيًّا وَهَذَا قُرَشِيًّا. وَهَذَا رَدٌّ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ إذَا قُتِلَ كَبِيرٌ مِنْ الْقَبِيلَةِ قَتَلُوا بِهِ عَدَدًا مِنْ الْقَبِيلَةِ الْأُخْرَى غَيْرِ قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ، وَإِذَا قُتِلَ ضَعِيفٌ مِنْ قَبِيلَةٍ لَمْ يَقْتُلُوا قَاتِلَهُ إذَا كَانَ رَئِيسًا مُطْلَقًا فَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ

مسألة أقوام لم يصلوا ولم يصوموا والذي يصوم لم يصل

بِقَوْلِهِ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فَالْمَكْتُوبُ عَلَيْهِمْ هُوَ الْعَدْلُ، وَهُوَ كَوْنُ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ؛ إذْ الظُّلْمُ حَرَامٌ وَأَمَّا اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ فَهُوَ إلَى الْمُسْتَحِقِّ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] أَيْ لَا يَقْتُلُ غَيْرَ قَاتِلِهِ. وَأَمَّا إذَا طَلَبَتْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَتْ الْأُخْرَى: نَحْنُ نَأْخُذُ حَقَّنَا بِأَيْدِينَا فِي هَذَا الْوَقْتِ. فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ الْمُوجِبَةِ عُقُوبَةَ هَذَا الْقَاتِلِ الظَّالِمِ الْفَاجِرِ، وَإِذَا امْتَنَعُوا عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَهُمْ شَوْكَةٌ وَجَبَ عَلَى الْأَمِيرِ قِتَالُهُمْ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَوْكَةٌ: عَرَفَ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَلْزَمَ بِالْعَدْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَنَا عَلَيْهِمْ حُقُوقٌ مِنْ سِنِينَ مُتَقَادِمَةٍ. فَيُقَالُ لَهُمْ نَحْنُ نَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِي الْحُقُوقِ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ، فَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَأْتِي عَلَى هَذَا. وَأَمَّا مَنْ قَتَلَ أَحَدًا مِنْ بَعْدِ الِاصْطِلَاحِ، أَوْ بَعْدَ الْمُعَاهَدَةِ وَالْمُعَاقَدَةِ: فَهَذَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ، حَتَّى قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا، وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: بَلْ قَتْلُهُ قِصَاصٌ، وَالْخِيَارُ فِيهِ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ. وَإِنْ كَانَ الْبَاغِي طَائِفَةً فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ كَفُّ صَنِيعِهِمْ إلَّا بِقِتَالِهِمْ قُوتِلُوا، وَإِنْ أَمْكَنَ بِمَا دُونَ ذَلِكَ عُوقِبُوا بِمَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ وَنَقْضِ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، قَالَ: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ» وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: الْمُعْتَدِي هُوَ الْقَاتِلُ بَعْدَ الْعَفْوِ، فَهَذَا يُقْتَلُ حَتْمًا وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يُعَذَّبُ بِمَا يَمْنَعُهُ مِنْ الِاعْتِدَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أَقْوَامٍ لَمْ يُصَلُّوا وَلَمْ يَصُومُوا وَاَلَّذِي يَصُومُ لَمْ يُصَلِّ] 746 - 100 - مَسْأَلَةٌ: فِي أَقْوَامٍ لَمْ يُصَلُّوا وَلَمْ يَصُومُوا، وَاَلَّذِي يَصُومُ لَمْ يُصَلِّ، وَمَالُهُمْ

مسألة في أقوام مقيمون في الثغور يغيرون على الأرمن وغيرهم

حَرَامٌ، وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ، وَيُكْرِمُونَ الْجَارَ وَالضَّعِيفَ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مَذْهَبٌ، وَهُمْ مُسْلِمُونَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا تَحْتَ حُكْمِ وُلَاةِ الْأُمُورِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَأْمُرُوهُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَيُعَاقِبُوا عَلَى تَرْكِهَا. وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ، وَإِنْ أَقَرُّوا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ؛ وَإِلَّا فَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ أَقَرُّوا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَامْتَنَعُوا عَنْ إقَامَتِهَا عُوقِبُوا حَتَّى يُقِيمُوهَا، وَيَجِبُ قَتْلُ كُلِّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ إذَا كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. وَكَذَلِكَ تُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحُدُودُ. وَإِنْ كَانُوا طَائِفَةً مُمْتَنِعَةً ذَاتَ شَوْكَةٍ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَلْتَزِمُوا أَدَاءَ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُتَوَاتِرَةِ: كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالزَّكَاةِ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ. كَالزِّنَا، وَالرِّبَا، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَهُوَ كَافِرٌ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ [مَسْأَلَةٌ فِي أَقْوَامٍ مُقِيمُونَ فِي الثُّغُورِ يُغِيرُونَ عَلَى الْأَرْمَنِ وَغَيْرِهِمْ] 747 - 101 - مَسْأَلَةٌ: فِي أَقْوَامٍ مُقِيمُونَ فِي الثُّغُورِ، يُغِيرُوا عَلَى الْأَرْمَنِ وَغَيْرِهِمْ، وَيَكْسِبُونَ الْمَالَ يُنْفِقُونَ عَلَى الْخَمْرِ وَالزِّنَا: هَلْ يَكُونُونَ شُهَدَاءَ إذَا قُتِلُوا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إنْ كَانُوا إنَّمَا يُغِيرُونَ عَلَى الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ، فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَقَدْ «قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً؛ وَيُقَاتِلُ رِيَاءً: فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَا يَقْصِدُ إلَّا أَخْذَ الْمَالِ، وَإِنْفَاقَهُ فِي الْمَعَاصِي: فَهَؤُلَاءِ فُسَّاقٌ مُسْتَحِقُّونَ لِلْوَعِيدِ. وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُمْ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا؛ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ: فَهَؤُلَاءِ مُجَاهِدُونَ؛ لَكِنْ إذَا كَانَتْ لَهُمْ كَبَائِرُ كَانَ لَهُمْ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ. وَأَمَّا إنْ كَانُوا يُغِيرُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُنَاكَ: فَهَؤُلَاءِ مُفْسِدُونَ فِي

مسألة جندي مع أمير وطلع السلطان إلى الصيد ورسم بقتل ناس

الْأَرْضِ؛ مُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَمُسْتَحِقُّونَ لِلْعُقُوبَةِ الْبَلِيغَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ جُنْدِيّ مَعَ أَمِير وَطَلَعَ السُّلْطَان إلَى الصَّيْدِ وَرَسَمَ بِقَتْلِ نَاسٍ] 748 - 102 - مَسْأَلَةٌ: فِي جُنْدِيٍّ مَعَ أَمِيرٍ، وَطَلَعَ السُّلْطَانُ إلَى الصَّيْدِ، وَرَسَمَ السُّلْطَانُ بِنَهْبِ نَاسٍ مِنْ الْعَرَبِ وَقَتْلِهِمْ، فَطَلَعَ إلَى الْجَبَلِ فَوَجَدَ ثَلَاثِينَ نَفَرًا فَهَرَبُوا، فَقَالَ الْأَمِيرُ: سُوقُوا خَلْفَهُمْ، فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ لِيُحَارِبُوا، فَوَقَعَ مِنْ الْجُنْدِيِّ ضَرْبَةٌ فِي وَاحِدٍ فَمَاتَ: فَهَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. إذَا كَانَ هَذَا الْمَطْلُوبُ مِنْ الطَّائِفَةِ الْمُفْسِدَةِ الظَّلَمَةِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقُوا الْجَمَاعَةَ وَعَدَوْا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَدْ طُلِبُوا لِيُقَامَ فِيهِمْ أَمْرُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: فَهَذَا الَّذِي عَادَ مِنْهُمْ مُقَاتِلًا يَجُوزُ قِتَالُهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ؛ بَلْ الْمُحَارِبُونَ يَسْتَوِي فِيهِمْ الْمُعَاوِنُ وَالْمُبَاشِرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، فَمَنْ كَانَ مُعَاوِنًا كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهُمْ. [مَسْأَلَةٌ الْأُخُوَّةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ] 749 - 103 - مَسْأَلَةٌ: فِي " الْأُخُوَّةِ " الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَالْتِزَامِ كُلٍّ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: إنَّ مَالِي مَالُك، وَدَمِي دَمُك، وَوَلَدِي وَلَدُك، وَيَقُولُ الْآخَرُ كَذَلِكَ، وَيَشْرَبُ أَحَدُهُمْ دَمَ الْآخَرِ: فَهَلْ هَذَا الْفِعْلُ مَشْرُوعٌ، أَمْ لَا؟ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا مُسْتَحْسَنًا: فَهَلْ هُوَ مُبَاحٌ، أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِالْأُخُوَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ، أَمْ لَا؟ وَمَا مَعْنَى الْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. هَذَا الْفِعْلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ مَشْرُوعًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَإِنَّمَا كَانَ أَصْلُ الْأُخُوَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَحَالَفَ بَيْنَهُمْ فِي دَارِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ كَمَا آخَى بَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ وَعَبْدِ

الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، حَتَّى قَالَ سَعْدٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: خُذْ شَطْرَ مَالِي، وَاخْتَرْ إحْدَى زَوْجَتَيْ حَتَّى أُطَلِّقَهَا وَتَنْكِحَهَا فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللَّهُ لَك فِي مَالِك وَأَهْلِك، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ. وَكَمَا آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي الصَّحِيحِ. وَأَمَّا مَا يَذْكُرُ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ فِي " السِّيرَةِ " مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ آخَى بَيْنَ عَلِيٍّ وَأَبِي بَكْرٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَهَذَا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِحَدِيثِهِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤَاخِ بَيْنَ مُهَاجِرٍ وَمُهَاجِرٍ، وَأَنْصَارِيٍّ وَأَنْصَارِيٍّ، وَإِنَّمَا آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَكَانَتْ الْمُؤَاخَاةُ وَالْمُحَالَفَةُ يَتَوَارَثُونَ بِهَا دُونَ أَقَارِبِهِمْ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] فَصَارَ الْمِيرَاثُ بِالرَّحِمِ دُونَ هَذِهِ الْمُؤَاخَاةِ وَالْمُحَالَفَةِ. وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُحَالَفَةِ وَالْمُؤَاخَاةِ: هَلْ يُورَثُ بِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْوَرَثَةِ مِنْ الْأَقَارِبِ وَالْمَوَالِي؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُورَثُ بِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] () . الثَّانِي: لَا يُورَثُ بِهَا بِحَالٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ. وَكَذَلِكَ تَنَازَعَ النَّاسُ هَلْ يُشْرَعُ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَآخَى اثْنَانِ وَيَتَحَالَفَا كَمَا فَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ؟ فَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ وَمَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إلَّا شِدَّةً» وَلِأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ إخْوَةً بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمُ، لَا يُسْلِمُهُ، وَلَا يَظْلِمُهُ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ» ؛ فَمَنْ كَانَ قَائِمًا بِوَاجِبِ الْإِيمَانِ كَانَ أَحَبَّ

لِكُلِّ مُؤْمِنٍ. وَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَقُومَ بِحُقُوقِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا عَقْدٌ خَاصٌّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَدْ عَقَدَا الْأُخُوَّةَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَدِدْت أَنِّي قَدْ رَأَيْت إخْوَانِي» . وَمَنْ لَمْ يَكُنْ خَارِجًا عَنْ حُقُوقِ الْإِيمَانِ وَجَبَ أَنْ يُعَامَلَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ، فَيُحْمَدُ عَلَى حَسَنَاتِهِ؛ وَيُوَالَى عَلَيْهَا، وَيُنْهَى عَنْ سَيِّئَاتِهِ، وَيُجَانَبُ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ، فَذَلِكَ نَصْرُك إيَّاهُ» وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَكُونَ حُبُّهُ وَبُغْضُهُ، وَمُوَالَاتُهُ وَمُعَادَاتُهُ، تَابِعًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَيُحِبُّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُبْغِضُ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ كَانَ فِيهِ مَا يُوَالَى عَلَيْهِ مِنْ حَسَنَاتٍ وَمَا يُعَادَى عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتٍ عُومِلَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ، كَفُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ؛ إذْ هُمْ مُسْتَحِقُّونَ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ، وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ، بِحَسَبِ مَا فِيهِمْ مِنْ الْبِرِّ وَالْفُجُورِ، فَإِنَّ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، بِخِلَافِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَبِخِلَافِ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ يَمِيلُونَ إلَى جَانِبٍ، وَهَؤُلَاءِ إلَى جَانِبٍ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَسَطٌ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: تُشْرَعُ تِلْكَ الْمُؤَاخَاةُ وَالْمُحَالَفَةُ، وَهُوَ يُنَاسِبُ مَنْ يَقُولُ بِالتَّوَارُثِ بِالْمُحَالَفَةِ. لَكِنْ لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ وَلَدَ أَحَدِهِمَا لَا يَصِيرُ وَلَدَ الْآخَرِ بِإِرْثِهِ مَعَ أَوْلَادِهِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ نَسَخَ التَّبَنِّي الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَيْثُ كَانَ يَتَبَنَّى الرَّجُلُ وَلَدَ غَيْرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4] وَقَالَ

تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [الأحزاب: 5] . وَكَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَالًا لِلْآخَرِ يُورَثُ عَنْهُ مَالَهُ؛ فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ وَلَكِنْ إذَا طَابَتْ نَفْسُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْآخَرُ مِنْ مَالِهِ فَهَذَا جَائِزٌ، كَمَا كَانَ السَّلَفُ يَفْعَلُونَ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا يَدْخُلُ بَيْتَ الْآخَرِ وَيَأْكُلُ مِنْ طَعَامِهِ مَعَ غَيْبَتِهِ؛ لِعِلْمِهِ بِطِيبِ نَفْسِهِ بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] . وَأَمَّا شُرْبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمَ الْآخَرِ. فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، وَأَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ مَعَ النَّجَاسَةِ التَّشْبِيهُ بِاَللَّذَيْنِ يَتَآخَيَانِ مُتَعَاوِنَيْنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ: إمَّا عَلَى فَوَاحِشَ، أَوْ مَحَبَّةٍ شَيْطَانِيَّةٍ، كَمَحَبَّةِ الْمُرْدَانِ وَنَحْوِهِمْ، وَإِنْ أَظْهَرُوا خِلَافَ ذَلِكَ مِنْ اشْتِرَاكٍ فِي الصَّنَائِعِ وَنَحْوِهَا. وَإِمَّا تَعَاوُنٍ عَلَى ظُلْمِ الْغَيْرِ، وَأَكْلِ مَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ مُؤَاخَاةِ بَعْضِ مَنْ يُنْتَسَبُ إلَى الْمَشْيَخَةِ وَالسُّلُوكِ لِلنِّسَاءِ، فَيُؤَاخِي أَحَدُهُمْ الْمَرْأَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ، وَيَخْلُو بِهَا وَقَدْ أَقَرَّ طَوَائِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ مَا يَجْرِي بَيْنَهُمْ مِنْ الْفَوَاحِشِ. فَمِثْلُ هَذِهِ الْمُؤَاخَاةِ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا يَكُونُ فِيهِ تَعَاوُنٌ عَلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كَائِنًا مَا كَانَ: حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي مُؤَاخَاةٍ يَكُونُ مَقْصُودُهُمَا بِهَا التَّعَاوُنَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، بِحَيْثُ تَجْمَعُهُمَا طَاعَةُ اللَّهِ، وَتُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مَعْصِيَةُ اللَّهِ، كَمَا يَقُولُونَ: تَجْمَعُنَا السُّنَّةُ، وَتُفَرِّقُنَا الْبِدْعَةُ. فَهَذِهِ الَّتِي فِيهَا النِّزَاعُ. فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ لَا يَرَوْنَهَا، اسْتِغْنَاءً بِالْمُؤَاخَاةِ الْإِيمَانِيَّةِ الَّتِي عَقَدَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ فَإِنَّ تِلْكَ كَافِيَةٌ مُحَصِّلَةٌ لِكُلِّ خَيْرٍ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْتَهَدَ فِي تَحْقِيقِ أَدَاءِ وَاجِبَاتِهَا؛ إذْ قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ الْحُقُوقِ مَا هُوَ فَوْقَ مَطْلُوبِ النُّفُوسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّغَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ إذَا لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ. وَأَمَّا أَنْ تُقَالَ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَمَنْ دَخَلَ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ أَدْخَلَ صَاحِبَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَشْرِطُهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ: فَهَذِهِ الشُّرُوطُ وَأَمْثَالُهَا لَا تَصِحُّ، وَلَا يُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهَا؛ فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكُونُ

مسألة في قوم ذوي شوكة مقيمين بأرض

مِنْ حَالِهِمَا، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَكَيْفَ يُلْزَمُ الْمُسْلِمُ مَا لَيْسَ إلَيْهِ فِعْلُهُ، وَلَا يَعْلَمُ فِيهِ، وَلَا حَالَ الْآخَرِ؟ ؟ وَلِهَذَا نَجِدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَ هَذِهِ الشُّرُوطَ لَا يَدْرُونَ مَا يَشْرِطُونَ؛ وَلَوْ اسْتَشْعَرَ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ بَعْضُ مَالِهِ فِي الدُّنْيَا فَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَلْ كَانَ يَدْخُلُ مِنْهَا، أَمْ لَا؟ وَبِالْجُمْلَةِ فَجَمِيعُ مَا يَنْفَعُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ الشُّرُوطِ وَالْعُقُودِ وَالْمُحَالَفَاتِ فِي الْأُخُوَّةِ وَغَيْرِهَا تُرَدُّ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَكُلُّ شَرْطٍ يُوَافِقُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يُوَفَّى بِهِ، " وَمَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ وَإِنْ كَانَ مِائَةُ شَرْطٍ. كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُهُ أَوْثَقُ " فَمَتَى كَانَ الشَّرْطُ يُخَالِفُ شَرْطَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ بَاطِلًا: مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يَكُونَ وَلَدُ غَيْرِهِ ابْنَهُ، أَوْ عِتْقُ غَيْرِ مَوْلَاهُ، أَوْ أَنَّ ابْنَهُ أَوْ قَرِيبُهُ لَا يَرِثُهُ، أَوْ أَنَّهُ يُعَاوِنُهُ عَلَى كُلِّ مَا يُرِيدُ، وَيَنْصُرُهُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَادَاهُ سَوَاءٌ كَانَ بِحَقٍّ أَوْ بِبَاطِلٍ، أَوْ يُطِيعُهُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ، أَوْ أَنَّهُ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ وَيَمْنَعُهُ مِنْ النَّارِ مُطْلَقًا، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ وَإِذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ وَفَّى مِنْهَا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ: وَلَمْ يُوَفِّ مِنْهَا بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي الْمُبَاحَاتِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ. وَكَذَا فِي شُرُوطِ الْبُيُوعِ، وَالْهِبَاتِ، وَالْوُقُوفِ، وَالنُّذُورِ؛ وَعُقُودِ الْبَيْعَةِ لِلْأَئِمَّةِ؛ وَعُقُودِ الْمَشَايِخِ؛ وَعُقُودِ الْمُتَآخِيَيْنِ، وَعُقُودِ أَهْلِ الْأَنْسَابِ وَالْقَبَائِلِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ وَيَجْتَنِبَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ وَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ. وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُطِيعُ إلَّا مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي قَوْمٍ ذَوِي شَوْكَةٍ مُقِيمِينَ بِأَرْضٍ] 750 - 104 - مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْمٍ ذَوِي شَوْكَةٍ مُقِيمِينَ بِأَرْضٍ، وَهُمْ لَا يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مَسْجِدٌ وَلَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ، وَإِنْ صَلَّى أَحَدُهُمْ صَلَّى الصَّلَاةَ غَيْرَ الْمَشْرُوعَةِ، وَلَا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ مَعَ كَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ مِنْ الْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ، وَهُمْ يَقْتَتِلُونَ فَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَنْهَبُونَ مَالَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَيَقْتُلُونَ الْأَطْفَالَ، وَقَدْ لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، لَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَا

فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَلَا غَيْرِهَا، وَإِذَا أَسَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بَاعُوا أَسْرَاهُمْ لِلْإِفْرِنْجِ، وَيَبِيعُونَ رَقِيقَهُمْ مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ لِلْإِفْرِنْجِ عَلَانِيَةً، وَيَسُوقُونَهُمْ كَسَوْقِ الدَّوَابِّ وَيَتَزَوَّجُونَ الْمَرْأَةَ فِي عِدَّتِهَا، وَلَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ، وَلَا يَنْقَادُونَ لِحَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا دُعِيَ أَحَدُهُمْ إلَى الشَّرْعِ قَالَ جَاءَنَا الشَّرْعُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهَلْ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَكَيْفَ الطَّرِيقُ إلَى دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ مَعَ مَا ذُكِرَ. الْجَوَابُ: نَعَمْ يَجُوزُ بَلْ يَجِبُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ قِتَالُ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَنْ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، مِثْلُ الطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ عَنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَوْ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ إلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَعَنْ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ الَّذِينَ لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ سَفْكِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، أَوْ لَا يَتَحَاكَمُونَ بَيْنَهُمْ بِالشَّرْعِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي مَانِعِ الزَّكَاةِ، وَكَمَا قَاتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَوَارِجَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ: «يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» () وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] () . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] () . وَالرِّبَا آخِرُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ تَحْرِيمًا. وَيُدْعَوْنَ قَبْلَ الْقِتَالِ إلَى الْتِزَامِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ الْتَزَمُوهَا اسْتَوْثَقَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَكْتَفِ مِنْهُمْ بِمُجَرَّدِ الْكَلَامِ كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ بِمَنْ قَاتَلَهُمْ بَعْدَ أَنْ أَذَلَّهُمْ، وَقَالَ اخْتَارُوا إمَّا الْحَرْبَ وَإِمَّا السِّلْمَ الْمُخْزِيَةَ، وَقَالَ أَنَا خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا هَذِهِ حَرْبُ الْحِيلَةِ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا السِّلْمُ الْمُخْزِيَةُ، قَالَ تَشْهَدُونَ أَنَّ

حكم المرتد

قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتَلَاكُمْ فِي النَّارِ وَنَنْزِعُ مِنْكُمْ الْكُرَاعَ يَعْنِي الْخَيْلَ وَالسِّلَاحَ، حَتَّى يَرَى خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنُونَ أَمْرًا بَعْدُ، فَهَكَذَا الْوَاجِبُ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ، إذَا أَظْهَرُوا الطَّاعَةَ يُرْسِلُ إلَيْهِمْ مَنْ يُعَلِّمُهُمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ وَيُقِيمُ بِهِمْ الصَّلَوَاتِ، وَمَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَإِمَّا أَنْ يَسْتَخْدِمَ بَعْضَ الْمُطِيعِينَ مِنْهُمْ فِي جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجْعَلَهُمْ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَّا بِأَنْ يَنْزِعَ مِنْهُمْ السِّلَاحَ الَّذِي يُقَاتِلُونَ بِهِ وَيُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ، وَإِمَّا أَنَّهُمْ يَضَعُونَهُ حَتَّى يَسْتَقِيمُوا، وَإِمَّا أَنْ يَقْبَلَ الْمُمْتَنِعُ مِنْهُمْ الْتِزَامَ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَجَبَ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَلْتَزِمُوا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . [حُكْمُ الْمُرْتَدِّ] [مَسْأَلَة رَجُلَيْنِ تَكَلَّمَا فِي " مَسْأَلَةِ التَّأْبِيرِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا مَنْ نَقَصَ الرَّسُولَ] 751 - 105 حُكْمُ الْمُرْتَدِّ - سُئِلَ: عَنْ رَجُلَيْنِ تَكَلَّمَا فِي " مَسْأَلَةِ التَّأْبِيرِ " فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَنْ نَقَصَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ تَكَلَّمَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقْصِ الرَّسُولِ كَفَرَ؛ لَكِنْ تَكْفِيرُ الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَكْفِيرَ الْمُعَيَّنِ؛ فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَدْ يَتَكَلَّمُ فِي مَسْأَلَةٍ بِاجْتِهَادِهِ فَيُخْطِئُ فِيهَا فَلَا يَكْفُرُ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكْفُرُ مِنْ قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الْمُكَفِّرَةُ، وَلَوْ كَفَّرْنَا كُلَّ عَالِمٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ لَزِمَنَا أَنْ نُكَفِّرَ فُلَانًا - وَسَمَّى بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ التَّكْفِيرَ وَهُوَ الْغَزَالِيُّ - فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ تَخْطِئَةَ الرَّسُولِ فِي مَسْأَلَةِ تَأْبِيرِ النَّخْلِ: فَهَلْ يَكُونُ هَذَا تَنْقِيصًا بِالرَّسُولِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ؟ وَهَلْ عَلَيْهِ فِي تَنْزِيهِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْكُفْرِ إذَا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ تَعْزِيرٌ، أَمْ لَا؟ وَإِذَا نَقَلَ ذَلِكَ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ نَفْسُ الْكِتَابِ الَّذِي نَقَلَهُ مِنْهُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالصِّدْقِ: فَهَلْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ تَعْزِيرٌ أَمْ لَا؟ وَسَوَاءٌ أَصَابَ فِي النَّقْلِ عَنْ الْعَالِمِ أَمْ أَخْطَأَ؟ وَهَلْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ تَنْقِيصٌ بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ اعْتَدَى عَلَى مِثْلِ هَذَا، أَوْ نَسَبَهُ إلَى تَنْقِيصٍ بِالرَّسُولِ، أَوْ الْعُلَمَاءِ، وَطَلَبَ عُقُوبَتَهُ عَلَى ذَلِكَ: فَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَيْسَ فِي هَذَا الْكَلَامِ تَنْقِيصٌ بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا فِيهِ تَنْقِيصٌ لِعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ مَضْمُونُ هَذَا الْكَلَامِ تَعْظِيمُ الرَّسُولِ وَتَوْقِيرُهُ، وَأَنَّهُ لَا يُتَكَلَّمُ فِي حَقِّهِ بِكَلَامٍ فِيهِ نَقْصٌ؛ بَلْ قَدْ أَطْلَقَ الْقَائِلُ

تَكْفِيرَ مَنْ نَقَصَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ تَكَلَّمَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقْصِهِ، وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي تَعْظِيمِهِ؛ وَوُجُوبُ الِاحْتِرَازِ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى نَقْصِهِ. ثُمَّ هُوَ مَعَ هَذَا بَيَّنَ أَنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الدُّنْيَا بِاجْتِهَادِهِمْ لَا يَجُوزُ تَكْفِيرُ أَحَدِهِمْ بِمُجَرَّدِ خَطَأٍ أَخْطَأَهُ فِي كَلَامِهِ، وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ تَجِبُ مُوَافَقَتُهُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ تَسْلِيطَ الْجُهَّالِ عَلَى تَكْفِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ؛ وَإِنَّمَا أَصْلُ هَذَا مِنْ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِمَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا فِيهِ مِنْ الدِّينِ. وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ؛ لَا يَجُوزُ تَكْفِيرُهُمْ بِمُجَرَّدِ الْخَطَأِ الْمَحْضِ؛ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يُتْرَكُ بَعْضُ كَلَامِهِ لِخَطَأٍ أَخْطَأَهُ يَكْفُرُ وَلَا يَفْسُقُ؛ بَلْ وَلَا يَأْثَمُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ: «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ قَدْ فَعَلْت» . وَاتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمُنَازِعِينَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَاَلَّذِينَ قَالُوا: إنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الصَّغَائِرُ وَالْخَطَأُ وَلَا يُقِرُّونَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكْفُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ كَفَرَ هَؤُلَاءِ لَزِمَ تَكْفِيرُ كَثِيرٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنْبَلِيَّةِ، وَالْأَشْعَرِيَّةِ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَالتَّفْسِيرِ، وَالصُّوفِيَّةِ: الَّذِينَ لَيْسُوا كُفَّارًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ أَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ بِذَلِكَ. فَاَلَّذِي حَكَاهُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ قَدْ قَالَ مِثْلَهُ أَئِمَّةُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَصْحَابُ الْوُجُوهِ الَّذِينَ هُمْ أَعْظَمُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَبِي حَامِدٍ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ الَّذِي هُوَ إمَامُ الْمَذْهَبِ بَعْدَ الشَّافِعِيِّ، وَابْنِ سُرَيْجٍ فِي تَعْلِيقِهِ وَذَلِكَ أَنَّ عِنْدَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ كَمَا يَجُوزُ عَلَيْنَا وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَنَا أَنَّا نُقَرُّ عَلَى الْخَطَإِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُقَرَّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَسْهُو لَيَسُنَّ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا أَسْهُو لِأَسُنَّ لَكُمْ» وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ ذَكَرَهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ هَذَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَأَبُو الطَّيِّبِ

الطَّبَرِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَهَا بَقِيَّةُ طَوَائِفِ أَهْلِ الْعِلْمِ: مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى إجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيِّ وَنَحْوِهِ؛ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ؛ وَمَنْ كَفَّرَهُمْ بِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ الْغَلِيظَةَ الَّتِي تَزْجُرُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي مِثَالِ ذَلِكَ: قَوْلُهُمْ صَوَابٌ أَوْ خَطَأٌ. فَمَنْ وَافَقَهُمْ قَالَ: إنَّ قَوْلَهُمْ الصَّوَابُ. وَمَنْ نَازَعَهُمْ قَالَ: إنَّ قَوْلَهُمْ خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ قَوْلُ مُخَالِفِهِمْ. وَهَذَا الْمَسْئُولُ عَنْهُ كَلَامُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُوَافِقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ لَكِنَّهُ يَنْفِي التَّكْفِيرَ عَنْهُمْ. وَمِثْلُ هَذَا تَجِبُ عُقُوبَةُ مَنْ اعْتَدَى عَلَيْهِ، وَنَسَبَهُ إلَى تَنْقِيصِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّهُ مُصَرِّحٌ بِنَقِيضِ هَذَا، وَهَذَا. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ الْقَائِلِينَ بِالْعِصْمَةِ، قَسَّمَ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ، إلَى أَنْ قَالَ: الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنْ يَذْكُرَ مَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَخْتَلِفُ فِي إقْرَارِهِ عَلَيْهِ، وَمَا يَطْرَأُ مِنْ الْأُمُورِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْهُ وَيُمْكِنُ إضَافَتُهَا إلَيْهِ. أَوْ يَذْكُرُ مَا اُمْتُحِنَ بِهِ وَصَبَرَ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَلَى شِدَّتِهِ مِنْ مَقَاسَاتِ أَعْدَائِهِ وَأَذَاهُمْ لَهُ، وَمَعْرِفَةِ ابْتِدَاءِ حَالِهِ، وَسِيرَتِهِ، وَمَا لَقِيَهُ مِنْ بُؤْسِ زَمَنِهِ، وَمَرَّ عَلَيْهِ مِنْ مُعَانَاتِ عَيْشِهِ، كُلُّ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الرِّوَايَةِ، وَمُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ وَمَعْرِفَةِ مَا صَحَّتْ بِهِ الْعِصْمَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ: هَذَا فَنٌّ خَارِجٌ مِنْ هَذِهِ الْفُنُونِ السِّتَّةِ؛ لَيْسَ فِيهِ غَمْضٌ وَلَا نَقْصٌ وَلَا إزْرَاءٌ وَلَا اسْتِخْفَافٌ، وَلَا فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَلَا فِي مَقْصِدِ اللَّفْظِ؛ لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَعَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَطَلَبَةِ الدِّينِ مِمَّنْ يَفْهَمُ مَقَاصِدَهُ، وَيُحَقِّقُونَ فَوَائِدَهُ؛ وَيُجَنِّبُ ذَلِكَ مِمَّنْ عَسَاهُ لَا يَفْقَهُ، أَوْ يَخْشَى بِهِ فِتْنَةً. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَبْلَ هَذَا؛ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ السَّبِّ حَاكِيًا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَآثِرًا لَهُ عَنْ سِوَاهُ. قَالَ: فَهَذَا يُنْظَرُ فِي صُورَةِ حِكَايَتِهِ، وَقَرِينَةِ مَقَالَتِهِ؛ وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ ذَلِكَ عَلَى " أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ " الْوُجُوبِ، وَالنَّدْبِ، وَالْكَرَاهَةِ، وَالتَّحْرِيمِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ يُحْمَلُ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ عَلَى وَجْهِ الشَّهَادَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا فِيهِ إقَامَةُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَى الْقَائِلِ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الرَّذَالَةِ وَالنَّقْصِ عَلَى قَائِلِهِ؛ بِخِلَافِ مَنْ

ذَكَرَهُ لِغَيْرِ هَذَيْنِ. قَالَ: وَلَيْسَ التَّفَكُّهُ بِعِرْضِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّمَضْمُضُ بِسُوءِ ذِكْرِهِ لِأَحَدٍ لَا ذَاكِرًا، وَلَا آثِرًا لِغَيْرِ غَرَضٍ شَرْعِيٍّ مُبَاحٍ. فَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَأَنَّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَذْكُرَهُ لِغَيْرِ غَرَضٍ شَرْعِيٍّ مُبَاحٍ. وَهَذَا الْقَائِلُ إنَّمَا ذَكَرَ لِدَفْعِ التَّكْفِيرِ عَنْ مِثْلِ الْغَزَالِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ تَكْفِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي هَذَا الْبَابِ؛ بَلْ دَفْعَ التَّكْفِيرِ عَنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَخْطَئُوا: هُوَ مِنْ أَحَقِّ الْأَغْرَاضِ الشَّرْعِيَّةِ؛ حَتَّى لَوْ فُرِضَ أَنَّ دَفْعَ التَّكْفِيرِ عَنْ الْقَائِلِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرٍ حِمَايَةً لَهُ، وَنَصْرًا لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ، لَكَانَ هَذَا غَرَضًا شَرْعِيًّا حَسَنًا، وَهُوَ إذَا اجْتَهَدَ فِي ذَلِكَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنْ اجْتَهَدَ فِيهِ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ. فَبِكُلِّ حَالٍ هَذَا الْقَائِلُ مَحْمُودٌ عَلَى مَا فَعَلَ، مَأْجُورٌ عَلَى ذَلِكَ، مُثَابٌ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ لَهُ فِيهِ نِيَّةٌ حَسَنَةٌ؛ وَالْمُنْكِرُ لِمَا فَعَلَهُ أَحَقُّ بِالتَّعْزِيرِ مِنْهُ؛ فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي قَوْلَهُ الْقَدَحُ فِي عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكُفْرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَوَّلَ أَحَقُّ بِالتَّعْزِيرِ مِنْ الثَّانِي إنْ وَجَبَ التَّعْزِيرُ لِأَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُجْتَهِدًا اجْتِهَادًا سَائِغًا بِحَيْثُ يَقْصِدُ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ فَلَا إثْمَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَسَوَاءٌ أَصَابَ فِي هَذَا النَّقْلِ أَوْ أَخْطَأَ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَنْقِيصٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَذَلِكَ أَحْضَرَ النَّقْلَ أَوْ لَمْ يُحْضِرْهُ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي حُضُورِهِ فَائِدَةٌ؛ إذْ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْغَزَالِيِّ قَدْ قَالَ مِثْلَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى؛ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَجَلُّ مِنْ الْغَزَالِيِّ؛ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ دُونَهُ. وَمَنْ كَفَّرَ هَؤُلَاءِ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى الْمُتَكَلِّمُونَ، فَإِنَّ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ قَالَ: أَكْثَرُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ بِذَلِكَ؛ ذَكَرَهُ فِي " أُصُولِ الْفِقْهِ " وَذَكَرَهُ صَاحِبُهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْحَاجِبِ. وَالْمَسْأَلَةُ عِنْدَهُمْ مِنْ الظَّنِّيَّاتِ؛ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْمَعَالِي، وَأَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ، وَغَيْرُهُمَا؛ فَكَيْفَ يُكَفَّرُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَسَائِلِ الظُّنُونِ؟ ،،، أَمْ كَيْفَ يُكَفَّرُ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ

مسألة نطق بالشهادتين ولم يصل

الْمُسْلِمِينَ؛ أَوْ جُمْهُورُ سَلَفِ الْأَئِمَّةِ وَأَعْيَانُ الْعُلَمَاءِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ أَصْلًا؟ ،، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة نطق بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَمْ يُصَلِّ] 752 - 106 سُئِلَ: مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - فِي رَجُلٍ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَلَمْ يُصَلِّ، وَلَمْ يَقُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْفَرَائِضِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَضُرَّهُ، وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَأَنَّهُ قَدْ حَرُمَ جِسْمُهُ عَلَى النَّارِ؟ وَفِي رَجُلٍ يَقُولُ: أَطْلُبُ حَاجَتِي مِنْ اللَّهِ وَمِنْك: فَهَلْ هَذَا بَاطِلٌ، أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ هَذَا الْقَوْلُ، أَمْ لَا؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إنَّ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَلَا يُحَرِّمُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْفَوَاحِشِ، وَالظُّلْمِ، وَالشِّرْكِ، وَالْإِفْكِ: فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ، يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُغْنِي عَنْهُ التَّكَلُّمُ بِالشَّهَادَتَيْنِ. وَإِنْ قَالَ: أَنَا أُقِرُّ بِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيَّ، وَأَعْلَمُ أَنَّهُ فَرْضٌ، وَأَنَّ مَنْ تَرَكَهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِذَمِّ اللَّهِ وَعِقَابِهِ؛ لَكِنِّي لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ: فَهَذَا أَيْضًا مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجِبُ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ؛ فَإِنْ لَمْ يُصَلِّ وَإِلَّا قُتِلَ. فَإِذَا أَصَرَّ عَلَى الْجُحُودِ حَتَّى قُتِلَ كَانَ كَافِرًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ لَا يُغَسَّلُ؛ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ كُلَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ؛ وَلَمْ يُؤَدِّ الْفَرَائِضَ، وَلَمْ يَجْتَنِبْ الْمَحَارِمَ: يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَلَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالنَّارِ: فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ. يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ. فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، بَلْ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَصْنَافٌ مِنْهُمْ مُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 146] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142] الْآيَةَ.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا» فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الَّذِي يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ وَيَنْقُرُهَا مُنَافِقٌ. فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يُصَلِّي؟ ،، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 6] قَالَ الْعُلَمَاءُ: السَّاهُونَ عَنْهَا: الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَاَلَّذِينَ يُفَرِّطُونَ فِي وَاجِبَاتِهَا. فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُصَلُّونَ الْوَيْلُ لَهُمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يُصَلِّي؟ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ: «أَنَّهُ يَعْرِفُ أُمَّتَهُ بِأَنَّهُمْ غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ» وَإِنَّمَا تَكُونُ الْغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ لِمَنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى، فَابْيَضَّ وَجْهُهُ بِالْوُضُوءِ، وَابْيَضَّتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ بِالْوُضُوءِ، فَصَلَّى أَغَرَّ مُحَجَّلًا. فَمَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ وَلَمْ يُصَلِّ لَمْ يَكُنْ أَغَرَّ وَلَا مُحَجَّلًا، فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ الَّتِي هِيَ الرَّنْكُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُ الرَّنْكِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الْمُقَدِّمُ أَصْحَابَهُ، وَلَا يَكُنْ هَذَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّارَ تَأْكُلُ مِنْ ابْنِ آدَمَ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا آثَارَ السُّجُودِ» فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ السُّجُودِ لِلْوَاحِدِ الْمَعْبُودِ، الْغَفُورُ الْوَدُودُ، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ: أَكَلَتْهُ النَّارُ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ إلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ» وَقَالَ: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» وَقَالَ: «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ الصَّلَاةُ» .

مسألة في الحلاج الحسين بن منصور هل كان صديقا أو زنديقا

وَلَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ: مَا شَاءَ اللَّهُ، وَشَاءَ فُلَانٌ، وَمَالِي إلَّا اللَّهُ وَفُلَانٌ، وَأَطْلُبُ حَاجَتِي مِنْ اللَّهِ؛ ثُمَّ مِنْ فُلَانٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ: وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ» - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا شَاءَ اللَّهُ، وَشِئْت، فَقَالَ: أَجَعَلْتنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ ، بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. [مَسْأَلَةٌ فِي الْحَلَّاجِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ هَلْ كَانَ صِدِّيقًا أَوْ زِنْدِيقًا] 753 - 107 - مَسْأَلَةٌ: مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي " الْحَلَّاجِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ " هَلْ كَانَ صِدِّيقًا؟ أَوْ زِنْدِيقًا؟ وَهَلْ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ مُتَّقِيًا لَهُ؟ أَمْ كَانَ لَهُ حَالٌ رَحْمَانِيٌّ؟ أَوْ مِنْ أَهْلِ السِّحْرِ وَالْخُزَعْبَلَاتِ؟ وَهَلْ قُتِلَ عَلَى الزَّنْدَقَةِ بِمَحْضَرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ؟ أَوْ قُتِلَ مَظْلُومًا؟ أَفْتَوْنَا مَأْجُورِينَ؟ أَجَابَ: شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الْحَلَّاجُ قُتِلَ عَلَى الزَّنْدَقَةِ، الَّتِي ثَبَتَتْ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ، وَبِغَيْرِ إقْرَارِهِ؛ وَالْأَمْرُ الَّذِي ثَبَتَ عَلَيْهِ لِمَا يُوجِبُ الْقَتْلَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ قُتِلَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ إمَّا مُنَافِقٌ مُلْحِدٌ، وَإِمَّا جَاهِلٌ ضَالٌّ. وَاَلَّذِي قُتِلَ بِهِ مَا اسْتَفَاضَ عَنْهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ، وَبَعْضُهُ يُوجِبُ قَتْلَهُ؛ فَضْلًا عَنْ جَمِيعِهِ. وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ؛ بَلْ كَانَ لَهُ عِبَادَاتٌ وَرِيَاضَاتٌ وَمُجَاهَدَاتٌ: بَعْضُهَا شَيْطَانِيٌّ، وَبَعْضُهَا نَفْسَانِيٌّ، وَبَعْضُهَا مُوَافِقٌ لِلشَّرِيعَةِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ. فَلَبَّسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ. وَكَانَ قَدْ ذَهَبَ إلَى بِلَادِ الْهِنْدِ، وَتَعَلَّمَ أَنْوَاعًا مِنْ السِّحْرِ، وَصَنَّفَ كِتَابًا فِي السِّحْرِ مَعْرُوفًا، وَهُوَ مَوْجُودٌ إلَى الْيَوْمِ، وَكَانَ لَهُ أَقْوَالٌ شَيْطَانِيَّةٌ، وَمَخَارِيقُ بُهْتَانِيَّةٌ. وَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ أَخْبَارَهُ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ أَرَّخُوهَا الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِهِ، وَاَلَّذِينَ نَقَلُوا عَنْهُمْ مِثْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْحُطِّيِّ ذَكَرَهُ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ " وَالْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ

ذَكَرَ لَهُ تَرْجَمَةً كَبِيرَةً فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ " وَأَبُو يُوسُفَ الْقَزْوِينِيُّ صَنَّفَ مُجَلَّدًا فِي أَخْبَارِهِ، وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ لَهُ فِيهِ مُصَنَّفٌ سَمَّاهُ " رَفْعُ اللَّجَاجِ فِي أَخْبَارِ الْحَلَّاجِ ". وَبَسَطَ ذِكْرَهُ فِي تَارِيخِهِ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فِي " طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ " أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَشَايِخِ ذَمُّوهُ وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعُدُّوهُ مِنْ مَشَايِخِ الطَّرِيقِ؛ وَأَكْثَرُهُمْ حَطَّ عَلَيْهِ. وَمِمَّنْ ذَمَّهُ وَحَطَّ عَلَيْهِ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ؛ وَلَمْ يُقْتَلْ فِي حَيَاةِ الْجُنَيْدِ؛ بَلْ قُتِلَ بَعْدَ مَوْتِ الْجُنَيْدِ؛ فَإِنَّ الْجُنَيْدَ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِئَتَيْنِ. وَالْحَلَّاجُ قُتِلَ سَنَةَ بِضْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقَدِمُوا بِهِ إلَى بَغْدَادَ رَاكِبًا عَلَى جَمَلٍ يُنَادَى عَلَيْهِ: هَذَا دَاعِي الْقَرَامِطَةِ، وَأَقَامَ فِي الْحَبْسِ مُدَّةً حَتَّى وُجِدَ مِنْ كَلَامِهِ الْكُفْرُ وَالزَّنْدَقَةُ، وَاعْتَرَفَ بِهِ: مِثْلُ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابٍ لَهُ: مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَإِنَّهُ يَبْنِي فِي دَارِهِ بَيْتًا وَيَطُوفُ بِهِ، كَمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَيَتَصَدَّقُ عَلَى ثَلَاثِينَ يَتِيمًا بِصَدَقَةٍ ذَكَرَهَا، وَقَدْ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ الْحَجِّ. فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ قُلْت هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالُوا لَهُ: مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا؟ قَالَ ذَكَرَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي " كِتَابِ الصَّلَاةِ " فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ: تَكْذِبُ يَا زِنْدِيقُ، أَنَا قَرَأْت هَذَا الْكِتَابَ وَلَيْسَ هَذَا فِيهِ، فَطَلَبَ مِنْهُمْ الْوَزِيرُ أَنْ يَشْهَدُوا بِمَا سَمِعُوهُ، وَيُفْتُوا بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ قَتْلِهِ. لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ لَهُمْ قَوْلَانِ فِي الزِّنْدِيقِ إذَا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ، هَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ فَلَا يُقْتَلُ؟ أَمْ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ؛ فَإِنَّهُ مَا زَالَ يُظْهِرُ ذَلِكَ؟ فَأَفْتَى طَائِفَةٌ بِأَنَّهُ يُسْتَتَابُ فَلَا يُقْتَلُ، وَأَفْتَى الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي تَوْبَتِهِ نَفَعَهُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ وَقُتِلَ فِي الدُّنْيَا؛ وَكَانَ الْحَدُّ تَطْهِيرًا لَهُ، كَمَا لَوْ تَابَ الزَّانِي وَالسَّارِقُ وَنَحْوُهُمَا بَعْدَ أَنْ يُرْفَعُوا إلَى الْإِمَامِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ: فَإِنَّهُمْ إنْ كَانُوا صَادِقِينَ كَانَ قَتْلُهُمْ كَفَّارَةً لَهُمْ، وَمَنْ كَانَ كَاذِبًا فِي التَّوْبَةِ كَانَ قَتْلُهُ عُقُوبَةً لَهُ. فَإِنْ كَانَ الْحَلَّاجُ وَقْتَ قَتْلِهِ تَابَ فِي الْبَاطِنِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْفَعُهُ بِتِلْكَ التَّوْبَةِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَإِنَّهُ قُتِلَ كَافِرًا. وَلَمَّا قُتِلَ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ وَقْتَ الْقَتْلِ شَيْءٌ مِنْ الْكَرَامَاتِ؛ وَكُلُّ مَنْ ذَكَرَ أَنَّ دَمَهُ كَتَبَ عَلَى الْأَرْضِ، اسْمَ اللَّهِ، وَأَنَّ رِجْلَهُ انْقَطَعَ مَاؤُهَا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ كَاذِبٌ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يَحْكِيهَا إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُنَافِقٌ، وَإِنَّمَا وَضَعَهَا الزَّنَادِقَةُ وَأَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ، حَتَّى يَقُولَ قَائِلُهُمْ: إنَّ شَرْعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَقْتُلُ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، حَتَّى يَسْمَعُوا أَمْثَالَ هَذِهِ

الْهَذَيَانَاتِ؛ وَإِلَّا فَقَدْ قُتِلَ أَنْبِيَاءٌ كَثِيرُونَ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ وَأَصْحَابِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّالِحِينَ مَنْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ، قُتِلُوا بِسُيُوفِ الْفُجَّارِ وَالْكُفَّارِ وَالظَّلَمَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يَكْتُبْ دَمُ أَحَدِهِمْ اسْمَ اللَّهِ. وَالدَّمُ أَيْضًا نَجِسٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكْتَبَ بِهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى. فَهَلْ الْحَلَّاجُ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَدَمُهُ أَطْهَرُ مِنْ دِمَائِهِمْ؟ ،، وَقَدْ جَزِعَ وَقْتَ الْقَتْلِ؛ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ وَالسُّنَّةَ فَلَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ. وَلَوْ عَاشَ اُفْتُتِنَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ، لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبُ خُزَعْبَلَاتِ بُهْتَانِيَّةٍ، وَأَحْوَالٍ شَيْطَانِيَّةٍ. وَلِهَذَا إنَّمَا يُعَظِّمُهُ مَنْ يُعَظِّمُ الْأَحْوَالَ الشَّيْطَانِيَّةَ، وَالنَّفْسَانِيَّةَ، والبهتانية. وَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْعَالِمُونَ بِحَالِ الْحَلَّاجِ فَلَيْسَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ يُعَظِّمُهُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْقُشَيْرِيُّ فِي مَشَايِخِ رِسَالَتِهِ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَ مِنْ كَلَامِهِ كَلِمَاتٍ اسْتَحْسَنَهَا. وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيُّ قَدْ زَوَّجَهُ بِابْنَتِهِ، فَلَمَّا اطَّلَعَ عَلَى زَنْدَقَتِهِ نَزَعَهَا مِنْهُ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَيَقُولُ: كُنْت مَعَهُ فَسَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ: أَقْدِرُ أَنْ أُصَنِّفَ مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ. أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ. كَانَ يُظْهِرُ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ مَا يَسْتَجْلِبُهُمْ بِهِ إلَى تَعْظِيمِهِ؛ فَيُظْهِرُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ سُنِّيٌّ، وَعِنْدَ أَهْلِ الشِّيعَةِ أَنَّهُ شِيعِيٌّ، وَيَلْبَسُ لِبَاسَ الزُّهَّادِ تَارَةً، وَلِبَاسَ الْأَجْنَادِ تَارَةً. وَكَانَ مِنْ مَخَارِيقِهِ أَنَّهُ بَعَثَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ إلَى مَكَان فِي الْبَرِّيَّةِ يُخَبِّئُ فِيهِ شَيْئًا مِنْ الْفَاكِهَةِ وَالْحَلْوَى، ثُمَّ يَجِيءُ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا إلَى قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: مَا تَشْتَهُونَ أَنْ آتِيَكُمْ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْبَرِّيَّةِ فَيَشْتَهِي أَحَدُهُمْ فَاكِهَةً، أَوْ حَلَاوَةً، فَيَقُولُ: اُمْكُثُوا؛ ثُمَّ يَذْهَبُ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَيَأْتِي بِمَا خَبَّأَ أَوْ بِبَعْضِهِ، فَيَظُنُّ الْحَاضِرُونَ أَنَّ هَذِهِ كَرَامَةٌ لَهُ،، وَكَانَ صَاحِبُ سِيمَا وَشَيَاطِينَ تَخْدُمُهُ أَحْيَانَا، كَانُوا مَعَهُ عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ، فَطَلَبُوا مِنْهُ حَلَاوَةً، فَذَهَبَ إلَى مَكَان قَرِيبٍ مِنْهُمْ وَجَاءَ بِصَحْنِ حَلْوَى، فَكَشَفُوا الْأَمْرَ فَوَجَدُوا ذَلِكَ قَدْ سُرِقَ مِنْ دُكَّانِ حَلَاوِيٍّ بِالْيَمَنِ، حَمَلَهُ شَيْطَانٌ مِنْ تِلْكَ الْبُقْعَةِ. وَمِثْلُ هَذَا يَحْصُلُ كَثِيرًا لِغَيْرِ الْحَلَّاجِ مِمَّنْ لَهُ حَالٌ شَيْطَانِيٌّ، وَنَحْنُ نَعْرِفُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ فِي زَمَانِنَا وَغَيْرِ زَمَانِنَا: مِثْلُ شَخْصٍ هُوَ الْآنَ بِدِمَشْقَ كَانَ الشَّيْطَانُ يَحْمِلُهُ مِنْ جَبَلِ الصَّالِحِيَّةِ إلَى قَرْيَةٍ حَوْلَ دِمَشْقَ، فَيَجِيءُ مِنْ الْهَوَى إلَى طَاعَةِ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ

النَّاسُ، فَيَدْخُلُ وَهُمْ يَرَوْنَهُ. وَيَجِيءُ بِاللَّيْلِ إلَى بَابِ الصَّغِيرِ فَيَعْبُرُ مِنْهُ هُوَ وَرُفْقَتُهُ، وَهُوَ مِنْ أَفْجَرِ النَّاسِ. وَآخَرُ كَانَ بِالشُّوَيْكِ، فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: " الشَّاهِدَةُ " يَطِيرُ فِي الْهَوَى إلَى رَأْسِ الْجَبَلِ وَالنَّاسُ يَرَوْنَهُ، وَكَانَ شَيْطَانٌ يَحْمِلُهُ، كَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ. وَأَكْثَرُهُمْ شُيُوخُ الشَّرِّ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمْ " البوي " أَيْ الْمُخْبَثُ، يَنْصِبُونَ لَهُ حَرَكَاتٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَيَصْنَعُونَ خُبْزًا عَلَى سَبِيلِ الْقُرُبَاتِ، فَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ مَنْ يَذْكُرُ اللَّهَ، وَلَا كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ؛ ثُمَّ يَصْعَدُ ذَلِكَ البوي فِي الْهَوَى، وَهُمْ يَرَوْنَهُ، وَيَسْمَعُونَ خِطَابَهُ لِلشَّيْطَانِ، وَخِطَابَ الشَّيْطَانِ لَهُ، وَمَنْ ضَحِكَ أَوْ شَرِقَ بِالْخُبْزِ ضَرَبَهُ بِالدُّفِّ. وَلَا يَرَوْنَ مَنْ يَضْرِبُ بِهِ. ثُمَّ إنَّ الشَّيْطَانَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ مَا يَسْأَلُونَهُ عَنْهُ، وَيَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يُقَرِّبُوا لَهُ بَقَرًا وَخَيْلًا وَغَيْرَ ذَلِكَ وَأَنْ يَخْنُقُوهَا خَنْقًا وَلَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا، فَإِذَا فَعَلُوا قَضَى حَاجَتَهُمْ. وَشَيْخٌ آخَرُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ كَانَ يَزْنِي بِالنِّسَاءِ، وَيَلُوطُ بِالصِّبْيَانِ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ " الْحِوَارَاتُ " وَكَانَ يَقُولُ: يَأْتِينِي كَلْبٌ أَسْوَدُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ نُكْتَتَانِ بَيْضَاوَانِ، فَيَقُولُ لِي: فُلَانٌ، إنَّ فُلَانًا نَذَرَ لَك نَذْرًا، وَغَدًا يَأْتِيك بِهِ، وَأَنَا قَضَيْت حَاجَتَهُ لِأَجْلِك، فَيُصْبِحُ ذَلِكَ الشَّخْصُ يَأْتِيهِ بِذَلِكَ النَّذْرِ؛ وَيُكَاشِفُهُ هَذَا الشَّيْخُ الْكَافِرُ. قَالَ: وَكُنْت إذَا طَلَبَ مِنِّي تَغْيِيرَ مِثْلِ اللَّاذَنِ أَقُولُ حَتَّى أَغِيبَ عَنْ عَقْلِي؛ وَإِذْ بِاللَّاذَنِ فِي يَدَيَّ، أَوْ فِي فَمِي وَأَنَا لَا أَدْرِي مَنْ وَضَعَهُ،، قَالَ: وَكُنْت أَمْشِي وَبَيْنَ يَدَيَّ عَمُودٌ أَسْوَدُ عَلَيْهِ نُورٌ. فَلَمَّا تَابَ هَذَا الشَّيْخُ، وَصَارَ يُصَلِّي، وَيَصُومُ وَيَجْتَنِبُ الْمَحَارِمَ، ذَهَبَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ وَذَهَبَ التَّغْيِيرُ؛ فَلَا يُؤْتَى بِلَاذَنٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَشَيْخٌ آخَرُ كَانَ لَهُ شَيَاطِينُ يُرْسِلُهُمْ يَصْرَعُونَ بَعْضَ النَّاسِ، فَيَأْتِي أَهْلُ ذَلِكَ الْمَصْرُوعِ إلَى الشَّيْخِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ إبْرَاءَهُ، فَيُرْسِلُ إلَى أَتْبَاعِهِ فَيُفَارِقُونَ ذَلِكَ الْمَصْرُوعَ، وَيُعْطُونَ ذَلِكَ الشَّيْخَ دَرَاهِمَ كَثِيرَةً. وَكَانَ أَحْيَانًا تَأْتِيهِ الْجِنُّ بِدَرَاهِمَ وَطَعَامٍ تَسْرِقُهُ مِنْ النَّاسِ، حَتَّى إنَّ بَعْضَ النَّاسِ كَانَ لَهُ تِينٌ فِي كِوَارَةٍ، فَيَطْلُبُ الشَّيْخُ مِنْ شَيَاطِينِهِ تِينًا، فَيُحْضِرُونَهُ لَهُ، فَطَلَبَ أَصْحَابُ الْكِوَارَةِ التِّينَ فَوَجَدُوهُ قَدْ ذَهَبَ. وَآخَرُ كَانَ مُشْتَغِلًا بِالْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ، فَجَاءَتْهُ الشَّيَاطِينُ أَغْرَتْهُ، وَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ

نُسْقِطُ عَنْك الصَّلَاةَ، وَنُحْضِرُ لَك مَا تُرِيدُ. فَكَانُوا يَأْتُونَهُ بِالْحَلْوَى وَالْفَاكِهَةِ، حَتَّى حَضَرَ عِنْدَ بَعْضِ الشُّيُوخِ الْعَارِفِينَ بِالسُّنَّةِ فَاسْتَتَابَهُ وَأَعْطَى أَهْلَ الْحَلَاوَةِ ثَمَنَ حَلَاوَتِهِمْ الَّتِي أَكَلَهَا ذَلِكَ الْمَفْتُونُ بِالشَّيْطَانِ. فَكُلُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَانَ لَهُ حَالٌ مِنْ مُكَاشَفَةٍ أَوْ تَأْثِيرٍ، فَإِنَّهُ صَاحِبُ حَالٍ نَفْسَانِيٍّ؛ أَوْ شَيْطَانِيٍّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَالٌ بَلْ هُوَ يَتَشَبَّهُ بِأَصْحَابِ الْأَحْوَالِ فَهُوَ صَاحِبُ حَالٍ بُهْتَانِيٍّ. وَعَامَّةُ أَصْحَابِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْحَالِ الشَّيْطَانِيِّ، وَالْحَالِ الْبُهْتَانِيِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ - تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221 - 222] وَالْحَلَّاجُ " كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ هَؤُلَاءِ أَهْلِ الْحَالِ الشَّيْطَانِيِّ، وَالْحَالِ الْبُهْتَانِيِّ وَهَؤُلَاءِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ. فَأَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ هُمْ شُيُوخُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ مِثْلُ الْكُهَّانِ، وَالسَّحَرَةِ الَّذِينَ كَانُوا لِلْعَرَبِ الْمُشْرِكِينَ، وَمِثْلُ الْكُهَّانِ الَّذِينَ هُمْ بِأَرْضِ الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ إذَا مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَجِيءُ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ فَيُكَلِّمُهُمْ وَيَقْضِي دُيُونَهُ، وَيَرُدُّ وَدَائِعَهُ وَيُوصِيهِمْ بِوَصَايَا. فَإِنَّهُمْ تَأْتِيهِمْ تِلْكَ الصُّورَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ، وَهُوَ شَيْطَانٌ يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِهِ؛ فَيَظُنُّونَهُ إيَّاهُ. وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَسْتَغِيثُ بِالْمَشَايِخِ فَيَقُولُ: يَا سَيِّدِي فُلَانٌ، أَوْ يَا شَيْخُ فُلَانٌ، اقْضِ حَاجَتِي. فَيَرَى صُورَةَ ذَلِكَ الشَّيْخِ تُخَاطِبُهُ، وَيَقُولُ: أَنَا أَقْضِي حَاجَتَك وَأُطَيِّبُ قَلْبَك فَيَقْضِي حَاجَتَهُ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ عَدُوَّهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ شَيْطَانًا تَمَثَّلَ فِي صُورَتِهِ لَمَّا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَدَعَا غَيْرَهُ. وَأَنَا أَعْرِفُ مِنْ هَذَا وَقَائِعَ مُتَعَدِّدَةً؛ حَتَّى إنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِي ذَكَرُوا أَنَّهُمْ اسْتَغَاثُوا بِي فِي شَدَائِدَ أَصَابَتْهُمْ. أَحَدُهُمْ كَانَ خَائِفًا مِنْ الْأَرْمَنِ، وَالْآخَرُ كَانَ خَائِفًا مِنْ التَّتَرِ، فَذَكَرَ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَغَاثَ بِي رَآنِي فِي الْهَوَى وَقَدْ رَفَعْت عَنْهُ عَدُوَّهُ. فَأَخْبَرْتهمْ أَنِّي لَمْ أَشْعُرْ بِهَذَا، وَلَا دَفَعْت عَنْكُمْ شَيْئًا؛ وَإِنَّمَا هَذَا الشَّيْطَانُ تَمَثَّلَ لِأَحَدِهِمْ

فَأَغْوَاهُ لَمَّا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ تَعَالَى. وَهَكَذَا جَرَى لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمَشَايِخِ مَعَ أَصْحَابِهِمْ؛ يَسْتَغِيثُ أَحَدُهُمْ بِالشَّيْخِ، فَيَرَى الشَّيْخَ قَدْ جَاءَ وَقَضَى حَاجَتَهُ، وَيَقُولُ ذَلِكَ الشَّيْخُ: إنِّي لَمْ أَعْلَمْ بِهَذَا، فَيَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ شَيْطَانًا. وَقَدْ قُلْت لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا لَمَّا ذَكَرَ لِي أَنَّهُ اسْتَغَاثَ بِهِمَا كَانَ يَعْتَقِدُهُمَا، وَأَنَّهُمَا أَتَيَاهُ فِي الْهَوَى؛ وَقَالَا لَهُ طَيِّبْ قَلْبَك، نَحْنُ نَدْفَعُ عَنْك هَؤُلَاءِ، وَنَفْعَلُ، وَنَصْنَعُ. قُلْت لَهُ: فَهَلْ كَانَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؟ فَقَالَ: لَا فَكَانَ هَذَا مِمَّا دَلَّهُ عَلَى أَنَّهُمَا شَيْطَانَانِ؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ وَإِنْ كَانُوا يُخْبِرُونَ الْإِنْسَانَ بِقَضِيَّةٍ أَوْ قِصَّةٍ فِيهَا صِدْقٌ، فَإِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ أَضْعَافَ ذَلِكَ، كَمَا كَانَتْ الْجِنُّ يُخْبِرُونَ الْكُهَّانَ. وَلِهَذَا مَنْ اعْتَمَدَ عَلَى مُكَاشَفَتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَخْبَارِ الْجِنِّ كَانَ كَذِبُهُ أَكْبَرَ مِنْ صِدْقِهِ، كَشَيْخٍ كَانَ يُقَالُ لَهُ: " الشَّيَّاحُ " تَوَّبْنَاهُ، وَجَدَّدْنَا إسْلَامَهُ كَانَ لَهُ قَرِينٌ مِنْ الْجِنِّ يُقَالُ لَهُ: عَنْتَرٌ " يُخْبِرُهُ بِأَشْيَاءَ، فَيَصْدُقُ تَارَةً، وَيَكْذِبُ تَارَةً، فَلَمَّا ذَكَرْت لَهُ أَنَّك تَعْبُدُ شَيْطَانًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: يَا عَنْتَرُ، لَا سُبْحَانَك؛ إنَّك إلَهٌ قَذِرٌ، وَتَابَ مِنْ ذَلِكَ، فِي قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ. وَقَدْ قَتَلَ سَيْفُ الشَّرْعِ مَنْ قَتَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ مِثْلُ الشَّخْصِ الَّذِي قَتَلْنَاهُ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَكَانَ لَهُ قَرِينٌ يَأْتِيهِ وَيُكَاشِفُهُ فَيَصْدُقُ تَارَةً، وَيَكْذِبُ تَارَةً، وَقَدْ انْقَادَ لَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَنْسُوبِينَ إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالرِّئَاسَةِ، فَيُكَاشِفُهُمْ حَتَّى كَشَفَ اللَّهُ لَهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ الْقَرِينَ كَانَ تَارَةً يَقُولُ لَهُ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ. وَيَذْكُرُ أَشْيَاءَ تُنَافِي حَالَ الرَّسُولِ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الرَّسُولَ يَأْتِينِي، وَيَقُولُ لِي كَذَا وَكَذَا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَكْفُرُ مَنْ أَضَافَهَا إلَى الرَّسُولِ؛ فَذَكَرْت لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ الْكُهَّانِ؛ وَأَنَّ الَّذِي يَرَاهُ شَيْطَانًا؛ وَلِهَذَا لَا يَأْتِيهِ فِي الصُّورَةِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّبِيِّ. بَلْ يَأْتِيهِ فِي صُورَةٍ مُنْكَرَةٍ، وَيَذْكَرُ عَنْهُ أَنَّهُ يَشْكِي لَهُ؛ وَيُبِيحُ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمُسْكِرَ وَأُمُورًا أُخْرَى. وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَظُنُّونَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الرُّؤْيَةِ؛ وَلَمْ يَكُنْ كَاذِبًا فِي أَنَّهُ رَأَى تِلْكَ الصُّورَةَ؛ لَكِنْ كَانَ كَافِرًا فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. وَلِهَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ تَنَزُّلَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ بِحَسَبِ مَا فَعَلُوهُ مِنْ مُرَادِ الشَّيْطَانِ؛ فَكُلَّمَا بَعُدُوا عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَطَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ قَرُبُوا مِنْ الشَّيْطَانِ، فَيَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ؛ وَالشَّيْطَانُ طَارَ بِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَصْرَعُ الْحَاضِرِينَ، وَشَيَاطِينُهُ صَرَعَتْهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ

يُحْضِرُ طَعَامًا وَإِدَامًا وَمَلَأَ الْإِبْرِيقَ مَاءً مِنْ الْهَوَى، وَالشَّيَاطِينُ فَعَلَتْ ذَلِكَ. فَيَحْسِبُ الْجَاهِلُونَ أَنَّ هَذِهِ كَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ؛ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِنْسِ أَحْوَالِ السَّحَرَةِ وَالْكَهَنَةِ وَأَمْثَالِهِمْ. وَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَالنَّفْسَانِيَّةِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَمَنْ لَمْ يُنَوِّرْ اللَّهُ قَلْبَهُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَاتِّبَاعِ الْقُرْآنِ لَمْ يَعْرِفْ طَرِيقَ الْمُحِقِّ مِنْ الْمُبْطِلِ؛ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالْحَالُ، كَمَا الْتَبَسَ عَلَى النَّاسِ حَالُ مُسَيْلِمَةَ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكَذَّابِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ أَنْبِيَاءٌ؛ وَإِنَّمَا هُمْ كَذَّابُونَ، وَقَدْ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ فِيكُمْ ثَلَاثُونَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ» . وَأَعْظَمُ الدَّجَاجِلَةِ فِتْنَةً " الدَّجَّالُ الْكَبِيرُ " الَّذِي يَقْتُلُهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: فَإِنَّهُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَتِهِ، وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعِيذُوا مِنْ فِتْنَتِهِ فِي صَلَاتِهِمْ، وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّهُ يَقُولُ لِلسَّمَاءِ: أَمْطِرِي: فَتُمْطِرُ؛ وَلِلْأَرْضِ أَنْبِتِي، فَتُنْبِتُ» «وَأَنَّهُ يَقْتُلُ رَجُلًا مُؤْمِنًا؛ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ قُمْ فَيَقُومُ؛ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّك؛ فَيَقُولُ لَهُ كَذَبْت؛ بَلْ أَنْتَ الْأَعْوَرُ الْكَذَّابُ الَّذِي أَخْبَرَنَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَاَللَّهِ مَا ازْدَدْت فِيك إلَّا بَصِيرَةً فَيَقْتُلُهُ مَرَّتَيْنِ، فَيُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَهُ فِي الثَّالِثَةِ فَلَا يُسَلِّطُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَهُوَ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ. وَقَدْ بَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ ثَلَاثَ عَلَامَاتٍ تُنَافِي مَا يَدَّعِيهِ: أَحَدُهَا: «أَنَّهُ أَعْوَرُ؛ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ» . وَالثَّانِي: «أَنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ مِنْ قَارِئٍ وَغَيْرِ قَارِئٍ» . وَالثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: «وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ» . فَهَذَا هُوَ الدَّجَّالُ الْكَبِيرُ وَدُونَهُ دَجَاجِلَةٌ مِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْذِبُ بِغَيْرِ ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ؛ كَمَا قَالَ: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ» . فَالْحَلَّاجُ كَانَ مِنْ الدَّجَاجِلَةِ بِلَا رَيْبٍ؛ وَلَكِنْ إذَا قِيلَ: هَلْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ، أَمْ

مسألة المعز معد بن تميم الذي بنى القاهرة والقصرين هل كان شريفا فاطميا

لَا؟ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ؛ فَلَا يَقُولُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ؛ وَلَكِنْ ظَهَرَ عَنْهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ مَا أَوْجَبَ كُفْرَهُ وَقَتْلَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ الْمُعِزِّ مَعْدِ بْنِ تَمِيمٍ الَّذِي بَنَى الْقَاهِرَةَ وَالْقَصْرَيْنِ هَلْ كَانَ شَرِيفًا فَاطِمِيًّا] 754 - 108 مَسْأَلَةٌ: عَنْ " الْمُعِزِّ مَعْدِ بْنِ تَمِيمٍ " الَّذِي بَنَى الْقَاهِرَةَ، وَالْقَصْرَيْنِ: هَلْ كَانَ شَرِيفًا فَاطِمِيًّا؟ وَهَلْ كَانَ هُوَ وَأَوْلَادُهُ مَعْصُومِينَ؟ وَأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ، وَإِنْ، كَانُوا لَيْسُوا أَشْرَافًا: فَمَا الْحُجَّةُ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ؟ وَإِنْ كَانُوا عَلَى خِلَافِ الشَّرِيعَةِ: فَهَلْ هُمْ " بُغَاةٌ " أَمْ لَا؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَمَدِينَ الَّذِينَ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِمْ؟ وَلْتَبْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ هُوَ أَوْ أَحَدٌ مِنْ أَوْلَادِهِ أَوْ نَحْوِهِمْ كَانُوا مَعْصُومِينَ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَأِ، كَمَا يَدَّعِيهِ الرَّافِضَةُ فِي " الِاثْنَيْ عَشْرَةَ فَهَذَا الْقَوْلُ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الرَّافِضَةِ بِكَثِيرٍ؛ فَإِنَّ الرَّافِضَةَ ادَّعَتْ ذَلِكَ فِيمَنْ لَا شَكَّ فِي إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ، بَلْ فِيمَنْ لَا يُشَكُّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ: كَعَلِيٍّ، وَالْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَمَعَ هَذَا فَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ؛ وَأَنَّهُ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ؛ فَإِنَّ الْعِصْمَةَ فِي ذَلِكَ لَيْسَتْ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -. بَلْ كَانَ مَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ، وَلَا تَجِبُ طَاعَةُ مَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ اتِّبَاعُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُخْبِرُ بِهِ، وَلَا تَكُونُ مُخَالَفَتُهُ فِي ذَلِكَ كُفْرًا؛ بِخِلَافِ الْأَنْبِيَاءِ؛ بَلْ إذَا خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ نُظَرَائِهِ وَجَبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ النَّظَرُ فِي قَوْلَيْهِمَا، وَأَيُّهُمَا كَانَ أَشْبَهَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَابَعَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] فَأَمَرَ عِنْدَ التَّنَازُعِ بِالرَّدِّ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ؛ إذْ الْمَعْصُومُ لَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا. وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ قَالَ الْحَقَّ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، كَمَا لَوْ ذَكَرَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ حَدِيثًا ثَابِتًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ يَقْصِدُ بِهِ قَطْعَ النِّزَاعِ.

أَمَّا وُجُوبُ اتِّبَاعِ الْقَائِلِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا يَقُولُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ بَلْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ " مَرْتَبَةُ الرَّسُولِ، الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لَهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51] وَقَالَ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] . وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13] {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] وَقَالَ تَعَالَى: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] . وَقَالَ تَعَالَى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [المائدة: 12] وَأَمْثَالُ هَذِهِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، بَيَّنَ فِيهِ سَعَادَةَ مَنْ آمَنَ بِالرُّسُلِ وَاتَّبَعَهُمْ وَأَطَاعَهُمْ، وَشَقَاوَةَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِمْ وَلَمْ يَتَّبِعْهُمْ؛ بَلْ عَصَاهُمْ.

فَلَوْ كَانَ غَيْرُ الرَّسُولِ مَعْصُومًا فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُنْهِي عَنْهُ لَكَانَ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمَ الرَّسُولِ. وَالنَّبِيُّ الْمَبْعُوثُ إلَى الْخَلْقِ رَسُولٌ إلَيْهِمْ؛ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُبْعَثْ إلَيْهِمْ. فَمَنْ كَانَ آمِرًا نَاهِيًا لِلْخَلْقِ: مِنْ إمَامٍ، وَعَالِمٍ، وَشَيْخٍ، وَأُولِي أَمْرٍ غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَكَانَ مَعْصُومًا: كَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ مَنْ أَطَاعَهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ عَصَاهُ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، كَمَا يَقُولُهُ الْقَائِلُونَ بِعِصْمَةِ عَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ؛ بَلْ مَنْ أَطَاعَهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا؛ وَمَنْ عَصَاهُ يَكُونُ كَافِرًا؛ وَكَانَ هَؤُلَاءِ كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ؛ فَلَا يَصِحُّ حِينَئِذٍ قَوْلُ النَّبِيِّ: «لَا نَبِيَّ بَعْدِي» وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا إنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» . فَغَايَةُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ يَكُونُوا وَرَثَةَ أَنْبِيَاءٍ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَالْإِجْمَاعِ «أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ لِلصِّدِّيقِ فِي تَأْوِيلِ رُؤْيَا عَبَرَهَا: أَصَبْت بَعْضًا، وَأَخْطَأْت بَعْضًا» وَقَالَ الصِّدِّيقُ: أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت اللَّهَ، فَإِذَا عَصَيْت اللَّهَ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ وَغَضِبَ مَرَّةً عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ: دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَكُنْت فَاعِلًا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: مَا كَانَتْ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ. وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ نَبِيًّا قُتِلَ، وَمَنْ سَبَّ غَيْرَ النَّبِيِّ لَا يُقْتَلُ بِكُلِّ سَبٍّ سَبَّهُ؛ بَلْ يُفَصَّلُ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ مَنْ قَذَفَ أُمَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قُتِلَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا: لِأَنَّهُ قَدَحَ فِي نَسَبِهِ، وَلَوْ قَذَفَ غَيْرَ أُمِّ النَّبِيِّ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ بَرَاءَتَهَا لَمْ يُقْتَلْ. وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَانَ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَوَاضِعَ بِمِثْلِ هَذِهِ، فَيَرْجِعُ عَنْ أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فِي خِلَافِ مَا قَالَ، وَيَسْأَلُ الصَّحَابَةَ عَنْ بَعْضِ السُّنَّةِ حَتَّى يَسْتَفِيدَهَا مِنْهُمْ، وَيَقُولُ فِي مَوَاضِعَ: وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ الْحَقَّ أَوْ أَخْطَأَهُ. وَيَقُولُ: امْرَأَةً أَصَابَتْ. وَرَجُلٌ أَخْطَأَ. وَمَعَ هَذَا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ» وَفِي التِّرْمِذِيِّ: «لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ فِيكُمْ عُمَرُ» وَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ ضَرَبَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» فَإِذَا كَانَ الْمُحَدِّثُ الْمُلْهَمُ الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ بِهَذِهِ

الْمَنْزِلَةِ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا مَنْزِلَتَهُ؟ ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَعْلَمُ مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، وَأَعْظَمُ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ سَائِرِهِمْ، وَأَوْلَى بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ مِنْهُمْ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ» رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ وَجْهًا، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا أُوتَى بِأَحَدٍ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي، وَالْأَقْوَالُ الْمَأْثُورَةُ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ [كَثِيرَةٌ] . بَلْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لَا يُحْفَظُ لَهُ فُتْيَا أَفْتَى فِيهَا بِخِلَافِ نَصِّ النَّبِيِّ. وَقَدْ وُجِدَ لِعَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِمَّا وُجِدَ لِعُمَرَ وَكَانَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُنَاظِرُ بَعْضَ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ، فَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ عَلِيٍّ، فَصَنَّفَ كِتَابَ اخْتِلَافِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ " وَبَيَّنَ فِيهِ مَسَائِلَ كَثِيرَةً تُرِكَتْ مِنْ قَوْلِهِمَا؛ لِمَجِيءِ السُّنَّةِ بِخِلَافِهَا، وَصَنَّفَ بَعْدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الثَّوْرِيُّ كِتَابًا أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا تَرَكَ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَاتَّفَقَتْ أَئِمَّةُ الْفُتْيَا عَلَى قَوْلِ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهَا إذَا وَضَعَتْ حَمَلَهَا حَلَّتْ، لِمَا ثَبَتَ «عَنْ النَّبِيِّ: أَنَّ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ كَانَتْ قَدْ وَضَعَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ. فَقَالَ: مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْك أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، فَسَأَلَتْ النَّبِيَّ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ. حَلَلْت فَانْكِحِي» فَكَذَّبَ النَّبِيُّ مَنْ قَالَ بِهَذِهِ الْفُتْيَا. " وَكَذَلِكَ الْمُفَوِّضَةُ الَّتِي تَزَوَّجَهَا زَوْجُهَا وَمَاتَ عَنْهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا مَهْرٌ قَالَ فِيهَا عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ إنَّهَا لَا مَهْرَ لَهَا، وَأَفْتَى فِيهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ فَقَالَ: نَشْهَدُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ بِمِثْلِ مَا قَضَيْت بِهِ فِي هَذِهِ ". وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ وَابْنَاهُ وَغَيْرُهُمْ يُخَالِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْعِلْمِ وَالْفُتْيَا، كَمَا

يُخَالِفُ سَائِرٌ أَهْلِ الْعِلْمِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَوْ كَانُوا مَعْصُومِينَ لَكَانَتْ مُخَالَفَةُ الْمَعْصُومِ لِلْمَعْصُومِ مُمْتَنِعَةٌ. وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ، فِي أَمْرِ الْقِتَالِ يُخَالِفُ أَبَاهُ وَيَكْرَهُ كَثِيرًا مِمَّا يَفْعَلُهُ، وَيَرْجِعُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي آخِرِ الْأَمْرِ إلَى رَأْيِهِ، وَكَانَ يَقُولُ: لَئِنْ عَجَزْت عَجْزَةً لَا أَعْتَذِرْ سَوْفَ أَكِيسُ بَعْدَهَا وَأَسْتَمِرَّ وَأَجْبُرُ الرَّأْيَ النَّسِيبَ الْمُنْتَشِرَ وَتَبَيَّنَ لَهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ أَنْ لَوْ فَعَلَ غَيْرَ الَّذِي كَانَ فَعَلَهُ لَكَانَ هُوَ الْأَصْوَبُ وَلَهُ فَتَاوَى رَجَعَ بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، فَإِنَّ لَهُ فِيهَا قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِهِنَّ. وَالثَّانِي: إبَاحَةُ ذَلِكَ وَالْمَعْصُومُ لَا يَكُونُ لَهُ قَوْلَانِ مُتَنَاقِضَانِ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ، كَمَا فِي «قَوْلِ النَّبِيِّ السُّنَّةُ اسْتَقَرَّتْ» فَلَا يَرِدُ عَلَيْهَا بَعْدَهُ نَسْخٌ إذْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ. وَقَدْ وَصَّى الْحَسَنُ أَخَاهُ الْحُسَيْنَ بِأَنْ لَا يُطِيعَ أَهْلَ الْعِرَاقِ، وَلَا يَطْلُبَ هَذَا الْأَمْرَ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ يَتَوَلَّاهُ وَيُحِبُّهُ وَرَأَوْا أَنَّ مَصْلَحَتَهُ وَمَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَذْهَبَ إلَيْهِمْ، لَا يُجِيبُهُمْ إلَى مَا قَالُوهُ مِنْ الْمَجِيءِ إلَيْهِمْ وَالْقِتَالِ مَعَهُمْ؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمَصْلَحَةُ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ مَا رَآهُ مَصْلَحَةً، وَالرَّأْيُ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ. وَالْمَعْصُومُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَهُ؛ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِفَ مَعْصُومًا آخَرَ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَا عَلَى شَرِيعَتَيْنِ، كَالرَّسُولَيْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَرِيعَتَهُمَا وَاحِدَةٌ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ ادَّعَى عِصْمَةَ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ، الْمَشْهُورِ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالْجَنَّةِ؛ هُوَ فِي غَايَةِ الضَّلَالِ وَالْجَهَالَةِ، وَلَمْ يَقُلْ هَذَا الْقَوْلَ مَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ؛ بَلْ وَلَا مَنْ لَهُ عَقْلٌ مَحْمُودٌ. فَكَيْفَ تَكُونُ الْعِصْمَةُ فِي ذُرِّيَّةِ " عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ " مَعَ شُهْرَةِ النِّفَاقِ وَالْكَذِبِ وَالضَّلَالِ؟ ، وَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ: فَلَا رَيْبَ أَنَّ سِيرَتَهُمْ مِنْ سِيرَةِ الْمُلُوكِ، وَأَكْثَرُهَا ظُلْمًا وَانْتِهَاكًا لِلْمُحَرَّمَاتِ، وَأَبْعَدُهَا عَنْ إقَامَةِ الْأُمُورِ وَالْوَاجِبَاتِ، وَأَعْظَمُ إظْهَارًا لِلْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِعَانَةً لِأَهْلِ النِّفَاقِ وَالْبِدْعَةِ.

وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دَوْلَةَ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي الْعَبَّاسِ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ دَوْلَتِهِمْ، وَأَعْظَمُ عِلْمًا وَإِيمَانًا مِنْ دَوْلَتِهِمْ، وَأَقَلُّ بِدَعًا وَفُجُورًا مِنْ بِدْعَتِهِمْ، وَأَنَّ خَلِيفَةَ الدَّوْلَتَيْنِ أَطْوَعُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ خُلَفَاءِ دَوْلَتِهِمْ؛ وَلَمْ يَكُنْ فِي خُلَفَاءِ الدَّوْلَتَيْنِ مَنْ يُجَوِّزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ أَنَّهُ مَعْصُومٌ، فَكَيْفَ يَدَّعِي الْعِصْمَةَ مَنْ ظَهَرَتْ عَنْهُ الْفَوَاحِشُ وَالْمُنْكَرَاتُ، وَالظُّلْمُ وَالْبَغْيُ، وَالْعُدْوَانُ وَالْعَدَاوَةُ لِأَهْلِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ الْأُمَّةِ، وَالِاطْمِئْنَانُ لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ؟ ، فَهُمْ مِنْ أَفْسَقِ النَّاسِ. وَمِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ. وَمَا يَدَّعِي الْعِصْمَةَ فِي النِّفَاقِ وَالْفُسُوقِ إلَّا جَاهِلٌ مَبْسُوطُ الْجَهْلِ، أَوْ زِنْدِيقٌ يَقُولُ بِلَا عِلْمٍ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّ مَنْ شَهِدَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، أَوْ بِصِحَّةِ النَّسَبِ فَقَدْ شَهِدَ لَهُمْ بِمَا لَا يَعْلَمُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَقَالَ تَعَالَى: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وَقَالَ عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ: {وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ يَعْلَمُ صِحَّةَ نَسَبِهِمْ وَلَا ثُبُوتَ إيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ؛ فَإِنَّ غَايَةَ مَا يَزْعُمُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَالْتِزَامَ شَرَائِعِهِ؛ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ؛ أَنْ قَدْ عُرِفَ فِي الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] . وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ، وَأَئِمَّتُهَا وَجَمَاهِيرُهَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُنَافِقِينَ زَنَادِقَةً، يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ. فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ صَارَ فِي إيمَانِهِمْ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ، فَالشَّاهِدُ لَهُمْ

بِالْإِيمَانِ شَاهِدٌ لَهُمْ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ؛ إذْ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى إيمَانِهِمْ مِثْلُ مَا مَعَ مُنَازِعِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى نِفَاقِهِمْ وَزَنْدَقَتِهِمْ. وَكَذَلِكَ " النَّسَبُ " قَدْ عُلِمَ أَنَّ جُمْهُورَ الْأُمَّةِ تَطْعَنُ فِي نَسَبِهِمْ، وَيَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ الْمَجُوسِ أَوْ الْيَهُودِ هَذَا مَشْهُورٌ مِنْ شَهَادَةِ عُلَمَاءِ الطَّوَائِفِ مِنْ: الْحَنِيفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَأَهْلِ الْكَلَامِ، وَعُلَمَاءِ النَّسَبِ، وَالْعَامَّةِ، وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ ذَكَرَهُ عَامَّةُ الْمُصَنِّفِينَ لِأَخْبَارِ النَّاسِ وَأَيَّامِهِمْ، حَتَّى بَعْضُ مَنْ قَدْ يَتَوَقَّفُ فِي أَمْرِهِمْ كَابْنِ الْأَثِيرِ الْمَوْصِلِيِّ فِي تَارِيخِهِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَا كَتَبَهُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ بِخُطُوطِهِمْ فِي الْقَدْحِ فِي نَسَبِهِمْ. وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ حَتَّى الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي تَارِيخِهِ، فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا بُطْلَانَ نَسَبِهِمْ، وَكَذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَأَبُو شَامَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، حَتَّى صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ، كَمَا صَنَّفَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ كِتَابَهُ الْمَشْهُورَ فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْمَجُوسِ، وَذَكَرَ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ مَا بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ مَذَاهِبَهُمْ شَرٌّ مِنْ مَذَاهِبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ بَلْ وَمِنْ مَذَاهِبِ الْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ إلَهِيَّةَ عَلِيٍّ أَوْ نُبُوَّتَهُ، فَهُمْ أَكْفَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِهِ " الْمُعْتَمَدُ " فَصْلًا طَوِيلًا فِي شَرْحِ زَنْدَقَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ فَضَائِلَ المستظهرية وَفَضَائِحَ الْبَاطِنِيَّةِ، قَالَ: ظَاهِرُ مَذْهَبِهِمْ الرَّفْضُ، وَبَاطِنُهُ الْكُفْرُ الْمَحْضُ. وَكَذَلِكَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَحْمَدَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْمُتَشَيِّعَةِ الَّذِينَ لَا يُفَضِّلُونَ عَلَى عَلِيٍّ غَيْرَهُ؛ بَلْ يُفَسِّقُونَ مَنْ قَاتَلَهُ وَلَمْ يَتُبْ مِنْ قِتَالِهِ: يَجْعَلُونَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَكَابِرِ الْمُنَافِقِينَ الزَّنَادِقَةِ. فَهَذِهِ مَقَالَةُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي حَقِّهِمْ، فَكَيْفَ تَكُونُ مَقَالَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؟ ،، وَالرَّافِضَةُ الْإِمَامِيَّةُ - مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ، وَلَا دِينٌ صَحِيحٌ، وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ نَعَمْ - يَعْلَمُونَ أَنَّ مَقَالَةَ هَؤُلَاءِ مَقَالَةُ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ؛ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَقَالَةَ هَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةِ شَرٌّ مِنْ مَقَالَةِ الْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ إلَهِيَّةَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَأَمَّا الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِمْ فَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ الطَّوَائِفِ.

وَقَدْ تَوَلَّى الْخِلَافَةَ غَيْرُهُمْ طَوَائِفُ، وَكَانَ فِي بَعْضِهِمْ مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْعِلْمِ مَا فِيهِ؛ فَلَمْ يَقْدَحْ النَّاسُ فِي نَسَبِ أَحَدٍ مِنْ أُولَئِكَ، كَمَا قَدَحُوا فِي نَسَبِ هَؤُلَاءِ وَلَا نَسَبُوهُمْ إلَى الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ كَمَا نَسَبُوا هَؤُلَاءِ. وَقَدْ قَامَ مِنْ وَلَدِ عَلِيٍّ طَوَائِفُ؛ مِنْ وَلَدِ الْحَسَنِ، وَوَلَدِ الْحُسَيْنِ، كَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، وَأَخِيهِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، وَأَمْثَالِهِمَا. وَلَمْ يَطْعَنْ أَحَدٌ لَا مِنْ أَعْدَائِهِمْ وَلَا مِنْ غَيْرِ أَعْدَائِهِمْ لَا فِي نَسَبِهِمْ وَلَا فِي إسْلَامِهِمْ، وَكَذَلِكَ الدَّاعِي الْقَائِمُ بِطَبَرِسْتَانَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعَلَوِيِّينَ، وَكَذَلِكَ بَنُو حَمُّودٍ الَّذِينَ تَغَلَّبُوا بِالْأَنْدَلُسِ مُدَّةً وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ لَمْ يَقْدَحْ أَحَدٌ فِي نَسَبِهِمْ، وَلَا فِي إسْلَامِهِمْ. وَقَدْ قَتَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الطَّالِبِينَ مَنْ عَلَى الْخِلَافَةِ، لَا سِيَّمَا فِي الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، وَحَبَسَ طَائِفَةٌ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يَقْدَحْ أَعْدَاؤُهُمْ فِي نَسَبِهِمْ، وَلَا دِينِهِمْ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَنْسَابَ الْمَشْهُورَةَ أَمْرُهَا ظَاهِرٌ مُتَدَارَكٌ مِثْلُ الشَّمْسِ لَا يَقْدِرُ الْعَدُوُّ أَنْ يُطْفِئَهُ ؛ وَكَذَلِكَ إسْلَامُ الرَّجُلِ وَصِحَّةُ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَالرَّسُولِ أَمْرٌ لَا يَخْفَى، وَصَاحِبُ النَّسَبِ وَالدِّينِ لَوْ أَرَادَ عَدُوُّهُ أَنْ يُبْطِلَ نَسَبَهُ وَدِينَهُ وَلَهُ هَذِهِ الشُّهْرَةُ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَّفِقَ عَلَى ذَلِكَ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ. وَهَؤُلَاءِ " بَنُو عُبَيْدٍ الْقَدَّاحِ " مَا زَالَتْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ الْمَأْمُونُونَ عِلْمًا وَدِينًا يَقْدَحُونَ فِي نَسَبِهِمْ وَدِينِهِمْ؛ لَا يَذُمُّونَهُمْ بِالرَّفْضِ وَالتَّشَيُّعِ؛ فَإِنَّ لَهُمْ فِي هَذَا شُرَكَاءَ كَثِيرِينَ؛ بَلْ يَجْعَلُونَهُمْ " مِنْ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ " الَّذِينَ مِنْهُمْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالنُّصَيْرِيَّةِ، وَمِنْ جِنْسِهِمْ الخرمية المحمرة وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُنَافِقِينَ، الَّذِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ؛ وَلَا رَيْبَ أَنَّ اتِّبَاعَ هَؤُلَاءِ بَاطِلٌ؛ وَقَدْ وَصَفَ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةَ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ الَّذِينَ ابْتَدَعُوهُ وَوَضَعُوهُ؛ وَذَكَرُوا مَا بَنَوْا عَلَيْهِ مَذَاهِبَهُمْ؛ وَأَنَّهُمْ أَخَذُوا بَعْضَ قَوْلِ الْمَجُوسِ وَبَعْضَ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ؛ فَوَضَعُوا لَهُمْ " السَّابِقَ " " وَالتَّالِيَ " " وَالْأَسَاسَ " " وَالْحُجَجَ " " وَالدَّعَاوَى " وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِنْ الْمَرَاتِبِ. وَتَرْتِيبُ الدَّعْوَةِ سَبْعُ دَرَجَاتٍ؛ آخِرُهَا " الْبَلَاغُ الْأَكْبَرُ؛ وَالنَّامُوسُ الْأَعْظَمُ " مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ تَفْصِيلِ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ شَهِدَ لَهُمْ بِصِحَّةِ نَسَبٍ أَوْ إيمَانٍ فَأَقَلُّ مَا فِي شَهَادَتِهِ أَنَّهُ شَاهِدٌ بِلَا عِلْمٍ، قَافٍ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ؛ وَذَلِكَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ؛ بَلْ مَا ظَهَرَ عَنْهُمْ مِنْ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ. وَمُعَادَاةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ: دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ نَسَبِهِمْ

الْفَاطِمِيِّ؛ فَإِنَّ مَنْ يَكُونُ مِنْ أَقَارِبِ النَّبِيِّ الْقَائِمِينَ بِالْخِلَافَةِ فِي أُمَّتِهِ لَا تَكُونُ مُعَادَاتُهُ لِدِينِهِ كَمُعَادَاةِ هَؤُلَاءِ؛ فَلَمْ يُعْرَفْ فِي بَنِي هَاشِمٍ، وَلَا وَلَدِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَا بَنِي أُمَيَّةَ: مَنْ كَانَ خَلِيفَةً وَهُوَ مُعَادٍ لِدِينِ الْإِسْلَامِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعَادِيًا كَمُعَادَاةِ هَؤُلَاءِ؛ بَلْ أَوْلَادُ الْمُلُوكِ الَّذِينَ لَا دِينَ لَهُمْ فَيَكُونُ فِيهِمْ نَوْعُ حَمِيَّةٍ لِدِينِ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ، فَمَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ كَيْفَ يُعَادِي دِينَهُ هَذِهِ الْمُعَادَاةَ؛ وَلِهَذَا نَجِدُ جَمِيعَ الْمَأْمُونِينَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مُعَادِينَ لِهَؤُلَاءِ، إلَّا مَنْ هُوَ زِنْدِيقٌ عَدُوٌّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ جَاهِلٌ لَا يَعْرِفُ مَا بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ. وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَكَذِبِهِمْ فِي نَسَبِهِمْ. فَصْلٌ وَأَمَّا سُؤَالُ الْقَائِلِ " إنَّهُمْ أَصْحَابُ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ " فَدَعْوَاهُمْ الَّتِي ادَّعُوهَا مِنْ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ هُوَ أَعْظَمُ حُجَّةٍ وَدَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُمْ زَنَادِقَةٌ مُنَافِقُونَ؛ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ، وَلَا بِرَسُولِهِ، وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَإِنَّ هَذَا الْعِلْمَ الْبَاطِنَ الَّذِي ادَّعُوهُ هُوَ كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ بَلْ أَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنَّهُ كُفْرٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّ مَضْمُونَهُ أَنَّ لِلْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ بَوَاطِنَ تُخَالِفُ الْمَعْلُومَ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَوَامِرِ، وَالنَّوَاهِي، وَالْأَخْبَارِ. أَمَّا " الْأَوَامِرُ " فَإِنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ مُحَمَّدًا أَمَرَهُمْ بِالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ. وَأَمَّا " النَّوَاهِي " فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأَثِمَ، وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنْ يُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَأَنْ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ، كَمَا حَرَّمَ الْخَمْرَ، وَنِكَاحَ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَالرِّبَا وَالْمَيْسِرَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ. فَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا مَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلَكِنْ لِهَذَا بَاطِنٌ يَعْلَمُهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ الْإِسْمَاعِيلِيَّة، الَّذِينَ انْتَسَبُوا إلَى مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، وَأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ، كَقَوْلِهِمْ: " الصَّلَاةُ " مَعْرِفَةُ أَسْرَارِنَا؛ لَا هَذِهِ الصَّلَوَاتُ ذَاتُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ. " وَالصِّيَامُ " كِتْمَانُ أَسْرَارِنَا لَيْسَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ. " وَالْحَجُّ " زِيَارَةُ شُيُوخِنَا الْمُقَدَّسِينَ.

وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ الْمُدَّعُونَ لِلْبَاطِنِ لَا يُوجِبُونَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ وَلَا يُحَرِّمُونَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ بَلْ يَسْتَحِلُّونَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَنِكَاحَ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَمَنْ يَكُونُ هَكَذَا كَيْفَ يَكُونُ مَعْصُومًا؟ ،، وَأَمَّا " الْأَخْبَارُ " فَإِنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِقِيَامِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَلَا بِمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ؛ بَلْ وَلَا بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ؛ بَلْ وَلَا بِمَا ذَكَرَتْهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، بَلْ أَخْبَارُهُمْ الَّتِي يَتَّبِعُونَهَا اتِّبَاعَ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمَشَّائِينَ التَّابِعِينَ لِأَرِسْطُو، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرُّسُلُ وَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ، كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ الْعُبَيْدِيِّينَ، ذُرِّيَّةِ " عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ ". فَهَلْ يُنْكِرُ أَحَدٌ مِمَّنْ يَعْرِفُ دِينَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ الْيَهُودِ، أَوْ النَّصَارَى: أَنَّ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " مُخَالِفٌ لِلْمِلَلِ الثَّلَاثِ وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ، وَالطَّبِيعِيَّةِ، وَبَعْضِ الْمَنْطِقِيَّةِ، وَالْإِلَهِيَّةِ، وَعُلُومِ الْأَخْلَاقِ، وَالسِّيَاسَةِ، وَالْمَنْزِلِ: مَا لَا يُنْكَرُ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ الرُّسُلِ فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ وَأَمَرَتْ بِهِ، وَالتَّكْذِيبِ بِكَثِيرٍ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ، وَتَبْدِيلِ شَرَائِعِ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ بِمَا لَا يَخْفَى عَلَى عَارِفٍ بِمِلَّةٍ مِنْ الْمِلَلِ. فَهَؤُلَاءِ خَارِجُونَ عَنْ الْمِلَلِ الثَّلَاثِ. وَمِنْ أَكَاذِيبِهِمْ وَزَعْمِهِمْ: أَنَّ هَذِهِ " الرَّسَائِلَ " مِنْ كَلَامِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ الصَّادِقِ. وَالْعُلَمَاءُ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا إنَّمَا وُضِعَتْ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ زَمَانَ بِنَاءِ الْقَاهِرَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ وَاضِعُهَا فِيهَا مَا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ اسْتِيلَاءِ النَّصَارَى عَلَى سَوَاحِلِ الشَّامِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْحَوَادِثِ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، قَبْلَ بِنَاءِ الْقَاهِرَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ؛ إذْ الْقَاهِرَةُ بُنِيَتْ حَوْلَ السِّتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، كَمَا فِي تَارِيخِ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ ". وَيُقَالُ: إنَّ ابْتِدَاءَ بِنَائِهَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَأَنَّهُ فِي سَنَةِ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ قَدِمَ " مَعْدُ بْنُ تَمِيمٍ " مِنْ الْمَغْرِبِ وَاسْتَوْطَنَهَا. وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ الَّذِينَ يُعْلَمُ خُرُوجُهُمْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِ مُبَشِّرِ بْنِ فَاتِكٍ أَحَدِ أُمَرَائِهِمْ، وَأَبِي عَلِيٍّ بْنِ الْهَيْثَمِ اللَّذَيْنِ كَانَا فِي دَوْلَةِ الْحَاكِمِ

نَازِلَيْنِ قَرِيبًا مِنْ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ. وَابْنُ سِينَا وَابْنُهُ وَأَخُوهُ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِهِمَا: قَالَ ابْنُ سِينَا: وَقَرَأْت مِنْ الْفَلْسَفَةِ، وَكُنْت أَسْمَعُ أَبِي وَأَخِي يَذْكُرَانِ " الْعَقْلَ " " وَالنَّفْسَ "، وَكَانَ وُجُودُهُ عَلَى عَهْدِ الْحَاكِمِ، وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ مِنْ سِيرَةِ الْحَاكِمِ مَا عَلِمُوهُ، وَمَا فَعَلَهُ هشتكين الدَّرْزِيّ بِأَمْرِهِ مِنْ دَعْوَةِ النَّاسِ إلَى عِبَادَتِهِ، وَمُقَاتَلَتِهِ أَهْلَ مِصْرَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ ذَهَابُهُ إلَى الشَّامِ حَتَّى أَضَلَّ وَادِي التَّيْمِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. وَالزَّنْدَقَةُ وَالنِّفَاقُ فِيهِمْ إلَى الْيَوْمِ، وَعِنْدَهُمْ كُتُبُ الْحَاكِمِ، وَقَدْ أَخَذْتهَا مِنْهُمْ، وَقَرَأْت مَا فِيهَا مِنْ عِبَادَتِهِمْ الْحَاكِمَ؛ وَإِسْقَاطِهِ عَنْهُمْ الصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، وَالصِّيَامَ، وَالْحَجَّ، وَتَسْمِيَةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُوجِبِينَ لِهَذِهِ الْوَاجِبَاتِ الْمُحَرِّمِينَ لِمَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالْحَشْوِيَّةِ. إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ النِّفَاقِ الَّتِي لَا تَكَادُ تُحْصَى. وَبِالْجُمْلَةِ " فَعِلْمُ الْبَاطِنِ " الَّذِي يَدَّعُونَ مَضْمُونُهُ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ بَلْ هُوَ جَامِعٌ لِكُلِّ كُفْرٍ، لَكِنَّهُمْ فِيهِ عَلَى دَرَجَاتٍ فَلَيْسُوا مُسْتَوِينَ فِي الْكُفْرِ؛ إذْ هُوَ عِنْدَهُمْ سَبْعُ طَبَقَاتٍ، كُلُّ طَبَقَةٍ يُخَاطِبُونَ بِهَا طَائِفَةً مِنْ النَّاسِ بِحَسَبِ بُعْدِهِمْ مِنْ الدِّينِ وَقُرْبِهِمْ مِنْهُ. وَلَهُمْ أَلْقَابٌ وَتَرْتِيبَاتٌ رَكَّبُوهَا مِنْ مَذْهَبِ الْمَجُوسِ، وَالْفَلَاسِفَةِ، وَالرَّافِضَةِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: " السَّابِقُ " " وَالتَّالِي " جَعَلُوهُمَا بِإِزَاءِ، الْعَقْلِ " " وَالنَّفْسِ " كَاَلَّذِي يَذْكُرُهُ الْفَلَاسِفَةُ، وَبِإِزَاءِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ كَاَلَّذِي يَذْكُرُهُ الْمَجُوسُ. وَهُمْ يَنْتَمُونَ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، وَيَدَّعُونَ أَنَّهُ هُوَ السَّابِعُ وَيَتَكَلَّمُونَ فِي الْبَاطِنِ. وَالْأَسَاسِ، وَالْحُجَّةِ، وَالْبَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ وَصْفُهُمْ. وَمِنْ وَصَايَاهُمْ فِي " النَّامُوسِ الْأَكْبَرِ، وَالْبَلَاغِ الْأَعْظَمِ " أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ " بَابِ التَّشَيُّعِ " وَذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الشِّيعَةَ مِنْ أَجْهَلِ الطَّوَائِفِ، وَأَضْعَفِهَا عَقْلًا وَعِلْمًا، وَأَبْعَدِهَا عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَلِهَذَا دَخَلَتْ الزَّنَادِقَةُ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ بَابِ الْمُتَشَيِّعَةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، كَمَا دَخَلَ الْكُفَّارُ الْمُحَارِبُونَ مَدَائِنَ الْإِسْلَامِ بَغْدَادَ بِمُعَاوَنَةِ الشِّيعَةِ، كَمَا جَرَى لَهُمْ فِي دَوْلَةِ التُّرْك الْكُفَّارِ بِبَغْدَاد وَحَلَبَ وَغَيْرِهِمَا؛ بَلْ كَمَا جَرَى بِتَغَيُّرِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ، فَهُمْ يُظْهِرُونَ التَّشَيُّعَ لِمَنْ يَدْعُونَهُ، وَإِذَا اسْتَجَابَ لَهُمْ نَقَلُوهُ إلَى الرَّفْضِ وَالْقَدْحِ فِي الصَّحَابَةِ، فَإِنْ رَأَوْهُ قَابِلًا نَقَلُوهُ إلَى الطَّعْنِ فِي عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ ثُمَّ نَقَلُوهُ إلَى الْقَدْحِ فِي نَبِيِّنَا وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَالُوا: إنَّ

الْأَنْبِيَاءَ لَهُمْ بَوَاطِنُ وَأَسْرَارٌ تُخَالِفُ مَا عَلَيْهِ أُمَّتُهُمْ، وَكَانُوا قَوْمًا أَذْكِيَاءَ فُضَلَاءَ قَالُوا بِأَغْرَاضِهِمْ الدُّنْيَوِيَّةِ بِمَا وَضَعُوهُ مِنْ النَّوَامِيسِ الشَّرْعِيَّةِ، ثُمَّ قَدَحُوا فِي الْمَسِيحِ وَنَسَبُوهُ إلَى يُوسُفَ النَّجَّارِ، وَجَعَلُوهُ ضَعِيفَ الرَّأْيِ حَيْثُ تَمَكَّنَ عَدُوُّهُ مِنْهُ حَتَّى صَلَبَهُ فَيُوَافِقُونَ الْيَهُودَ فِي الْقَدْحِ مِنْ الْمَسِيحِ؛ لَكِنْ هُمْ شَرٌّ مِنْ الْيَهُودِ. فَإِنَّهُمْ يَقْدَحُونَ فِي الْأَنْبِيَاءِ. وَأَمَّا مُوسَى وَمُحَمَّدٌ فَيُعَظِّمُونَ أَمْرَهُمَا، لِتَمَكُّنِهِمَا وَقَهْرِ عَدُوِّهِمَا؛ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمَا أَظْهَرَا مَا أَظْهَرَا مِنْ الْكِتَابِ لِذَبِّ الْعَامَّةِ، وَأَنَّ لِذَلِكَ أَسْرَارًا بَاطِنَةً مَنْ عَرَفَهَا صَارَ مِنْ الْكُمَّلِ الْبَالِغِينَ. وَيَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ أَحَلَّ كُلَّ مَا نَشْتَهِيهِ مِنْ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِكُلِّ طَرِيقٍ؛ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا شَيْءٌ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْعَامَّةِ: مِنْ صَلَاةٍ، وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ إذْ الْبَالِغُ عِنْدَهُمْ قَدْ عَرَفَ أَنَّهُ لَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ؛ وَلَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ. وَفِي " إثْبَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ " الْمُبْدِعِ لِلْعَالَمِ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَئِمَّتِهِمْ تُنْكِرُهُ وَتَزْعُمُ أَنَّ الْمَشَّائِينَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ فِي نِزَاعٍ إلَّا فِي وَاجِبِ الْوُجُودِ؛ وَيَسْتَهِينُونَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَاسْمِهِ حَتَّى يَكْتُبَ أَحَدُهُمْ اسْمَ اللَّهِ وَاسْمَ رَسُولِهِ فِي أَسْفَلِهِ؛ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ كُفْرِهِمْ كَثِيرٌ. وَذَوُو الدَّعْوَةِ الَّتِي كَانَتْ مَشْهُورَةً؛ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّة الَّذِينَ كَانُوا عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ بِقِلَاعِ الْأَلْمُوتِ وَغَيْرِهَا فِي بِلَادِ خُرَاسَانَ؛ وَبِأَرْضِ الْيَمَنِ وَجِبَالِ الشَّامِ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ: كَانُوا عَلَى مَذْهَبِ الْعُبَيْدِيِّينَ الْمَسْئُولِ عَنْهُمْ؛ وَابْنُ الصَّبَّاحِ الَّذِي كَانَ رَأْسُ الْإِسْمَاعِيلِيَّة؛ وَكَانَ الْغَزَالِيُّ يُنَاظِرُ أَصْحَابَهُ لَمَّا كَانَ قَدِمَ إلَى مِصْرَ فِي دَوْلَةِ الْمُسْتَنْصِرِ، وَكَانَ أَطْوَلُهُمْ مُدَّةً؛ وَتَلَقَّى عَنْهُ أَسْرَارَهُمْ. وَفِي دَوْلَةِ الْمُسْتَنْصِرِ كَانَتْ فِتْنَةُ الْبَسَاسِرِيِّ فِي الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ سَنَةَ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ لَمَّا جَاهَدَ الْبَسَاسِرِيَّ خَارِجًا عَنْ طَاعَةِ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ الْعَبَّاسِيِّ، وَاتَّفَقَ مَعَ الْمُسْتَنْصِرِ الْعُبَيْدِيِّ وَذَهَبَ يَحْشُرُ إلَى الْعِرَاقِ، وَأَظْهَرُوا فِي بِلَادِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ شِعَارَ الرَّافِضَةِ كَمَا كَانُوا قَدْ أَظْهَرُوهَا بِأَرْضِ مِصْرَ، وَقَتَلُوا طَوَائِفَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَشُيُوخِهِمْ كَمَا كَانَ سَلَفُهُمْ قَتَلُوا قَبْلَ ذَلِكَ بِالْمَغْرِبِ طَوَائِفَ، وَأَذَّنُوا عَلَى الْمَنَابِرِ: " حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ " حَتَّى جَاءَ التُّرْكُ السَّلَاجِقَةُ " الَّذِينَ كَانُوا مُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ فَهَزَمُوهُمْ وَطَرَدُوهُمْ إلَى مِصْرَ، وَكَانَ مِنْ أَوَاخِرِهِمْ " الشَّهِيدُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ " الَّذِي فَتَحَ أَكْثَرَ الشَّامِ، وَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ أَيْدِي النَّصَارَى؛ ثُمَّ بَعَثَ عَسْكَرَهُ إلَى

مِصْرَ لَمَّا اسْتَنْجَدُوهُ عَلَى الْإِفْرِنْجِ، وَتَكَرَّرَ دُخُولُ الْعَسْكَرِ إلَيْهَا مَعَ صَلَاحِ الدِّينِ الَّذِي فَتَحَ مِصْرَ؛ فَأَزَالَ عَنْهَا دَعْوَةَ الْعُبَيْدِيِّينَ مِنْ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَأَظْهَرَ فِيهَا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، حَتَّى سَكَنَهَا مِنْ حِينَئِذٍ مَنْ أَظْهَرَ بِهَا دِينَ الْإِسْلَامِ. وَكَانَ فِي أَثْنَاءِ دَوْلَتِهِمْ يَخَافُ السَّاكِنُ بِمِصْرَ أَنْ يَرْوِيَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ، كَمَا حَكَى ذَلِكَ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ الْحَبَّالُ صَاحِبُ عَبْدِ الْغَنِيّ بْنِ سَعِيدٍ، وَامْتَنَعَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ خَوْفًا أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَكَانُوا يُنَادُونَ بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ: مَنْ لَعَنَ وَسَبَّ، فَلَهُ دِينَارٌ وَإِرْدَبٌّ. وَكَانَ بِالْجَامِعِ الْأَزْهَرِ عِدَّةُ مَقَاصِيرَ يُلْعَنُ فِيهَا الصَّحَابَةُ؛ بَلْ يُقْطِعُهُمْ فِيهَا بِالْكُفْرِ الصَّرِيحِ، وَكَانَ لَهُمْ مَدْرَسَةٌ بِقُرْبِ " الْمَشْهَدِ " الَّذِي بَنَوْهُ وَنَسَبُوهُ إلَى الْحُسَيْنِ وَلَيْسَ، فِيهِ الْحُسَيْنُ، وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ: بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَكَانُوا لَا يُدَرِّسُونَ فِي مَدْرَسَتِهِمْ عُلُومَ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ الْمَنْطِقَ، وَالطَّبِيعَةَ، وَالْإِلَهِيَّ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَقَالَاتِ الْفَلَاسِفَةِ. وَبَنَوْا أَرْصَادًا عَلَى الْجِبَالِ وَغَيْرِ الْجِبَالِ، يَرْصُدُونَ فِيهَا الْكَوَاكِبَ، يَعْبُدُونَهَا، وَيُسَبِّحُونَهَا، وَيَسْتَنْزِلُونَ رُوحَانِيَّاتِهَا الَّتِي هِيَ شَيَاطِينُ تَتَنَزَّلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْكُفَّارِ، كَشَيَاطِينِ الْأَصْنَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. " وَالْمُعِزُّ بْنُ تَمِيمِ بْنِ مَعْدٍ " أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ الْقَاهِرَةَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ، فَصَنَّفَ كَلَامًا مَعْرُوفًا عِنْدَ أَتْبَاعِهِ؛ وَلَيْسَ هَذَا " الْمُعِزُّ بْنُ بَادِيسَ " فَإِنَّ ذَاكَ كَانَ مُسْلِمًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَكَانَ رَجُلًا مِنْ مُلُوكِ الْمَغْرِبِ؛ وَهَذَا بَعْدَ ذَاكَ بِمُدَّةٍ. وَلِأَجْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الزَّنْدَقَةِ وَالْبِدْعَةِ بَقِيَتْ الْبِلَادُ الْمِصْرِيَّةُ مُدَّةَ دَوْلَتِهِمْ نَحْوَ مِائَتَيْ سَنَةٍ قَدْ انْطَفَأَ نُورُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، حَتَّى قَالَتْ فِيهَا الْعُلَمَاءُ: إنَّهَا كَانَتْ دَارَ رِدَّةٍ وَنِفَاقٍ، كَدَارِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ. وَالْقَرَامِطَةِ " الْخَارِجِينَ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ كَانُوا سَلَفًا لِهَؤُلَاءِ الْقَرَامِطَةِ ذَهَبُوا مِنْ الْعِرَاقِ إلَى الْمَغْرِبِ، ثُمَّ جَاءُوا مِنْ الْمَغْرِبِ إلَى مِصْرَ؛ فَإِنَّ كُفْرَ هَؤُلَاءِ وَرِدَّتَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ، وَهُمْ أَعْظَمُ كُفْرًا وَرِدَّةً مِنْ كُفْرِ أَتْبَاعِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَنَحْوُهُ مِنْ الْكَذَّابِينَ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَقُولُوا فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَالشَّرَائِعِ مَا قَالَهُ أَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ. وَلِهَذَا يُمَيَّزُ بَيْنَ قُبُورِهِمْ وَقُبُورِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا يُمَيَّزُ بَيْنَ قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ فَإِنَّ قُبُورَهُمْ مُوَجَّهَةٌ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ. وَإِذَا أَصَابَ الْخَيْلُ أَرْصَدَهُ أَتَوْا بِهَا إلَى قُبُورِهِمْ، كَمَا يَأْتُونَ بِهَا إلَى قُبُورِ الْكُفَّارِ، وَهَذِهِ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ لِلْخَيْلِ إذَا أَصَابَ الْخَيْلَ مَغَلٌ ذَهَبُوا بِهَا إلَى قُبُورِ النَّصَارَى بِدِمَشْقَ،

وَإِنْ كَانُوا بِمَسَاكِنِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالنُّصَيْرِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا، ذَهَبُوا بِهَا إلَى قُبُورِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا بِمِصْرَ ذَهَبُوا بِهَا إلَى قُبُورِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ لِهَؤُلَاءِ الْعُبَيْدِيِّينَ الَّذِينَ قَدْ يَتَسَمَّوْنَ بِالْأَشْرَافِ، وَلَيْسُوا مِنْ الْأَشْرَافِ، وَلَا يَذْهَبُونَ بِالْخَيْلِ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ وَلَا إلَى قُبُورِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا أَمْرٌ مُجَرَّدٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْجُنْدِ وَعُلَمَائِهِمْ. وَقَدْ ذُكِرَ سَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ الْكُفَّارَ يُعَاقَبُونَ فِي قُبُورِهِمْ، فَتَسْمَعُ أَصْوَاتَهُمْ الْبَهَائِمُ، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ بِذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ: «أَنَّهُ كَانَ رَاكِبًا عَلَى بَغْلَتِهِ، فَمَرَّ بِقُبُورٍ فَحَادَتْ بِهِ كَادَتْ تُلْقِيهِ، فَقَالَ: هَذِهِ أَصْوَاتُ يَهُودٍ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا، فَإِنَّ الْبَهَائِمَ إذَا سَمِعَتْ ذَلِكَ الصَّوْتَ الْمُنْكَرَ أَوْجَبَ لَهَا مِنْ الْحَرَارَةِ مَا يُذْهِبُ الْمَغَلَ» ، وَكَانَ الْجُهَّالُ يَظُنُّونَ أَنَّ تَمْشِيَةَ الْخَيْلِ عِنْدَ قُبُورِ هَؤُلَاءِ لِدِينِهِمْ وَفَضْلِهِمْ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ يُمَشُّونَهَا عِنْدَ قُبُورِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالنُّصَيْرِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ دُونَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُمْ لَا يُمَشُّونَهَا عِنْدَ قَبْرِ مَنْ يُعْرَفُ بِالدِّينِ بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَغَيْرِهَا؛ إنَّمَا يُمَشُّونَهَا عِنْدَ قُبُورِ الْفُجَّارِ وَالْكُفَّارِ: تَبَيَّنَ بِذَلِكَ مَا كَانَ مُشْتَبِهًا. وَمَنْ عَلِمَ حَوَادِثَ الْإِسْلَامِ، وَمَا جَرَى فِيهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ: عَلِمَ أَنَّ عَدَاوَةَ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَدِينَ لِلْإِسْلَامِ الَّذِينَ بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ أَعْظَمُ مِنْ عَدَاوَةِ التَّتَارِ، وَأَنَّ عِلْمَ الْبَاطِنِ الَّذِي كَانُوا يَدَّعُونَ حَقِيقَتَهُ هُوَ إبْطَالُ الرِّسَالَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا؛ بَلْ إبْطَالُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ؛ وَأَنَّهُمْ لَا يُقِرُّوهُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَنْ اللَّهِ، وَلَا مِنْ خَبَرِهِ، وَلَا مِنْ أَمْرِهِ؛ وَأَنَّ لَهُمْ قَصْدًا مُؤَكَّدًا فِي إبْطَالِ دَعْوَتِهِ وَإِفْسَادِ مِلَّتِهِ، وَقَتْلِ خَاصَّتِهِ وَاتِّبَاعِ عَثْرَتِهِ. وَأَنَّهُمْ فِي مُعَادَاةِ الْإِسْلَامِ؛ بَلْ وَسَائِرِ الْمِلَلِ: أَعْظَمُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُقِرُّونَ بِأَصْلِ الْجُمَلِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ: كَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ، وَالرُّسُلِ؛ وَالشَّرَائِعِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَكِنْ يُكَذِّبُونَ بَعْضَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} [النساء: 150] {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 151] . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْقَرَامِطَةُ فَإِنَّهُمْ فِي الْبَاطِنِ كَافِرُونَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، يُخْفُونَ ذَلِكَ وَيَكْتُمُونَهُ عَنْ غَيْرِ مَنْ يَثِقُونَ بِهِ؛ لَا يُظْهِرُونَهُ، كَمَا يُظْهِرُ أَهْلُ الْكِتَابِ دِينَهُمْ،

لِأَنَّهُمْ لَوْ أَظْهَرُوهُ لَنَفَرَ عَنْهُمْ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَقَالَتِهِمْ وَمَقَالَةِ الْجُمْهُورِ؛ بَلْ الرَّافِضَةُ الَّذِينَ لَيْسُوا زَنَادِقَةً كُفَّارًا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَقَالَتِهَا وَمَقَالَةِ الْجُمْهُورِ، وَيَرَوْنَ كِتْمَانَ مَذْهَبِهِمْ، وَاسْتِعْمَالَ التَّقِيَّةِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مِنْ الرَّافِضَةِ مَنْ لَهُ نَسَبٌ صَحِيحٌ مُسْلِمًا فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَكُونُ زِنْدِيقًا؛ لَكِنْ يَكُونُ جَاهِلًا مُبْتَدِعًا. وَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ مَعَ صِحَّةِ نَسَبِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ يَكْتُمُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْهَوَى لَكِنَّ جُمْهُورَ النَّاسِ يُخَالِفُونَهُمْ: فَكَيْفَ بِالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ يُكَفِّرُهُمْ أَهْلُ الْمِلَلِ كُلِّهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَإِنَّمَا يَقْرَبُ مِنْهُمْ " الْفَلَاسِفَةُ الْمَشَّاءُونَ أَصْحَابُ أَرِسْطُو " فَإِنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقَرَامِطَةِ مُقَارَبَةً كَبِيرَةً. وَلِهَذَا يُوجَدُ فُضَلَاءُ الْقَرَامِطَةِ فِي الْبَاطِنِ مُتَفَلْسِفَةٌ: كَسِنَانٍ الَّذِي كَانَ بِالشَّامِ، وَالطُّوسِيُّ الَّذِي كَانَ وَزِيرًا لَهُمْ بِالْأَلْمُوتِ، ثُمَّ صَارَ مُنَجِّمًا لِهَؤُلَاءِ وَمَلِكَ الْكُفَّارِ، وَصَنَّفَ " شَرْحَ الْإِشَارَاتِ لِابْنِ سِينَا " وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى مَلِكِ الْكُفَّارِ بِقَتْلِ الْخَلِيفَةِ وَصَارَ عِنْدَ الْكُفَّارِ التُّرْكِ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ " الداسميدية " فَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا يُظْهِرُهُ الْقَرَامِطَةُ مِنْ الدِّينِ وَالْكَرَامَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لَكِنْ يَكُونُ أَحَدُهُمْ مُتَفَلْسِفًا، وَيَدْخُلُ مَعَهُمْ لِمُوَافَقَتِهِمْ لَهُ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالرُّسُلِ وَالشَّرَائِعِ فِي الظَّاهِرِ، وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ بِأُمُورٍ يَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. فَإِنَّ " الْمُتَفَلْسِفَةَ " مُتَأَوِّلُونَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أُمُورِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بِالنَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ الَّذِي يُوَافِقُ مَذْهَبَهُمْ، وَأَمَّا الشَّرَائِعُ الْعَمَلِيَّةُ فَلَا يَنْفُونَهَا كَمَا يَنْفِيهَا الْقَرَامِطَةُ؛ بَلْ يُوجِبُونَهَا عَلَى الْعَامَّةِ؛ وَيُوجِبُونَ بَعْضَهَا عَلَى الْخَاصَّةِ، أَوْ لَا يُوجِبُونَ ذَلِكَ. وَيَقُولُونَ: إنَّ الرُّسُلَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ وَأَمَرُوا بِهِ لَمْ يَأْتُوا بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ؛ وَلَكِنْ أَتَوْا بِأَمْرٍ فِيهِ صَلَاحُ الْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ كَذِبًا فِي الْحَقِيقَةِ. وَلِهَذَا اخْتَارَ كُلُّ مُبْطِلٍ أَنْ يَأْتِيَ بِمَخَارِيقَ لِقَصْدِ صَلَاحِ الْعَامَّةِ، كَمَا فَعَلَ ابْنُ التُّومَرْتِ الْمُلَقَّبُ بِالْمَهْدِيِّ، وَمَذْهَبُهُ فِي الصِّفَاتِ مَذْهَبُ الْفَلَاسِفَةِ لِأَنَّهُ كَانَ مِثْلَهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا مُكَذِّبًا لِلرُّسُلِ مُعَطِّلًا لِلشَّرَائِعِ، وَلَا يَجْعَلُ لِلشَّرِيعَةِ الْعَمَلِيَّةِ بَاطِنًا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا؛ بَلْ كَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ رَأْيِ الْجَهْمِيَّةِ الْمُوَافِقِ لِرَأْيِ الْفَلَاسِفَةِ، وَنَوْعٌ مِنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يَرَوْنَ السَّيْفَ وَيُكَفِّرُونَ بِالذَّنْبِ.

فَهَؤُلَاءِ " الْقَرَامِطَةُ " هُمْ فِي الْبَاطِنِ وَالْحَقِيقَةِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَيَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ بَلْ وَإِيصَالَ النَّسَبِ إلَى الْعِتْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَعِلْمَ الْبَاطِنِ الَّذِي لَا يُوجَدُ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَأَنَّ إمَامَهُمْ مَعْصُومٌ. فَهُمْ فِي الظَّاهِرِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ دَعْوَى بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَفِي الْبَاطِنِ مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ بِالرَّحْمَنِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ ادَّعَى النُّبُوَّةَ مِنْ الْكَذَّابِينَ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93] وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَدَّعُونَ هَذَا وَهَذَا فَإِنَّ الَّذِي يُضَاهِي الرَّسُولَ الصَّادِقَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَدَّعِيَ مِثْلَ دَعْوَتِهِ فَيَقُولُ: إنَّ اللَّهَ أَرْسَلَنِي وَأَنْزَلَ عَلَيَّ، وَكَذَبَ عَلَى اللَّهِ أَوْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ وَلَا يُسَمِّيَ مُوحِيَهُ كَمَا يَقُولُ قِيلَ لِي وَنُودِيت وَخُوطِبْت وَنَحْوَ ذَلِكَ وَيَكُونَ كَاذِبًا، فَيَكُونُ هَذَا قَدْ حَذَفَ الْفَاعِلَ أَوْ لَا يَدَّعِي وَاحِدًا مِنْ الْأَمْرَيْنِ لَكِنَّهُ يَدَّعِي أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ وَوَجْهُ الْقِسْمَةِ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ فِي مُضَاهَاةِ الرَّسُولِ إمَّا أَنْ يُضِيفَهُ إلَى اللَّهِ أَوْ إلَى نَفْسِهِ أَوْ لَا يُضِيفَهُ إلَى أَحَدٍ فَهَؤُلَاءِ فِي دَعْوَاهُمْ مِثْلَ الرَّسُولِ هُمْ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَكَيْفَ بِالْقَرَامِطَةِ الَّذِينَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ أَعْظَمَ مِمَّا فَعَلَ مُسَيْلِمَةُ وَأَلْحَدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ أَعْظَمَ مِمَّا فَعَلَ مُسَيْلِمَةُ وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَعْظَمَ مِمَّا فَعَلَ مُسَيْلِمَةُ، وَبَسْطُ حَالِهِمْ يَطُولُ لَكِنَّ هَذِهِ الْأَوْرَاقَ لَا تَسَعُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته حَالُ أَئِمَّتِهِمْ وَقَادَتِهِمْ الْعَالِمِينَ بِحَقِيقَةِ قَوْلِهِمْ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ انْضَمَّ إلَيْهِمْ مِنْ الشِّيعَة وَالرَّافِضَة مَنْ لَا يَكُونُ فِي الْبَاطِنِ عَالَمًا بِحَقِيقَةِ بَاطِنِهِمْ وَلَا مُوَافِقًا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَيَكُونُ مِنْ أَتْبَاعِ الزَّنَادِقَةِ الْمُرْتَدِّينَ الْمَوَالِي لَهُمْ النَّاصِرِ لَهُمْ؛ بِمَنْزِلَةِ أَتْبَاعِ الِاتِّحَادِيَّةِ الَّذِينَ يُوَالُونَهُمْ وَيُعَظِّمُونَهُمْ وَيَنْصُرُونَهُمْ، وَلَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ فِي وَحْدَةِ الْوُجُودِ؛ وَأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ. فَمَنْ كَانَ مُسْلِمًا فِي الْبَاطِنِ وَهُوَ جَاهِلٌ مُعَظِّمٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَابْنِ الْفَارِضِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الِاتِّحَادِ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَكَذَا مَنْ كَانَ مُعَظِّمًا لِلْقَائِلَيْنِ بِمَذْهَبِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فَإِنَّ نِسْبَةَ هَؤُلَاءِ إلَى الْجَهْمِيَّةِ كَنِسْبَةِ أُولَئِكَ إلَى الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْقَرَامِطَةَ أَكْفَرُ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ

مسألة في النصيرية القائلين باستحلال الخمر وتناسخ الأرواح وقدم العالم

بِكَثِيرٍ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَحْسَنُ حَالِ عَوَامِّهِمْ أَنْ يَكُونُوا رَافِضَةً جَهْمِيَّةً. وَأَمَّا الِاتِّحَادِيَّةُ فَفِي عَوَامِّهِمْ مَنْ لَيْسَ بِرَافِضِيٍّ وَلَا جَهْمِيٍّ صَرِيحٍ؛ وَلَكِنْ لَا يَفْهَمُ كَلَامَهُمْ؛ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ كَلَامَهُمْ كَلَامُ الْأَوْلِيَاءِ الْمُحَقِّقِينَ. وَبَسْطُ هَذَا الْجَوَابِ لَهُ مَوَاضِعُ غَيْرُ هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي النُّصَيْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِاسْتِحْلَالِ الْخَمْرِ وَتَنَاسُخِ الْأَرْوَاحِ وَقِدَمِ الْعَالَمِ] 755 - 109 مَسْأَلَةٌ: مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، وَأَعَانَهُمْ عَلَى إظْهَارِ الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَإِخْمَادِ شَغَبِ الْمُبْطِلِينَ: فِي " النُّصَيْرِيَّةِ " الْقَائِلِينَ بِاسْتِحْلَالِ الْخَمْرِ، وَتَنَاسُخِ الْأَرْوَاحِ، وَقِدَمِ الْعَالَمِ، وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي غَيْرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَبِأَنَّ " الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ " عِبَارَةٌ عَنْ خَمْسَةِ أَسْمَاءٍ، وَهِيَ: عَلِيٌّ، وَحَسَنٌ، وَحُسَيْنٌ، وَمُحْسِنٍ، وَفَاطِمَةٌ. فَذَكَرَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْخَمْسَةَ عَلَى رَأْيِهِمْ يُجْزِيهِمْ عَنْ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ، وَالْوُضُوءِ وَبَقِيَّةِ شُرُوطِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَةِ وَوَاجِبَاتِهَا. وَبِأَنَّ " الصِّيَامَ " عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ اسْمِ ثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَاسْمُ ثَلَاثِينَ امْرَأَةً، يُعِدُّونَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ، وَيَضِيقُ هَذَا الْمَوْضِعُ عَنْ إبْرَازِهِمْ؛ وَبِأَنَّ إلَهَهُمْ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَهُوَ عِنْدَهُمْ الْإِلَهُ فِي السَّمَاءِ، وَالْإِمَامُ فِي الْأَرْضِ، فَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ظُهُورِ اللَّاهُوتِ بِهَذَا النَّاسُوتِ عَلَى رَأْيِهِمْ أَنْ يُؤَنِّسَ خَلْقَهُ وَعَبِيدَهُ؛ لِيُعَلِّمَهُمْ كَيْفَ يَعْرِفُونَهُ وَيَعْبُدُونَهُ. وَبِأَنَّ النُّصَيْرِيَّ عِنْدَهُمْ لَا يَصِيرُ نُصَيْرِيًّا مُؤْمِنًا يُجَالِسُونَهُ، وَيَشْرَبُونَ مَعَهُ الْخَمْرَ، وَيُطْلِعُونَهُ عَلَى أَسْرَارِهِمْ، وَيُزَوِّجُونَهُ مِنْ نِسَائِهِمْ: حَتَّى يُخَاطِبَهُ مُعَلِّمُهُ. وَحَقِيقَةُ الْخِطَابِ عِنْدَهُمْ أَنْ يُحَلِّفُوهُ عَلَى كِتْمَانِ دِينِهِ، وَمَعْرِفَةِ مَشَايِخِهِ، وَأَكَابِرِ أَهْلِ مَذْهَبِهِ؛ وَعَلَى أَنْ لَا يَنْصَحَ مُسْلِمًا وَلَا غَيْرَهُ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ، وَعَلَى أَنْ يَعْرِفَ رَبَّهُ وَإِمَامَهُ بِظُهُورِهِ فِي أَنْوَارِهِ وَأَدْوَارِهِ، فَيُعَرِّفَهُ انْتِقَالَ الِاسْمِ وَالْمَعْنَى فِي كُلِّ حِينٍ وَزَمَانٍ. فَالِاسْمُ عِنْدَهُمْ فِي أَوَّلِ النَّاسِ آدَمَ وَالْمَعْنَى هُوَ شِيثٌ، وَالِاسْمُ يَعْقُوبُ، وَالْمَعْنَى هُوَ يُوسُفُ. وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ كَمَا يَزْعُمُونَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ حِكَايَةً عَنْ يَعْقُوبَ وَيُوسُفَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَيَقُولُونَ: أَمَّا يَعْقُوبُ فَإِنَّهُ كَانَ الِاسْمَ، فَمَا قَدَرَ أَنْ يَتَعَدَّى مَنْزِلَتَهُ فَقَالَ: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98] وَأَمَّا يُوسُفُ فَكَانَ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبَ فَقَالَ: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92] فَلَمْ يُعَلِّقْ الْأَمْرَ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ الْإِلَهُ الْمُتَصَرِّفُ، وَيَجْعَلُونَ مُوسَى هُوَ الِاسْمُ، وَيُوشَعُ هُوَ الْمَعْنَى وَيَقُولُونَ: يُوشَعُ رُدَّتْ لَهُ

الشَّمْسُ لَمَّا أَمَرَهَا فَأَطَاعَتْ أَمْرَهُ؛ وَهَلْ تَرُدُّ الشَّمْسُ إلَّا لِرَبِّهَا؟ ، وَيَجْعَلُونَ سُلَيْمَانَ هُوَ الِاسْمُ، وَآصَفُ هُوَ الْمَعْنَى الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ. وَيَقُولُونَ: سُلَيْمَانَ عَجَزَ عَنْ إحْضَارِ عَرْشِ بِلْقِيسَ، وَقَدَرَ عَلَيْهِ آصَفُ لِأَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ الصُّورَةَ، وَآصَفُ كَانَ الْمَعْنَى الْقَادِرَ الْمُقْتَدِرَ، وَقَدْ قَالَ قَائِلُهُمْ: هَابِيلُ شِيثٌ يُوسُفُ يُوشَعُ ... آصَفُ شَمْعُونُ الصَّفَا حَيْدَرُ وَيَعُدُّونَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ وَاحِدًا وَاحِدًا عَلَى هَذَا النَّمَطِ إلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ هُوَ الِاسْمُ، وَعَلِيٌّ هُوَ الْمَعْنَى، وَيُوَصِّلُونَ الْعَدَدَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فِي كُلِّ زَمَانٍ إلَى وَقْتِنَا هَذَا. فَمِنْ حَقِيقَةِ الْخِطَابِ فِي الدِّينِ عِنْدَهُمْ أَنَّ عَلِيًّا هُوَ الرَّبُّ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الْحِجَابُ، وَأَنَّ سَلْمَانَ هُوَ الْبَابُ، وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَكَابِرِ رُؤَسَائِهِمْ وَفُضَلَائِهِمْ لِنَفْسِهِ فِي شُهُورِ السَّنَةِ سَبْعَ مِائَةٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا ... حَيْدَرَةُ الْأَنْزَعُ الْبَطِينُ وَلَا حِجَابَ عَلَيْهِ إلَّا ... مُحَمَّدٌ الصَّادِقُ الْأَمِينُ وَلَا طَرِيقَ إلَيْهِ إلَّا ... سَلْمَانُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ وَيَقُولُونَ: إنَّ ذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، وَكَذَلِكَ الْخَمْسَةُ الْأَيْتَامُ، وَالِاثْنَا عَشَرَ نَقِيبًا، وَأَسْمَاؤُهُمْ مَشْهُورَةٌ عِنْدَهُمْ، وَمَعْلُومَةٌ مِنْ كُتُبِهِمْ الْخَبِيثَةِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ يَظْهَرُونَ مَعَ الرَّبِّ وَالْحِجَابِ وَالْبَابِ فِي كُلِّ كَوْرٍ وَدَوْرٍ أَبَدًا سَرْمَدًا عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ، وَيَقُولُونَ: إنَّ إبْلِيسَ الْأَبَالِسَةِ هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيَلِيهِ فِي رُتْبَةِ الْإِبْلِيسِيَّةِ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ ثُمَّ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - وَشَرَّفَهُمْ وَأَعْلَى رُتَبَهُمْ عَنْ أَقْوَالِ الْمُلْحِدِينَ وَانْتِحَالِ أَنْوَاعِ الضَّالِّينَ وَالْمُفْسِدِينَ - فَلَا يَزَالُونَ مَوْجُودِينَ فِي كُلِّ وَقْتٍ دَائِمًا حَسْبَمَا ذَكَرَ مِنْ التَّرْتِيبِ. وَلِمَذَاهِبِهِمْ الْفَاسِدَةِ شُعَبٌ وَتَفَاصِيلُ تَرْجِعُ إلَى هَذِهِ الْأُصُولِ الْمَذْكُورَةِ. وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الْمَلْعُونَةُ اسْتَوْلَتْ عَلَى جَانِبٍ كَبِيرٍ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ [وَهُمْ] مَعْرُوفُونَ مَشْهُورُونَ مُتَظَاهِرُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ، وَقَدْ حَقَّقَ أَحْوَالَهُمْ كُلُّ مَنْ خَالَطَهُمْ وَعَرَفَهُمْ مِنْ عُقَلَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ، وَمِنْ عَامَّةِ النَّاسِ أَيْضًا فِي هَذَا الزَّمَانِ؛ لِأَنَّ

أَحْوَالَهُمْ كَانَتْ مَسْتُورَةً عَنْ أَكْثَرِ النَّاسِ وَقْتَ اسْتِيلَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْمَخْذُولِينَ عَلَى الْبِلَادِ السَّاحِلِيَّةِ؛ فَلَمَّا جَاءَتْ أَيَّامُ الْإِسْلَامِ انْكَشَفَ حَالُهُمْ وَظَهَرَ ضَلَالُهُمْ. وَالِابْتِلَاءُ بِهِمْ كَثِيرٌ جِدًّا. فَهَلْ يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُزَوِّجَهُمْ، أَوْ يَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ؟ وَهَلْ يَحِلُّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، أَمْ لَا؟ وَمَا حُكْمُ الْجُبْنِ الْمَعْمُولِ مِنْ إِنْفَحَةِ ذَبِيحَتِهِمْ وَمَا حُكْمُ أَوَانِيهِمْ وَمَلَابِسِهِمْ؟ وَهَلْ يَجُوزُ دَفْنُهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، أَمْ لَا وَهَلْ يَجُوزُ اسْتِخْدَامُهُمْ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ وَتَسْلِيمِهَا إلَيْهِمْ؟ أَمْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ قَطْعُهُمْ وَاسْتِخْدَامُ غَيْرِهِمْ مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ الْكُفَاةِ، وَهَلْ يَأْثَمُ إذَا أَخَّرَ طَرْدَهُمْ؟ أَمْ يَجُوزُ لَهُ التَّمَهُّلُ مَعَ أَنَّ فِي عَزْمِهِ ذَلِكَ؟ وَإِذَا اسْتَخْدَمَهُمْ وَأَقْطَعَهُمْ أَوْ لَمْ يُقْطِعْهُمْ هَلْ يَجُوزُ لَهُ صَرْفُ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا صَرَفَهَا وَتَأَخَّرَ لِبَعْضِهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ مَعْلُومِهِ الْمُسَمَّى؛ فَأَخَّرَهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَنْهُ وَصَرَفَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ الْمُسْتَحِقِّينَ، أَوْ أَرْصَدَهُ لِذَلِكَ. هَلْ يَجُوزُ لَهُ فِعْلُ هَذِهِ الصُّوَرِ؟ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ؟ وَهَلْ دِمَاءُ النُّصَيْرِيَّةِ الْمَذْكُورِينَ مُبَاحَةٌ وَأَمْوَالُهُمْ حَلَالٌ، أَمْ لَا؟ وَإِذَا جَاهَدَهُمْ وَلِيُّ الْأَمْرِ أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِخْمَادِ بَاطِلِهِمْ، وَقَطَعَهُمْ مِنْ حُصُونِ الْمُسْلِمِينَ، وَحَذَّرَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ مُنَاكَحَتِهِمْ، وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ، وَأَلْزَمَهُمْ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَمَنَعَهُمْ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِمْ الْبَاطِلِ وَهُمْ الَّذِينَ يَلُونَهُ مِنْ الْكُفَّارِ؛ هَلْ ذَلِكَ أَفْضَلُ وَأَكْثَرُ أَجْرًا مِنْ التَّصَدِّي وَالتَّرَصُّدِ لِقِتَالِ التَّتَارِ فِي بِلَادِهِمْ وَهَدْمِ بِلَادِ سَيْبَسٍ وَدِيَارِ الْإِفْرِنْجِ عَلَى أَهْلِهَا؟ أَمْ هَذَا أَفْضَلُ مِنْ كَوْنِهِ يُجَاهِدُ النُّصَيْرِيَّةَ الْمَذْكُورِينَ مُرَابِطًا، وَيَكُونُ أَجْرُ مَنْ رَابَطَ فِي الثُّغُورِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ خَشْيَةَ قَصْدِ الْفِرِنْجِ أَكْبَرَ، أَمْ هَذَا أَكْبَرُ أَجْرًا؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى مَنْ عَرَفَ الْمَذْكُورِينَ وَمَذَاهِبَهُمْ أَنْ يُشْهِرَ أَمْرَهُمْ وَيُسَاعِدَ عَلَى إبْطَالِ بَاطِلِهِمْ وَإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَهُمْ، فَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَهْدِيَ بَعْضَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ مُسْلِمِينَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ الْعَظِيمِ أَمْ يَجُوزُ التَّغَافُلُ عَنْهُمْ وَالْإِهْمَالُ؟ وَمَا قَدْرُ الْمُجْتَهِدِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمُجَاهِدِ فِيهِ، وَالْمُرَابِطِ لَهُ وَالْمُلَازِمِ عَلَيْهِ؟ وَلْتَبْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مُثَابِينَ مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ

الْعَالَمِينَ. هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الْمُسَمَّوْنَ بِالنُّصَيْرِيَّةِ هُمْ وَسَائِرُ أَصْنَافِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ بَلْ وَأَكْفَرُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَضَرَرُهُمْ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ مِثْلُ كُفَّارِ التَّتَارِ وَالْفِرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَتَظَاهَرُونَ عِنْدَ جُهَّالِ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّشَيُّعِ، وَمُوَالَاةِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ، وَلَا بِرَسُولِهِ وَلَا بِكِتَابِهِ، وَلَا بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، وَلَا ثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ، وَلَا جَنَّةٍ وَلَا نَارٍ وَلَا بِأَحَدٍ مِنْ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا بِمِلَّةٍ مِنْ الْمِلَلِ السَّالِفَةِ بَلْ يَأْخُذُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى أُمُورٍ يَفْتَرُونَهَا؛ يَدَّعُونَ أَنَّهَا عِلْمُ الْبَاطِنِ؛ مِنْ جِنْسِ مَا ذُكِرَ مِنْ السَّائِلِ، وَمَا غَيْرُ هَذَا الْجِنْسِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ حَدٌّ مَحْدُودٌ فِيمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ، وَتَحْرِيفِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ؛ إذْ مَقْصُودُهُمْ إنْكَارُ الْإِيمَانِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِكُلِّ طَرِيقٍ مَعَ التَّظَاهُرِ بِأَنَّ لِهَذِهِ الْأُمُورِ حَقَائِقَ يَعْرِفُونَهَا مِنْ جِنْسِ مَا ذَكَرَ السَّائِلُ، وَمِنْ جِنْسِ قَوْلِهِمْ: أَنَّ " الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ " مَعْرِفَةُ أَسْرَارِهِمْ، " وَالصِّيَامَ الْمَفْرُوضَ " كِتَابُ أَسْرَارِهِمْ " وَحَجَّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ " زِيَارَةُ شُيُوخِهِمْ، وَأَنَّ {يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] هُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَأَنَّ الْبِنَاءَ الْعَظِيمَ وَالْإِمَامَ الْمُبِينَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: وَلَهُمْ فِي مُعَادَاةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَقَائِعُ مَشْهُورَةٌ وَكُتُبٌ مُصَنَّفَةٌ، فَإِذَا كَانَتْ لَهُمْ مُكْنَةٌ سَفَكُوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ؛ كَمَا قَتَلُوا مَرَّةً الْحُجَّاجَ وَأَلْقَوْهُمْ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ، وَأَخَذُوا مَرَّةً الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَبَقِيَ عِنْدَهُمْ مُدَّةً، وَقَتَلُوا مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَشَايِخِهِمْ مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَصَنَّفُوا كُتُبًا كَثِيرَةً مِمَّا ذَكَرَهُ السَّائِلُ وَغَيْرُهُ، وَصَنَّفَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ كُتُبًا فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ؛ وَبَيَّنُوا فِيهَا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ، الَّذِي هُمْ بِهِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمِنْ بَرَاهِمَةِ الْهِنْدِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ. وَمَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ فِي وَصْفِهِمْ قَلِيلٌ مِنْ الْكَثِيرِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْعُلَمَاءُ فِي وَصْفِهِمْ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ عِنْدَنَا أَنَّ السَّوَاحِلَ الشَّامِيَّةَ إنَّمَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا النَّصَارَى مِنْ جِهَتِهِمْ، وَهُمْ دَائِمًا مَعَ كُلِّ عَدُوٍّ لِلْمُسْلِمِينَ؛ فَهُمْ مَعَ النَّصَارَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ عِنْدَهُمْ فَتْحُ الْمُسْلِمِينَ لِلسَّوَاحِلِ، وَانْقِهَارِ النَّصَارَى؛ بَلْ وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ عِنْدَهُمْ انْتِصَارُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّتَارِ. وَمِنْ أَعْظَمِ أَعْيَادِهِمْ إذَا اسْتَوْلَى - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى - النَّصَارَى عَلَى ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ مَا زَالَتْ

بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى جَزِيرَةُ قُبْرُصَ يَسَّرَ اللَّهُ فَتْحَهَا عَنْ قَرِيبٍ، وَفَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ " عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَتَحَهَا " مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ " إلَى أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ. فَهَؤُلَاءِ الْمُحَادُّونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ كَثُرُوا حِينَئِذٍ بِالسَّوَاحِلِ وَغَيْرِهَا فَاسْتَوْلَى النَّصَارَى عَلَى السَّاحِلِ؛ ثُمَّ بِسَبَبِهِمْ اسْتَوْلَوْا عَلَى الْقُدْسِ الشَّرِيفِ وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ أَحْوَالَهُمْ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي ذَلِكَ؛ ثُمَّ لَمَّا أَقَامَ اللَّهُ مُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى " كَنُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ، وَصَلَاحِ الدِّينِ " وَأَتْبَاعِهِمَا؛ وَفَتَحُوا السَّوَاحِلَ مِنْ النَّصَارَى، وَمِمَّنْ كَانَ بِهَا مِنْهُمْ، وَفَتَحُوا أَيْضًا أَرْضَ مِصْرَ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَوْلِينَ عَلَيْهَا نَحْوَ مِائَتَيْ سَنَةٍ، وَاتَّفَقُوا هُمْ وَالنَّصَارَى، فَجَاهَدَهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى فَتَحُوا الْبِلَادَ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّارِيخِ انْتَشَرَتْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ. ثُمَّ إنَّ التَّتَارَ مَا دَخَلُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ وَقَتَلُوا خَلِيفَةَ بَغْدَادَ وَغَيْرَهُ مِنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ لَا بِمُعَاوَنَتِهِمْ وَمُؤَازَرَتِهِمْ؛ فَإِنَّ مُنَجِّمَ هُولَاكُو الَّذِي كَانَ وَزِيرَهُمْ وَهُوَ " النُّصَيْرُ الطُّوسِيُّ " كَانَ وَزِيرًا لَهُمْ بِالْأَلْمُوتِ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ بِقَتْلِ الْخَلِيفَةِ وَبِوِلَايَةِ هَؤُلَاءِ. وَلَهُمْ " أَلْقَابٌ " مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ تَارَةً يُسَمَّوْنَ " الْمَلَاحِدَةَ " وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ " الْقَرَامِطَةَ " وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ " الْبَاطِنِيَّةَ " وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ " الْإِسْمَاعِيلِيَّة " وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ " النُّصَيْرِيَّةَ " وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ " الخرمية "، وَتَارَةً يُسَمَّوْنَ " الْمُحَرِّمَةَ " وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ مِنْهَا مَا يَعُمُّهُمْ، وَمِنْهَا مَا يَخُصُّ بَعْضَ أَصْنَافِهِمْ، كَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ يَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ وَلِبَعْضِهِمْ اسْمٌ يَخُصُّهُ إمَّا لِنَسَبٍ، وَإِمَّا لِمَذْهَبٍ، وَإِمَّا لِبَلَدٍ، وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَشَرْحُ مَقَاصِدِهِمْ يَطُولُ، وَهُمْ كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمْ: ظَاهِرُ مَذْهَبِهِمْ الرَّفْضُ، وَبَاطِنُهُ الْكُفْرُ الْمَحْضُ. وَحَقِيقَةُ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِنَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؛ لَا بِنُوحٍ، وَلَا إبْرَاهِيمَ، وَلَا مُوسَى، وَلَا عِيسَى وَلَا مُحَمَّدٍ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ -، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ، لَا التَّوْرَاةِ، وَلَا الْإِنْجِيلِ، وَلَا الْقُرْآنِ. وَلَا يُقِرُّونَ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ خَالِقًا خَلَقَهُ وَلَا بِأَنَّ لَهُ دِينًا أَمَرَ بِهِ، وَلَا أَنَّ لَهُ دَارًا يَجْزِي النَّاسَ فِيهَا عَلَى أَعْمَالِهِمْ عَلَى هَذِهِ الدَّارِ. وَهُمْ تَارَةً يَبْنُونَ قَوْلَهُمْ عَلَى مَذَاهِبِ الْفَلَاسِفَةِ الطَّبِيعِيِّينَ أَوْ الْإِلَهِيِّينَ، وَتَارَةً يَبْنُونَهُ عَلَى قَوْلِ الْمَجُوسِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ النُّورَ، وَيَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ الرَّفْضَ.

وَيَحْتَجُّونَ لِذَلِكَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّاتِ: إمَّا بِقَوْلٍ مَكْذُوبٍ يَنْقُلُونَهُ، كَمَا يَنْقُلُونَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ» وَالْحَدِيثُ. مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ؛ وَلَفْظُهُ «إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الْعَقْلَ، فَقَالَ لَهُ: أَقْبِلْ، فَأَقْبَلَ. فَقَالَ لَهُ: أَدْبِرْ، فَأَدْبَرَ» فَيُحَرِّفُونَ لَفْظَهُ فَيَقُولُونَ «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ» ، لِيُوَافِقُوا قَوْلَ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَتْبَاعِ أَرِسْطُو فِي أَنَّ أَوَّلَ الصَّادِرَاتِ عَنْ وَاجِبِ الْوُجُودِ هُوَ الْعَقْلُ. وَإِمَّا بِلَفْظٍ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُحَرِّفُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ، كَمَا يَصْنَعُ أَصْحَابُ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَنَحْوُهُمْ، فَإِنَّهُمْ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ. وَقَدْ دَخَلَ كَثِيرٌ مِنْ بَاطِلِهِمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَرَاجَ عَلَيْهِمْ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ طَوَائِفَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ؛ وَإِنْ كَانُوا لَا يُوَافِقُونَهُمْ عَلَى أَصْلِ كُفْرِهِمْ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ فِي إظْهَارِ دَعْوَتِهِمْ الْمَلْعُونَةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا " الدَّعْوَةَ الْهَادِيَةَ " دَرَجَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَيُسَمُّونَ النِّهَايَةَ " الْبَلَاغَ الْأَكْبَرَ، وَالنَّامُوسَ الْأَعْظَمَ " وَمَضْمُونُ الْبَلَاغِ الْأَكْبَرِ جَحْدُ الْخَالِقِ تَعَالَى؛ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِ، وَبِمَنْ يُقِرُّ بِهِ، حَتَّى قَدْ يَكْتُبُ أَحَدُهُمْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَسْفَلِ رِجْلِهِ، وَفِيهِ أَيْضًا جَحْدُ شَرَائِعِهِ وَدِينِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَدَعْوَى أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ جِنْسِهِمْ طَالِبِينَ لِلرِّئَاسَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَحْسَنَ فِي طَلَبِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَسَاءَ فِي طَلَبِهَا حَتَّى قُتِلَ، وَيَجْعَلُونَ مُحَمَّدًا وَمُوسَى مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَيَجْعَلُونَ الْمَسِيحَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي. وَفِيهِ مِنْ الِاسْتِهْزَاءِ بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ وَمِنْ تَحْلِيلِ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَسَائِرِ الْفَوَاحِشِ: مَا يَطُولُ وَصْفُهُ. وَلَهُمْ إشَارَاتٌ وَمُخَاطَبَاتٌ يَعْرِفُ بِهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَهُمْ إذَا كَانُوا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ فَقَدْ يَخْفَوْنَ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُمْ، وَأَمَّا إذَا كَثُرُوا فَإِنَّهُ يَعْرِفُهُمْ عَامَّةُ النَّاسِ فَضْلًا عَنْ خَاصَّتِهِمْ. وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا تَجُوزُ مُنَاكَحَتُهُمْ؛ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ مَوْلَاتَهُ مِنْهُمْ، وَلَا يَتَزَوَّجُ مِنْهُمْ امْرَأَةً، وَلَا تُبَاحُ ذَبَائِحُهُمْ. وَأَمَّا الْجُبْنُ الْمَعْمُولُ بِإِنْفَحَتِهِمْ " فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ، كَسَائِرِ إِنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ، وَكَإِنْفَحَةِ ذَبِيحَةِ الْمَجُوسِ. وَذَبِيحَةِ الْفِرِنْجِ الَّذِينَ يُقَالُ عَنْهُمْ: إنَّهُمْ لَا يُذَكُّونَ الذَّبَائِحَ. فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ يَحِلُّ هَذَا الْجُبْنُ؛ لِأَنَّ إِنْفَحَةَ الْمَيْتَةِ طَاهِرَةٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَحَةَ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ الْبَهِيمَةِ، وَمُلَاقَاةُ

الْوِعَاءِ النَّجِسِ فِي الْبَاطِنِ لَا يَنْجَسُ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ هَذَا الْجُبْنَ نَجِسٌ لِأَنَّ الْإِنْفَحَةَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ نَجِسَةٌ؛ لِأَنَّ لَبَنَ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتَهَا عِنْدَهُمْ نَجِسٌ. وَمَنْ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ فَذَبِيحَتُهُ كَالْمَيْتَةِ. وَكُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْقَوْلَيْنِ يَحْتَجُّ بِآثَارٍ يَنْقُلُهَا عَنْ الصَّحَابَةِ فَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ نَقَلُوا أَنَّهُمْ أَكَلُوا جُبْنَ الْمَجُوسِ. وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّانِي نَقَلُوا أَنَّهُمْ أَكَلُوا مَا كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ مِنْ جُبْنِ النَّصَارَى. فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ اجْتِهَادٍ؛ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ يُفْتِي بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَأَمَّا " أَوَانِيهِمْ وَمَلَابِسِهِمْ " فَكَأَوَانِي الْمَجُوسِ وَمَلَابِسِ الْمَجُوسِ، عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ. وَالصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَوَانِيَهُمْ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا بَعْدَ غَسْلِهَا؛ فَإِنَّ ذَبَائِحَهُمْ مَيْتَةٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَ أَوَانِيَهُمْ الْمُسْتَعْمَلَةَ مَا يَطْبُخُونَهُ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ فَتَنْجَسُ بِذَلِكَ، فَأَمَّا الْآنِيَةُ الَّتِي لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ وُصُولُ النَّجَاسَةِ إلَيْهَا فَتُسْتَعْمَلُ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ كَآنِيَةِ اللَّبَنِ الَّتِي لَا يَضَعُونَ فِيهَا طَبِيخَهُمْ، أَوْ يَغْسِلُونَهَا قَبْلَ وَضْعِ اللَّبَنِ فِيهَا، وَقَدْ تَوَضَّأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ. فَمَا شَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ لَمْ يَحْكُمْ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ. وَلَا يَجُوزُ دَفْنُهُمْ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَهَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ: كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَنَحْوِهِ؛ وَكَانُوا يَتَظَاهَرُونَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْجِهَادِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلَا يُظْهِرُونَ مَقَالَةً تُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ؛ لَكِنْ يُسِرُّونَ ذَلِكَ، فَقَالَ اللَّهُ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] فَكَيْفَ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مَعَ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ يُظْهِرُونَ الْكُفْرَ وَالْإِلْحَادَ. وَأَمَّا اسْتِخْدَامُ مِثْلِ هَؤُلَاءِ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ حُصُونِهِمْ أَوْ جُنْدِهِمْ فَإِنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ. وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَسْتَخْدِمُ الذِّئَابَ لِرَعْيِ الْغَنَمِ: فَإِنَّهُمْ مِنْ أَغَشِّ النَّاسِ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِوُلَاةِ أُمُورِهِمْ، وَهُمْ أَحْرَصُ النَّاسِ عَلَى فَسَادِ الْمَمْلَكَةِ وَالدَّوْلَةِ وَهُمْ شَرٌّ مِنْ الْمُخَامِرِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْعَسْكَرِ؛ فَإِنَّ الْمُخَامِرَ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ: إمَّا مَعَ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ، وَإِمَّا مَعَ الْعَدُوِّ. وَهَؤُلَاءِ مَعَ الْمِلَّةِ، نَبِيِّهَا وَدِينِهَا، وَمُلُوكِهَا؛ وَعُلَمَائِهَا، وَعَامَّتِهَا، وَخَاصَّتِهَا، وَهُمْ أَحْرَصُ النَّاسِ عَلَى تَسْلِيمِ الْحُصُونِ إلَى عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى إفْسَادِ الْجُنْدِ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ، وَإِخْرَاجِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِ.

وَالْوَاجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ قَطْعُهُمْ مِنْ دَوَاوِينِ الْمُقَاتِلَةِ فَلَا يُتْرَكُونَ فِي ثَغْرٍ، وَلَا فِي غَيْرِ ثَغْرٍ؛ فَإِنَّ ضَرَرَهُمْ فِي الثَّغْرِ أَشَدُّ، وَأَنْ يَسْتَخْدِمَ بَدَلَهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِخْدَامِهِ مِنْ الرِّجَالِ الْمَأْمُونِينَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى النُّصْحِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ؛ بَلْ إذَا كَانَ وَلِيُّ الْأَمْرِ لَا يَسْتَخْدِمُ مَنْ يَغُشُّهُ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَكَيْفَ بِمَنْ يَغُشُّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ؟ ،، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُ هَذَا الْوَاجِبِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ؛ بَلْ أَيُّ وَقْتٍ قَدَرَ عَلَى الِاسْتِبْدَالِ بِهِمْ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَأَمَّا إذَا اُسْتُخْدِمُوا وَعَمِلُوا الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِمْ فَلَهُمْ إمَّا الْمُسَمَّى وَإِمَّا أُجْرَةُ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُمْ عُوقِدُوا عَلَى ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا وَجَبَ الْمُسَمَّى وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا وَجَبَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اسْتِخْدَامُهُمْ مِنْ جِنْسِ الْإِجَارَةِ اللَّازِمَةِ فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْجَعَالَةِ الْجَائِزَةِ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَجُوزُ اسْتِخْدَامُهُمْ، فَالْعَقْدُ عَقْدٌ فَاسِدٌ، فَلَا يَسْتَحِقُّونَ إلَّا قِيمَةَ عَمَلِهِمْ. فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَمِلُوا عَمَلًا لَهُ قِيمَةٌ فَلَا شَيْءَ لَهُمْ؛ لَكِنْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ مُبَاحَةٌ. وَإِذَا أَظْهَرُوا التَّوْبَةَ فَفِي قَبُولِهَا مِنْهُمْ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؛ فَمَنْ قَبِلَ تَوْبَتَهُمْ إذَا الْتَزَمُوا شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ أَقَرَّ أَمْوَالَهُمْ عَلَيْهِمْ. وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْهَا لَمْ تُنْقَلْ إلَى وَرَثَتِهِمْ مِنْ جِنْسِهِمْ؛ فَإِنَّ مَالَهُمْ يَكُونُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لَكِنْ هَؤُلَاءِ إذَا أُخِذُوا فَإِنَّهُمْ يُظْهِرُونَ التَّوْبَةَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ مَذْهَبِهِمْ التَّقِيَّةُ وَكِتْمَانُ أَمْرِهِمْ، وَفِيهِمْ مَنْ يُعْرَفُ، وَفِيهِمْ مَنْ قَدْ لَا يُعْرَفُ. فَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُحْتَاطَ فِي أَمْرِهِمْ، فَلَا يُتْرَكُونَ مُجْتَمِعِينَ، وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ حَمْلِ السِّلَاحِ، وَلَا أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، وَيُلْزَمُونَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ: مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَيُتْرَكُ بَيْنَهُمْ مَنْ يُعَلِّمُهُمْ دِينَ الْإِسْلَامِ، وَيُحَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُعَلِّمِهِمْ. فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسَائِرَ الصَّحَابَةِ لَمَّا ظَهَرُوا عَلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَجَاءُوا إلَيْهِ، قَالَ لَهُمْ الصِّدِّيقُ: اخْتَارُوا إمَّا الْحَرْبَ الْمُجْلِيَةَ، وَإِمَّا السِّلْمَ الْمُخْزِيَةَ. قَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، هَذِهِ الْحَرْبُ الْمُجْلِيَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا السِّلْمُ الْمُخْزِيَةُ؟ قَالَ: تَدُونَ قَتْلَانَا، وَلَا نَدِي قَتْلَاكُمْ، وَتَشْهَدُونَ أَنَّ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ، وَنَقْسِمُ مَا أَصَبْنَا مِنْ أَمْوَالِكُمْ، وَتَرُدُّونَ مَا أَصَبْتُمْ مِنْ أَمْوَالِنَا، وَتُنْزَعُ مِنْكُمْ الْحَلْقَةُ

وَالسِّلَاحُ، وَتُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ. وَتُتْرَكُونَ تَتَّبِعُونَ أَذْنَابَ الْإِبِلِ حَتَّى يُرِيَ اللَّهُ خَلِيفَةَ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَمْرًا بَعْدَ رِدَّتِكُمْ. فَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ؛ إلَّا فِي تَضْمِينِ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَهُ: هَؤُلَاءِ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ. يَعْنِي هُمْ شُهَدَاءُ فَلَا دِيَةَ لَهُمْ، فَاتَّفَقُوا عَلَى قَوْلِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا الَّذِي اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ هُوَ مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَاَلَّذِي تَنَازَعُوا فِيهِ تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ. فَمَذْهَبُ أَكْثَرِهِمْ أَنَّ مَنْ قَتَلَهُ الْمُرْتَدُّونَ الْمُجْتَمِعُونَ الْمُحَارِبُونَ لَا يُضْمَنُ؛ كَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ آخِرًا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، فَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ بِأُولَئِكَ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ عَوْدِهِمْ إلَى الْإِسْلَامِ يُفْعَلُ بِمَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَالتُّهْمَةُ ظَاهِرَةٌ فِيهِ، فَيُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ وَالدِّرْعِ الَّتِي تَلْبَسُهَا الْمُقَاتِلَةُ، وَلَا يُتْرَكُ فِي الْجُنْدِ مَنْ يَكُونُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَيُلْزَمُونَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَظْهَرَ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. وَمَنْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ ضَلَالِهِمْ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ أُخْرِجَ عَنْهُمْ، وَسُيِّرَ إلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا ظُهُورٌ. فَإِمَّا أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ عَلَى نِفَاقِهِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ لِلْمُسْلِمِينَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ جِهَادَ هَؤُلَاءِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْظَمِ الطَّاعَاتِ وَأَكْبَرِ الْوَاجِبَاتِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ جِهَادِ مَنْ لَا يُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَإِنَّ جِهَادَ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ جِهَادِ الْمُرْتَدِّينَ، وَالصِّدِّيقُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ بَدَءُوا بِجِهَادِ الْمُرْتَدِّينَ قَبْلَ جِهَادِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَإِنَّ جِهَادَ هَؤُلَاءِ حِفْظٌ لِمَا فُتِحَ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ عَنْهُ. وَجِهَادُ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ زِيَادَةِ إظْهَارِ الدِّينِ. وَحِفْظُ رَأْسِ الْمَالِ مُقَدَّمٌ عَلَى الرِّبْحِ. وَأَيْضًا فَضَرَرُ هَؤُلَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ أُولَئِكَ؛ بَلْ ضَرَرُ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ ضَرَرِ مَنْ يُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَضَرَرُهُمْ فِي الدِّينِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْمُحَارِبِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ. وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَقُومَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبِ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْتُمَ مَا يَعْرِفُهُ مِنْ أَخْبَارِهِمْ؛ بَلْ يُفْشِيَهَا وَيُظْهِرَهَا لِيَعْرِفَ الْمُسْلِمُونَ حَقِيقَةَ حَالِهِمْ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُعَاوِنَهُمْ عَلَى بَقَائِهِمْ فِي الْجُنْدِ وَالْمُسْتَخْدِمِينَ، وَلَا

يَحِلُّ لِأَحَدٍ السُّكُوتُ عَنْ الْقِيَامِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْهَى عَنْ الْقِيَامِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] وَهَؤُلَاءِ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. وَالْمُعَاوِنُ عَلَى كَفِّ شَرِّهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ هُوَ هِدَايَتُهُمْ: كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ كُنْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ مِنْ الْقُيُودِ وَالسَّلَاسِلِ حَتَّى تُدْخِلُوهُمْ الْإِسْلَامَ. فَالْمَقْصُودُ بِالْجِهَادِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ هِدَايَةُ الْعِبَادِ لِمَصَالِحِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ سَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يَهْتَدِ كَفَّ اللَّهُ ضَرَرَهُ عَنْ غَيْرِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجِهَادَ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ. وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ: هُوَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى» وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمِائَةَ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ إلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ. أَعَدَّهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ» وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا مَاتَ مُجَاهِدًا وَجَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَمِنَ الْفِتْنَةَ. وَالْجِهَادُ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19] {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 20] {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 21] {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 22] . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

مسألة الدرزية والنصيرية ما حكمهم

[مَسْأَلَة الدُّرْزِيَّةِ وَالنُّصَيْرِيَّةِ مَا حُكْمُهُمْ] سُئِلَ: عَنْ " الدُّرْزِيَّةِ " " وَالنُّصَيْرِيَّةِ ": مَا حُكْمُهُمْ؟ أَجَابَ: هَؤُلَاءِ الدُّرْزِيَّةُ وَالنُّصَيْرِيَّةُ كُفَّارٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، لَا يَحِلُّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ، وَلَا نِكَاحُ نِسَائِهِمْ؛ بَلْ وَلَا يَقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ؛ فَإِنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، لَيْسُوا مُسْلِمِينَ؛ وَلَا يَهُودَ، وَلَا نَصَارَى، لَا يُقِرُّونَ بِوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلَا وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ، وَلَا وُجُوبِ الْحَجِّ؛ وَلَا تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهِمَا. وَإِنْ أَظْهَرُوا الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ هَذِهِ الْعَقَائِدِ فَهُمْ كُفَّارٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. فَأَمَّا " النُّصَيْرِيَّةُ " فَهُمْ أَتْبَاعُ أَبِي شُعَيْبٍ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، وَكَانَ مِنْ الْغُلَاةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ عَلِيًّا إلَهٌ، وَهُمْ يُنْشِدُونَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا ... حَيْدَرَةُ الْأَنْزَعُ الْبَطِينُ وَلَا حِجَابَ عَلَيْهِ إلَّا ... مُحَمَّدٌ الصَّادِقُ الْأَمِينُ وَلَا طَرِيقَ إلَيْهِ إلَّا ... سَلْمَانُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينِ وَأَمَّا " الدُّرْزِيَّةُ " فَأَتْبَاعُ هشتكين الدَّرْزِيّ؛ وَكَانَ مِنْ مَوَالِي الْحَاكِمِ أَرْسَلَهُ إلَى أَهْلِ وَادِي تَيْمِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَدَعَاهُمْ إلَى إِلَهِيَّة الْحَاكِمِ، وَيُسَمُّونَهُ " الْبَارِيَ، الْعَلَّامَ " وَيَحْلِفُونَ بِهِ، وَهُمْ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة الْقَائِلِينَ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ نَسَخَ شَرِيعَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُمْ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ الْغَالِيَّةِ، يَقُولُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، وَإِنْكَارِ الْمَعَادِ، وَإِنْكَارِ وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ وَمُحَرَّمَاتِهِ وَهُمْ مِنْ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَغَايَتُهُمْ أَنْ يَكُونُوا " فَلَاسِفَةً " عَلَى مَذْهَبِ أَرِسْطُو وَأَمْثَالِهِ أَوْ " مَجُوسًا ". وَقَوْلُهُمْ مُرَكَّبٌ مِنْ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمَجُوس، وَيُظْهِرُوا التَّشَيُّعَ نِفَاقًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ طَائِفَة كَانُوا يَرَوْنَ مَذْهَبَ النُّصَيْرِيَّةِ] 757 - 111 - مَسْأَلَةٌ: فِي طَائِفَةٍ مِنْ رَعِيَّةِ الْبِلَادِ كَانُوا يَرَوْنَ مَذْهَبَ النُّصَيْرِيَّةِ، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ إلَهٌ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، يَعْنُونَ الْمَهْدِيَّ، وَأَمَرُوا مَنْ وَجَدَهُ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَأَعْلَنُوا بِالْكُفْرِ بِذَلِكَ، وَسَبِّ الصَّحَابَةِ، وَأَظْهَرُوا الْخُرُوجَ عَنْ

الطَّاعَةِ، وَعَزَمُوا عَلَى الْمُحَارَبَةِ، فَهَلْ يَجِبُ قِتَالُهُمْ وَقَتْلُ مُقَاتِلَتِهِمْ، وَهَلْ تُبَاحُ ذَرَارِيُّهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَؤُلَاءِ يَجِبُ قِتَالُهُمْ مَا دَامُوا مُمْتَنِعِينَ حَتَّى يَلْتَزِمُوا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ النُّصَيْرِيَّةَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كُفْرًا بِدُونِ اتِّبَاعِهِمْ لِمِثْلِ هَذَا الدَّجَّالِ، فَكَيْفَ إذَا اتَّبَعُوا مِثْلَ هَذَا الدَّجَّالِ. وَهُمْ مُرْتَدُّونَ مِنْ أَسْوَإِ النَّاسِ رِدَّةً، تُقْتَلُ مُقَاتِلُهُمْ وَتَغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ. وَسَبْيُ الذُّرِّيَّةِ فِيهِ نِزَاعٌ، لَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ تُسْبَى الصِّغَارُ مِنْ أَوْلَادِ الْمُرْتَدِّينَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ سِيرَةُ الصِّدِّيقِ فِي قِتَالِ الْمُرْتَدِّينَ. وَكَذَلِكَ قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِرْقَاقِ الْمُرْتَدِّ، وَطَائِفَةٌ تَقُولُ: إنَّهَا تُسْتَرَقُّ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَطَائِفَةٌ تَقُولُ لَا تُسْتَرَقُّ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَأَنَّهُ تُسْتَرَقُّ مِنْهُنَّ الْمُرْتَدَّاتُ نِسَاءُ الْمُرْتَدِّينَ، فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ الَّتِي تَسَرَّى بِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُمُّ ابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ سَبْيِ بَنِي حَنِيفَةَ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالصَّحَابَةُ لَمَّا بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي قِتَالِهِمْ. وَالنُّصَيْرِيَّةُ لَا يَكْتُمُونَ أَمْرَهُمْ، بَلْ هُمْ مَعْرُوفُونَ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، لَا يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَلَا يَصُومُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَلَا يَحُجُّونَ الْبَيْتَ، وَلَا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ وَلَا يُقِرُّونَ بِوُجُوبِ ذَلِكَ، وَيَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ وَغَيْرَهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِلَهَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَيَقُولُونَ: نَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا ... حَيْدَرَةُ الْأَنْزَعُ الْبَطِينُ وَلَا حِجَابَ عَلَيْهِ إلَّا ... مُحَمَّدٌ الصَّادِقُ الْأَمِينُ وَلَا طَرِيقَ إلَيْهِ إلَّا ... سَلْمَانُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ وَأَمَّا إذَا لَمْ يُظْهِرُوا الرَّفْضَ، وَأَنَّ هَذَا الْكَذَّابَ هُوَ الْمَهْدِيُّ الْمُنْتَظَرُ، وَامْتَنَعُوا، فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ أَيْضًا، لَكِنْ يُقَاتَلُونَ كَمَا يُقَاتَلُ الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَمَا يُقَاتَلُ الْمُرْتَدُّونَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَهَؤُلَاءِ يُقَاتَلُونَ مَا دَامُوا مُمْتَنِعِينَ، وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، وَلَا

مسألة رجل لعن اليهود ولعن دينه وسب التوراة

تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ الَّتِي لَمْ يَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى الْقِتَالِ، وَأَمَّا مَا اسْتَعَانُوا بِهِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ خَيْلٍ وَسِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَفِي أَخْذِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ نَهَبَ عَسْكَرُهُ مَا فِي عَسْكَرِ الْخَوَارِجِ، فَإِنْ رَأَى وَلِيُّ الْأَمْرِ أَنْ يَسْتَبِيحَ مَا فِي عَسْكَرِهِمْ مِنْ الْمَالِ كَانَ هَذَا سَائِغًا. هَذَا مَا دَامُوا مُمْتَنِعِينَ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُفَرِّقَ شَمْلَهُمْ وَيَحْسِمَ مَادَّةَ شَرِّهِمْ، وَإِلْزَامُهُمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، وَقَتْلُ مَنْ أَصَرَّ عَلَى الرِّدَّةِ مِنْهُمْ، وَأَمَّا قَتْلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَبْطَنَ كُفْرًا مِنْهُ، وَهُوَ الْمُنَافِقُ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ الزِّنْدِيقَ، فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ تَابَ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَمَنْ كَانَ دَاعِيًا مِنْهُمْ إلَى الضَّلَالِ لَا يَنْكَفُّ شَرُّهُ إلَّا بِقَتْلِهِ، قُتِلَ أَيْضًا، وَإِنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ، وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ كَأَئِمَّةِ الرَّفْضِ الَّذِينَ يُضِلُّونَ النَّاسَ، كَمَا قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ غَيْلَانَ الْقَدَرِيَّ، وَالْجَعْدَ بْنَ دِرْهَمٍ وَأَمْثَالَهُمَا مِنْ الدُّعَاةِ. فَهَذَا الدَّجَّالُ يُقْتَلُ مُطْلَقًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة رَجُلٍ لَعَنَ الْيَهُودَ وَلَعَنَ دِينَهُ وَسَبَّ التَّوْرَاةَ] 758 - 112 - سُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ لَعَنَ الْيَهُودَ، وَلَعَنَ دِينَهُ، وَسَبَّ التَّوْرَاةَ: فَهَلْ يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَسُبَّ كِتَابَهُمْ، أَمْ لَا؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَلْعَنَ التَّوْرَاةَ؛ بَلْ مَنْ أَطْلَقَ لَعْنَ التَّوْرَاةِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْرِفُ أَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا: فَهَذَا يُقْتَلُ بِشَتْمِهِ لَهَا؛ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا إنْ لَعَنَ دِينَ الْيَهُودِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَلَا بَأْسَ بِهِ فِي ذَلِكَ. فَإِنَّهُمْ مَلْعُونُونَ هُمْ وَدِينُهُمْ، وَكَذَلِكَ إنْ سَبَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي عِنْدَهُمْ بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّ قَصْدَهُ ذِكْرَ تَحْرِيفِهَا مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: نُسَخُ هَذِهِ التَّوْرَاةُ مُبَدَّلَةٌ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِمَا فِيهَا. وَمَنْ عَمِلَ الْيَوْمَ بِشَرَائِعِهَا الْمُبَدَّلَةِ وَالْمَنْسُوخَةِ فَهُوَ كَافِرٌ: فَهَذَا الْكَلَامُ وَنَحْوُهُ حَقٌّ لَا شَيْءَ عَلَى قَائِلِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة رجل يفضل اليهود والنصارى على الرافضة

[مَسْأَلَة رَجُلٌ يُفَضِّلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى الرَّافِضَةِ] سُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ يُفَضِّلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى الرَّافِضَةِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. كُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ مَنْ كَفَرَ بِهِ؛ وَإِنْ كَانَ فِي الْمُؤْمِنِ بِذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْبِدْعَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِدْعَةُ الْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ أَوْ غَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كُفَّارٌ، كُفْرًا مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَالْمُبْتَدِعُ إذَا كَانَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا مُخَالِفٌ لَهُ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا بِهِ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ يَكْفُرُ فَلَيْسَ كُفْرُهُ مِثْلَ كُفْرِ مَنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مَسْأَلَة قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ] 760 - 114 - سُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَقَالَ آخَرُ: إذَا سَلَكَ الطَّرِيقَ الْحَمِيدَةَ وَاتَّبَعَ الشَّرْعَ دَخَلَ ضِمْنَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِذَا فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ وَلَمْ يُبَالِ مَا نَقَصَ مِنْ دِينِهِ وَزَادَ فِي دُنْيَاهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضِمْنِ هَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ لَهُ نَاقِلُ الْحَدِيثِ: أَنَا لَوْ فَعَلْت كُلَّ مَا لَا يَلِيقُ؛ وَقُلْت لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ: دَخَلْت الْجَنَّةَ وَلَمْ أَدْخُلْ النَّارَ؟ فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ تَلَفُّظِ الْإِنْسَانِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ بِحَالٍ فَهُوَ ضَالٌّ، مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ: فَإِنَّهُ قَدْ تَلَفَّظَ بِهَا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ، وَهُمْ كَثِيرُونَ؛ بَلْ الْمُنَافِقُونَ قَدْ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ؛ وَلَكِنْ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 142] . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} [التوبة: 53] {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8]

مسألة رجل حبس خصما له عليه دين بحكم الشرع

إلَى قَوْلِهِ {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحديد: 15] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ» ، وَلِمُسْلِمٍ «وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ؛ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ؛ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» . وَلَكِنْ إنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ؛ إذْ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ كَمَا صَحَّتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لَكِنْ مَنْ دَخَلَهَا مِنْ " فُسَّاقِ أَهْلَ الْقِبْلَةِ " مِنْ أَهْلِ السَّرِقَةِ، وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَأَكْلِ الرِّبَا وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ؛ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ إذَا عُذِّبُوا فِيهَا عَذَّبَهُمْ عَلَى قَدْرِ ذُنُوبِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ «مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إلَى كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إلَى حَقْوَيْهِ» وَمَكَثُوا فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثُوا أُخْرِجُوا بَعْدَ ذَلِكَ كَالْحِمَمِ؛ فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ الْحَيَاةُ فَيَنْبُتُونَ فِيهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مَكْتُوبٌ عَلَى رِقَابِهِمْ، هَؤُلَاءِ الْجَهَنَّمِيُّونَ عُتَقَاءُ اللَّهِ مِنْ النَّارِ " وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة رَجُلٍ حَبَسَ خَصْمًا لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِحُكْمِ الشَّرْعِ] 761 - 115 - سُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ حَبَسَ خَصْمًا لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، فَحَضَرَ إلَيْهِ رَجُلٌ يَشْفَعُ فِيهِ فَلَمْ يَقْبَلْ شَفَاعَتَهُ، فَتَخَاصَمَا بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَشَهِدَ الشَّافِعُ عَلَى الرَّجُلِ لِأَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ كَلَامٌ يَقْتَضِي الْكُفْرَ، خَافَ الرَّجُلُ غَائِلَةً ذَلِكَ، فَأُحْضِرَ إلَى حَاكِمٍ شَافِعِيٍّ، وَادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُ تَلَفَّظَ بِمَا قِيلَ عَنْهُ، وَسَأَلَ حُكْمَ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ الْحَاكِمُ لِلْخَصْمِ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَعْتَرِفْ، فَلُقِّنَ أَنْ يَعْتَرِفَ لِيَتِمَّ لَهُ الْحُكْمُ

بِصِحَّةِ إسْلَامِهِ وَحَقْنِ دَمِهِ فَاعْتَرَفَ بِأَنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْهُ جَاهِلًا بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ، وَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَتَابَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى، ثُمَّ سَأَلَ الْحَاكِمَ الْمَذْكُورَ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِإِسْلَامِهِ وَحَقْنِ دَمِهِ وَتَوْبَتِهِ وَبَقَاءِ مَالِهِ عَلَيْهِ، فَأَجَابَهُ إلَى سُؤَالِهِ، وَحَكَمَ بِإِسْلَامِهِ، وَحَقْنِ دَمِهِ، وَبَقَاءِ مَالِهِ عَلَيْهِ، وَقَبُولِ تَوْبَتِهِ وَعَزَّرَهُ تَعْزِيرَ مِثْلِهِ وَحَكَمَ بِسُقُوطِ تَعْزِيرٍ ثَانٍ عَنْهُ، وَقَضَى بِمُوجِبِ ذَلِكَ كُلِّهِ. ثُمَّ نَفَّذَ ذَلِكَ حَاكِمٌ آخَرُ حَنَفِيٌّ: فَهَلْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ صَحِيحٌ فِي جَمِيعِ مَا حُكِمَ لَهُ بِهِ، أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَفْتَقِرُ حُكْمُ الشَّافِعِيِّ إلَى حُضُورِ خَصْمٍ مِنْ جِهَةِ بَيْتِ الْمَالِ؛ أَمْ لَا؟ وَهَلْ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ بِمَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ أَخْذِ مَالِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ، أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَحِلُّ لِحَاكِمٍ آخَرَ بَعْدَ الْحُكْمِ وَالتَّنْفِيذِ الْمَذْكُورَيْنِ أَنْ يَحْكُمَ فِي مَالِهِ بِخِلَافِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ وَتَنْفِيذِهِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ ثِيَابُ وَلِيِّ الْأَمْرِ عَلَى مَنْعِ مَنْ يَتَعَرَّضُ إلَيْهِ بِأَخْذِ مَالِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ بِمَا ذُكِرَ، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. نَعَمْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ صَحِيحٌ، وَكَذَلِكَ تَنْفِيذُهُ وَلَيْسَ لِبَيْتِ الْمَالِ فِي مَالِ مِثْلِ هَذَا حَقٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلَا يَفْتَقِرُ الْحُكْمُ بِإِسْلَامِهِ وَعِصْمَةِ مَالِهِ إلَى حُضُورِ خَصْمٍ مِنْ جِهَةِ بَيْتِ الْمَالِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْحُكْمِ؛ إذْ الْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا أَسْلَمَ عُصِمَ بِإِسْلَامِهِ دَمُهُ وَمَالُهُ وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِذَلِكَ حَاكِمٌ؛ وَلَا كَلَامَ لِوَلِيِّ بَيْتِ الْمَالِ فِي مَالِ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ رِدَّتِهِ؛ بَلْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ أَيْضًا فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ مَنْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالرِّدَّةِ فَأَنْكَرَ وَتَشَهَّدَ الشَّهَادَتَيْنِ الْمُعْتَبَرَتَيْنِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يُقِرَّ بِمَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ عَدْلٌ؟ فَإِنَّهُ مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَفْتَقِرُ الْحُكْمُ بِعِصْمَةِ دَمِهِ وَمَالِهِ إلَى إقْرَارِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ: وَلَا يَحْتَاجُ عِصْمَةَ دَمٍ مِثْلُ هَذَا إلَى أَنْ يُقِرَّ ثُمَّ يُسْلِمَ بَعْدَ إخْرَاجِهِ إلَى ذَلِكَ، فَقَدْ يَكُونُ فِيهِ إلْزَامٌ لَهُ بِالْكَذِبِ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ كَفَرَ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُبْنَى عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِقْرَارِ حُكْمُ الْإِقْرَارِ الصَّحِيحِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لُقِّنَ الْإِقْرَارَ، وَأَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى فَإِنَّهُ إنَّمَا فَعَلَهُ خَوْفَ الْقَتْلِ. وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ كُفْرَ الْمُرْتَدِّ كُفْرُ سَبٍّ فَلَيْسَ فِي الْحُكَّامِ بِمَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مَنْ يَحْكُمُ بِأَنَّ مَالَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ بَعْدَ إسْلَامِهِ؛ إنَّمَا يَحْكُمُ

مَنْ يَحْكُمُ بِقَتْلِهِ لِكَوْنِهِ يُقْتَلُ حَدًّا عِنْدَهُمْ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَمَنْ قَالَ: يُقْتَلُ لِزَنْدَقَتِهِ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِمِثْلِ هَذَا الْإِقْرَارِ. وَأَيْضًا فَمَالُ الزِّنْدِيقِ عِنْدَ أَكْثَرِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا إذَا مَاتُوا وَرِثَهُمْ الْمُسْلِمُونَ مَعَ الْجَزْمِ بِنِفَاقِهِمْ؛ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ وَرِثَهُمْ وَرَثَتُهُمْ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ بِنِفَاقِهِمْ، وَلَمْ يَتَوَارَثْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ غَيْرَ مِيرَاثِ مُنَافِقٍ. وَالْمُنَافِقُ هُوَ الزِّنْدِيقُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ. وَأَيْضًا فَحُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا نُفِّذَ فِي دَمِهِ الَّذِي قَدْ يَكُونُ فِيهِ نِزَاعٌ نُفِّذَ فِي مَالِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ إذْ لَيْسَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ يَقُولُ: يُؤْخَذُ مَالُهُ وَلَا يُبَاحُ دَمُهُ، فَلَوْ قِيلَ بِهَذَا كَانَ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ؛ فَإِذَا لَمْ يَتَوَقَّفْ الْحُكْمُ بِعِصْمَةِ دَمِهِ عَلَى دَعْوَى مِنْ جِهَةِ وَلِيِّ الْأَمْرِ فَمَالُهُ أَوْلَى. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ بِمَالٍ مِثْلِ هَذَا لِبَيْتِ الْمَالِ غَيْرُ مُمْكِنٍ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ مَا يُبِيحُ دَمَهُ: لَا بِبَيِّنَةٍ. وَلَا بِإِقْرَارٍ مُتَعَيِّنٍ؛ وَلَكِنْ بِإِقْرَارٍ قَصَدَ بِهِ عِصْمَةَ مَالِهِ وَدَمِهِ مِنْ جِنْسِ الدَّعْوَى عَلَى الْخَصْمِ الْمُسَخِّرِ. الثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ بِعِصْمَةِ دَمِهِ وَمَالِهِ وَاجِبٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ؛ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْحُكْمَ صَحِيحٌ بِلَا رَيْبٍ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُكْمَ مُجْتَهِدٍ فِيهِ لَزَالَ ذَلِكَ بِتَنْفِيذِ الْمُنَفِّذِ لَهُ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحُكَّامِ مِنْ الْحُكْمِ بِمَالِ هَذَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ ثُمَّ الْإِسْلَامُ؛ وَلَوْ كَانَ الْكُفْرُ سَبَبًا؛ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ؟ ، أَمْ كَيْفَ إذَا حُكِمَ بِعِصْمَةِ مَالِهِ؟ ، بَلْ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ الَّذِي يَسْتَنِدُ إلَيْهَا فِي مِثْلِ هَذِهِ مِنْ أَبْعَدِ الْمَذَاهِبِ عَنْ الْحُكْمِ بِمَالِ مِثْلِ هَذَا لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِقْرَارَ عِنْدَهُمْ قَرَارُ تَلْجِئَةٍ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ؛ وَلِمَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِمَا فِي السَّابِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

حد السرقة

[حَدُّ السَّرِقَةِ] [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ سُرِقَ بَيْتُهُ مِرَارًا ثُمَّ وَجَدَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ مَمْلُوكًا] ِ 762 - 116 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ سُرِقَ بَيْتُهُ مِرَارًا، ثُمَّ وَجَدَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ مَمْلُوكًا بَعْدَ أَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَأُخِذَ فَأَقَرَّ أَنَّهُ دَخَلَ الْبَيْتَ مُخْتَلِسًا مِرَارًا عَدِيدَةً، وَلَمْ يُقِرَّ أَنَّهُ أَخَذَ شَيْئًا: فَهَلْ يَلْزَمُهُ مَا عُدِمَ لَهُمْ مِنْ الْبَيْتِ؟ وَمَا الْحُكْمُ فِيهِ؟ الْجَوَابُ: هَذَا الْعَبْدُ يُعَاقَبُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ مِنْ دُخُولِ الْبَيْتِ؛ وَيُعَاقَبُ أَيْضًا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ. فَإِذَا أَقَرَّ بِمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَ الْمَالَ: مِثْلُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَوْضِعِ الْمَالِ، أَوْ عَلَى مَنْ أَعْطَاهُ إيَّاهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ: أُخِذَ الْمَالُ، وَأُعْطِيَ لِصَاحِبِهِ إنْ كَانَ مَوْجُودًا، وَغَرِمَهُ إنْ كَانَ تَالِفًا. وَيَنْبَغِي لِلْمُعَاقِبِ لَهُ أَنْ يَحْتَالَ عَلَيْهِ بِمَا يُقِرُّ بِهِ، كَمَا يَفْعَلُ الْحُذَّاقُ مِنْ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ بِمَنْ يَظْهَرُ لَهُمْ فُجُورُهُ حَتَّى يَعْتَرِفَ، وَأَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمْ بِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا حَلَفَ رَبُّ الْمَالِ حِينَئِذٍ حُكِمَ لِرَبِّ الْمَالِ إذَا حَلَفَ. وَأَمَّا الْحُكْمُ لِرَبِّ الْمَالِ بِيَمِينِهِ بِمَا ظَهَرَ مِنْ اللَّوْثِ، وَالْإِمَارَاتِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِي. فَهَذَا فِيهِ اجْتِهَادُهُ. وَأَمَّا فِي النُّفُوسِ فَالْحُكْمُ بِذَلِكَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ لَهُ مَمْلُوكٌ ذَكَرَ أَنَّهُ سَرَقَ لَهُ قُمَاشًا وَذَكَرَ الْغُلَامُ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ] 763 - 117 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ مَمْلُوكٌ ذَكَرَ أَنَّهُ سَرَقَ لَهُ قُمَاشًا؛ وَذَكَرَ الْغُلَامُ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ؟ عِنْدَ سَيِّدِهِ الْقَدِيمِ [فِي] مِنْدِيلٍ: فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ؟ وَمَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ. الْجَوَابُ: لَا يُؤْخَذُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْغُلَامِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا وَالِي الْحَرْبِ، أَوْ قَاضِي الْحُكْمِ؛ بَلْ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمُتَّهَمِ بِسَرِقَةٍ وَنَحْوِهَا أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمُتَّهَمِ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْحَالِ.

مسألة فيما يتعلق بالتهم في المسروقات في ولايته

فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْبِرِّ لَمْ يَجُزْ مُطَالَبَتُهُ وَلَا عُقُوبَتُهُ. وَهَلْ يَحْلِفُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُعَزَّرُ مَنْ رَمَاهُ بِالتُّهْمَةِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْحَالِ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَكْشِفَ أَمْرَهُ. قِيلَ: يُحْبَسُ شَهْرًا. وَقِيلَ: اجْتِهَادُ وَلِيِّ الْأَمْرِ، لِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ» وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ الْمُنَاسِبِ لِلتُّهْمَةِ، فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ: يَضْرِبُهُ الْوَالِي؛ دُونَ الْقَاضِي. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ: لَا يُضْرَبُ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أَمَرَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ أَنْ يَمَسَّ بَعْضَ الْمُعَاهِدِينَ بِالْعَذَابِ، لَمَّا كَتَمَ إخْبَارَهُ بِالْمَالِ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: أَيْنَ كَنْزُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ؟ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ. فَقَالَ: الْمَالُ كَثِيرٌ، وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ: دُونَك هَذَا فَمَسَّهُ الزُّبَيْرُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعَذَابِ؛ فَدَلَّهُمْ عَلَى الْمَالِ» . وَأَمَّا إذَا ادَّعَى أَنَّهُ اسْتَوْدَعَ الْمَالَ فَهَذَا أَخَفُّ، فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْخَيْرِ لَمْ يَجُزْ إلْزَامُهُ بِالْمَالِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ يُحَلِّفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَاكِمُ وَالِيًا، أَوْ قَاضِيًا. [مَسْأَلَةٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتُّهَمِ فِي الْمَسْرُوقَاتِ فِي وِلَايَتِهِ] 764 - 118 مَسْأَلَةٌ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتُّهَمِ فِي الْمَسْرُوقَاتِ فِي وِلَايَتِهِ؛ فَإِنْ تَرَكَ الْفَحْصَ فِي ذَلِكَ ضَاعَتْ الْأَمْوَالُ، وَطَمِعَتْ الْفُسَّاقُ. وَإِنْ وَكَلَهُ إلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ تَحْتَ يَدِهِ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَظْلِمُ فِيهَا، أَوْ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَا يَفِي بِالْمَقْصُودِ فِي ذَلِكَ؟ وَإِنْ أَقْدَمَ وَسَأَلَ أَوْ أَمْسَكَ الْمَتْهُومِينَ وَعَاقَبَهُمْ خَافَ اللَّهَ تَعَالَى فِي إقْدَامِهِ عَلَى أَمْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ؟ وَهُوَ يَسْأَلُ ضَابِطًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَفِي أَمْرِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا التُّهَمُ فِي السَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَوِّضَهَا

إلَى مَنْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَظْلِمُ فِيهَا مَعَ إمْكَانِ أَنْ يُقِيمَ فِيهَا مِنْ الْعُدُولِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ فِي التُّهَمِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ: مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ بِالدِّينِ وَالْوَرَعِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ. فَهَذَا لَا يُحْبَسُ، وَلَا يُضْرَبُ؛ بَلْ وَلَا يُسْتَحْلَفُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ؛ بَلْ يُؤَدَّبُ مَنْ يَتَّهِمُهُ فِيمَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: مَنْ يَكُونُ مَجْهُولَ الْحَالِ لَا يُعْرَفُ بِبِرٍّ وَلَا فُجُورٍ. فَهَذَا يُحْبَسُ حَتَّى يَكْشِفَ عَنْ حَالِهِ. وَقَدْ قِيلَ: يُحْبَسُ شَهْرًا. وَقِيلَ: يُحْبَسُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِ وَلِيِّ الْأَمْرِ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ» وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ مُدَّعٍ فَإِنَّهُ يَحْضُرُ مَجْلِسَ وَلِيِّ الْأَمْرِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَعْوِيقُهُ عَنْ أَشْغَالِهِ، فَكَذَلِكَ تَعْوِيقُ هَذَا إلَى أَنْ يَعْلَمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ إذَا سَأَلَ عَنْهُ وَوُجِدَ بَارًّا أُطْلِقَ. وَإِنْ وُجِدَ فَاجِرًا كَانَ مِنْ: الصِّنْفِ الثَّالِثِ: وَهُوَ الْفَاجِرُ الَّذِي قَدْ عُرِفَ مِنْهُ السَّرِقَةُ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ عُرِفَ بِأَسْبَابِ السَّرِقَةِ: مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالْقِمَارِ. وَالْفَوَاحِشِ الَّتِي لَا تَتَأَتَّى إلَّا بِالْمَالِ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا لَوْثٌ فِي التُّهْمَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ مِثْلَ هَذَا يُمْتَحَنُ بِالضَّرْبِ يَضْرِبُهُ الْوَالِي وَالْقَاضِي - كَمَا قَالَ أَشْهَبُ صَاحِبُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ - حَتَّى يُقِرَّ بِالْمَالِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَضْرِبُهُ الْوَالِي؛ دُونَ الْقَاضِي، كَمَا قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِيَانِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابَيْهِمَا فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، كَمَا ذَكَرَهُ الطَّرَسُوسِيُّ وَغَيْرُهُ. ثُمَّ الْمُتَوَلِّي لَهُ أَنْ يَقْصِدَ بِضَرْبِهِ مَعَ تَقْرِيرِهِ عُقُوبَتَهُ عَلَى فُجُورِهِ الْمَعْرُوفِ، فَيَكُونُ تَعْزِيرًا وَتَقْرِيرًا. وَلَيْسَ عَلَى الْمُتَوَلِّي أَنْ يُرْسِلَ جَمِيعَ الْمَتْهُومِينَ حَتَّى يَأْتِيَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ سَرَقَ؛ بَلْ قَدْ أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ فِي قِصَّةٍ كَانَتْ تُهْمَةً فِي سَرِقَةٍ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 106] {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا - يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا - هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا} [النساء: 107 - 109]

إلَى آخِرِ الْآيَاتِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا يُقَالُ لَهُمْ بَنُو أُبَيْرِقٍ سَرَقُوا لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ طَعَامًا وَدِرْعَيْنِ، فَجَاءَ صَاحِبُ الْمَالِ يَشْتَكِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ قَوْمٌ يُزَكُّونَ الْمُتَّهَمِينَ بِالْبَاطِلِ؛ فَكَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَنَّ صِدْقَ الْمُزَكِّينَ فَلَامَ صَاحِبَ الْمَالِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَاحِبِ الْمَالِ: أَقِمْ الْبَيِّنَةَ؛ وَلَا حَلَّفَ الْمُتَّهَمِينَ؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ الْمُتَّهَمِينَ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِالشَّرِّ، وَظَهَرَتْ الرِّيبَةُ عَلَيْهِمْ. وَهَكَذَا حُكْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقَسَامَةِ فِي الدِّمَاءِ إذَا كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِينَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ الْحُدُودِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ؛ لَيْسَتْ مِنْ الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ، فَلَوْلَا الْقَسَامَةُ فِي الدِّمَاءِ لَأَفْضَى إلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ فَيَقْتُلُ الرَّجُلُ عَدُوَّهُ خُفْيَةً، وَلَا يُمَكِّنُ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ؛ وَالْيَمِينُ عَلَى الْقَاتِلِ وَالسَّارِقِ وَالْقَاطِعِ سَهْلَةٌ، فَإِنَّ مَنْ يَسْتَحِلُّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا يَكْتَرِثُ الْيَمِينَ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ؛ وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» هَذَا فِيمَا لَا يُمْكِنُ مِنْ الْمُدَّعِي حُجَّةٌ غَيْرُ الدَّعْوَى فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى بِهَا شَيْئًا، وَلَكِنْ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَأَمَّا إذَا أَقَامَ شَاهِدًا بِالْمَالِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ حَكَمَ فِي الْمَالِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ، كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، وَإِذَا كَانَ فِي دَعْوَى الدَّمِ لَوْثٌ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُدَّعِينَ: «أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ» ؟ .

كَذَلِكَ أَمْرُ " قُطَّاعِ الطَّرِيقِ " وَأَمْرُ " اللُّصُوصِ " وَهُوَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَأْمَنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي الْمَسَاكِنِ وَالطُّرُقَاتِ إلَّا بِمَا يَزْجُرُهُمْ فِي قَطْعِ هَؤُلَاءِ، وَلَا يَزْجُرُهُمْ أَنْ يَحْلِفَ كُلٌّ مِنْهُمْ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ لِأَخْذِ الْمَالِ يُقْتَلُ حَتْمًا، وَقَتْلُهُ حَدٌّ لِلَّهِ؛ وَلَيْسَ قَتْلُهُ مُفَوَّضًا إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ. قَالُوا: لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَقْتُلْهُ لِغَرَضٍ خَاصٍّ مَعَهُ؛ إنَّمَا قَتَلَهُ لِأَجْلِ الْمَالِ، فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ هَذَا الْمَقْتُولِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَقَتْلُهُ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ. فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ " السَّارِقُ " لَيْسَ غَرَضُهُ فِي مَالٍ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ أَخْذُ مَالِ هَذَا وَمَالِ هَذَا، كَذَلِكَ كَانَ قَطْعُهُ حَقًّا وَاجِبًا لِلَّهِ لَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ؛ بَلْ رَبُّ الْمَالِ يَأْخُذُ مَالَهُ، وَتُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ، حَتَّى لَوْ قَالَ صَاحِبُ الْمَالِ: أَنَا أُعْطِيهِ مَالِي لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَطْعُ، كَمَا قَالَ صَفْوَانُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَا أَهَبُهُ رِدَائِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَهَلَّا فَعَلْت قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ» ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ، وَمَنْ قَالَ فِي مُسْلِمٍ مَا لَيْسَ فِيهِ حُبِسَ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ «إذَا بَلَغَتْ الْحُدُودُ السُّلْطَانَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفِّعَ» . وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا مَنْ ظَهَرَ عِنْدَهُ مَالٌ يَجِبُ عَلَيْهِ إحْضَارُهُ كَالْمَدِينِ إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ غَيَّبَ مَالَهُ وَأَصَرَّ عَلَى الْحَبْسِ، وَكَمَنْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ وَلَمْ يَرُدَّهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا ظَهَرَ كَذِبُهُ. فَإِنَّهُ لَا يَحْلِفُ؛ لَكِنْ يُضْرَبُ حَتَّى يُحْضِرَ الْمَالَ الَّذِي يَجِبُ إحْضَارُهُ، أَوْ يُعْرَفَ مَكَانُهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَامَ خَيْبَرَ فِي عَمِّ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّ لَهُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ؛ فَقَالَ لِهَذَا الرَّجُلِ: «أَيْنَ كَنْزُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ؟ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ، وَالْحُرُوبُ، فَقَالَ: الْمَالُ كَثِيرٌ، وَالْعَهْدُ أَحْدَثُ مِنْ هَذَا ثُمَّ قَالَ: دُونَك هَذَا فَمَسَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعَذَابِ، فَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ فِي خَرِبَةٍ هُنَاكَ» فَهَذَا لَمَّا قَالَ أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ وَالْعَادَةُ تُكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ بَلْ أَمَرَ بِعُقُوبَتِهِ

مسألة فيمن كان له ذهب مخيط في ثوبه فأعطاه للغسال نسيانا

حَتَّى دَلَّهُمْ عَلَى الْمَالِ؛ فَكَذَلِكَ مَنْ أَخَذَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ وَادَّعَى ذَهَابَهَا دَعْوَى تُكَذِّبُهُ فِيهَا الْعَادَةُ كَانَ هَذَا حُكْمُهُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ كَانَ لَهُ ذَهَبٌ مَخِيطٌ فِي ثَوْبِهِ فَأَعْطَاهُ لِلْغَسَّالِ نِسْيَانًا] 765 - 119 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ كَانَ لَهُ ذَهَبٌ مَخِيطٌ فِي ثَوْبِهِ فَأَعْطَاهُ لِلْغَسَّالِ نِسْيَانًا؛ فَلَمَّا رَدَّهُ الْغَسَّالُ إلَيْهِ بَعْدَ غَسْلِهِ وَجَدَ مَكَانِ الذَّهَبِ مُفَتَّقًا، وَلَمْ يَجِدْهُ: فَمَا الْحُكْمُ فِيهِ؟ الْجَوَابُ: إمَّا أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا يُبْرِيهِ، وَإِمَّا أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ أَخَذَ الذَّهَبَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَضْمَنُهُ؛ فَإِنْ كَانَ الْغَسَّالُ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ وَظَهَرَتْ الرِّيبَةُ بِظُهُورِ الْفَتْقِ جَازَ ضَرْبُهُ وَتَعْزِيرُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ] [مَسْأَلَةٌ أَقْوَامٍ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ] حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ 766 - 120 - مَسْأَلَةٌ: فِي أَقْوَامٍ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَقْتُلُونَ مَنْ يُمَانِعُهُمْ عَنْ مَالِهِ وَيَفْجُرُونَ بِحَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُعَذِّبُونَ كُلَّ مَنْ يُمْسِكُونَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى حَتَّى يَدُلَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ؛ ثُمَّ الْإِمَامُ بَلَغَهُ خَبَرُهُمْ؛ فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بَعْضَ النَّاسِ أَنْ يَرُوحُوا إلَيْهِمْ، وَيَمْنَعُوهُمْ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ؛ فَخَرَجُوا عَلَيْهِ، وَقَاتَلُوا الْمُسَيَّرِينَ إلَيْهِمْ؛ وَامْتَنَعُوا مِنْ طَاعَةِ السُّلْطَانِ فَهَلْ يَحِلُّ قِتَالُهُمْ، أَمْ لَا؟ وَهَلْ إذَا أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنْ مَالِهِمْ شَيْئًا وَبَاعَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْتَرِيَهُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. نَعَمْ: يَحِلُّ قِتَالُ هَؤُلَاءِ؛ بَلْ يَجِبُ؛ وَإِذَا أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِإِزَاءِ مَا أَخَذُوهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَعْرِفْ مُسْتَحِقَّهُ جَازَ الشِّرَاءُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانُوا أَخَذُوا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَفِي أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. وَإِذَا قَلَّدَ السُّلْطَانُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ بِطَرِيقَةٍ سَاغَ لَهُ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَ النَّاسِ] 767 - 121 - مَسْأَلَةٌ: عَنْ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ؛ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَ النَّاسِ

مسألة تاجر نصب عليه جماعة وأخذوا مبلغا

وَدِمَاءَهُمْ: مِثْلُ السَّارِقِ، وَقَاطِعُ الطَّرِيقِ: هَلْ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ؟ أَوْ يُقَاتِلَهُمْ؟ وَهَلْ إذَا قَتَلَ رَجُلٌ أَحَدًا مِنْهُمْ: فَهَلْ يَكُونُ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى النِّفَاقِ؟ وَهَلْ عَلَيْهِ إثْمٌ فِي قَتْلِ مَنْ طُلِبَ قَتْلُهُ؟ أَجَابَ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ مُقَاتَلَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» . فَالْقُطَّاعُ: إذَا طَلَبُوا مَالَ الْمَعْصُومِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ شَيْئًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ بَلْ يَدْفَعَهُمْ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ، فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعُوا إلَّا بِالْقِتَالِ فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ، فَإِنْ قُتِلَ كَانَ شَهِيدًا، وَإِنْ قَتَلَ وَاحِدًا مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا؛ وَكَذَلِكَ إذَا طَلَبُوا دَمَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُمْ وَلَوْ بِالْقَتْلِ إجْمَاعًا؛ لَكِنَّ الدَّفْعَ عَنْ الْمَالِ لَا يَجِبُ، بَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ الْمَالَ وَلَا يُقَاتِلَهُمْ. وَأَمَّا الدَّفْعُ عَنْ النَّفْسِ فَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. [مَسْأَلَةٌ تَاجِرٍ نَصَبَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ وَأَخَذُوا مَبْلَغًا] 768 - 122 - مَسْأَلَةٌ: فِي تَاجِرٍ نَصَبَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ؛ وَأَخَذُوا مَبْلَغًا، فَحَمَلَهُمْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ؛ وَعَاقَبَهُمْ حَتَّى أَقَرُّوا بِالْمَالِ، وَهُمْ مَحْبُوسُونَ عَلَى الْمَالِ، وَلَمْ يُعْطُوهُ شَيْئًا، وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَهُ شَيْئًا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ الْمَالُ بِيَدِهِ وَامْتَنَعَ مِنْ إعْطَائِهِ فَإِنَّهُ يُضْرَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْمَالَ الَّذِي بِيَدِهِ لِغَيْرِهِ. وَمَنْ كَانَ قَدْ غَيَّبَ الْمَالَ وَجَحَدَ مَوْضِعَهُ فَإِنَّهُ يُضْرَبُ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى مَوْضِعِهِ. وَمَنْ كَانَ مُتَّهَمًا لَا يُعْرَفُ هَلْ مَعَهُ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ أَمْ لَا؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ضَرْبُهُ مُعَاقَبَةً لَهُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ. وَيُقَرَّرُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى الْمَالِ أَيْنَ هُوَ. وَيُطْلَبُ مِنْهُ إحْضَارُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَة ثَلَاثَةٍ مِنْ اللُّصُوصِ أَخَذَ اثْنَانِ مِنْهُمْ جِمَالًا وَالثَّالِثُ قَتَلَ الْجَمَّالَ] 769 - 123 سُئِلَ: عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ اللُّصُوصِ أَخَذَ اثْنَانِ مِنْهُمْ جِمَالًا، وَالثَّالِثُ قَتَلَ الْجَمَّالَ: هَلْ يُقْتَلُ الثَّلَاثَةُ؟

مسألة عسكر نزلوا مكانا باتوا فيه فجاء أناس سرقوا لهم قماشا

الْجَوَابُ: إذَا كَانَ الثَّلَاثَةُ حَرَامِيَّةً اجْتَمَعُوا لِيَأْخُذُوا الْمَالَ بِالْمُحَارَبَةِ قُتِلَ الثَّلَاثَةُ؛ وَإِنْ كَانَ الَّذِي بَاشَرَ الْقَتْلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ عَسْكَرٍ نَزَلُوا مَكَانًا بَاتُوا فِيهِ فَجَاءَ أُنَاسٌ سَرَقُوا لَهُمْ قُمَاشًا] 770 - 124 مَسْأَلَةٌ: فِي عَسْكَرٍ نَزَلُوا مَكَانًا بَاتُوا فِيهِ فَجَاءَ أُنَاسٌ سَرَقُوا لَهُمْ قُمَاشًا فَلَحِقُوا السَّارِقَ فَضَرَبَهُ أَحَدُهُمْ بِالسَّيْفِ، ثُمَّ حُمِلَ إلَى مُقَدَّمِ الْعَسْكَرِ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَ هَذَا هُوَ الطَّرِيقُ فِي اسْتِرْجَاعِ مَا مَعَ السَّارِقِ لَمْ يَلْزَمْ الضَّارِبَ شَيْءٌ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ لِصًّا دَخَلَ دَارِهِ فَقَامَ إلَيْهِ بِالسَّيْفِ فَلَوْلَا أَنَّهُمْ رَدُّوهُ عَنْهُ لَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» . [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ لَهُ مِلْكٌ وَهُوَ وَاقِعٌ فَأَعْلَمُوهُ بِوُقُوعِهِ فَأَبَى أَنْ يَنْقُضَهُ] 771 - 125 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ مِلْكٌ، وَهُوَ وَاقِعٌ، فَأَعْلَمُوهُ بِوُقُوعِهِ فَأَبَى أَنْ يَنْقُضَهُ ثُمَّ وَقَعَ عَلَى صَغِيرٍ فَهَشَّمَهُ هَلْ يَضْمَنُ أَوْ لَا؟ الْجَوَابُ: هَذَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ فِي عَدَمِ إزَالَةِ هَذَا الضَّرَرِ، وَالضَّمَانُ عَلَى الْمَالِكِ الرَّشِيدِ الْحَاضِرِ أَوْ وَكِيلِهِ إنْ كَانَ غَائِبًا أَوْ وَلِيِّهِ إنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ فِي مِثْلِ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَالْوَاجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ وَالْأَرْشُ فِيمَا لَا تَقْدِيرَ فِيهِ، وَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَةِ هَؤُلَاءِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَعَلَيْهِمْ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ.

كتاب الجهاد

[كِتَابُ الْجِهَادِ] [مَسْأَلَةٌ حَرَسُ لَيْلَةٍ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِ رَجُلٍ فِي أَهْلِهِ أَلْفَ سَنَةٍ] ِ 772 - 1 مَسْأَلَةٌ: فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ: «حَرَسُ لَيْلَةٍ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِ رَجُلٍ فِي أَهْلِهِ أَلْفَ سَنَةٍ» وَفِي سُكْنَى مَكَّةَ، وَالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ عَلَى نِيَّةِ الْعِبَادَةِ وَالِانْقِطَاعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالسُّكْنَى بِدِمْيَاطَ، وَإِسْكَنْدَرِيَّة، وَطَرَابُلُسَ عَلَى نِيَّةِ الرِّبَاطِ أَيُّهُمْ أَفْضَلُ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ الْمُقَامُ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ كَالثُّغُورِ الشَّامِيَّةِ، وَالْمِصْرِيَّةِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، وَمَا أَعْلَمُ فِي هَذَا نِزَاعًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرِّبَاطَ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ، وَالْمُجَاوَرَةُ غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 19] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ: «إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ جِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ» .

مسألة بلد ماردين هل هي بلد حرب أم بلد سلم

وَقَدْ رُوِيَ: «غَزْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ حَجَّةً» . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا مَاتَ مُجَاهِدًا وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» . وَفِي السُّنَنِ عَنْ عُثْمَانَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ» . وَهَذَا قَالَهُ عُثْمَانُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ تَبْلِيغًا لِلسُّنَّةِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَأَنْ أُرَابِطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ. وَفَضَائِلُ الرِّبَاطِ الْحَرَسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرَةٌ لَا تَسَعُهَا هَذِهِ الْوَرَقَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ بَلَدِ مَارِدِينَ هَلْ هِيَ بَلَدُ حَرْبٍ أَمْ بَلَدُ سِلْمٍ] 773 - 2 مَسْأَلَةٌ: فِي بَلَدِ " مَارِدِينَ " هَلْ هِيَ بَلَدُ حَرْبٍ أَمْ بَلَدُ سِلْمٍ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُقِيمِ بِهَا الْهِجْرَةُ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ وَلَمْ يُهَاجِرْ وَسَاعَدَ أَعْدَاءَ الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، هَلْ يَأْثَمُ فِي ذَلِكَ، وَهَلْ يَأْثَمُ مَنْ رَمَاهُ بِالنِّفَاقِ وَسَبَّهُ بِهِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ دِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالُهُمْ مُحَرَّمَةٌ حَيْثُ كَانُوا فِي مَارِدِينَ أَوْ غَيْرِهَا، وَإِعَانَةُ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ مُحَرَّمَةٌ، سَوَاءٌ كَانُوا أَهْلَ مَارِدِينَ أَوْ غَيْرَهُمْ، وَالْمُقِيمُ بِهَا إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إقَامَةِ دِينِهِ وَجَبَتْ الْهِجْرَةُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا اُسْتُحِبَّتْ وَلَمْ تَجِبْ وَمُسَاعَدَتُهُمْ لِعَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ، مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الِامْتِنَاعُ مِنْ ذَلِكَ بِأَيِّ طَرِيقٍ أَمْكَنَهُمْ مِنْ تَغَيُّبٍ، أَوْ تَعْرِيضٍ، أَوْ مُصَانَعَةٍ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِالْهِجْرَةِ تَعَيَّنَتْ، وَلَا يَحِلُّ سَبُّهُمْ عُمُومًا وَرَمْيُهُمْ بِالنِّفَاقِ، بَلْ السَّبُّ وَالرَّمْيُ

مسألة رجل جندي يريد أن لا يخدم

بِالنِّفَاقِ يَقَعُ عَلَى الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيَدْخُلُ فِيهَا بَعْضُ أَهْلِ مَارِدِينَ وَغَيْرُهُمْ. وَأَمَّا كَوْنُهَا دَارَ حَرْبٍ أَوْ سِلْمٍ فَهِيَ مُرَكَّبَةٌ فِيهَا الْمَعْنَيَانِ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ دَارِ السِّلْمِ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، لِكَوْنِ جُنْدِهَا مُسْلِمِينَ، وَلَا بِمَنْزِلَةِ دَارِ الْحَرْبِ الَّتِي أَهْلُهَا كُفَّارٌ، بَلْ هِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ يُعَامَلُ الْمُسْلِمُ فِيهَا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ وَيُقَاتَلُ الْخَارِجُ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ جُنْدِيٍّ يُرِيدُ أَنْ لَا يَخْدُمَ] 774 - 3 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ جُنْدِيٍّ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لَا يَخْدُمَ؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ مَنْفَعَةٌ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، بَلْ كَوْنُهُ مُقْدِمًا فِي الْجِهَادِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَفْضَلُ مِنْ التَّطَوُّعِ بِالْعِبَادَةِ كَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَالْحَجِّ التَّطَوُّعِ، وَالصِّيَامِ التَّطَوُّعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ دَخَلَ التَّتَارُ الشَّامَ وَنَهَبُوا أَمْوَالَ النَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ] 775 - 4 - مَسْأَلَةٌ: إذَا دَخَلَ التَّتَارُ الشَّامَ وَنَهَبُوا أَمْوَالَ النَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ ثُمَّ نَهَبَ الْمُسْلِمُونَ التَّتَارَ وَسَلَبُوا الْقَتْلَى مِنْهُمْ فَهَلْ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَسَلْبِهِمْ حَلَالٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: كُلُّ مَا أُخِذَ مِنْ التَّتَارِ يُخَمَّسُ وَيُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ سُبِيَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ دُونَ الْبُلُوغِ] 776 - 5 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ سُبِيَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ دُونَ الْبُلُوغِ وَشَرَوْهُ النَّصَارَى، وَكَبِرَ الصَّبِيُّ، وَتَزَوَّجَ وَجَاءَهُ أَوْلَادٌ نَصَارَى، وَمَاتَ هُوَ، وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ أُسِرَ دُونَ الْبُلُوغِ، لَكِنَّهُمْ مَا عَلِمُوا مَنْ سَبَاهُ، هَلْ السَّابِي لَهُ كِتَابِيٌّ أَمْ مُسْلِمٌ، فَهَلْ يَلْحَقُ أَوْلَادُهُ بِالْمُسْلِمِينَ أَمْ لَا؟

مسألة التتار الذين يقدمون إلى الشام وقد نطقوا بالشهادتين

الْجَوَابُ: أَمَّا إنْ كَانَ السَّابِي لَهُ مُسْلِمًا حُكِمَ بِإِسْلَامِ الطِّفْلِ، وَإِذَا كَانَ السَّابِي لَهُ كَافِرًا وَلَمْ يَقُمْ حُجَّةٌ بِأَحَدِهِمَا لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ وَأَوْلَادُهُ تَبَعٌ لَهُ فِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ التَّتَار الَّذِينَ يَقْدُمُونَ إلَى الشَّامِ وَقَدْ نَطَقُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ] 777 - 6 - مَسْأَلَةٌ: مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، وَأَعَانَهُمْ عَلَى بَيَانِ الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَكَشْفِ غَمَرَاتِ الْجَاهِلِينَ وَالزَّائِغِينَ فِي: هَؤُلَاءِ التَّتَارِ الَّذِينَ يَقْدُمُونَ إلَى الشَّامِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَقَدْ تَكَلَّمُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَانْتَسَبُوا إلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُبْقُوا عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَهَلْ يَجِبُ قِتَالُهُمْ أَمْ لَا؟ وَمَا الْحُجَّةُ عَلَى قِتَالِهِمْ، وَمَا مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِمَّنْ يَفِرُّ إلَيْهِمْ مِنْ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ الْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ قَدْ أَخْرَجُوهُ مَعَهُمْ مُكْرَهًا؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ يَكُونُ مَعَ عَسْكَرِهِمْ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ، وَالْفِقْهِ، وَالْفَقْرِ، وَالنُّصُوصِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمَا يُقَالُ فِيمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَالْمُقَاتِلُونَ لَهُمْ مُسْلِمُونَ وَكِلَاهُمَا ظَالِمٌ، فَلَا يُقَاتِلُ مَعَ أَحَدِهِمَا. وَفِي قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ كَمَا تُقَاتَلُ الْبُغَاةُ الْمُتَأَوِّلُونَ، وَمَا الْوَاجِبُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَأَهْلِ الْقِتَالِ وَأَهْلِ الْأَمْوَالِ فِي أَمْرِهِمْ. أَفْتُونَا فِي ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ مَبْسُوطَةٍ شَافِيَةٍ، فَإِنَّ أَمْرَهُمْ قَدْ أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ عَلَى أَكْثَرِهِمْ تَارَةً لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِهِمْ، وَتَارَةً لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مِثْلِهِمْ، وَاَللَّهُ الْمُيَسِّرُ لِكُلِّ خَيْرٍ بِقُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَعَمْ يَجِبُ قِتَالُ هَؤُلَاءِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمَعْرِفَةُ بِحَالِهِمْ. وَالثَّانِي: مَعْرِفَةُ حُكْمِ اللَّهِ فِي مِثْلِهِمْ.

فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَكُلُّ مَنْ بَاشَرَ الْقَوْمَ بِعِلْمِ حَالِهِمْ، وَمَنْ لَمْ يُبَاشِرْهُمْ يَعْلَمُ ذَلِكَ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَأَخْبَارِ الصَّادِقِينَ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ جُلَّ أُمُورِهِمْ بَعْدَ أَنْ نُبَيِّنَ الْأَصْلَ الْآخَرَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَنَقُولُ: كُلُّ طَائِفَةٍ خَرَجَتْ عَنْ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهَا بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ تَكَلَّمَتْ بِالشَّهَادَتَيْنِ، فَإِذَا أَقَرُّوا بِالشَّهَادَتَيْنِ وَامْتَنَعُوا عَنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَجَبَ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُصَلُّوا، وَإِنْ امْتَنَعُوا عَنْ الزَّكَاةِ، وَجَبَ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُؤَدُّوا الزَّكَاةَ، وَكَذَلِكَ إنْ امْتَنَعُوا عَنْ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، أَوْ حَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَكَذَلِكَ إنْ امْتَنَعُوا عَنْ تَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ، أَوْ الزِّنَا، أَوْ الْمَيْسِرِ، أَوْ الْخَمْرِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الشَّرِيعَةِ وَكَذَلِكَ إنْ امْتَنَعُوا عَنْ الْحُكْمِ فِي الدِّمَاءِ، وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ، وَالْأَبْضَاعِ، وَنَحْوِهَا بِحُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ إنْ امْتَنَعُوا عَنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَجِهَادِ الْكُفَّارِ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا وَيُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. وَكَذَلِكَ إنْ أَظْهَرُوا الْبِدَعَ الْمُخَالِفَةَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاتِّبَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مِثْلُ: أَنْ يُظْهِرُوا الْإِلْحَادَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، أَوْ التَّكْذِيبَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، أَوْ التَّكْذِيبَ بِقَدَرِهِ وَقَضَائِهِ أَوْ التَّكْذِيبَ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، أَوْ الطَّعْنَ فِي السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ أَوْ مُقَاتَلَةِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي طَاعَتِهِمْ الَّتِي تُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] فَإِذَا كَانَ بَعْضُ الدِّينِ لِلَّهِ وَبَعْضُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَجَبَ الْقِتَالُ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ

الطَّائِفِ، وَكَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا وَصَلَّوْا وَصَامُوا، لَكِنْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِالرِّبَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا، وَقَالَ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] وَقَدْ قُرِئَ {فَأُذِنُوا} وَ {آذَنُوا} وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ، وَالرِّبَا آخِرُ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ مَا يُوجَدُ بِتَرَاضِي الْمُتَعَامِلِينَ، فَإِذَا كَانَ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْهُ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي هِيَ أَسْبَقُ تَحْرِيمًا وَأَعْظَمُ تَحْرِيمًا. وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَحَادِيثُ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ، وَقَدْ رَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: حَدِيثَ عَلِيٍّ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَفِي السُّنَنِ، وَالْمَسَانِيدِ طُرُقٌ أُخَرُ مُتَعَدِّدَةٌ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صِفَتِهِمْ: «يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ» . وَهَؤُلَاءِ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَاتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ سَلَفُ الْأُمَّةِ، وَأَئِمَّتُهَا لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي قِتَالِهِمْ كَمَا تَنَازَعُوا فِي الْقِتَالِ يَوْمَ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا فِي قِتَالِ الْفِتْنَةِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: قَوْمٌ قَاتَلُوا مَعَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَوْمٌ قَاتَلُوا مَعَ مَنْ قَاتَلَ، وَقَوْمٌ قَعَدُوا عَنْ الْقِتَالِ لَمْ يُقَاتِلُوا الْوَاحِدَةَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ. وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا نَهَى عَنْ قِتَالِهِمْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ.

وَفِي الصَّحِيحِ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ» . وَفِي لَفْظٍ: «أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ» . فَبِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ثَبَتَ أَنَّ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْمَارِقَةَ الَّتِي مَرَقَتْ مِنْ الْإِسْلَامِ لَيْسَ حُكْمُهَا حُكْمَ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، بَلْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِتَالِ هَذِهِ الْمَارِقَةِ، وَأَكَّدَ الْأَمْرَ بِقِتَالِهَا، وَلَمْ يَأْمُرْ بِقِتَالِ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، كَمَا أَمَرَ بِقِتَالِ هَذِهِ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ لِلْحَسَنِ: «إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» . فَمَدَحَ الْحَسَنَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا أَصْلَحَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، حِينَ تَرَكَ الْقِتَالَ وَقَدْ بُويِعَ لَهُ وَاخْتَارَ الْأَصْلَ وَحَقَنَ الدِّمَاءَ مَعَ نُزُولِهِ عَنْ الْأَمْرِ، فَلَوْ كَانَ الْقِتَالُ مَأْمُورًا بِهِ لَمْ يَمْدَحْ الْحَسَنَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِتَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَفِعْلِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَالْعُلَمَاءُ لَهُمْ فِي قِتَالِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقِتَالَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ طَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يَرَى قِتَالَ عَلِيٍّ يَوْمَ حَرُورَاءَ، وَيَوْمَ الْجَمَلِ، وَصِفِّينَ، كُلُّهُ مِنْ بَابِ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَكَذَلِكَ يَجْعَلُ قِتَالَ أَبِي بَكْرٍ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ، وَكَذَلِكَ قِتَالُ سَائِرِ مَنْ قُوتِلَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْقِبْلَةِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ لَيْسُوا فُسَّاقًا بَلْ هُمْ عُدُولٌ. فَقَالُوا: إنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ عُدُولٌ مَعَ قِتَالِهِمْ، وَهُمْ مُخْطِئُونَ خَطَأَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ، وَخَالَفَتْ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ. فَذَهَبُوا إلَى تَفْسِيقِ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَهَؤُلَاءِ نَظَرُوا إلَى مَنْ عَدُوُّهُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ فِي زَمَنِهِمْ، فَرَأَوْهُمْ فُسَّاقًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ لَا يُدْخِلُونَ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُفَسِّقُ الصَّحَابَةَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ، كَمَا يُكَفِّرُهُمْ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ

الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ وَالْفُقَهَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَلَا يَقُولُونَ: إنَّ أَمْوَالَهُمْ مَعْصُومَةٌ كَمَا كَانَتْ، وَمَا كَانَ ثَابِتًا بِعَيْنِهِ رُدَّ إلَى صَاحِبِهِ، وَمَا أُتْلِفَ فِي حَالِ الْقِتَالِ لَمْ يُضْمَنْ، حَتَّى إنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: لَا يَضْمَنُ لَا هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ. كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَافِرُونَ، فَأَجْمَعُوا أَنَّ كُلَّ مَالٍ أَوْ دَمٍ أُصِيبَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ هَدَرٌ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَانَ بِسِلَاحِهِمْ فِي حَرْبِهِمْ إذَا لَمْ يَكُنْ إلَى ذَلِكَ ضَرُورَةٌ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ يَجُوزُ وَالْمَنْعُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالرُّخْصَةُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَتْلِ أُسَرِهِمْ وَاتِّبَاعِ مُدْبِرِهِمْ وَالتَّذْفِيفِ عَلَى جَرِيحِهِمْ إذَا كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ يَلْجَئُونَ إلَيْهَا، فَجَوَّزَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَفِي مَذْهَبِهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يُتَّبَعُ مُدْبِرُهُمْ مِنْ أَوَّلِ الْقِتَالِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ، فَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ، وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ، كَمَا رَوَاهُ سَعِيدٌ وَغَيْرُهُ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: خَرَجَ صَارِخٌ، لَعَلَّهُ يَوْمَ الْجَمَلِ، لَا يُقْتَلَنَّ مُدْبِرٌ، وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ. فَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فَقَدْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ التَّتَارَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ الْمُتَأَوِّلِينَ وَيَحْكُمُ فِيهِمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، كَمَا أَدْخَلَ مَنْ أُدْخِلَ فِي هَذَا الْحُكْمِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْخَوَارِجَ وَسَنُبَيِّنُ فَسَادَ هَذَا التَّوَهُّمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَالْخَوَارِجِ، وَنَحْوِهِمْ: لَيْسَ كَقِتَالِ أَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَهُوَ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ فِي اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: كَمَالِكٍ، وَغَيْرِهِ، وَمَذْهَبُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ نَصُّوا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ حَتَّى فِي الْأَمْوَالِ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَ غَنِيمَةَ أَمْوَالِ الْخَوَارِجِ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي حَرُورِيَّةَ كَانَ لَهُمْ سَهْمٌ فِي قَرْيَةٍ فَخَرَجُوا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فَأَرْضُهُمْ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيُقَسَّمُ خُمُسُهُ عَلَى خَمْسَةٍ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلَّذِينَ قَاتَلُوا يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ، أَوْ يَحْمِلُ الْأَمِيرُ الْخَرَاجَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُقَسِّمُ مِثْلَ مَا أَخَذَ عُمَرُ السَّوَادَ عَنْوَةً، وَوَقَفَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَجَعَلَ أَحْمَدُ الْأَرْضَ الَّتِي لِلْخَوَاِرجِ إذَا غُنِمَتْ بِمَنْزِلَةِ مَا غُنِمَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ

الطَّرِيقَةُ هِيَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ؛ فَإِنَّ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، وَسِيرَةُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، فَإِنَّهُ قَاتَلَ الْخَوَارِجَ بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَرِحَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُنَازِعْهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا الْقِتَالُ يَوْمَ صِفِّينَ فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ مِنْ كَرَاهَتِهِ وَالذَّمِّ عَلَيْهِ مَا ظَهَرَ، وَقَالَ مِنْ أَهْلِ الْجَمَلِ وَغَيْرِهِمْ: إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا طُهْرُهُمْ السَّيْفُ، وَصَلَّى عَلَى قَتْلَى الطَّائِفَتَيْنِ. وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «سَتَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حِدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِي كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ الَّذِينَ سَارُوا إلَى الْخَوَارِجِ فَقَالَ عَلِيٌّ: أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ؛ وَلَا صَلَاتُكُمْ إلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صِيَامُكُمْ إلَّا صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِمْ لَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ عَضُدٌ لَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ عَلَى عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ، عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ قَالَ: فَيَذْهَبُونَ إلَى مُعَاوِيَةَ وَأَهْلِ الشَّامِ وَيَتْرُكُونَ هَؤُلَاءِ يَخْلُفُونَكُمْ فِي ذَرَارِيّكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ، وَأَغَارُوا فِي سَرْحِ النَّاسِ، فَسِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ» . قَالَ: فَلَمَّا الْتَقَيْنَا وَعَلَى الْخَوَارِجِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ رَئِيسًا فَقَالَ لَهُمْ: أَلْقُوا الرِّمَاحَ، وَسُلُّوا سُيُوفَكُمْ مِنْ حُقُوقِهَا، فَإِنِّي أُنَاشِدُكُمْ كَمَا نَاشَدُوكُمْ يَوْمَ حَرُورَاءَ، فَرَجَعُوا فَوَحَّشُوا بِرِمَاحِهِمْ، وَسَلُّوا السُّيُوفَ، وَسَحَرَهُمْ النَّاسُ بِرِمَاحِهِمْ. قَالَ: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَمَا أُصِيبَ مِنْ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إلَّا رَجُلَانِ: فَقَالَ

عَلِيٌّ: الْتَمَسُوا فِيهِ الْمَخْدَعَ. فَالْتَمَسُوهُ، فَلَمْ يَجِدُوهُ فَقَامَ عَلَى سَيْفِهِ حَتَّى أَتَى نَاسًا قَدْ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ: أَخِّرُوهُمْ فَوَجَدُوهُ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ فَكَبَّرَ ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ، وَبَلَّغَ رَسُولُهُ. قَالَ: فَقَامَ إلَيْهِ عُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ أَسَمِعْت هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إي وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ حَتَّى اسْتَحْلَفَهُ ثَلَاثًا وَهُوَ يَحْلِفُ لَهُ أَيْضًا. فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَمِّ الْخَوَارِجِ وَتَضْلِيلِهِمْ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي تَكْفِيرِهِمْ، عَلَى تَكْفِيرِهِمْ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا نِزَاعٌ فِي كُفْرِهِمْ، وَلِهَذَا كَانَ فِيهِمْ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ بُغَاةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كُفَّارٌ كَالْمُرْتَدِّينَ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ ابْتِدَاءً وَقَتْلُ أَمِيرِهِمْ، وَاتِّبَاعُ مُدْبِرِهِمْ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ اُسْتُتِيبَ كَالْمُرْتَدِّ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، كَمَا أَنَّ مَذْهَبَهُ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ إذَا قَاتَلُوا الْإِمَامَ عَلَيْهَا، هَلْ يَكْفُرُونَ مَعَ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِهَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ قِتَالَ الصِّدِّيقِ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ، وَقِتَالَ عَلِيٍّ الْخَوَارِجَ لَيْسَ مِثْلَ الْقِتَالِ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَصِفِّينَ، فَكَلَامُ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ فِي الْخَوَارِجِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَيْسُوا كُفَّارًا كَالْمُرْتَدِّينَ عَنْ أَصْلِ الْإِسْلَامِ. وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَلَيْسُوا مَعَ ذَلِكَ حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ أَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، بَلْ هُوَ نَوْعٌ ثَالِثٌ وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِيهِمْ، وَمِمَّنْ قَاتَلَهُمْ الصَّحَابَةُ مَعَ إقْرَارِهِمْ الشَّهَادَتَيْنِ، وَالصَّلَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مَانِعُوا الزَّكَاةِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إلَّا بِحَقِّهَا.» فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَلَمْ يَقُلْ لَك «إلَّا بِحَقِّهَا» فَإِنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّهَا، وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتهمْ عَلَى مَنْعِهَا

قَالَ عُمَرُ: فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْت أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَلِمْت أَنَّهُ الْحَقُّ. وَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُمْ عَلَى قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانُوا يُصَلُّونَ الْخَمْسَ وَيَصُومُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُبْهَةٌ سَائِغَةٌ، فَلِهَذَا كَانُوا مُرْتَدِّينَ وَهُمْ يُقَاتِلُونَ عَلَى مَنْعِهَا، وَإِنْ أَقَرُّوا بِالْوُجُوبِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ بِقَوْلِهِ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وَقَدْ تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ. وَكَذَلِكَ «أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِتَالِ الَّذِينَ لَا يَنْتَهُونَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ» . وَأَمَّا الْأَصْلُ الْآخَرُ وَهُوَ مَعْرِفَةُ أَحْوَالِهِمْ: فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ جَارُوا عَلَى الشَّامِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى عَامَ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ، وَأَعْطَوْا النَّاسَ الْأَمَانَ وَقَرَءُوهُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِدِمَشْقَ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ سَلَبُوا مِنْ ذَرَارِيّ الْمُسْلِمِينَ، مَا يُقَالُ: إنَّهُ مِائَةُ أَلْفٍ، أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَفَعَلُوا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبِجَبَلِ الصَّالِحِيَّةِ، وَنَابُلُسَ، وَحِمْصَ، وَدَارِيَّا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ حَتَّى يُقَالَ: إنَّهُمْ سَبَوْا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَرِيبًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ وَجَعَلُوا يَفْجُرُونَ بِخِيَارِ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا: كَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَالْأُمَوِيِّ، وَغَيْرِهِ، وَجَعَلُوا الْجَامِعَ الَّذِي بِالْعُقَيْبَةِ دَكًّا، وَقَدْ شَاهَدْنَا عَسْكَرَ الْقَوْمِ فَرَأَيْنَا جُمْهُورَهُمْ لَا يُصَلُّونَ، وَلَمْ نَرَ فِي عَسْكَرِهِمْ مُؤَذِّنًا وَلَا إمَامًا. وَقَدْ أَخَذُوا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَخَرَّبُوا مِنْ دِيَارِهِمْ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِي دَوْلَتِهِمْ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ، إمَّا زِنْدِيقٌ مُنَافِقٌ لَا يَعْتَقِدُ دِينَ الْإِسْلَامِ فِي الْبَاطِنِ، وَإِمَّا مَنْ هُوَ مِنْ شَرِّ أَهْلِ الْبِدَعِ كَالرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالِاتِّحَادِيَّة وَنَحْوِهِمْ. وَإِمَّا مَنْ هُوَ أَفْجَرُ النَّاسِ وَأَفْسَقُهُمْ، وَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ مَعَ تَمَكُّنِهِمْ لَا يَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُصَلِّي وَيَصُومُ، فَلَيْسَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ إقَامَ الصَّلَاةِ وَلَا

إيتَاءَ الزَّكَاةِ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَ عَلَى مُلْكِ جِنْكِيزْ خَانْ، فَمَنْ دَخَلَ فِي طَاعَتِهِمْ جَعَلُوهُ وَلِيًّا لَهُمْ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا وَمَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ جَعَلُوهُ عَدُوًّا لَهُمْ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُقَاتِلُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يَضَعُونَ الْجِزْيَةَ، وَالصَّغَارَ، بَلْ غَايَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَائِهِمْ وَوُزَرَائِهِمْ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ عِنْدَهُمْ، كَمَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. كَمَا قَالَ أَكْبَرُ مُقَدَّمِيهِمْ الَّذِينَ قَدِمُوا إلَى الشَّامِ، وَهُوَ يُخَاطِبُ رُسُلَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَتَقَرَّبُ إلَيْهِمْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ فَقَالَ: هَذَانِ آيَتَانِ عَظِيمَتَانِ جَاءَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: مُحَمَّدٌ، وَجِنْكِيزْ خَانْ، فَهَذَا غَايَةُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ أَكْبَرُ مُقَدَّمِيهِمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ أَكْرَمِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ، وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ، وَخَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ، وَبَيْنَ مَلِكٍ كَافِرٍ مُشْرِكٍ مِنْ أَعْظَمِ الْمُشْرِكِينَ، كُفْرًا وَفَسَادًا وَعُدْوَانًا مِنْ جِنْسِ بُخْتِ نَصَّرَ وَأَمْثَالِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ اعْتِقَادَ هَؤُلَاءِ التَّتَارِ كَانَ فِي جِنْكِيزْ خَانْ عَظِيمًا فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ مِنْ جِنْسِ مَا يَعْتَقِدُهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ، وَيَقُولُونَ: إنَّ الشَّمْسَ حَبَّلَتْ أُمَّهُ، وَأَنَّهَا كَانَتْ فِي خَيْمَةٍ فَنَزَلَتْ الشَّمْسُ مِنْ كُوَّةِ الْخَيْمَةِ فَدَخَلَتْ فِيهَا حَتَّى حَبِلَتْ، وَمَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ ذِي دِينٍ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَلَدُ زِنًا، وَأَنَّ أُمَّهُ زَنَتْ فَكَتَمَتْ زِنَاهَا، وَأَخْفَتْ هَذَا حَتَّى تَدْفَعَ عَنْهَا مَعَرَّةَ الزِّنَا، وَهُمْ مَعَ هَذَا يَجْعَلُونَهُ أَعْظَمَ رَسُولٍ عِنْدَ اللَّهِ فِي تَعْظِيمِ مَا سَنَّهُ لَهُمْ، وَشَرَعَهُ بِظَنِّهِ، وَهُوَ حَتَّى يَقُولُوا لِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْمَالِ هَذَا رِزْقُ جِنْكِيزْ خَانْ، وَيَشْكُرُونَهُ عَلَى أَكْلِهِمْ وَشُرْبِهِمْ، وَهُمْ يَسْتَحِلُّونَ قَتْلَ مَنْ عَادَى مَا سَنَّهُ لَهُمْ هَذَا الْكَافِرُ الْمَلْعُونُ الْمُعَادِي لِلَّهِ وَلِأَنْبِيَائِهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ مُقَدَّمِيهِمْ كَانَ غَايَتُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَجْعَلَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْزِلَةِ هَذَا الْمَلْعُونِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ " مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ " كَانَ أَقَلَّ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا، وَادَّعَى أَنَّهُ شَرِيكُ مُحَمَّدٍ فِي الرِّسَالَةِ، وَبِهَذَا اسْتَحَلَّ الصَّحَابَةُ قِتَالَهُ، وَقِتَالَ أَصْحَابِهِ الْمُرْتَدِّينَ، فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ فِيمَا يُظْهِرُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ يَجْعَلُ مُحَمَّدًا كَجِنْكِيزْ خَانْ، وَإِلَّا فَهُمْ مَعَ إظْهَارِهِمْ لِلْإِسْلَامِ يُعَظِّمُونَ أَمْرَ " جِنْكِيزْ خَانْ " عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْمُتَّبِعَةِ لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ وَلَا يُقَاتِلُونَ أُولَئِكَ الْمُتَّبِعِينَ لِمَا سَنَّهُ " جِنْكِيزْ خَانْ " كَمَا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ بَلْ أَعْظَمَ.

أُولَئِكَ الْكُفَّارُ يَبْذُلُونَ لَهُ الطَّاعَةَ وَالِانْقِيَادَ، وَيَحْمِلُونَ إلَيْهِ الْأَمْوَالَ، وَيُقِرُّونَ لَهُ بِالنِّيَابَةِ، وَلَا يُخَالِفُونَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ إلَّا كَمَا يُخَالِفُ الْخَارِجُ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ لِلْإِمَامِ، وَهُمْ يُحَارِبُونَ الْمُسْلِمِينَ وَيُعَادُونَهُمْ أَعْظَمَ مُعَادَاةٍ وَيَطْلُبُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الطَّاعَةَ لَهُمْ وَبَذْلَ الْأَمْوَالِ وَالدُّخُولَ فِيمَا وَضَعَهُ لَهُمْ، ذَلِكَ الْمَلِكُ الْكَافِرُ الْمُشْرِكُ الْمُشَابِهُ لِفِرْعَوْنَ أَوْ النُّمْرُودِ وَنَحْوِهِمَا. بَلْ هُوَ أَعْظَمُ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ مِنْهُمَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] . وَهَذَا الْكَافِرُ عَلَا فِي الْأَرْضِ يَسْتَضْعِفُ أَهْلَ الْمِلَلِ كُلَّهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَالْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى وَمَنْ خَالَفَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِقَتْلِ الرِّجَالِ، وَسَبْيِ الْحَرِيمِ، وَيَأْخُذُ الْأَمْوَالَ وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ، وَالنَّسْلَ، وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَيَرُدُّ النَّاسَ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ سِلْكِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ إلَى أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا ابْتَدَعَهُ مِنْ سُنَّتِهِ الْجَاهِلِيَّةِ وَشَرِيعَتِهِ الْكُفْرِيَّةِ، فَهُمْ يَدَّعُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَيُعَظِّمُونَ دِينَ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ عَلَى دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَيُطِيعُونَهُمْ وَيُوَالُونَهُمْ أَعْظَمَ بِكَثِيرٍ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمُوَالَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْحُكْمُ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَ أَكَابِرِهِمْ بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا بِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَكَذَلِكَ الْأَكَابِرُ مِنْ وُزَرَائِهِمْ وَغَيْرِهِمْ يَجْعَلُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ كَدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا طُرُقٌ إلَى اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ دِينَ الْيَهُودِ أَوْ دِينَ النَّصَارَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ دِينَ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا الْقَوْلُ فَاشٍ غَالِبٌ فِيهِمْ حَتَّى فِي فُقَهَائِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ، لَا سِيَّمَا الْجَهْمِيَّةُ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ، فَإِنَّهُ غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ الْفَلْسَفَةُ وَهَذَا مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ وَعَلَى هَذَا كَثِيرٌ مِنْ النَّصَارَى أَوْ أَكْثَرُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْ الْيَهُودِ أَيْضًا. بَلْ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: إنْ غَابَ خَوَاصُّ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ وَالْعُبَّادُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لَمَا أُبْعِدَ. وَقَدْ رَأَيْت مِنْ ذَلِكَ وَسَمِعْت مَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ، وَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَبِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ سَوَّغَ اتِّبَاعَ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ اتِّبَاعِ

شَرِيعَةٍ غَيْرِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ كَافِرٌ، وَهُوَ كَكُفْرِ مَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} [النساء: 150] {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 151] . وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى دَاخِلُونَ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمُتَفَلْسِفَةُ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، وَمَنْ تَفَلْسَفَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَبْقَى كُفْرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. وَهَؤُلَاءِ أَكْثَرُ وُزَرَائِهِمْ الَّذِينَ يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا مُتَفَلْسِفًا ثُمَّ انْتَسَبَ إلَى الْإِسْلَامِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ وَالتَّفَلْسُفِ، وَضَمَّ إلَى ذَلِكَ الرَّفْضَ فَهَذَا هُوَ أَعْظَمُ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَوِي الْأَقْلَامِ وَذَاكَ أَعْظَمُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَوِي السَّيْفِ فَلْيَعْتَبِرْ الْمُؤْمِنُ بِهَذَا. وَبِالْجُمْلَةِ: فَمَا مِنْ نِفَاقٍ وَزَنْدَقَةٍ وَإِلْحَادٍ إلَّا وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي اتِّبَاعِ التَّتَارِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ وَأَقَلِّهِمْ مَعْرِفَةً بِالدِّينِ وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ اتِّبَاعِهِ وَأَعْظَمِ الْخَلْقِ اتِّبَاعًا لِلظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ. وَقَدْ قَسَّمُوا النَّاسَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ يال رُبَاع وداشمند وطاط، أَيْ صَدِيقُهُمْ وَعَدُوُّهُمْ وَالْعَالِمُ وَالْعَامِّيُّ، فَمَنْ دَخَلَ فِي طَاعَتِهِمْ الْجَاهِلِيَّةِ وَسُنَّتِهِمْ الْكُفْرِيَّةِ كَانَ صَدِيقَهُمْ، وَمَنْ خَالَفَهُمْ كَانَ عَدُوَّهُمْ. وَلَوْ كَانَ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَكُلُّ مَنْ انْتَسَبَ إلَى عِلْمٍ أَوْ دِينٍ سَمَّوْهُ " داشمند " كَالْفَقِيهِ، وَالزَّاهِدِ، وَالْقِسِّيسِ، وَالرَّاهِبِ، وَدَنَانِ الْيَهُودِ، وَالْمُنَجِّمِ، وَالسَّاحِرِ، وَالطَّبِيبِ، وَالْكَاتِبِ، وَالْحَاسِبِ، فَيُدْرِجُونَ سَادِنَ الْأَصْنَامِ فَيُدْرِجُونَ فِي هَذَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَهْلِ الْبِدَعِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ، وَيَجْعَلُونَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ نَوْعًا وَاحِدًا، بَلْ يَجْعَلُونَ الْقَرَامِطَةَ الْمَلَاحِدَةَ الْبَاطِنِيَّةَ الزَّنَادِقَةَ الْمُنَافِقِينَ كَالطُّوسِيِّ وَأَمْثَالِهِ، هُمْ الْحُكَّامُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ انْتَسَبَ إلَى عِلْمٍ أَوْ دِينٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَكَذَلِكَ وَزِيرُهُمْ السَّفِيهُ الْمُلَقَّبُ بِالرَّشِيدِ، يَحْكُمُ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ وَيُقَدِّمُ

شِرَارَ الْمُسْلِمِينَ كَالرَّافِضَةِ وَالْمَلَاحِدَةِ عَلَى خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، حَتَّى تَوَلَّى قَضَاءَ الْقُضَاةِ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، بِحَيْثُ تَكُونُ مُوَافِقَةً لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ الْيَهُودِ وَالْقَرَامِطَةِ، وَالْمَلَاحِدَةِ، وَالرَّافِضَةِ عَلَى مَا يُرِيدُونَهُ أَعْظَمَ مِنْ غَيْرِهِ وَيَتَظَاهَرُ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ لِأَجْلِ مَنْ هُنَاكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إنَّ وَزِيرَهُمْ هَذَا الْخَبِيثَ الْمُلْحِدَ الْمُنَافِقَ صَنَّفَ مُصَنَّفًا مَضْمُونُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضِيَ بِدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَنَّهُ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَذُمُّونَ، وَلَا يَنْهَوْنَ دِينَهُمْ، وَلَا يُؤْمَرُونَ بِالِانْتِقَالِ إلَى الْإِسْلَامِ وَاسْتَدَلَّ الْخَبِيثُ الْجَاهِلُ بِقَوْلِهِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 2] {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3] {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} [الكافرون: 4] {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 5] {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] . وَزَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَرْضَى دِينَهُمْ، وَقَالَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً، وَجَرَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ أُمُورٌ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا جَهْلٌ مِنْهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينٌ لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ دِينُ الْكُفَّارِ حَقًّا وَلَا مَرْضِيًّا لَهُ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَبْرِئَةٍ مِنْ دِينِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ السُّورَةِ إنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنْ الشِّرْكِ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41] . فَقَوْلُهُ: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] كَقَوْلِهِ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ. وَقَدْ اتَّبَعَ ذَلِكَ بِمُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ حَيْثُ قَالَ: أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِتَرْكِ دِينِهِمْ فَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَبِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ أَمَرَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَأَنَّهُ جَاءَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَافِرُونَ يَخْلُدُونَ فِي النَّارِ. وَقَدْ أَظْهَرُوا الرَّفْضَ وَمَنَعُوا أَنْ نَذْكُرَ عَلَى الْمَنَابِرِ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ، وَذَكَرُوا عَلِيًّا وَأَظْهَرُوا الدَّعْوَةَ لِلِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ تَزْعُمُ الرَّافِضَةُ أَنَّهُمْ أَئِمَّةٌ مَعْصُومُونَ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ،

وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ: كُفَّارٌ، وَفُجَّارٌ، ظَالِمُونَ لَا خِلَافَةَ لَهُمْ، وَلَا لِمَنْ بَعْدَهُمْ. وَمَذْهَبُ الرَّافِضَةِ شَرٌّ مِنْ مَذْهَبِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ، فَإِنَّ الْخَوَارِجَ غَايَتُهُمْ تَكْفِيرُ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَشِيعَتِهِمَا، وَالرَّافِضَةَ تَكْفِيرُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَجُمْهُورِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَتَجْحَدُ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْظَمَ مِمَّا جَحَدَ بِهِ الْخَوَارِجُ، وَفِيهِمْ مِنْ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالْغُلُوِّ وَالْإِلْحَادِ مَا لَيْسَ فِي الْخَوَارِجِ، وَفِيهِمْ مِنْ مُعَاوَنَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا لَيْسَ مِنْ الْخَوَارِجِ، وَالرَّافِضَةِ تُحِبُّ التَّتَارَ وَدَوْلَتَهُمْ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِدَوْلَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالرَّافِضَةُ هُمْ مُعَاوِنُونَ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ كَانُوا مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي دُخُولِ التَّتَارِ قَبْلَ إسْلَامِهِمْ إلَى أَرْضِ الْمَشْرِقِ بِخُرَاسَانَ، وَالْعِرَاقِ، وَالشَّامِ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ مُعَاوَنَةً لَهُمْ عَلَى أَخْذِهِمْ لِبِلَادِ الْإِسْلَامِ وَقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيِ حَرِيمِهِمْ، وَقَضِيَّةُ ابْنِ الْعَلْقَمِيِّ وَأَمْثَالِهِ مَعَ الْخَلِيفَةِ وَقَضِيَّتُهُمْ فِي حَلَبَ مَعَ صَاحِبِ حَلَبَ مَشْهُورَةٌ يَعْرِفُهَا عُمُومُ النَّاسِ. وَكَذَلِكَ فِي الْحُرُوبِ الَّتِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ النَّصَارَى بِسَوَاحِلِ الشَّامِ قَدْ عَرَفَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّ الرَّافِضَةَ تَكُونُ مَعَ النَّصَارَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُمْ عَاوَنُوهُمْ عَلَى أَخْذِ الْبِلَادِ لَمَّا جَاءَ التَّتَارُ وَعَزَّ عَلَى الرَّافِضَةِ فَتْحُ عَكَّا وَغَيْرِهَا مِنْ السَّوَاحِلِ، وَإِذَا غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ كَانَ ذَلِكَ غُصَّةً عِنْدَ الرَّافِضَةِ، وَإِذَا غَلَبَ الْمُشْرِكُونَ وَالنَّصَارَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ ذَلِكَ عِيدًا، وَمَسَرَّةً عِنْدَ الرَّافِضَةِ، وَدَخَلَ فِي الرَّافِضَةِ أَهْلُ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ مِنْ النُّصَيْرِيَّةِ، وَالْإِسْمَاعِيلِيَّة، وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الْقَرَامِطَةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ كَانَ بِخُرَاسَانَ، وَالْعِرَاقِ، وَالشَّامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالرَّافِضَةُ جَهْمِيَّةٌ قَدَرِيَّةٌ، وَفِيهِمْ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبِدَعِ وَالِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ فِيهِمْ مِنْ الرِّدَّةِ عَنْ شَرَائِعِ الدِّينِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَالصَّحَابَةُ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا ذَمَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَوَارِجَ قَوْلُهُ: «فَهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَدْيَانِ» . كَمَا أُخْرِجَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «بَعَثَ عَلِيٌّ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذُهَيْبَةٍ فَقَسَّمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ يَعْنِي مِنْ أُمَرَاءِ نَجْدٍ فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ قَالُوا: يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا، قَالَ: إنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ

الْوَجْنَتَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقٌ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اتَّقِ اللَّهِ؛ فَقَالَ: مَنْ يُطِيعُ اللَّهَ إذَا عَصَيْته أَيَأْمَنُنِي اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي فَسَأَلَهُ رَجُلٌ قَتْلَهُ فَمَنَعَهُ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: إنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا أَوْ فِي عَقِبِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنهُمْ قَتْلَ عَادٍ» وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ «أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُقَسِّمُ قَسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْدِلْ. فَقَالَ: وَيْلَك فَمَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلْ قَدْ خِبْت وَخَسِرْت إنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَأْذَنُ لِي فِيهِ فَأَضْرِبُ عُنُقَهُ. فَقَالَ: دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يَنْظُرُ إلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى رِصَافِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى نَضِيِّهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ» . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْت هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ، فَالْتُمِسَ فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْت إلَيْهِ عَلَى نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي نَعَتَهُ، فَهَؤُلَاءِ الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ مِنْ أَعْظَمِ مَا ذَمَّهُمْ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ وَالْخَوَارِجُ مَعَ هَذَا لَمْ يَكُونُوا يُعَاوِنُونَ الْكُفَّارَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَالرَّافِضَةُ يُعَاوِنُونَ الْكُفَّارَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْكُفَّارِ، فَكَانُوا أَعْظَمَ مُرُوقًا عَنْ الدِّينِ مِنْ أُولَئِكَ الْمَارِقِينَ بِكَثِيرٍ كَثِيرٍ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَنَحْوِهِمْ، إذَا فَارَقُوا

جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا قَاتَلَهُمْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَكَيْفَ إذَا ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْمُشْرِكِينَ كَنَائِسًا وَجِنْكِيزْ خَانْ مَلِكَ الْمُشْرِكِينَ مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُضَادَّةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَكُلُّ مَنْ قَفَزَ إلَيْهِمْ مِنْ أُمَرَاءَ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُمْ وَفِيهِمْ مِنْ الرِّدَّةِ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، بِقَدْرِ مَا ارْتَدَّ عَنْهُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. وَإِذَا كَانَ السَّلَفُ قَدْ سَمَّوْا مَانِعِي الزَّكَاةِ مُرْتَدِّينَ مَعَ كَوْنِهِمْ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ، وَلَمْ يَكُونُوا يُقَاتِلُونَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ مِمَّنْ صَارَ مَعَ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَاتِلًا لِلْمُسْلِمِينَ مَعَ أَنَّهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ لَوْ اسْتَوْلَى هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْمُحَادُّونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْمُعَادُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، عَلَى أَرْضِ الشَّامِ وَمِصْرَ. فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ لَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى زَوَالِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَدُرُوسِ شَرَائِعِهِ. أَمَّا الطَّائِفَةُ بِالشَّامِ وَمِصْرَ وَنَحْوِهِمَا فَهُمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمُقَاتِلُونَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُمْ مِنْ أَحَقِّ النَّاسِ دُخُولًا فِي الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ» . وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ بِمَدِينَتِهِ النَّبَوِيَّةِ، فَغَرْبُهُ مَا يَغْرُبُ عَنْهَا، وَشَرْقُهُ مَا يَشْرُقُ عَنْهَا، فَإِنَّ التَّشْرِيقَ وَالتَّغْرِيبَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ، إذْ كُلُّ بَلَدٍ لَهُ شَرْقٌ وَغَرْبٌ، وَلِهَذَا إذَا قَدِمَ الرَّجُلُ إلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّة مِنْ الْغَرْبِ يَقُولُونَ: سَافَرَ إلَى الشَّرْقِ، وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ أَهْلَ الشَّامِ أَهْلَ الْغَرْبِ، وَيُسَمُّونَ أَهْلَ نَجْدٍ وَالْعِرَاقِ أَهَلَ الشَّرْقِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَدِمَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا. وَفِي رِوَايَةٍ: «مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ» . وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: أَهْلُ الْغَرْبِ هُمْ أَهْلُ الشَّامِ. يَعْنِي هُمْ أَهْلُ الْغَرْبِ

كَمَا أَنَّ نَجْدًا وَالْعِرَاقِ أَوَّلُ الشَّرْقِ، وَكُلُّ مَا يَشْرُقُ عَنْهَا فَهُوَ مِنْ الشَّرْقِ، وَكُلّ مَا يَغْرُبُ عَنْ الشَّامِ مِنْ مِصْرَ وَغَيْرِهَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْغَرْبِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ فِي الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَهُمْ بِالشَّامِ فَإِنَّهَا أَصْلُ الْمَغْرِبِ، وَهُمْ فَتَحُوا سَائِرَ الْمَغْرِبِ: كَمِصْرِ، وَالْقَيْرَوَانِ، وَالْأَنْدَلُسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ غَرْبُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ مَا يَقْرُبُ عَنْهَا فَالنَّيِّرَةُ وَنَحْوُهَا عَلَى مُسَامَتَةِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ كَمَا أَنَّ حَرَّانَ وَالرَّقَّةَ وسمنصاط وَنَحْوَهَا عَلَى مُسَامَتَةِ مَكَّةَ، فَمَا يَغْرُبُ عَنْ النَّيِّرَةِ فَهُوَ مِنْ الْغَرْبِ الَّذِينَ وَعَدَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي صِفَةِ الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ أَنَّهُمْ بِأَكْنَافِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ هِيَ الَّتِي بِأَكْنَافِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ الْيَوْمَ وَمَنْ يَدَّبَّرُ أَحْوَالَ الْعَالَمِ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَعَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ هِيَ أَقْوَمُ الطَّوَائِفِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَجِهَادًا عَنْ شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا، فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ أَهْلَ الشَّوْكَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَغَازِيهِمْ مَعَ النَّصَارَى، وَمَعَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ التُّرْكِ، وَمَعَ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ الدَّاخِلِينَ فِي الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ: كَالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْقَرَامِطَةِ، مَعْرُوفَةٌ مَعْلُومَةٌ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَالْعِزُّ الَّذِي لِلْمُسْلِمِينَ بِمَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا هُوَ بِعِزِّهِمْ وَلِهَذَا لَمَّا هُزِمُوا سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ دَخَلَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْ الذُّلِّ وَالْمُصِيبَةِ بِمَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ، وَالْحِكَايَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ سُكَّانَ الْيَمَنِ فِي هَذَا الْوَقْتِ ضِعَافٌ عَاجِزُونَ عَنْ الْجِهَادِ أَوْ مُضَيِّعُونَ لَهُ، وَهُمْ مُطِيعُونَ لِمَنْ مَلَكَ هَذِهِ الْبِلَادَ حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُمْ أَرْسَلُوا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِهَؤُلَاءِ، وَمَلِكُ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا جَاءَ إلَى حَلَبَ جَرَى بِهَا مِنْ الْقَتْلِ مَا جَرَى. وَأَمَّا سُكَّانُ الْحِجَازِ فَأَكْثَرُهُمْ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ خَارِجُونَ عَنْ الشَّرِيعَةِ، وَفِيهِمْ مِنْ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ وَالْفُجُورِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ، وَأَهْلُ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ فِيهِمْ مُسْتَضْعَفُونَ عَاجِزُونَ، وَإِنَّمَا تَكُونُ لَهُمْ الْقُوَّةُ وَالْعِزَّةُ فِي هَذَا الْوَقْتِ لِغَيْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْبِلَادِ، فَلَوْ ذَلَّتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِالْحِجَازِ مِنْ أَذَلِّ النَّاسِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ غَلَبَ فِيهِمْ الرَّفْضُ، وَمَلَكَ هَؤُلَاءِ التَّتَارُ الْمُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْآنَ مَرْفُوضُونَ فَلَوْ غَلَبُوا لَفَسَدَ الْحِجَازُ بِالْكُلِّيَّةِ.

وَأَمَّا بِلَادُ إفْرِيقِيَّةَ فَأَعْرَابُهَا غَالِبُونَ عَلَيْهَا، وَهُمْ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ بَلْ هُمْ مُسْتَحِقُّونَ لِلْجِهَادِ وَالْغَزْوِ. وَأَمَّا الْغَرْبُ الْأَقْصَى فَمَعَ اسْتِيلَاءِ الْإِفْرِنْجِ عَلَى أَكْثَرِ بِلَادِهِمْ لَا يَقُومُونَ بِجِهَادِ النَّصَارَى الَّذِينَ هُنَاكَ بَلْ فِي عَسْكَرِهِمْ مِنْ النَّصَارَى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الصُّلْبَانَ خَلْقٌ عَظِيمٌ لَوْ اسْتَوْلَى التَّتَارُ عَلَى هَذِهِ الْبِلَادِ لَكَانَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ مَعَهُمْ مِنْ أَذَلِّ النَّاسِ لَا سِيَّمَا وَالنَّصَارَى تَدْخُلُ مَعَ التَّتَارِ فَيَصِيرُونَ حِزْبًا عَلَى أَهْلِ الْمَغْرِبِ، فَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ الْعِصَابَةَ الَّتِي بِالشَّامِ وَمِصْرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ هُمْ كَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ، وَعِزُّهُمْ عِزُّ الْإِسْلَامِ، وَذُلُّهُمْ ذُلُّ الْإِسْلَامِ، فَلَوْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ التَّتَارُ لَمْ يَبْقَ لِلْإِسْلَامِ عِزٌّ وَلَا كَلِمَةٌ عَالِيَةٌ، وَلَا طَائِفَةٌ ظَاهِرَةٌ عَالِيَةٌ يَخَافُهَا أَهْلُ الْأَرْضِ تُقَاتِلُ عَنْهُ، فَمَنْ قَفَزَ عَنْهُمْ إلَى التَّتَارِ كَانَ أَحَقَّ بِالْقِتَالِ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ التَّتَارِ، فَإِنَّ التَّتَارَ فِيهِمْ الْمُكْرَهُ وَغَيْرُ الْمُكْرَهِ. وَقَدْ اسْتَقَرَّتْ السُّنَّةُ بِأَنَّ عُقُوبَةَ الْمُرْتَدِّ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: مِنْهَا: أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَا يُضْرَبُ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ، وَلَا تُعْقَدُ لَهُ ذِمَّةٌ بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْقِتَالِ بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي لَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَة، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ. وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ، وَلَا يُنَاكَحُ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَإِذَا كَانَتْ الرِّدَّةُ عَنْ أَصْلِ الدِّينِ أَعْظَمَ مِنْ الْكُفْرِ بِأَصْلِ الدِّينِ، فَالرِّدَّةُ عَنْ شَرَائِعِهِ أَعْظَمُ مِنْ خُرُوجِ الْخَارِجِ الْأَصْلِيِّ عَنْ شَرَائِعِهِ، وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مُؤْمِنٍ يَعْرِفُ أَحْوَالَ التَّتَارِ وَيَعْلَمُ أَنَّ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ فِيهِمْ مِنْ الْفُرْسِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ شَرٌّ مِنْ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ مِنْ التُّرْكِ وَنَحْوِهِمْ، وَهُمْ بَعْدَ أَنْ تَكَلَّمُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ تَرْكِهِمْ لِكَثِيرٍ مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ خَيْرٌ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ الْفُرْسِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِمَّنْ كَانَ مُسْلِمَ الْأَصْلِ هُوَ شَرٌّ مِنْ التُّرْكِ الَّذِينَ كَانُوا كُفَّارًا، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ الْأَصْلِيَّ إذَا ارْتَدَّ عَنْ بَعْضِ شَرَائِعِهِ كَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِمَّنْ لَمْ يَدْخُلْ بَعْدُ فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ مِثْلُ: مَانِعِي الزَّكَاةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ قَاتَلَهُمْ الصِّدِّيقُ. وَإِنْ

كَانَ الْمُرْتَدُّ عَنْ بَعْضِ الشَّرَائِعِ مُتَفَقِّهًا، أَوْ مُتَصَوِّفًا أَوْ تَاجِرًا، أَوْ كَاتِبًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ التُّرْكِ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ وَأَصَرُّوا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ضَرَرِ هَؤُلَاءِ عَلَى الدِّينِ مَا لَا يَجِدُونَهُ مِنْ ضَرَرِ أُولَئِكَ، وَيَنْقَادُونَ لِلْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَعْظَمَ مِنْ انْقِيَادِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنْ بَعْضِ الدِّينِ وَنَافَقُوا فِي بَعْضِهِ، وَإِنْ تَظَاهَرُوا بِالِانْتِسَابِ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَغَايَةُ مَا يُوجَدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَكُونُ مُلْحِدًا نُصَيْرِيًّا، أَوْ إسْمَاعِيلِيًّا، أَوْ رَافِضِيًّا، وَخِيَارُهُمْ يَكُونُ جَهْمِيًّا اتِّحَادِيًّا أَوْ نَحْوَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَنْضَمُّ إلَيْهِمْ طَوْعًا مِنْ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ إلَّا مُنَافِقٌ، أَوْ زِنْدِيقٌ، أَوْ فَاسِقٌ فَاجِرٌ، وَمَنْ أَخْرَجُوهُ مَعَهُمْ مُكْرَهًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ عَلَى نِيَّتِهِ، وَنَحْنُ عَلَيْنَا أَنْ نُقَاتِلَ الْعَسْكَرَ جَمِيعَهُ إذْ لَا يَتَمَيَّزُ الْمُكْرَهُ مِنْ غَيْرِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَغْزُو هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ مِنْ النَّاسِ، فَبَيْنَمَا هُمْ بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ إذْ خُسِفَ بِهِمْ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ فِيهِمْ الْمُكْرَهَ. فَقَالَ: يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» . وَالْحَدِيثُ مُسْتَفِيضٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَخْرَجَهُ أَرْبَابُ الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ. فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَعُوذُ عَائِذٌ بِالْبَيْتِ فَيُبْعَثُ إلَيْهِ بَعْثٌ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كَارِهًا. قَالَ: يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ وَلَكِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «عَبَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَنَامِهِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَنَعْت شَيْئًا فِي مَنَامِك لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ. فَقَالَ: الْعَجَبُ أَنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَؤُمُّونَ هَذَا الْبَيْتَ بِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ لَجَأَ إلَى الْبَيْتِ حَتَّى إذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ خُسِفَ بِهِمْ. فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ الطَّرِيقَ قَدْ يَجْمَعُ النَّاسَ. قَالَ: نَعَمْ، فِيهِمْ الْمُسْتَنْصِرُ وَالْمَجْنُونُ وَابْنُ السَّبِيلِ فَيَهْلِكُونَ مَهْلَكًا وَاحِدًا وَيَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى، يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»

وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةِ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ. قَالَتْ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ. قَالَ: يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ حَفْصَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: سَيَعُوذُ بِهَذَا الْبَيْتِ - يَعْنِي الْكَعْبَةَ - قَوْمٌ لَيْسَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا عَدَدٌ وَلَا عُدَّةٌ، يُبْعَثُ إلَيْهِمْ جَيْشٌ يَوْمَئِذٍ حَتَّى إذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ» . قَالَ يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ: وَأَهْلُ الشَّامِ يَوْمَئِذٍ يَسِيرُونَ إلَى مَكَّةَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ: أَمَا وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِهَذَا الْجَيْشِ فَاَللَّهُ تَعَالَى أَهْلَكَ الْجَيْشَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَنْتَهِكَ حُرُمَاتِهِ الْمُكْرَهَ فِيهِمْ وَغَيْرَ الْمُكْرَهِ. مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمْ مَعَ أَنَّهُ يَبْعَثُهُمْ عَلَى نِيَّاتِهِمْ. فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ أَنْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَغَيْرِهِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ بَلْ لَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ خَرَجَ مُكْرَهًا لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ. كَمَا رُوِيَ «أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي، كُنْت مُكْرَهًا. فَقَالَ: أَمَّا ظَاهِرُك فَكَانَ عَلَيْنَا وَأَمَّا سَرِيرَتُك فَإِلَى اللَّهِ» . بَلْ لَوْ كَانَ فِيهِمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ وَلَمْ يُمْكِنْ قِتَالُهُمْ إلَّا بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ لَقُتِلُوا أَيْضًا فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَوْ تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمِينَ وَخِيفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يُقَاتِلُوا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ نَرْمِيَهُمْ وَنَقْصِدَ الْكُفَّارَ، وَلَوْ لَمْ نَخَفْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَازَ وَهِيَ أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَمَنْ قُتِلَ لِأَجْلِ الْجِهَادِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ هُوَ فِي الْبَاطِنِ مَظْلُومٌ كَانَ شَهِيدًا، وَبُعِثَ عَلَى نِيَّتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ قَتْلُهُ أَعْظَمَ فَسَادًا مِنْ قَتْلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ، وَإِذَا كَانَ الْجِهَادُ وَاجِبًا وَإِنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَا شَاءَ اللَّهُ فَقِيلَ مَنْ يُقْتَلُ فِي صَفِّهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِحَاجَةِ الْجِهَادِ لَيْسَ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، بَلْ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُكْرَهَ فِي قِتَالِ الْفِتْنَةِ بِكَسْرِ سَيْفِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ، وَإِنْ قُتِلَ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ

عَنْ أَبِي بَكْرَةَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتَنٌ أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، أَلَا فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ فَمَنْ كَانَ لَهُ إبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْت مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إبِلٌ، وَلَا غَنَمٌ، وَلَا أَرْضٌ قَالَ: يَعْمِدُ إلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ، ثُمَّ لِيَنْجُ إنْ اسْتَطَاعَ النَّجَاةَ. اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْت إنْ أُكْرِهْت حَتَّى يُنْطَلَقَ بِي إلَى إحْدَى الصَّفَّيْنِ أَوْ إحْدَى الْفِئَتَيْنِ فَيَضْرِبُنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ أَوْ بِسَهْمِهِ فَيَقْتُلَنِي. قَالَ: يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِك، وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ بَلْ أَمَرَ بِمَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْقِتَالُ مِنْ الِاعْتِزَالِ أَوْ إفْسَادِ السِّلَاحِ الَّذِي يُقَاتِلُ بِهِ. وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْمُكْرَهُ وَغَيْرُهُ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُكْرَهَ إذَا قُتِلَ ظُلْمًا كَانَ الْقَاتِلُ قَدْ بَاءَ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِ الْمَقْتُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ عَنْ الْمَظْلُومِ {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 29] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا صَالَ صَائِلٌ عَلَى نَفْسِهِ جَازَ لَهُ الدَّفْعُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّفْعُ بِالْقِتَالِ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: إحْدَاهُمَا: يَجِبُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ لَمْ يَحْضُرْ الصَّفَّ. وَالثَّانِيَةُ: يَجُوزُ لَهُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ. وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِالْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ فَلَا يَجُوزُ بِلَا رَيْبٍ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ، بَلْ عَلَيْهِ إفْسَادُ سِلَاحِهِ، وَأَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يُقْتَلَ مَظْلُومًا فَكَيْفَ بِالْمُكْرَهِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الطَّائِفَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ: كَمَانِعِي الزَّكَاةِ، وَالْمُرْتَدِّينَ، وَنَحْوِهِمْ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْحُضُورِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ وَإِنْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ الْكُفَّارُ عَلَى حُضُورِ صَفِّهِمْ لِيُقَاتِلَ

الْمُسْلِمِينَ، وَكَمَا لَوْ أَكْرَهَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ مَعْصُومٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ بِالْقَتْلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ حِفْظُ نَفْسِهِ بِقَتْلِ ذَلِكَ الْمَعْصُومِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ فَيَقْتُلَهُ، لِئَلَّا يُقْتَلَ هُوَ، بَلْ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرِهِ جَمِيعًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: كَأَحْمَدَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَفِي الْآخَرِ: يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرِهِ فَقَطْ كَقَوْلِ: أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَقِيلَ: الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ الْمُبَاشِرِ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زُفَرَ، وَأَبُو يُوسُفَ: يُوجِبُ الضَّمَانَ بِالدِّيَةِ بَدَلَ الْقَوَدِ وَلَمْ يُوجِبْهُ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِصَّةَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ وَفِيهَا أَنَّ الْغُلَامَ أَمَرَ بِقَتْلِ نَفْسِهِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ ظُهُورِ الدِّينِ، وَلِهَذَا جَوَّزَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ أَنْ يَنْغَمِسَ الْمُسْلِمُ فِي صَفِّ الْكُفَّارِ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَفْعَلُ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْجِهَادِ مَعَ أَنَّ قَتْلَهُ نَفْسَهُ أَعْظَمُ مِنْ قَتْلِهِ لِغَيْرِهِ كَانَ مَا يُفْضِي إلَى قَتْلِ غَيْرِهِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الدِّينِ الَّتِي لَا تَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ وَدَفْعِ ضَرَرِ الْعَدُوِّ الْمُفْسِدِ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا، الَّذِي لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِذَلِكَ أَوْلَى وَإِذَا كَانَتْ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ مُتَّفِقَيْنِ عَلَى أَنَّ الصَّائِلَ الْمُسْلِمَ إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ صَوْلُهُ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ الَّذِي يَأْخُذُهُ قِيرَاطًا مِنْ دِينَارٍ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ حَرَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» . فَكَيْفَ بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الَّذِينَ صَوْلُهُمْ وَبَغْيُهُمْ أَقَلُّ مَا فِيهِمْ، فَإِنَّ قِتَالَ الْمُعْتَدِينَ الصَّائِلِينَ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَهَؤُلَاءِ مُعْتَدُونَ صَائِلُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، وَحُرَمِهِمْ، وَدِينِهِمْ، وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ يُبِيحُ قِتَالَ الصَّائِلِ عَلَيْهَا، وَمَنْ قُتِلَ دُونَهَا فَهُوَ شَهِيدٌ، فَكَيْفَ بِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا كُلَّهَا وَهُمْ مِنْ شَرِّ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ الظَّالِمِينَ، لَكِنْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ كَمَا

تُقَاتَلُ الْبُغَاةُ الْمُتَأَوِّلُونَ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً قَبِيحًا وَضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا فَإِنَّ أَقَلَّ مَا فِي الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ سَائِغٌ خَرَجُوا بِهِ. وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْإِمَامَ يُرَاسَلُهُمْ، فَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً بَيَّنَهَا، وَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلِمَةً أَزَالَهَا، فَأَيُّ شُبْهَةٍ لِهَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ السَّاعِينَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَالْخَارِجِينَ عَنْ شَرَائِعِ الدِّينِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ أَنَّهُمْ أَقْوَمُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَعَمَلًا مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ بَلْ هُوَ مَعَ دَعْوَاهُمْ الْإِسْلَامَ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ أَعْلَمُهُمْ بِإِسْلَامٍ مِنْهُمْ، وَأَتْبَعُ لَهُ مِنْهُمْ، وَكُلُّ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُنْذِرُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ، فَامْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ شُبْهَةٌ بَيِّنَةٌ يَسْتَحِلُّونَ بِهَا قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ وَهُمْ قَدْ سَبَوْا غَالِبَ حَرِيمِ الرَّعِيَّةِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوهُمْ؟ حَتَّى إنَّ النَّاسَ قَدْ رَأَوْهُمْ يُعَظِّمُونَ الْبُقْعَةَ وَيَأْخُذُونَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَمْوَالِ، وَيُعَظِّمُونَ الرَّجُلَ وَيَتَبَرَّكُونَ بِهِ، وَيَسْلُبُونَهُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الثِّيَابِ، وَيَسْبُونَ حَرِيمَهُ وَيُعَاقِبُونَهُ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي لَا يُعَاقَبُ بِهَا إلَّا أَظْلَمُ النَّاسِ وَأَفْجَرُهُمْ، وَالْمُتَأَوِّلُ تَأْوِيلًا دِينِيًّا لَا يُعَاقِبُ إلَّا مَنْ يَرَاهُ عَاصِيًا لِلدِّينِ، وَهُمْ يُعَظِّمُونَ مَنْ يُعَاقِبُونَهُ فِي الدِّينِ، وَيَقُولُونَ: إنَّهُ أَطْوَعُ لِلَّهِ مِنْهُمْ، فَأَيُّ تَأْوِيلٍ بَقِيَ لَهُمْ، ثُمَّ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ مُتَأَوِّلُونَ لَمْ يَكُنْ تَأْوِيلُهُمْ سَائِغًا، بَلْ تَأْوِيلُ الْخَوَارِجِ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ أَوْجَهُ مِنْ تَأْوِيلِهِمْ، أَمَّا الْخَوَارِجُ فَإِنَّهُمْ ادَّعَوْا اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ مَا خَالَفَهُ مِنْ السُّنَّةِ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ. وَأَمَّا مَانِعُوا الزَّكَاةِ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً وَهَذَا خِطَابٌ لِنَبِيِّهِ فَقَطْ فَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نَدْفَعَهَا لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَكُونُوا يَدْفَعُونَهَا لِأَبِي بَكْرٍ وَلَا يُخْرِجُونَهَا لَهُ، وَالْخَوَارِجُ لَهُمْ عِلْمٌ وَعِبَادَةٌ وَلِلْعُلَمَاءِ مَعَهُمْ مُنَاظَرَاتٌ كَمُنَاظَرَتِهِمْ مَعَ الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَلَا يُنَاظَرُونَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَأْوِيلٌ يَقُولُهُ ذُو عَقْلٍ، وَقَدْ خَاطَبَنِي بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ: مَلِكُنَا مِلِكٌ ابْنُ مَلِكٍ ابْنُ مَلِكٍ إلَى سَبْعَةِ أَجْدَادٍ، وَمَلِكُكُمْ ابْنُ مَوْلًى فَقُلْت: لَهُ: آبَاءُ ذَلِكَ الْمَلِكِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ، وَلَا فَخْرَ بِالْكَافِرِ، بَلْ الْمَمْلُوكُ الْمُسْلِمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَلِكِ الْكَافِرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221] .

مسألة أجناد يمتنعون عن قتال التتار

فَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا حُجَجُهُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ مُسْلِمًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ الْمُسْلِمَ وَلَوْ كَانَ عَبْدًا وَلَا يُطِيعُ الْكَافِرَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ» . وَدِينُ الْإِسْلَامِ إنَّمَا يُفَضِّلُ الْإِنْسَانَ بِإِيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ لَا بِآبَائِهِ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ خَلَقَ الْجَنَّةَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، وَخَلَقَ النَّارَ لِمَنْ عَصَاهُ وَلَوْ كَانَ شَرِيفًا قُرَشِيًّا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ، وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ إلَّا بِالتَّقْوَى، النَّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِقَبِيلَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْهُ: «إنَّ آلَ أَبِي فُلَانٍ لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي إنَّمَا وَلِيِّي اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ» . فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مُوَالَاتَهُ لَيْسَتْ بِالْقَرَابَةِ وَالنَّسَبِ، بَلْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي قَرَابَةِ الرَّسُولِ فَكَيْفَ بِقَرَابَةِ جِنْكِيزْ خَانْ الْكَافِرِ الْمُشْرِكِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ إيمَانًا وَتَقْوًى كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَسْوَدَ حَبَشِيًّا وَالثَّانِي عَلَوِيًّا أَوْ عَبَّاسِيًّا. [مَسْأَلَةٌ أَجْنَادٍ يَمْتَنِعُونَ عَنْ قِتَالِ التَّتَارِ] 778 - 7 - مَسْأَلَةٌ: فِي أَجْنَادٍ يَمْتَنِعُونَ عَنْ قِتَالِ التَّتَارِ، وَيَقُولُونَ: إنَّ فِيهِمْ مَنْ يَخْرُجُ

مُكْرَهًا مَعَهُمْ وَإِذَا هَرَبَ أَحَدُهُمْ هَلْ يُتَّبَعُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قِتَالُ التَّتَارِ الَّذِينَ قَدِمُوا إلَى بِلَادِ الشَّامِ وَاجِبٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] وَالدِّينُ هُوَ الطَّاعَةُ، فَإِذَا كَانَ بَعْضُ الدِّينِ لِلَّهِ وَبَعْضُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَجَبَ الْقِتَالُ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] . وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الطَّائِفِ لَمَّا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَالْتَزَمُوا الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ، لَكِنْ امْتَنَعُوا مِنْ تَرْكِ الرِّبَا فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُمْ مُحَارِبُونَ لَهُ وَلِرَسُولِهِ إذَا لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ الرِّبَا، وَالرِّبَا هُوَ آخِرُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ مَالٌ يُؤْخَذُ بِرِضَا صَاحِبِهِ، فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ مُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ يَجِبُ جِهَادُهُمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَتْرُكُ كَثِيرًا مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ أَوْ أَكْثَرَهَا كَالتَّتَارِ. وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمُمْتَنِعَةَ إذَا امْتَنَعَتْ عَنْ بَعْضِ وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهَا إذَا تَكَلَّمُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَامْتَنَعُوا عَنْ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، أَوْ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، أَوْ حَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، أَوْ عَنْ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ عَنْ تَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ، أَوْ الْخَمْرِ، أَوْ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، أَوْ عَنْ اسْتِحْلَالِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ الرِّبَا، أَوْ الْمَيْسِرِ، أَوْ الْجِهَادِ لِلْكُفَّارِ، أَوْ عَنْ ضَرْبِهِمْ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ عُمَرَ لَمَّا نَاظَرَ أَبَا بَكْرٍ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: كَيْفَ لَا أُقَاتِلُ مَنْ تَرَكَ الْحُقُوقَ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ كَالزَّكَاةِ. وَقَالَ لَهُ: فَإِنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّهَا وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ

اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتهمْ عَلَى مَنْعِهَا، قَالَ عُمَرُ، فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْت قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَلِمْت أَنَّهُ الْحَقُّ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ الْخَوَارِجَ وَقَالَ فِيهِمْ: «يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ» . وَقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ، وَأَوَّلُ مَنْ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُقَاتِلُونَ فِي صَدْرِ خِلَافَةِ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي الْعَبَّاسِ مَعَ الْأُمَرَاءِ وَإِنْ كَانُوا ظَلَمَةً، وَكَانَ الْحَجَّاجُ وَنُوَّابُهُ مِمَّنْ يُقَاتِلُونَهُمْ، فَكُلُّ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ يَأْمُرُونَ بِقِتَالِهِمْ وَالتَّتَارُ وَأَشْبَاهُهُمْ أَعْظَمُ خُرُوجًا عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْخَوَارِجِ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ الَّذِينَ امْتَنَعُوا عَنْ تَرْكِ الرِّبَا، فَمَنْ شَكَّ فِي قِتَالِهِمْ فَهُوَ أَجْهَلُ النَّاسِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَحَيْثُ وَجَبَ قِتَالُهُمْ قُوتِلُوا وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ الْمُكْرَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا «قَالَ الْعَبَّاسُ لَمَّا أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي خَرَجْت مُكْرَهًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَّا ظَاهِرُك فَكَانَ عَلَيْنَا وَأَمَّا سَرِيرَتُك فَإِلَى اللَّهِ» . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ جَيْشَ الْكُفَّارِ إذَا تَتَرَّسُوا بِمَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَخِيفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الضَّرَرُ إذَا لَمْ يُقَاتَلُوا، وَإِنْ أَفْضَى ذَلِكَ إلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَتَرَّسُوا بِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُخَفْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَفِي جَوَازِ الْقِتَالِ الْمُفْضِي إلَى قَتْلِ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ إذَا قُتِلُوا كَانُوا شُهَدَاءَ وَلَا يُتْرَكُ الْجِهَادُ الْوَاجِبُ لِأَجْلِ مَنْ يُقْتَلُ شَهِيدًا، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا قَاتَلُوا الْكُفَّارَ فَمَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ شَهِيدًا، وَمَنْ قُتِلَ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ كَانَ شَهِيدًا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَغْزُو هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ مِنْ النَّاسِ فَبَيْنَمَا هُمْ بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ إذْ خُسِفَ بِهِمْ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَفِيهِمْ

الْمُكْرَهُ فَقَالَ: يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» . فَإِذَا كَانَ الْعَذَابُ الَّذِي يُنْزِلُهُ اللَّهُ بِالْجَيْشِ الَّذِي يَغْزُو الْمُسْلِمِينَ يُنْزِلُهُ بِالْمُكْرَهِ، فَكَيْفَ بِالْعَذَابِ الَّذِي يُعَذِّبُهُمْ اللَّهُ بِهِ أَوْ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52] . وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ الْمُكْرَهَ وَلَا نَقْدِرُ عَلَى التَّمْيِيزِ فَإِذَا قَتَلْنَاهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ كُنَّا فِي ذَلِكَ مَأْجُورِينَ وَمَعْذُورِينَ وَكَانُوا هُمْ عَلَى نِيَّاتِهِمْ، فَمَنْ كَانَ مُكْرَهًا لَا يَسْتَطِيعُ الِامْتِنَاعَ فَإِنَّهُ يُحْشَرُ عَلَى نِيَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا قُتِلَ لِأَجْلِ قِيَامِ الدِّينِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَعْظَمَ مِنْ قَتْلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا إذَا هَرَبَ أَحَدُهُمْ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ قِتَالَهُمْ بِمَنْزِلَةِ قِتَالِ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَهَؤُلَاءِ إذَا كَانَ لَهُمْ طَائِفَةٌ مُمْتَنِعَةٌ فَهَلْ يَجُوزُ اتِّبَاعُ مُدْبِرِهِمْ وَقَتْلُ أَسِيرِهِمْ وَالْإِجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ مَشْهُورَيْنِ، فَقِيلَ: لَا يُفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُنَادِيَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ نَادَى يَوْمَ الْجَمَلِ: لَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ، وَلَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ، وَقِيلَ: بَلْ يُفْعَلُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَوْمَ الْجَمَلِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَائِفَةٌ مُمْتَنِعَةٌ وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْقِتَالِ دَفْعَهُمْ، فَلَمَّا انْدَفَعُوا لَمْ يَكُنْ إلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ بِمَنْزِلَةِ دَفْعِ الصَّائِلِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ يَوْمَ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ كَانَ أَمْرُهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَمَنْ جَعَلَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ جَعَلَ فِيهِمْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ سَائِغٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ جِنْسِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ، وَمَانِعِي الزَّكَاةِ، وَأَهْلِ الطَّائِفِ، وَالْحَرَمِيَّةِ، وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ قُوتِلُوا عَلَى مَا خَرَجُوا عَنْهُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا مَوْضِعٌ اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُصَنِّفِينَ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ جَعَلُوا قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَقِتَالَ الْخَوَارِجِ، وَقِتَالَ عَلِيٍّ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَقِتَالَهُ لِمُعَاوِيَةَ وَأَتْبَاعِهِ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَأْمُورٌ بِهِ، وَفَرَّعُوا مَسَائِلَ ذَلِكَ تَفْرِيعَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ

غَلِطُوا بَلْ الصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ، وَالسُّنَّةِ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، كَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَغَيْرِهِمْ، أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، فَقِتَالُ عَلِيٍّ لِلْخَوَاِرجِ ثَابِتٌ بِالنُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا الْقِتَالُ يَوْمَ صِفِّينَ وَنَحْوِهِ فَلَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، بَلْ صَدَّ عَنْهُ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ مِثْلُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَة، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَغَيْرِهِمْ. وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي الْعَسْكَرَيْنِ مِثْلُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ الْإِصْلَاحُ بَيْنَ تَيْنِكَ الطَّائِفَتَيْنِ، لَا الِاقْتِتَالُ بَيْنَهُمَا. كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ وَالْجَيْشُ مَعَهُ فَقَالَ: «إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَأَصْلَحَ اللَّهُ بِالْحَسَنِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَهْلِ الشَّامِ» فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِصْلَاحَ بِهِ مِنْ فَضَائِلِ الْحَسَنِ، مَعَ أَنَّ الْحَسَنَ نَزَلَ عَنْ الْأَمْرِ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ إلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَوْ كَانَ الْقِتَالُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ دُونَ تَرْكِ الْخِلَافَةِ وَمُصَالَحَةِ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَمْدَحْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تَرْكِ مَا أُمِرَ بِهِ، وَفِعْلِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَلَا مَدَحَهُ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى وَفِعْلِ الْأَدْنَى، فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الْحَسَنُ هُوَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَا الْقِتَالُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَضَعُهُ وَأُسَامَةَ عَلَى فَخِذَيْهِ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُمْ فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا» . وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ مَحَبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمَا بِكَرَاهَتِهِمَا الْقِتَالَ فِي الْفِتْنَةِ، فَإِنَّ أُسَامَةَ امْتَنَعَ عَنْ الْقِتَالِ مَعَ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْحَسَنُ كَانَ دَائِمًا يُشِيرُ عَلَى عَلِيٍّ بِأَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ وَلَمَّا صَارَ الْأَمْرُ إلَيْهِ فَعَلَ مَا كَانَ يُشِيرُ بِهِ عَلَى أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ

الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ» . فَهَذِهِ الْمَارِقَةُ هُمْ الْخَوَارِجُ، وَقَاتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَهَذَا يُصَدِّقُهُ بَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَتُبَيِّنُ أَنَّ قَتْلَهُمْ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَأَنَّ الَّذِينَ قَاتَلُوهُمْ مَعَ عَلِيٍّ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ، مَعَ كَوْنِهِمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ، فَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقِتَالِ لِوَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ كَمَا أَمَرَ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ، بَلْ مَدَحَ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَرَاهَةِ الْقِتَالِ فِي الْفِتَنِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ كَقَوْلِهِ: «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي» وَقَالَ «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتَّبِعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ» . فَالْفِتَنُ مِثْلُ الْحُرُوبِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ وَطَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ، مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مُلْتَزِمَةٌ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ مِثْلُ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ وَإِنَّمَا اقْتَتَلُوا لِشُبَهٍ وَأُمُورٍ عَرَضَتْ. وَأَمَّا قِتَالُ الْخَوَارِجِ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ وَأَهْلِ الطَّائِفِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا يُحَرِّمُونَ الرِّبَا فَهَؤُلَاءِ يُقَاتَلُونَ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الشَّرَائِعِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَؤُلَاءِ إذَا كَانَ لَهُمْ طَائِفَةٌ مُمْتَنِعَةٌ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ أَسِيرِهِمْ وَاتِّبَاعُ مُدْبِرِهِمْ وَالْإِجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إذَا كَانُوا مُقِيمِينَ بِبِلَادِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْصِدُوهُمْ فِي بِلَادِهِمْ لِقِتَالِهِمْ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ التَّتَارَ لَا يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ بَلْ يُقَاتِلُونَ النَّاسَ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي طَاعَتِهِمْ، فَمَنْ دَخَلَ فِي طَاعَتِهِمْ كَفُّوا

عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ كَانَ عَدُوًّا لَهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا أَعْدَاءَهُ الْكُفَّارَ وَيُوَالُوا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ جُنْدِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْيَمَنِ وَالْمَغْرِبِ جَمِيعِهِمْ أَنْ يَكُونُوا مُتَعَاوِنِينَ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ، وَلَيْسَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يُقَاتِلَ بَعْضًا بِمُجَرَّدِ الرِّيَاسَةِ وَالْأَهْوَاءِ فَهَؤُلَاءِ التَّتَارُ أَقَلُّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَاتِلُوا مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ الْكَافِرِينَ، وَأَنْ يَكُفُّوا عَنْ قِتَالِ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَيَتَعَاوَنُونَ هُمْ وَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ. وَأَيْضًا لَا يُقَاتِلُ مَعَهُمْ غَيْرُ مُكْرَهٍ إلَّا فَاسِقٌ، أَوْ مُبْتَدِعٌ، أَوْ زِنْدِيقٌ، كَالْمَلَاحِدَةِ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ، وَكَالرَّافِضَةِ السَّبَّابَةِ، وَكَالْجَهْمِيَّةِ الْمُعَطِّلَةِ مِنْ النُّفَاةِ الْحُلُولِيَّةِ، وَمَعَهُمْ مِمَّنْ يُقَلِّدُونَهُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُمْ، فَإِنَّ التَّتَارَ جُهَّالٌ يُقَلِّدُونَ الَّذِينَ يُحْسِنُونَ بِهِ الظَّنَّ، وَهُمْ لِضَلَالِهِمْ وَغَيِّهِمْ يَتَّبِعُونَهُ فِي الضَّلَالِ الَّذِي يَكْذِبُونَ بِهِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيُبَدِّلُونَ دِينَ اللَّهِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ، وَلَوْ وَصَفْتُ مَا أَعْلَمُهُ مِنْ أُمُورِهِمْ لَطَالَ الْخِطَابُ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَمَذْهَبُهُمْ وَدِينُ الْإِسْلَامِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلَوْ أَظْهَرُوا دِينَ الْإِسْلَامِ الْحَنِيفِيِّ الَّذِي بُعِثَ الرَّسُولُ بِهِ لَاهْتَدَوْا وَأَطَاعُوا مِثْلُ الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ. فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ وَأَوَّلُ الْغَرْبِ مَا يُسَامِتُ النَّثْرَةَ وَنَحْوَهَا» . فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَمَا يَغْرُبُ عَنْهَا فَهُوَ غَرْبٌ كَالشَّامِ وَمِصْرَ وَمَا شَرَّقَ عَنْهَا فَهُوَ شَرْقٌ كَالْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ وَكَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ أَهْلَ الشَّامِ أَهْلَ الْمَغْرِبِ، وَيُسَمُّونَ أَهْلَ الْعِرَاقِ أَهْلَ الْمَشْرِقِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي ذَكَرْتهَا فِيهَا مِنْ الْآثَارِ وَالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِيهَا مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب البيوع

[كِتَابُ الْبُيُوعِ] [قَوَاعِدُ فِي الْعُقُودِ] [الْقَاعِدَة الْأُولَى صِفَةُ الْعُقُودِ] ِ قَوَاعِدُ فِي الْعُقُودِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالنِّكَاحِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَأَمَّا الْعُقُودُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالنِّكَاحِيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَنَذْكُرُ فِيهَا قَوَاعِدَ جَامِعَةً عَظِيمَةَ الْمَنْفَعَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِيهَا كَالْقَوْلِ فِي الْعِبَادَاتِ، فَمِنْ ذَلِكَ: صِفَةُ الْعُقُودِ فَالْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: إنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بِالصِّيغَةِ، وَهِيَ الْعِبَارَاتُ الَّتِي قَدْ يَخُصُّهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِاسْمِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ: الْبَيْعُ، وَالْإِجَارَةُ وَالْهِبَةُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْعِتْقُ، وَالْوَقْفُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، يَكُونُ تَارَةً رِوَايَةً مَنْصُوصَةً فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ كَالْبَيْعِ وَالْوَقْفِ، وَيَكُونُ تَارَةً رِوَايَةً مُخَرَّجَةً كَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ يُقِيمُونَ الْإِشَارَةَ مَقَامَ الْعِبَارَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهَا، كَمَا فِي إشَارَةِ الْأَخْرَسِ، وَيُقِيمُونَ أَيْضًا الْكِتَابَةَ فِي مَقَامِ الْعِبَارَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَقَدْ يَسْتَثْنُونَ مَوَاضِعَ دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى جَوَازِهَا إذَا مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا، كَمَا فِي الْهَدْيِ إذَا عَطِبَ دُونَ مَحِلِّهِ، فَإِنَّهُ يُنْحَرُ ثُمَّ يُضَمَّخُ نَعْلُهُ الْمُعَلَّقُ فِي عُنُقِهِ بِدَمِهِ عَلَامَةً لِلنَّاسِ، وَمَنْ أَخَذَهُ مَلَكَهُ، وَكَذَلِكَ الْهَدِيَّةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، لَكِنْ الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ هُوَ اللَّفْظُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ هُوَ التَّرَاضِي الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4] . وَالْمَعَانِي الَّتِي فِي النَّفْسِ لَا تَنْضَبِطُ

إلَّا بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي قَدْ جُعِلَتْ لِإِبَانَةِ مَا فِي الْقَلْبِ، إذْ الْأَفْعَالُ مِنْ الْمُعَاطَاةِ وَنَحْوِهَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا كَثِيرَةً، وَلِأَنَّ الْعُقُودَ مِنْ جِنْسِ الْأَقْوَالِ فَهِيَ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهَا تَصِحُّ بِالْأَفْعَالِ فِيمَا كَثُرَ عَقْدُهُ بِالْأَفْعَالِ، كَالْمَبِيعَاتِ بِالْمُعَاطَاةِ، وَكَالْوَقْفِ فِي مِثْلِ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ، أَوْ سَبَّلَ أَرْضًا لِلدَّفْنِ، أَوْ بَنَى مَطْهَرَةً وَسَبَّلَهَا لِلنَّاسِ، وَكَبَعْضِ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ: كَمَنْ دَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى غَسَّالٍ أَوْ خَيَّاطٍ يَعْمَلُ بِالْأُجْرَةِ، أَوْ رَكِبَ سَفِينَةَ مَلَّاحٍ، وَكَالْهَدِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَوْ لَمْ تَنْعَقِدْ بِالْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا لَفَسَدَتْ أُمُورُ النَّاسِ، وَلِأَنَّ النَّاسَ مِنْ لَدُنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَى يَوْمِنَا مَا زَالُوا يَتَعَاقَدُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِلَا لَفْظٍ بَلْ بِالْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَهَذَا قَوْلُ الْغَالِبِ عَلَى أُصُولِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، بِخِلَافِ الْمُعَاطَاةِ فِي الْأَمْوَالِ الْجَلِيلَةِ فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَلَمْ يَجْرِ بِهِ الْعُرْفُ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إنَّهَا تَنْعَقِدُ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَكُلُّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا وَإِجَارَةً فَهُوَ بَيْعٌ وَإِجَارَةٌ، وَإِنْ اخْتَلَفَ اصْطِلَاحُ النَّاسِ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْأَفْعَالِ انْعَقَدَ الْعَقْدُ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ بِمَا يَفْهَمُونَهُ بَيْنَهُمْ مِنْ الصِّيَغِ وَالْأَفْعَالِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مُسْتَمِرٌّ لَا فِي شَرْعٍ وَلَا فِي لُغَةٍ، بَلْ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ اصْطِلَاحِ النَّاسِ، كَمَا تَتَنَوَّعُ لُغَاتُهُمْ، فَإِنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، لَيْسَ هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي فِي لُغَةِ الْفُرْسِ أَوْ الرُّومِ أَوْ التُّرْكِ أَوْ الْبَرْبَرِ أَوْ الْحَبَشَةِ، بَلْ قَدْ يَخْتَلِفُ أَنْوَاعُ اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ الْتِزَامُ نَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الِاصْطِلَاحَاتِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ التَّعَاقُدُ بِغَيْرِ مَا يَتَعَاقَدُ بِهِ غَيْرُهُمْ، إذَا كَانَ مَا تَعَاقَدُوا بِهِ دَالًّا عَلَى مَقْصُودِهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسْتَحَبُّ بَعْضُ الصِّفَاتِ. وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أُصُولِ مَالِكٍ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَلِهَذَا يَصِحُّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ بَيْعُ الْمُعَاطَاةِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ قَدْ وُجِدَ اللَّفْظُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْفِعْلُ مِنْ الْآخَرِ، بِأَنْ يَقُولَ: خُذْ هَذَا لِلَّهِ فَيَأْخُذَهُ، أَوْ يَقُولَ: أَعْطِنِي خُبْزًا بِدِرْهَمٍ فَيُعْطِيَهُ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ لَفْظٌ مِنْ أَحَدِهِمَا بِأَنْ يَضَعَ الثَّمَنَ وَيَقْبِضَ جِرْزَةَ الْبَقْلِ أَوْ الْحَلْوَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا يَتَعَامَلُ بِهِ غَالِبُ النَّاسِ، أَوْ يَضَعُ الْمَتَاعَ لِيُوضَعَ لَهُ بَدَلُهُ، فَإِذَا وُضِعَ الْبَدَلُ الَّذِي يَرْضَى بِهِ أَخَذَهُ،

كَمَا يَجْلِبُهُ التُّجَّارُ عَنْ عَادَةِ بَعْضِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، فَكُلُّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ. وَكَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ مِثْلِ الْهَدِيَّةِ، وَمِثْلِ تَجْهِيزِ الزَّوْجَةِ بِمَالٍ يُحْمَلُ مَعَهَا إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِأَنَّهُ عَطِيَّةٌ لَا عَارِيَّةٌ. وَكَذَلِكَ الْإِجَارَاتُ، مِثْلُ رُكُوبِ سَفِينَةِ الْمَلَّاحِ، وَالْمُكَارِينَ، وَرُكُوبِ دَابَّةِ الْجَمَّالِ إذْ الْحِمَارُ أَوْ الْبِغَالُ الْمُكَارِينَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ أَنَّهُ إجَارَةٌ، وَمِثْلُ الدُّخُولِ إلَى حَمَّامِ الْحَمَّامِيِّ، وَمِثْلُ دَفْعِ الثَّوْبِ إلَى غَسَّالٍ أَوْ خَيَّاطٍ يَعْمَلُ بِالْأَجْرِ، أَوْ دَفْعِ الطَّعَامِ إلَى طَبَّاخٍ أَوْ شَوَّايٍ يَطْبُخُ، أَوْ يَشْوِي لِلْآخَرِ سَوَاءٌ شَوَّايُ اللَّحْمِ مَشْرُوحًا أَوْ غَيْرَ مَشْرُوحٍ. حَتَّى اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ، هَلْ يَقَعُ بِالْمُعَاطَاةِ مِثْلُ أَنْ تَقُولَ: اخْلَعْنِي بِهَذِهِ الْأَلْفِ، أَوْ بِهَذَا الثَّوْبِ، فَيَقْبِضَ الْعِوَضَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ أَنَّهُ رَضِيَ بِالْمُعَاوَضَةِ؟ فَذَهَبَ الْعُكْبَرِيُّونَ كَأَبِي حَفْصٍ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ شِهَابٍ إلَى أَنَّ ذَلِكَ خُلْعٌ صَحِيحٌ وَذَكَرُوا مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ وَمِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَا يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ، وَلَعَلَّهُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى نُصُوصِهِ، بَلْ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ، وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ بِالْكِتَابِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» . قَالَ: وَإِذَا كَتَبَ فَقَدْ عَمِلَ. وَذَهَبَ الْبَغْدَادِيُّونَ الَّذِينَ كَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، كَابْنِ حَامِدٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ، كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ: أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ إلَّا بِالْكَلَامِ، وَذَكَرُوا مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ مَا اعْتَمَدُوهُ فِي ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ فَسْخُ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ يَفْتَقِرُ إلَى لَفْظٍ، فَكَذَلِكَ فَسْخُهُ. وَأَمَّا النِّكَاحُ فَقَالَ هَؤُلَاءِ: ابْنُ حَامِدٍ، وَالْقَاضِي، وَأَصْحَابُهُ مِثْلُ: أَبِي الْخَطَّابِ، وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ، وَالشَّهَادَةُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، وَالشَّهَادَةُ

عَلَى النِّيَّةِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ، وَمَنَعُوا مِنْ انْعِقَادِهِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالْعَطِيَّةِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ. وَقَالَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ أَيْضًا: إنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ يُحْسِنُهَا، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْهَا وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَعْلِيمِهَا انْعَقَدَ بِمَعْنَاهَا الْخَاصِّ بِكُلِّ لِسَانٍ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى تَعَلُّمِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ، وَأَنَّ فِيهِ شَوْبُ التَّعَبُّدِ، وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْصُوصًا عَنْ أَحْمَدَ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِأُصُولِهِ، وَلَمْ يَنُصَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا نَقَلُوا عَنْهُ نَصًّا فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَقَلُوا قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: إذَا وُهِبَ لِرَجُلٍ فَلَيْسَ بِنِكَاحٍ، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] . وَهَذَا إنَّمَا هُوَ نَصٌّ عَلَى مَنْعِ مَا كَانَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ النِّكَاحُ بِغَيْرِ مَهْرٍ، بَلْ قَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ لِأَمَتِهِ: أَعْتَقْتُك وَجَعَلْت عِتْقَك صَدَاقَك أَوْ صَدَاقَك عِتْقَك، أَوْ بِقَوْلِهِ: جَعَلْت عِتْقَك صَدَاقَك ذَكَرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ جَوَابَاتِهِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ. فَأَمَّا ابْنُ حَامِدٍ فَطَرَدَ قِيَاسَهُ وَقَالَ: لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَقُولَ وَتَزَوَّجْتهَا أَوْ نَكَحْتهَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ قَطُّ بِالْعَرَبِيَّةِ إلَّا بِهَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ. وَأَمَّا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ فَجَعَلُوا هَذِهِ الصُّورَةَ مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْقِيَاسِ الَّذِي وَافَقُوا عَلَيْهِ ابْنَ حَامِدٍ، وَأَنَّ تِلْكَ مِنْ صُورَةِ الِاسْتِحْسَانِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ قَوْلًا فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِعَيْنِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ لِنَصِّ أَحْمَدَ. هَذَا وَهَذَا أَشْبَهُ بِنُصُوصِ أَحْمَدَ وَأُصُولِهِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ شَبِيهٌ بِمَذْهَبِهِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ مَالِكٍ اخْتَلَفُوا: هَلْ يَنْعَقِدُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ مَنْعُ مَا اخْتَصَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هِبَةِ الْبُضْعِ بِغَيْرِ مَهْرٍ ". قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَإِنْ وَهَبَ ابْنَتَهُ وَهُوَ يُرِيدُ إنْكَاحَهَا فَلَا أَحْفَظُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ عِنْدِي جَائِزٌ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ بَعِيدٌ عَنْ أُصُولِهِمَا.

فَإِنَّ الْحُكْمَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّمَا نُسَمِّي ذَلِكَ كِنَايَةً، وَأَنَّ الْكِنَايَةَ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ، وَمَذْهَبُهُمَا الْمَشْهُورَانِ دَلَالَةُ الْحَالِ فِي الْكِنَايَاتِ تَجْعَلُهَا صَرِيحَةً وَيَقُومُ مَقَامَ إظْهَارِ النِّيَّةِ، وَلِهَذَا جَعَلَ الْكِنَايَاتِ فِي الطَّلَاقِ وَالْقَذْفِ وَنَحْوِهِمَا مَعَ دَلَالَةِ الْحَالِ كَالصَّرِيحِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ دَلَالَاتِ الْأَحْوَالِ فِي النِّكَاحِ مِنْ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِذَلِكَ، وَالتَّحَدُّثِ بِمَا اجْتَمَعُوا، فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: مَلَّكْتُكهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، عَلِمَ الْحَاضِرُونَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِنْكَاحُ، وَقَدْ شَاعَ هَذَا اللَّفْظُ فِي عُرْفِ النَّاسِ حَتَّى سَمَّوْا عَقْدَهُ أَمْلَاكًا وَمُلَّاكًا، وَلِهَذَا رَوَى النَّاسُ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخَاطِبِ الْوَاهِبَةِ الَّذِي الْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ تَارَةً: «بِأَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ» ، وَتَارَةً: " مَلَّكْتُكهَا "، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَثْبُتُ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَلَّكْتُكهَا، بَلْ إمَّا قَالَهُمَا جَمِيعًا أَوْ قَالَ أَحَدَهُمَا. لَكِنْ لَمَّا كَانَ اللَّفْظَانِ عِنْدَهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ سَوَاءً، رَوَوْا الْحَدِيثَ تَارَةً هَكَذَا وَتَارَةً هَكَذَا، ثُمَّ تَعَيَّنَ اللَّفْظُ الْعَرَبِيُّ فِي مِثْلِ هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ أُصُولِ أَحْمَدَ وَنُصُوصِهِ وَعَنْ أُصُولِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، إذْ النِّكَاحُ يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، وَهُوَ إنْ كَانَ قُرْبَةً فَإِنَّمَا هُوَ كَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ لَفْظٌ لَا عَرَبِيٌّ وَلَا عَجَمِيٌّ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَالْوَقْفُ وَالْهِبَةُ لَا يَتَعَيَّنُ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ الْعَجَمِيُّ إذَا تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ فِي الْحَالِ قَدْ لَا يَفْهَمُ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ كَمَا يَفْهَمُ مِنْ اللُّغَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا. نَعَمْ لَوْ قِيلَ: يُكْرَهُ الْعُقُودُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كَمَا يُكْرَهُ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، لَكِنْ مُتَوَجِّهًا كَمَا قَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ اعْتِيَادِ الْمُخَاطَبَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدُ كَالْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي نِكَاحِ الْكُفَّارِ إلَى عَادَتِهِمْ كَمَا اعْتَقَدُوهُ نِكَاحًا بَيْنَهُمْ، جَازَ إقْرَارُهُمْ عَلَيْهِ إذَا تَسَلَّمُوا أَوْ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا، إذَا لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مُشْتَمِلًا عَلَى مَانِعٍ، وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ لَمْ يَجُزْ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ،

حَتَّى قَالُوا: لَوْ قَهَرَ حَرْبِيٌّ حَرْبِيَّةً فَوَطِئَهَا أَوْ طَاوَعَتْهُ وَاعْتَقَدَاهُ نِكَاحًا أُقِرَّا عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَوْنَ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِ الْعَقْدِ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُسْلِمُ دُونَ الْكَافِرِ، إنَّمَا اخْتَصَّ الْمُسْلِمُ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ فِي النِّكَاحِ أَنْ يُمَيِّزَ عَنْ السِّفَاحِ، كَمَا قَالَ: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5] ، فَأَمَرَ بِالْوَالِي وَالشُّهُودِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي تَمَيُّزِهِ عَنْ السِّفَاحِ وَصِيَانَةِ النِّسَاءِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْبَغَايَا، حَتَّى شُرِعَ الصَّوْتُ بِالدُّفِّ وَالْوَلِيمَةِ الْمُوجِبَةِ لِشُهْرَتِهِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: «الْمَرْأَةُ لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا، فَإِنَّ الْبَغِيَّ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا» . وَأَمَرَ فِيهِ بِالْإِشْهَادِ أَوْ بِالْإِعْلَانِ أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِشْهَادِ عَلَّلَهُ بِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الْإِعْلَانُ الْمُمَيِّزُ لَهُ عَنْ السِّفَاحِ، وَبِأَنَّهُ يَحْفَظُ النَّسَبَ عَنْ التَّجَاحُدِ. فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ فِي الْكِتَابِ وَالْآثَارِ حُكْمُهَا بَيَّنَهُ، فَأَمَّا الْتِزَامُ لَفْظٍ خَاصٍّ فَلَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ وَلَا تَعَلُّقٌ. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْجَامِعَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ أَنَّ الْعُقُودَ تَصِحُّ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا أُصُولُ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ الَّتِي تَعْرِفُهَا الْقُلُوبُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] . وَقَالَ: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] ، وَقَالَ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] . وَقَالَ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ} [النساء: 4] . وَقَالَ: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . وَقَالَ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] . وَقَالَ: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] إلَى قَوْلِهِ: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282] إلَى قَوْلِهِ: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . وَقَالَ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245]

وَقَالَ: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة: 261] . وَقَالَ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] . وَقَالَ: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [الحديد: 18] ، وَقَالَ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] . وَقَالَ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] إلَى نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الْمَشْرُوعِ فِيهَا الْعُقُودُ، إمَّا أَمْرٌ وَإِمَّا إبَاحَةٌ، وَالْمَنْهِيُّ فِيهَا عَنْ بَعْضِهَا كَالزِّنَا فَإِنَّ الدَّلَالَةَ فِيهَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ بِالتَّرَاضِي فِي الْبَيْعِ فِي قَوْلِهِ: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . وَبِطِيبِ النَّفْسِ فِي التَّبَرُّعِ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4] فَتِلْكَ الْآيَةُ فِي جِنْسِ الْمُعَاوَضَاتِ وَهَذِهِ مِنْ جِنْسِ التَّبَرُّعَاتِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ لَفْظًا مُعَيَّنًا، وَلَا فِعْلًا مُعَيَّنًا يَدُلُّ عَلَى التَّرَاضِي وَعَلَى طِيبِ النَّفْسِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ عَادَاتِ النَّاسِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ التَّرَاضِيَ وَطِيبَ النَّفْسِ، وَالْعِلْمُ بِهِ ضَرُورِيٌّ فِي غَالِبِ مَا يُعْتَادُ مِنْ الْعُقُودِ وَظَاهِرٌ فِي بَعْضِهَا، وَإِذَا وُجِدَ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِهِمَا بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ، وَبَعْضُ النَّاسِ قَدْ يَحْمِلُهُ الْكَذِبُ فِي نُصْرَةِ قَوْلٍ مُعَيَّنٍ، عَلَى أَنْ يَجْحَدَ مَا يَعْلَمُ النَّاسُ مِنْ التَّرَاضِي وَطِيبِ النَّفْسِ، فَلَا عِبْرَةَ بِجَحْدِ مِثْلِ هَذَا، فَإِنَّ جَحْدَ الضَّرُورِيَّاتِ قَدْ يَقَعُ كَثِيرًا عَنْ مُوَطَّأَةٍ وَتَلْقِينٍ فِي الْأَخْبَارِ وَالْمَذَاهِبِ. فَالْعِبْرَةُ بِلَفْظَتِهِ الَّتِي لَمْ يُعَارِضْهَا مَا يُغَيِّرُهَا، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْأَخْبَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ يَحْصُلُ بِهَا الْعِلْمُ بِحَيْثُ لَا يُتَوَاطَأُ عَلَى الْكَذِبِ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَةَ لَا تَتَّفِقُ. فَأَمَّا مَعَ التَّوَاطُؤِ وَالِاتِّفَاقِ فَقَدْ تَتَّفِقُ جَمَاعَاتٌ عَلَى الْكَذِبِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ جَاءَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مُعَلَّقًا بِهَا

أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، وَكُلُّ اسْمٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَدٍّ، فَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ حَدُّهُ بِاللُّغَةِ، كَالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالْبَحْرِ، وَالْبَرِّ، وَالسَّمَاءِ، وَالْأَرْضِ. وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِالشَّرْعِ، كَالْمُؤْمِنِ، وَالْكَافِرِ، وَالْمُنَافِقِ، وَكَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ. وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ فَالْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ، كَالْقَبْضِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ وَالْهِبَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَحُدَّ الشَّارِعُ لَهُ حَدًّا لَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ، بَلْ وَلَا يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُ عُيِّنَ لِلْعُقُودِ صِيغَةٌ مُعَيَّنَةٌ مِنْ الْأَلْفَاظِ أَوْ غَيْرِهَا، أَوْ قَالَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِالصِّيَغِ، بَلْ قَدْ قِيلَ إنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِمَّا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ الْقَدِيمَ، وَأَنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ بِحَيْثُ يُقَالُ إنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يُسَمُّونَ هَذَا بَيْعًا، وَلَا يُسَمُّونَ هَذَا بَيْعًا، حَتَّى يَدْخُلَ أَحَدُهُمَا فِي خِطَابِ اللَّهِ فَلَا يَدْخُلُ الْآخَرُ، بَلْ تَسْمِيَةُ أَهْلِ الْعُرْفِ مِنْ الْعَرَبِ هَذِهِ الْمُعَاقَدَاتِ بَيْعًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا فِي لُغَتِهِمْ تُسَمَّى بَيْعًا. وَالْأَصْلُ بَقَاءُ اللُّغَةِ وَتَقْدِيرُهَا لَا نَقْلُهَا وَتَغْيِيرُهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ الْمَرْجُوعِ فِيهِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ، فَمَا سَمَّوْهُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ، وَمَا سَمَّوْهُ هِبَةً فَهُوَ هِبَةٌ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْعِبَادِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ نَوْعَانِ: عِبَادَاتٌ يَصْلُحُ بِهَا دِينُهُمْ، وَعَادَاتٌ يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا فِي دُنْيَاهُمْ. فَاسْتِقْرَاءُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ أَوْ أَبَاحَهَا لَا يَثْبُتُ الْأَمْرُ بِهَا إلَّا بِالشَّرْعِ، وَأَمَّا الْعَادَاتُ فَهِيَ مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ فِي دُنْيَاهُمْ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ عَدَمُ الْحَظْرِ، فَلَا يَحْظُرُ مِنْهُ إلَّا مَا حَظَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِمَّا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْعِبَادَةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَأْمُورًا بِهَا، فَمَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مَأْمُورٌ كَيْفَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عِبَادَةٌ؟ وَمَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْ الْعَادَاتِ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَيْفَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَحْظُورٌ؟

وَلِهَذَا كَانَ أَصْلُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ التَّوْقِيفُ، فَلَا يُشْرَعُ مِنْهَا إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِلَّا دَخَلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] . وَالْعَادَاتُ الْأَصْلُ فِيهَا الْعَفْوُ، فَلَا يُحْظَرُ مِنْهَا إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَإِلَّا دَخَلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا} [يونس: 59] . وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَرَّعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَحَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136] {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 137] . وَقَالُوا: {هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام: 138] . فَذَكَرَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَمِنْ التَّحْرِيمَاتِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْت لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا» . وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ نَافِعَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ: الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَالْإِجَارَةُ وَغَيْرُهَا، هِيَ مِنْ الْعَادَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهَا فِي مَعَاشِهِمْ، كَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَاللِّبَاسِ، فَالشَّرِيعَةُ جَاءَتْ فِي الْعَادَاتِ بِالْآدَابِ الْحَسَنَةِ، فَحَرَّمَتْ مِنْهَا مَا فِيهِ فَسَادٌ وَأَوْجَبَتْ مِنْهَا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَكَرِهَتْ مَا لَا يَنْبَغِي وَاسْتَحَبَّتْ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ فِي أَنْوَاعِ هَذِهِ الْعَادَاتِ وَمَقَادِيرِهَا وَصِفَاتِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنَّاسُ يَتَبَايَعُونَ وَيُتَاجِرُونَ كَيْفَ شَاءُوا مَا لَمْ تُحَرِّمْهُ الشَّرِيعَةُ، كَمَا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ كَيْفَ شَاءُوا مَا لَمْ تُحَرِّمْهُ الشَّرِيعَةُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ قَدْ يُسْتَحَبُّ أَوْ يَكُونُ مَكْرُوهًا، وَلَمْ تَحُدَّ الشَّرِيعَةُ فِي ذَلِكَ حَدًّا فَيَبْقَوْنَ فِيهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْأَصْلِيِّ. وَأَمَّا السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فَمَنْ تَتَبَّعَ مَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ

أَنْوَاعِ الْمُبَايَعَاتِ وَالْمُؤَاجَرَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ، عَلِمَ ضَرُورَةً أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَلْتَزِمُونَ الصِّيغَةَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، وَالْآثَارُ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهَا، إذْ الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى الْقَوَاعِدِ، وَإِلَّا فَالْكَلَامُ فِي أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنَى مَسْجِدَهُ، وَالْمُسْلِمُونَ بَنَوْا الْمَسَاجِدَ عَلَى عَهْدِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ وَقَفْتُ هَذَا الْمَسْجِدَ وَلَا مَا يُشْبِهُ هَذَا اللَّفْظَ، بَلْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» ، فَعُلِّقَ الْحُكْمُ بِنَفْسِ بِنَائِهِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى الْجَمَلَ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: هُوَ لَك يَا عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ» ، وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْ ابْنِ عُمَرَ لَفْظُ قَبُولٍ، وَكَانَ يُهْدِي وَيُهْدَى لَهُ، فَيَكُونُ قَبْضُ الْهَدِيَّةِ قَبُولَهَا، وَلَمَّا نَحَرَ الْبَدَنَاتِ قَالَ: " مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ "، مَعَ إمْكَانِ قِسْمَتِهَا فَكَانَ هَذَا إيجَابًا، وَكَانَ الِاقْتِطَاعُ هُوَ الْقَبُولُ، وَكَانَ يَسْأَلُ فَيُعْطِي، أَوْ يُعْطِي مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ فَيَقْبِضُ الْمُعْطَى، وَيَكُونُ الْإِعْطَاءُ هُوَ الْإِيجَابُ، وَالْأَخْذُ هُوَ الْقَبُولُ فِي قَضَايَا كَثِيرَةٍ جِدًّا، وَلَمْ يَكُنْ يَأْمُرُ الْآخِذِينَ بِلَفْظٍ، وَلَا يَلْتَزِمُ أَنْ يَتَلَفَّظَ لَهُمْ كَمَا فِي إعْطَائِهِ لِلْمُؤَلَّفَةِ وَلِلْعَامِلِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَجُعِلَ إظْهَارُ الصِّفَاتِ فِي الْمَبِيعِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِهَا بِاللَّفْظِ فِي مِثْلِ الْمُصَرَّاةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمُدَلَّسَاتِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّصَرُّفَاتِ جِنْسَانِ، عُقُودٌ وَقُبُوضٌ، كَمَا جَمَعَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: «رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا كَانَ سَمْحًا إذَا بَاعَ سَمْحًا إذَا اشْتَرَى سَمْحًا إذَا قَضَى سَمْحًا إذَا اقْتَضَى» ، وَتَقُولُ النَّاسُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْأَخْذُ وَالْعَطَاءُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْعُقُودِ إنَّمَا هُوَ الْقَبْضُ وَالِاسْتِيفَاءُ، فَإِنَّ الْمُعَاقَدَاتِ تُفِيدُ وُجُوبَ الْقَبْضِ أَوْ جَوَازَهُ بِمَنْزِلَةِ إيجَابِ الشَّارِعِ، ثُمَّ التَّقَابُضُ وَنَحْوُهُ وَفَاءٌ بِالْعُقُودِ، بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ . وَالْقَبْضُ يَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ كَالْعَقْدِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقْدِ، فَإِذَا كَانَ الْمَرْجِعُ فِي الْقَبْضِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ حَدٍّ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ، فَكَذَلِكَ الْعُقُودُ وَإِنْ حُرِّرَتْ عِبَارَتُهُ قُلْت أَحَدُ نَوْعَيْ التَّصَرُّفَاتِ، فَكَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى عَادَةِ النَّاسِ كَالنَّوْعِ الْآخَرِ، وَمِمَّا يَلْتَحِقُ بِهَذَا أَنَّ الْإِذْنَ الْعُرْفِيَّ فِي الِاسْتِبَاحَةِ، أَوْ التَّمَلُّكِ أَوْ التَّصَرُّفِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ، كَالْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَكَالَةِ وَالْإِبَاحَةِ يَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وَالْعِلْمُ بِرِضَى الْمُسْتَحِقِّ يَقُومُ مَقَامَ إظْهَارِهِ التَّرَضِّي.

وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مُبَايَعَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَكَانَ غَائِبًا، وَإِدْخَالُهُ أَهْلَ الْخَنْدَقِ إلَى مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ، وَمَنْزِلِ جَابِرٍ بِدُونِ اسْتِئْذَانِهِمَا، لِعِلْمِهِ أَنَّهُمَا رَاضِيَانِ بِذَلِكَ، وَلَمَّا دَعَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّحَّامُ سَادِسَ سِتَّةٍ تَبِعَهُمْ رَجُلٌ فَلَمْ يُدْخِلْهُ حَتَّى اسْتَأْذَنَ اللَّحَّامَ الدَّاعِيَ. وَكَذَلِكَ مَا يُؤْثَرُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ أَصْحَابَهُ لَمَّا دَخَلُوا مَنْزِلَهُ وَأَكَلُوا طَعَامَهُ، قَالَ: " ذَكَّرْتُمُونِي أَخْلَاقَ قَوْمٍ قَدْ مَضَوْا "، وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي جَعْفَرٍ إنَّ الْإِخْوَانَ مَنْ يُدْخِلُ أَحَدُهُمْ يَدَهُ إلَى جَيْبِ صَاحِبِهِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ. وَمِنْ ذَلِكَ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ اسْتَوْهَبَهُ كُبَّةَ شَعْرٍ: أَمَّا مَا كَانَ إعْطَاؤُهُ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَدْ وَهَبْتُهُ لَك» ، وَكَذَلِكَ الْمُؤَلَّفَةُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ أَعْطَاهُمْ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ، وَعَلَى هَذَا خَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بَيْعَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ، لَمَّا وَكَّلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شِرَاءِ شَاةٍ بِدِينَارٍ فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ وَبَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ خَاصٌّ تَارَةً بِالْمُعَاوَضَةِ، وَتَارَةً بِالتَّبَرُّعِ، وَتَارَةً بِالِانْتِفَاعِ مَأْخَذُهُ إمَّا إذْنٌ عُرْفِيٌّ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ.

فصل القاعدة الثانية في العقود حلالها وحرامها

[فَصْلٌ الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْعُقُودِ حَلَالِهَا وَحَرَامِهَا] فَصْلٌ الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْعُقُودِ حَلَالِهَا وَحَرَامِهَا وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ فِي كِتَابِهِ أَكْلَ أَمْوَالِنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ، وَذَمَّ الْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَذَمَّ الْيَهُودَ عَلَى أَخْذِ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ، وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ مَا يُؤْكَلُ بِالْبَاطِلِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ، وَمَا يُؤْخَذُ بِغَيْرِ رِضَى الْمُسْتَحِقِّ وَالِاسْتِحْقَاقِ. فَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ نَوْعَانِ، ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ هُمَا: الرِّبَا وَالْمَيْسِرُ، فَذَكَرَ تَحْرِيمَ الرِّبَا الَّذِي هُوَ ضِدُّ الصَّدَقَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَالرُّومِ، وَالْمُدَّثِّرِ. وَذَمَّ الْيَهُودَ عَلَيْهِ فِي النِّسَاءِ، وَذَكَرَ تَحْرِيمَ الْمَيْسِرِ فِي الْمَائِدَةِ. ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَّلَ مَا جَمَعَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، فَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالْغَرَرُ هُوَ الْمَجْهُولُ الْعَاقِبَةِ، فَإِنَّ بَيْعَهُ مِنْ الْمَيْسِرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَبَقَ، وَالْبَعِيرَ أَوْ الْفَرَسَ إذَا شَرَدَ فَإِنَّ صَاحِبَهُ إذَا بَاعَهُ إنَّمَا يَبِيعُهُ مُخَاطَرَةً، فَيَشْتَرِيهِ الْمُشْتَرِي بِدُونِ ثَمَنِهِ بِكَثِيرٍ، فَإِنْ حَصَلَ لَهُ، قَالَ الْبَائِعُ: قَمَرْتَنِي وَأَخَذْتَ مَالِي بِثَمَنٍ قَلِيلٍ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ، قَالَ الْمُشْتَرِي: قَمَرْتَنِي وَأَخَذْتَ الثَّمَنَ بِلَا عِوَضٍ، فَيُفْضِي إلَى مَفْسَدَةِ الْمَيْسِرِ الَّتِي هِيَ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، الَّذِي هُوَ

نَوْعٌ مِنْ الظُّلْمِ، فَفِي بَيْعِ الْغَرَرِ ظُلْمٌ وَعَدَاوَةٌ وَبَغْضَاءُ، وَمِنْ نَوْعِ الْغَرَرِ مَا نَهَى عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَالْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ، وَهُنَّ بَيْعُ اللَّبَنِ، وَبَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَبَيْعُ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الرِّبَا فَتَحْرِيمُهُ فِي الْقُرْآنِ أَشَدُّ وَلِهَذَا قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] وَذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكَبَائِرِ كَمَا خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى الَّذِينَ هَادُوا طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ، بِظُلْمِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا، وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ، وَكِلَاهُمَا أَمْرٌ مُجَرَّبٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرِّبَا أَصْلٌ إنَّمَا يَفْعَلُهُ الْمُحْتَاجُ وَإِلَّا فَالْمُوسِرُ لَا يَأْخُذُ أَلْفًا حَالَّةً بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ مُؤَجَّلَةٍ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَاجَةٌ بِتِلْكَ الْأَلْفِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ الْمَالَ بِمِثْلِهِ وَزِيَادَةٍ إلَى أَجَلِ مَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ، فَتَقَعُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ ظُلْمًا لِمُحْتَاجٍ بِخِلَافِ الْمَيْسِرِ. فَإِنَّ الْمَظْلُومَ فِيهِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ وَلَا هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْعَقْدِ، وَقَدْ يَخْلُو بَعْضُ صُوَرِهِ عَنْ الظُّلْمِ إذَا وُجِدَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْمُتَّبَعُ عَلَى الصِّيغَةِ الَّتِي ظَنَّاهَا، وَالرِّبَا فِيهِ ظُلْمٌ مُحَقَّقٌ لِمُحْتَاجٍ، وَلِهَذَا كَانَ ضِدَّ الصَّدَقَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَدَعْ الْأَغْنِيَاءَ حَتَّى أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ إعْطَاءَ الْفُقَرَاءِ، فَإِنَّ مَصْلَحَةَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا لَا تَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ، فَإِذَا أَرْبَى مَعَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَمَنَعَهُ دَيْنَهُ، وَظُلْمُهُ زِيَادَةٌ أُخْرَى، وَالْغَرِيمُ مُحْتَاجٌ إلَى دَيْنِهِ، فَهُوَ مِنْ أَشَدِّ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، وَلِعَظَمَتِهِ لَعَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آكِلَهُ وَهُوَ الْآخِذُ، وَمُوَكِّلُهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ الْمُعْطِي لِلزِّيَادَةِ، وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ لِإِعَانَتِهِمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ أَشْيَاءَ مِنْهَا مَا يَخْفَى فِيهَا الْفَسَادُ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْفَسَادِ الْمُحَقَّقِ، كَمَا حَرَّمَ قَلِيلَ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهَا، مِثْلُ: رِبَا الْفَضْلِ فَإِنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ قَدْ تَخْفَى إذْ عَاقِلٌ لَا يَبِيعُ دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ إلَّا لِاخْتِلَافِ الصِّفَاتِ، مِثْلُ كَوْنِ الدِّرْهَمِ صَحِيحًا، وَالدِّرْهَمَيْنِ مَكْسُورَيْنِ، أَوْ كَوْنِ الدِّرْهَمِ مَصُوغًا أَوْ مِنْ نَقْدٍ نَافِقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ خَفِيَتْ حِكْمَةُ تَحْرِيمِهِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِمَا، فَلَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا حَتَّى أَخْبَرَهُمْ الصَّحَابَةُ الْأَكَابِرُ، كَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَغَيْرِهِمَا، بِتَحْرِيمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرِبَا الْفَضْلِ. وَأَمَّا الْغَرَرُ، فَإِنَّهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الْمَعْدُومُ، كَحَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَاللَّبَنُ، وَالْمَعْجُوزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ: كَالْآبِقِ، وَالْمَجْهُولِ الْمُطْلَقِ، أَوْ الْمُعَيَّنِ الْمَجْهُولِ جِنْسُهُ، أَوْ قَدْرُهُ كَقَوْلِهِ: بِعْتُك عَبْدًا، أَوْ بِعْتُك مَا فِي بَيْتِي، أَوْ بِعْتُك عَبِيدِي. أَمَّا الْمُعَيَّنُ الْمَعْلُومُ جِنْسُهُ وَقَدْرُهُ الْمَجْهُولُ نَوْعُهُ أَوْ صِفَتُهُ، كَقَوْلِهِ: بِعْتُك الثَّوْبَ الَّذِي فِي كُمِّي، أَوْ الْعَبْدَ الَّذِي أَمْلِكُهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَفِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ يُلْتَفَتُ إلَى مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَايِبَةِ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهُنَّ: لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِحَالٍ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدِ. وَالثَّانِيَةُ: يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يُوصَفْ وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، وَكَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى رَوَى عَنْ أَحْمَدَ لَا خِيَارَ لَهُ. وَالثَّالِثَةُ: وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالصِّفَةِ وَلَا يَصِحُّ بِدُونِهَا، كَالْمُطْلَقِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَمَفْسَدَةُ الْغَرَرِ أَقَلُّ مِنْ الرِّبَا، فَكَذَلِكَ رُخِّصَ فِيمَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ، فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ كَوْنِهِ غَرَرًا، مِثْلُ: بَيْعِ الْعَقَارِ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ دَوَاخِلُ الْحِيطَانِ وَالْأَسَاسِ، وَمِثْلُ بَيْعِ الْحَيَوَانِ الْحَامِلِ أَوْ الْمُرْضِعِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ الْحَمْلِ وَاللَّبَنِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ نُهِيَ عَنْ بَيْعِ الْحَمْلِ مُفْرَدًا، وَكَذَلِكَ اللَّبَنُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَمِثْلُ بَيْعِ الثَّمَرَةِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ مُسْتَحِقُّ الْإِبْقَاءِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ، وَذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَإِنْ كَانَتْ الْأَجْزَاءُ الَّتِي يَكْمُلُ بِهَا الصَّلَاحُ لَمْ تُخْلَقْ بَعْدُ. وَجُوِّزَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ ثَمَرَتَهَا، فَيَكُونُ قَدْ اشْتَرَى ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، لَكِنْ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ لِلْأَصْلِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ الْغَرَرِ الْيَسِيرِ ضِمْنًا وَتَبَعًا مَا لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَمَّا احْتَاجَ النَّاسُ إلَى الْعَرَايَا أُرْخِصَ فِي بَيْعِهَا بِالْخَرْصِ، وَلَمْ يُجَوَّزْ الْفَاضِلُ الْمُتَيَقَّنُ، بَلْ صَوْغُ الْمُسَاوَاةِ بِالْخَرْصِ فِي الْقَلِيلِ الَّذِي

تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ ، وَهُوَ قَدْرُ النِّصَابِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، أَوْ مَا دُونَهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ مَا دُونَ النِّصَابِ، إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَأُصُولُ مَالِكٍ فِي الْبُيُوعَاتِ أَجْوَدُ مِنْ أُصُولِ غَيْرِهِ، أُخِذَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، الَّذِي كَانَ يُقَالُ هُوَ أَفْقَهُ النَّاسِ فِي الْبُيُوعِ، كَمَا كَانَ يُقَالُ عَطَاءٌ أَفْقَهُ النَّاسِ فِي الْمَنَاسِكِ؛ وَإِبْرَاهِيمُ أَفْقَهُهُمْ فِي الصَّلَاةِ، وَالْحَسَنُ أَجْمَعُهُمْ كَذَلِكَ. وَلِهَذَا وَافَقَ أَحْمَدُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ التَّابِعِينَ فِي أَغْلَبِ مَا فُضِّلَ فِيهِ لِمَنْ اسْتَقْرَأَ ذَلِكَ مِنْ أَجْوِبَتِهِ؛ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ مُوَافِقٌ لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ، يُحَرِّمَانِ الرِّبَا وَيُشَدِّدَانِ فِيهِ حَقَّ التَّشْدِيدِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ شِدَّةِ تَحْرِيمِهِ وَعِظَمِ مَفْسَدَتِهِ، وَيَمْنَعَانِ الِاحْتِيَالَ عَلَيْهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ حَتَّى قَدْ يَمْنَعَا الذَّرِيعَةَ الَّتِي تُفْضِي إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حِيلَةٌ، وَإِنْ كَانَ مَالِكٌ يُبَالِغُ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ مَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَحْمَدَ فِيهِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: لَكِنْ يُوَافِقُهُ بِلَا خِلَافٍ مِنْهُ عَلَى مَنْعِ الْحِيَلِ كُلِّهَا وَجِمَاعُ الْحِيَلِ نَوْعَانِ: إمَّا أَنْ يَضُمُّوا إلَى أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ، أَوْ يَضُمُّوا إلَى الْعَقْدِ عَقْدًا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فَالْأَوَّلُ: مَسْأَلَةُ مُدِّ عَجْوَةٍ، وَضَابِطُهَا أَنْ يَبِيعَ رِبَوِيًّا بِجِنْسِهِ، وَمَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، كَمَنْ يَكُونُ غَرَضُهُمَا بَيْعَ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ مُتَفَاضِلًا وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيَضُمُّ إلَى الْفِضَّةِ الْقَلِيلَةِ عِوَضًا آخَرَ، حَتَّى قَدْ يَبِيعُ أَلْفَ دِينَارٍ فِي مِنْدِيلٍ بِأَلْفَيْ دِينَارٍ، فَمَتَى كَانَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا حَرُمَتْ مَسْأَلَةُ مُدِّ عَجْوَةٍ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَنَحْوِهِمَا، إنَّمَا يُسَوِّغُ مِثْلَ هَذَا مَنْ جَوَّزَ الْحِيَلَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ، وَإِنْ كَانَ قُدَمَاءُ الْكُوفِيِّينَ كَانُوا يُحَرِّمُونَ هَذَا. وَأَمَّا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَقْصُودًا كَمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ أَوْ بِمُدَّيْنِ أَوْ دِرْهَمَيْنِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْمَنْعُ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجَوَازُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ اجْتِهَادٍ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ غَيْرَ الْجِنْسِ الرِّبَوِيِّ، كَبَيْعِ شَاةٍ ذَاتِ صُوفٍ أَوْ لَبَنٍ بِصُوفٍ أَوْ لَبَنٍ، فَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ الْجَوَازُ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَضُمَّا إلَى الْعَقْدِ الْمُحَرَّمِ عَقْدًا غَيْرَ مَقْصُودٍ، مِثْلُ أَنْ

يَتَوَاطَآ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ الذَّهَبَ بِخَرَزَةٍ، ثُمَّ يَبْتَاعَ الْخَرَزَةَ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الذَّهَبِ، أَوْ يَتَوَاطَآ ثَالِثًا عَلَى أَنْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا عَرْضًا، ثُمَّ يَبِيعَهُ الْمُبْتَاعُ لِمُعَامَلَةِ الْمُرَابِي، ثُمَّ يَبِيعَهُ الْمُرَابِي لِصَاحِبِهِ، وَهِيَ الْحِيلَةُ الْمُثَلَّثَةُ، أَوْ يُقِرُّونَ بِالْقَرْضِ مُحَابَاةً فِي بَيْعٍ، أَوْ إجَارَةٍ أَوْ مُسَاقَاةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِثْلُ أَنْ يُقْرِضَهُ أَلْفًا وَيَبِيعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي عَشَرَةً بِمِائَتَيْنِ، أَوْ يَكْتَرِيَ مِنْهُ دَابَّةً تُسَاوِي ثَلَاثِينَ بِخَمْسَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ الْحِيَلِ لَا تَزُولُ بِهِ الْمَفْسَدَةُ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَجْلِهَا الرِّبَا، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحٍ مَا لَمْ يَضْمَنْ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ حِيَلِ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ إنَّمَا اسْتَحَلُّوا الرِّبَا بِالْحِيَلِ، وَيُسَمُّونَهُ الْمُشْكِلَ، وَقَدْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ. وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ؛ أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ تَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أَمِنَ أَنْ تَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ» . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» . وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ وَدَلَائِلُ تَحْرِيمِ الْحِيَلِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالِاعْتِبَارِ كَثِيرَةٌ؛ ذَكَرْنَا مِنْهَا نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ دَلِيلًا فِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرْنَا مَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُجَوِّزُهَا كَيَمِينِ أَيُّوبَ، وَحَدِيثِ تَمْرِ خَيْبَرَ، وَمَقَارِيضِ السَّلَفِ، وَذَكَرْنَا

جَوَابَ ذَلِكَ؛ وَمِنْ ذَرَائِعِ ذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْعِينَةِ، وَهُوَ بِأَنْ يَبِيعَهُ سِلْعَةً إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَبْتَاعَهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَهَذَا مَعَ التَّوَاطُؤِ يَبْطُلُ الْبَيِّعَانِ؛ لِأَنَّهَا حِيلَةٌ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادَيْنِ جَيِّدَيْنِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَرْفَعُهُ عَنْكُمْ حَتَّى تُرَاجِعُوا دِينَكُمْ» . وَإِنْ لَمْ يَتَوَاطَأْ يَظَلُّ الْبَيْعُ. الثَّانِي: سَدُّ الذَّرِيعَةِ، وَلَوْ كَانَتْ عَكْسَ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ عَنْ تَوَاطُؤٍ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهِيَ أَنْ يَبِيعَهُ حَالًّا، ثُمَّ يَبْتَاعَ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مُؤَجَّلًا، وَأَمَّا مَعَ التَّوَاطُؤِ فَرِبًا مُحْتَالٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مَقْصُودُ الْمُشْتَرِي الدَّرَاهِمَ وَابْتَاعَ السِّلْعَةَ إلَى أَجَلٍ لِيَبِيعَهَا؛ وَيَأْخُذَ ثَمَنَهَا، فَهَذَا يُسَمِّي التَّوَرُّقَ وَفِي كَرَاهَتِهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، وَالْكَرَاهَةُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٍ فِيمَا أَظُنُّ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي الَّذِي غَرَضُهُ التِّجَارَةُ، أَوْ غَرَضُهُ الِانْتِفَاعُ وَالْقِنْيَةُ، فَهَذَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ إلَى أَجَلٍ بِالِاتِّفَاقِ، فَفِي الْجُمْلَةِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ مَانِعُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَا مَنْعًا مُحْكَمًا مُرَاعِيًا لِمَقْصُودِ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولِهَا، وَقَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُؤْثَرُ مِثْلُهُ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَمَّا الْغَرَرُ فَأَشَدُّ النَّاسِ قَوْلًا فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ يُدْخِلُ فِي هَذَا الِاسْمِ مِنْ الْأَنْوَاعِ مَا لَا يُدْخِلُ غَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ، مِثْلُ: الْحَبِّ، وَالثَّمَرِ فِي قِشْرِهِ الَّذِي لَيْسَ بِصَوَّانٍ، كَالْبَاقِلَاءِ، وَالْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ فِي قِشْرِهِ الْأَخْضَرِ، وَكَالْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ الْجَدِيدَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مَعَ أَنَّهُ اشْتَرَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بَاقِلَاءَ خَضْرَاءَ، فَخَرَّجَ ذَلِكَ لَهُ قَوْلًا، وَاخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَأَبِي عُبَيْدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى عَنْ بَيْعِ أُصُولِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ» . فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ بَعْدَ اشْتِدَادِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي سُنْبُلَةٍ، فَقَالَ: إنْ صَحَّ هَذَا أَخْرَجْتُهُ مِنْ الْعَامِّ أَوْ كَلَامًا قَرِيبًا مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: جَوَازُ ذَلِكَ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَرَّةً: لَا يَجُوزُ ثُمَّ بَلَغَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَرَجَعَ عَنْهُ وَقَالَ بِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَعْدِلُ عَنْ الْقَوْلِ بِهِ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لَهُ قَوْلَيْنِ، وَأَنَّ الْجَوَازَ هُوَ الْقَدِيمُ حَتَّى مَنَعَ مِنْ بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ بِصِفَةٍ وَبِغَيْرِ صِفَةٍ، مُتَأَوِّلًا أَنَّ الْغَائِبَ غَرَرٌ وَإِنْ وُصِفَ، وَحَتَّى اشْتَرَطَ فِيهَا فِي الذِّمَّةِ لِدَيْنِ السَّلَمِ مِنْ الصِّفَاتِ وَضَبْطِهَا مَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ غَيْرُهُ؛ وَلِهَذَا يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ عَلَى النَّاسِ الْمُعَامَلَةُ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَقَاسَ عَلَى بَيْعِ الْغَرَرِ جَمِيعَ الْعُقُودِ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ وَالْمُعَاوَضَاتِ، فَاشْتَرَطَ فِي أُجْرَةِ الْأَجِيرِ الْمَشْهُورِ، وَفِدْيَةِ الْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ، وَصُلْحِ أَهْلِ الْهُدْنَةِ، وَجِزْيَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَا يَشْتَرِطُهُ فِي الْبَيْعِ عَيْنًا وَدَيْنًا، وَلَمْ يُجَوِّزْ فِي ذَلِكَ جِنْسًا وَقَدْرًا وَصِفَةً إلَّا مَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعُقُودُ لَا تَبْطُلُ بِفَسَادِ أَعْوَاضِهَا، أَوْ يَشْتَرِطُ لَهَا شُرُوطًا أُخْرَى. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ بَيْعَ الْبَاقِلَاءِ وَنَحْوِهِ فِي الْقِشْرِ ، وَيُجَوِّزُ إجَارَةُ الْأَجِيرِ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ، وَيُجَوِّزُ أَنْ تَكُونَ جَهَالَةُ الْمَهْلِ كَجَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَيُجَوِّزُ بَيْعَ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ بِلَا صِفَةٍ مَعَ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ جَهَالَةً، لَكِنَّهُ قَدْ يُحَرِّمُ الْمُسَاقَاةَ، وَالْمُزَارَعَةَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ الْمُعَامَلَاتِ مُطْلَقًا، وَالشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُ بَعْضَ ذَلِكَ وَيُحَرِّمُ أَيْضًا كَثِيرًا مِنْ الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُخَالِفُ مُطْلَقَ الْعَقْدِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ بَعْضَ ذَلِكَ وَيُجَوِّزُ مِنْ الْوَكَالَاتِ وَالشَّرِكَاتِ مَا لَا يُجَوِّزُهُ الشَّافِعِيُّ، حَتَّى جَوَّزَ شَرِكَةَ الْمُعَاوَضَةِ وَالْوَكَالَةِ بِالْمَجْهُولِ الْمُطْلَقِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ لَمْ تَكُنْ شَرِكَةُ الْمُعَاوَضَةِ بَاطِلًا فَلَا أَعْلَمُ شَيْئًا بَاطِلًا، فَبَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْبَابِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، لَكِنْ أُصُولُ الشَّافِعِيِّ الْمُحَرَّمَةُ أَكْثَرُ مِنْ أُصُولِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَمَذْهَبُهُ أَحْسَنُ الْمَذَاهِبِ فِي هَذَا، فَيَجُوزُ بَيْعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَجَمِيعِ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ، أَوْ يَقِلُّ غَرَرُهُ بِحَيْثُ يُحْتَمَلُ فِي الْعُقُودِ، حَيْثُ يُجَوِّزُ بَيْعَ الْمَقَاثِي جُمْلَةً، وَبَيْعَ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ: كَالْجَزَرِ، وَالْفُجْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَحْمَدُ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَيُجَوِّزُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ عَبْدًا مُطْلَقًا، وَعَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَلَا تَزِيدُ جَهَالَتُهُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يُجَوِّزُ الْمُبْهَمَ دُونَ الْمُطْلَقِ، كَأَبِي الْخَطَّابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَافِقُ الشَّافِعِيَّ، فَلَا يُجَوِّزُ فِي الْمَهْرِ وَفِدْيَةِ الْخُلْعِ وَنَحْوِهِمَا إلَّا مَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ،

كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَيَجُوزُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَنْهُ فِي فِدْيَةِ الْخُلْعِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى مَا يَجُوزُ فِي الْوَصِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي الْمَهْرِ، كَقَوْلِ مَالِكٍ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي مَذْهَبِهِ، لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ، لَكِنْ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَغِيبِ فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَنَحْوِهِ إلَّا إذْ قُلِعَ، وَقَالَ: هَذَا الْغَرَرُ شَيْءٌ لَا نَرَاهُ فَكَيْفَ نَشْتَرِيهِ. وَكَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَنَحْوِهِ، إلَّا بَعْدَ قَطْعِهَا لَا يُبَاعُ مِنْ الْمَقَاثِي وَالْمَبَاطِخِ إلَّا مَا ظَهَرَ دُونَ مَا بَطَنَ وَلَا تُبَاعُ الرَّطْبَةُ إلَّا بَعْدَ جَزِّهَا، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَرَرٌ، وَهُوَ بَيْعٌ لِلثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فَأَكْثَرُهُمْ أَطْلَقُوا ذَلِكَ فِي كُلِّ مَغِيبٍ، كَالْجَزَرِ، وَالْفُجْلِ، وَالْبَصَلِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: إنْ كَانَ مِمَّا يُقْصَدُ فُرُوعُهُ وَأُصُولُهُ كَالْبَصَلِ الْمَبِيعِ أَخْضَرَ وَالْلآبِ وَالْفُجْلِ، أَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ فُرُوعَهُ، فَالْأَوْلَى جَوَازُ بَيْعِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ ظَاهِرٌ، فَأَشْبَهَ الشَّجَرَ وَالْحِيطَانَ، وَيَدْخُلُ مَا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْمَبِيعِ تَبَعًا، وَإِنْ كَانَ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ أُصُولُهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَغْلَبَ وَإِنْ تَسَاوَيَا لَمْ يَجُزْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ فِي الْأَقَلِّ التَّابِعِ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، فَإِنَّ أَبَا دَاوُد قَالَ: قُلْت لِأَحْمَدَ: بَيْعُ الْجَزَرِ فِي الْأَرْضِ، قَالَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَّا مَا قُلِعَ مِنْهُ، هَذَا الْغَرَرُ شَيْءٌ لَيْسَ نَرَاهُ كَيْفَ نَشْتَرِيهِ، فَعَلَّلَ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ. فَقَدْ يُقَالُ: إنْ لَمْ يُرَ لَمْ يُبَعْ، وَقَدْ قَالَ: رُؤْيَةُ بَعْضِ الْمَبِيعِ تَكْفِي إذَا دَلَّتْ عَلَى الْبَاقِي، كَرُؤْيَةِ وَجْهِ الْعَبْدِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الْمَقَاثِي إذَا بِيعَتْ بِأُصُولِهَا كَمَا هُوَ الْعَادَةُ غَالِبًا، قَالَ قَوْمُ الْمُتَأَخِّرِينَ: يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَيْعَ أُصُولِ الْخَضْرَاوَاتِ كَبَيْعِ الشَّجَرِ، وَإِذَا بَاعَ الشَّجَرَ وَعَلَيْهِ ثَمَرٌ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ جَازَ، فَكَذَلِكَ هَذَا وَذُكِرَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْمُتَقَدِّمُونَ: لَا يَجُوزُ بِحَالٍ وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ وَمَنْصُوصُهُ، فَهُوَ إنَّمَا نَهَى عَمَّا يَعْتَادُهُ النَّاسُ، وَلَيْسَتْ الْعَادَةُ جَارِيَةً فِي الْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ أَنْ يُبَاعَ دُونَ عُرُوقِهِ، وَالْأَصْلُ الَّذِي قَاسُوا عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ عِنْدَهُ، فَإِنَّ الْأَصْلَ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ فِي الشَّجَرِ الَّذِي عَلَيْهِ ثَمَرٌ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ، أَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ مَقْصُودُهُ الْأَعْظَمُ جَازَ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الثَّمَرَ فَاشْتَرَى الْأَصْلَ مَعَهَا حِيلَةً لَمْ يَجُزْ، وَلِذَلِكَ

إذَا اشْتَرَى أَرْضًا وَفِيهَا زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ مُثْمِرٌ، لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ جَازَ دُخُولُ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ مَعَهَا تَبَعًا، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الثَّمَرُ وَالزَّرْعُ، فَاشْتَرَى الْأَرْضَ لِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، وَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلُهُ فِي ثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْمَقَاثِي وَالْمَبَاطِخِ إنَّمَا هُوَ الْخَضْرَاوَاتُ دُونَ الْأُصُولِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا إلَّا قِيَمٌ يَسِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحِصَّةِ، وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ فِيهَا وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَمَا فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمُغَيَّبَاتِ بِنَاءً عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَفِي بَيْعِ مَا لَمْ يَرَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ عَلَى الْمَنْعِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى قَوْلِنَا لَا يَصِحُّ بَيْعُ مَا لَمْ يَرَهُ، فَإِذَا صَحَّحْنَا بَيْعَ الْغَائِبِ، فَهَذَا هُوَ الْغَائِبُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا مُطْلَقًا كَمَذْهَبِ مَالِكٍ إلْحَاقًا لَهَا بِلُبِّ الْجَوْزِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الْخِبْرَةِ يَسْتَدِلُّونَ بِرُؤْيَةِ وَرَقِ هَذِهِ الْمَدْفُونَاتِ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ أَجْوَدَ مِمَّا يَعْلَمُ الْعَبْدُ بِرُؤْيَةِ وَجْهِهِ، وَالْمَرْجِعُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَى الصَّالِحِينَ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهِ، وَهُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، كَمَا يُعْرَفُ غَيْرُهَا مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ وَأَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا مِمَّا تَمَسُّ حَاجَةُ النَّاسِ إلَى بَيْعِهِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُبَعْ حَتَّى قُلِعَ حَصَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ مُبَاشَرَةُ الْقَلْعِ وَالِاسْتِنَابَةِ فِيهِ، وَإِنْ قَطَعُوهُ جُمْلَةً فَسَدَ بِالْقَلْعِ، فَبَقَاؤُهُ فِي الْأَرْضِ كَبَقَاءِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَنَحْوِهِمَا فِي قِشْرِهِ الْأَخْضَرِ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ يُجَوِّزُونَ الْعَرَايَا مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْمُزَابَنَةِ لِحَاجَةِ الْمُشْتَرِي إلَى أَكْلِ الرُّطَبِ، أَوْ الْبَائِعُ إلَى أَكْلِ التَّمْرِ، فَحَاجَةُ الْبَائِعِ هُنَا أَوْكَدُ بِكَثِيرٍ ، وَسَنُقَرِّرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ ، وَجَوَازُ بَيْعِ الْمَقَاثِي بَاطِنِهَا وَظَاهِرِهَا وَإِنْ اشْتَمَلَ ذَلِكَ عَلَى بَيْعِ مَعْدُومٍ إذَا بَدَا صَلَاحُهَا، كَمَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِ نَخْلَةٍ، أَوْ شَجَرَةٍ أَنْ يُبَاعَ جَمِيعُ ثَمَرِهَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَمْ يَصْلُحْ بَعْدُ. وَغَايَةُ مَا اعْتَذَرُوا بِهِ عَنْ خُرُوجِ هَذَا مِنْ الْقِيَاسِ أَنْ قَالُوا إنَّهُ لَا يَكُنْ أَفْرَادُ الْبَيْعِ لِذَلِكَ مِنْ نَخْلَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْرَدَ الْبُسْرَةَ بِالْعَقْدِ اخْتَلَطَتْ بِغَيْرِهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ

الْبُسْرَةَ تَصْفَرُّ فِي يَوْمِهَا، وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْمَقْثَاةِ، وَقَدْ اعْتَذَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ عَنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ تَبَعًا بِأَنَّ مَا يَحْدُثُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَرِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَيْسَ تَابِعًا لِلْمَوْجُودِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي مِلْكِهِ، وَالْجُمْهُورُ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ يَعْلَمُونَ فَسَادَ هَذَا الْعُذْرِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ سَقْيُ الثَّمَرَةِ، وَيُسْتَحَقُّ إبْقَاؤُهَا عَلَى الشَّجَرِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَلَوْ لَمْ يُسْتَحَقَّ الزِّيَادَةُ بِالْعَقْدِ لَمَا وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ مَا بِهِ يُوجَدُ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْبَائِعِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ بِوَقْتِهِ الْمَبِيعُ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ، لَا مَا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمِلْكِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الرِّوَايَةَ اخْتَلَفَتْ عَنْ أَحْمَدَ، إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي حَدِيقَةٍ مِنْ الْحَدَائِقِ، هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِهَا أَمْ لَا يُبَاعُ إلَّا مَا صَلُحَ مِنْهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: أَشْهَرُهُمَا عَنْهُ: أَنَّهُ لَا يُبَاعُ إلَّا مَا بَدَا صَلَاحُهُ، وَهِيَ اخْتِيَارُ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ، كَأَبِي بَكْرٍ وَابْنِ شَاقِلَا. الثَّانِيَةُ: يَكُونُ بُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي الْبَعْضِ صَلَاحًا لِلْجَمِيعِ، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ كَابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي مِنْ بَعْدِهِمَا، ثُمَّ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ فِي بُسْتَانٍ بَعْضُهُ بَالِغٌ وَغَيْرُ بَالِغٍ يَبِيعُ إذَا كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِ الْبُلُوغُ، فَمِنْهُمْ كَالْقَاضِي وَأَبِي حَكِيمٍ النِّهْرَوَانِيِّ وَأَبِي الْبَرَكَاتِ وَغَيْرِهِمْ، مَنْ قَصَرَ الْحُكْمَ بِمَا إذَا غَلَبَ الصَّلَاحُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الصَّلَاحِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ كَأَبِي الْخَطَّابِ وَجَمَاعَاتٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَاللَّيْثِ وَزَادَ مَالِكٌ فَقَالَ يَكُونُ صَلَاحًا لِمَا جَاوَرَهُ مِنْ الْأَفْرِحَةِ، وَحَكَوْا ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ هَلْ يَكُونُ صَلَاحُ النَّوْعِ كَالْبَرْنِيِّ مِنْ الرُّطَبِ إصْلَاحًا لِسَائِرِ أَنْوَاعِ الرُّطَبِ، عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي ابْنِ عَقِيلٍ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْخَطَّابِ، وَزَادَ اللَّيْثُ عَلَى هَؤُلَاءِ فَقَالَ: صَلَاحُ الْجِنْسِ كَالتُّفَّاحِ وَاللَّوْزِ يَكُونُ صَلَاحًا لِسَائِرِ أَجْنَاسِ الثِّمَارِ، وَمَأْخَذُ مَنْ جَوَّزَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ بَيْعَ بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ يُفْضِي إلَى سُوءِ الْمُشَارَكَةِ، وَاخْتِلَافِ الْأَيْدِي، وَهَذِهِ عِلَّةُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْبُسْتَانِ الْوَاحِدِ وَالْبَسَاتِينِ، وَمَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا.

قَالَ: الْمَقْصُودُ الْأَمْنُ مِنْ الْعَاهَةِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِشُرُوعِ الثَّمَرِ فِي الصَّلَاحِ، وَمَأْخَذُ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا يَقْتَضِي بُدُوَّ صَلَاحِ الْجَمِيعِ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ أَنَّ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَ الْبُسْتَانِ مِنْ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لِبُدُوِّ الصَّلَاحِ فِي بَعْضِهِ، فَقِيَاسُ قَوْلِهِ جَوَازُ بَيْعِ الْمَقْثَاةِ إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهَا وَالْمَعْدُومُ هُنَا فِيهَا كَالْمَعْدُومِ مِنْ أَجْزَاءِ الثَّمَرَةِ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ أَكْثَرَ، إذْ تَفْرِيقُ الْأَشْجَارِ فِي الْبَيْعِ أَيْسَرُ مِنْ تَفْرِيقِ الْبِطِّيخَاتِ وَالْقِثَّاتِ وَالْخِيَارَاتِ، وَتَمْيِيزُ اللُّقَطَةِ عَنْ اللُّقَطَةِ لَوْ لَمْ يَشُقَّ فَإِنَّهُ دَامِرٌ لَا يَنْضَبِطُ، فَإِنَّ اجْتِهَادَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ مُتَفَاوِتٌ وَالْغَرَضُ بِهَذَا أَنَّ أُصُولَ أَحْمَدَ تَقْتَضِي مُوَافَقَةَ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، كَمَا قَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْجَوَابَاتِ، أَوْ قَدْ خَرَّجَهُ أَصْحَابُهُ عَلَى أُصُولِهِ، وَكَمَا أَنَّ الْعَالِمَ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَالْأَئِمَّةِ كَثِيرًا مَا يَكُونُ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ قَوْلَانِ فِي وَقْتَيْنِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ لَهُ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْ الْمَسَائِلِ قَوْلَانِ فِي وَقْتَيْنِ، فَيُجِيبُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ بِجَوَابٍ فِي وَقْتٍ، وَيُجِيبُ فِي بَعْضٍ بِجَوَابٍ آخَرَ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَإِذَا كَانَتْ الْأَفْرَادُ مُسْتَوِيَةً، وَكَانَ لَهُ فِيهَا قَوْلَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَرْقٌ يَذْهَبُ إلَيْهِ مُجْتَهِدٌ فَقَوْلُهُ فِيهَا وَاحِدٌ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا قَدْ يَذْهَبُ إلَيْهِ مُجْتَهِدٌ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ، مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَخْرُجُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ، كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى: يَخْرُجُ الْجَوَابُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مِمَّنْ يَذْهَبُ إلَى الْفَرْقِ كَمَا اقْتَضَتْهُ أُصُولُهُ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُخَرِّجُ الْجَوَابَ إذَا رَآهُمَا مُسْتَوِيَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَعُمَّ، هَلْ هُوَ مِمَّنْ يُفَرَّقُ أَمْ لَا؟ وَإِنْ فُرِّقَ بَيْنَ بَعْضِ الْأَفْرَادِ وَبَعْضٍ مُسْتَحْضِرًا لَهُمَا، كَانَ سَبَبُ الْفَرْقِ مَأْخَذًا شَرْعِيًّا كَانَ الْفَرْقُ قَوْلَهُ، وَإِنْ كَانَ مَأْخَذًا عَادِيًا أَوْ حِسِّيًّا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَكُونُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَعْلَمَ بِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَمْ يُبَاشِرُوا ذَلِكَ، فَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا شَرْعًا، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا لَمْ يَعْلَمْهُ الْعَالِمُ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ» . وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ أَوْ نَوْعِهَا مِنْ الْعِلْمِ قَدْ يُسَمَّى تَنَاقُضًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ

التَّنَاقُضَ اخْتِلَافُ مَقَالَتَيْنِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَإِذَا كَانَ فِي وَقْتٍ قَدْ قَالَ إنَّ هَذَا حَرَامٌ، وَقَالَ فِي وَقْتٍ آخَرَ فِيهِ أَوْ فِي مِثْلِهِ إنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، أَوْ قَالَ مَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ فَقَدْ يُنَاقِضُ قَوْلَاهُ، وَهُوَ مُصِيبٌ فِي كِلَاهُمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، كَأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي الْبَاطِنِ حُكْمٌ عَلَى الْمُجْتَهِدِ غَيْرَ مَا اعْتَقَدَهُ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ لِلَّهِ حُكْمًا فِي الْبَاطِنِ عَلِمَهُ الْعَالِمُ فِي إحْدَى الْمَقَالَتَيْنِ، وَلَمْ يَعْلَمْهُ فِي الْمُقْبِلَةِ الَّتِي يُنَاقِضُهَا، وَعَدَمُ عِلْمِهِ مَعَ اجْتِهَادِهِ مَغْفُورٌ لَهُ مَعَ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ مِنْ قَصْدِهِ الْحَقَّ وَاجْتِهَادِهِ فِي طَلَبِهِ، وَلِهَذَا شَبَّهَ بَعْضُهُمْ تَعَارُضَ الِاجْتِهَادَاتِ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ، مَعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ الثَّابِتِ بِخِطَابِ حُكْمِ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِخِلَافِ أَحَدِ قَوْلَيْ الْعَالِمِ الْمُتَنَاقِضِ، هَذَا فِيمَنْ يَتَّقِي اللَّهَ فِيمَا يَقُولُهُ مَعَ عِلْمِهِ بِتَقْوَاهُ وَسُلُوكِهِ الطَّرِيقَ الْمُرْسَلَ، وَأَمَّا أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْخُصُومَاتِ فَهُمْ مَذْمُومُونَ فِي مُنَاقَضَاتِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا قَصْدٍ لِمَا يَجِبُ قَصْدُهُ. وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ لَازِمَ قَوْلِ الْإِنْسَانِ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: لَازِمُ قَوْلِهِ الْحَقُّ فَهَذَا مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَهُ، فَإِنَّ لَازِمَ الْحَقِّ حَقٌّ وَيَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ إذَا عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْتِزَامِهِ بَعْدَ ظُهُورِهِ. وَكَثِيرًا مَا يُضِيفُ النَّاسُ إلَى مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَالثَّانِي: لَازِمُ قَوْلِهِ الَّذِي لَيْسَ بِحَقٍّ، فَهَذَا لَا يَجِبُ الْتِزَامُهُ إذْ أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ قَدْ تَنَاقَضَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ التَّنَاقُضَ وَاقِعٌ مِنْ كُلِّ عَالِمٍ غَيْرِ النَّبِيِّينَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -. ثُمَّ إنَّ مَنْ عُرِفَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَلْتَزِمُهُ بَعْدَ ظُهُورِهِ لَهُ فَقَدْ يُضَافُ إلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ قَوْلٌ لَوْ ظَهَرَ لَهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ لِكَوْنِهِ قَدْ قَالَ مَا يَلْزَمُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِفَسَادِ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَلَا يُلَازِمُهُ وَهَذَا التَّفْضِيلُ فِي اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي لَازِمِ الْمَذْهَبِ، هَلْ هُوَ مَذْهَبٌ أَوْ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ هُوَ أَجْوَدُ مِنْ إطْلَاقِ أَحَدِهِمَا، فَمَا كَانَ مِنْ اللَّوَازِمِ يَرْضَى الْقَائِلُ بَعْدَ وُضُوحِهِ بِهِ فَهُوَ قَوْلُهُ، وَمَا لَا يَرْضَاهُ فَلَيْسَ قَوْلَهُ، وَإِنْ كَانَ مُتَنَاقِضًا وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّازِمِ الَّذِي يَجِبُ الْتِزَامُهُ مَعَ الْمَلْزُومِ، وَاللَّازِمِ الَّذِي يَجِبُ تَرْكُ الْمَلْزُومِ لِلُزُومِهِ، وَهَذَا مُتَوَجَّهٌ فِي اللَّوَازِمِ الَّتِي لَمْ يُصَرِّحْ هُوَ بِعَدَمِ لُزُومِهَا، فَأَمَّا إذَا نَفَى هُوَ اللُّزُومَ لَمْ يَجُزْ

أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ اللَّازِمُ بِحَالٍ، وَإِلَّا أُضِيفَ إلَى كُلِّ عَالِمٍ مَا اعْتَقَدْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ، لِكَوْنِهِ مُلْتَزِمًا لِرِسَالَتِهِ. فَلَمَّا لَمْ يُضِفْ إلَيْهِ مَا نَفَاهُ عَنْ الرَّسُولِ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ، ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّازِمِ الَّذِي لَمْ يَنْفِهِ وَاللَّازِمِ الَّذِي نَفَاهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ نَصَّ عَلَى الْحُكْمِ نَفْيَهُ لِلُّزُومِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَنْ اجْتِهَادٍ فِي وَقْتَيْنِ، وَسَبَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ مَعَ وُجُودِ الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّ الْعَالِمَ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الِاقْتِضَاءِ، وَالِاجْتِهَادِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ فِي الظَّاهِرِ بِاعْتِقَادِ مَا قَامَ دَلِيلُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطَابِقًا لَكِنْ اعْتِقَادًا لَيْسَ بِيَقِينٍ، كَمَا يُؤْمَرُ الْحَاكِمُ بِتَصْدِيقِ الشَّاهِدَيْنِ ذَوِي الْعَدْلِ، وَإِنْ كَانَا فِي الْبَاطِنِ قَدْ أَخْطَآ أَوْ كَذَبَا وَكَمَا يُؤْمَرُ الْمُفْتِي بِتَصْدِيقِ الْمُخْبِرِ الْعَدْلِ الضَّابِطِ، أَوْ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ فَيَعْتَقِدُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ مُطَابِقًا فَالِاعْتِقَادُ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ الْعِبَادُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُطَابِقٍ وَلَمْ يُؤْمَرُوا فِي الْبَاطِنِ بِاعْتِقَادٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ قَطُّ فَإِذَا اعْتَقَدَ الْعَالِمُ اعْتِقَادَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ فِي قَضِيَّةٍ أَوْ قَضِيَّتَيْنِ مَعَ قَصْدِهِ الْحَقَّ وَاتِّبَاعِهِ لِمَا أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ عُذِرَ بِمَا لَمْ يَعْلَمْهُ، وَهُوَ الْخَطَأُ الْمَرْفُوعُ هُنَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَإِنَّهُمْ {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم: 23] . وَيُحَرِّمُونَ بِمَا يَقُولُونَ جَزْمًا لَا يَقْبَلُ النَّقِيضَ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِجَزْمِهِ، فَيَعْتَقِدُونَ مَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِاعْتِقَادِهِ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا، وَيَقْصِدُونَ مَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِاقْتِصَادِهِ، وَيَجْتَهِدُونَ اجْتِهَادًا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ، فَلَمْ يُصْدَرْ عَنْهُمْ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالِاقْتِصَادِ مَا يَقْتَضِي مَغْفِرَةَ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ، فَكَانُوا ظَالِمِينَ تَشْبِيهًا بِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَجَاهِلِينَ شَبِيهًا بِالظَّالِمِينَ. وَالْمُجْتَهِدُ الْمَحْضُ الِاجْتِهَادَ الْعِلْمِيَّ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ سِوَى الْحَقِّ وَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَهُ، وَأَمَّا مُتَّبِعُ الْهَوَى الْمَحْضِ فَهُوَ مَنْ يَعْلَمُ الْحَقَّ وَيُعَانِدُ عَنْهُ، وَثَمَّ قِسْمٌ آخَرُ وَهْمٌ غَالِبٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ هَوًى فِيهِ شُبْهَةٌ فَيَجْمَعَ الشَّهْوَةَ وَالشُّبْهَةَ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّاقِدَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ وَيُحِبُّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ» . فَالْمُجْتَهِدُ الْمَحْضُ مَغْفُورٌ لَهُ وَمَأْجُورٌ، وَصَاحِبُ الْهَوَى الْمَحْضِ مُسْتَوْجِبٌ لِلْعَذَابِ، وَالْمُرَكَّبُ مِنْ شُبْهَةٍ وَهُوَ مُسِيءٌ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى دَرَجَاتٍ بِحَسَبِ مَا يَغْلِبُ وَبِحَسَبِ الْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ، وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى فِقْهٍ أَوْ تَصَوُّفٍ مُبْتَلُونَ بِذَلِكَ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ أُصُولُ

مَالِكٍ وَأُصُولُ أَحْمَدَ وَبَعْضُ أُصُولِ غَيْرِهِمَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ غَالِبُ مُعَامَلَاتِ السَّلَفِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُ النَّاسِ فِي مَعَايِشِهِمْ إلَّا بِهِ، وَكُلُّ مَنْ شَرَعَ فِي تَحْرِيمِ مَا يَعْتَقِدُهُ غَرَرًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَضْطَرَّ إلَى إجَازَةِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْ مَذْهَبِهِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِمَّا أَنْ يَحْتَالَ، وَقَدْ رَأَيْنَا النَّاسَ وَبَلَغَتْنَا أَخْبَارُهُمْ فَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا الْتَزَمَ مَذْهَبَهُ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ مَفْسَدَةَ التَّحْرِيمِ لَا تَزُولُ بِالْحِيلَةِ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا، فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُحَرِّمَ الشَّارِعُ عَلَيْنَا أَمْرًا نَحْنُ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ، ثُمَّ لَا يُبِيحُهُ إلَّا بِحِيلَةٍ لَا فَائِدَةَ فِيهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِنْسِ اللَّعِبِ، وَلَقَدْ تَأَمَّلْتُ أَغْلَبَ مَا وَقَعَ النَّاسُ فِي الْحِيَلِ فَوَجَدْتُهُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ. إمَّا ذُنُوبٌ جَوَّزُوا عَلَيْهَا تَضْيِيقًا فِي أُمُورِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا دَفْعَهُ إلَّا بِالْحِيَلِ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ الْحِيَلُ إلَّا بَلَاءً كَمَا جَرَى لِأَصْحَابِ السَّبْتِ مِنْ الْيَهُودِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] . وَهَذَا ذَنْبٌ عَمَلِيٌّ. وَإِمَّا مُبَالَغَةٌ فِي التَّشْدِيدِ لِمَا اعْتَبَرُوهُ مِنْ تَحْرِيمِ الشَّارِعِ فَاضْطَرَّهُمْ هَذَا الِاعْتِقَادُ إلَى الِاسْتِحْلَالِ بِالْحِيَلِ؛ وَهَذَا مِنْ خَطَأِ الِاجْتِهَادِ، وَإِلَّا فَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَأَخَذَ مَا أَحَلَّ لَهُ وَأَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْوِجُهُ إلَى الْحِيَلِ الْمُبْتَدَعَةِ أَبَدًا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. وَإِنَّمَا بُعِثَ نَبِيُّنَا بِالْحَنَفِيَّةِ السَّمْحَةِ، فَالسَّبَبُ الْأَوَّلُ هُوَ الظُّلْمُ، وَالثَّانِي عَدَمُ الْعِلْمِ، وَالظُّلْمُ وَالْجَهْلُ هُوَ وَصْفُ الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} [الأحزاب: 72] . وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْأَعْيَانِ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، أَوْ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ كَالْمَيْسِرِ وَالرِّبَا الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ بُيُوعُ الْغَرَرِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي نَبَّهَ اللَّهُ عَلَيْهَا وَرَسُولُهُ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة: 91] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَيْسِرَ يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، سَوَاءٌ كَانَ مَيْسِرًا بِالْمَالِ أَوْ بِاللَّعِبِ، فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ بِلَا فَائِدَةٍ وَأَخْذَ الْمَالِ بِلَا حَقٍّ يُوقِعُ فِي النُّفُوسِ ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ رَوَى فَقِيهِ الْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ كَانَ النَّاسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَبَايَعُونَ الثِّمَارَ فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ قَالَ الْمُبْتَاعُ إنَّهُ أَصَابَ الثَّمَرَ دَمَانٌ، أَصَابَهُ مَرَضٌ، أَصَابَهُ قُشَامٌ، عَاهَاتٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، لَمَّا كَثُرَتْ عِنْدَهُ الْخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ: «وَاَيْمُ اللَّهِ فَلَا تَتَبَايَعُوا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُ الثَّمَرِ» . كَالْمَشُورَةِ يُشِيرُ بِهَا لِكَثْرَةِ خُصُومَتِهِمْ. وَذَكَرَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَكُنْ يَبِيعُ ثِمَارَ أَرْضِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا فَيَتَبَيَّنَ الْأَحْمَرَ مِنْ الْأَصْفَرِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَأَبُو دَاوُد إلَى قَوْلِهِ خُصُومَتِهِمْ، وَرَوَى أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ «قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، وَنَحْنُ نَتَبَايَعُ الثِّمَارَ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُصُومَةً فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ هَؤُلَاءِ ابْتَاعُوا الثِّمَارَ يَقُولُونَ أَصَابَهَا الدَّمَانُ وَالْقُشَامُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَلَا تَبَايَعُوهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» . فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ سَبَبَ نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ مَا قَضَتْ إلَيْهِ مِنْ الْخِصَامُ، وَهَكَذَا بُيُوعُ الْغَرَرِ وَقَدْ ثَبَتَ نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ، وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ تَعْلِيلُهُ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَزْهُوَ، قِيلَ: وَمَا تَزْهُو؟ ، قَالَ: حَتَّى تَحْمَرَّ أَوْ تَصْفَرَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرَأَيْت إذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى تَزْهُوَ فَقُلْنَا لِأَنَسٍ: مَا زَهْوُهَا، قَالَ: تَحْمَرُّ أَوْ تَصْفَرُّ» . أَرَأَيْت أَنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيك، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ:

جَعَلَ مَالِكٌ والداروردي قَوْلَ أَنَسٍ أَرَأَيْت أَنْ مَنَعَ اللَّهَ الثَّمَرَةَ مِنْ حَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْرَجَهُ فِيهِ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ غَلَطٌ فَهَذَا التَّعْلِيلُ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِنْ كَلَامِ أَنَسٍ فِي بَيَانِ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَكْلًا لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ، حَيْثُ أَخَذَهُ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ بِلَا عِوَضٍ، وَإِذَا كَانَتْ مَفْسَدَةُ بَيْعِ الْغَرَرِ هِيَ كَوْنُهُ مَطِيَّةُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ إذَا عَارَضَهَا الْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ قُدِّمَتْ عَلَيْهَا، كَمَا أَنَّ السِّبَاقَ بِالْخَيْلِ وَالسِّهَامِ وَالْإِبِلِ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ جَازَ بِالْعِوَضِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ غَيْرُهُ بِعِوَضٍ، وَكَمَا أَنَّ اللَّهْوَ الَّذِي يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مَنْفَعَةٌ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ رَجُلٌ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ» . صَارَ هَذَا اللَّهْوُ حَقًّا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الضَّرَرَ عَلَى النَّاسِ بِتَحْرِيمِ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِمَّا قَدْ يَتَخَوَّفُ مِنْهَا مَنْ تَبَاغَضَ وَأَكَلَ مَالًا بِالْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ فِيهَا يَسِيرٌ، وَالْحَاجَةُ إلَيْهَا مَاسَّةٌ، وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِيَسِيرِ الْغَرَرِ، وَالشَّرِيعَةُ جَمِيعُهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَفْسَدَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلتَّحْرِيمِ إذَا عَارَضَتْهَا حَاجَةٌ رَاجِحَةٌ أُبِيحَ الْمُحَرَّمُ، فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ مَنْفِيَّةً، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَى بَقَائِهَا بَعْدَ الْبَيْعِ عَلَى الشَّجَرِ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ أَبَاحَ الشَّرْعُ ذَلِكَ، وَقَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَا سَنُقَرِّبُ قَاعِدَتَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَنَّهَا إذَا تَلِفَتْ بَعْدَ الْبَيْعِ بِجَائِحَةٍ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيك ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ تَأْخُذَ مَالَ أَخِيك بِغَيْرِ حَقٍّ» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْهُ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ» . وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا الْحَدِيثُ وَإِنَّمَا بَلَغَهُ حَدِيثٌ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِيهِ اضْطِرَابٌ، أَخَذَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ الْكُوفِيِّينَ إنَّهَا تَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي لَا

الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَهُ قَبْضٌ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ الْكُوفِيِّينَ أَمْشَى؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ إبْقَاءَهُ عَلَى الشَّجَرِ، وَإِنَّمَا مُوجِبُ الْعَقْدِ عِنْدَهُمْ الْقَبْضُ النَّاجِزُ بِكُلِّ حَالٍ وَهُوَ طَرْدٌ لِقِيَاسٍ سَنَذْكُرُ أَصْلَهُ وَضَعْفَهُ مِنْ أَنَّ مَصْلَحَةَ بَنِي آدَمَ لَا تَقُومُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ ذَلِكَ. مَعَ أَنِّي لَا أَعْلَمُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةً صَرِيحَةً بِأَنَّ الْمَبِيعَ التَّالِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقَبْضِ يَكُونُ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ، وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِتَلَفِهِ إلَّا حَدِيثَ الْجَوَائِحِ هَذَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سُنَّةٌ لَكَانَ الِاعْتِبَارُ الصَّحِيحُ يُوَافِقُهُ، وَهُوَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ» ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلثَّمَرَةِ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ جَدَادِهَا عِنْدَ كَمَالِهَا لَا عَقِبَ الْعَقْدِ، كَمَا أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا فَتَلَفُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْجَدَادِ كَتَلَفِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَفِي الْإِجَارَةِ يَنْفَكُّ ضَمَانُ الْمُؤَجَّرِ بِالِاتِّفَاقِ، فَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَمْ يَمْلِكْ الْمَنْفَعَةَ، وَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَمْلِكْ الْإِبْقَاءَ، وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يَقُولُ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَسَنَذْكُرُ أَصْلَهُ. فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى عَنْ بَيْعِهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَبَايَعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ وَتَذْهَبَ عَنْهُ الْآفَةُ» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ عَنْهُ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ، وَعَنْ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ» ، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُحْرَزَ مِنْ كُلِّ عَارِضٍ» ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ كَوْنَهُ كَانَ مَعْدُومًا فَإِنَّهُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَأَمْنِهِ الْعَاهَةَ يُرِيدُ أَجْزَاءَ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْأَمْنَ مِنْ الْعَاهَاتِ النَّادِرَةِ، فَإِنَّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ إذْ قَدْ يُصِيبُهَا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ: {أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 18] وَمَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي قَوْلِهِ:

{حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس: 24] وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ ذَهَابُ الْعَاهَةِ الَّتِي يَتَكَرَّرُ وِرْدُهَا؛ وَهَذِهِ إنَّمَا تُصِيبُهُ بَلْ اشْتِدَادُ الْحَبِّ وَقَبْلَ ظُهُورِ النُّضْجِ فِي الثَّمَرِ، إذْ الْعَاهَةُ بَعْدَ ذَلِكَ نَادِرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا قَبْلَهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَنَعَ بَيْعَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْغَايَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَقْتٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَى حِينِ كَمَالِ الصَّلَاحِ وَبَيْعُ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ بَعْدَ كَمَالِ صَلَاحِهِ مُتَعَذِّرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْمُلُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَإِيجَابُ قَطْعِهِ عَلَى مَالِكِهِ فِيهِ ضَرَرٌ وَمُرَتَّبٌ عَلَى ضَرَرِ الْغَرَرِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّمَ مَصْلَحَةَ جَوَازِ الْبَيْعِ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى مَفْسَدَةِ الْغَرَرِ الْيَسِيرِ كَمَا تَقْتَضِيهِ أُصُولُ الْحِكْمَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَّمَهَا أُمَّتَهُ، وَمَنْ طَرَدَ الْقِيَاسَ الَّذِي انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ نَاظِرٍ إلَى مَا يُعَارَضُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَانِعِ الرَّاجِحِ أَفْسَدَ كَثِيرًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَضَاقَ عَلَيْهِ عَقْلُهُ وَدِينُهُ، وَأَيْضًا فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إبِلٌ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إلَّا خِيَارًا رَبَاعِيًا، فَقَالَ: أَعْطِهِ إيَّاهُ فَإِنَّ خَيْرَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» . فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اقْتِرَاضِ مَا سِوَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَنَحْوِهِ، كَمَا عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ، وَالْحَدِيثُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ مُوجِبَةٌ رَدَّ الْمِثْلِ، وَالْحَيَوَانُ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ عِوَضًا عَنْ مَالٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ مِثْلُ الْحَيَوَانِ تَقْرِيبًا فِي الذِّمَّةِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّهُ تَثْبُتُ الْقِيمَةُ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي مَعْرِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ التَّقْرِيبُ، وَإِلَّا فَيَعِزُّ وُجُودُ حَيَوَانٍ مِثْلِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ وَأَنَّهُ مَضْمُونٌ فِي الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ بِالْقِيمَةِ، وَأَيْضًا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْجِيلِ الدُّيُونِ إلَى الْحَصَادِ وَالْجَدَادِ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، إحْدَاهُمَا: يَجُوزُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ فِي قَوْله تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] ، وَالسُّنَّةُ فِي حَدِيثِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ، وَإِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِدُونِ فَرْضِ الصَّدَاقِ، وَتَسْتَحِقُّ مَهْرَ

الْمِثْلِ إذَا دَخَلَ بِهَا بِإِجْمَاعِهِمْ، وَإِذَا مَاتَ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِحَدِيثِ بِرْوَعَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ: وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مُتَقَارِبٌ لَا مَحْدُودٌ، فَلَوْ كَانَ التَّحْدِيدُ مُعْتَبَرًا فِي الْمَهْرِ مَا جَازَ النِّكَاحُ بِدُونِهِ، وَكَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى عَنْ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَجْرُهُ، وَعَنْ اللَّمْسِ وَالنَّجْشِ وَإِلْقَاءِ الْحَجَرِ» ، فَمَضَتْ الشَّرِيعَةُ بِجَوَازِ النِّكَاحِ قَبْلَ فَرْضِ الْمَهْرِ، وَأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا مَعَ تَبَيُّنِ الْأَجْرِ، فَدَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَسَبَبُهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ وَهُوَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ غَيْرُ مَحْدُودٍ، بَلْ الْمَرْجِعُ فِيهَا إلَى الْعُرْفِ فَكَذَلِكَ عِوَضُهُ الْأَجْرُ. وَلِأَنَّ الْمَهْرَ فِيهِ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ. وَإِنَّمَا هُوَ نَخْلَةٌ تَابِعَةٌ فَأَشْبَهَ الثَّمَرَ التَّابِعَ لِلشَّجَرِ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَكَذَلِكَ «لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ هَوَازِنَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ السَّبْيِ وَبَيْنَ الْمَالِ، فَاخْتَارُوا السَّبْيَ، وَقَالَ لَهُمْ: إنِّي قَائِمٌ فَخَاطِبُ النَّاسِ فَقُولُوا إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَنَسْتَشْفِعُ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَقَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ: فَقَالَ: إنِّي قَدْ رَدَدْتُ عَلَى هَؤُلَاءِ سَبْيَهُمْ فَمَنْ شَاءَ طَيَّبَ ذَلِكَ وَمَنْ شَاءَ فَإِنَّا نُعْطِيهِ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ عَشْرَ قَلَائِصَ مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِي اللَّهُ عَلَيْنَا» فَهَذَا مُعَاوَضَةٌ عَنْ الْإِعْتَاقِ، كَعِوَضِ الْكِتَابَةِ بِإِبِلٍ مُطْلَقَةٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ مُتَفَاوِتٍ غَيْرِ مَحْدُودٍ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ؛ فِي حَدِيثِ حُنَيْنٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاتَلَهُمْ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ إلَى قَصْرِهِمْ، وَعَامَلَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ وَالزَّرْعِ وَالنَّخْلِ فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَخْلُوا مِنْهَا، وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ رِكَابُهُمْ، وَلِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ وَالْحَلْقَةُ هِيَ السِّلَاحُ، وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَكْتُمُوا وَلَا يُغَيِّبُوا شَيْئًا، فَإِنْ فَعَلُوا فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ» فَهَذَا مُصَالَحَةٌ عَلَى مَالٍ مُتَمَيِّزٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ. «وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ، النِّصْفُ فِي صَفَرٍ وَالْبَقِيَّةُ فِي رَجَبٍ، يُؤَدُّونَهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ، وَعَارِيَّةً ثَلَاثِينَ دِرْعًا وَثَلَاثِينَ فَرَسًا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا وَثَلَاثِينَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ السِّلَاحِ يَغْزُونَ بِهَا، وَالْمُسْلِمُونَ صَامِتُونَ لَهَا حَتَّى يَرُدُّوهَا عَلَيْهِمْ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَهَذَا مُصَالَحَةٌ عَلَى ثِيَابٍ مُطْلَقَةٍ مَعْلُومَةِ الْجِنْسِ غَيْرِ مَوْصُوفَةٍ بِصِفَاتِ السَّلَمِ،

وَكَذَلِكَ كُلُّ عَارِيَّةٍ خَيْلٍ وَإِبِلٍ وَأَنْوَاعٍ مِنْ السِّلَاحِ مُطْلَقَةٍ غَيْرِ مَوْصُوفَةٍ عِنْدَ شَرْطٍ، قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ، فَظَهَرَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ الْعِوَضَ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ كَالصَّدَاقِ وَالْكِتَابَةِ وَالْفِدْيَةِ فِي الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَالْجِزْيَةِ وَالصُّلْحِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ، لَيْسَ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ كَمَا يُعْلَمُ الثَّمَنُ وَالْأُجْرَةُ. وَلَا يُقَاسُ عَلَى بَيْعِ الْغَرَرِ كُلُّ عَقْدٍ عَلَى غَرَرٍ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ إمَّا أَنْ لَا تَجِبَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ، أَوْ لَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ فِيهَا، وَمَا لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ إذَا وَقَعَ فِيهِ غَرَرٌ لَمْ يُفْضِ إلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَيْعِ بَلْ يَكُونُ إيجَابُ التَّحْدِيدِ فِي ذَلِكَ فِيهِ مِنْ الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ الْمَنْفِيِّ شَرْعًا مَا يَزِيدُ عَلَى ضَرَرِ تَرْكِ تَحْدِيدِهِ. فَصْلٌ وَمِمَّا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَمِنْ مَسَائِلِ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ مَا قَدْ عَمَّ بِهِ الْبَلْوَى فِي كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَوْ أَكْثَرِهَا، لَا سِيَّمَا دِمَشْقَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ تَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى غِرَاسٍ، وَأَرْضٍ تَصْلُحُ لِلزَّرْعِ، وَرُبَّمَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مَسَاكِنَ فَيُرِيدُ صَاحِبُهَا أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِمَنْ يَسْقِيهَا وَيَزْرَعُهَا أَوْ يَسْكُنُهَا مَعَ ذَلِكَ، فَهَذَا إذَا كَانَ فِيهَا أَرْضٌ وَغِرَاسٌ مِمَّا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ إذًا كَافِي الشَّجَرِ قَلِيلًا فَكَانَ الْبَيَاضُ الثُّلُثَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَكْرَى دَارًا فِيهَا نَخَلَاتٌ قَلِيلَةٌ، أَوْ شَجَرَاتُ عِنَبٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَعَنْ أَحْمَدَ كَالْقَوْلَيْنِ فَإِنَّ الْكَرْمَانِيَّ قَالَ لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يَسْتَأْجِرُ الْأَرْضَ وَفِيهَا نَخَلَاتٌ، قَالَ: أَخَافُ أَنْ يَكُونَ اسْتَأْجَرَ شَجَرًا لَمْ يُثْمِرْ. وَكَأَنَّهُ لَمْ يُعْجِبْهُ أَظُنُّهُ إذَا أَرَادَ الشَّجَرَ، فَلَمْ أَفْهَمْ عَنْهُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهَا إذَا بَاعَ رِبَوِيًّا بِجِنْسِهِ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَكْثَرَ هُوَ غَيْرُ الْجِنْسِ، كَشَاةٍ ذَاتِ صُوفٍ أَوْ لَبَنٍ بِصُوفٍ أَوْ لَبَنٍ رِوَايَتَانِ وَأَكْثَرُ أُصُولِهِ عَلَى الْجَوَازِ كَقَوْلِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: إذَا ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ وَكَانَ مَقْصُودُهُ الْعَبْدَ جَازَ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ مَجْهُولًا أَوْ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ، وَلِأَنَّهُ يَقُولُ إذَا ابْتَاعَ أَرْضًا أَوْ شَجَرًا فِيهَا ثَمَرٌ أَوْ زَرْعٌ لَمْ يُدْرِكْ يَجُوزُ إذَا

كَانَ مَقْصُودُهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ، وَهَذَا فِي الْبَيْعِ نَظِيرَ مَسْأَلَتِنَا فِي الْإِجَارَةِ، فَإِنَّ ابْتِيَاعَ الْأَرْضِ، وَاشْتِرَاءَ النَّخِيلِ وَدُخُولَ الثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تُؤْمِنْ الْعَاهَةَ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ بِمَنْزِلَةِ دُخُولِ تَمْرِ النَّخَلَاتِ وَالْعِنَبِ فِي الْإِجَارَةِ تَبَعًا. وَحُجَّةُ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَنْعِ مَا ثَبَتَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ «نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ اللَّبَنِ وَبَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ» ، كَمَا خَرَّجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ» ، وَفِيهَا، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تُشَقِّحَ، قِيلَ: وَمَا تُشَقِّحُ؟ قَالَ: تَحْمَرُّ أَوْ تَصْفَرُّ وَيُؤْكَلُ مِنْهَا» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ كَلَامُ سَعِيدِ بْنِ مِينَاءَ الْمُحَدِّثِ عَنْ جَابِرٍ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ وَالْمُخَابَرَةِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا «وَعَنْ بَيْعِ السِّنِينَ» بَدَلَ الْمُعَاوَضَةِ. وَفِيهَا أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ، وَأَنْ يَشْتَرِيَ النَّخْلَ حَتَّى يُشَقِّحَ» ، وَالْإِشْقَاحُ أَنْ يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَالْمُحَاقَلَةُ أَنْ يَبِيعَ الْحَقْلَ بِكَيْلٍ مِنْ الطَّعَامِ مَعْلُومٍ. وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يُبَاعَ لِلنَّخْلِ بِأَوْسَاقٍ مِنْ الثَّمَرِ، وَالْمُخَابَرَةُ الثُّلُثُ أَوْ الرُّبْعُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. قَالَ زَيْدٌ: قُلْت: لِعَطَاءٍ أَسَمِعْت جَابِرًا يَذْكُرُهَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: نَعَمْ. وَفِيهَا عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ، فَقَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُؤْكَلَ مِنْهُ أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ، وَحَتَّى يُوزَنَ» ، فَقُلْت: مَا يُوزَنُ، فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ: حَتَّى تُحْرَزَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَتَبَايَعُوا

الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَلَا تَتَبَايَعُوا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ» . وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ تَمْرِ النَّخْلِ سِنِينَ لَا يَجُوزُ، قَالُوا: فَإِذَا أَكْرَاهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ فَقَدْ بَاعَهُ التَّمْرَ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ وَبَاعَهُ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ، ثُمَّ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ مُطْلَقًا طَرَدَ الْعُمُومَ وَالْقِيَاسَ، وَمَنْ جَوَّزَهُ إذَا كَانَ قَلِيلًا، قَالَ: الْغَرَرُ الْيَسِيرُ يُحْتَمَلُ فِي الْعُقُودِ، كَمَا لَوْ ابْتَاعَ النَّخْلَ وَعَلَيْهَا ثَمَرٌ لَمْ يُؤَبَّرْ أَوْ أُبِّرَ وَلَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ جِدًّا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ابْتِيَاعُ الثَّمَرِ بِشَرْطِ الْبَقَاءِ، وَيَجُوزُ ابْتِيَاعُهُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَمُوجِبُ الْعَقْدِ الْقَطْعُ فِي الْحَالِ، فَإِذَا ابْتَاعَهُ مَعَ الْأَصْلِ، فَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ إبْقَاءَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مِلْكُهُ وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ إجَارَةِ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ إجْمَاعٌ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ، وَدُخُولُ الشَّجَرِ فِي الْإِجَارَةِ مُطْلَقٌ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ، وَإِلَيْهِ مَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ. وَهُوَ كَالْإِجْمَاعِ مِنْ السَّلَفِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ خِلَافَهُ، فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَرَوَاهُ عَنْهُ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ فِي مَسَائِلِهِ. حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ دَيْنٌ، فَدَعَا عُمَرُ غُرَمَاءَهُ، فَقَبِلَهُمْ أَرْضَهُ سِنِينَ، وَفِيهَا النَّخْلُ وَالشَّجَرُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ضَرَبَ الْخَرَاجَ عَلَى أَرْضِ السَّوَادِ وَغَيْرِهَا، فَأَقَرَّ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا النَّخْلُ وَالْعِنَبُ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْأَرْضِ، وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنْ أَجْرِبَةِ الْأَرْضِ السَّوْدَاءِ وَالْبَيْضَاءِ خَرَاجًا مُقَدَّرًا، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى جَرِيبِ الْعِنَبِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ النَّخْلِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الرَّطْبَةِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الزَّرْعِ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا مِنْ طَعَامِهِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ هَذِهِ الْمُخَارَجَةَ تَجْرِي الْمُؤَاجَرَةُ، وَإِنَّمَا لَمْ يُوفِهِ لِعُمُومِ الْمَصْلَحَةِ ، وَأَنَّ الْخَرَاجَ أُجْرَةُ الْأَرْضِ، فَهَذَا بِعَيْنِهِ إجَارَةُ الْأَرْضِ السَّوْدَاءِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ، وَهُوَ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَالْمُسْلِمُونَ فِي زَمَانِهِ وَبَعْدَهُ.

وَلِهَذَا تَعَجَّبَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي " كِتَابِ الْأَمْوَالِ " مِنْ هَذَا، فَرَأَى أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ تُخَالِفُ مَا عَلِمَهُ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ، وَحُجَّةُ ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّ إجَارَةَ الْأَرْضِ جَائِزَةٌ، وَالْحَاجَةُ إلَيْهَا دَاعِيَةٌ، وَلَا يُمْكِنُ إجَارَتُهَا إذَا كَانَ فِيهَا شَجَرٌ، إلَّا بِإِجَارَةِ الشَّجَرِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْجَائِزُ إلَّا بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَتَبَرَّعُ بِسَقْيِ الشَّجَرِ، وَقَدْ لَا يُسَاقِي عَلَيْهَا، وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ كَانَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ، فَإِذَا سَاقَى الْعَامِلُ عَلَى شَجَرٍ فِيهَا بَيَاضٌ جَوَّزَا الْمُزَارَعَةَ فِي ذَلِكَ الْبَيَاضِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ فَيُجَوِّزُهُ مَالِكٌ إذَا كَانَ دُونَ الثُّلُثِ، كَمَا قَالَ فِي بَيْعِ الشَّجَرِ لِلْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُهُ إذَا كَانَ الْبَيَاضُ قَلِيلًا لَا يُمْكِنُ سَقْيُ النَّخْلِ إلَّا بِهِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا وَالنَّخْلُ قَلِيلًا وَفِيهِ لِأَصْحَابِهِ وَجْهَانِ، هَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ كَالثُّلُثِ، أَوْ الرُّبْعِ، فَإِمَّا إنْ فَاضَلَ بَيْنَ الْجُزْأَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِهِ وَكَذَلِكَ إنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدَيْنِ وَقَدَّمَ الْمُسَاقَاتِ فَفِيهِ وَجْهَانِ، فَأَمَّا إنْ قَدَّمَ الْمُزَارَعَةَ لَمْ تَصِحَّ الْمُزَارَعَةُ وَجْهًا وَاحِدًا، فَقَدْ جَوَّزَا الْمُزَارَعَةَ الَّتِي لَا تَجُوزُ عِنْدَهُمَا تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ إجَارَةُ الشَّجَرِ تَبَعًا لِإِجَارَةِ الْأَرْضِ، وَقَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ هُوَ قِيَاسُ أَحَدِ وَجْهَيْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِلَا شَكٍّ. وَلِأَنَّ الْمَانِعِينَ مِنْ هَذَا هُمْ بَيْنَ مُحْتَالٍ عَلَى جَوَازِهِ أَوْ مُرْتَكِبٍ لِمَا يُظَنُّ أَنَّهُ حَرَامٌ، أَوْ ضَارٍّ مُتَضَرِّرٌ، فَإِنَّ الْكُوفِيِّينَ احْتَالُوا عَلَى الْجَوَازِ تَارَةً بِأَنْ يُؤَجِّرَ الْأَرْضَ فَقَطْ، وَيُبِيحَهُ ثَمَرَ الشَّجَرِ، كَمَا يَقُولُونَ فِي بَيْعِ التَّمْرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، يَبِيعُهُ إيَّاهُ مُطْلَقًا، أَوْ بِشَرْطِ الْقَطْعِ وَيُبِيحُهُ إبْقَاءَهَا، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ مَنْقُولَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَتَارَةً بِأَنْ يُكْرِيَهُ الْأَرْضَ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ، وَيُسَاقِيَهُ عَلَى الشَّجَرِ بِالْمُحَابَاةِ مِثْلُ أَنْ يُسَاقِيَهُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ الثَّمَرَةِ لِلْمَالِكِ، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ إنَّمَا يُجَوِّزُهَا مَنْ يُجَوِّزُ الْمُسَاقَاةَ، كَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ. فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَا يُجَوِّزُهَا بِحَالٍ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ إنَّمَا يُجَوِّزُهَا فِي الْجَدِيدِ فِي النَّخْلِ وَالْعِنَبِ، فَقَدْ اُضْطُرُّوا إلَى ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ إلَى أَنْ يُسَمِّيَ الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ، وَيَتَبَرَّعُ لَهُ إمَّا بِإِعْرَاءِ الشَّجَرِ وَإِمَّا بِالْمُحَابَاةِ فِي مُسَاقَاتِهَا، وَلِفَرْطِ الْحَاجَةِ إلَى هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي إبْطَالِ الْحِيَلِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ هَذِهِ الْحِيلَةَ فِيمَا يَجُوزُ مِنْ الْحِيَلِ - أَعْنِي حِيلَةَ الْمُحَابَاةِ فِي الْمُسَاقَاةِ - وَالْمَنْصُوصُ عَنْ

أَحْمَدُ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ إبْطَالُ هَذِهِ الْحِيلَةِ بِعَيْنِهَا كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَالْمَنْعُ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ هُوَ صَحِيحٌ قَطْعًا، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك» رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ الْخَمْسَةُ: أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَنَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ سَلَفٍ وَبَيْعٍ، فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَ سَلَفٍ وَإِجَارَةٍ فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ سَلَفٍ وَبَيْعٍ أَوْ مِثْلِهِ؛ وَكُلُّ تَبَرُّعٍ يَجْمَعُهُ إلَى الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ مِثْلُ الْهِبَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْعَرِيَّةِ وَالْمُحَابَاةِ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، هُوَ مِثْلُ الْقَرْضِ، فَجِمَاعُ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنْ لَا يُجْمَعَ بَيْنَ مُعَاوَضَةٍ وَتَبَرُّعٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّبَرُّعَ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الْمُعَاوَضَةِ لَا تَبَرُّعًا مُطْلَقًا؛ فَيَصِيرُ جُزْءًا مِنْ الْعِوَضِ فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ جَمَعَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ؛ فَإِنَّ مَنْ أَقْرَضَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ بِأَلْفٍ لَمْ يَرْضَ بِالْإِقْرَاضِ إلَّا بِالثَّمَنِ الزَّائِدِ لِلسِّلْعَةِ؛ وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَرْضَ بِبَدَلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ الزَّائِدِ إلَّا لِأَجْلِ الْأَلْفِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا؛ فَلَا هَذَا بَيْعًا بِأَلْفٍ وَلَا هَذَا قَرْضًا مَحْضًا. بَلْ الْحَقِيقَةُ أَنَّهُ أَعْطَاهُ الْأَلْفَ وَالسِّلْعَةَ بِأَلْفَيْنِ، فَهِيَ مَسْأَلَةُ مُدِّ عَجْوَةٍ فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ أَخْذُ أَلْفٍ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ حَرُمَ بِلَا تَرَدُّدٍ وَإِلَّا خَرَجَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ، وَهَكَذَا مَنْ اكْتَرَى الْأَرْضَ الَّتِي تُسَاوِي مِائَةً بِأَلْفٍ وَأَعْرَاهُ الشَّجَرَ أَوْ رَضِيَ مِنْ ثَمَرِهَا بِجُزْءٍ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ. فَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ إنَّمَا تَبَرَّعَ بِالثَّمَرَةِ لِأَجْلِ الْأَلْفِ. فَالثَّمَرَةُ هِيَ حِلُّ الْمَقْصُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ بَعْضُهُ فَلَيْسَتْ الْحِيلَةُ إلَّا ضَرْبًا مِنْ اللَّعِبِ وَالْإِفْسَادِ، فَالْمَقْصُودُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ. وَاَلَّذِينَ لَا يَحْتَالُونَ أَوْ يَحْتَالُونَ وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ فَسَادُ هَذِهِ الْحِيلَةِ، هُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إمَّا أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ فَاعِلُونَ لِلْمُحَرَّمِ كَمَا رَأَيْنَا عَلَيْهِ أَكْثَرَ النَّاسِ، وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ وَيَتْرُكُوا تَنَاوُلَ الثِّمَارِ الدَّاخِلَةِ فِي هَذِهِ الْمَعَامِلِ، فَيَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ الضَّرَرِ وَالِاضْطِرَارِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَلْتَزِمَ ذَلِكَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ فَمَا يُمْكِنُ الْمُسْلِمِينَ الْتِزَامُ ذَلِكَ إلَّا بِفَسَادِ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ قَطُّ، فَضْلًا عَنْ شَرِيعَةٍ قَالَ اللَّهُ فِيهَا: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وَقَالَ تَعَالَى:

{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا. لِيَعْلَمَ الْيَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا سَعَةً» . فَكُلُّ مَا لَا يَتِمُّ الْمَعَاشُ إلَّا بِهِ فَتَحْرِيمُهُ حَرَجٌ وَهُوَ مُنْتَفٍ شَرْعًا، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا أَنَّ تَحْرِيمَ مِثْلِ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْأُمَّةَ الْتِزَامُهُ قَطُّ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ الَّذِي لَا يُطَاقُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ بَلْ هُوَ أَشَدُّ مِنْ الْأَغْلَالِ وَالْآصَارِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَوَضَعَهَا اللَّهُ عَنَّا عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ اسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ فِي مَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا وَجَدَهَا مَبْنِيَّةً عَلَى قَوْلِهِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] . فَكُلَّمَا احْتَاجَ النَّاسُ إلَيْهِمْ فِي مَعَاشِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ مَعْصِيَةً هِيَ تَرْكُ وَاجِبٍ، أَوْ فِعْلُ مُحَرَّمٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَى الْمُضْطَرِّ الَّذِي لَيْسَ بِبَاغٍ وَلَا عَادٍ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ مَعْصِيَةً كَالْمُسَافِرِ سَفَرَ مُفْضِيَةٍ اُضْطُرَّ فِيهِ إلَى الْمَيْتَةِ، وَالْمُنْفِقِ لِلْمَالِ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى لَزِمَتْهُ الدُّيُونُ، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ وَيُبَاحُ لَهُ مَا يُزِيلُ ضَرُورَتَهُ فَيُبَاحُ لَهُ الْمَيْتَةُ وَيُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ مِنْ الزَّكَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُحْتَالٌ، كَحَالِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] . وَقَوْلُهُ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ} [النساء: 160] الْآيَةَ. وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ، رُبَّمَا نُنَبِّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَيْهَا وَهَذَا الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، هُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَدَ وَبَعْضِ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِوُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، بَعْدَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ التَّحْرِيمِ شَرْعًا وَعَقْلًا،

فَإِنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ إنَّمَا تَتِمُّ بَعْدَ الْجَوَابِ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فِعْلِ عُمَرُ فِي قِصَّةِ أُسَيْدَ بْنِ الْحُضَيْرِ، فَإِنَّهُ مَلَكَ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ الَّتِي فِيهَا بِالْمَالِ الَّذِي كَانَ لِلْغُرَمَاءِ، وَهَذَا عَيْنُ مَسْأَلَتِنَا، وَلَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّخْلَ وَالشَّجَرَ كَانَ قَلِيلًا، فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ حِيطَانَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْغَالِبِ عَلَيْهَا الشَّجَرُ، وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ كَانَ مِنْ سَادَاتِ الْأَنْصَارِ وَمَيَاسِيرِهِمْ، فَيُقَيَّدُ أَنْ يَكُونَ غَالِبٌ عَلَى حَائِطَةِ الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ، ثُمَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تُشْتَهَرَ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَهَا فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ مَا ضَرَبَهُ مِنْ الْخَرَاجِ فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُ خَرَاجًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِوَضٌ عَمَّا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ، كَمَا يُسَمِّي النَّاسُ الْيَوْمَ كِرَاءَ الْأَرْضِ لِمَنْ يَغْرِسُهَا خَرَاجًا إذَا كَانَ عَلَى كُلِّ شَجَرَةٍ شَيْءٌ مَعْلُومٌ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [المؤمنون: 72] وَمِنْهُ خَرَاجُ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ ضَرِيبَةٍ يُخْرِجُهَا مِنْ مَالِهِ، فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَجْرُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ جَوَازَ مِثْلِ هَذِهِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ ثَمَنٌ أَوْ عِوَضٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُثْبِتُهُ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا جَوَّزَتْهُ الصَّحَابَةُ وَلَا نَظِيرَ لَهُ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ، وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ أَرْضٍ فِيهَا شَجَرٌ، كَالْأَرْضِ الْمُفْتَتَحَةِ فَإِنَّهُ إنْ قِيلَ تُمْكِنُ الْمُسَاقَاةُ أَوْ الْمُزَارَعَةُ قِيلَ وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ عُمَرَ الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ، كَمَا فَعَلَ فِي أَبْنَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ. أَمَّا فِي خِلَافَةِ الْمَنْصُورِ وَأَمَّا بَعْدَهُ فَإِنَّهُمْ نَقَلُوا أَرْضَ السَّوَادِ مِنْ الْخَرَاجِ إلَى الْمُقَاسَمَةِ الَّتِي هِيَ الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ. وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُ الْكِرَاءِ بِإِزَاءِ الْأَرْضِ، وَالتَّبَرُّعِ بِمَنْفَعَةِ الشَّجَرِ أَوْ الْمُحَابَاةِ فِيهَا. قِيلَ: وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ عُمَرَ ذَلِكَ فَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا زَالَ لَهُمْ أَرْضُونَ فِيهَا شَجَرٌ تُكْرَى، هَذَا غَالِبٌ عَلَى أَمْوَالِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَنَعْلَمُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ يَعْمُرُونَ أَرْضَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا غَالِبِهِمْ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ قَدْ لَا تَتَيَسَّرُ كُلَّ وَقْتٍ؛ لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى عَامِلٍ أَمِينٍ، وَمَا

كُلُّ أَحَدٍ يَرْضَى بِالْمُسَاقَاةِ، وَلَا كُلُّ مَنْ أَخَذَ الْأَرْضَ يَرْضَى بِالْمُشَارَكَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا قَدْ كَانُوا يُكْرُونَ الْأَرْضَ السَّوْدَاءَ ذَاتَ الشَّجَرِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاحْتِيَالَ بِالتَّبَرُّعِ أَمْرٌ نَادِرٌ لَمْ يَكُنْ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَفْعَلُونَهُ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَالِ أُسَيْدَ بْنِ الْحُضَيْرِ، وَكَمَا يَفْعَلُهُ غَالِبُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ وَإِلَى الْيَوْمِ، فَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا هَذِهِ الْإِجَارَةَ وَلَا أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِحِيلَةِ التَّبَرُّعِ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِفِعْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَفْعَلُونَهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَيَكُونُ فِعْلُهَا كَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ، وَلَعَلَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي كَرْيِ الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ وَالْمُزَارَعَةِ عَلَيْهَا، لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي كَرْيِ الْأَرْضِ السَّوْدَاءِ، وَلَا فِي الْمُسَاقَاةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ لَيْسَتْ بِطَائِلٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْفَعَةِ الشَّجَرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ تَفْسِيرِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «الْقَبَالَاتُ رِبًا» ، قَالَ: هُوَ أَنْ يَتَقَبَّلَ الْقَرْيَةَ فِيهَا النَّخْلُ وَالْعُلُوجُ، قِيلَ لَهُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَخْلٌ، وَهِيَ أَرْضٌ بَيْضَاءُ، قَالَ: لَا بَأْسَ إنَّمَا هُوَ الْآنَ مُسْتَأْجِرًا. قِيلَ: فَإِنَّ فِيهَا عُلُوجًا قَالَ فَهَذَا هُوَ الْقُبَالَةُ مَكْرُوهَةٌ ، قَالَ حَرْبٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ جَبَلَةَ، سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: «الْقَبَالَاتُ رِبًا» ، قِيلَ: الرِّبَا فِيمَا يَجُوزُ تَأْجِيلُهُ، إنَّمَا يَكُونُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لِأَجْلِ الْفَضْلِ. فَإِنْ قِيلَ: فِي الْأُجْرَةِ وَالثَّمَرِ أَوْ نَحْوِهِمَا، إنَّهُ رِبًا مَعَ جَوَازِ تَأْجِيلِهِ فَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا؛ لِأَنَّ الرِّبَا إمَّا رِبَا النَّسَاءِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيمَا يَجُوزُ تَأْجِيلُهُ، وَإِمَّا رِبَا الْفَضْلِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، فَإِذَا انْتَفَى رِبَا النَّسَاءِ الَّذِي هُوَ التَّأْجِيرُ، لَمْ يَبْقَ إلَّا رِبَا الْفَضْلِ الَّذِي هُوَ الزِّيَادَةُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا يَكُونُ إذَا كَانَ التَّقَبُّلُ بِجِنْسِ مَعْدِنِ الْأَرْضِ، مِثْلُ: أَنْ يَتَقَبَّلَ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا نَخْلٌ بِثَمَرٍ، فَيَكُونُ مِثْلَ الْمُزَابَنَةِ، فَهُوَ مِثْلُ اكْتِرَاءِ الْأَرْضِ بِجِنْسِ الْخَارِجِ مِنْهَا، إذَا كَانَ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ، مِثْلُ أَنْ يَكْتَرِيَهَا لِيَزْرَعَ فِيهَا حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ مَعْلُومَةٍ. فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ رِبًا كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَهَذَا مِثْلُ الْقُبَالَةِ الَّتِي كَرِهَهَا ابْنُ عُمَرَ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ الْأَرْضَ لِلْحِنْطَةِ بِحِنْطَةٍ مَعْلُومَةٍ، فَكَأَنَّهُ ابْتَاعَ حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ، يَكُونُ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ

فَيَظْهَرُ الرِّبَا، فَالْقُبَالَاتُ الَّتِي ذَكَرَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّهَا رِبًا أَنْ يَضْمَنَ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا النَّخْلُ وَالْفَلَّاحُونَ، بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنْ جِنْسٍ مِنْهَا، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ قَرْيَةٌ فِيهَا شَجَرٌ وَأَرْضٌ وَفِيهَا فَلَّاحُونَ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَعْمَلُ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالثَّمَرِ بَعْدَ أُجْرَةِ الْفَلَّاحِينَ أَوْ نَصِيبِهِمْ، فَيَضْمَنُهُ رَجُلٌ مِنْهُ بِمِقْدَارٍ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالثَّمَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا يَظْهَرُ تَسْمِيَتُهُ بِالرِّبَا، فَأَمَّا ضَمَانُ الْأَرْضِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الرِّبَا بِسَبِيلٍ، وَمَنْ حَرَّمَهُ فَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْغَرَرِ، ثُمَّ إنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ، إذَا كَانَتْ أَرْضًا بَيْضَاءَ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عِنْدَهُ جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْخَارِجِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَعْمَلُ فِي الْأَرْضِ بِمَنْفَعَتِهِ وَمَالِهِ فَيَكُونُ الْمُغَلُّ بِكَسْبِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِيهَا الْعُلُوجُ وَهُمْ الَّذِينَ يُعَالِجُونَ الْعَمَلَ، فَإِنَّهُ لَا يَعْمَلُ فِيهَا شَيْئًا لَا بِمَنْفَعَتِهِ وَلَا بِمَالِهِ، بَلْ الْعُلُوجُ يَعْمَلُونَهَا، وَهُوَ يُؤَدِّي الْقُبَالَةَ وَيَأْخُذُ بَدَلَهَا، فَهُوَ طَلَبُ الرِّبْحِ فِي مُبَادَلَةِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ صِنَاعَةٍ وَلَا تِجَارَةٍ، وَهَذَا هُوَ الرِّبَا، وَنَظِيرُ هَذَا مَا جَاءَ عَنْ. أَنَّهُ رِبًا، وَهُوَ اكْتِرَاءُ الْحَمَامِ وَالطَّاحُونِ وَالْفَنَادِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا لَا يَنْتَفِعُ الْمُسْتَأْجِرُ بِهِ فَلَا يَتَّجِرُ فِيهِ، وَلَا يَصْطَنِعُ فِيهِ وَإِنَّمَا يَلْتَزِمُهُ لِيُكْرِيَهُ فَقَطْ، فَقَدْ قِيلَ: هُوَ رِبًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رِبًا لِأَجْلِ النَّخْلِ، وَلَا لِأَجْلِ الْأَرْضِ إذَا كَانَ بِغَيْرِ جِنْسِ الْمُغَلِّ، وَإِنَّمَا كَانَتْ رِبًا لِأَجْلِ الْعُلُوجِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا فَإِنَّ الْعُلُوجَ يَقُومُونَ بِهَا فَيَتَقَبَّلُهَا الْآخَرُ مُرَابَاةً وَلِهَذَا كَرِهَهَا أَحْمَدُ وَإِنْ كَانَتْ بَيْضَاءَ إذْ كَانَ فِيهَا الْعُلُوجُ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ حَرْبٌ عَلَى الْمَسْأَلَةِ «بِمُعَامَلَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ خَيْبَرَ، بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ تَمْرٍ أَوْ زَرْعٍ عَلَى أَنْ يَعْمُرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ» ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا فِي الْمَعْنَى إكْرَاءُ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ بِشَيْءٍ مَضْمُونٍ؛ لِأَنَّ إعْطَاءَ الثَّمَرِ لَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِ لَكَانَ إعْطَاءُ بَعْضِهِ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا أَصْلَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَتَى كَانَ بَيْنَ الشَّجَرِ أَرْضٌ أَوْ مَسَاكِنُ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى كِرَائِهِمَا جَمِيعًا فَيَجُوزُ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ غَرَرٌ يَسِيرٌ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْبُسْتَانُ وَقْفًا أَوْ مَالَ يَتِيمٍ فَإِنَّ تَعْطِيلَ مَنْفَعَتِهِ لَا يَجُوزُ، وَاكْتِرَاءُ الْأَرْضِ أَوْ الْمَسْكَنِ وَحْدَهُ لَا يَقَعُ فِي الْعَادَةِ، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ اكْتَرَاهُ بِنَقْصٍ كَثِيرٍ عَنْ قِيمَتِهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْمُبَاحُ إلَّا بِهِ فَهُوَ مُبَاحٌ، فَكُلَّمَا أَثْبَتَ إبَاحَتَهُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ وَجَبَ إبَاحَةُ لَوَازِمِهِ إذَا

لَمْ يَكُنْ فِي تَحْرِيمِهَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ، وَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ لَوَازِمِهِ وَمَا لَا يَتِمُّ اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمِ إلَّا بِاجْتِنَابِهِ فَهُوَ حَرَامٌ. فَهَا هُنَا يَتَعَارَضُ الدَّلِيلَانِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَدْ ثَبَتَ إبَاحَةُ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالسُّنَّةِ، وَاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ الْمَتْبُوعِينَ، بِخِلَافِ دُخُولِ كِرَاءِ الشَّجَرِ، فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَمَتَى اُكْتُرِيَتْ الْأَرْضُ وَحْدَهَا وَبَقِيَ الشَّجَرُ لَمْ يَكُنْ الْمُكْتَرِي مَأْمُونًا عَلَى الثَّمَرِ فَيُفْضِي إلَى اخْتِلَافِ الْأَيْدِي وَسُوءِ الْمُشَارَكَةِ، كَمَا إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ. وَيَخْرُجُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، مِثْلُ قَوْلِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي جِنْسٍ، وَكَانَ فِي بَيْعِهِ مُتَفَرِّقًا ضَرَرٌ جَازَ بَيْعُ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ لِيَعْسُرَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَشْتَرِ أَحَدٌ الثَّمَرَةَ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ وَالْمَسَاكِنُ لِغَيْرِهِ إلَّا بِنَقْصٍ كَثِيرٍ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا اكْتَرَى الْأَرْضَ، فَإِنْ شُرِطَ عَلَيْهِ سَقْيُ الشَّجَرِ وَالسَّقْيُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ صَارَ الْمُعَوَّضُ عِوَضًا، وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِ السَّقْيُ فَإِذَا سَقَاهَا إنْ سَاقَاهُ عَلَيْهَا صَارَتْ الْإِجَارَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا بِمُسَاقَاةٍ، وَإِنْ لَمْ يُسَاقِهِ لَزِمَ تَعْطِيلُ مَنْفَعَةِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَدُورُ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ بَعْضَ الْمَنْفَعَةِ، أَوْ لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ إلَّا بِمُسَاقَاةٍ أَوْ بِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْمُسْتَأْجِرِ. ثُمَّ إنْ حَصَلَ لِلْمُكْرِي جَمِيعُ الثَّمَرَةِ أَوْ بَعْضُهَا فَفِي بَيْعِهَا مَعَ أَنَّ الْأَرْضَ وَالْمَسَاكِنَ لِغَيْرِهِ نَقَصَ لِلْقِيمَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، فَرَجَعَ الْأَمْرُ إلَى أَنَّ الصَّفْقَةَ إذَا كَانَ فِي تَفْرِيقِهَا ضَرَرٌ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمُعَاوَضَةِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ إفْرَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْجَمْعِ يُخَالِفُ حُكْمَ التَّفْرِيقِ. وَلِهَذَا وَجَبَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إذَا تَعَذَّرَتْ الْقِسْمَةُ أَنْ يَبِيعَ مَعَ شَرِيكِهِ أَوْ يُؤَاجِرَ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِكُ مَنْفَعَةً؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قَوَّمَ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ عَدْلٌ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَقْوِيمِ الْعَبْدِ كُلِّهِ وَبِإِعْطَاءِ الشَّرِيكِ حِصَّتَهُ مِنْ الْقِيمَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قِيمَةَ حِصَّتِهِ مُنْفَرِدَةٌ دُونَ حِصَّتِهِ مِنْ

قِيمَةِ الْجَمْعِ، فَعُلِمَ أَنَّ حَقَّهُ فِي نِصْفِ النِّصْفِ، وَإِذَا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ بِالْإِعْتَاقِ فَبِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِتْلَافِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالْإِتْلَافِ مَا يَسْتَحِقُّ بِالْمُعَاوَضَةِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمُعَاوَضَةَ نِصْفَ الْقِيمَةِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ ذَلِكَ عِنْدَ بَيْعِ الْجَمِيعِ، فَتَجِبُ قِسْمَةُ الْعَيْنِ حَيْثُ لَا ضَرَرَ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ فِيهَا ضَرَرٌ قُسِمَتْ الْقِيمَةُ. فَإِذَا كُنَّا قَدْ أَوْجَبْنَا عَلَى الشَّرِيكِ بَيْعَ نَصِيبِهِ لِمَا فِي التَّفْرِيقِ مِنْ نَقْصِ قِيمَةِ شَرِيكٍ، فَلَأَنْ يَجُوزَ بَيْعُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، إذَا كَانَ فِي تَفْرِيقِهِمَا ضَرَرٌ أَوْلَى، وَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُ الشَّاةِ مَعَ اللَّبَنِ الَّذِي فِي ضَرْعِهَا، وَإِنْ أَمْكَنَ تَفْرِيقُهُمَا بِالْحَلْبِ وَإِنْ كَانَ بَيْعُ اللَّبَنِ وَحْدَهُ لَا يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَيَجُوزُ مَتَى كَانَ مَعَ الشَّجَرِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ كَمَنْفَعَةِ أَرْضٍ لِلزَّرْعِ أَوْ بِنَاءٍ لِلسَّكَنِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الثَّمَرُ فَقَطْ، وَمَنْفَعَةُ الْأَرْضِ أَوْ الْمَسْكَنِ لَيْسَتْ جُزْءًا مِنْ الْمَقْصُودِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ لِمُجَرَّدِ الْحِيلَةِ كَمَا قَدْ يُفْعَلُ فِي مَسَائِلِ مُدِّ عَجْوَةٍ لَمْ يَجِئْ هَذَا. الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إكْرَاءُ الشَّجَرِ لِلِاسْتِثْمَارِ يَجْرِي مَجْرَى إكْرَاءِ الْأَرْضِ لِلِازْدِرَاعِ. وَاسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ لِلرَّضَاعِ وَذَلِكَ أَنَّ الْفَوَائِدَ الَّتِي تُسْتَخْلَفُ مَعَ بَقَاءِ أُصُولِهَا تَجْرِي مَجْرَى الْمَنَافِعِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْيَانًا وَهِيَ ثَمَرُ الشَّجَرِ وَأَلْبَانُ الْبَهَائِمِ وَالصُّوفُ وَالْمَاءُ الْعَذْبُ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا خُلِقَ مِنْ هَذِهِ شَيْءٌ فَأَخْذُ خَلْقِ اللَّهِ بَدَلَهُ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ، كَالْمَنَافِعِ سَوَاءٌ. وَلِهَذَا جَرَتْ فِي الْوَقْفِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْمُعَامَلَةِ بِجُزْءٍ مِنْ النَّمَاءِ مَجْرَى الْمَنْفَعَةِ ، فَإِنَّ الْوَقْفَ لَا يَكُونُ إلَّا فِيمَا يَنْتَفِعُ بِهِ بَقَاءُ أَصْلِهِ، فَإِذَا جَازَ وَقْفُ الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ أَوْ الزَّرْعِ لِمَنْفَعَتِهَا فَكَذَلِكَ وَقْفُ الْحِيطَانِ لِثَمَرَتِهَا وَوَقْفُ الْمَاشِيَةِ لِدَرِّهَا وَصُوفِهَا، وَوَقْفُ الْآبَارِ وَالْعُيُونِ لِمَائِهَا، بِخِلَافِ مَا يَذْهَبُ بِالِانْتِفَاعِ كَالطَّعَامِ وَنَحْوِهِ فَلَا يُوقَفُ، وَأَمَّا أَرْبَابُ الْعَارِيَّةِ فَيُسَمُّونَ إبَاحَةً لِلظُّهْرِ إقْرَاضًا يُقَالُ أَقْرَضَ بِهِ الظُّهْرَ. وَمَا أُبِيحَ لَبَنُهُ مَنِيحَةً، وَمَا أُبِيحَ ثَمَرُهُ عَرِيَّةً وَغَيْرُ ذَلِكَ عَارِيَّةٌ. وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِالْقَرْضِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُقْتَرِضُ ثُمَّ يُرَدُّ مِثْلَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنِيحَةُ لَبَنٍ أَوْ مَنِيحَةُ وَرِقٍ» ، فَاكْتِرَاءُ الشَّجَرِ، لَأَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهَا وَيَأْخُذَ ثَمَرَهَا

بِمَنْزِلَةِ اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ لِأَجْلِ لَبَنِهَا، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إجَارَةٌ مَنْصُوصَةٌ إلَّا إجَارَةُ الظِّئْرِ، فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] . وَلَمَّا اعْتَقَدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى مَنْفَعَةٍ لَيْسَتْ عَيْنًا، وَرَأَى جَوَازَ إجَارَةِ الظِّئْرِ، قَالَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ وَضْعُ الطِّفْلِ فِي حِجْرِهَا، وَاللَّبَنُ دَخَلَ ضِمْنًا وَتَبَعًا كَنَقْعِ الْبِئْرِ، وَهَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْعَقْلِ وَالْحِسِّ، فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ هُوَ اللَّبَنُ، كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} [الطلاق: 6] وَضَمُّ الطِّفْلِ إلَى حِجْرِهَا إنْ فُعِلَ فَإِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ مَا ذَكَرْته مِنْ الْفَائِدَةِ الَّتِي سَتَخْلُفُ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهَا يَجْرِي مَجْرَى الْمَنْفَعَةِ. وَلَيْسَ مِنْ الْبَيْعِ الْخَاصِّ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُسَمِّ الْعِوَضَ إلَّا أَجْرًا لَمْ يُسَمِّهِ ثَمَنًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ حُلِبَ اللَّبَنُ، فَإِنَّهُ لَا يُسَمِّي الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ إلَّا بَيْعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ الْفَائِدَةَ مِنْ أَصْلِهَا، كَمَا يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ مِنْ أَصْلِهَا، فَلَمَّا كَانَتْ الْفَوَائِدُ الْعَيْنِيَّةُ يُمْكِنُ فَصْلُهَا عَنْ أَصْلِهَا، كَانَ لَهَا حَالَانِ: حَالٌ تُشْبِهُ فِيهِ الْمَنَافِعَ الْمَحْضَةَ، وَهِيَ حَالُ اتِّصَالِهَا وَاسْتِيفَائِهَا كَاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ. وَحَالٌ يُشْبِهُ فِيهِ الْأَعْيَانَ الْمَحْضَةَ، وَهِيَ حَالُ انْفِصَالِهَا وَقَبْضُهَا كَقَبْضِ الْأَعْيَانِ، فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الشَّجَرِ، هُوَ الَّذِي يَسْقِيهَا وَيَعْمَلُ عَلَيْهَا حَتَّى يُصْلِحَ الثَّمَرَةَ، فَإِنَّمَا يَبِيعُ ثَمَرَةً مَحْضَةً كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَشُقُّ الْأَرْضَ وَيَبْذُرُهَا وَيَسْقِيهَا حَتَّى يُصْلِحَ الزَّرْعَ، فَإِنَّمَا يَبِيعُ زَرْعًا مَحْضًا، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يَجِدُ وَيُحَصِّلُ، كَمَا لَوْ بَاعَهَا عَلَى الْأَرْضِ، وَكَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يَنْقُلُ وَيُحَوِّلُ. وَلِهَذَا جَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا فِي النَّهْيِ، حَيْثُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ» ، فَإِنَّ هَذَا بَيْعٌ مَحْضٌ لِلثَّمَرَةِ وَالزَّرْعِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَالِكُ يَدْفَعُ الشَّجَرَةَ إلَى الْمُكْتَرِي حَتَّى يَسْقِيَهَا وَيُلَقِّحَهَا وَيَدْفَعَ عَنْهَا الْأَذَى فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَفْعِ الْأَرْضِ إلَى مَنْ يَشُقُّهَا وَيَبْذُرُهَا وَيَسْقِيهَا، وَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، فَكَمَا أَنَّ كِرَاءَ الْأَرْضِ لَيْسَ بِبَيْعٍ كَزَرْعِهَا، فَكَذَلِكَ كِرَاءُ الشَّجَرِ لَيْسَ بِبَيْعٍ

لِثَمَرِهَا بَلْ نِسْبَةُ كِرَاءِ الشَّجَرِ إلَى كِرَاءِ الْأَرْضِ كَنِسْبَةِ الْمُسَاقَاةِ إلَى الْمُزَارَعَةِ، هَذَا مُعَامَلَةٌ بِجُزْءٍ مِنْ النَّمَاءِ، وَهَذَا كِرَاءٌ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْفَوَائِدُ قَدْ سَاوَتْ الْمَنَافِعَ فِي الْوَقْتِ لِأَصْلِهَا، وَفِي التَّبَرُّعَاتِ بِهَا، وَفِي الْمُشَارَكَةِ بِجُزْءٍ مِنْ نَمَائِهَا وَفِي الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهَا بَعْدَ صَلَاحِهَا، فَكَذَلِكَ يُسَاوِيهَا فِي الْمُعَاوَضَةِ عَلَى اسْتِفَادَتِهَا وَتَحْصِيلِهَا، وَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الزَّرْعَ إنَّمَا يَخْرُجُ بِالْعَمَلِ بِخِلَافِ الثَّمَرِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِلَا عَمَلٍ كَانَ هَذَا الْفَرْقُ عَدِيمَ النَّظِيرِ، بِدَلِيلِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ لِلْعَمَلِ تَأْثِيرًا فِي الْإِثْمَارِ كَمَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْإِنْبَاتِ، وَمَعَ عَدَمِ الْعَمَلِ عَلَيْهَا فَقَدْ تُعْدَمُ الثَّمَرَةُ، وَقَدْ تُنْقَضُ، فَإِنَّ مِنْ الشَّجَرِ مَا لَوْ لَمْ يُخْدَمْ لَمْ يُثْمِرْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَمَلِ عَلَيْهِ تَأْثِيرٌ أَصْلًا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهُ إلَى عَامِلٍ بِجُزْءٍ مِنْ ثَمَرِهِ، وَلَمْ يَجُزْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ إجَارَتُهُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، فَإِنَّهُ تَبَعٌ مَحْضٌ لِلثَّمَرَةِ لَا إجَارَةً لِلشَّجَرِ، وَيَكُونُ كَمَنْ أَكْرَى أَرْضَهُ لِمَنْ يَأْخُذُ مِنْهَا مَا يُنْبِتُهُ اللَّهُ بِلَا عَمَلِ أَحَدٍ أَصْلًا قَبْلَ وُجُودِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ هُنَا غَرَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُثْمِرُ قَلِيلًا وَقَدْ يُثْمِرُ كَثِيرًا يُقَالُ وَمِثْلُهُ فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ غَرَرٌ أَيْضًا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِنَّهَا قَدْ تُنْبِتُ قَلِيلًا وَقَدْ تُنْبِتُ كَثِيرًا، وَإِنْ قِيلَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَاكَ التَّمَكُّنُ مِنْ الِازْدِرَاعِ لَا نَفْسُ الزَّرْعِ النَّابِتِ؛ قِيلَ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَا التَّمَكُّنُ مِنْ الِاسْتِثْمَارِ لَا نَفْسُ الثَّمَرِ الْخَارِجِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِمَا إنَّمَا هُوَ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ، إنَّمَا يَجِبُ الْعِوَضُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ؛ كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِاكْتِرَاءِ الدَّارِ إنَّمَا هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ السُّكْنَى، وَإِنْ وَجَبَ الْعِوَضُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ فَالْمَقْصُودُ فِي اكْتِرَاءِ الْأَرْضِ لِلزَّرْعِ؛ إنَّمَا هُوَ نَفْسُ الْأَعْيَانِ الَّتِي تَحْصُلُ، لَيْسَ كَاكْتِرَاءِ السُّكْنَى أَوْ لِلْبِنَاءِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ نَفْسُ الِانْتِفَاعِ بِجَعْلِ الْأَعْيَانِ فِيهَا، وَهَذَا بَيِّنٌ عِنْدَ التَّأَمُّلِ لَا يَزِيدُهُ الْبَحْثُ عَنْهُ إلَّا وُضُوحًا يَظْهَرُ بِهِ أَنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ زُهُوِّهَا؛ وَبَيْعُ الْحَبِّ قَبْلَ اشْتِدَادِهِ، لَيْسَ هُوَ إنْ شَاءَ اللَّهُ إكْرَاءَهَا لِمَنْ يَجْعَلُ ثَمَرَتَهَا وَزَرْعَهَا بِعَمَلِهِ وَسَقْيِهِ، وَلَا هَذَا دَاخِلٌ فِي نَهْيِهِ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى. يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْبَائِعَ لِثَمَرَتِهَا عَلَيْهِ تَمَامُ سَقْيِهَا وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا، حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْجَدَادِ؛ كَمَا عَلَى بَائِعِ الزَّرْعِ تَمَامُ سَقْيِهِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ

الْحَصَادِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ التَّوْفِيَةِ وَمُؤْنَةُ التَّوْفِيَةِ عَلَى الْبَائِعِ، كَالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ. وَأَمَّا الْمُكْرِي لَهَا لِمَنْ خَدَمَهَا حَتَّى يُثْمِرَ فَهُوَ كَمَكْرِي الْأَرْضِ لِمَنْ يَخْدُمُهَا حَتَّى تُنْبِتَ، لَيْسَ عَلَى الْمُكْرِي عَمَلٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ التَّمْكِينُ مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الثَّمَرُ وَالزَّرْعُ. لَكِنْ يُقَالُ: طَرَدَ هَذَا أَنْ يَجُوزَ إكْرَاءُ الْبَهَائِمِ لِمَنْ يَعْلِفُهَا وَيَسْقِيهَا وَيَحْتَلِبُ لَبَنَهَا. قِيلَ: إنْ جَوَّزْنَا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَاشِيَةَ لِمَنْ يَعْلِفَهَا وَيَسْقِيهَا بِجُزْءٍ مِنْ دَرِّهَا وَنَسْلِهَا جَازَ دَفْعُهَا إلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا لِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا بِشَيْءٍ مَضْمُونٍ. وَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَازَ إجَارَتُهَا لِاخْتِلَافِ لَبَنِهَا كَمَا جَازَ إجَارَةُ الظِّئْرِ؟ قِيلَ: نَظِيرُ إجَارَةِ الظِّئْرِ أَنْ يُرْضِعَ بِعَمَلِ صَاحِبِهَا لِلْغَنَمِ؛ لِأَنَّ الظِّئْرَ هِيَ تُرْضِعُ الطِّفْلَ، فَإِذَا كَانَتْ هِيَ الَّتِي تُوَفِّي الْمَنْفَعَةَ فَنَظِيرُهُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَجِّرُ هُوَ الَّذِي يُوفِي مَنْفَعَةَ الْإِرْضَاعِ، وَحِينَئِذٍ فَالْقِيَاسُ جَوَازُهُ؛ فَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ غَنَمٌ فَاسْتَأْجَرَ غَنَمَ رَجُلٍ؛ لَأَنْ تُرْضِعَهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مُمْتَنِعًا، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ الَّذِي يَحْتَلِبُ اللَّبَنَ أَوْ هُوَ الَّذِي يَسْتَوْفِيهِ فَهَذَا مُشْتَرِي اللَّبَنِ لَيْسَ مُسْتَوْفِيًا لِمَنْفَعَةٍ وَلَا مُسْتَوْفِيًا لِلْعَيْنِ بِعَمَلٍ، وَهُوَ شَبِيهٌ لِاشْتِرَاءِ الثَّمَرَةِ وَاحْتِلَابُهُ كَاقْتِطَافِهَا، وَهُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ لَا تُبَاعُ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لَأَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا وَيَحْتَلِبَ لَبَنَهَا، فَهَذَا نَظِيرُ اكْتِرَاءِ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ. فَصْلٌ هَذَا إذَا اكْتَرَاهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ أَوْ الشَّجَرَ وَحْدَهَا لَأَنْ يَخْدُمَهَا، وَيَأْخُذَ الثَّمَرَةَ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ، فَإِنْ بَاعَهُ الثَّمَرَةَ فَقَطْ وَأَكْرَاهُ الْأَرْضَ لِلسُّكْنَى فَهَا هُنَا لَا يَجِيءُ إلَّا الْأَصْلُ الْأَوَّلُ الْمَذْكُورُ عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ، وَبَعْضُهُ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، إذَا كَانَ الْأَغْلَبُ هُوَ السُّكْنَى. وَهُوَ أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَيَجُوزُ فِي الْجَمْعِ مَا لَا يَجُوزُ فِي التَّفْرِيقِ، كَمَا يُقَدَّمُ مِنْ النَّظَائِرِ، وَهَذَا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ السُّكْنَى وَالثَّمَرَةِ مَقْصُودًا لَهُ كَمَا يَجْرِي فِي حَوَائِطِ دِمَشْقَ، فَإِنَّ الْبُسْتَانَ يُكْتَرَى فِي الْمُدَّةِ الصَّيْفِيَّةِ لِلسُّكْنَى فِيهِ وَأُخِذَ ثَمَرُهُ مِنْ غَيْرِ عَمَلِ الثَّمَرَةِ أَصْلًا، بَلْ الْعَمَلُ عَلَى الْمُكْرِي الْمُضَمَّنِ.

وَعَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ فَيَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَرُ لَمْ يَطْلُعْ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ أَجْنَاسًا مُتَفَرِّقَةً كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا جَازَ لِأَجْلِ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَنْفَعَةِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ جَمْعٌ بَيْنَ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ هُوَ إجَارَةٌ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ تَوْفِيَةِ الثَّمَرِ هُنَا عَلَى الْمُضَمَّنِ وَبِعَمَلِهِ يَصِيرُ ثَمَرًا، بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُثْمِرًا بِعَمَلِ الْمُسْتَأْجِرِ. وَلِهَذَا يُسَمِّيهِ النَّاسُ ضَمَانًا وَلَيْسَ بَيْعًا مَحْضًا وَلَا إجَارَةً مَحْضَةً، فَسُمِّيَ بِاسْمِ الِالْتِزَامِ الْعَامِّ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ الضَّمَانُ، كَمَا سَمَّى الْفُقَهَاءُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَلْقِ مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ، وَكَذَلِكَ يُسَمَّى الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ضَمَانًا أَيْضًا لَكِنَّ ذَاكَ يُسَمَّى إجَارَةً، وَهَذَا إذَا سُمِّيَ إجَارَةً، أَوْ اكْتِرَاءً فَلَأَنْ نُسَمِّيَهُ إجَارَةً أَوْضَحُ أَوْ اكْتِرَاءً، وَفِيهِ بَيْعٌ أَيْضًا، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً أَصْلًا، وَإِنَّمَا جَازَ لِأَجْلِ جَدَادِ الثَّمَرَةِ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ عِنَبًا أَوْ نَخْلًا، وَيُرِيدَ أَنْ يُقِيمَ فِي الْحَدِيقَةِ لِقِطَافِهِ. فَهَذَا لَا يَجُوزُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ إنَّمَا قُصِدَتْ هُنَا لِأَجْلِ الثَّمَرِ، فَلَأَنْ يَكُونَ الثَّمَرُ تَابِعًا لَهَا، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إجَارَتِهَا إلَّا إذَا جَازَ بَيْعُ الثَّمَرِ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ إذَا كَانَتْ مَقْصُودَةً احْتَاجَ إلَى اسْتِئْجَارِهَا، وَاحْتَاجَ مَعَ ذَلِكَ إلَى اشْتِرَاءِ الثَّمَرَةِ فَاحْتَاجَ إلَى الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يُمْكِنُهُ إذَا اسْتَأْجَرَ الْمَكَانَ لِلسُّكْنَى أَنْ يَدَعَ غَيْرَهُ يَشْتَرِي الثَّمَرَةَ، وَلَا يَتِمُّ غَرَضُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَمَرَةٌ يَأْكُلُهَا كَانَ مَقْصُودُهُ الِانْتِفَاعَ بِالسُّكْنَى فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَالْأَكْلَ مِنْ الثَّمَرِ الَّذِي فِيهِ، وَلِهَذَا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ هُوَ السُّكْنَى، وَإِنَّمَا الشَّجَرُ قَلِيلَةٌ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ نَخَلَاتٌ، أَوْ عَرِيشُ عِنَبٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَالْجَوَازُ هُنَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَقِيَاسُ أَكْثَرِ نُصُوصِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مَعَ السَّكَنِ التِّجَارَةُ فِي الثَّمَرِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَالْمَنْعُ هُنَا أَوْجَهُ مِنْهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ السُّكْنَى وَالْأَكْلَ فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا لَوْ قَصَدَ السُّكْنَى وَالشُّرْبَ مِنْ الْبِئْرِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَرُ الْمَأْكُولِ أَكْثَرَ فَهُنَا الْجَوَازُ فِيهِ أَظْهَرُ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا وَدُونَ الْأُولَى عَلَى قَوْلِ مَنْ يُفَرِّقُ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ الْمَأْثُورِ عَنْ السَّلَفِ فَالْجَمِيعُ جَائِزٌ كَمَا قَرَّرْنَاهُ لِأَجْلِ الْجَمْعِ، فَإِنْ اُشْتُرِطَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَحْرُثَ لَهُ الْمُضَمَّنَ مَعْنَاهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مِنْ

رَجُلٍ لِلزَّرْعِ، عَلَى أَنْ يَحْرُثَهَا الْمُؤَجِّرُ فَقَدْ اسْتَأْجَرَ أَرْضَهُ وَاسْتَأْجَرَ مِنْهُ عَمَلًا فِي الذِّمَّةِ. وَهَذَا جَائِزٌ كَمَا لَوْ اسْتَكْرَى مِنْهُ جَمَلًا أَوْ حِمَارًا عَلَى أَنْ يَحْمِلَ الْمُؤَجِّرُ لِلْمُسْتَأْجِرِ عَلَيْهِ مَتَاعَهُ، وَهَذَا إجَارَةُ عَيْنٍ وَإِجَارَةٌ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ الْعَمَلَ، فَيَكُونُ قَدْ اسْتَأْجَرَ عَيْنَيْنِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ السُّكْنَى مَقْصُودَةً، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ ابْتِيَاعُ ثَمَرَةٍ فِي بُسْتَانٍ ذِي أَجْنَاسٍ، وَالسَّقْيُ عَلَى الْبَائِعِ. فَهَذَا عِنْدَ اللَّيْثِ يَجُوزُ وَهُوَ قِيَاسُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَقَرَّرْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ كَالْحَاجَةِ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ بَيْعِ الثَّمَرَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَشَدَّ، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يُمْكِنُ بَيْعُ كُلِّ جِنْسٍ عِنْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، فَإِنَّهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ، وَفِي بَعْضِهَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِضَرَرٍ كَثِيرٍ، وَقَدْ رَأَيْت مَنْ يُوَاطِئُ الْمُشْتَرِيَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ كُلَّمَا صَلَحَتْ ثَمَرَةٌ يُقَسِّطُ عَلَيْهَا بَعْضَ الثَّمَرِ. وَهَذَا مِنْ الْحِيَلِ الْبَارِزَةِ الَّتِي لَا يَخْفَى حَالُهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَا زَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ ذَوُو الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ يُنْكِرُونَ تَحْرِيمَ مِثْلِ هَذَا، مَعَ أَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ تُنَافِي تَحْرِيمَهُ، لَكِنْ مَا سَمِعُوهُ مِنْ الْعُمَومَاتِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْقِيَاسِيَّةِ الَّتِي اعْتَقَدُوا شُمُولَهَا هَذَا، مَعَ مَا سَمِعُوهُ مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُدْرِجُونَ هَذَا الْعُمُومَ الَّذِي أَوْجَبَ مَا أُوجِبَ وَهُوَ قِيَاسُ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ الْمَقْثَاةِ جَمِيعِهَا بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا؛ لِأَنَّ تَفْرِيقَ بَعْضِهَا مُتَعَسِّرٌ وَمُتَعَذِّرٌ، كَتَعَسُّرِ تَفْرِيقِ الْأَجْنَاسِ فِي الْبُسْتَانِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَشَقَّةُ فِي الْمَقْثَاةِ أَوْكَدَ، وَلِهَذَا جَوَّزَهَا مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ فِي الْأَجْنَاسِ كَمَالِكٍ، فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الصُّورَةُ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَكْرَاهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ لِيَعْمَلَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَمَا قَرَّرْتُمْ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ إجَارَةٌ لِمَنْ يَعْمَلُ لَا بَيْعٌ لِغَيْرِهِ، وَأَمَّا هَذَا فَبَيْعٌ لِلثَّمَرَةِ فَيَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، فَكَيْفَ يُخَالِفُونَ النَّهْيَ، فَلِذَا الْجَوَابُ عَنْ هَذَا كَالْجَوَابِ عَمَّا يَجُوزُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ مِنْ ابْتِيَاعِ الشَّجَرِ مَعَ ثَمَرِهِ الَّذِي لَمْ يَصْلُحْ، وَابْتِيَاعُ الْأَرْضِ مَعَ زَرْعِهَا الَّذِي لَمْ يَشْتَدَّ. وَمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ ابْتِيَاعِ الْمَقَاثِي مَعَ أَنَّ بَعْضَ خُضَرِهَا لَمْ يُخْلَقْ، وَجَوَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِطَرِيقَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ إنَّ النَّهْيَ لَمْ يَشْمَلْ بِلَفْظِهِ هَذِهِ الصُّورَةَ؛ لِأَنَّ نَهْيَهُ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ انْصَرَفَ إلَى الْبَيْعِ الْمَعْهُودِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، وَمَا كَانَ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُونَ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ شَخْصٌ مَعْهُودٌ أَوْ نَوْعٌ مَعْهُودٌ انْصَرَفَ الْكَلَامُ إلَيْهِ، كَمَا انْصَرَفَ إلَى الرَّسُولِ الْمُعَيَّنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ} [النور: 63] وَقَوْلِهِ: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] ، إلَى النَّوْعِ الْمَخْصُوصِ بِنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالثَّمَرِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّمَرِ هُنَا الرُّطَبُ دُونَ الْعِنَبِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودُ شَخْصٍ وَلَا نَوْعٌ انْصَرَفَ إلَى الْعُمُومِ. فَالْبَيْعُ الْمَذْكُورُ لِلثَّمَرِ هُوَ بَيْعُ الثَّمَرِ الَّذِي يَعْهَدُونَهُ دَخَلَ كَدُخُولِ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالْقَرْنِ الثَّالِثِ فِيمَا خَاطَبَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ فِي نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ فِي «نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَوْلِ الرَّجُلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ» بِحَمْلِهِ عَلَى مَا كَانَ مَعْهُودًا عَلَى عَهْدِهِ مِنْ الْمِيَاهِ الدَّائِمَةِ كَالْآبَارِ وَالْحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. فَأَمَّا الْمَصَانِعُ الْكِبَارُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ نَزْحُهَا الَّتِي أُحْدِثَتْ بَعْدَهُ فَلَمْ يُدْخِلْهُ فِي الْعُمُومِ لِوُجُودِ الْفَارِقِ الْمَعْنَوِيِّ وَعَدَمِ الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ، وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْعُمُومِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَزْهُوَ، قِيلَ: وَمَا تَزْهُو؟ قَالَ: تَحْمَرُّ أَوْ تَصْفَرُّ» . وَفِي لَفْظٍ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَزْهُوَ» ، وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَزْهُوَ» ، وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ ثَمَرُ النَّخْلِ كَمَا جَاءَ مُقَيَّدًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَزْهُو فَيَحْمَرُّ أَوْ يَصْفَرُّ، وَإِلَّا فَمِنْ الثِّمَارِ مَا يَكُونُ نُضْجُهَا بِالْبَيَاضِ، كَالتُّوتِ، وَالتُّفَّاحِ، وَالْعِنَبِ الْأَبْيَضِ، وَالْإِجَّاصِ الْأَبْيَضِ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ دِمَشْقَ الْخَوْخَ، وَالْخَوْخِ الْأَبْيَضِ الَّذِي

يُسَمِّيهِ الْفُرْسُ، وَيُسَمِّيهِ الدِّمَشْقِيُّونَ الدَّرَاقِنَ، أَوْ بِاللَّبَنِ بِلَا تَغَيُّرِ لَوْنٍ كَالتِّينِ وَنَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ جَابِرٍ، «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى تُشَقِّحَ، قِيلَ: وَمَا تُشَقِّحُ؟ قَالَ: تَحْمَرُّ أَوْ تَصْفَرُّ» وَيُؤْكَلُ مِنْهَا وَهَذِهِ الثَّمَرَةُ هِيَ الرُّطَبُ. وَكَذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَبَايَعُوا الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَلَا تَبَايَعُوا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ» ، وَالتَّمْرُ الثَّانِي هُوَ لِلرُّطَبِ بِلَا رَيْبٍ. فَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ وَاحِدٌ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَبَايَعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَتَذْهَبَ عَنْهُ الْآفَةُ، فَإِنَّ بُدُوَّ صَلَاحِهِ حُمْرَتُهُ أَوْ صُفْرَتُهُ» ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا لَفْظُ الثَّمَرِ وَأَمَّا غَيْرُهُ فَصَرِيحٌ فِي النَّخْلِ، كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ النَّوْلِ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ أَوْ يُؤْكَلَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ، وَعَنْ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ، وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ» ، وَالْمُرَادُ بِالنَّخْلِ ثَمَرُهُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ جَوَّزَ اشْتِرَاءَ النَّخْلِ الْمُؤَبَّرِ مَعَ اشْتِرَاطِ الْمُشْتَرِي لِثَمَرَتِهِ. فَهَذِهِ النُّصُوصُ لَيْسَتْ عَامَّةً عُمُومًا لَفْظِيًّا فِي كُلِّ ثَمَرَةٍ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ لَفْظًا لِمَا عَهِدَهُ الْمُخَاطَبُونَ وَعَامَّةٌ مَعْنًى لِكُلِّ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَمَا ذَكَرْنَا عَدَمَ تَحْرِيمِهِ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَلَا فِي مَعْنَاهُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ دَلِيلُ الْحُرْمَةِ فَيَبْقَى عَلَى الْحِلِّ، وَهَذَا وَحْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ وَبِهِ يَتِمُّ مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ أَوَّلًا أَنَّ الْأَدِلَّةَ النَّافِيَةَ لِلتَّحْرِيمِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ والاستصحابية يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ بِشَرْطِ نَفْيِ النَّاقِلِ الْمُغَيِّرِ وَقَدْ بَيَّنَّا انْتِفَاءَهُ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ وَإِنْ سَلَّمْنَا الْعُمُومَ اللَّفْظِيَّ، لَكِنْ لَيْسَتْ مُرَادَةً بَلْ هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَخُصُّ مِثْلَ هَذَا الْعُمُومِ، فَإِنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ

بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فِي الثَّمَرِ التَّابِعِ لِشَجَرِهِ، حَيْثُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ ابْتَاعَ نَخْلًا لَمْ تُؤَبَّرْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ الْمُبْتَاعُ» ، أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. فَجَعَلَهَا لِلْمُبْتَاعِ إذَا اشْتَرَطَهَا بَعْدَ التَّأْبِيرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا حِينَئِذٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مُفْرَدَةً، وَالْعُمُومُ الْمَخْصُوصُ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ صُوَرٌ فِي مَعْنَاهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا تَخْصِيصُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَبِالْقِيَاسِ الْقَوِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ آثَارِ السَّلَفِ وَمِنْ الْمَعَانِي مَا يَخُصُّ مِثْلَ هَذَا لَوْ كَانَ عَامًّا، أَوْ بِالِاشْتِدَادِ بِلَا تَغْيِيرِ لَوْنٍ، كَالْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، فَبُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي الثِّمَارِ مُتَنَوِّعٌ تَارَةً يَكُونُ بِالرُّطُوبَةِ بَعْدَ الْيُبْسِ، وَتَارَةً بِلِينِهِ، وَتَارَةً بِتَغَيُّرِ لَوْنِهِ بِحُمْرَةٍ أَوْ صُفْرَةٍ أَوْ بَيَاضٍ، وَتَارَةً لَا يَتَغَيَّرُ. وَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى تَحْمَرَّ أَوْ تَصْفَرَّ عُلِمَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَشْمَلْ جَمِيعَ أَجْنَاسِ الثِّمَارِ، وَإِنَّمَا يَشْمَلُ مَا يَأْتِي فِي الْحُمْرَةِ الصُّفْرَةُ، وَقَدْ جَاءَ مُقَيَّدًا أَنَّهُ النَّخْلُ فَتَدَبَّرْ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهُ عَظِيمُ النَّفْعِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى وَفِي نَظَائِرِهَا، وَانْظُرْ فِي عُمُومِ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفْظًا وَمَعْنًى حَتَّى يُعْطِيَ حَقَّهُ، وَأَحْسَنُ مَا اسْتَدَلَّ عَلَى مَعْنَاهُ بِآثَارِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَقَاصِدِهِ فَإِنَّ ضَبْطَ ذَلِكَ يُوجِبُ تَوَافُقَ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَجَرْيَهَا عَلَى الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] . وَأَمَّا نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُعَاوَضَةِ الَّتِي جَاءَ مُفَسَّرًا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، بِأَنَّهُ بَيْعُ السِّنِينَ، فَهُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِثْلُ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَإِنَّمَا نَهَى أَنْ يَبْتَاعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَرَةَ الَّتِي يَسْتَثْمِرُهَا رَبُّ الشَّجَرِ، فَأَمَّا اكْتِرَاءُ الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ حَتَّى يَسْتَثْمِرَهَا فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْإِجَارَةِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحِ، مِنْ أَنَّهُ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ وَإِنَّهُ نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ، وَأَنَّهُ نَهَى عَنْ

الْمُزَارَعَةِ، وَأَنَّهُ قَالَ: «لَا تُكْرُوا الْأَرْضَ» ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْكِرَاءُ الَّذِي كَانُوا يَعْتَادُونَهُ مِنْ الْكِرَاءِ وَالْمُعَاوَضَةِ الَّذِينَ يَرْجِعُ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تَصْلُحَ وَإِلَى الْمُزَارَعَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهَا جُزْءٌ مُعَيَّنٌ: وَهَذَا نَهْيٌ عَمَّا فِيهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ، هَذَا نَهْيٌ عَنْ الْغَرَرِ فِي جِنْسِ الْبَيْعِ. وَذَلِكَ نَهْيٌ عَنْ الْغَرَرِ فِي جِنْسِ الْكِرَاءِ الْعَامِّ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي كِلَيْهِمَا أَنَّ هَذِهِ الْمُبَايَعَةَ وَهَذِهِ الْمُكَارَاةَ كَانَتْ تُفْضِي إلَى الْخُصُومَةِ وَالشَّنَآنِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] . فَصْلٌ وَمِنْ الْقَوَاعِدِ الَّتِي أَدْخَلَهَا قَوْمٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَنْوَاعٌ مِنْ الْإِجَارَاتِ وَالْمُشَارَكَاتِ، كَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ حَرَامٌ بَاطِلٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا عَمَلٌ بِعِوَضٍ وَالْإِجَارَةُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا الْأَجْرُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّهَا كَالثَّمَرِ، وَلِمَا رَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُ أَجْرَهُ» ، وَعَنْ النَّجْشِ وَاللَّمْسِ وَإِلْقَاءِ الْحَجَرِ، وَالْعِوَضُ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ قَلِيلًا. وَقَدْ يَخْرُجُ كَثِيرًا، وَقَدْ يَخْرُجُ عَلَى صِفَاتٍ نَاقِصَةٍ، وَقَدْ لَا يَخْرُجُ، فَإِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَقَدْ اسْتَوْفَى عَمَلَ الْعَامِلِ بَاطِلًا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَشَدُّ النَّاسِ قَوْلًا بِتَحْرِيمِ هَذَا، وَأَمَّا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فَالْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إدْخَالًا لِذَلِكَ فِي الْغَرَرِ، لَكِنْ جَوَّزَا مِنْهُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ، فَجَوَّزَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ الْمُسَاقَاةَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ كِرَاءَ الشَّجَرِ لَا يَجُوزُ

لِأَنَّهُ بَيْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَالْمَالِكُ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ سَقْيُ شَجَرَةٍ وَخِدْمَتُهَا فَيَضْطَرُّ إلَى الْمُسَاقَاةِ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِالْأَجْرِ الْمُسَمَّى فَيُغْنِيهِ ذَلِكَ عَنْ الْمُزَارَعَةِ، لَكِنْ جَوَّزَا مِنْ الْمُزَارَعَةِ مَا يَدْخُلُ فِي الْمُسَاقَاةِ تَبَعًا، فَإِذَا كَانَ بَيْنَ الشَّجَرِ بَيَاضٌ، فَلْيَقُلْ جَازَتْ الْمُزَارَعَةُ عَلَيْهِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ زَرْعَ ذَلِكَ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، فَإِنْ شَرَطَاهُ بَيْنَهُمَا جَازَ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَتَجَاوَزْ الثُّلُثَ، وَالشَّافِعِيُّ لَا يَجْعَلُهُ لِلْعَامِلِ، لَكِنْ يَقُولُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ سَقْيُ الشَّجَرِ إلَّا بِسَقْيِهِ جَازَتْ الْمُزَارَعَةُ عَلَيْهِ، وَلِأَصْحَابِهِ فِي الْبَيَاضِ إذَا كَانَ كَثِيرًا أَكْثَرَ مِنْ الشَّجَرِ وَجْهَانِ، وَهَذَا إذَا جَمَعَهُمْ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي صَفْقَتَيْنِ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا جَازَ تَبَعًا، فَلَا يُفْرَدُ بِعَقْدٍ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ إذَا سَاقَى ثُمَّ زَارَعَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ حِينَئِذٍ، وَأَمَّا إذَا قَدَّمَ الْمُزَارَعَةَ لَمْ يَجُزْ وَجْهًا وَاحِدًا. وَهَذَا إذَا كَانَ الْجُزْءُ الْمَشْرُوطُ فِيهِمَا وَاحِدًا كَالثُّلُثِ أَوْ الرُّبْعِ، فَإِنْ فَاضَلَ بَيْنَهُمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَرُوِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ السَّلَفِ، مِنْهُمْ: طَاوُسٌ، وَالْحَسَنُ وَبَعْضُ الْخَلْقِ: الْمَنْعُ مِنْ إجَارَةِ الْأَرْضِ بِالْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ، وَإِنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ رَوَى حَرْبٌ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ هَلْ يَصْلُحُ احْتِكَارُ الْأَرْضِ، فَقَالَ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَالْجَمَاعَةُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ احْتِكَارَهَا بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَكَرِهَ ذَلِكَ آخَرُونَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْغَرَرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجَرَ يَلْتَزِمُ الْأُجْرَةَ بِنَاءً عَلَى مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ، وَقَدْ لَا يَثْبُتُ الزَّرْعُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اكْتِرَاءِ الشَّجَرِ لِلِاسْتِثْمَارِ، وَقَدْ كَانَ طَاوُسٌ يُزَارِعُ وَلِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ أَبْعَدُ عَنْ الْغَرَرِ مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَامِلَيْنِ فِي الْمُزَارَعَةِ إمَّا أَنْ يَغْنَمَا جَمِيعًا أَوْ يَغْرَمَا جَمِيعًا فَيَذْهَبُ مَنْفَعَةُ هَذَا وَبَقَرِهِ، وَمَنْفَعَةُ أَرْضِ هَذَا، وَذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى أَنْ يَحْصُلَ أَحَدُهُمَا عَلَى شَيْءٍ مَضْمُونٍ، وَيَبْقَى الْآخَرُ بِحَسَبِ الْخَطَرِ، إذْ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ هُوَ الزَّرْعُ لَا الْقُدْرَةُ عَلَى حَرْثِ الْأَرْضِ، وَبَذْرِهَا وَسَقْيِهَا. وَعُذْرُ الْفَرِيقَيْنِ مَعَ هَذَا الْقِيَاسِ مَا بَلَغَهُمْ مِنْ الْآثَارِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نَهْيِهِ عَنْ الْمُخَابَرَةِ، وَعَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ، لِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَحَدِيث جَابِرٍ، فَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُكْرِي مُزَارَعَةً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ حَدَّثَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ» ، فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ إلَى رَافِعٍ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ نَهَى النَّبِيُّ عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ،

فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَدْ عَلِمْت أَنَّا كُنَّا نُكْرِي مَزَارِعَنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا عَلَى الْأَرْبِعَاءِ، وَشَيْءٍ مِنْ التِّبْنِ. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ حَتَّى بَلَغَهُ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يُحَدِّث فِيهَا بِنَهْيٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَأَنَا مَعَهُ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَنْهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ» ، فَتَرَكَهَا ابْنُ عُمَرَ بَعْدُ، فَكَانَ إذَا سُئِلَ عَنْهَا قَالَ: زَعَمَ ابْنُ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهَا، وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُكْرِي أَرْضَهُ حَتَّى بَلَغَهُ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يُحَدِّثُ كَانَ يُنْهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ ابْنُ خَدِيجٍ: مَاذَا يُحَدَّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ؛ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَقَدْ كُنْت أَعْلَمُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّ الْأَرْضَ تُكْرَى، ثُمَّ خَشِيَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ أَحْدَثَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يَعْلَمْهُ، فَتَرَكَ كِرَاءَ الْأَرْضِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ فِي آخِرِهِ. وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ عُمَرَ وَظُهَيْرِ بْنِ رَافِعٍ قَالَ ظُهَيْرٌ: «لَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَمْرٍ كَانَ بِنَا رَافِقًا، قُلْت: مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ حَقٌّ، قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ. قُلْت: نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبْعِ وَعَلَى الْأَوْسُقِ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، قَالَ: لَا تَفْعَلُوا ازْرَعُوهَا أَوْ زَارِعُوهَا أَوْ امْسِكُوهَا. قَالَ رَافِعٌ قُلْت: سَمْعًا وَطَاعَةً» . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيَمْنَحَهَا أَخَاهُ فَإِنْ أَبَاهَا فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ» أَخْرَجَاهُ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانُوا يَزْرَعُونَهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبْعِ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحَهَا أَخَاهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ» أَخْرَجَاهُ. وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.

وَلَفْظُ مُسْلِمٍ كُنَّا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَأْخُذُ الْأَرْضَ بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبْعِ بِالْمَاذِيَانَاتِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ فَقَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا فَإِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ فَإِنْ لَمْ يَمْنَحْهَا أَخَاهُ فَلْيُمْسِكْهَا. وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ: وَلَا يُكْرِيهَا» ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ: «نَهَى عَنْ كِرَاء الْأَرْضِ» . وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ وَالْمُخَابَرَةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ زَايِدْ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَأَنْ يَشْتَرِيَ النَّخْلَ حَتَّى يُشَقِّحَ» ، وَالْإِشْقَاحُ أَنْ يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ شَيْءٌ؛ وَالْمُحَاقَلَةُ أَنْ يُبَاعَ الْحَقْلُ بِكَيْلٍ مِنْ الطَّعَامِ مَعْلُومٍ وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يُبَاعَ النَّخْلُ بِأَوْسَاقٍ مِنْ التَّمْرِ. وَالْمُخَابَرَةُ الثُّلُثُ أَوْ الرُّبْعُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، قَالَ زَيْدٌ: قُلْت لِعَطَاءٍ: أَسَمِعْت جَابِرًا يَذْكُرُهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: نَعَمْ. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ قَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَا مَنْ يَنْهَى عَنْ الْمُؤَاجَرَةِ وَالْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ كِرَائِهَا وَالْكِرَاءُ يَعُمُّهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْهَا، فَلَمْ يُرَخِّصْ إلَّا فِي أَنْ يَزْرَعَهَا أَوْ يَمْنَحَهَا لِغَيْرِهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي الْمُعَاوَضَةِ لَا بِمُؤَاجَرَةٍ وَلَا بِمُزَارَعَةٍ، وَمَنْ يُرَخِّصُ فِي الْمُزَارَعَةِ دُونَ الْمُؤَاجَرَةِ يَقُولُ الْكِرَاءُ هُوَ الْإِجَارَةُ أَوْ الْمُزَارَعَةُ الْفَاسِدَةُ الَّتِي كَانُوا يَفْعَلُونَهَا بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَة، الَّتِي سَتَأْتِي أَدِلَّتُهَا الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَامِلُ بِهَا أَهْلَ خَيْبَرَ، وَعَمِلَ بِهَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ الَّذِي تَرَكَ كِرَاءَ الْأَرْضِ لَمَّا حَدَّثَهُ رَافِعٌ كَانَ يَرْوِي حَدِيثَ أَهْلِ خَيْبَرَ رِوَايَةَ مَنْ يُفْتِي بِهِ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ أَوْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ» ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ، وَالْمُؤَاجَرَةُ أَظْهَرُ فِي الْغَرَرِ مِنْ الْمُزَارَعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَنْ يُجَوِّزُ الْمُؤَاجَرَةَ دُونَ الْمُزَارَعَةِ يَسْتَدِلُّ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الْمُزَارَعَةِ وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا» ، فَهَذَا صَحِيحٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُزَارَعَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمُؤَاجَرَةِ. وَسَيَأْتِي عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ الَّذِي رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمْ يَنْهَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كِرَائِهَا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مَضْمُونٍ، وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ

الْمُزَارَعَةِ وَذَهَبَ جَمِيعُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ الْجَامِعُونَ لِطُرُقِهِ كُلِّهِمْ، كَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ كُلِّهِمْ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْهَاشِمِيِّ، وَأَبِي خَيْثَمَةَ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ وَأَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْكُوفِيِّينَ، كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ، وَأَبِي دَاوُد، وَجَمَاهِيرِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: كَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالْخَطَّابِيِّ، وَغَيْرِهِمْ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُؤَاجَرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَعَمَلُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَبَيَّنُوا مَعَانِيَ الْأَحَادِيثِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ اخْتِلَافُهَا فِي هَذَا الْبَابِ، فَمِنْ ذَلِكَ مُعَامَلَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ خَيْبَرَ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ إلَى أَنْ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ، فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ عَامِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ تَمْرٍ أَوْ زَرْعٍ، أَخْرَجَاهُ وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْطَى خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا» ، هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ، «لَمَّا اُفْتُتِحَتْ خَيْبَرُ سَأَلَتْ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقِرَّهُمْ فِيهَا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا عَلَى نِصْفِ مَا خَرَجَ مِنْهَا مِنْ التَّمْرِ وَالزَّرْعِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُقِرُّكُمْ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا، وَكَانَ الثَّمَرُ عَلَى السَّهْمَانِ مِنْ نِصْفِ خَيْبَرَ، فَيَأْخُذُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخُمُسَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «دَفَعَ إلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَخْلَ خَيْبَرَ وَأَرْضَهَا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَأَنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَطْرَ ثَمَرَتِهَا» ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى مَأْصِرِ الْكُوفَةِ. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى خَيْبَرَ أَهْلَهَا عَلَى نِصْفِ نَخْلِهَا وَأَرْضِهَا» ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّ «مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَكْرَى الْأَرْضَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبْعِ، فَهُوَ يَعْمَلُ بِهِ إلَى يَوْمِك هَذَا» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَطَاوُسٌ كَانَ بِالْيَمَنِ وَأَخَذَ عَنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ الَّذِينَ بِالْيَمَنِ مِنْ أَعْيَانِ الْمُخَضْرَمِينَ، وَقَوْلُهُ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ أَيْ كَانَا يَفْعَلَانِ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَحُذِفَ الْفِعْلُ لِدَلَالَةِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ مُعَاذًا خَرَجَ مِنْ الْيَمَنِ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ، وَقَدِمَ الشَّامَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَمَاتَ بِهَا فِي خِلَافَتِهِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ

وَقَالَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ تَعَيَّنَ الْبَاقِرُ بِالْمَدِينَةِ دَارَ الْهِجْرَةِ، فَأَمَرَ أَلَّا يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، قَالَ وَزَارَعَ عَلِيٌّ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاسِمُ وَعُرْوَةُ وَآلُ أَبِي بَكْرٍ وَآلُ عُمَرَ وَآلُ عَلِيٍّ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَامَلَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى إنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ، وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا. وَهَذِهِ الْآثَارُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ قَدْ رَوَاهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْآثَارِ، فَإِذَا كَانَ جَمِيعُ الْمُهَاجِرِينَ كَانُوا يُزَارِعُونَ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَأَكَابِرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ مُنْكِرٌ، لَمْ يَكُنْ إجْمَاعٌ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا، بَلْ إنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا إجْمَاعٌ فَهُوَ هَذَا، لَا سِيَّمَا وَأَهْلُ بَيْعَةِ الرَّضْوَانِ جَمِيعُهُمْ زَارَعُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعْدَهُ عَلَى أَنْ أَجْلَى عُمَرُ الْيَهُودَ، وَقَدْ تَأَوَّلَ مَنْ أَبْطَلَ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلَاتٍ مَرْدُودَةٍ مِثْلُ أَنْ قَالُوا الْيَهُودُ عَبِيدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ فَجَعَلُوا لَك مِثْلَ الْمُخَارَجَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ، وَمَعْلُومٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَهُمْ وَلَمْ يَسْتَرِقَّهُمْ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ وَلَمْ يَبِعْهُمْ وَلَا مَكَّنَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ اسْتِرْقَاقِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَمِثْلُ أَنْ قَالَ هَذِهِ مُعَامَلَةٌ مَعَ الْكُفَّارِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَجُوزَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مَرْدُودٌ فَإِنَّ خَيْبَرَ كَانَتْ قَدْ صَارَتْ دَارَ إسْلَامٍ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْعَهْدِ مَا يَحْرُمُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ، ثُمَّ إنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَلَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ عَامَلَ عَلَى عَهْدِهِ أَهْلَ الْيَمَنِ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُعَامِلُونَ بِذَلِكَ. وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ يَقْتَضِي جَوَازَ ذَلِكَ مَعَ عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُبِيحَةِ أَوْ النَّافِيَةِ لِلْحَرَجِ ، وَمَعَ الِاسْتِصْحَابِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ مُشَارَكَةٌ لَيْسَتْ مِثْلَ الْمُؤَاجَرَةِ الْمُطْلَقَةِ، فَإِنَّ النَّمَاءَ الْحَادِثَ يَحْصُلُ مِنْ مَنْفَعَةِ أَصْلَيْنِ، مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ الَّذِي لَيْسَ لِهَذَا كَبَدَنَةٍ وَبَقَرَةٍ، وَمَنْفَعَةِ الْعَيْنِ الَّذِي لِهَذَا كَأَرْضِهِ وَشَجَرِهِ، كَمَا تَحْصُلُ الْمَغَانِمُ بِمَنْفَعَةِ أَبْدَانِ الْغَانِمِينَ وَخَيْلِهِمْ، وَكَمَا يَحْصُلُ مَالُ الْفَيْءِ بِمَنْفَعَةِ أَبْدَانِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُوَّتِهِمْ وَنَصْرِهِمْ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا هُوَ الْعَمَلُ أَوْ الْمَنْفَعَةُ، فَمَنْ اسْتَأْجَرَ الْبِنَاءَ اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ مَقْصُودَهُ بِالْعَقْدِ وَاسْتَحَقَّ الْأَجِيرُ أَجْرَهُ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي الْإِجَارَةِ اللَّازِمَةِ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَضْبُوطًا، كَمَا يُشْتَرَطُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَبِيعِ، وَهُنَا مَنْفَعَةُ بَدَنِ الْعَامِلِ

وَبَدَنِ بَقَرِهِ وَحَدِيدِهِ، هُوَ مِثْلُ مَنْفَعَةِ أَرْضِ الْمَالِكِ وَشَجَرِهِ لَيْسَ مَقْصُودُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِيفَاءَ مَنْفَعَةِ الْآخَرِ. وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُمَا جَمِيعًا مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ اجْتِمَاعِ الْمَنْفَعَتَيْنِ، فَإِنْ حَصَلَ نَمَاءٌ اشْتَرَكَا فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ نَمَاءٌ ذَهَبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَنْفَعَتُهُ، فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَفِي الْمَغْرَمِ كَسَائِرِ الْمُشْتَرِكِينَ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْ نَمَاءِ الْأُصُولِ الَّتِي لَهُمْ. وَهَذَا جِنْسٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ يُخَالِفُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَقْصُودِهِ وَحُكْمِهِ الْإِجَارَةَ الْمَحْضَةَ، وَمَا فِيهِ مِنْ شَوْبِ الْمُعَاوَضَةِ مِنْ جِنْسِ مَا فِي الشَّرِكَةِ مِنْ شَوْبِ الْمُعَاوَضَةِ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَاتِ الْعَدْلِيَّةَ فِي الْأَرْضِ جِنْسَانِ مُعَاوَضَاتٌ وَمُشَارَكَاتٌ، فَالْمُعَاوَضَاتُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُشَارَكَاتُ شَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ وَشَرِكَةُ الْعَقْدِ، يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ اشْتِرَاكُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَاشْتِرَاكُ النَّاسِ فِي الْمُبَاحَاتِ كَمَنَافِعِ الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ الْمُبَاحَةِ وَالطُّرُقَاتِ وَمَا يَحْيَا مِنْ الْمَوَاتِ، أَوْ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ وَاشْتِرَاكُ الْوَرَثَةِ فِي الْمِيرَاثِ وَاشْتِرَاكُ الْمُوصَى لَهُمْ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ، وَاشْتِرَاكُ التُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ شَرِكَةَ عَنَانٍ أَوْ أَبْدَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَانِ الْجِنْسَانِ هُمَا مَنْشَأُ الظُّلْمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] وَالتَّصَرُّفَاتُ الْأُخْرَى هِيَ الْفَضْلِيَّةُ كَالْقَرْضِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَإِذَا كَانَتْ التَّصَرُّفَاتُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْمُعَادَلَةِ هِيَ مُعَاوَضَةٌ أَوْ مُشَارَكَةٌ فَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَةِ، لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُعَاوَضَةِ الْمَحْضَةِ وَالْغَرَرِ، إنَّمَا حَرُمَ بَيْعُهُ فِي الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَهُنَا لَا يَأْكُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْبُتْ الزَّرْعُ فَإِنَّ رَبَّ الْأَرْضِ لَمْ يَأْخُذْ مَنْفَعَةَ الْآخَرِ، إذْ هُوَ لَمْ يَسْتَوْفِهَا وَلَا مَلَكَهَا بِالْعَقْدِ، وَلَا هِيَ مَقْصُودَةٌ بَلْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ بَدَنِهِ كَمَا ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ أَرْضِهِ، وَرَبُّ الْأَرْضِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ قَدْ أَخَذَ، وَالْآخَرُ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا بِخِلَافِ بُيُوعِ الْغَرَرِ وَإِجَارَةِ الْغَرَرِ، فَإِنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاوِضَيْنِ يَأْخُذُ شَيْئًا وَالْآخَرَ يَبْقَى تَحْتَ الْخَطَرِ فَيُفْضِي إلَى نَدَمِ أَحَدِهِمَا وَخُصُومَتِهِمَا. وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي هَذِهِ الْمُشَارَكَاتِ الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى الْمُعَادَلَةِ الْمَحْضَةِ، الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ظُلْمٌ أَلْبَتَّةَ لَا فِي غَرَرٍ وَلَا فِي غَيْرِ غَرَرٍ، وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا تَبَيَّنَ لَهُ مَأْخَذُ هَذِهِ الْأُصُولِ وَعَلِمَ أَنَّ جَوَازَ هَذِهِ أَشْبَهَ بِأُصُولِ

الشَّرِيعَةِ وَأَعْرَفُ فِي الْعَقْدِ، وَأَبْعَدُ عَنْ كُلِّ مَحْذُورٍ، وَمِنْ جَوَازِ إجَارَةِ الْأَرْضِ بَلْ وَمِنْ جَوَازِ كَثِيرٍ مِنْ الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا حَيْثُ هِيَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ لِلْخَلْقِ بِلَا فَسَادٍ، وَإِنَّمَا وَقَعَ اللَّبْسُ فِيهَا عَلَى مَنْ حَرَّمَهَا مِنْ إخْوَانِنَا الْفُقَهَاءِ بَعْدَمَا فَهِمُوهُ مِنْ الْآثَارِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا هَذَا إجَارَةً عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ، لِمَا فِيهَا مِنْ عَمَلٍ بِعِوَضٍ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَمِلَ لِيَنْتَفِعَ بِعَمَلِهِ يَكُونُ أَجِيرًا، كَعَمَلِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ، وَكَعَمَلِ الشَّرِيكَيْنِ شَرِكَةَ أَبْدَانٍ وَكَاشْتِرَاكِ الْغَانِمِينَ فِي الْمَغَانِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى، نَعَمْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَعْمَلُ بِمَالٍ يَضْمَنُهُ لَهُ الْآخَرُ لَا يَتَوَالَدُ مِنْ عَمَلِهِ كَانَ هَذَا إجَارَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ مِنْ جِنْسِ الْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهَا عَيْنٌ تَنْمُو بِالْعَمَلِ عَلَيْهَا، فَجَازَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا بِبَعْضِ نَمَائِهَا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَالْمُضَارَبَةُ جَوَّزَهَا الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ اتِّبَاعًا لِمَا جَاءَ فِيهَا عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، مَعَ أَنَّهُ لَا يُحْفَظُ فِيهَا بِعَيْنِهَا سُنَّةً عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَقَدْ كَانَ أَحْمَدُ يَرَى أَنْ يَقِيسَ الْمُضَارَبَةَ عَلَى الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ لِثُبُوتِهَا بِالنَّصِّ، فَيَجْعَلُ أَصْلًا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِمَا مَنْ خَالَفَ، وَقِيَاسُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ صَحِيحٌ، فَإِنَّ مَنْ يَثْبُتُ عِنْدَهُ جَوَازُ أَحَدِهِمَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ حُكْمُ الْآخَرِ لِتَسَاوِيهِمَا. فَإِنْ قِيلَ الرِّبْحُ فِي الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ مِنْ غَيْرِ الْأَصْلِ، بَلْ الْأَصْلُ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ بَدَلُهُ، فَالْمَالُ الْمُقَسَّمُ حَصَلَ نَفْسُ الْعَمَلِ بِخِلَافِ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ، فَإِنَّهُ مِنْ نَفْسِ الْأَصْلِ. قِيلَ هَذَا الْفَرْقُ فَرْقٌ فِي الصُّورَةِ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمَالَ الْمُسْتَفَادَ إنَّمَا حَصَلَ بِمَجْمُوعِ بَدَنِ الْعَامِلِ وَمَنْفَعَةِ رَأْسِ الْمَالِ. وَلِهَذَا يُرَدُّ إلَى رَبِّ الْمَالِ مِثْلُ رَأْسِ مَالِهِ وَيَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ كَمَا أَنَّ الْعَامِلَ بَقِيَ بِنَفْسِهِ الَّتِي هِيَ نَظِيرُ الدَّرَاهِمِ وَلَيْسَتْ إضَافَةُ الرِّبْحِ إلَى عَمَلِ بَدَنِ هَذَا بِأَوْلَى مِنْ إضَافَتِهِ إلَى مَنْفَعَةِ مَالِ هَذَا. وَلِهَذَا فَالْمُضَارَبَةُ الَّتِي يَرْوُونَهَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا حَصَلَتْ بِغَيْرِ عَقْدٍ لَمَّا أَقْرَضَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ لِابْنَيْ عُمَرَ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، فَحَمَلَاهُ إلَى أَبِيهِمَا فَطَلَبَ عُمَرُ جَمِيعَ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ كَالْغَصْبِ حَيْثُ أَقْرَضَهُمَا وَلَمْ يُقْرِضْ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَالُ مُشْتَرِكٌ وَأَحَدُ الشُّرَكَاءِ إذَا اتَّجَرَ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بِدُونِ الْآخَرِ فَهُوَ كَالْغَاصِبِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ، وَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ الضَّمَانُ كَانَ عَلَيْنَا فَيَكُونُ الرِّبْحُ

لَنَا، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنْ يَجْعَلَهُ مُضَارَبَةً. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَوْجُودَةٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، هَلْ يَكُونُ الرِّبْحُ فِيمَنْ اتَّجَرَ بِمَالُ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِرَبِّ الْمَالِ أَوْ لِلْعَامِلِ أَوْ لَهُمَا، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَأَحْسَنُهَا وَأَقْيَسُهَا أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمَا كَمَا قَضَى بِهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ النَّمَاءَ يَتَوَلَّدُ عَنْ الْأَصْلَيْنِ، وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْمُضَارَبَةِ الَّذِي اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ وَعَوَاقِبُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الشَّرِكَةِ فَأَخْذُ مِثْلِ الدَّرَاهِمِ يَجْرِي مَجْرَى عَيْنِهَا، وَلِهَذَا سَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ الْقَرْضَ مَنِيحَةً يُقَالُ مَنِيحَةُ وَرِقٍ وَتَقُولُ النَّاسُ أَعِرْنِي دَرَاهِمَك، يَجْعَلُونَ رَدَّ مِثْلِ هَذَا الدَّرَاهِمِ كَرَدِّ عَيْنِ الْعَارِيَّةِ، وَالْمُقْتَرِضُ انْتَفَعَ فِيهَا وَرَدَّهَا، وَسَمَّوْا الْمُضَارَبَةَ قِرَاضًا؛ لِأَنَّهَا فِي الْمُقَابَلَاتِ نَظِيرَ الْقَرْضِ فِي التَّبَرُّعَاتِ. وَيُقَالُ أَيْضًا لَوْ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْفَرْقِ مُؤَثِّرًا لَكَانَ اقْتِضَاؤُهُ لِتَجْوِيزِ الْمُزَارَعَةِ دُونَ الْمُضَارَبَةِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ النَّمَاءَ إذَا حَصَلَ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلَيْنِ كَانَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ حُصُولِهِ مَعَ ذَهَابِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ قِيلَ الزَّرْعُ نَمَاءُ الْأَرْضِ دُونَ الْبَذْرِ فَقَدْ يُقَالُ الرِّبْحُ نَمَاءُ الْعَامِلِ دُونَ الدَّرَاهِمِ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ بَلْ الزَّرْعُ حَصَلَ بِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ، وَمَنْفَعَةِ بَدَنِ الْعَامِلِ وَالْبَقَرِ وَالْحَدِيدِ، ثُمَّ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُضَارَبَةِ فَرْقًا فَلَا رَيْبَ أَنَّهَا بِالْمُضَارَبَةِ أَشْبَهُ مِنْهَا بِالْمُؤَاجَرَةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاجَرَةَ الْمَقْصُودَ فِيهَا هُوَ الْعَمَلُ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَالْأُجْرَةُ مَضْمُونَةٌ فِي الذِّمَّةِ أَوْ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، وَهُنَا لَيْسَ الْمَقْصُودُ إلَّا النَّمَاءُ، وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْعَمَلِ، وَالْأُجْرَةُ لَيْسَتْ عَيْنًا وَلَا شَيْئًا فِي الذِّمَّةِ. وَإِنَّمَا هِيَ بَعْضُ مَا يَحْصُلُ مِنْ النَّمَاءِ، وَلِهَذَا مَتَى عُيِّنَ فِيهَا شَيْءٌ تَعَيَّنَ الْعَقْدُ كَمَا تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ إذَا شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا رِبْحًا مُعَيَّنًا أَوْ أُجْرَةً مَعْلُومَةً فِي الذِّمَّةِ، وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْغَايَةِ فَإِذَا كَانَتْ بِالْمُضَارَبَةِ فَضَعِيفٌ، وَاَلَّذِي بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُؤَاجَرَةِ فُرُوقٌ مُؤَثِّرَةٌ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ، وَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ إلْحَاقِهَا بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ فَإِلْحَاقُهَا بِمَا هِيَ بِهِ أَشْبَهُ أَوْلَى وَهَذَا أَجْلَى مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ فِيهِ إلَى إطْنَابٍ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ نَقُولَ لَفْظُ الْإِجَارَةِ فِيهِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، فَإِنَّهَا عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ لِكُلِّ مَنْ بَدَّلَ نَفْعًا لِعِوَضٍ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَهْرُ، كَمَا فِي

قَوْلُهُ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَمَلُ هُنَا مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا وَكَانَ الْأَجْرُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا لَازِمًا أَوْ غَيْرَ لَازِمٍ. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِجَارَةُ الَّتِي هِيَ جَعَالَةٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ النَّفْعُ غَيْرَ مَعْلُومٍ، لَكِنْ الْعِوَضُ مَضْمُونٌ فَيَكُونُ عَقْدًا نَاجِزًا غَيْرَ لَازِمٍ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ مَنْ رَدَّ عَبْدِي فَلَهُ كَذَا فَقَدْ يَزِدْهُ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ أَوْ قَرِيبٍ. الثَّالِثَةُ: الْإِجَارَةُ الْخَاصَّةُ وَهِيَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَيْنًا أَوْ يَسْتَأْجِرَهُ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ بِحَيْثُ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً فَيَكُونُ الْأَجْرُ مَعْلُومًا وَالْإِجَارَةُ لَازِمَةً، وَهَذِهِ الْإِجَارَةُ الَّتِي تُشْبِهُ الْبَيْعَ فِي عَامَّةِ أَحْكَامِهِ. وَالْفُقَهَاءُ الْمُتَأَخِّرُونَ إذَا أَطْلَقُوا الْإِجَارَةَ أَوْ قَالُوا بَابُ الْإِجَارَةِ أَرَادُوا هَذَا الْمَعْنَى، فَيُقَالُ: الْمُسَاقَاةُ، وَالْمُزَارَعَةُ، وَالْمُضَارَبَةُ، وَنَحْوُهُنَّ مِنْ الْمُشَارَكَاتِ عَلَى مَا يَحْصُلُ، مَنْ قَالَ هِيَ إجَارَةٌ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ أَوْ الْعَامِّ فَقَدْ صَدَقَ، وَمَنْ قَالَ هِيَ إجَارَةٌ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَإِذَا كَانَتْ إجَارَةً بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الَّتِي هِيَ الْجَعَالَةُ، فَهُنَالِكَ إنْ كَانَ الْعِوَضُ شَيْئًا مَضْمُونًا مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ مِمَّا يَحْصُلُ مِنْ الْعَمَلِ جَازَ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا شَائِعًا، كَمَا لَوْ قَالَ الْأَمِيرُ فِي الْغَزْوِ مَنْ دَلَّنَا عَلَى حِصْنِ كَذَا فَلَهُ مِنْهُ كَذَا، فَحُصُولُ الْجَعْلِ هُنَاكَ الْمَشْرُوطُ بِحُصُولِ الْمَالِ، مَعَ أَنَّهُ جَعَالَةٌ مَحْضَةٌ لَا شَرِكَةَ فِيهِ فَالشَّرِكَةُ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَتَسْلُكُ طَرِيقَةً أُخْرَى فَيُقَالُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قِيَاسُ الْأُصُولِ أَنَّ الْإِجَارَةَ الْخَاصَّةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْعِوَضُ غَرَرًا قِيَاسًا عَلَى الثَّمَنِ. فَأَمَّا الْإِجَارَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِالْمَنْفَعَةِ فَلَا تُشْبِهُ هَذِهِ الْإِجَارَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُهَا بِهَا فَتَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ الْمُبِيحِ، فَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُعْتَقِدَ لِكَوْنِهَا إجَارَةً يَسْتَفْسِرُ عَنْ مُرَادِهِ بِالْإِجَارَةِ، فَإِنْ أَرَادَ الْخَاصَّةَ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ أَرَادَ الْعَامَّةَ فَأَيْنَ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا إلَّا بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ، فَإِنْ ذَكَرَ قِيَاسًا بَيَّنَ لَهُ الْفَرْقَ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِ فَقِيهٍ فَضْلًا عَنْ الْفَقِيهِ، وَأَنْ يَجِدَ إلَى أَمْرٍ يَشْمَلُ مِثْلَ هَذِهِ الْإِجَارَةِ سَبِيلًا فَإِذَا انْتَفَتْ أَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ ثَبَتَ الْحِلُّ، وَسَلَكَ مِنْ هَذَا فِي طَرِيقَةٍ أُخْرَى

وَهُوَ قِيَاسُ الْعَكْسِ، وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الْفَرْعِ نَقِيضُ حُكْمِ الْأَصْلِ، لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُكْمِ الْأَصْلِ، فَيُقَالُ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِكَوْنِ الْأُجْرَةِ تَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً مُنْتَفٍ فِي بَابِ الْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِذَلِكَ أَنَّ الْمَجْهُولَ غَرَرٌ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْغَرَرِ الْمُقْتَضِي أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، أَوْ مَا يُذْكَرُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي مَنْفِيَّةٌ فِي الْفَرْعِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّحْرِيمِ مُوجِبٌ إلَّا كَذَا وَهُوَ مُنْتَفٍ فَلَا تَحْرِيمَ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ: حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَغَيْرِهِ فَقَدْ جَاءَتْ مُفَسِّرَةً مُبَيِّنَةً لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَمَّا فَعَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي عَهْدِهِ وَبَعْدَهُ، بَلْ الَّذِي رَخَّصَ فِيهِ غَيْرُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ، فَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: «كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُزْدَرَعًا، كُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا مُسَمَّى لِسَيِّدِ الْأَرْضِ، قَالَ: فِيمَا يُصَابُ ذَلِكَ وَتَسْلَمُ الْأَرْضُ، وَمِمَّا يُصَابُ الْأَرْضُ وَيَسْلَمُ ذَلِكَ فَنُهِينَا، فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ قَالَ: «كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَقْلًا، وَكَانَ أَحَدُنَا يُكْرِي أَرْضَهُ، فَيَقُولُ: هَذِهِ الْقِطْعَةُ لِي وَهَذِهِ لَك، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ، فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ، فَنُهِينَا عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ نُنْهَ عَنْ الزَّرْعِ» ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ رَافِعٍ قَالَ: كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَمْصَارِ حَقْلًا، وَكُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ، عَلَى أَنَّ لَنَا هَذِهِ وَلَهُمْ هَذِهِ، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْوَرِقُ فَلَمْ يَنْهَنَا، وَفِي مُسْلِمٍ أَيْضًا، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَأَلْت رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ؟ ، قَالَ: فَلَا بَأْسَ بِهِ، إنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَجِّرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَإِقْبَالِ الْجَدَاوِلِ وَأَشْيَاءَ مِنْ الزَّرْعِ، فَيَهْلَكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا، فَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إلَّا هَذَا، فَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ، فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ. فَهَذَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الْحَدِيثِ يَذْكُرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كِرَاءٌ إلَّا بِزَرْعِ مَكَان مُعَيَّنٍ مِنْ الْحَقْلِ، وَهَذَا النَّوْعُ حَرَامٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً وَحَرَّمُوا نَظِيرَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ، فَلَوْ اشْتَرَطَ رَبُّ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ، وَهَذَا الْغَرَرُ فِي الْمُشَارَكَاتِ نَظِيرُ الْغَرَرِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذِهِ الْمُعَاوَضَاتِ وَالْمُقَابَلَاتِ هُوَ التَّعَادُلُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَإِنْ اشْتَمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى غَرَرٍ أَوْ رِبًا دَخَلَهَا

الظُّلْمُ فَحَرَّمَهَا الَّذِي حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ، وَجَعَلَهُ مُحَرَّمًا عَلَى عِبَادِهِ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا مَلَكَ الثَّمَنَ وَبَقِيَ الْآخَرُ تَحْتَ الْخَطَرِ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْعَ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا. فَكَذَلِكَ هَذَا إذَا اشْتَرَطَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مَكَانًا مُعَيَّنًا خَرَجَا عَنْ مُوجِبِ الشَّرِكَةِ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي النَّمَاءِ، فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْمُعَيَّنِ لَمْ يَبْقَ لِلْآخَرِ فِيهِ نَصِيبٌ، وَدَخَلَهُ الْخَطَرُ وَمَعْنَى الْقِمَارِ كَمَا ذَكَرَهُ رَافِعٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ، رُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ فَيَفُوزُ أَحَدُهُمَا وَيَخِيبُ الْآخَرُ، وَهُوَ مَعْنَى الْقِمَارِ، وَأَخْبَرَ رَافِعٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ كِرَاءٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا هَذَا، وَأَنَّهُ إنَّمَا زَجَرَ عَنْهُ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنْ الْمُخَاطَرَةِ وَمَعْنَى الْقِمَارِ، وَأَنَّ النَّهْيَ انْصَرَفَ إلَى ذَلِكَ الْكِرَاءِ الْمَعْهُودِ، لَا إلَى مَا تَكُونُ فِيهِ الْأُجْرَةُ مَضْمُونَةً فِي الذِّمَّةِ. وَسَأُشِيرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، وَرَافِعٌ أَعْلَمُ بِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَيِّ شَيْءٍ وَقَعَ، وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَإِنَّهُ قَالَ لَمَّا حَدَّثَهُ رَافِعٌ قَدْ عَلِمْت أَنَّا كُنَّا نُكْرِي مَزَارِعَنَا بِمَا عَلَى الْأَرْبِعَاءِ وَشَيْءٍ مِنْ التِّبْنِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَ بِزَرْعِ مَكَان مُعَيَّنٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَلَغَهُ النَّهْيُ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، كَانَ يَرْوِي حَدِيثَ مُعَامَلَةِ خَيْبَرَ دَائِمًا وَيُفْتِي بِهِ، وَيُفْتِي بِالْمُزَارَعَةِ عَلَى الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ، وَأَهْلُ بَيْتِهِ أَيْضًا بَعْدَ حَدِيثِ رَافِعٍ. فَرَوَى حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، سَمِعْت كُلَيْبَ بْنَ وَائِلٍ، قَالَ: أَتَيْت ابْنَ عُمَرَ، فَقُلْت: أَتَانِي رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ وَمَاءٌ، وَلَيْسَ لَهُ بَذْرٌ وَلَا بَقَرٌ، فَأَخَذْتهَا بِالنِّصْفِ، فَبَذَرْت فِيهَا بَذْرِي وَعَمِلْت فِيهَا بِبَقَرِي فَنَاصَفْته، قَالَ حَسَنٌ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي حَزْمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ سَمِعْت سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ الرَّجُلُ: مِنَّا يَنْطَلِقُ إلَى الرَّجُلِ فَيَقُولُ: أَجِيءُ بِبَذْرِي وَبَقَرِي وَأَعْمَلُ أَرْضَك فَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْهُ فَلَكَ مِنْهُ كَذَا وَلِي مِنْهُ كَذَا، قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ وَنَحْنُ نُضَيِّقُهُ. وَهَكَذَا أَخْبَرَ أَقَارِبُ رَافِعٍ، فَفِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ رَافِعٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمُومَتِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَ الْأَرْضَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا يَنْبُتُ عَلَى الْأَرْبِعَاءِ، وَشَيْءٍ يَسْتَثْنِيهِ

صَاحِبُ الْأَرْضِ فَنَهَانَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ: لِرَافِعٍ فَكَيْفَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، فَقَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ. وَكَانَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ، وَذَلِكَ مَا لَوْ نَظَرَ فِيهِ ذُو الْفَهْمِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَمْ يُجْزِئْ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُخَاطَرَةِ، وَعَنْ أُسَيْدَ بْنِ ظُهَيْرٍ قَالَ: كَانَ أَحَدُنَا إذَا اسْتَغْنَى عَنْ أَرْضِهِ أَعْطَاهَا بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبْعِ أَوْ النِّصْفِ، وَيُشْتَرَطُ ثَلَاثُ جَدَاوِلَ، وَالْقُصَارَةُ، وَمَا سَقَى الرَّبِيعُ، وَكَانَ الْعَيْشُ إذْ ذَاكَ شَدِيدًا وَكَانَ يَعْمَلُ فِيهَا بِالْحَدِيدِ وَمَا شَاءَ اللَّهُ وَيُصِيبُ مِنْهَا مَنْفَعَةً، فَأَتَانَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَاكُمْ عَنْ الْحَقْلِ، وَيَقُولُ: «مَنْ اسْتَغْنَى عَنْ أَرْضِهِ فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، أَوْ لِيَدَعْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَادَ أَحْمَدُ «وَيَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُزَابَنَةِ» . وَالْمُزَابَنَةُ: أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ لَهُ الْمَالُ الْعَظِيمُ مِنْ النَّخْلِ فَيَأْتِيهِ الرَّجُلُ فَيَقُولُ أَخَذْته بِكَذَا وَكَذَا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، وَالْقُصَارَةُ: مَا سَقَطَ مِنْ السُّنْبُلِ، وَهَكَذَا أَخْبَرَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَجَابِرٌ فَأَخْبَرَ سَعْدٌ أَنَّ أَصْحَابَ الْمَزَارِعِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَانُوا يُكْرُونَ مَزَارِعَهُمْ بِمَا يَكُونُ عَلَى السَّوَّاقِي مِنْ الزَّرْعِ وَمَا يَتَغَذَّى بِالْمَاءِ مِمَّا حَوْلَ الْبِئْرِ، فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاخْتَصَمُوا فِي ذَلِكَ، فَنَهَاهُمْ أَنْ يُكْرُوا بِذَلِكَ، وَقَالَ «اُكْرُوا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. فَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْإِذْنِ بِالْكِرَاءِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا كَانَ عَنْ اشْتِرَاطِ زَرْعِ مَكَان مُعَيَّنٍ، وَعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنَّا نُخَابِرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنُصِيبُ مِنْ الْقُصَارَةِ وَمِنْ كَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ وَإِلَّا فَلْيَدَعْهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ رَوَوْا عَنْهُ النَّهْيَ قَدْ أَخْبَرُوا بِالصُّورَةِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا، وَالْعِلَّةَ الَّتِي نَهَى مِنْ أَجْلِهَا، وَإِذَا كَانَ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ الْكِرَاءَ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ كَمَا فَهِمُوهُ مِنْ كَلَامِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَقْصُودِهِ، وَكَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا عَنْهُ أَنَّهُ رَخَّصَ غَيْرَ ذَلِكَ الْكِرَاءِ وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ مَا قُرِنَ بِهِ

النَّهْيُ مِنْ الْمُزَابَنَةِ وَنَحْوِهَا، وَاللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ فِي الْمُزَابَنَةِ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ إذَا كَانَ خِطَابًا لِمُعَيَّنٍ فِي مِثْلِ الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالٍ أَوْ عَقِبَ حِكَايَةِ حَالٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يَكُونُ مَقِيلًا بِمِثْلِ حَالِ الْمُخَاطَبِ، كَمَا لَوْ قَالَ الْمَرِيضُ لِلطَّبِيبِ: إنَّ بِهِ حَرَارَةً فَقَالَ: لَا تَأْكُلْ الدَّسَمَ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ النَّهْيَ مُقَيَّدٌ بِتِلْكَ الْحَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُطْلَقَ إذَا كَانَ لَهُ مُسَمًّى مَعْهُودٌ أَوْ حَالٌ تَقْتَضِيهِ انْصَرَفَ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يُكْرَهُ كَالْمُتَبَايِعِينَ إذَا قَالَ أَحَدُهُمَا بِعْتُك عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَإِنَّهَا مُطْلَقَةٌ فِي اللَّفْظِ، ثُمَّ لَا يَنْصَرِفُ إلَّا إلَى الْمَعْهُودِ مِنْ الدَّرَاهِمِ. فَإِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ لَا يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ لَفْظَ الْكِرَاءِ إلَّا لِذَلِكَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، ثُمَّ خُوطِبُوا بِهِ لَمْ يَنْصَرِفْ إلَّا إلَى مَا يَعْرِفُونَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ الْعُرْفِيِّ، كَلَفْظِ الدَّابَّةِ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ أَنَّهُ الْفَرَسُ أَوْ ذَوَاتُ الْحَافِرِ فَقَالَ: لَا يَأْتِي بِدَابَّةٍ لَمْ يَنْصَرِفْ هَذَا الْمُطْلَقُ إلَّا إلَى ذَلِكَ، وَنَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ كَانَ مُقَيَّدًا بِالْعُرْفِ وَبِالسُّؤَالِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ ظُهَيْرِ بْنِ رَافِعٍ، قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ، قُلْت: نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبْعِ، وَعَلَى الْأَوْسُقِ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا ازْرَعُوهَا أَوْ امْسِكُوهَا» . فَقَدْ خَرَجَ بِأَنَّ النَّهْيَ وَقَعَ عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ. وَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ الْمَحْضَةُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهَا النَّهْيُ وَلَا ذَكَرَهَا رَافِعٌ وَغَيْرُهُ فِيمَا يَجُوزُ مِنْ الْكِرَاءِ؛ لِأَنَّهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عِنْدَهُمْ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ الْكِرَاءِ الْمُعْتَادِ، فَإِنَّ الْكِرَاءَ اسْمٌ لِمَا وَجَبَتْ فِيهِ أُجْرَةٌ مَعْلُومَةٌ إمَّا عَيْنٌ وَإِمَّا دَيْنٌ، فَإِنْ كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مَضْمُونًا فَهُوَ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَيْنًا مِنْ غَيْرِ الزَّرْعِ، أَمَّا إنْ كَانَ عَيْنًا مِنْ الزَّرْعِ لَمْ يَجُزْ. فَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ جَمِيعِ الزَّرْعِ فَلَيْسَ هُوَ الْكِرَاءُ الْمُطْلَقُ، بَلْ هُوَ شَرِكَةٌ مَحْضَةٌ إذْ لَيْسَ جَعْلُ الْعَامِلِ مُكْتَرِيًا لْأَرْضِ بِجُزْءٍ مِنْ الزَّرْعِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ الْمَالِكِ مُكْتَرِيًا لِلْعَامِلِ بِالْجُزْءِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي هَذَا كِرَاءً أَيْضًا، فَإِنَّمَا هُوَ كِرَاءٌ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِثَالُهُ. فَأَمَّا الْكِرَاءُ الْخَاصُّ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ رَافِعٌ وَغَيْرُهُ فَلَا، وَلِهَذَا السَّبَبِ بَيَّنَ رَافِعٌ أَحَدَ

نَوْعَيْ الْكِرَاءِ الْجَائِزِ وَبَيَّنَ الْكِرَاءَ الْآخَرَ الَّذِي نُهُو عَنْهُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهَا جِنْسٌ آخَرُ، بَقِيَ أَنْ يُقَالَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ وَإِلَّا فَلْيُمْسِكْهَا» أَمَرَ إذَا لَمْ يَفْعَلْ وَاحِدًا مِنْ الزَّرْعِ وَالْمَنِيحَةِ أَنْ يُمْسِكَهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ وَمِنْ الْمُزَارَعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيُقَالُ الْأَمْرُ بِهَذَا أَمْرُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ لَا أَمْرُ إيجَابٍ فِي الِابْتِدَاءِ لِيَنْزَجِرُوا عَمَّا اعْتَادُوهُ مِنْ الْكِرَاءِ الْفَاسِدِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ فَقَالَ أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا وَأَكْثَرُهَا وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ سَأَلَهُ عَنْهُمْ أَبُو ثَعْلَبَةَ: «إنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَأَرْخِصُوهَا بِالْمَاءِ» . وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ إذَا اعْتَادَتْ الْمَعْصِيَةَ فَقَدْ لَا تَنْفَطِمُ عَنْهَا انْفِطَامًا جَيِّدًا إلَّا بِتَرْكِ مَا يُقَارِبُهَا مِنْ الْمُبَاحِ، كَمَا قِيلَ لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ حَاجِزًا مِنْ الْحَلَالِ، كَمَا أَنَّهَا أَحْيَانَا لَا تُتْرَكُ الْمَعْصِيَةُ إلَّا بِتَدْرِيجٍ لَا بِتَرْكِهَا جُمْلَةً، فَهَذَا يَقَعُ تَارَةً وَهَذَا يَقَعُ تَارَةً، وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ خَشِيَ مِنْهُ النَّفْرَةَ عَنْ الطَّاعَةِ الرُّخْصَةُ فِي أَشْيَاءَ يَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ الْمُحَرَّمِ، وَلِمَنْ وَثِقَ بِإِيمَانِهِ وَصَبْرِهِ النَّهْيُ عَنْ بَعْضِ مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ تَرْكُهُ مُبَالَغَةً فِي فِعْلِ الْأَفْضَلِ، وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ وَثِقَ بِإِيمَانِهِ وَصَبْرِهِ مِنْ فِعْلِ الْمُسْتَحَبَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ كَالْخُرُوجِ عَنْ جَمِيعِ مَالِهِ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا لَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ حَالُهُ كَذَلِكَ، كَالرَّجُلِ الَّذِي جَاءَهُ بِبَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَحَدَفَهُ فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَأَوْجَعَتْهُ، ثُمَّ قَالَ: «يَذْهَبُ أَحَدُكُمْ فَيُخْرِجُ مَالَهُ ثُمَّ يَجْلِسُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ» . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الصَّحِيحَةِ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى، عَنْ الْمُزَارَعَةِ، وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ، وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا» . وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ سَعْدٍ أَنَّهُ نَهَاهُمْ أَنْ يُكْرُوا بِزَرْعِ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، وَقَالَ: اُكْرُوَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَكَذَلِكَ فَهِمَتْهُ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ قَدْ رَوَى ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِكِرَائِهَا بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَكَذَلِكَ فُقَهَاءُ الصَّحَابَةِ كَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ قُلْت لِطَاوُسٍ لَوْ تَرَكْت

الْمُخَابَرَةَ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهُ، قَالَ ابْنُ عَمْرٍو: إنِّي أُعْطِيهِمْ وَأُعِينُهُمْ وَأَنَا أَعْلَمُهُمْ. أَخْبَرَنِي يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَنْهَ عَنْهُ، وَلَكِنْ قَالَ: إنْ مَنَحَ أَحَدُهُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ خَرْجًا مَعْلُومًا» ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُحَرِّمْ الْمُزَارَعَةَ، وَلَكِنْ أَمَرَ أَنْ يُرْفِقَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُجْمَلًا، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَقَدْ أَخْبَرَ طَاوُسٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالرِّفْقِ الَّذِي مِنْهُ وَاجِبٌ وَهُوَ تَرْكُ الرِّبَا وَالْغَرَرِ وَمِنْهُ مُسْتَحَبٌّ كَالْعَارِيَّةِ وَالْقَرْضِ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ التَّبَرُّعُ بِالْأَرْضِ بِلَا أُجْرَةٍ مِنْ بَابِ الِاخْتِبَارِ كَانَ الْمُسْلِمُ أَحَقَّ، فَقَالَ: «لَأَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ أَرْضَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا خَرْجًا مَعْلُومًا» ، وَقَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ أَوْ لِيُمْسِكْهَا» . فَكَانَ الْأَخُ هُوَ الْمَمْنُوحُ، وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَيْسُوا مِنْ الْإِخْوَانِ عَامَلَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَمْنَحْهُمْ، لَا سِيَّمَا وَالتَّبَرُّعُ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ فَضْلِ غِنًى. فَمَنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى مَنْفَعَةِ أَرْضِهِ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهَا الْمَنِيحَةُ، كَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُحْتَاجِينَ إلَى مَنْفَعَةِ أَرْضِ خَيْبَرَ، وَكَمَا كَانَ الْأَنْصَارُ مُحْتَاجِينَ إلَى أَرْضِهِمْ حَيْثُ عَامَلُوا عَلَيْهَا الْمُهَاجِرِينَ، وَقَدْ تُوجِبُ الشَّرِيعَةُ التَّبَرُّعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، كَمَا نَهَاهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ لِأَجْلِ الرَّأْفَةِ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ لِيُطْعِمُوا الْجِيَاعَ؛ لِأَنَّ إطْعَامَهُمْ وَاجِبٌ، فَلَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُحْتَاجِينَ إلَى مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَأَصْحَابُهَا أَغْنِيَاءُ نَهَاهُمْ عَنْ الْمُعَاوَضَةِ لِيَجُودُوا بِالتَّبَرُّعِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالتَّبَرُّعِ عَيْنًا كَمَا نَهَاهُمْ عَنْ الِادِّخَارِ، فَإِنَّ مَنْ نَهَى عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ جَادَ بِبَذْلِهِ إذْ لَا يَتْرُكُ كَذَا، وَقَدْ يَنْهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ اللَّهُ عَنْ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْمُبَاحِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَنْفَعَةِ الْمَنْهِيِّ كَمَا نَهَاهُمْ فِي بَعْضِ الْمَغَازِي. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ جَابِرٌ، مِنْ نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُخَابَرَةِ، فَهَذِهِ هِيَ الْمُخَابَرَةُ الَّتِي نَهَى

عَنْهَا، وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ وَلَمْ تَكُنْ الْمُخَابَرَةُ عِنْدَهُمْ إلَّا ذَلِكَ، بَيَّنَ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا لَا نَرَى بِالْخِبْرَةِ بَأْسًا حَتَّى كَانَ عَامُ أَوَّلٍ، فَزَعَمَ رَافِعٌ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهُ فَتَرَكْنَاهُ مِنْ أَجَلِهِ. فَأَخْبَرَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَافِعًا رَوَى النَّهْيَ عَنْ الْخِبْرَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى حَدِيثِ رَافِعٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْخِبْرَةُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالْمُخَابَرَةُ، وَالْمُزَارَعَةُ بِالنِّصْفِ، أَوْ الثُّلُثِ وَالرُّبْعِ، وَأَقَلُّ وَأَكْثَرُ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدٍ يَقُولُ لِهَذَا سُمِّيَ الْأَكَّارُ خَبِيرًا؛ لِأَنَّهُ يُخَابِرُ الْأَرْضَ، الْمُخَابَرَةُ هِيَ الْمُؤَاكَرَةُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَصْلُ هَذَا مِنْ خَيْبَرَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَقَرَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى النِّصْفِ، فَقِيلَ خَابَرَهُمْ أَيْ عَامَلَهُمْ فِي خَيْبَرَ، وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ فَإِنَّ مُعَامَلَتَهُ بِخَيْبَرَ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا قَطُّ بَلْ فَعَلَهَا الصَّحَابَةُ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا رَوَى حَدِيثَ الْمُخَابَرَةِ رَافِعٌ، وَجَابِرٌ، وَقَدْ فَسَّرَا مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَالْخَبِيرُ هُوَ الْفَلَّاحُ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَخْبُرُ الْأَرْضَ. وَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُخَابَرَةِ وَالْمُزَارَعَةِ، فَقَالُوا: الْمُخَابَرَةُ هِيَ الْمُعَامَلَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ، وَالْمُزَارَعَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ، قَالُوا: وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ لَا الْمُزَارَعَةِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْمُزَارَعَةِ، كَمَا نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ، وَكَمَا نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عَامَّةٌ لِمَوْضِعِ نَهْيِهِ وَغَيْرِ مَوْضِعِ نَهْيِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ مِمَّا يَفْعَلُونَهُ لِأَجْلِ التَّخْصِيصِ الْعُرْفِيِّ لَفْظًا وَفِعْلًا، وَلِأَجْلِ الْقَرِينَةِ اللَّفْظِيَّةِ وَهِيَ لَامُ الْعَهْدِ، وَسُؤَالِ السَّائِلِ وَإِلَّا فَقَدْ نَقَلَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ الْمُخَابَرَةَ هِيَ الْمُزَارَعَةُ وَالِاشْتِقَاقُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. . فَصْلٌ وَاَلَّذِينَ جَوَّزُوا الْمُزَارَعَةَ، مِنْهُمْ مَنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ، وَقَالُوا: هَذِهِ هِيَ الْمُزَارَعَةُ، فَأَمَّا إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ لَمْ يَجُزْ، وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَصْحَابِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، حَيْثُ يُجَوِّزُونَ الْمُزَارَعَةَ. وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ قِيَاسُهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَبِذَلِكَ احْتَجَّ أَحْمَدُ أَيْضًا، قَالَ

الْكَرْمَانِيُّ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ دَفَعَ أَرْضَهُ إلَى الْإِكْرَاءِ عَلَى الثُّلُثِ أَوْ الرُّبْعِ، قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، وَالْبَقَرُ وَالْعَمَلُ وَالْحَدِيدُ مِنْ الْأَكَّارِ، فَذَهَبَ فِيهِ مَذْهَبَ الْمُضَارَبَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْبَذْرَ هُوَ أَصْلُ الزَّرْعِ، كَمَا أَنَّ الْمَالَ هُوَ أَصْلُ الرِّبْحِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِمَّنْ لَهُ الْأَصْلُ لِيَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمَا الْعَمَلُ وَمِنْ الْآخَرِ الْأَصْلُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ، وَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ جَمَاهِيرُ أَصْحَابِهِ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ نَصًّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُكْرِيَ أَرْضَهُ بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبْعِ؛ كَمَا عَامَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ خَيْبَرَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى: إذَا دَفَعَ أَرْضَهُ لِمَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا بِبَذْرِهِ بِجُزْءٍ مِنْ الزَّرْعِ لِلْمَالِكِ فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمُزَارَعَةِ لَمْ يَجُزْ. وَجَعَلُوا هَذَا التَّفْرِيقَ تَقْرِيرًا لِنُصُوصِهِ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا عَامَّةَ نُصُوصِهِ صَرَائِحَ كَثِيرَةً جِدًّا فِي جَوَازِ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ مِنْهَا، وَرَأَوْا أَنَّ مَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ عِنْدَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْمُزَارَعَةِ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ، كَالْمُضَارَبَةِ، فَفَرَّقُوا بَيْنَ بَابِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ، وَبَابِ الْإِجَارَةِ وَقَالَ آخَرُونَ، مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ يَجُوزُ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَرَادَ بِهِ الْمُزَارَعَةَ وَالْعَمَلَ مِنْ الْأَكَّارِ، قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَمُتَّبِعُوهُ فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْعَامِلِ بِمَا شُرِطَ لَهُ، فَقَالُوا فَعَلَى هَذَا مَا يَأْخُذُهُ صَاحِبُ الْبَذْرِ يَسْتَحِقُّهُ بِبَذْرِهِ، وَمَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْأُجْرَةِ يَأْخُذُهُ بِالشَّرْطِ. وَمَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنَّ نَصَّهُ عَلَى الْمُكَارَاةِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ هُوَ الْمُزَارَعَةُ عَلَى أَنْ يَبْذُرَ الْأَكَّارُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَلَا يَحْتَمِلُ الْفِقْهُ إلَّا هَذَا، أَوْ أَنْ يَكُونَ نَصُّهُ عَلَى جَوَازِ الْمُؤَاجَرَةِ الْمَذْكُورَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَجَوَازُ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ مُطْلَقًا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يَتَوَجَّهُ غَيْرُهُ أَثَرًا وَنَظَرًا وَهُوَ ظَاهِرُ نُصُوصِ أَحْمَدَ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ، وَاخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَبْذُرَ رَبُّ الْأَرْضِ. أَوْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ إجَارَةً أَوْ مُزَارَعَةً هُوَ فِي الضَّعْفِ نَظِيرُ مَنْ سَوَّى الْإِجَارَةَ الْخَاصَّةَ وَالْمُزَارَعَةَ أَوْ أَضْعَفُ،

أَمَّا بَيَانُ نَصِّ أَحْمَدَ فَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا جَوَّزَ الْمُؤَاجَرَةَ بِبَعْضِ الزَّرْعِ، اسْتِدْلَالًا بِقِصَّةِ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ خَيْبَرَ، وَمُعَامَلَتُهُ لَهُمْ إنَّمَا كَانَتْ مُزَارَعَةً، وَلَمْ تَكُنْ بِلَفْظٍ لَمْ يُنْقَلْ وَيَمْنَعْ فِعْلَهُ بِاللَّفْظِ الْمَشْهُورِ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَارَطَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَدْفَعْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَذْرًا، فَإِذَا كَانَتْ الْمُعَامَلَةُ الَّتِي فَعَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانُوا يَبْذُرُونَ فِيهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَا أَحْمَدُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ، ثُمَّ يَقِيسَ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، ثُمَّ يَمْنَعُ الْأَصْلَ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ مِنْ الْمُزَارَعَةِ الَّتِي بَذَرَ فِيهَا الْعَامِلُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ، لِلْيَهُودِ: «نُقِرُّكُمْ فِيهَا مَا أَقَرَّكُمْ» ، لَمْ يَشْتَرِطْ مُدَّةً مَعْلُومَةً حَتَّى قَالَ: كَانَتْ إجَارَةً لَازِمَةً. لَكِنَّ أَحْمَدَ حَيْثُ قَالَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْبَذْرِ مِنْ الْمِلْكِ، فَإِنَّمَا قَالَهُ مُتَابَعَةً لِمَنْ أَوْجَبَهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَإِذَا أَفْتَى الْعَالِمُ بِقَوْلِ الْحُجَّةِ وَلَهَا مُعَارِضٌ رَاجِحٌ لَمْ يَسْتَحْضِرْهَا حِينَئِذٍ ذَلِكَ الْمُعَارِضُ الرَّاجِحُ، ثُمَّ لَمَّا أَفْتَى بِجَوَازِ الْمُؤَاجَرَةِ بِثُلُثِ الزَّرْعِ اسْتِدْلَالًا بِمُزَارَعَةِ خَيْبَرَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي خَيْبَرَ كَانَ الْبَذْرُ عِنْدَهُ مِنْ الْعَامِلِ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال، فَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّ أَحْمَدَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُؤَاجَرَةِ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ وَبَيْنَ الْمُزَارَعَةِ بِبَذْرِ الْعَامِلِ، كَمَا فَرَّقَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَمُسْتَنَدُ هَذَا الْفَرْقِ لَيْسَ مَأْخَذًا شَرْعِيًّا، فَإِنَّ أَحْمَدَ لَا يَرَى اخْتِلَافَ أَحْكَامِ الْعُقُودِ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ، كَمَا يَرَاهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ وَيَمْنَعُونَهَا بِلَفْظِ الْمُزَارَعَةِ، وَكَذَلِكَ يُجَوِّزُونَ بَيْعَ مَا فِي الذِّمَّةِ بَيْعًا حَلَالًا بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَيَمْنَعُونَهُ بِلَفْظِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ سَلَمًا حَالًّا. وَنُصُوصُ أَحْمَدَ وَأُصُولُهُ تَأْبَى هَذَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ فِي مَسْأَلَةِ مَبِيعِ الْعُقُودِ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ بِالْمَعَانِي لَا يُحْمَلُ عَلَى الْأَلْفَاظِ، كَمَا يَشْهَدُ بِهِ أَجْوِبَتُهُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالْوَصَايَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا فَرَّقَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَكُونُ هَذَا التَّفْرِيقُ رِوَايَةً عَنْهُ مَرْجُوحَةً، كَالرِّوَايَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ. أَمَّا الدَّلِيلُ: عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ: فَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ.

أَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَمَا دَفَعَ إلَيْهِمْ بَذْرًا، وَكَمَا عَامَلَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَنْصَارَ عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ حَكِيمٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَعْمَلَ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ فَأَعْطَاهُ الْعِنَبَ وَالنَّخْلَ عَلَى أَنَّ لِعُمَرَ الثُّلُثَانِ وَلَهُمْ الثُّلُثُ، وَأَعْطَاهُ الْبَيَاضَ إنْ كَانَ الْبَقَرُ وَالْبَذْرُ وَالْحَدِيدُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ فَلِعُمَرَ الثُّلُثَانِ وَلَهُمْ الثُّلُثُ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ فَلِعُمَرَ الشَّطْرُ وَلَهُمْ الشَّطْرُ، فَهَذَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ عَامِلُهُ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَمِلَ خِلَافَهُ بِتَجْوِيزِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ، أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَامِلِ. وَقَالَ حَرْبٌ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ حُضَيْرٍ عَنْ صَخْرِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ خَلِيعٍ الْمُحَارِبِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: إنَّ فُلَانًا أَخَذَ أَرْضًا فَعَمِلَ فِيهَا وَفَعَلَ فِيهَا، فَدَعَاهُ عَلِيٌّ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي أَخَذْت، قَالَ: أَرْضٌ أَخَذْتهَا أُكْرِيَ أَنْهَارَهَا، وَأَعْمُرُهَا، وَأَزْرَعُهَا، فَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ فَلِي النِّصْفُ وَلَهُ النِّصْفُ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهَذَا. فَظَاهِرُهُ أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَيَكْفِي إطْلَاقُ سُؤَالِهِ وَإِطْلَاقُ عَلِيٍّ الْجَوَابَ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ نَوْعٌ مِنْ الشَّرِكَةِ لَيْسَتْ مِنْ الْإِجَارَةِ الْخَاصَّةِ وَإِنْ جُعِلَتْ إجَارَةً؛ فَهِيَ مِنْ الْإِجَارَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا الْجَعَالَةُ وَالسَّبْقُ وَالرَّمْيُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْبَذْرَ فِي الْمُزَارَعَةِ لَيْسَ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي يَرْجِعُ إلَى رَبِّهَا كَالثَّمَنِ فِي الْمُضَارَبَةِ، بَلْ الْبَذْرُ يَتْلَفُ كَمَا تَتْلَفُ الْمَنَافِعُ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْأَرْضُ أَوْ بَدَنُ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ، فَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِثْلَ رَأْسِ الْمَالِ، لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَرْجِعَ مِثْلُهُ إلَى مَخْرَجِهِ ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ يَشْتَرِكَانِ فِي جَمِيعِ الزَّرْعِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْأُصُولَ فِيهَا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ هِيَ الْأَرْضُ بِمَائِهَا وَهَوَائِهِمْ وَبَدَنِ الْعَامِلِ وَالْبَقَرِ، وَأَكْثَرُ الْحَرْثِ وَالْبَذْرِ يَذْهَبُ كَمَا تَذْهَبُ الْمَنَافِعُ وَكَمَا يَذْهَبُ أَجْزَاءٌ مِنْ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالتُّرَابِ فَيَسْتَحِيلُ زَرْعًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ الزَّرْعَ مِنْ نَفْسِ الْحَبِّ وَالتُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ، كَمَا يَخْلُقُ الْحَيَوَانَ مِنْ مَاءِ الْأَبَوَيْنِ، بَلْ مَا يَسْتَحِيلُ فِي

الزَّرْعِ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ مِنْ الْحَبِّ، وَالْحَبُّ يَسْتَحِيلُ فَلَا يَبْقَى، بَلْ يَخْلُقُهُ اللَّهُ وَيُحِيلُهُ كَمَا يُحِيلُ أَجْزَاءً مِنْ الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ، وَكَمَا يُحِيلُ الْمَنِيَّ وَسَائِرَ مَخْلُوقَاتِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْمَعْدِنِ وَالنَّبَاتِ، وَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْ رَأْيِ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْحَبَّ وَالنَّوَى فِي الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْبَاقِي تَبَعٌ حَتَّى قَضَوْا فِي مَوَاضِعَ بِأَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ وَالشَّجَرُ لِرَبِّ النَّوَى وَالْحَبُّ، مَعَ قِلَّةِ قِيمَتِهِ وَلِرَبِّ الْأَرْضِ أُجْرَةُ أَرْضِهِ. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا قَضَى بِضِدِّ هَذَا حَيْثُ قَالَ: «مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ شَيْءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ» . فَأَخَذَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَبَعْضُ مَنْ أَخَذَ بِهِ يَرَى أَنَّهُ خِلَافُ الْقِيَاسِ وَأَنَّهُ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِحْسَانِ، وَهَذَا لِمَا انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْقِيَاسِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ أَنَّ الزَّرْعَ تَبَعٌ لِلْبَذْرِ وَالشَّجَرَ تَبَعٌ لِلنَّوَى، وَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ، فَإِنَّ إلْقَاءَ الْحَبِّ فِي الْأَرْضِ يُعَادِلُهُ إلْقَاءُ الْمَنِيِّ فِي الرَّحِمِ سَوَاءٌ. وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ النِّسَاءَ حَرْثًا فِي قَوْلِهِ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223] كَمَا سَمَّى الْأَرْضَ الْمَزْرُوعَةَ حَرْثًا، وَالْمُغَلَّبُ فِي مِلْكِ الْحَيَوَانِ إنَّمَا هُوَ جَانِبُ الْأُمِّ، وَلِهَذَا يَتْبَعُ الْوَلَدُ الْآدَمِيُّ أُمَّهُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ دُونَ أَبِيهِ، وَيَكُونُ جَنِينُ الْبَهِيمَةِ لِمَالِكِ الْأُمِّ دُونَ الْعِجْلِ الَّذِي نَهَى عَنْ عَسْبِهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي اسْتَمَدَّهَا مِنْ الْأُمِّ أَضْعَافُ الْأَجْزَاءِ الَّتِي اسْتَمَدَّهَا مِنْ الْأَبِ، وَإِنَّمَا لِلْأَبِ حَقُّ الِابْتِدَاءِ فَقَطْ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ الْحَبُّ وَالنَّوَى، فَإِنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا الشَّجَرُ وَالزَّرْعُ أَكْثَرُهَا مِنْ التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ، وَقَدْ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ فَيَضْعُفُ بِالزَّرْعِ فِيهَا، لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَجْزَاءُ تَسْتَخْلِفُ دَائِمًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَزَالُ يَمُدُّ الْأَرْضَ بِالْمَاءِ وَبِالْهَوَاءِ وَبِالتُّرَابِ، إمَّا مُسْتَحِيلًا مِنْ غَيْرِهِ وَإِمَّا بِالْمَوْجُودِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَرْضِ بَعْضُ الْأَجْزَاءِ التُّرَابِيَّةِ شَيْئًا إمَّا لِلْخَلَفِ بِالِاسْتِحَالَةِ وَإِمَّا لِلْكَثْرَةِ. وَلِهَذَا صَارَ يَظْهَرُ أَنَّ أَجْزَاءَ الْأَرْضِ فِي مَعْنَى الْمَنَافِعِ بِخِلَافِ الْحَبِّ وَالنَّوَى

الْمُلْقَى فِيهَا، فَإِنَّهُ عَيْنٌ ذَاهِبَةٌ مُتَخَلِّفَةٌ وَلَا يُعَوَّضُ عَنْهَا، لَكِنْ هَذَا الْقَدْرُ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ هُوَ الْأَصْلُ فَقَطْ، فَإِنَّ الْعَامِلَ هُوَ وَبَقَرُهُ لَا بُدَّ لَهُ مُدَّةَ الْعَمَلِ مِنْ قُوتٍ وَعَلَفٍ يَذْهَبُ أَيْضًا وَرَبُّ الْأَرْضِ لَا يَحْتَاجُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ لَا يَرْجِعُ إلَى رَبِّهِ كَمَا يَرْجِعُ فِي الْقِرَاضِ، وَلَوْ جَرَى عِنْدَهُمْ مَجْرَى الْأُصُولِ لَرَجَعَ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أُصُولٍ بَاقِيَةٍ، وَهِيَ: الْأَرْضُ، وَبَدَنُ الْعَامِلِ، وَالْبَقَرُ، وَالْحَدِيدُ، وَمَنَافِعُ فَانِيَةٌ، وَأَجْزَاءُ فَانِيَةٌ أَيْضًا، وَهِيَ الْبَذْرُ، وَبَعْضُ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، وَبَعْضُ أَجْزَاءِ الْعَامِلِ وَبَقَرِهِ. فَهَذِهِ الْأَجْزَاءُ الْفَانِيَةُ كَالْمَنَافِعِ الْفَانِيَةِ سَوَاءٌ، فَتَكُونُ الْخِيرَةُ إلَيْهِمَا فِيمَنْ يُبَدِّلُ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ وَيَشْتَرِكَانِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَ مَا لَمْ يُفِضْ إلَى بَعْضِ مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ أَوْ الرِّبَا وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَلِهَذَا جَوَّزَ أَحْمَدُ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْمُشَارَكَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ، مِثْلُ أَنْ يَدْفَعَ دَابَّتَهُ أَوْ سَفِينَتَهُ أَوْ غَيْرَهُمَا إلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهِمَا وَالْأُجْرَةُ بَيْنَهُمَا. فَصْلٌ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْإِشَارَةِ إلَى حِكْمَةِ بَيْعِ الْغَرَرِ وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ يَجْمَعُ النَّشْرَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ، فَإِنَّك تَجِدُ كَثِيرًا مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ إمَّا أَنْ يَتَمَسَّكَ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ أَلْفَاظٍ يَظُنُّهَا عَامَّةً أَوْ مُطْلَقَةً أَوْ يَضْرِبُ مِنْ الْقِيَاسِ الْمَعْنَوِيِّ أَوْ الشَّبَهِيِّ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَحْمَدَ حَيْثُ يَقُولُ يَنْبَغِي لِلْمُتَكَلِّمِ فِي الْفِقْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ الْمُجْمَلِ وَالْقِيَاسِ، ثُمَّ هَذَا التَّمَسُّكُ يُفْضِي إلَى مَا يُمْكِنُ اتِّبَاعُهُ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا الْبَابُ بَيْعُ الدُّيُونِ دَيْنِ السِّلْمِ وَغَيْرِهِ وَأَنْوَاعٍ مِنْ الصُّلْحِ وَالْوَكَالَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَوْلَا أَنَّ الْغَرَضَ ذِكْرُ قَوَاعِدَ كُلِّيَّةٍ تَجْمَعُ أَبْوَابًا لَذَكَرْنَا أَنْوَاعًا مِنْ هَذَا.

القاعدة الثالثة في العقود والشروط فيها فيما يحل منها ويحرم

[الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوط فِيهَا فِيمَا يَحِلُّ مِنْهَا وَيَحْرُمُ] ُ وَمَا يَصِحُّ مِنْهَا وَيَفْسُدُ وَمَسَائِلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَاَلَّذِي يُمْكِنُ ضَبْطُهُ مِنْهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ الْأَصْلُ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فِيهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، الْحَظْرُ. إلَّا مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِجَازَتِهِ. فَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَكَثِيرٌ مِنْ أُصُولِ أَبِي حَنِيفَةَ تُبْنَى عَلَى هَذَا، وَكَثِيرٌ مِنْ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ، وَأُصُولِ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَدْ يُعَلِّلُ أَحْيَانًا بُطْلَانَ الْعَقْدِ بِكَوْنِهِ لَمْ يَرِدْ بِهِ أَثَرٌ، وَلَا قِيَاسَ كَمَا قَالَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ قَدْ يُعَلِّلُونَ فَسَادَ الشُّرُوطِ بِأَنَّهَا تُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَيَقُولُونَ مَا خَالَفَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَهُوَ بَاطِلٌ، أَمَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ فَلَمْ يُصَحِّحُوا، لَا عَقْدًا، وَلَا شَرْطًا إلَّا مَا ثَبَتَ جَوَازُهُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ جَوَازُهُ أَبْطَلُوهُ، وَاسْتَصْحَبُوا الْحُكْمَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَطَرَدُوا ذَلِكَ طَرْدًا جَارِيًا، لَكِنْ خَرَجُوا فِي كَثِيرٍ مِنْهُ إلَى أَقْوَالٍ يُنْكِرُهَا عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأُصُولُهُ تَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُصَحِّحُ فِي الْعُقُودِ شَرْطًا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهَا الْمُطْلَقَ، وَإِنَّمَا يُصَحِّحُ الشَّرْطَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ الْعَقْدُ مِمَّا يُمْكِنُ فَسْخُهُ، وَلِهَذَا لَهُ أَنْ يَشْرِطَ فِي الْبَيْعِ خِيَارًا وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ تَأْخِيرُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِحَالٍ. وَلِهَذَا مُنِعَ بَيْعُ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ، وَإِذَا ابْتَاعَ شَجَرًا عَلَيْهِ ثَمَرٌ لِلْبَائِعِ فَلَهُ مُطَالَبَتُهُ بِإِزَالَتِهِ، وَإِنَّمَا جَوَّزَ الْإِجَارَةَ الْمُؤَخَّرَةَ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عِنْدَهُ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ، أَوْ عِتْقِ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ، أَوْ الِانْتِفَاعِ بِهِ، أَوْ يَشْرِطُ الْمُشْتَرِي بَقَاءَ الثَّمَرِ عَلَى

الشَّجَرِ، وَسَائِرَ الشُّرُوطِ الَّتِي يُبْطِلُهَا غَيْرُهُ، وَلَمْ يُصَحِّحْ فِي النِّكَاحِ شَرْطًا أَصْلًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ عِنْدَهُ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ. لِهَذَا لَا يَنْفَسِخُ عِنْدَهُ بِعَيْبٍ أَوْ إعْسَارٍ وَنَحْوِهِمَا، وَلَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا صَحَّحَ أَبُو حَنِيفَةَ خِيَارَ الثَّلَاثِ لِلْأَثَرِ، وَهُوَ عِنْدَهُ مَوْضِعُ اسْتِحْسَانٍ، وَالشَّافِعِيُّ يُوَافِقُهُ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ خَالَفَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَهُوَ بَاطِلٌ، لَكِنَّهُ يُسْتَثْنَى مَوَاضِعُ الدَّلِيلِ الْخَاصِّ، فَلَا يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ، وَلَا اسْتِثْنَاءُ مَنْفَعَةِ الْمَبِيعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَأْخِيرُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ حَتَّى مَنَعَ الْإِجَارَةَ الْمُؤَخَّرَةَ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهَا، وَهُوَ الْقَبْضُ لَا يَلِي الْعَقْدَ، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا مَا فِيهِ مَنْعُ الْمُشْتَرِي مِنْ التَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ إلَّا الْعِتْقُ لِمَا فِيهِ مِنْ السُّنَّةِ وَالْمَعْنَى، وَلَكِنَّهُ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْمَنْفَعَةِ بِالشَّرْعِ، كَبَيْعِ الْعَيْنِ الْمُؤَخَّرَةِ عَلَى الصَّحِيحِ فِي مَذْهَبِهِ، وَكَبَيْعِ الشَّجَرِ مَعَ اسْتِبْقَاءِ الثَّمَرَةِ الْمُسْتَحِقَّةِ الْبَقَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَيَجُوزُ فِي النِّكَاحِ بَعْضُ الشُّرُوطِ دُونَ بَعْضٍ، وَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهَا دَارَهَا، أَوْ بَلَدَهَا، أَوْ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَلَا يَتَسَرَّى، وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ حُرِّيَّتِهَا وَإِسْلَامِهَا وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصِّفَاتِ الْمَقْصُودَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِهِ كَالْجَمَالِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ مِمَّنْ يَرَى فَسْخَ النِّكَاحِ بِالْعَيْبِ وَالْإِعْسَارِ، وَانْفِسَاخَهُ بِالشُّرُوطِ الَّتِي تُنَافِيهِ، وَكَاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ وَالطَّلَاقِ وَكَنِكَاحِ الشِّغَارِ بِخِلَافِ فَسَادِ الْمَهْرِ وَنَحْوِهِ. وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ يُوَافِقُونَ الشَّافِعِيَّ عَلَى مَعَانِي هَذِهِ الْأُصُولِ، لَكِنَّهُمْ يَسْتَثْنُونَ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَثْنِيهِ الشَّافِعِيُّ، كَالْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ، وَكَاسْتِثْنَاءِ الْبَائِعِ مَنْفَعَةَ الْمَبِيعِ، وَاشْتِرَاطِ الْمَرْأَةِ أَنْ لَا يَنْقُلَهَا، وَأَنْ لَا يُزَاحِمَهَا بِغَيْرِهَا، وَذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ فَيَقُولُونَ: كُلُّ شَرْطٍ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، إلَّا إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْعَاقِدِ. وَذَلِكَ أَنَّ نُصُوصَ أَحْمَدَ تَقْتَضِي أَنَّهُ جَوَّزَ مِنْ الشُّرُوطِ فِي الْعُقُودِ أَكْثَرَ مِمَّا جَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ فَقَدْ يُوَافِقُونَهُ فِي الْأَصْلِ وَيَسْتَثْنُونَ لِلْمُعَارِضِ أَكْثَرَ مِمَّا اُسْتُثْنِيَ، كَمَا قَدْ يُوَافِقُ هُوَ أَبَا حَنِيفَةَ وَيَسْتَثْنِي أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَثْنِي لِلْمُعَارِضِ، وَهَؤُلَاءِ الْفِرَقُ الثَّلَاثَةُ يُخَالِفُونَ أَهْلَ الظَّاهِرِ، وَيَتَوَسَّعُونَ فِي الشُّرُوطِ أَكْثَرَ مِنْهُمْ لِقَوْلِهِمْ بِالْقِيَاسِ وَالْمَعَانِي وَآثَارِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلِمَا قَدْ يَفْهَمُونَهُ مِنْ مَعَانِي النُّصُوصِ الَّتِي يَنْفَرِدُونَ بِهَا عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَيَتَوَسَّعُونَ فِي الشُّرُوطِ أَكْثَرَ مِنْهُمْ. وَعُمْدَةُ هَؤُلَاءِ قِصَّةُ بَرِيرَةَ الْمَشْهُورَةُ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ؛ عَنْ عَائِشَةَ

قَالَتْ: جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي، فَقَالَتْ: إنْ أَحَبَّ أَهْلُك أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ وَيَكُونَ وَلَاؤُك لِي فَعَلْتُ، فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إلَى أَهْلِهَا، فَقَالَتْ لَهُمْ: فَأَبَوْا عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ، فَقَالَتْ إنِّي قَدْ عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَبَوْا إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْوَلَاءُ، فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «اشْتَرِيهَا فَاعْتِقِيهَا وَلْيَشْتَرِطُوا مَا شَاءُوا» . فَاشْتَرَتْهَا فَأَعْتَقَتْهَا وَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلَاءَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَإِنْ اشْتَرَطُوا مِائَةَ شَرْطٍ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً فَتُعْتِقَهَا، فَقَالَ أَهْلُهَا: نَبِيعُهَا عَلَى أَنَّ وَلَاءَهَا لَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «لَا يَمْنَعُك ذَلِكَ فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَرَادَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً تُعْتِقُهَا، فَأَبَى أَهْلُهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْوَلَاءُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «لَا يَمْنَعُك ذَلِكَ فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَلَهُمْ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّتَانِ: إحْدَاهُمَا: قَوْلُهُ مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، فَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي الْحَدِيثِ، وَلَا فِي الْإِجْمَاعِ فَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، بِخِلَافِ مَا كَانَ فِي السُّنَّةِ أَوْ فِي الْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِوَاسِطَةِ دَلَالَتِهِ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَمَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ وَهُمْ الْجُمْهُورُ قَالُوا إذَا دَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ الْقِيَاسُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِالسُّنَّةِ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِكِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ.

وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ يَقِيسُونَ جَمِيعَ الشُّرُوطِ الَّتِي تُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ كَوْنُهُ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ تُوجِبُ مُقْتَضَيَاتِهَا بِالشَّرْعِ، فَإِذًا إرَادَةُ تَغْيِيرِهَا تَغْيِيرٌ لِمَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ بِمَنْزِلَةِ تَغْيِيرِ الْعِبَادَاتِ، وَهَذَا نُكْتَةُ الْقَاعِدَةِ، وَهِيَ أَنَّ الْعُقُودَ مَشْرُوعَةٌ عَلَى وَجْهٍ، فَاشْتِرَاطُ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهَا تَغْيِيرٌ لِلْمَشْرُوعِ. وَلِهَذَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لَا يُجَوِّزُونَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الْعِبَادَاتِ شَرْطًا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهَا، فَلَا يُجَوِّزُونَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشْتَرِطَ الْإِحْلَالَ بِالْعُذْرِ مُتَابَعَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، حَيْثُ كَانَ يُنْكِرُ الِاشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ، وَيَقُولُ أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَقَدْ اسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] . وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] . {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] . قَالُوا: فَالشُّرُوطُ وَالْعُقُودُ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ وَزِيَادَةٌ فِي الدِّينِ، وَمَا أَبْطَلَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى جَوَازِهَا بِالْعُمُومِ أَوْ بِالْخُصُوصِ قَالُوا ذَلِكَ مَنْسُوخٌ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي شُرُوطِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، أَوْ قَالُوا هَذَا عَامٌّ أَوْ مُطْلَقٌ فَيُخَصُّ بِالشُّرُوطِ الَّتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثٍ يُرْوَى فِي حِكَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَشَرِيكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ، وَقَدْ ذَكَرَهُ جَمَاعَاتٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْفِقْهِ، وَلَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ، وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ تُعَارِضُهُ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ الْمَعْرُوفُونَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ أَعْلَمُهُ عَنْ غَيْرِهِمْ أَنَّ اشْتِرَاطَ صِفَةٍ فِي الْمَبِيعِ وَنَحْوِهِ كَاشْتِرَاطِ كَوْنِ الْعَبْدِ كَاتِبًا أَوْ صَانِعًا، أَوْ اشْتِرَاطِ طُولِ الثَّوْبِ أَوْ قَدْرِ الْأَرْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ شَرْطٌ صَحِيحٌ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ الْجَوَازُ وَالصِّحَّةُ، وَلَا يَحْرُمُ وَيَبْطُلُ مِنْهَا إلَّا مَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَإِبْطَالِهِ نَصٌّ، أَوْ قِيَاسٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ، وَأُصُولُ أَحْمَدَ

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمَنْصُوصُ عَنْهُ أَكْثَرُهَا تَجْرِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَمَالِكٌ قَرِيبٌ مِنْهُ لَكِنَّ أَحْمَدَ أَكْثَرُ تَصْحِيحًا لِلشُّرُوطِ فَلَيْسَ فِي الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَكْثَرُ تَصْحِيحًا لِلشُّرُوطِ مِنْهُ. وَعَامَّةُ مَا يُصَحِّحُهُ أَحْمَدُ مِنْ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فِيهَا تَنْبِيهٌ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ مِنْ أَثَرٍ أَوْ قِيَاسٍ، لَكِنَّهُ لَا يَجْعَلُ حُجَّةَ الْأَوَّلِينَ مَانِعًا مِنْ الصِّحَّةِ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ شَرْطًا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ مِنْ الْآثَارِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ مَا لَمْ يَجِدْهُ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ، فَقَالَ بِذَلِكَ وَبِمَا فِي مَعْنَاهُ قِيَاسًا عَلَيْهِ، وَمَا اعْتَمَدَهُ غَيْرُهُ فِي إبْطَالِ الشُّرُوطِ مِنْ نَصٍّ فَقَدْ يُضَعِّفُهُ أَوْ يُضَعِّفُ دَلَالَتَهُ، وَكَذَلِكَ قَدْ يُضَعِّفُ مَا اعْتَمَدُوهُ مِنْ قِيَاسٍ، وَقَدْ يَعْتَمِدُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا فِي تَصْحِيحِ الشُّرُوطِ. كَمَسْأَلَةِ الْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ مُطْلَقًا، وَمَالِكٌ يُجَوِّزُهُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يُجَوِّزُ شَرْطَ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا وَيُجَوِّزُهُ ابْنُ حَامِدٍ وَغَيْرُهُ فِي الضَّمَانِ وَنَحْوِهِ. وَيُجَوِّزُ أَحْمَدُ اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ مَنْفَعَةِ الْخَارِجِ مِنْ مِلْكِهِ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ، وَاشْتِرَاطِ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى مُقْتَضَاهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَإِذَا كَانَ لَهَا مُقْتَضًى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ جَوَّزَ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ وَالْبَعْضُ مِنْهُ بِالشَّرْطِ مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ مُخَالَفَةَ الشَّرْعِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ بَعْضَ مَنْفَعَةِ الْمَبِيعِ، كَخِدْمَةِ الْعَبْدِ وَسُكْنَى الدَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةُ مِمَّا يَجُوزُ اسْتِبْقَاؤُهَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، اتِّبَاعًا لِحَدِيثِ جَابِرٍ لَمَّا بَاعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَلَهُ وَاسْتَثْنَى ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ. وَيَجُوزُ أَيْضًا لِلْمُعْتِقِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ خِدْمَةَ الْعَبْدِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ أَوْ حَيَاةِ السَّيِّدِ أَوْ غَيْرِهِمَا اتِّبَاعًا لِحَدِيثِ سَفِينَةَ لَمَّا أَعْتَقَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ، وَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ خِدْمَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عَاشَ، وَجُوِّزَ عَلَى عَامَّةِ أَقْوَالِهِ أَنْ يُعْتِقَ أَمَتَهُ وَيَجْعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ صَفِيَّةَ وَكَمَا فَعَلَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ وَإِنْ لَمْ تَرْضَ الْمَرْأَةُ، كَأَنَّهُ أَعْتَقَهَا وَاسْتَثْنَى مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ لَكِنَّهُ اسْتَثْنَاهَا بِالنِّكَاحِ، إذْ اسْتِثْنَاؤُهَا بِلَا نِكَاحٍ غَيْرُ جَائِزٍ بِخِلَافِ مَنْفَعَةِ الْخِدْمَةِ، وَجُوِّزَ أَيْضًا لِلْوَاقِفِ إذَا وَقَفَ شَيْئًا أَنْ يَسْتَثْنِيَ مَنْفَعَةً عَلَيْهِ جَمِيعَهَا لِنَفْسِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ. كَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ، وَفِيهِ رُوِيَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَلْ يَجُوزُ وَقْفُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ.

وَيَجُوزُ أَيْضًا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ اسْتِثْنَاءِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ وَالصَّدَاقِ وَفِدْيَةِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ إخْرَاجِ الْمِلْكِ، سَوَاءٌ كَانَ بِإِسْقَاطٍ كَالْعِتْقِ أَوْ بِأَمْلَاكٍ بِعِوَضٍ كَالْبَيْعِ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْهِبَةِ، وَيُجَوِّزُ أَحْمَدُ أَيْضًا فِي النِّكَاحِ عَامَّةَ الشُّرُوطِ الَّتِي لِلْمُشْتَرِطِ فِيهَا غَرَضٌ صَحِيحٌ، لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» . وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ إنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الشُّرُوطَ فِي النِّكَاحِ أَوْكَدُ مِنْهَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِ مَنْ يُصَحِّحْ الشُّرُوطَ فِي الْبَيْعِ دُونَ النِّكَاحِ ، فَيُجَوِّزُ أَحْمَدُ أَنْ تَشْتَرِطَ الْمَرْأَةُ مَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ بِالْإِطْلَاقِ فَتَشْتَرِطُ أَنْ لَا تُسَافِرَ مَعَهُ، وَلَا تَنْتَقِلَ مِنْ دَارِهَا، وَتَزْدَادُ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ بِالْإِطْلَاقِ، فَتَشْرِطُ أَنْ تَكُونَ مُخْلِيَةً بِهِ فَلَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا، وَلَا يَشْتَرِطُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ فِي الْآخَرِ صِفَةً مَقْصُودَةً كَالْيَسَارِ وَالْجَمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَمْلِكُ الْفَسْخَ بِفَوَاتِهِ، وَهُوَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ قَوْلًا بِفَسْخِ النِّكَاحِ وَانْفِسَاخِهِ فَيُجَوِّزُ فَسْخَهُ بِالْعَيْبِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا، وَقَدْ شَرَطَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَبِالتَّدْلِيسِ كَمَا لَوْ ظَنَّهَا حُرَّةً فَبَانَتْ أَمَةً وَبِالْحَلِفِ فِي الصِّفَةِ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا لَوْ شَرَطَ الزَّوْجُ أَنَّ لَهُ مَالًا وَظَهَرَ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ. وَيَنْفَسِخُ عِنْدَهُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ الْمُنَافِيَةِ لِمَقْصُودِهِ كَالتَّوْقِيعِ وَاشْتِرَاطِ الطَّلَاقِ، وَهَلْ يَبْطُلُ بِفَسَادِ الْمَهْرِ، كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فِيهِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَنِكَاحِ الشِّغَارِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ. وَالثَّانِيَةُ: لَا؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ وَهُوَ عَقْدٌ مُفْرَدٌ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرُ نُصُوصِهِ تُجَوِّزُ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِعْلٌ أَوْ تَرْكٌ فِي الْمَبِيعِ مِمَّا هُوَ مَقْصُودٌ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمَبِيعِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ لَا يُجَوِّزُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْعِتْقَ، وَقَدْ يُرْوَى ذَلِكَ عَنْهُ لَكِنْ الْأَوَّلُ أَكْثَرُ فِي كَلَامِهِ، فَفِي جَامِعِ الْخَلَّالِ، عَنْ أَبِي طَالِبٍ، سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً، فَشَرَطَ أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا تَكُونُ جَارِيَةً نَفِيسَةً يُحِبُّ أَهْلُهَا أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا، وَلَا تَكُونُ لِلْخِدْمَةِ، قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ مَرْثَأٌ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ جَارِيَةً، فَقَالَ لَهُ: إذَا

أَرَدْتَ بَيْعَهَا فَأَنَا أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي تَأْخُذُهَا بِهِ مِنِّي، قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يَطَؤُهَا وَلَا يَقْرَبُهَا وَلَهُ فِيهَا شَرْطٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ لِرَجُلٍ: لَا يَقْرَبَنَّهَا وَلِلْآخَرِ فِيهَا شَرْطٌ. وَقَالَ حَنْبَلٌ: حَدَّثَنَا عَفَّانَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ اشْتَرَى جَارِيَةً مِنْ امْرَأَتِهِ، وَشَرَطَ لَهَا إنْ بَاعَهَا فَهِيَ لَهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا، فَسَأَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: لَا يَنْكِحُهَا وَفِيهَا شَرْطٌ. قَالَ حَنْبَلٌ: قَالَ عُمَرُ: كُلُّ شَرْطٍ فِي فَرْجٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا. وَالشَّرْطُ الْوَاحِدُ فِي الْبَيْعِ جَائِزٌ إلَّا أَنَّ عُمَرَ كَرِهَ لِابْنِ مَسْعُودٍ أَنْ يَطَأَهَا،؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لِامْرَأَتِهِ الَّذِي شَرَطَ فَكَرِهَ عُمَرُ أَنْ يَطَأَهَا وَفِيهَا شَرْطٌ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً وَشَرَطَ لِأَهْلِهَا أَنْ لَا يَبِيعَ وَلَا يَهَبَ فَكَأَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ، وَلَكِنَّهُمْ إنْ اشْتَرَطُوا لَهُ إنْ بَاعَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ فَلَا يَقْرَبُهَا، يَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَقَدْ نَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْبَائِعُ بَيْعَهَا لَمْ يَمْلِكْ إلَّا رَدَّهَا إلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَالْمُقَابَلَةِ. وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُبْطِلِ لِهَذَا الشَّرْطِ، وَرُبَّمَا تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: جَائِزٌ أَيْ الْعَقْدُ جَائِزٌ وَبَقِيَّةُ نُصُوصِهِ تُصَرِّحُ بِأَنَّ مُرَادَهُ الشَّرْطُ أَيْضًا، وَاتَّبَعَ فِي ذَلِكَ الْقِصَّةَ الْمَأْثُورَةَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّلَاثَةُ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَكَذَلِكَ اُشْتُرِطَ الْمَبِيعُ فَلَا يَبِيعُهُ وَلَا يَهَبُهُ أَوْ يَتَسَرَّاهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ يُعَيَّنُ لِصَرْفٍ وَاحِدٍ، كَمَا رَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ صُهَيْبٍ دَارًا، وَشَرَطَ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى صُهَيْبٍ وَذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّ الْمِلْكَ يُسْتَفَادُ بِهِ تَصَرُّفَاتٌ مُتَنَوِّعَةٌ. فَكَمَا أَجَازَ الْإِجْمَاعُ اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ الْمَبِيعِ، وَجَوَّزَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ مَنَافِعِهِ جَوَّزَ أَيْضًا اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ. وَعَلَى هَذَا فَمَنْ قَالَ هَذَا الشَّرْطُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ مُطْلَقًا فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ فَكُلُّ شَرْطٍ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ الثَّانِيَ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ، وَإِنَّمَا الْمَحْذُورُ أَنْ يُنَافِيَ مَقْصُودَ الْعَقْدِ كَاشْتِرَاطِ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ، أَوْ اشْتِرَاطِ الْفَسْخِ فِي الْعَقْدِ.

فَأَمَّا إذَا شَرَطَ شَرْطًا بِقَصْدٍ بِالْعَقْدِ لَمْ يُنَافِ مَقْصُودَهُ، هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ، بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالِاعْتِبَارُ مَعَ الِاسْتِصْحَابِ وَالدَّلِيلِ النَّافِي. أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وَالْعُقُودُ هِيَ الْعُهُودُ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام: 152] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} [الإسراء: 34] . وَقَالَ: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا} [الأحزاب: 15] . فَقَدْ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَهَذَا عَامٌّ، وَكَذَلِكَ أَمَرَنَا بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ وَبِالْعَهْدِ وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ مَا عَقَدَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا} [الأحزاب: 15] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَهْدَ اللَّهِ يَدْخُلُ فِيهِ مَا عَقَدَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَمَرَ بِنَفْسِ ذَلِكَ الْعُهُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَهْدِ وَالنَّذْرِ وَالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْوَفَاءِ بِهِ، وَلِهَذَا قَرَنَهُ بِالصِّدْقِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام: 152] ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ فِي الْقَوْلِ خَبَرٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ يَكُونُ فِي الْقَوْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 76] {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] . وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] . وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ كَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِ تَسَاءَلُونَ بِهِ تَتَعَاهَدُونَ وَتَتَعَاقَدُونَ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَطْلُبُ مِنْ الْآخَرِ مَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْعٍ

وَنَحْوِ ذَلِكَ وَجَمَعَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَسَائِرِ السُّورَةِ أَحْكَامَ الْأَسْبَابِ الَّتِي بَيْنَ بَنِي آدَمَ الْمَخْلُوقَةِ، كَالرَّحِمِ وَالْمَكْسُوبَةِ كَالْعُقُودِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا الْمَهْرُ وَمَالُ الْيَتِيمِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ - وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} [النحل: 91 - 92] . إلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ} [النحل: 94] وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ، وَكُلُّ عَقْدٍ فَإِنَّهُ يَمِينٌ، قِيلَ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْقِدُونَهُ بِالْمُصَافَحَةِ بِالْيَمِينِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4] إلَى قَوْلِهِ: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً} [التوبة: 8] وَإِلًّا هُوَ الْقَرَابَةُ وَالذِّمَّةُ الْعَهْدُ، وَهُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي قَوْلِهِ: {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] إلَى قَوْلِهِ: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً} [التوبة: 10] ، فَذَمَّهُمْ عَلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَنَقْضِ الذِّمَّةِ، إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} [التوبة: 12] . وَهَذِهِ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ لَمَّا صَالَحَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، ثُمَّ نَقَضُوا الْعَهْدَ بِإِعَانَةِ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1] فَتِلْكَ عُهُودٌ جَائِزَةٌ لَا لَازِمَةٌ فَإِنَّهَا كَانَتْ مُطْلَقَةً وَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ إمْضَائِهَا وَنَقْضِهَا كَالْوَكَالَةِ وَنَحْوِهَا، وَمَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّ الْهُدْنَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا مُؤَقَّتَةً فَقَوْلُهُ مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأُصُولِ أَحْمَدَ يَرُدُّهُ الْقُرْآنُ وَتَرُدُّهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَكْثَرِ الْمُعَاهَدِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ مَعَهُمْ وَقْتًا. فَأَمَّا مَنْ كَانَ عَهْدُهُ مُؤَقَّتًا فَإِنَّهُ لَمْ يُبَحْ لَهُ نَقْضُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:

{إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4] . وَقَالَ: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7] . وَقَالَ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] . فَإِنَّمَا أَبَاحَ النُّبْذَةَ عِنْدَ ظُهُورِ أَمَارَاتِ الْخِيَانَةِ؛ لِأَنَّهُ الْمَحْذُورُ مِنْ جِهَتِهِمْ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] . وَجَاءَ أَيْضًا فِي صَحِيحٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ الَّذِي تُسْتَحَبُّ تِلَاوَتُهُ فِي سُورَةٍ كَانَتْ كَبَرَاءَةٍ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] . سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ فِي أَعْنَاقِهِمْ فَيُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج: 32] . فِي سُورَتَيْنِ، وَهَذَا مِنْ صِفَةِ الْمُسْتَثْنَيْنَ مِنْ الْهَلُوعِ الْمَذْمُومِ، بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19] {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} [المعارج: 20] {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 21] {إِلا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 22] {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23] {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25] إلَى قَوْلِهِ {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج: 32] ، وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْتَثْنَ مِنْ الْمَذْمُومِ إلَّا مَنْ اتَّصَفَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا إلَّا مَا هُوَ وَاجِبٌ. وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ فِي أَوَّلِهَا: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ - الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون: 10 - 11] . فَمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْوَارِثِينَ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ الْحَصْرُ فَإِنَّ إدْخَالَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ يُشْعِرُ بِالْحَصْرِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَارِثِي الْجَنَّةِ كَانَ مُعَرَّضًا لِلْعُقُوبَةِ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَتْ رِعَايَةُ الْعَهْدِ وَاجِبَةً فَرِعَايَتُهُ

الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَمَّا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الْعَهْدِ وَالْأَمَانَةِ، جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضِدَّ ذَلِكَ صِفَةَ الْمُنَافِقِ فِي قَوْلِهِ: «إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة: 27] . فَذَمَّهُمْ عَلَى نَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ وَقَطْعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فَذَمَّهُمْ عَلَى نَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ، وَقَطْعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِصِلَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إمَّا بِالشَّرْعِ وَإِمَّا بِالشَّرْطِ الَّذِي عَقَدَهُ الْمَرْءُ. وَقَالَ أَيْضًا: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد: 20] {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [الرعد: 21] إلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25] . وَقَالَ: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 177] إلَى قَوْلِهِ: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] إلَى قَوْلِهِ: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76] . وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} [آل عمران: 77] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] . وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَكَثِيرَةٌ مِنْهَا: فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ

فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، أَلَا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرَةً مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: «اُغْزُوا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ اُغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوك، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ اُدْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ» الْحَدِيثَ. فَنَهَاهُمْ عَنْ الْغَدْرِ كَمَا نَهَاهُمْ عَنْ الْغُلُولِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ لَمَّا سَأَلَهُ هِرَقْلُ عَنْ صِفَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ يَغْدِرُ؟ قَالَ: لَا يَغْدِرُ وَنَحْنُ مَعَهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا، قَالَ: وَلَمْ يُمْكِنِّي كَلِمَةً أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا إلَّا هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَقَالَ هِرَقْلُ فِي جَوَابِهِ: سَأَلْتُك هَلْ يَغْدِرُ فَذَكَرْت أَنْ لَا يَغْدِرَ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ، فَجَعَلَ هَذَا صِفَةً لَازِمَةً. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بَعْدَ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الشُّرُوطِ الْوَفَاءُ وَأَنَّ شُرُوطَ النِّكَاحِ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ مِنْ غَيْرِهَا، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ،

وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا ثُمَّ أَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ» ، فَذَمَّ الْغَادِرَ وَكُلَّ مَنْ شَرَطَ شَرْطًا ثُمَّ نَقَضَهُ فَقَدْ غَدَرَ. فَقَدْ جَاءَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَاثِيقِ وَالْعُقُودِ، وَبِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَرِعَايَةِ ذَلِكَ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْغَدْرِ وَنَقْضِ الْعُهُودِ وَالْخِيَانَةِ وَالتَّشْدِيدِ عَلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الْأَصْلُ فِيهَا الْحَظْرَ وَالْفَسَادَ، إلَّا مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْمَرَ بِهَا مُطْلَقًا وَيُذَمَّ مَنْ نَقَضَهَا وَغَدَرَ مُطْلَقًا. كَمَا أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ الْحَظْرَ إلَّا مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ أَوْ أَوْجَبَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْمَرَ بِقَتْلِ النُّفُوسِ وَيُحْمَلَ عَلَى الْقَدْرِ الْمُبَاحِ، بِخِلَافِ مَا كَانَ جِنْسُهُ وَاجِبًا كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ فَيُنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، وَعَنْ الصَّدَقَةِ بِمَا يَضُرُّ النَّفْسَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الصِّدْقُ فِي الْحَدِيثِ مَأْمُورٌ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْرُمُ الصِّدْقُ أَحْيَانًا لِعَارِضٍ، وَيَجِبُ السُّكُوتُ وَالتَّعْرِيضُ، وَإِذَا كَانَ حُسْنُ الْوَفَاءِ وَرِعَايَةُ الْعَهْدِ مَأْمُورًا بِهِ، عُلِمَ أَنَّ الْأَصْلَ صِحَّةُ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ، إذْ لَا مَعْنَى لِلتَّصْحِيحِ إلَّا مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَحَصَلَ بِهِ مَقْصُودُهُ، وَمَقْصُودُهُ هُوَ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِذَا كَانَ الشَّرْعُ قَدْ أَمَرَ بِمَقْصُودِ الْعُهُودِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الصِّحَّةُ وَالْإِبَاحَةُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، وَالدَّارَقُطْنِيّ، مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» . وَكَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فِي رِوَايَةٍ هُوَ ثِقَةٌ، وَضَعَّفَهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا وَأَحَلَّ حَرَامًا وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْهُ اللَّفْظَ

الْأَوَّلَ لَكِنَّ كَثِيرَ بْنَ عَمْرٍو ضَعَّفَهُ الْجَمَاعَةُ وَضَرَبَ أَحْمَدُ عَلَى حَدِيثِهِ فِي الْمُسْنَدِ فَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ، فَلَعَلَّ تَصْحِيحَ التِّرْمِذِيِّ لَهُ لِرِوَايَتِهِ مِنْ وُجُوهٍ، فَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ السَّلْمَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النَّاسُ عَلَى شُرُوطِهِمْ مَا وَافَقَتْ الْحَقَّ» . هَذِهِ الْأَسَانِيدُ وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهَا ضَعِيفًا فَاجْتِمَاعُهَا مِنْ طُرُقٍ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا، هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَهُوَ حَقِيقَةُ الْمَذْهَبِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِطَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبِيحَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا يُحَرِّمُ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ، فَإِنَّ شَرْطَهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ إبْطَالًا لِحُكْمِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْقِطَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا الْمُشْتَرِطُ لَهُ أَنْ يُوجِبَ بِالشَّرْطِ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بِدُونِهِ، فَمَقْصُودُ الشُّرُوطِ وُجُوبُ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَلَا حَرَامًا وَعَدَمُ الْإِيجَابِ لَيْسَ نَفْيًا لِلْإِيجَابِ حَتَّى يَكُونَ الْمُشْتَرِطُ مُنَاقِضًا لِلشَّرْعِ، وَكُلُّ شَرْطٍ صَحِيحٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يُفِيدَ وُجُوبَ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، وَيُبَاحُ أَيْضًا لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ مُبَاحًا، وَيُحَرِّمُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا، وَكَذَلِكَ كُلٌّ مِنْ الْمُتَآجِرَيْنِ وَالْمُتَنَاكِحِينَ، وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَطَ صِفَةً فِي الْمَبِيعِ أَوْ رَهْنًا أَوْ اشْتَرَطَتْ الْمَرْأَةُ زِيَادَةً عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ وَيَحْرُمُ وَيُبَاحُ بِهَذَا الشَّرْطِ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَوْهَمَ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْأَصْلَ فَسَادُ الشُّرُوطِ، قَالَ: لِأَنَّهَا إمَّا أَنْ تُبِيحَ حَرَامًا أَوْ تُحَرِّمَ حَلَالًا أَوْ تُوجِبَ سَاقِطًا أَوْ تُسْقِطَ وَاجِبًا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِ الشَّارِعِ، وَقَدْ وَرَدَتْ شُبْهَةٌ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ حَتَّى تُوُهِّمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُتَنَاقِضٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ حَرَامًا بِدُونِ الشَّرْطِ فَالشَّرْطُ لَا يُبِيحُهُ كَالزِّنَا وَكَالْوَطْءِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَكَثُبُوتِ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ، فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْوَطْءَ، إلَّا بِمِلْكِ نِكَاحٍ أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ، فَلَوْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يُعِيرَ أَمَتَهُ لِلْوَطْءِ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ إعَارَتِهَا لِلْخِدْمَةِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ، نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ، وَجَعَلَ اللَّهُ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ يَثْبُتُ لِلْمُعْتِقِ كَمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ لِلْوَالِدِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» أَبْطَلَ اللَّهُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي

الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَبَنِّي الرَّجُلِ ابْنَ غَيْرِهِ، أَوْ انْتِسَابِ الْمُعْتِقِ إلَى غَيْرِ مَوْلَاهُ، فَهَذَا أَمْرٌ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ، فَلَا يُبِيحُ الشَّرْطُ مَا كَانَ حَرَامًا، وَأَمَّا مَا كَانَ مُبَاحًا بِدُونِ الشَّرْطِ فَالشَّرْطُ وَجَبَهُ كَالزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ وَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ وَالرَّهْنِ وَتَأْخِيرِ الِاسْتِيفَاءِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْمَرْأَةَ وَلَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِالرَّهْنِ وَبِالِاسْتِيفَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِذَا شَرَطَهُ صَارَ وَاجِبًا وَإِذَا وَجَبَ فَقَدْ حَرُمَتْ الْمُطَالَبَةُ الَّتِي كَانَتْ حَلَالًا بِدُونِهِ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ لَمْ تَكُنْ حَلَالًا مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُبِحْ مُطَالَبَةَ الْمَدِينِ مُطْلَقًا فَمَا كَانَ حَرَامًا وَحَلَالًا مُطْلَقًا فَالشَّرْطُ لَا يُغَيِّرُهُ، وَأَمَّا مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ قَدْ حَرَّمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، وَكَذَلِكَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي حَالِ مَخْصُوصَةٍ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ مُطْلَقًا، لَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ قَدْ أَبَاحَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ بِدُونِ الشَّرْطِ يَسْتَصْحِبُ حُكْمَ الْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ، لَكِنْ فُرِّقَ بَيْنَ ثُبُوتِ الْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ بِالْخِطَابِ، وَبَيْنَ ثُبُوتِهِ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِصْحَابِ، فَلَا يُرْفَعُ مَا أَوْجَبَهُ كَلَامُ الشَّارِعِ وَآثَارُ الصَّحَابَةُ تَوَافُقَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ. وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعُقُودَ وَالشُّرُوطَ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ الْعَادِيَّةِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ التَّحْرِيمِ فَيُسْتَصْحَبُ عَدَمُ التَّحْرِيمِ فِيهَا حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى التَّحْرِيمِ، كَمَا أَنَّ الْأَعْيَانَ الْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ التَّحْرِيمِ، وقَوْله تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] عَامٌّ فِي الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَالِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَرَامًا لَمْ تَكُنْ فَاسِدَةً؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ إنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ التَّحْرِيمِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ فَاسِدَةً كَانَتْ صَحِيحَةً، وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ جِنْسِ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ إلَّا مَا ثَبَتَ حِلُّهُ بِعَيْنِهِ، وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَعْنَى حَدِيثِ عَائِشَةَ ، وَانْتِفَاءُ دَلِيلِ التَّحْرِيمِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ، فَثَبَتَ بِالِاسْتِصْحَابِ الْعَقْلِيِّ وَانْتِفَاءِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ عَدَمُ التَّحْرِيمِ فَيَكُونُ فِعْلُهَا إمَّا حَلَالًا وَإِمَّا عَفْوًا، كَالْأَعْيَانِ الَّتِي لَمْ تُحَرَّمْ. وَغَالِبُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ عَدَمُ التَّحْرِيمِ مِنْ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالِاسْتِحْضَارِ الْعَقْلِيِّ، وَانْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ دَلِيلِهِ، فَإِنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فِيهَا سَوَاءٌ سُمِّيَ ذَلِكَ حَلَالًا أَوْ عَفْوًا

عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَمِّ الْكُفَّارِ عَلَى التَّحْرِيمِ بِغَيْرِ شَرْعٍ مِنْهُ مَا سَبَبُهُ تَحْرِيمُ الْأَعْيَانِ، وَمِنْهُ مَا سَبَبُهُ تَحْرِيمُ الْأَفْعَالِ، كَمَا كَانُوا يُحَرِّمُونَ عَلَى الْمُحْرِمِ لُبْسَ ثِيَابِهِ وَالطَّوَافَ فِيهَا إذَا لَمْ يَكُنْ خَمْسِيًّا، وَيَأْمُرُونَهُ بِالتَّعَرِّي إلَّا أَنْ يُعِيرَهُ خُمُسَيْ ثَوْبِهِ، وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِ الدُّخُولَ تَحْتَ سَقْفٍ، وَكَمَا كَانَ النَّصَارَى يُحَرِّمُونَ إتْيَانَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِي فَرْجِهَا إذَا كَانَ يُحِبُّهَا، وَيُحَرِّمُونَ الطَّوَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ قَدْ يَنْقُضُونَ الْعُهُودَ الَّتِي عَقَدُوهَا بِلَا شَرْعٍ، فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَغَيْرِهَا، إلَّا مَا اشْتَمَلَ عَلَى مُحَرَّمٍ، فَعُلِمَ أَنَّ الْعَهْدَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ حِلُّهَا بِشَرْعٍ خَاصٍّ كَالْعُهُودِ الَّتِي عَقَدُوهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأُمِرُوا بِالْوَفَاءِ بِهَا، وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ إلَّا لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَلَا يَحْرُمُ إلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي شَرَّعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَحَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ، فَإِذَا حَرَّمْنَا الْعُقُودَ وَالشُّرُوطَ الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ الْعَادِيَّةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، كُنَّا مُحَرِّمِينَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ بِخِلَافِ الْعُقُودِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ شَرْعَ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ أَنْ يُشَرَّعَ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ، فَلَا يُشَرَّعُ عَادَةً إلَّا بِشَرْعٍ وَلَا يُحَرَّمُ عَادَةً إلَّا بِتَحْرِيمِ اللَّهِ، وَالْعُقُودُ فِي الْمُعَامَلَاتِ هِيَ مِنْ الْعَادَاتِ يَفْعَلُهَا الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا قُرْبَةٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَلَيْسَتْ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُفْتَقَرُ فِيهَا إلَى شَرْعٍ، كَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْعُقُودُ تُغَيِّرُ مَا كَانَ مَشْرُوعًا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْبُضْعِ أَوْ الْمَالِ إذَا كَانَ ثَابِتًا عَلَى حَالٍ فَعَقَدَ عَقْدًا أَزَالَهُ عَنْ تِلْكَ الْحَالِ فَقَدْ غَيَّرَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَمْ تُحَرَّمْ، فَإِنَّهُ لَا تَغْيِيرَ فِي إبَاحَتِهَا فَيُقَالُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَعْيَانَ إمَّا أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لِشَخْصٍ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا فَانْتِقَالُهَا بِالْبَيْعِ أَوْ غَيْرِهِ إلَى عَمْرٍو هُوَ مِنْ بَابِ الْعُقُودِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِلْكًا فَيَمْلِكُهَا بِلَا سَبِيلٍ وَنَحْوِهِ هُوَ فِعْلٌ مِنْ الْأَفْعَالِ مُغَيِّرٌ لِحُكْمِهَا بِمَنْزِلَةِ الْعُقُودِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهَا قَبْلَ الذَّكَاةِ مُحَرَّمَةٌ فَالذَّكَاةُ كَالْوَارِدَةِ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَقْدِ عَلَى الْمَالِ، فَكَمَا أَنَّ أَفْعَالَنَا فِي الْأَعْيَانِ مِنْ الْأَخْذِ وَالذَّكَاةُ الْأَصْلُ فِيهَا الْحِلُّ، وَإِنْ غَيَّرَ حُكْمَ الْعَيْنِ فَكَذَلِكَ أَفْعَالُنَا فِي الْأَمْلَاكِ بِالْعُقُودِ وَنَحْوِهَا الْأَصْلُ فِيهَا الْحِلُّ، وَإِنْ غَيَّرَتْ حُكْمَ الْمِلْكِ لَهُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَحْكَامَ الثَّابِتَةَ بِأَفْعَالِنَا كَالْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالْبَيْعِ وَمِلْكِ الْبُضْعِ

الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ نَحْنُ أَحْدَثْنَا أَسْبَابَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ، وَالشَّارِعُ أَثْبَتَ الْحُكْمَ لِثُبُوتِ سَبَبِهِ مِنَّا لَمْ نُثْبِتْهُ ابْتِدَاءً كَمَا أَثْبَتَ إيجَابَ الْوَاجِبَاتِ وَتَحْرِيمَ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُبْتَدَأَةِ، فَإِذَا كُنَّا نَحْنُ الْمُثْبِتِينَ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَلَمْ يُحَرِّمْ الشَّارِعُ عَلَيْنَا رَفْعَهُ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْنَا رَفْعُهُ، فَمَنْ اشْتَرَى عَيْنًا فَالشَّارِعُ أَحَلَّهَا لَهُ وَحَرَّمَهَا عَلَى غَيْرِهِ لِإِثْبَاتِهِ سَبَبَ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِالْبَيْعِ، وَلَمْ يُحَرِّمْ الشَّارِعُ عَلَيْهِ رَفْعَ ذَلِكَ، فَلَأَنْ يَرْفَعَ مَا أَثْبَتَهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَحَبَّ مِمَّا لَمْ يُحَرِّمْهُ الشَّارِعُ عَلَيْهِ، كَمَنْ أَعْطَى رَجُلًا مَالًا فَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَحْرُمَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْمُعْطِي مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ. وَهَذِهِ نُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَبَيَّنَ بِهَا مَأْخَذُهَا، وَهُوَ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْجُزْئِيَّةَ مِنْ حِلِّ هَذَا الْمَالِ لِزَيْدٍ وَحُرْمَتِهِ عَلَى عَمْرٍو لَمْ يُشَرِّعْهَا الشَّارِعُ شَرْعًا جُزْئِيًّا وَإِنَّمَا شَرَّعَهَا شَرْعًا كُلِّيًّا بِمِثْلِ قَوْلِهِ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] . {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] . {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] . وَهَذَا الْحُكْمُ الْكُلِّيُّ ثَابِتٌ سَوَاءٌ وُجِدَ هَذَا الْبَيْعُ الْمُعَيَّنُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، فَإِذَا وُجِدَ بَيْعٌ مُعَيَّنٌ أَثْبَتَ مِلْكًا مُعَيَّنًا، فَهَذَا الْمُعَيَّنُ سَبَبُهُ فِعْلُ الْعَبْدِ، فَإِذَا رَفَعَهُ الْعَبْدُ فَإِنَّمَا رَفَعَ مَا أَثْبَتَهُ هُوَ بِفِعْلِهِ، إلَّا مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ مِنْ الْحُكْمِ الْكُلِّيِّ، إذْ أَثْبَتَهُ اللَّهُ مِنْ الْحُكْمِ الْجُزْئِيِّ إنَّمَا هُوَ تَابِعٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَثْبَتَهُ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ رَفْعَ الْحُقُوقِ بِالْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ مِثْلُ نَسْخِ الْأَحْكَامِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمُطْلَقَ لَا يُزِيلُهُ إلَّا الَّذِي أَثْبَتَهُ وَهُوَ الشَّارِعُ، وَأَمَّا هَذَا الْمُعَيَّنُ فَإِنَّمَا ثَبَتَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ أَدْخَلَهُ فِي الْمُطْلَقِ، وَإِدْخَالُهُ فِي الْمُطْلَقِ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إخْرَاجُهُ، وَالشَّارِعُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ فِي الْمُعَيَّنِ بِحُكْمٍ أَبَدًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ هَذَا الثَّوْبُ بِعْهُ أَوْ لَا تَبِعْهُ أَوْ هَبْهُ أَوْ لَا تَهَبْهُ، وَإِنَّمَا حَكَمَ عَلَى الْمُطْلَقِ الَّذِي إذَا دَخَلَ فِيهِ الْمُعَيَّنُ حَكَمَ عَلَى الْمُعَيَّنِ فَتَدَبَّرْ هَذَا، وَفُرِّقَ بَيْنَ تَعْيِينِ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ الْخَاصِّ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْعَبْدُ بِإِدْخَالِهِ فِي الْمُطْلَقِ، وَبَيْنَ تَعْيِينِ الْحُكْمِ الْعَامِّ الَّذِي أَثْبَتَهُ الشَّارِعُ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ مِنْ الْعَبْدِ. وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْعُقُودَ لَا يَحْرُمُ فِيهَا إلَّا مَا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ، فَإِنَّمَا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهَا

لِإِيجَابِ الشَّارِعِ الْوَفَاءَ بِهَا مُطْلَقًا إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الْمِلَلُ، بَلْ وَالْعُقَلَاءُ جَمِيعُهُمْ وَأَدْخَلَهَا فِي الْوَاجِبَاتِ الْعَقْلِيَّةِ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ فَفِعْلُهَا ابْتِدَاءً لَا يُحَرَّمُ إلَّا بِتَحْرِيمِ الشَّارِعِ، وَالْوَفَاءُ بِهَا وَاجِبٌ لِإِيجَابِ الشَّرْعِ، وَكَذَا الْإِيجَابُ الْعَقْلِيُّ أَيْضًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ رِضَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَنَتِيجَتُهَا هُوَ مَا أَوْجَبَاهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالتَّعَاقُدِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . وَقَالَ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] . فَعَلَّقَ جَوَازَ الْأَكْلِ بِطِيبِ النَّفْسِ تَعْلِيقَ الْجَزَاءِ بِشَرْطِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ وَهُوَ حُكْمٌ مُعَلَّقٌ عَلَى وَصْفِ مُشْتَقٍّ مُنَاسِبٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ سَبَبٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَإِذَا كَانَ طِيبُ النَّفْسِ هُوَ الْمُبِيحُ لِلصَّدَاقِ فَكَذَلِكَ سَائِرُ التَّبَرُّعَاتِ قِيَاسًا بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، لَمْ يُشْتَرَطْ فِي التِّجَارَةِ إلَّا التَّرَاضِي، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ التَّرَاضِيَ هُوَ الْمُبِيحُ لِلتِّجَارَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا تَرَاضَى الْمُتَعَاقِدَانِ أَوْ طَابَتْ نَفْسُ الْمُتَبَرِّعِ بِتَبَرُّعٍ ثَبَتَ حِلُّهُ بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ إلَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَالتِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَقْدَ لَهُ حَالَانِ، حَالُ إطْلَاقٍ وَحَالُ تَقَيُّدٍ، فَفُرِّقَ بَيْنَ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ وَبَيْنَ الْمَعْنَى الْمُطْلَقِ مِنْ الْعُقُودِ. فَإِذَا قِيلَ: هَذَا شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ تَنَافِي الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ، فَكَذَلِكَ كُلُّ شَرْطٍ زَائِدٍ وَهَذَا لَا يَضُرُّهُ، وَإِنْ أُرِيدَتَا فِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا إذَا أَتَى فِي مَقْصُودِ الْعَقْدِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ إذَا كَانَ لَهُ مَقْصُودٌ يُرَادُ جَمِيعُ صُوَرِهِ وَشُرِطَ فِيهِ مَا يُنَافِي ذَلِكَ الْمَقْصُودَ، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ بَيْنَ إثْبَاتِ الْمَقْصُودِ وَنَفْيِهِ، فَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ هُوَ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ عِنْدَنَا. وَالشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ قَدْ تَبْطُلُ لِكَوْنِهَا قَدْ تُنَافِي مَقْصُودَ الشَّارِعِ مِثْلُ اشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ

لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَا مَقْصُودَهُ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ الْمِلْكُ وَالْعِتْقُ قَدْ يَكُونُ مَقْصُودًا لِلْعَقْدِ فَإِنَّ اشْتِرَاءَ الْعَبْدِ لِعِتْقِهِ يُقْصَدُ كَثِيرًا، فَثُبُوتُ الْوَلَاءِ لَا يُنَافِي مَقْصُودَهُ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا يُنَافِي كِتَابَ اللَّهِ وَشَرْطَهُ، كَمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ مُنَافِيًا لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ كَانَ الْعَقْدُ لَغْوًا، وَإِذَا كَانَ مُنَافِيًا لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ كَانَ مُخَالِفًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَغْوًا وَلَا اشْتَمَلَ عَلَى مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلَا وَجْهَ لِتَحْرِيمِهِ، بَلْ الْوَاجِبُ حِلُّهُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَقْصُودٌ لِلنَّاسِ يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ، إذْ لَوْلَا حَاجَتُهُمْ إلَيْهِ لَمَا فَعَلُوهُ، فَإِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَلَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُهُ فَيُبَاحُ لِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا يَرْفَعُ الْحَرَجَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعُقُودَ وَالشُّرُوطَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ يُقَالَ لَا تَحِلُّ وَلَا تَصِحُّ إنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى حِلِّهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ خَاصٌّ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَوْ يُقَالُ لَا يَحِلُّ وَلَا يَصِحُّ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى حِلِّهَا دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا، أَوْ يُقَالُ تَصِحُّ، وَلَا تَحْرُمُ إلَّا أَنْ يُحَرِّمَهَا الشَّارِعُ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ دَلَّا عَلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ وَالْقُبُوضِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي حَالِ الْكُفْرِ، وَأَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي آيَةِ الرِّبَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] . فَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ الرِّبَا فِي الذِّمَمِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ مَا قَبَضُوهُ بِعَقْدِ الرِّبَا، بَلْ مَفْهُومُ الْآيَةِ الَّذِي اتَّفَقَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ يُوجِبُ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْقَطَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الرِّبَا الَّذِي فِي الذِّمَمِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ الْمَقْبُوضِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا قَسْمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى مَا قُسِمَ، وَأَيُّمَا قَسْمٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ فَهُوَ قَسْمُ الْإِسْلَامِ» . وَأَقَرَّ النَّاسُ عَلَى أَنْكِحَتِهِمْ الَّتِي عَقَدُوهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ أَحَدًا، هَلْ عَقَدَ بِهِ فِي عِدَّةٍ أَوْ غَيْرِ عِدَّةٍ؟ بِوَلِيٍّ أَوْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ؟ بِشُهُودٍ أَوْ بِغَيْرِ شُهُودٍ؟ . وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِتَجْدِيدِ نِكَاحٍ وَلَا بِفِرَاقِ امْرَأَةٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الْمُحَرِّمُ مَوْجُودًا حِينَ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَمَرَ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ الَّذِي أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ أَنْ يُمْسِكَ أَرْبَعًا وَيُفَارِقَ سَائِرَهُنَّ، كَمَا أَمَرَ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيَّ الَّذِي أَسْلَمَ

وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ أَنْ يَخْتَارَ إحْدَاهُمَا وَيُفَارِقَ الْأُخْرَى، وَكَمَا أَمَرَ الصَّحَابَةُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْمَجُوسِ أَنْ يُفَارِقُوا ذَاتِ الْمَحَارِمِ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ الَّتِي عَقَدَهَا الْكُفَّارُ يُحْكَمُ بِصِحَّتِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إذْ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ الْكُفَّارُ لَمْ يَعْقِدُوهَا بِإِذْنٍ شَرْعِيٍّ، وَلَوْ كَانَتْ الْعُقُودُ عِنْدَهُمْ كَالْعِبَادَاتِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِشَرْعٍ لَحَكَمُوا بِفَسَادِهَا أَوْ بِفَسَادِ مَا لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ مُسْتَمْسِكُونَ فِيهِ بِشَرْعٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ عَلَى أَنَّهَا إذَا عُقِدَتْ عَلَى وَجْهٍ مُحَرَّمٍ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَسْلَمُوا بَعْدَ زَوَالِهِ مَضَتْ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِاسْتِئْنَافِهَا؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَلَيْسَ مَا عَقَدُوهُ بِغَيْرِ شَرْعٍ بِدُونِ مَا عَقَدُوهُ مَعَ تَحْرِيمِ الشَّرْعِ، وَكِلَاهُمَا عِنْدَكُمْ سَوَاءٌ. قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَا عَقَدُوهُ مَعَ التَّحْرِيمِ إنَّمَا يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ، وَأَمَّا إذَا أَسْلَمُوا قَبْلَ التَّقَابُضِ فُسِخَ، بِخِلَافِ مَا عَقَدُوهُ بِغَيْرِ شَرْعٍ فَإِنَّهُ لَا يُفْسَخُ لَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَا بَعْدَهُ، وَلَمْ أَرَ الْفُقَهَاءَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ اشْتَرَطُوا فِي النِّكَاحِ الْقَبْضَ، بَلْ سَوَّوْا بَيْنَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّ نَفْسَ عَقْدِ النِّكَاحِ يُوجِبُ أَحْكَامًا بِنَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَبْضُ مِنْ الْمُصَاهَرَةِ وَنَحْوِهَا. كَمَا أَنَّ نَفْسَ الْوَطْءِ يُوجِبُ أَحْكَامًا وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ نِكَاحٍ، فَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعُقُودِ وَالْوَطْءِ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْآخَرِ أَقَرَّهُمْ الشَّارِعُ عَلَى ذَلِكَ. بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِعُقُودِهَا هُوَ التَّقَابُضُ، وَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهَا فَأَبْطَلَهَا الشَّارِعُ لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مَقْصُودَ الْعِبَادِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ لَا يُبْطِلُهُ الشَّارِعُ إلَّا مَعَ التَّحْرِيمِ لَا أَنَّهُ لَا يُصَحِّحُهُ إلَّا بِتَحْلِيلٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا تَعَاقَدُوا بَيْنَهُمْ عُقُودًا وَلَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ لَا تَحْرِيمَهَا وَلَا تَحْلِيلَهَا فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ جَمِيعُهُمْ فِيمَا أَعْلَمُهُ يُصِحُّونَهَا إذَا لَمْ يَعْتَقِدُوا تَحْرِيمَهَا وَإِنْ كَانَ الْعَاقِدُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ يَعْلَمُ تَحْلِيلَهَا، لَا بِاجْتِهَادٍ وَلَا بِتَقْلِيدٍ وَلَا بِقَوْلِ أَحَدٍ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ إلَّا الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ الشَّارِعَ أَحَلَّهُ، فَلَوْ كَانَ إذْنُ الشَّارِعِ الْخَاصُّ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعُقُودِ لَمْ يَصِحَّ عَقْدٌ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ إذْنِهِ، كَمَا لَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ فَإِنَّهُ آثِمٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَادَفَ الْحَقَّ. وَأَمَّا إنْ قِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَدُلُّ عَلَى حِلِّهَا سَوَاءٌ كَانَ عَامًّا أَوْ خَاصًّا فَفِيهِ جَوَابَانِ:

أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ قَدْ دَلَّتْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَامَّةُ عَلَى حِلِّ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ جُمْلَةً إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ. وَمَا عَارَضُوا بِهِ سَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: «مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» . فَالشَّرْطُ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ تَارَةً وَالْمَفْعُولُ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ الْوَعْدُ وَالْخُلْفُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْمَشْرُوطُ لَا نَفْسُ التَّكَلُّمِ، وَلِهَذَا قَالَ: " وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ " أَيْ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ مَشْرُوطٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَعْدِيدُ التَّكَلُّمِ بِالشَّرْطِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَعْدِيدُ الْمَشْرُوطِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: «كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» ، أَيْ: كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ مِنْهُ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا خَالَفَ ذَلِكَ الشَّرْطُ كِتَابَ اللَّهِ وَشَرْطَهُ بِأَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَشْرُوطُ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ فَلَمْ يُخَالِفْ كِتَابَ اللَّهِ وَشَرْطَهُ، حَتَّى يُقَالَ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ. فَيَكُونُ الْمَعْنَى مَنْ اشْتَرَطَ أَمْرًا لَيْسَ فِي حُكْمِ اللَّهِ أَوْ فِي كِتَابِهِ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ مِمَّا يُبَاحُ فِعْلُهُ بِدُونِ الشَّرْطِ حَتَّى يَصِحَّ اشْتِرَاطُهُ. وَيَجِبَ بِالشَّرْطِ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ الْوَلَاءَ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ أَبَدًا كَانَ هَذَا الْمَشْرُوطُ وَهُوَ ثُبُوتُ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَانْظُرْ إلَى الْمَشْرُوطِ إنْ كَانَ فِعْلًا أَوْ حُكْمًا فَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَبَاحَهُ جَازَ اشْتِرَاطُهُ وَوَجَبَ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبِحْهُ لَمْ يَجُزْ اشْتِرَاطُهُ، فَإِذَا اشْتَرَطَ الرَّجُلُ أَنْ لَا يُسَافِرَ بِزَوْجَتِهِ فَهَذَا الْمَشْرُوطُ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ يُبِيحُ أَنْ لَا يُسَافِرَ بِهَا، فَإِذَا شَرَطَ عَدَمَ السَّفَرِ فَقَدْ شَرَطَ مَشْرُوطًا مُبَاحًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَمَضْمُونُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَشْرُوطَ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ، أَوْ يُقَالُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَيْ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَفْيُهُ، كَمَا يُقَالُ «سَيَكُونُ أَقْوَامٌ يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَعْرِفُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ» أَيْ تَعْرِفُوا خِلَافَهُ أَوْ لَا يَعْرِفُ كَثِيرٌ مِنْكُمْ.

ثُمَّ يَقُولُ لَمْ يُرِدْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْعُقُودَ وَالشُّرُوطَ الَّتِي لَمْ يُبِحْهَا الشَّارِعُ تَكُونُ بَاطِلَةً، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِهَا شَيْءٌ، لَا إيجَابٌ وَلَا تَحْرِيمٌ، فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَلْ الْعُقُودُ وَالشُّرُوطُ الْمُحَرَّمَةُ قَدْ يَلْزَمُ بِهَا أَحْكَامٌ، فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَقْدَ الظِّهَارِ وَسَمَّاهُ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا، ثُمَّ إنَّهُ أَوْجَبَ بِهِ عَلَى مَنْ عَادَ الْكَفَّارَةَ وَمَنْ لَمْ يَعُدْ جَعَلَ فِي حَقِّهِ مَقْصُودَ التَّحْرِيمِ مِنْ تَرْكِ الْوَطْءِ وَتَرْكِ الْعَقْدِ. وَكَذَلِكَ النَّذْرُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ النَّذْرِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ: «إنَّهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ» ، ثُمَّ أَوْجَبَ الْوَفَاءَ إذَا كَانَ طَاعَةً فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» . فَالْعَقْدُ الْمُحَرَّمُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِإِيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ، نَعَمْ، لَا يَكُونُ سَبَبًا لِإِبَاحَةٍ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا نَهَى عَنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ، وَعَنْ عَقْدِ الرِّبَا وَعَنْ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ يُسْتَفَدْ الْمَنْهِيُّ بِفِعْلِهِ لَمَّا نُهِيَ عَنْ الِاسْتِبَاحَةِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ مَعْصِيَةٍ. وَالْأَصْلُ فِي الْمَعَاصِي أَنَّهَا لَا تَكُونُ سَبَبًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَالْإِبَاحَةُ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِلْآلَاءِ وَلِفَتْحِ أَبْوَابِ الدُّنْيَا، لَكِنْ ذَاكَ قَدْرٌ لَيْسَ بِشَرْعٍ بَلْ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِعُقُوبَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِيجَابُ وَالتَّحْرِيمُ قَدْ يَكُونُ عُقُوبَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] . وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً أَيْضًا، كَمَا جَاءَتْ شَرِيعَتُنَا الْحَنِيفِيَّةُ. وَالْمُخَالِفُونَ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَنَحْوِهِمْ يَجْعَلُونَ كُلَّ مَا لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ إذْنٌ خَاصٌّ فَهُوَ عَقْدٌ حَرَامٌ، وَكُلُّ عَقْدٍ حَرَامٍ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَكِلَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ مَمْنُوعَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ بِطَرِيقَةٍ ثَانِيَةٍ، إنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ أَنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي لَمْ يُبِحْهَا اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُحَرِّمْهَا بَاطِلَةٌ. فَنَقُولُ قَدْ ذَكَرْنَا مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالشُّرُوطِ عُمُومًا، وَالْمَقْصُودُ هُوَ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِهَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَوُجُوبُ الْوَفَاءِ بِهَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً، فَإِنَّهُ إذَا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهَا لَمْ تَكُنْ بَاطِلَةً وَإِذَا لَمْ تَكُنْ بَاطِلَةً كَانَتْ مُبَاحَةً، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ " إنَّمَا يَشْتَمِلُ مَا لَيْسَ فِي كِتَابٍ

لَا بِعُمُومِهِ وَلَا بِخُصُوصِهِ، وَإِنَّمَا دَلَّ كِتَابُ اللَّهِ عَلَى إبَاحَتِهِ بِعُمُومِهِ فَإِنَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى؛ لِأَنَّ قَوْلَنَا هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَعُمُّ مَا هُوَ فِيهِ بِالْخُصُوصِ أَوْ بِالْعُمُومِ، وَعَلَى هَذَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] . وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف: 111] . وَقَوْلُهُ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] . عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْكِتَابَ هُوَ الْقُرْآنُ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ فَلَا يَخْفَى هَذَا. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي ثَبَتَ جَوَازُهُ بِسُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ صَحِيحٌ بِالِاتِّفَاقِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِخُصُوصِهِ لَكِنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّ جَامِعَ الْجَامِعِ جَامِعٌ، وَدَلِيلَ الدَّلِيلِ دَلِيلٌ، فَإِذَا كَانَ كِتَابُ اللَّهِ أَوْجَبَ الْوَفَاءَ بِالشُّرُوطِ عُمُومًا. فَشَرْطُ الْوَلَاءِ دَاخِلٌ فِي الْعُمُومِ، فَيُقَالُ الْعُمُومُ إنَّمَا يَكُونُ دَالًّا إذَا لَمْ يَنْفِهِ دَلِيلٌ خَاصٌّ، فَإِنَّ الْخَاصَّ يُفَسِّرُ الْعَامَّ، وَهَذَا الْمَشْرُوطُ قَدْ نَفَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ، وَقَوْلُهُ: «مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» . وَدَلَّ الْكِتَابُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] . إلَى قَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4] {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] فَأَوْجَبَ عَلَيْنَا الدُّعَاءَ لِأَبِيهِ الَّذِي وَلَدَهُ دُونَ الَّذِي تَبَنَّاهُ وَحَرَّمَ التَّبَنِّي، ثُمَّ أَمَرَ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْأَبِ بِأَنْ يَدَّعِيَ أَخًا فِي الدِّينِ وَمَوْلًى كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدَيْهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ» . فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ الْوَلَاءَ نَظِيرَ النَّسَبِ وَبَيَّنَ سَبَبَ الْوَلَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] ،

فَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ الْوَلَاءِ هُوَ الْإِنْعَامُ بِالْإِعْتَاقِ كَمَا أَنَّ سَبَبَ النَّسَبِ هُوَ الْإِنْعَامُ بِالْإِيلَادِ، فَإِذَا كَانَ حُرِّمَ الِانْتِقَالُ عَنْ الْمُنْعِمِ بِالْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ. فَمَنْ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُعْتِقَ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِغَيْرِهِ، فَهُوَ كَمَنْ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُسْتَنْكِحِ أَنَّهُ إذَا أَوْلَدَ كَانَ النَّسَبُ لِغَيْرِهِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ، وَإِذَا كَانَ كِتَابُ اللَّهِ قَدْ دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا الْمَشْرُوطِ بِخُصُوصِهِ وَعُمُومِهِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعُهُودِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَأْمُرُ بِمَا حَرَّمَهُ، فَهَذَا هَذَا مَعَ أَنَّ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الْقَلْبِ أَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يُرِدْ إلَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَهُوَ إبْطَالُ الشُّرُوطِ الَّتِي تُنَافِي كِتَابَ اللَّهِ. وَالتَّحْذِيرُ مِنْ اشْتِرَاطِ شَيْءٍ لَمْ يُبِحْهُ اللَّهُ أَوْ مِنْ اشْتِرَاطِ مَا يُنَافِي كِتَابَ اللَّهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: «كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» . وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ لِعَدَمِ تَحْرِيمِ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ وَصِحَّتِهَا أَصْلَانِ: الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَامَّةُ، وَالْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي هِيَ الِاسْتِصْحَابُ وَانْتِفَاءُ الْمُحْرِمِ، فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي أَنْوَاعِ الْمَسَائِلِ وَأَعْيَانِهَا إلَّا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ النَّوْعِ أَوْ الْمَسْأَلَةُ هَلْ وَرَدَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، أَمَّا إذَا كَانَ الْمُدْرِكُ الِاسْتِصْحَابَ وَنَفْيَ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ، وَعُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ وَيُفْتِيَ بِمُوجِبِ هَذَا الِاسْتِصْحَابِ وَالنَّفْيِ إلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ الْأَدِلَّةِ الْخَاصَّةِ إذَا كَانَ أَهْلَ ذَلِكَ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَحَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مُغَيِّرًا لِهَذَا الِاسْتِصْحَابِ، فَلَا يُوثَقُ بِهِ إلَّا بَعْدَ النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُدْرِكُ هُوَ مَنْصُوصُ الْعَامَّةِ فَالْعَامُّ الَّذِي كَثُرَتْ تَخْصِيصَاتُهُ الْمُنْتَشِرَةُ أَيْضًا لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، هَلْ هِيَ مِنْ الْمُسْتَخْرَجِ أَوْ الْمُسْتَبْقَى، وَهَذَا أَيْضًا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْعُمُومِ الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ تَخْصِيصُهُ، أَوْ عُلِمَ تَخْصِيصُ صُوَرٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهُ؛ هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصَّصِ الْمُعَارِضِ لَهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ

وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا، وَذَكَرُوا عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، وَأَكْثَرُ نُصُوصِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ زَمَانِهِمْ وَنَحْوِهِمْ اسْتِعْمَالُ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَمَّا يُفَسِّرُهَا مِنْ السُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ الَّذِي لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ انْتِفَاءُ مَا يُعَارِضُهُ لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مُقْتَضَاهُ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ انْتِفَاءُ مُعَارِضِهِ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ مُقْتَضَاهُ، وَهَذِهِ الْغَلَبَةُ لَا تَحْصُلُ لِلْمُتَأَخِّرِينَ فِي أَكْثَرِ الْعُمَومَاتِ الَّتِي بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُعَارِضِ سَوَاءٌ جَعَلَ عَدَمَ الْمُعَارِضِ جُزْءًا مِنْ الدَّلِيلِ، وَلَا الْعِلَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، أَوْ جَعَلَ الْمُعَارِضَ الْمَانِعَ مِنْ الدَّلِيلِ فَيَكُونُ الدَّلِيلُ هُوَ الظَّاهِرُ، لَكِنْ الْقَرِينَةُ مَانِعَةٌ لِدَلَالَتِهِ، كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ بِتَخْصِيصِ الدَّلِيلِ وَالْعِلَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ إنَّمَا يَعُودُ إلَى اعْتِبَارٍ عَقْلِيٍّ، أَوْ إطْلَاقٍ لَفْظِيٍّ، أَوْ اصْطِلَاحٍ حَرِيٍّ لَا يَرْجِعُ لِأَمْرٍ فِقْهِيٍّ أَوْ عِلْمِيٍّ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَدِلَّةُ النَّافِيَةُ لِتَحْرِيمِ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ وَالْمُثْبِتَةِ لِحِلِّهَا مَخْصُوصَةٌ بِجَمِيعِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ، فَلَا يُنْتَفَعُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي أَنْوَاعِ الْمَسَائِلِ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ، وَالْحُجَجِ الْخَاصَّةِ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ فَهِيَ بِأُصُولِ الْفِقْهِ الَّتِي هِيَ الْأَدِلَّةُ الْعَامَّةُ أَشْبَهَ مِنْهَا بِقَوَاعِدِ الْفِقْهِ الَّتِي هِيَ الْأَحْكَامُ الْعَامَّةُ، نَعَمْ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ انْتِفَاءُ الْمُعَارِضِ فِي مَسْأَلَةٍ خِلَافِيَّةٍ، أَوْ حَادِثَةٍ انْتَفَعَ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، فَيُذْكَرُ مِنْ أَنْوَاعِهَا قَوَاعِدُ حُكْمِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ. مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ مَنْ أَخْرَجَ عَيْنًا عَنْ مِلْكِهِ بِمُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ وَالْخُلْعِ، أَوْ تَبَرُّعٍ، كَالْوَقْفِ وَالْعِتْقِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ بَعْضَ مَنَافِعِهَا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَصِحُّ فِيهِ الْغَرَرُ كَالْبَيْعِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومًا، لِمَا رَوَى جَابِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ خِدْمَةَ الْعَبْدِ مَا عَاشَ عَبْدُهُ أَوْ عَاشَ فُلَانٌ، أَوْ يَسْتَثْنِيَ غَلَّةَ الْوَقْفِ مَا عَاشَ الْوَاقِفُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا اشْتَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُعْتِقَ الْعَبْدَ صَحَّ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، لِحَدِيثِ بَرِيرَةَ وَإِنْ كَانَ عَنْهُمَا قَوْلٌ بِخِلَافِهِ، ثُمَّ هَلْ يَصِيرُ الْعِتْقُ وَاجِبًا عَلَى الْمُشْتَرِي، كَمَا يَجِبُ الْعِتْقُ بِالنَّذْرِ بِحَيْثُ يَفْعَلُهُ الْحَاكِمُ إذَا امْتَنَعَ، أَمْ يَمْلِكُ الْبَائِعُ الْفَسْخَ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْ الْعِتْقِ، كَمَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ بِفَوَاتِ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْمَبِيعِ، عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِهِمَا. ثُمَّ الشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ يَرَوْنَ هَذَا خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ، لِمَا فِيهِ

مِنْ مَنْعِ الْمُشْتَرِي مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ الْعِتْقِ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ الْمِلْكُ الَّذِي يَمْلِكُ صَاحِبُهُ التَّصَرُّفَ مُطْلَقًا. قَالُوا: وَإِنَّمَا جَوَّزَتْهُ السُّنَّةُ؛ لِأَنَّ لِلشَّارِعِ إلَى الْعِتْقِ تَشَوُّقًا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ أَوْجَبَ فِيهِ السِّرَايَةَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إخْرَاجِ مِلْكِ الشَّرِيكِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَإِذَا كَانَ مَبْنَاهُ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ وَالنُّفُوذِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ غَيْرُهُ. وَأُصُولُ أَحْمَدَ وَنُصُوصُهُ تَقْتَضِي جَوَازَ شَرْطِ كُلِّ تَصَرُّفٍ فِيهِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْعٌ مِنْ غَيْرِهِ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ، قِيلَ لِأَحْمَدَ الرَّجُلُ يَبِيعُ الْجَارِيَةَ عَلَى أَنْ يُعْتِقَهَا، فَأَجَازَهُ، قِيلَ لَهُ: فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَعْنِي أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُونَ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، قَالَ: لِمَ لَا يَجُوزُ، قَدْ اشْتَرَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعِيرَ جَابِرٍ وَاشْتَرَطَ ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ، وَاشْتَرَتْ عَائِشَةُ بَرِيرَةَ عَلَى أَنَّهَا تُعْتِقُهَا، فَلِمَ لَا يَجُوزُ هَذَا، قَالَ: وَإِنَّمَا هَذَا شَرْطٌ وَاحِدٌ، وَالنَّهْيُ إنَّمَا هُوَ عَنْ شَرْطَيْنِ، قِيلَ لَهُ: فَإِنْ شَرَطَ شَرْطَيْنِ أَيَجُوزُ، قَالَ: لَا يَجُوزُ، فَقَدْ نَازَعَ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ بِاشْتِرَاطِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَهْرَ بَعِيرِ جَابِرٍ، وَحَدِيثِ بَرِيرَةَ، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا نَهَى عَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ، مَعَ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِيهِ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ مَنْفَعَةِ الْمَبِيعِ، وَهُوَ يَقْضِي لِمُوجِبِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ. وَاشْتِرَاطُ الْعِتْقِ فِيهِ تَصَرُّفٌ مَقْصُودٌ مُسْتَلْزِمٌ لِنَقْضِ مُوجِبِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّقْضُ فِي التَّصَرُّفِ أَوْ فِي الْمَمْلُوكِ، وَاسْتِدْلَالُهُ بِحَدِيثِ الشَّرْطَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ هَذَا الْجِنْسِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَانَ الْعِتْقُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَمَا قَاسَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا يَشْمَلُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ حَسَّانَ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَمَّنْ اشْتَرَى مَمْلُوكًا وَاشْتَرَطَ هُوَ حُرِّيَّتَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، قَالَ: هَذَا مُدَبَّرٌ، فَجَوَّزَ اشْتِرَاطَ التَّدْبِيرِ كَالْعِتْقِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي شَرْطِ التَّدْبِيرِ خِلَافٌ، صَحَّحَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَلِذَلِكَ جَوَّزَ اشْتِرَاطَ التَّسَرِّي فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً بِشَرْطِ أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا، وَلَا تَكُونُ لِلْخِدْمَةِ، قَالَ: لَا بَأْسَ، فَلَمَّا كَانَ التَّسَرِّي لِبَائِعِ الْجَارِيَةِ فِيهِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ جَوَّزَهُ، وَكَذَلِكَ جَوَّزَ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا يَبِيعُهَا لِغَيْرِ الْبَائِعِ، وَأَنَّ الْبَائِعَ يَأْخُذُهَا إذَا أَرَادَ الْمُشْتَرِي بَيْعَهَا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَامْرَأَتِهِ زَيْنَبُ.

وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَبِيعَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ الْعَقْدِ بِأَجْزَائِهِ وَمَنَافِعِهِ يَمْلِكَانِ اشْتِرَاطَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ «مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» . فَجَوَّزَ لِلْمُشْتَرِي اشْتِرَاطَ زِيَادَةٍ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَيَمْلِكَانِ اشْتِرَاطَ النَّقْصِ مِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، كَمَا نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الشِّيَاهِ إلَّا أَنْ تُعْلَمَ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهَا إذَا عُلِمَتْ، وَكَمَا اسْتَثْنَى جَابِرٌ ظَهْرَ بَعِيرِهِ إلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا أَعْلَمُهُ عَلَى جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ مِثْلُ أَنْ يَبِيعَهُ الدَّارَ إلَّا رُبْعَهَا أَوْ ثُلُثَهَا، وَاسْتِثْنَاءُ الْجُزْءِ الْمُعَيَّنِ إذَا أَمْكَنَ فَصْلُهُ بِغَيْرِ ضَرَرٍ، مِثْلُ أَنْ يَبِيعَهُ ثَمَرَ الْبُسْتَانِ إلَّا نَخَلَاتٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ الثِّيَابَ أَوْ الْعَبِيدَ أَوْ الْمَاشِيَةَ الَّتِي قَدَّرَ إيَّاهَا إلَّا شَيْئًا مِنْهَا قَدْ عَيَّنَّاهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْمَنْفَعَةِ كَسَكْنِ الدَّارِ شَهْرًا أَوْ اسْتِخْدَامِ الْعَبِيدِ شَهْرًا، وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً أَوْ إلَى بَلْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ، مَعَ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُ إذَا اشْتَرَى أَمَةً مُزَوَّجَةً فَإِنَّ مَنْفَعَةَ بُضْعِهَا الَّتِي يَمْلِكُهَا الزَّوْجُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ. كَمَا اشْتَرَتْ عَائِشَةُ بَرِيرَةَ وَكَانَتْ مُزَوَّجَةً، وَلَكِنْ هِيَ اشْتَرَتْهَا بِشَرْطِ الْعِتْقِ فَلَمْ تَمْلِكْ التَّصَرُّفَ فِيهَا إلَّا بِالْعِتْقِ، وَالْعِتْقُ لَا يُنَافِي نِكَاحَهَا، فَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ مِمَّنْ رَوَى حَدِيثَ بَرِيرَةَ يَرَى أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ تَأْوِيلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] . قَالُوا: فَإِذَا ابْتَاعَهَا أَوْ اتَّهَبَهَا أَوْ وَرِثَهَا فَقَدْ مَلَكَتْهَا يَمِينُهُ فَيُبَاحُ لَهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِزَوَالِ مِلْكِ الزَّوْجِ، وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ، فَلَمْ يَرْضَ أَحْمَدُ هَذِهِ الْحُجَّةَ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَاهُ وَخَالَفَهُ، وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِمَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَمْلِكْ بَرِيرَةَ مِلْكًا مُطْلَقًا. ثُمَّ الْفُقَهَاءُ قَاطِبَةً وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَةَ إذَا انْتَقَلَ الْمِلْكُ فِيهَا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ إرْثٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَكَانَ مَالِكًا مَعْصُومَ الْمِلْكِ لَمْ يَزُلْ عَنْهَا مِلْكُ الزَّوْجِ

وَمَلَكَهَا الْمُشْتَرِي وَنَحْوُهُ إلَّا مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَنَّ الْبَائِعَ نَفْسَهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُزِيلَ مِلْكَ الزَّوْجِ لَمْ يُمْكِنْهُ، فَالْمُشْتَرِي الَّذِي هُوَ دُونَ الْبَائِعِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْهُ، وَلَا يَكُونُ الْمِلْكُ الثَّابِتُ لِلْمُشْتَرِي أَتَمَّ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَالزَّوْجُ مَعْصُومٌ لَا يَجُوزُ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى حَقِّهِ، بِخِلَافِ الْمَاشِيَةِ فَإِنَّ فِيهَا خِلَافًا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ، لِكَوْنِ أَهْلِ الْحَرْبِ يُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، فَكَذَلِكَ مَا مَلَكُوهُ مِنْ الْإِبْضَاعِ. وَكَذَلِكَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إذَا بَاعَ شَجَرًا قَدْ بَدَا ثَمَرُهُ كَالنَّخْلِ الْمُنَوِّرَةِ فَثَمَرُهُ لِلْبَائِعِ مُسْتَحِقُّ الْإِبْقَاءِ إلَى كَمَالِ صَلَاحِهِ. فَيَكُونُ الْبَائِعُ قَدْ اسْتَثْنَى مَنْفَعَةَ الشَّجَرِ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ كَالدَّارِ وَالْعَبْدِ عَامَّتُهُمْ يُجَوِّزُهُ وَيَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي دُونَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي لِلْمُسْتَأْجِرِ. وَكَذَلِكَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ يُجَوِّزُونَ اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ مَنْفَعَةِ الْعَقْدِ، كَمَا فِي صُوَرِ الْوِفَاقِ، كَاسْتِثْنَاءِ بَعْضِ أَجْزَائِهِ مُعَيَّنًا وَمَشَاعًا. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ مُعَيَّنًا إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِفَصْلِهِ كَبَيْعِ الشَّاةِ. وَاسْتِثْنَاءِ شَيْءٍ مِنْهَا سِوَى قِطَعِهَا مِنْ الرَّأْسِ وَالْجِلْدِ وَالْأَكَارِعِ. وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي نَوْعًا مِنْ الِانْتِفَاعِ فِي الْإِجَارَاتِ الْمُقَدَّرَةِ بِالزَّمَانِ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزَّرْعِ أَوْ حَانُوتًا لِلتِّجَارَةِ فِيهِ أَوْ صِنَاعَةً أَوْ أَجِيرَ الْخِيَاطَةِ أَوْ بِنَاءً وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَوْ زَادَ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمَهُ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي مِلْكَهُ الِاسْتِمْتَاعَ الْمُطْلَقَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعُرْفُ حَيْثُ ثَبَتَ، وَمَتَى ثَبَتَ فَيَمْلِكُهُ لَكِنْ حَيْثُ ثَبَتَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ الْمُحَرَّمِ أَوْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ، فَإِنَّ الْعُرْفَ لَا يَقْتَضِيهِ وَيَقْتَضِي مِلْكًا لِلْمَهْرِ الَّذِي هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَمَلَّكَهَا الِاسْتِمْتَاعَ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا ثَبَتَ لَهَا الْفَسْخُ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ الْمَشَاهِيرِ وَلَوْ آلَى مِنْهَا ثَبَتَ لَهَا فِرَاقُهُ إذَا لَمْ يَفِ بِالْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْوَطْءَ وَيُبِرُّ قَسَمَهُ الِابْتِدَائِيَّ، بَلْ يَكْتَفِي بِالْبَعْثِ الطَّبِيعِيِّ، فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ فَإِنَّ الصَّحِيحَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ، وَالْفَسْخُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَالِاعْتِبَارُ، وَهَلْ يَتَقَدَّرُ الْوَطْءُ الْوَاجِبُ بِمَرَّةٍ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ اعْتِبَارًا بِالْإِيلَاءِ، أَوْ يَجِبُ أَنْ يَطَأَهَا بِالْمَعْرُوفِ كَمَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا بِالْمَعْرُوفِ، فِيهِ خِلَافٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ.

وَالصَّحِيحُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ نُصُوصِ أَحْمَدَ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ السَّلَفِ أَنَّ مَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، كَالنَّفَقَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ، وَالْمُثْبَتِ لِلْمَرْأَةِ، وَكَالِاسْتِمْتَاعِ لِلزَّوْجِ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ بَلْ الْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] . فِي مِثْلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدٍ: «خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» . فَإِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِيهِ فَرَضَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ، كَمَا فَرَضَتْ الصَّحَابَةُ مِقْدَارَ الْوَطْءِ لِلزَّوْجِ بِمَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَمَنْ قَدَّرَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ الْوَطْءَ الْمُسْتَحَقَّ، فَهُوَ كَتَقْدِيرِ الشَّافِعِيِّ النَّفَقَةَ، إذْ كِلَاهُمَا مِمَّا تَحْتَاجُهُ الْمَرْأَةُ وَيُوجِبُهُ الْعَقْدُ، وَتَقْدِيرُ ذَلِكَ ضَعِيفٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، بَعِيدٌ عَنْ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ، وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا قَدَّرَهُ طَرْدًا لِلْقَاعِدَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُ مِنْ نَفْيِهِ لِلْجَهَالَةِ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ، قِيَاسًا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، فَجَعَلَ النَّفَقَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ مُقَدَّرَةً طَرْدًا كَذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَكَذَلِكَ يُوجِبُ الْعَقْدُ الْمُطْلَقُ سَلَامَةَ الزَّوْجِ مِنْ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَلَامَتَهَا مِنْ مَوَانِعِ الْوَطْءِ كَالرَّتْقِ وَسَلَامَتِهَا مِنْ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، وَكَذَلِكَ سَلَامَتُهَا مِنْ الْعُيُوبِ الَّتِي تَمْنَعُ كَمَالَهُ كَخُرُوجِ النَّجَاسَاتِ مِنْهُ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي إحْدَى الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ دُونَ الْجَمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمُوجِبُهُ كَفَاءَةُ الرَّجُلِ أَيْضًا دُونَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ لَوْ شَرَطَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ صِفَةً مَقْصُودَةً كَالْمَالِ وَالْجَمَالِ وَالْبَكَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ صَحَّ ذَلِكَ. وَمَلَكَ بِالشَّرْطِ الْفَسْخَ عِنْدَ فَوْتِهِ فِي أَصَحِّ رِوَايَتَيْ أَحْمَدَ؛ وَأَصَحِّ وَجْهَيْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ وَظَاهِرِ مَذْهَبِ مَالِكٍ؛ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ إلَّا فِي شَرْطِ الْحُرِّيَّةِ وَالدِّينِ؛ وَفِي شَرْطِ النَّسَبِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَجْهَانِ؛ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرِطُ هُوَ الْمَرْأَةُ فِي الرَّجُلِ أَوْ الرَّجُلُ فِي الْمَرْأَةِ، بَلْ اشْتِرَاطُ الْمَرْأَةِ فِي الرَّجُلِ أَوْكَدُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ؛ وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَا أَصْلَ لَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ بَعْضَ الصِّفَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ الزَّوْجُ

أَنَّهُ مَجْبُوبٌ أَوْ عِنِّينٌ؛ أَوْ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا رَتْقَاءُ أَوْ مَجْبُوبَةٌ صَحَّ هَذَا الشَّرْطُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ شَرْطِ النَّقْصِ عَنْ مُوجِبِ الْعَقْدِ، وَاخْتَلَفُوا فِي شَرْطِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ كَمَا ذَكَرْته لَك، فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلرَّجُلِ خِيَارُ عَيْبٍ وَلَا شَرْطٌ فِي النِّكَاحِ. وَأَمَّا الْمَهْرُ فَإِنَّهُ لَوْ زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ نَقَصَ فِيهِ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ؛ وَكَذَلِكَ يُجَوِّزُ أَكْثَرُ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَمَالِكٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، أَنْ تُنْقِصَ مِلْكَ الزَّوْجِ، فَتَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْقُلَهَا مِنْ وَلَدِهَا وَمِنْ دَارِهَا، وَأَنْ يَزِيدَهَا عَلَى مَا تَمْلِكُهُ بِالْمُطْلَقِ، فَيَزِيدُ عَلَيْهَا نَفْسَهُ، فَلَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا، وَلَا يَتَسَرَّى، وَعِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، لَا يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ لَكِنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَثَّرَ فِي تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ وَالْقِيَاسُ الْمُسْتَقِيمُ فِي هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي عَلَيْهِ أُصُولُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، أَنَّ اشْتِرَاطَ زِيَادَةٍ عَلَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ وَاشْتِرَاطَ النَّقْصِ جَائِزٌ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الشَّرْعُ، فَإِذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا وَالنَّقْصُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْته، فَالزِّيَادَةُ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، وَالنَّقْصُ مِنْهُ كَذَلِكَ، فَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُعْتِقَ الْعَبْدَ، أَوْ يَقِفَ الْعَيْنَ عَلَى الْبَائِعِ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ يَقْضِي بِالْعَيْنِ دَيْنًا عَلَيْهِ لِمُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَوْ أَنْ يَصِلَ بِهِ رَحِمَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، هُوَ اشْتِرَاطُ تَصَرُّفٍ مَقْصُودٍ، وَمِثْلُهُ التَّبَرُّعُ وَالْمَفْرُوضُ وَالتَّطَوُّعُ. وَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْعِتْقِ وَغَيْرِهِ بِمَا فِي الْعِتْقِ مِنْ الْفَضْلِ الَّذِي تَشَوَّفَهُ الشَّارِعُ فَضَعِيفٌ، فَإِنَّ بَعْضَ أَنْوَاعِ التَّبَرُّعَاتِ أَفْضَلُ مِنْهُ، فَإِنَّ صِلَةَ ذِي الرَّحِمِ الْمُحْتَاجِ أَفْضَلُ مِنْ الْعِتْقِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَإِنَّ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ أَعْتَقَتْ جَارِيَةً لَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ تَرَكْتِيهَا لِأَخْوَالِك لَكَانَ خَيْرًا لَك» . وَلِهَذَا لَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ أَقَارِبُ لَا يَرِثُونَ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ أَوْلَى مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ، وَمَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا وَإِنَّمَا أَعْلَمُ الِاخْتِلَافَ فِي وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ: (إحْدَاهُمَا) : تَجِبُ، كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. (وَالثَّانِيَةُ) : لَا تَجِبُ كَقَوْلِ الْفُقَهَاءِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهِمْ،

وَلَوْ وَصَّى لِغَيْرِهِمْ دُونَهُمْ فَهَلْ تُرَدُّ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ عَلَى أَقَارِبِهِ دُونَ الْمُوصَى لَهُ، أَوْ يُعْطَى ثُلُثُهَا لِلْمُوصَى لَهُ وَثُلُثَاهَا لِأَقَارِبِهِ كَمَا يَقْسِمُ التَّرِكَةَ الْوَرَثَةُ وَالْمُوصَى لَهُ. عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ هُوَ الْقَوْلُ بِنُفُوذِ الْوَصِيَّةِ. فَإِذَا كَانَ بَعْضُ التَّبَرُّعَاتِ أَفْضَلَ مِنْ الْعِتْقِ لَمْ يَصِحَّ تَعْلِيلُهُ بِاخْتِصَاصِهِ بِمَزِيدِ الْفَضِيلَةِ، وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ الْمَشْرُوطُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِعْلًا كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِلَّهِ مِنْ زَكَاةٍ، أَوْ كَفَّارَةٍ، أَوْ نَذْرٍ، أَوْ دَيْنٍ لِآدَمِيٍّ، فَاشْتُرِطَ عَلَيْهِ تَأْدِيَتُهُ وَكَانَ بِنِيَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَبِيعِ، أَوْ اشْتِرَاطِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ وِعَاءَ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا أَوْكَدُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْعِتْقِ وَأَمَّا السِّرَايَةُ، فَإِنَّمَا كَانَ لِتَعْمِيدِ الْحُرِّيَّةِ، وَقَدْ شُرِّعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ، وَهُوَ حَقُّ الشُّفْعَةِ، فَإِنَّهَا شُرِعَتْ لِتَعْمِيدِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي، لِمَا فِي الشَّرِكَةِ مِنْ الضَّرَرِ لَهُ. وَنَحْنُ نَقُولُ شُرِعَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمُشَارَكَاتِ لِيُمَكَّنَ الشَّرِيكُ مِنْ الْمُقَاسَمَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَ قِسْمَةُ الْعَيْنِ وَإِلَّا قَسَمْنَا ثَمَنَهَا إذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا ذَلِكَ، فَيَكْمُلُ الْعِتْقُ نَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ، إذْ الشَّرِكَةُ تَزُولُ بِالْقَسَمِ تَارَةً، وَبِالتَّكْمِيلِ أُخْرَى. وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْمِلْكَ هُوَ الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الرَّقَبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْقُدْرَةِ الْحِسِّيَّةِ، فَيُمْكِنُ أَنْ تَثْبُتَ الْقُدْرَةُ عَلَى تَصَرُّفٍ دُونَ تَصَرُّفٍ شَرْعًا، كَمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ حِسًّا، وَلِهَذَا جَاءَ الْمِلْكُ فِي الشَّرْعِ أَنْوَاعًا، فَالْمِلْكُ التَّامُّ يُمْلَكُ فِيهِ التَّصَرُّفُ فِي الرَّقَبَةِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَيُورَثُ عَنْهُ، وَفِي مَنَافِعِهِ بِالْإِعَارَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالِانْتِفَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ قَدْ يَمْلِكُ الْأَمَةَ الْمَجُوسِيَّةَ أَوْ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَيْهِ بِالرَّضَاعِ، فَلَا يَمْلِكُ مِنْهُنَّ الِاسْتِمْتَاعَ وَيَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ بِالتَّزْوِيجِ بِأَنْ يُزَوِّجَ الْمَجُوسِيَّةَ بِمَجُوسِيٍّ مَثَلًا، وَقَدْ يَمْلِكُ أُمَّ الْوَلَدِ وَلَا يَمْلِكُ بَيْعَهَا وَلَا هِبَتَهَا وَلَا يُورَثُ عَنْهُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَمْلِكُ وَطْأَهَا وَاسْتِخْدَامَهَا بِاتِّفَاقِهِمْ، وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّزْوِيجِ وَالْإِجَارَةِ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ، كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَيَمْلِكُ الْمَرْهُونَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ وَلَا يَمْلِكُ مِنْ التَّصَرُّفِ مَا يُزِيلُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ لَا بَيْعًا وَلَا هِبَةً، وَفِي الْعِتْقِ خِلَافُ مَشْهُورِ وَالْعَبْدِ الْمَنْذُورِ عِتْقُهُ وَالْهَوَاءِ وَالْمَالِ الَّذِي قَدْ نُذِرَ لِلصَّدَقَةِ بِعَيْنِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا اُسْتُحِقَّ صَرْفُهُ إلَى الْقُرْبَةِ قَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، هَلْ يُزَالُ مِلْكُهُ عَنْهُ بِذَلِكَ أَمْ لَا، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَارِجٌ عَنْ قِيَاسِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ. فَمَنْ قَالَ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ كَمَا قَدْ يَقُولُهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، فَهُوَ مِلْكٌ لَا يُمْلَكُ صَرْفُهُ

إلَّا إلَى الْجِهَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ النُّسُكِ أَوْ الصَّدَقَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى بِشَرْطِ الْعِتْقِ أَوْ الصَّدَقَةِ أَوْ الصِّلَةِ أَوْ الْبَدَنَةِ الْمُشْتَرَاةِ بِشَرْطِ الْإِهْدَاءِ إلَى الْحَرَمِ، وَمَنْ قَالَ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ عِتْقَهُ وَإِهْدَاءَهُ وَالصَّدَقَةَ بِهِ، وَهُوَ أَيْضًا خِلَافُ قِيَاسِ زَوَالِ الْمِلْكِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضُوعِ. كَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي الْوَقْفِ عَلَى مُعَيَّنٍ هَلْ يَصِيرُ وَقْفُهُ مِلْكًا لِلَّهِ أَوَيَنْتَقِلُ إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْمِلْكُ الْمَوْصُوفُ نَوْعٌ مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ. وَكَذَلِكَ مِلْكُ الْمَوْهُوبِ لَهُ حَيْثُ يَجُوزُ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ كَالْأَبِ إذَا وَهَبَ لِابْنِهِ عِنْدَ فُقَهَاءَ. كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ نَوْعٌ مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ. حَيْثُ يُسَلِّطُ غَيْرُ الْمَالِكِ عَلَى انْتِزَاعِهِ مِنْهُ وَفَسْخِ عَقْدِهِ وَنَظِيرُهُ سَائِرُ الْأَمْلَاكِ فِي عَقْدٍ يَجُوزُ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ، كَالْمَبِيعِ بِشَرْطٍ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ انْتَقَلَ إلَى الْمُشْتَرِي كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا. وَكَالْبَيْعِ إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ، وَكَالْمَبِيعِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ عَيْبٌ أَوْ فَوَاتُ صِفَةٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَهَا هُنَا فِي الْمُعَاوَضَةِ وَالتَّبَرُّعِ يَمْلِكُ الْعَاقِدُ انْتِزَاعَهُ، وَمِلْكُ الْأَبِ لَا يَمْلِكُ انْتِزَاعَهُ وَجِنْسُ الْمِلْكِ يَجْمَعُهُمَا. وَكَذَلِكَ مِلْكُ الِابْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا فِيهِ مَعْنَى الْكِتَابِ وَصَرِيحَ السُّنَّةِ فِي طَوَائِفَ مِنْ السَّلَفِ، وَهُوَ مُبَاحٌ لِلْأَبِ مَمْلُوكٌ لِلِابْنِ بِحَيْثُ يَكُونُ لِلْأَبِ كَالْمُبَاحَاتِ الَّتِي تُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ. وَمِلْكُ الِابْنِ ثَابِتٌ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفًا مُطْلَقًا، فَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ يَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا وَفِيهِ مِنْ الْإِطْلَاقِ، وَالتَّقَيُّدِ مَا وَصَفْته وَمَا لَمْ أَصِفْهُ، لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ ذَلِكَ مُفَوَّضًا إلَى الْإِنْسَانِ يُثْبِتُ مِنْهُ مَا رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً، وَيَمْتَنِعُ مِنْ إثْبَاتِ مَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ، وَالشَّارِعُ لَا يَحْظُرُ عَلَى الْإِنْسَانِ إلَّا مَا فِيهِ فَسَادٌ رَاجِحٌ أَوْ مَحْضٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَسَادٌ أَوْ كَانَ فَسَادُهُ مُغَمَّرًا بِالْمَصْلَحَةِ لَمْ يَخْطِرْهُ أَبَدًا.

القاعدة الرابعة الشرط المتقدم على العقد

[الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ الشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْعَقْدِ] ِ الشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَارِنِ لَهُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَمَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي صَدَاقِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَنَقَلُوهُ إلَى شَرْطِ التَّحْلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ لَا يُؤَثِّرُ بَلْ يَكُونُ، كَالْوَعْدِ الْمُطْلَقِ عِنْدَهُمْ يَسْتَحِيلُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ قَدْ يَخْتَارُهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، كَاخْتِيَارِ بَعْضِهِمْ أَنَّ التَّحْلِيلَ الْمَشْرُوطَ قَبْلَ الْعَقْدِ لَا يُؤَثِّرُ إلَّا أَنْ يُفَوِّتُهُ الزَّوْجُ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَكَقَوْلِ طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْهُمْ بِمَا نَقَلُوهُ عَنْ أَحْمَدَ مِنْ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى الْعَقْدِ فِي الصَّدَاقِ لَا يُؤَثِّرُ، وَإِنَّمَا تُؤَثِّرُ التَّسْمِيَةُ فِي الْعَقْدِ، وَمِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ طَائِفَةٌ، كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ الرَّافِعِ لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ أَوْ الْمُغَيِّرِ لَهُ، فَإِنْ كَانَ رَافِعًا، كَالْمُوَاطَأَةِ عَلَى كَوْنِ الْعَقْدِ تَلْجِئَتَهُ، أَوْ تَحْلِيلًا أَبْطَلَهُ، وَإِنْ كَانَ مُغَيِّرًا كَاشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَهْرِ أَقَلَّ مِنْ الْمُسَمَّى لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ. لَكِنْ الْمَشْهُورُ فِي نُصُوصِ أَحْمَدَ وَأُصُولِهِ، وَمَا عَلَيْهِ قُدَمَاءُ أَصْحَابِهِ، كَقَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ كَالشَّرْطِ الْمُقَارِنِ، فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى شَيْءٍ وَعُقِدَ الْعَقْدُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مَصْرُوفٌ إلَى الْمَعْرُوفِ بَيْنَهُمَا مِمَّا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، كَمَا تَنْصَرِفُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فِي الْعُقُودِ إلَى الْمَعْرُوفِ بَيْنَهُمَا، وَكَمَا أَنَّ جَمِيعَ الْعُقُودِ إنَّمَا تَنْصَرِفُ إلَى مَا يَتَعَارَفُهُ الْمُتَعَاقِدَانِ.

القاعدة الخامسة في الأيمان والنذور

[الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 2] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 224] . وَقَالَ تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225] {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87] {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 88] {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] . وَفِي هَذَا الْبَابِ قَوَاعِدُ عَظِيمَةٌ لَكِنْ تَحْتَاجُ إلَى تَقَدُّمِ مُقَدَّمَاتٍ نَافِعَةٍ جِدًّا فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ: الْمُقَدَّمَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْيَمِينَ يَشْتَمِلُ عَلَى جُمْلَتَيْنِ، جُمْلَةٍ مُقْسَمٍ بِهَا وَجُمْلَةٍ

مُقْسَمٍ عَلَيْهَا فَأَمَّا الْمَحْلُوفُ بِهِ فَالْأَيْمَانُ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ، مِمَّا قَدْ يَلْزَمُ بِهَا حُكْمُ سِتَّةِ أَنْوَاعٍ لَيْسَ لَهَا سَابِعٌ: أَحَدُهَا: الْيَمِينُ بِاَللَّهِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا فِيهِ الْتِزَامُ كُفْرٍ كَقَوْلِهِ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. الثَّانِي: الْيَمِينُ بِالنَّذْرِ الَّذِي يُسَمَّى نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ كَقَوْلِهِ عَلَيَّ الْحَجُّ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ أَنْتَ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ إنْ فَعَلْت كَذَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ. الرَّابِعُ: الْيَمِينُ بِالْعَتَاقِ. الْخَامِسُ: الْيَمِينُ بِالْحَرَامِ كَقَوْلِهِ عَلَيَّ الْحَرَامُ لَا أَفْعَلُ كَذَا. السَّادِسُ: الظِّهَارُ كَقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إنْ فَعَلْت كَذَا. فَهَذَا مَجْمُوعُ مَا يَحْلِفُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِمَّا فِي حُكْمِهِ. فَأَمَّا الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ، كَالْحَلِفِ بِالْكَعْبَةِ، أَوْ قَبْرِ الشَّيْخِ، أَوْ بِنِعْمَةِ السُّلْطَانِ، أَوْ بِالسَّيْفِ، أَوْ بِجَاهِ أَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ، فَمَا أَعْلَمُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا أَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ مَكْرُوهَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَأَنَّ الْحَلِفَ بِهَا لَا يُوجِبُ حِنْثًا وَلَا كَفَّارَةً، وَهَلْ الْحَلِفُ بِهَا مَكْرُوهٌ أَوْ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا، كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ، إنَّهُ إذَا قَالَ أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ تَلْزَمُنِي إنْ فَعَلْت كَذَا لَزِمَهُ مَا يَلْزَمُ فَفِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَالنَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارَةِ. وَلَمْ يَذْكُرُوا الْحَرَامَ، لِأَنَّ يَمِينَ الْحَرَامِ حَرَامٌ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَ مُوجِبُهَا وَاحِدًا عِنْدَهُمْ دَخَلَ الْحَرَامُ فِي الظِّهَارِ وَلَمْ يُدْخِلُوا النَّذْرَ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ بِالنَّذْرِ، لِأَنَّ مُوجِبَ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ الْمُسَمَّى بِنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ عِنْدَ الْحِنْثِ هُوَ التَّخَيُّرُ بَيْنَ التَّكْفِيرِ وَبَيْنَ فِعْلِ الْمُنْذَرِ، وَمُوجِبُ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ هُوَ التَّكْفِيرُ فَقَطْ، فَلَمَّا اخْتَلَفَ مُوجِبُهُمَا جَعَلُوهُمَا يَمِينَيْنِ، نَعَمْ إذَا قَالُوا بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ أَنَّ الْحَلِفَ بِالنَّذْرِ مُوجِبَةٌ الْكَفَّارَةَ فَقَطْ دَخَلَتْ الْيَمِينُ بِالنَّذْرِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا اخْتِلَافُهُمْ وَاخْتِلَافُ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ، هَلْ يَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ أَوْ لَا يَنْعَقِدُ، فَسَأَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّمَا غَرَضِي هُنَا حَصْرُ الْأَيْمَانِ الَّتِي حَلَفَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ.

وَأَمَّا أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ، فَقَالُوا: أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهَا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ، وَكَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ النَّاسَ يُبَايِعُونَ الْخُلَفَاءَ، كَمَا بَايَعَ الصَّحَابَةُ النَّبِيَّ يَعْقِدُونَ الْبَيْعَةَ كَمَا يَعْقِدُونَ عَقْدَ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِمَا، إمَّا أَنْ يَذْكُرُوا الشُّرُوطَ الَّتِي يُبَايِعُونَ عَلَيْهَا ثُمَّ يَقُولُونَ بَايَعْنَاك عَلَى ذَلِكَ كَمَا بَايَعَتْ الْأَنْصَارُ النَّبِيَّ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، فَلَمَّا أَحْدَثَ الْحَجَّاجُ حَلَفَ النَّاسُ عَلَى بَيْعَتِهِمْ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَصَدَقَةِ الْمَالِ، فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ الْأَرْبَعَةُ، هِيَ كَانَتْ أَيْمَانَ الْبَيْعَةِ الْقَدِيمَةِ الْمُبْتَدَعَةِ، ثُمَّ أَحْدَثَ الْمُسْتَحْلِفُونَ عَنْ الْأُمَرَاءِ مِنْ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ، وَغَيْرِهِمْ أَيْمَانًا كَثِيرَةً أَكْثَرَ مِنْ تِلْكَ، وَقَدْ تَخْتَلِفُ فِيهَا عَادَتُهُمْ، مَنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ فَحَسْبُهُ إثْمًا مَا تَرَتَّبَ عَلَى هَذِهِ الْأَيْمَانِ مِنْ الشَّرِّ. الْمُقَدَّمَةُ الثَّانِيَةُ: إنَّ هَذِهِ الْأَيْمَانَ يُحْلَفُ بِهَا تَارَةً بِصِيغَةِ الْقَسَمِ، وَتَارَةً بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَخْرُجَ الْيَمِينُ عَنْ هَاتَيْنِ الصِّيغَتَيْنِ، فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي أَنْ أَفْعَلَ كَذَا، أَوْ عَلَيَّ الْحَرَامُ لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَوْ عَلَيَّ الْحَجُّ لَا أَفْعَلُ. وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ، أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي حَرَامٌ أَوْ فَهِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ، وَلِهَذَا عَقَدَ الْفُقَهَاءُ لِمَسَائِلِ الْأَيْمَانِ بَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِأَنْ يُعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِالشَّرْطِ فَيَذْكُرُونَ فِيهِ الْحَلِفَ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ كَانَ وَمَتَى وَإِذَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنْ دَخَلَ فِيهِ صِيغَةُ الْقَسَمِ ضِمْنًا وَتَبَعًا. وَالْبَابُ الثَّانِي بَابُ جَامِعِ الْأَيْمَانِ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَيَذْكُرُونَ فِيهِ الْحَلِفَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَإِنْ دَخَلَتْ صِيغَةُ الْجَزَاءِ ضِمْنًا، وَمَسَائِلُ أَحَدِ الْبَابَيْنِ مُخْتَلِطَةٌ بِمَسَائِلِ الْبَابِ الْآخَرِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى كَثِيرًا وَغَالِبًا، وَكَذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ لَمَّا ذَكَرُوا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ " بَابَ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشُّرُوطِ أَرْدَفُوهُ بِبَابِ جَامِعِ الْأَيْمَانِ، وَطَائِفَةٌ أُخْرَى كَالْخِرَقِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَغَيْرِهِمَا إنَّمَا ذَكَرُوا بَابَ جَامِعِ الْأَيْمَانِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ؛ لِأَنَّهُ أَمَسُّ، وَنَظِيرُ

هَذَا بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ مِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُهُ عِنْدَ بَابِ اللِّعَانِ لِاتِّصَالِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤَخِّرُهُ إلَى كِتَابِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ بِهِ أَخَصُّ. وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ لِلْيَمِينِ صِيغَتَيْنِ صِيغَةَ الْقَسَمِ وَصِيغَةَ الْجَزَاءِ فَالْمَقْسُومُ عَلَيْهِ فِي صِيغَةِ الْقَسَمِ مُؤَخَّرٌ فِي صِيغَةِ الْجَزَاءِ، وَالْمُؤَخَّرُ فِي صِيغَةِ الْجَزَاءِ مُقَدَّمٌ فِي صِيغَةِ الْقَسَمِ وَالشَّرْطُ الْمُثْبَتُ فِي صِيغَةِ الْجَزَاءِ مَنْفِيٌّ فِي صِيغَةِ الْقَسَمِ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا فَقَدْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ، أَنْ لَا يَفْعَلَ، فَالطَّلَاقُ مُقَدَّمٌ مُثْبَتٌ وَالْفِعْلُ مُؤَخَّرٌ مَنْفِيٌّ فَلَوْ حَلَفَ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، وَكَانَ يُقَدَّمُ الْفِعْلُ مُثْبَتًا وَيُؤَخَّرُ الطَّلَاقُ مَنْفِيًّا، كَمَا أَنَّهُ فِي الْقَسَمِ قُدِّمَ الْحُكْمُ وَأُخِّرَ الْفِعْلُ وَبِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَنْحَلُّ مَسَائِلُ مِنْ مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ فَأَمَّا صِيغَةُ الْجَزَاءِ فَهِيَ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ فِي الْأَصْلِ. فَإِنَّ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ لَا يَتَّصِلُ بِهَا فِي الْأَصْلِ إلَّا الْفِعْلُ وَأَمَّا صِيغَةُ الْقَسَمِ فَتَكُونُ فِعْلِيَّةً كَقَوْلِهِ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَوْ تَاللَّهِ أَوْ وَاَللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَتَكُونُ اسْمِيَّةً كَقَوْلِهِ لَعَمْرُ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ وَالْحِيلَةُ عَلَيَّ حَرَامٌ لَأَفْعَلَنَّ، ثُمَّ هَذَا التَّقْسِيمُ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الْأَيْمَانِ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ، بَلْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ تَارَةً تَكُونُ بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ الَّذِي هُوَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ كَقَوْلِهِ فِي الْجَعَالَةِ مَنْ رَدَّ عَبْدِي الْآبِقَ فَلَهُ كَذَا، وَقَوْلِهِ فِي السَّبَقِ مَنْ سَبَقَ فَلَهُ كَذَا. وَتَارَةً بِصِيغَةِ التَّنْجِيزِ إمَّا صِيغَةُ خَبَرٍ كَقَوْلِهِ بِعْت وَزَوَّجْت وَإِمَّا صِيغَةُ طَلَبٍ كَقَوْلِهِ بِعْنِي وَاخْلَعْنِي. الْمُقَدَّمَةُ الثَّالِثَةُ: وَفِيهَا يَظْهَرُ شَرُّ مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ وَنَحْوِهَا، أَنَّ صِيغَةَ التَّعْلِيقِ الَّتِي تُسَمَّى صِيغَةَ الشَّرْطِ وَصِيغَةُ الْمُجَازَاةِ تَنْقَسِمُ إلَى سِتَّةِ أَنْوَاعٍ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ فَقَطْ أَوْ وُجُودَ الْجَزَاءِ فَقَطْ أَوْ وُجُودَهُمَا، وَإِمَّا أَنْ لَا يُقْصَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بَلْ يَكُونُ مَقْصُودُهُ عَدَمَ الشَّرْطِ فَقَطْ أَوْ الْجَزَاءَ فَقَطْ أَوْ عَدَمَهُمَا. فَالْأَوَّلُ: بِمَنْزِلَةِ كَثِيرٍ مِنْ صُوَرِ الْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ وَنَذْرِ التَّبَرُّرِ وَالْجَعَالَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ أَعْطَيْتنِي أَلْفًا فَأَنْتَ طَالِقٌ أَوْ فَقَدْ خَالَعْتكِ، أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ أَدَّيْت أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ. أَوْ قَالَ إنْ رَدَدْت عَبْدِي الْآبِقَ فَلَكَ أَلْفٌ، أَوْ قَالَ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ سَلِمَ مَالِي الْغَائِبُ فَعَلَيَّ عِتْقُ كَذَا وَالصَّدَقَةُ بِكَذَا. فَالْمُعَلَّقُ قَدْ لَا يَكُونُ مَقْصُودَهُ إلَّا أَخْذَ الْمَالِ وَرَدَّ الْعَبْدِ وَسَلَامَةَ الْعِتْقِ وَالْمَالِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَ الْجَزَاءَ عَلَى سَبِيلِ

الْعِوَضِ كَالْبَائِعِ الَّذِي كَانَ مَقْصُودُهُ أَخْذَ الثَّمَنِ، وَالْتَزَمَ رَدَّ الْمَبِيعِ عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ، فَهَذَا الضَّرْبُ هُوَ سَبَبُهُ بِالْمُعَاوَضَةِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ قَدْ جَعَلَ الطَّلَاقَ عُقُوبَةً مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إذَا ضَرَبْت أَمَتِي فَأَنْتَ طَالِقٌ وَإِنْ خَرَجْت مِنْ الدَّارِ فَأَنْتَ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ فِي الْخُلْعِ عَوَّضَهَا بِالتَّطْلِيقِ عَنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا تُزِيلُ الطَّلَاقَ وَهُنَا عَوَّضَهَا عَنْ مَعْصِيَتِهَا بِالطَّلَاقِ. وَأَمَّا الثَّانِي: قِيلَ: أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ إنَّهُ إذَا ظَهَرْت فَأَنْتَ طَالِقٌ، أَوْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ إذَا مِتّ فَأَنْتَ حُرٌّ. أَوْ إذَا جَاءَ رَأْسُ الْحَوْلِ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ التَّعْلِيقِ الَّذِي هُوَ تَوْقِيتٌ مَحْضٌ، فَهَذَا الضَّرْبُ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَجَّزِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَصَدَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ إلَى الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، بِمَنْزِلَةِ تَأْجِيلِ الدَّيْنِ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يُؤَخِّرُ الطَّلَاقَ مِنْ وَقْتٍ إلَى وَقْتٍ لِغَرَضٍ لَهُ فِي التَّأْخِيرِ لَا لِعِوَضٍ وَلَا لِحَثٍّ عَلَى طَلَبٍ أَوْ خَبَرٍ. وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ إذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ بِطَلَاقِك. أَوْ إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِك فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت أَوْ لَمْ تَدْخُلِي وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَعْنَى الْحَضِّ أَوْ الْمَنْعِ فَهُوَ حَالِفٌ وَلَوْ كَانَ تَعْلِيقًا مَحْضًا كَقَوْلِهِ: إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَأَنْتَ طَالِقٌ وَإِنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِحَالِفٍ وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَاضِي فِي الْجَامِعِ هُوَ حَالِفٌ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ وُجُودَهُمَا جَمِيعًا. فَمِثْلُ الَّذِي قَدْ آذَتْهُ امْرَأَتُهُ حَتَّى أَحَبَّ طَلَاقَهَا وَاسْتِرْجَاعَ الْفِدْيَةِ مِنْهَا، فَيَقُولُ إنْ أَبْرَأْتنِي مِنْ صَدَاقِك أَوْ مِنْ نَفَقَتِك فَأَنْتَ طَالِقٌ، وَهُوَ يُرِيدُ كُلًّا مِنْهُمَا. وَأَمَّا الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ عَدَمَ الشَّرْطِ، لَكِنَّهُ إذَا وُجِدَ لَمْ يُكْرَهْ الْجَزَاءُ بَلْ يُحِبُّهُ أَوْ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَكْرَهُهُ، فَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ إنْ زَنَيْت فَأَنْتَ طَالِقٌ، وَإِنْ ضَرَبْت أُمِّي فَأَنْتَ طَالِقٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ فِيهِ عَدَمُ الشَّرْطِ، وَيُقْصَدُ وُجُودُ الْجَزَاءِ عِنْدَ وُجُودِهِ. بِحَيْثُ تَكُونُ إذَا زَنَتْ أَوْ إذَا ضَرَبَتْ أُمَّهُ يَجِبُ فِرَاقُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لَهُ، فَهَذَا فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ وَمَعْنَى التَّوْقِيتِ فَإِنَّهُ مَنَعَهَا مِنْ الْفِعْلِ وَقَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ كَمَا قَصَدَ إيقَاعَهُ عِنْدَ أَخْذِ الْعِوَضِ مِنْهَا أَوْ عِنْدَ طُهْرِهَا أَوْ طُلُوعِ الْهِلَالِ.

وَأَمَّا الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ عَدَمَ الْجَزَاءِ وَتَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ. لِئَلَّا يُوجَدَ. وَلَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي عَدَمِ الشَّرْطِ فَهَذَا قَلِيلٌ كَمَنْ يَقُولُ إنْ أَصَبْت مِائَةَ رَمْيَةٍ أَعْطَيْتُك كَذَا. وَأَمَّا السَّادِسُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ عَدَمَهُمَا الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ. وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ لِيَمْتَنِعَ وُجُودُهُمَا، فَهُوَ مِثْلُ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ وَمِثْلُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى حَضٍّ أَوْ مَنْعٍ أَوْ تَصْدِيقٍ أَوْ تَكْذِيبٍ، مِثْلُ أَنْ يُقَالَ لَهُ تَصَدَّقْ فَيَقُولَ إنْ أَتَصَدَّقْ فَعَلَيْهِ صِيَامُ كَذَا وَكَذَا. أَوْ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ. أَوْ فَعَبِيدُهُ أَحْرَارٌ، أَوْ يَقُولُ إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَعَلَيَّ نَذَرَ كَذَا أَوْ امْرَأَتِي طَالِقٌ أَوْ عَبْدِي حُرٌّ، أَوْ يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُقْصَدُ مَنْعُهُ كَعَبْدِهِ وَنَسِيبِهِ وَصَدِيقِهِ مِمَّنْ يَحُضُّهُ عَلَى طَاعَتِهِ. فَيَقُولُ لَهُ: إنْ فَعَلْت أَوْ إنْ لَمْ أَفْعَلْ فَعَلَيَّ كَذَا أَوْ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذَا نَذَرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ وَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِخِلَافِهِ فِي الْمَعْنَى نَذْرُ التَّبَرُّرِ وَالتَّقَرُّبِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ، فَإِنَّ الَّذِي يَقُولُ إنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ أَوْ سَلَّمَ مَالِي مِنْ كَذَا أَوْ إنْ أَعْطَانِي اللَّهُ كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ أَوْ أَصُومَ أَوْ أَحُجَّ، قَصْدُهُ حُصُولُ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْغَنِيمَةُ أَوْ السَّلَامَةُ، وَقَصَدَ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا نَذَرَهُ لَهُ وَكَذَلِكَ الْمُخَالَعُ وَالْمُكَاتَبُ قَصْدُهُ حُصُولُ الْعِوَضِ وَبَدَلِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا النَّذْرُ فِي اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ إذَا قِيلَ لَهُ افْعَلْ كَذَا فَامْتَنَعَ مِنْ فِعْلِهِ، ثُمَّ قَالَ إنْ فَعَلْته فَعَلَيَّ الْحَجُّ وَالصِّيَامُ، فَهُنَا مَقْصُودُهُ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّرْطُ ثَمَّ إنَّهُ لِقُوَّةِ امْتِنَاعِهِ أَلْزَمَ نَفْسَهُ إنْ فَعَلَهُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّقِيلَةِ عَلَيْهِ، لِيَكُونَ إلْزَامُهَا لَهُ إذَا فَعَلَ مَانِعًا لَهُ مِنْ الْفِعْلِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إنْ فَعَلْته فَامْرَأَتِي طَالِقٌ أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ، إنَّمَا مَقْصُودُهُ الِامْتِنَاعُ وَالْتَزَمَ بِتَقْدِيرِ الْفِعْلِ مَا هُوَ شَدِيدٌ عَلَيْهِ مِنْ فِرَاقِ أَهْلِهِ وَذَهَابِ مَالِهِ، لَيْسَ غَرَضُ هَذَا أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِعِتْقٍ أَوْ صَدَقَةٍ وَلَا أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَتَهُ. وَلِهَذَا سَمَّى الْعُلَمَاءُ هَذَا نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ فِيمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «لَأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ الْكَفَّارَةَ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ لَهُ» . فَصُورَةُ هَذَا النَّذْرِ صُورَةُ نَذْرِ التَّبَرُّرِ فِي اللَّفْظِ، وَمَعْنَاهُ

شَدِيدُ الْمُبَايَنَةِ لِمَعْنَاهُ، وَمِنْ هُنَا نَشَأَتْ الشُّبْهَةُ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا فِي هَذَا الْبَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَيَتَبَيَّنُ فِقْهُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الَّذِينَ نَظَرُوا إلَى مَعَانِي الْأَلْفَاظِ لَا إلَى صُوَرِهَا إذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ الدَّاخِلَةُ فِي قِسْمِ التَّعْلِيقِ، فَقَدْ عَلِمْت أَنَّ بَعْضَهَا مَعْنَاهُ مَعْنَى الْيَمِينِ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَبَعْضَهَا لَيْسَ مَعْنَاهُ ذَلِكَ. فَمَتَى كَانَ الشَّرْطُ الْمَقْصُودُ حَضًّا عَلَى فِعْلٍ أَوْ مَنْعًا مِنْهُ أَوْ تَصْدِيقًا لِخَبَرٍ أَوْ تَكْذِيبًا كَانَ الشَّرْطُ مَقْصُودَ الْعَدَمِ وَجَزَاؤُهُ كَنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ عَلَى وَجْهِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ: الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: إنَّ الْحَلِفَ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] . وَقَالَ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَمُرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِّلْت إلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك» ، فَبَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ حُكْمَ الْأَمَانَةِ الَّذِي هُوَ الْإِمَارَةُ، وَحُكْمَ الْعَهْدِ الَّذِي هُوَ الْيَمِينُ، وَكَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَا مَخْرَجَ لَهُمْ مِنْ الْيَمِينِ قَبْلَ أَنْ تُشْرَعَ الْكَفَّارَةُ، وَلِهَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ عَقْدٌ بِاَللَّهِ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، كَمَا يَجِبُ بِسَائِرِ الْعُقُودِ وَأَشَدُّ، قَوْلُهُ احْلِفْ بِاَللَّهِ وَاقْسِمْ بِاَللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ اعْقِدْ بِاَللَّهِ، وَلِهَذَا عُدِّيَ بِحَرْفِ الْإِلْصَاقِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الرَّبْطِ وَالْعَقْدِ، فَيَنْعَقِدُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِاَللَّهِ، كَمَا تَنْعَقِدُ إحْدَى الْيَدَيْنِ بِالْأُخْرَى فِي الْمُعَاقَدَةِ.

وَلِهَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ عَقْدًا فِي قَوْلِهِ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] فَإِذَا كَانَ قَدْ عَقَدَهَا بِاَللَّهِ كَانَ الْحِنْثُ فِيهَا نَقْضًا لِعَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ لَوْلَا مَا فَرَضَهُ اللَّهُ مِنْ التَّحِلَّةِ، وَلِهَذَا سَمَّى حِلَّهَا حِنْثًا وَالْحِنْثُ هُوَ الِاسْمُ فِي الْأَصْلِ، فَالْحِنْثُ فِيهَا سَبَبٌ لِلْإِثْمِ لَوْلَا الْكَفَّارَةُ الْمَاحِيَةُ، فَإِنَّمَا الْكَفَّارَةُ مَنَعَتْهُ أَنْ يُوجِبَ إثْمًا، وَنَظِيرُ الرُّخْصَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَعْدَ عَقْدِهَا الرُّخْصَةَ أَيْضًا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الظِّهَارُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَوَّلَ الْإِسْلَامِ طَلَاقًا، وَكَذَلِكَ الْإِيلَاءُ كَانَ عِنْدَهُمْ طَلَاقًا، فَإِنَّ هَذَا جَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِمُقْتَضَى الْيَمِينِ، فَإِنَّ الْإِيلَاءَ إذَا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِمُقْتَضَاهُ مِنْ تَرْكِ الْوَطْءِ صَارَ الْوَطْءُ مُحَرَّمًا، وَتَحْرِيمُ الْوَطْءِ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا مُسْتَلْزِمٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ، فَإِنَّ الزَّوْجَةَ لَا تَكُونُ مُحَرَّمَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . وَالتَّحِلَّةُ مَصْدَرُ حَلَّلْتُ الشَّيْءَ أُحِلُّهُ تَحْلِيلًا وَتَحِلَّةً، كَمَا يُقَالُ كَرَّمْته تَكْرِيمًا وَتَكَرُّمًا، وَهَذَا مَصْدَرٌ يُسَمَّى بِهِ الْمُحَلَّلُ نَفْسُهُ الَّذِي هُوَ الْكَفَّارَةُ، فَإِنْ أُرِيدَ الْمَصْدَرُ فَالْمَعْنَى فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحْلِيلَ الْيَمِينِ، وَهُوَ حِلُّهَا الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْعَقْدِ، وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ مَنْ اسْتَدَلَّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّ التَّحِلَّةَ لَا تَكُونُ بَعْدَ الْحِنْثِ، فَإِنَّهُ بِالْحِنْثِ يَنْحَلُّ الْيَمِينُ، وَإِنَّمَا تَكُونُ التَّحِلَّةُ إذَا أُخْرِجَتْ قَبْلَ الْحِنْثِ، لِيَنْحَلَّ الْيَمِينُ، وَإِنَّمَا هِيَ بَعْدَ الْحِنْثِ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهَا كَفَّرَتْ مَا فِي الْحِنْثِ مِنْ سَبَبِ الْإِثْمِ لِنَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مَا اقْتَضَتْ الْيَمِينُ مِنْ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَا رَفَعَهُ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْكَفَّارَةِ الَّتِي جَعَلَهَا بَدَلًا مِنْ الْوَفَاءِ فِي جُمْلَةِ مَا رَفَعَهُ عَنْهَا مِنْ الْآصَارِ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157] . فَالْأَفْعَالُ ثَلَاثَةٌ: إمَّا طَاعَةٌ، وَإِمَّا مَعْصِيَةٌ، وَإِمَّا مُبَاحٌ، فَإِذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ مُبَاحًا أَوْ لَيَتْرُكَنَّهُ فَهُنَا الْكَفَّارَةُ مَشْرُوعَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِعْلَ مَكْرُوهٍ أَوْ تَرْكَ مُسْتَحَبٍّ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224]

فصل نذر اللجاج والغضب

وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِعْلَ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكَ مُحَرَّمٍ فَهَا هُنَا لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ يَجِبُ التَّكْفِيرُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَبْلَ أَنْ تُشْرَعَ الْكَفَّارَةُ كَانَ الْحَالِفُ عَلَى مِثْلِ هَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْوَفَاءُ بِيَمِينِهِ، وَلَا كَفَّارَةَ لَهُ تَرْفَعُ عَنْهُ مُقْتَضَى الْحِنْثِ، بَلْ يَكُونُ عَاصِيًا مَعْصِيَةً لَا كَفَّارَةَ فِيهَا سَوَاءٌ وَفَّى أَوْ لَمْ يَفِ، كَمَا لَوْ نَذَرَ مَعْصِيَةً عِنْدَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ فِي نَذْرِهِ كَفَّارَةً، وَكَمَا إنْ كَانَ الْمُحْلَفُ عَلَيْهِ فِعْلَ طَاعَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ. [فَصَلِّ نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ] فَصْلٌ فَأَمَّا الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ الَّذِي هُوَ نَذَرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ: مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ، أَوْ فَعَلَيَّ صِيَامٌ، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ عَنْ الْفِعْلِ، أَوْ أَنْ يَقُولَ إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ وَنَحْوُهُ، فَمَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ عَنْهُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَأَكْثَرُهُمْ قَالُوا هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عَيْنًا كَمَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ، وَهُوَ الرَّاوِيَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَطَائِفَةُ مَنْ يُحِبُّ الْوَفَاءَ بِهَذَا النَّذْرِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الشَّافِعِيَّ، سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمِصْرَ، فَأَفْتَى بِهَا بِالْكَفَّارَةِ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَذَا قَوْلُك. قَالَ: قَوْلُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَذَكَرُوا أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَنَّثَ ابْنَهُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ فَأَفْتَاهُ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ بِقَوْلِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَقَالَ: إنْ عُدْت حَلَفْت أَفْتَيْتُك بِقَوْلِ مَالِكٍ وَهُوَ الْوَفَاءُ بِهِ. وَلِهَذَا تَفَرَّعَ أَصْحَابُ مَالِكٍ مَسَائِلَ هَذِهِ الْيَمِينِ عَلَى النَّذْرِ لِعُمُومَاتِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ، لِقَوْلِهِ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ جَائِزٌ مُعَلَّقٌ

بِشَرْطٍ، فَوَجَبَ عِنْدَ ثُبُوتِ شَرْطِهِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَعَ مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا اعْتَمَدَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ فِي مَسَائِلِهِ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ، قَالَ مَالُهُ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ، قَالَ: كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَ: وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ يَحْلِفُ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ الصَّدَقَةِ بِالْمِلْكِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَيْمَانِ، فَقَالَ: إذَا حَنِثَ فَكَفَّارَةٌ إلَّا أَنِّي لَا أَحْمِلُهُ عَلَى الْحِنْثِ مَا لَمْ يَحْنَثْ، قِيلَ لَهُ: لَا تَفْعَلْ، قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَإِذَا حَنِثَ كَفَرَ، قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي حَدِيثِ لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ، حِينَ حَلَفَتْ بِكَذَا وَكَذَا وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ، فَأَفْتَتْ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ، فَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ أَفْتَيَا فِيمَنْ حَلَفَ بِعِتْقِ جَارِيَةٍ وَأَيْمَانٍ فَقَالَ أَمَّا الْجَارِيَةُ فَتُعْتَقُ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، ثِنَا حَسَنٌ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَنْ قَالَ مَالِي فِي مِيرَاثِ الْكَعْبَةِ؛ وَكُلُّ مَالِي فَهُوَ هَدْيٌ وَكُلُّ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: قَالَ أَبِي: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنِي أَبُو رَافِعٍ، قَالَ: قَالَتْ مَوْلَاتِي لَيْلَى بِنْتُ الْعَجْمَاءِ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ؛ وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ؛ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ، وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ إنْ لَمْ تُطَلِّقْ امْرَأَتَك؛ أَوْ تُفَرِّقْ بَيْنَك وَبَيْنَ امْرَأَتِك. قَالَ: فَأَتَيْت زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ، وَكَانَتْ إذَا ذُكِرَتْ امْرَأَةٌ بِالْمَدِينَةِ فَقِيهَةٌ ذُكِرَتْ زَيْنَبُ، قَالَ: فَأَتَيْتهَا فَجَاءَتْ مَعِي إلَيْهَا، فَقَالَتْ: فِي الْبَيْتِ هَارُوتُ وَمَارُوتُ. وَقَالَتْ: يَا زَيْنَبُ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَك، إنَّهَا قَالَتْ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ. وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ فَقَالَتْ يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ حِلٌّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ. فَأَتَيْت حَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهَا فَأَتَتْهَا فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَك إنَّهَا قَالَتْ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ، وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ، وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ، فَقَالَتْ: يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ حِلٌّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَأَتَيْت عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ فَجَاءَ مَعِي إلَيْهَا فَقَامَ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ أَمِنْ حِجَارَةٍ أَنْتِ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ أَنْتِ أَمْ مِنْ أَيْ شَيْءٍ أَنْتِ أَفْتَتْك زَيْنَبُ، وَأَفْتَتْك أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمْ تَقْبَلِي فُتْيَاهُمَا، قَالَتْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ جَعَلَنِي اللَّهُ

فِدَاك إنَّهَا قَالَتْ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ فَقَالَ: يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ كَفِّرِي عَنْ يَمِينِك وَخَلِّي بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، أَنْبَأَنَا عِمْرَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى، أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ ابْنَ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً جَعَلَتْ بُرْدَهَا عَلَيْهَا هَدْيًا إنْ لَبِسَتْهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي غَضَبٍ أَمْ فِي رِضًى؟ قَالُوا: فِي غَضَبٍ، قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِالْغَضَبِ، لِتُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهَا. قَالَ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ الطَّبَّاعِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ يَعْلَى بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ جَعَلَ مَالِهِ فِي الْمَسَاكِينِ فَقَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْك مَالَك، وَأَنْفِقْهُ عَلَى عِيَالِك، وَاقْضِ بِهِ دَيْنَك، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك. وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ جُرَيْجٍ سُئِلَ عَطَاءٌ عَنْ رَجُلٍ قَالَ عَلَيَّ أَلْفُ بَدَنَةٍ. قَالَ يَمِينٌ، وَعَنْ رَجُلٍ قَالَ عَلَيَّ أَلْفُ حَجَّةٍ قَالَ يَمِينٌ. وَعَنْ رَجُلٍ قَالَ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ قَالَ يَمِينٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا عُمَرُ بْنُ قَتَادَةَ، عَنْ الْحَسَنِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَأَنَا مُحْرِمٌ بِحَجَّةٍ قَالَا لَيْسَ الْإِحْرَامُ إلَّا عَلَى مَنْ نَوَى الْحَجَّ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا. وَقَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ: حَدَّثَنَا الْمُسَيِّبُ بْنُ وَاضِحٍ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ أَبِي الشَّعْرِ، عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الرَّجُلِ يَحْلِفُ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ. قَالَ: إنَّمَا الْمَشْيُ عَلَى مَنْ نَوَاهُ فَأَمَّا مَنْ حَلَفَ فِي الْغَضَبِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْكَلَامِ بِمَعْنَى الْكَلَامِ لَا بِلَفْظِهِ، وَهَذَا الْحَالِفُ لَيْسَ مَقْصُودُهُ قُرْبَةً لِلَّهِ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ الْحَضُّ عَلَى فِعْلٍ أَوْ الْمَنْعُ مِنْهُ، وَهَذَا مَعْنَى الْيَمِينِ، فَإِنَّ الْحَالِفَ يَقْصِدُ الْحَضَّ عَلَى فِعْلٍ أَوْ الْمَنْعِ مِنْهُ ثُمَّ إذَا عَلَّقَ ذَلِكَ الْفِعْلَ بِاَللَّهِ تَعَالَى

فصل اليمين بالطلاق والعتاق في اللجاج والغضب

أَجْزَأَتْهُ الْكَفَّارَةُ فَلَا تُجْزِئُهُ إذَا عَلَّقَ بِهِ وُجُوبَ عِبَادَةٍ أَوْ تَحْرِيمَ مُبَاحٍ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلَّقَهُ بِاَللَّهِ ثُمَّ حَنِثَ كَانَ مُوجِبُ حِنْثِهِ أَنَّهُ قَدْ هَتَكَ أَيْمَانَهُ بِاَللَّهِ حَيْثُ لَمْ يَفِ بِعَهْدِهِ، وَإِذَا عَلَّقَ بِهِ وُجُوبَ فِعْلٍ أَوْ تَحْرِيمَهُ فَإِنَّمَا يَكُونُ مُوجِبُ حِنْثِهِ تَرْكَ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلَ مُحَرَّمٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحِنْثَ الَّذِي مُوجِبُهُ خَلَلٌ فِي التَّوْحِيدِ أَعْظَمُ مِمَّا مُوجِبُهُ مَعْصِيَةً مِنْ الْمَعَاصِي، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ شَرَعَ الْكَفَّارَةَ لِإِصْلَاحِ مَا اقْتَضَى الْحِنْثُ فِي التَّوْحِيدِ فَسَادَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَخَيْرُهُ فَلَأَنْ يَشْرَعَ لِإِصْلَاحِ مَا اقْتَضَى الْحِنْثُ فَسَادَهُ فِي الطَّاعَةِ أَوْلَى وَأَحْرَى وَأَيْضًا فَإِنَّا نَقُولُ إنَّ مُوجِبَ صِيغَةِ الْقَسَمِ مِثْلُ مُوجِبِ صِيغَةِ التَّعْلِيقِ وَالنَّذْرُ نَوْعٌ مِنْ الْيَمِينِ، وَكُلُّ نَذْرٍ فَهُوَ يَمِينٌ نَقُولُ النَّاذِرُ لِلَّهِ عَلَى أَنْ أَفْعَلَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ احْلِفْ بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ، مُوجِبُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْتِزَامُ الْفِعْلِ مُعَلَّقًا بِاَللَّهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ: «النَّذْرُ وَالْحَلِفُ» فَقَوْلُهُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ لِلَّهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَوَاَللَّهِ لَأَحُجَّنَّ، وَطَرَدَ هَذَا أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ بِرًّا لَزِمَهُ فِعْلُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ، فَإِنَّ حَلِفَهُ لَيَفْعَلَنَّهُ نَذْرٌ لِفِعْلِهِ، وَكَذَلِكَ طَرَدَ هَذَا أَنَّهُ إذَا نَذَرَ لَيَفْعَلَنَّ مَعْصِيَةً أَوْ مُبَاحًا فَقَدْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَلَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ مَعْصِيَةً أَوْ مُبَاحًا لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَغَيْرِهِمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ النَّاسِ. [فَصَلِّ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ] فَصْلٌ فَأَمَّا الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، مِثْلُ أَنْ يَقْصِدَ بِهَا حَضًّا أَوْ مَنْعًا أَوْ تَصْدِيقًا أَوْ تَكْذِيبًا. كَقَوْلِهِ بِالطَّلَاقِ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا. أَوْ إلَّا فَعَلْت كَذَا أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ، أَوْ إنْ لَمْ أَفْعَلْهُ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ فَمَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ إنَّ نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ يَجِبُ فِيهِ الْوَفَاءُ فَإِنَّهُ يَقُولُ هُنَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ أَيْضًا. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الَّذِينَ قَالُوا فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ تُجْزِئُهُ الْكَفَّارَةُ فَاخْتَلَفُوا هُنَا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ كَلَامٌ، وَإِنَّمَا بَلَغَنَا الْكَلَامُ فِيهِ عَنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِهِ مُحْدَثَةٌ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ فِي عَصْرِهِمْ.

وَلَكِنْ بَلَغَنَا الْكَلَامُ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَاخْتَلَفَ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَمِينِ بِالنَّذْرِ، وَقَالُوا: إنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ بِالْحِنْثِ وَلَا تُجْزِئُهُ الْكَفَّارَةُ بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِالنَّذْرِ هَذَا رِوَايَةً عَنْ عَوْفٍ، عَنْ الْحَسَنِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي الصَّرِيحِ الْمَنْصُوصِ عَنْهُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَغَيْرِهِمْ. فَرَوَى حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: كُلُّ يَمِينٍ وَإِنْ عَظُمَتْ وَلَوْ حَلَفَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَإِنْ جَعَلَ مَا فِي الْمَسَاكِينِ مَا لَمْ يَكُنْ طَلَاقُ امْرَأَةٍ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ أَوْ عَتَقَ غُلَامٌ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ فَإِنَّمَا هِيَ يَمِينٌ. وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ: سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الرَّجُلِ يَقُولُ لِأَبِيهِ إنْ كَلَّمْتُك فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ، قَالَ: لَا يَقُومُ هَذَا مَقَامَ الْيَمِينِ، وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَاءِ. قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد: يَلْزَمُهُ الْحِنْثُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ قَالَ إسْمَاعِيلُ: وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي حَازِمٍ أَنَّ امْرَأَةً حَلَفَتْ بِمَالِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ فِي الْمَسَاكِينِ وَجَارِيَتُهَا حُرَّةٌ إنْ لَمْ تَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلْت ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَا أَمَّا الْجَارِيَةُ فَتُعْتَقُ، وَأَمَّا قَوْلُهَا فِي الْمَالِ فَإِنَّهَا تُزَكِّي الْمَالَ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ لَا يَحِلَّانِ فِي هَذَا مَحَلَّ الْأَيْمَانِ، وَلَوْ كَانَ الْمُجْرَى فِيهَا مَجْرَى الْأَيْمَانِ لَوَجَبَ عَلَى الْحَالِفِ بِهَا إذَا حَنِثَ كَفَّارَةٌ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِيهِ، أَنْ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا، قُلْت أَخْبَرَ أَبُو إِسْحَاقَ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مُفْتِي النَّاسِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ كَانُوا لَا يُفْتُونَ فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ إلَّا بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ لَا بِالْكَفَّارَةِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ التَّابِعِينَ مَذْهَبُهُمْ فِيهَا الْكَفَّارَةَ، حَتَّى إنَّ الشَّافِعِيَّ لَمَّا أَفْتَى بِمِصْرَ بِالْكَفَّارَةِ كَانَ غَرِيبًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ الْمَالِكِيَّةِ وَقَالَ لَهُ السَّائِلُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَذَا قَوْلُك، فَقَالَ قَوْلُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، فَلَمَّا أَفْتَى فُقَهَاءَ الْحَدِيثِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَنَحْوُهُمْ فِي الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ بِالْكَفَّارَةِ، وَفَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لِمَا سَنَذْكُرُهُ، صَارَ الَّذِي يَعْرِفُ

قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَقَوْلَ أُولَئِكَ لَا يَعْلَمُ خِلَافًا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَإِلَّا فَسَنَذْكُرُ الْخِلَافَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَدْ اعْتَذَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي كَفَّارَةِ الْعِتْقِ بِعُذْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا انْفِرَادُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ بِذَلِكَ، وَالثَّانِي مُعَاوَضَتُهُ بِمَا رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ مِنْ غَيْرِ تَكْفِيرٍ، وَمَا وَجَدْت أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَشَاهِيرِ بَلَغَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنْ الصَّحَابَةِ مَا بَلَغَ أَحْمَدَ. قَالَ الْمَرْوَزِيِّ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إذَا قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ يُعْتَقُ عَلَيْهِ إذَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ لَيْسَ فِيهِمَا كَفَّارَةٌ، وَقَالَ لَيْسَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ فِي حَدِيثِ لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّهَا سَأَلَتْ ابْنَ عُمَرَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ وَذَكَرَتْ الْعِتْقَ فَأَمَرُوهَا بِكَفَّارَةٍ، إلَّا التَّيْمِيَّ وَأَمَّا حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُ، فَلَمْ يَذْكُرُوا الْعِتْقَ. قَالَ: وَسَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ قِصَّةَ امْرَأَتِهِ. وَأَنَّهَا سَأَلَتْ ابْنَ عُمَرَ وَحَفْصَةَ فَأَمَرُوهَا بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ قُلْت فِيهَا الْمَشْيُ. قَالَ: نَعَمْ اذْهَبْ إلَى أَنَّ فِيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَيْسَ يَقُولُ فِيهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ إلَّا التَّيْمِيَّ. قُلْت فَإِذَا حَلَفَ بِعِتْقِ مَمْلُوكِهِ فَحَيْثُ قَالَ يُعْتِقُ كَذَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا الْجَارِيَةُ تُعْتَقُ، ثُمَّ قَالَ: مَا سَمِعْنَاهُ إلَّا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ قُلْت فَإِيشْ إسْنَادُهُ، قَالَ: مَعْمَرٌ، عَنْ إسْمَاعِيلَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَأَيُّوبُ بْنُ مُوسَى، وَهُمَا مَكِّيَّانِ: فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ. وَالْحَلِفِ بِالنَّذْرِ وَبِأَنَّهُمَا لَا يُكَفِّرَانِ، وَاتَّبَعَ مَا بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ عَارَضَ مَا رُوِيَ مِنْ الْكَفَّارَةِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ، مَعَ انْفِرَادِ التَّيْمِيِّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَقَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ أَبِي وَإِذَا قَالَ جَارِيَتِي حُرَّةٌ إنْ لَمْ أَصْنَعْ كَذَا وَكَذَا قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: يُعْتَقُ، وَإِذَا قَالَ بَلْ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ فِيهِ كَفَّارَةٌ، فَإِنَّ ذَا لَا يُشْبِهُ ذَا أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ لَا يُكَفِّرَانِ، وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُونَ إذَا قَالَ الرَّجُلُ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَإِذَا قَالَ مَالِي عَلَى فُلَانٍ صَدَقَةٌ.

وَفَرَّقُوا بَيْنَ قَوْلِهِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَمَالِي صَدَقَةٌ، أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ، بِأَنَّهُ هُنَاكَ مُوجِبُ الْقَوْلِ وُجُوبُ الصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ لَا وُجُودِ الصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ، فَإِذَا اقْتَضَى الشَّرْطُ وُجُوبَ ذَلِكَ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ بَدَلًا عَنْ هَذَا الْوَاجِبِ كَمَا يَكُونُ بَدَلًا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ، كَمَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بَدَلًا عَنْ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ، وَبَقِيَتْ بَدَلًا عَنْ الصَّوْمِ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهُ، وَكَمَا يَكُونُ بَدَلًا عَنْ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ إذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ أَمْكَنَ أَنْ يُخَيَّرَ بَيْنَ أَدَائِهِ وَبَيْنَ أَدَاءِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ فَإِنَّ مُوجِبَ الْكَلَامِ وُجُودُهُمَا، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وُجِدَ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ، وَإِذَا وَقَعَا لَمْ يَرْتَفِعَا بَعْدَ وُقُوعِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَقْبَلَانِ الْفَسْخَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَوَاَللَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ فَإِنَّهُ هُنَا لَمْ يُعَلِّقْ الْعِتْقَ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ وُجُوبَهُ بِالشَّرْطِ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِ هَذَا الْإِعْتَاقِ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ الَّتِي هِيَ بَدَلٌ عَنْهُ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: إذَا مِتّ فَعَبْدِي حُرٌّ عَتَقَ بِمَوْتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى الْإِعْتَاقِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ فَسْخُ هَذَا التَّدْبِيرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إلَّا قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَفِي بَيْعِهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ، وَلَوْ وَصَّى بِعِتْقِهِ فَقَالَ: إذَا مِتّ فَأَعْتِقُوهُ، كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ الْوَصَايَا، وَكَانَ لَهُ بَيْعُهُ هُنَا وَإِنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ. وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ فِي تَارِيخِهِ، أَنَّ الْمَهْدِيَّ لَمَّا رَوَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ رَأْيُ أَهْلِ بَيْتِهِ مِنْ الْعَهْدِ إلَى أَنَّهُ وَزَّعَ عِيسَى بْنُ مُوسَى الَّذِي كَانَ وَلِيَّ الْعَهْدِ عَزْمَهُ عَلَى خَلْعِ عِيسَى، وَدَعَاهُمْ إلَى الْبَيْعَةِ لِمُوسَى فَامْتَنَعَ عِيسَى مِنْ الْخَلْعِ، وَزَعَمَ أَنَّ عَلَيْهِ أَيْمَانًا تُخْرِجُهُ مِنْ أَمْلَاكِهِ، وَيُطَلِّقُ نِسَاءَهُ، فَأَحْضَرَ لَهُ الْمَهْدِيُّ ابْنَ غُلَامَةَ وَمُسْلِمَ بْنَ خَالِدٍ، وَجَمَاعَةً مِنْ الْفُقَهَاءِ، فَأَفْتَوْهُ بِمَا يُخْرِجُهُ عَنْ يَمِينِهِ، وَاعْتَاضَ عَمَّا لَزِمَهُ فِي يَمِينِهِ بِمَالٍ كَثِيرٍ ذَكَرَهُ، وَلَمْ يَزَلْ إلَى أَنْ خُلِعَ وَبُويِعَ لِلْمَهْدِيِّ وَلِمُوسَى الْهَادِي بَعْدَهُ. وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ قَالَ فِي الْعِتْقِ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ الَّتِي أَفْتَاهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَحَفْصَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَزَيْنَبُ رَبِيبَةُ رَسُولِ اللَّهِ فِي قَوْلِهَا إنْ لَمْ أُفَرِّقْ بَيْنَك وَبَيْنَ امْرَأَتِك فَكُلٌّ لِي مُحَرَّرٌ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ هِيَ مِمَّا اعْتَمَدَهَا الْفُقَهَاءُ الْمُسْتَدِلُّونَ فِي مَسْأَلَةِ

نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، لَكِنْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ عَنْ الْعِتْقِ فِيهَا لِمَا ذَكَرْته مِنْ الْفَرْقِ، وَعَارَضَ أَحْمَدُ ذَلِكَ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَلَمْ يَبْلُغْ أَبَا ثَوْرٍ فِيهِ أَثَرٌ فَتَوَقَّفَ عَنْهُ، مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَهُ مُسَاوَاتُهُ لِلْعِتْقِ. لَكِنْ خَافَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْجَمِيعِ الطَّلَاقُ وَغَيْرُهُ لِمَا سَنَذْكُرُهُ. وَلَوْ لَمْ يُنْقَلْ فِي الطَّلَاقِ نَفْسِهِ خِلَافٌ مُعَيَّنٌ لَكَانَ فُتْيَا مَنْ أَفْتَى مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الْحَلِفِ بِالْعَتَاقِ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ عَلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ نَذْرُ الْعِتْقِ الَّذِي هُوَ قُرْبَةٌ لَمَّا خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ أَجْزَأَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، فَالْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ الَّذِي لَيْسَ بِقُرْبَةٍ إمَّا أَنْ تُجْزِيَ فِيهِ الْكَفَّارَةُ أَوْ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ قَوْلٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ نَذْرُ غَيْرِ الطَّاعَةِ لَا شَيْءَ فِيهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْتَ طَالِقٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَك، كَمَا كَانَ عِنْدَ أُولَئِكَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، قَوْلُهُ: فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فَعَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَهُمْ، عَلَى أَنِّي إلَى السَّاعَةِ لَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَلَامٌ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ. وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَدَثَ فِي زَمَانِهِمْ، وَإِنَّمَا ابْتَدَعَهُ النَّاسُ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَاخْتَلَفَ فِيهِ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ إنَّهُ يَقَعُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي إنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْوُقُوعُ، ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ لَيْسَ شَيْئًا، قُلْت: أَكَانَ يَرَاهُ يَمِينًا. قَالَ لَا أَدْرِي فَقَدْ أَخْبَرَ ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَاهُ مُوقِعًا لِلطَّلَاقِ. وَتَوَقَّفَ فِي كَوْنِهِ يَمِينًا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ نَذْرِ مَا لَا قُرْبَةَ فِيهِ. وَفِي كَوْنِ مِثْلِ هَذَا يَمِينًا خِلَافٌ مَشْهُورٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ. وَكَذَا أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ لَكِنْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ وَلَا عِتْقٌ مُعَلَّقٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُؤَجَّلِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْعُقُودَ لَا يَصِحُّ مِنْهَا إلَّا مَا دَلَّ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ عَلَى وُجُوبِهِ أَوْ جَوَازِهِ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى ثَلَاثِ مُقَدَّمَاتٍ يُخَالِفُونَ فِيهَا: أَحَدُهَا: كَوْنُ الْأَصْلِ تَحْرِيمَ الْعُقُودِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُبَاحُ مَا كَانَ فِي مَعْنَى النُّصُوصِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُؤَجَّلَ وَالْمُعَلَّقَ لَمْ يَتَدَرَّجْ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ.

وَأَمَّا الْمَأْخَذُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ كَوْنِ هَذَا كَنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، فَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ الَّذِينَ جَوَّزُوا التَّكْفِيرَ فِي نَذَرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ نَذْرِ التَّبَرُّرِ وَنَذْرِ الْغَضَبِ، فَإِنَّ هَذَا الْفَرْقَ يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُعَلَّقِ الَّذِي يُقْصَدُ وُقُوعُهُ عِنْدَ الشَّرْطِ، وَبَيْنَ الْمُعَلَّقِ الْمَحْلُوفِ بِهِ الَّذِي يُقْصَدُ عَدَمُ وُقُوعِهِ، إلَّا أَنْ يَصِحَّ الْفَرْقُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ كَوْنِ الْمُعَلَّقِ هُوَ الْوُجُودُ أَوْ الْوُجُوبُ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْقَوْلَ يُخَرَّجُ مِنْ أُصُولِ أَحْمَدَ عَلَى مَوَاضِعَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا، وَكَذَلِكَ هُوَ أَيْضًا لَازِمٌ لِمَنْ قَالَ فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ بِكَفَّارَةٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ، الشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الَّتِي اخْتَارَهَا أَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ الَّتِي اخْتَارَهَا كَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ، فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ وَالْعِتْقِ هُوَ الْمُتَوَجَّهُ، وَلِهَذَا كَانَ هَذَا مِنْ أَقْوَى حُجَجِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ فِي الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ، فَإِنَّهُمْ قَاسُوهُ عَلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَاعْتَقَدَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ. وَأَيْضًا إذَا حَلَفَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ كَقَوْلِهِ عَبِيدِي أَحْرَارٌ لَأَفْعَلَنَّ أَوْ نِسَائِي طَوَالِقُ لَأَفْعَلَنَّ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ مَالِي صَدَقَةٌ لَأَفْعَلَنَّ وَعَلَيَّ الْحَجُّ لَأَفْعَلَنَّ وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ التَّسْوِيَةَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا اعْتَمَدَ فِي الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى فِدْيَةِ الْخُلْعِ، قَالَهُ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَهُوَ كِتَابٌ مُتَحَرًّى. مِنْ أَجْوَدِ كَلَامِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُسَمُّونَ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِسَبَبٍ طَلَاقًا بِصِفَةٍ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ الشَّرْطَ صِفَةً، وَيَقُولُونَ إذَا وُجِدَتْ الصِّفَةُ فِي زَمَانِ الْبَيْنُونَةِ وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ الصِّفَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَهَذَا التَّشْبِيهُ لَهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الطَّلَاقَ مَوْصُوفٌ بِصِفَةٍ لَيْسَ طَلَاقًا مُجَرَّدًا عَنْ صِفَةٍ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ أَنْت طَالِقٌ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ، وَإِذَا ظَهَرَتْ فَقَدْ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالزَّمَانِ الْخَاصِّ فَإِنَّ الظَّرْفَ صِفَةٌ لِلْمَظْرُوفِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إنْ أَعْطَيْتنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ وَصَفَهُ بِعِوَضِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ نُحَاةَ الْكُوفَةِ يُسَمُّونَ حُرُوفَ الْجَرِّ وَنَحْوَهَا حُرُوفَ الصِّفَاتِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا فَلَمَّا كَانَ مُعَلَّقًا بِالْحُرُوفِ الَّتِي قَدْ تُسَمَّى حُرُوفَ الصِّفَاتِ سُمِّيَ طَلَاقًا بِصِفَةٍ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفٍ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ، هُوَ الْأَصْلُ، فَإِنَّ هَذَا يَعُودُ إلَيْهِ، إذْ النُّحَاةُ إذْ سَمَّوْا حُرُوفَ الْجَرِّ

حُرُوفَ الصِّفَاتِ؛ لِأَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ يَصِيرُ فِي الْمَعْنَى صِفَةً لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ، فَإِذَا كَانَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ إنَّمَا اعْتَمَدُوا فِي الطَّلَاقِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الطَّلَاقِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ وَقَاسُوا كُلَّ طَلَاقٍ بِصِفَةٍ عَلَيْهِ صَارَ هَذَا، كَمَا أَنَّ النَّذْرَ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ مَذْكُورٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّذْرَ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ هُوَ نَذْرٌ بِصِفَةٍ، فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ النَّذْرِ الْمَقْصُودِ شَرْطُهُ وَبَيْنَ النَّذْرِ الْمَقْصُودِ عَدَمُ شَرْطِهِ الَّذِي خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، فَلِذَلِكَ يُفَرَّقُ بَيْنَ الطَّلَاقِ الْمَقْصُودِ وَصْفُهُ كَالْخُلْعِ حَيْثُ الْمَقْصُودُ فِيهِ الْعِوَضُ وَالطَّلَاقُ الْمَحْلُوفُ بِهِ الَّذِي يُقْصَدُ عَدَمُهُ وَعَدَمُ شَرْطِهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُقَاسُ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَمَعْلُومٌ ثُبُوتُ الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّفَةِ الْمَقْصُودَةِ وَبَيْنَ الصِّفَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا الَّتِي يُقْصَدُ عَدَمُهَا. كَمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي النَّذْرِ سَوَاءٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْأَثَرُ، وَالِاعْتِبَارُ. أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 2] . فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] ، وَهَذَا نَصٌّ عَامٌّ فِي كُلِّ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ. إنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ لَهَا تَحِلَّةً وَذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ لِلْأُمَّةِ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْخِطَابِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. مَعَ عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ الْأُمَّةَ يَحْلِفُونَ بِأَيْمَانٍ شَتَّى، فَلَوْ فُرِضَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ لَيْسَ لَهَا تَحِلَّةٌ لَكَانَ مُخَالِفًا لِلْآيَةِ، كَيْفَ وَهَذَا عَامٌّ لَمْ تُخَصَّ فِيهِ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ لَا بِنَصٍّ وَلَا بِإِجْمَاعٍ، بَلْ هُوَ عَامٌّ عُمُومًا مَعْنَوِيًّا مَعَ عُمُومِهِ اللَّفْظِيِّ، فَإِنَّ الْيَمِينَ مَعْقُودٌ يُوجِبُ مَنْعَ الْمُكَلَّفِ مِنْ الْفِعْلِ، فَشَرْعُ التَّحِلَّةِ لِهَذِهِ الْعُقْدَةِ مُنَاسِبٌ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّخْفِيفِ وَالتَّوْسِعَةِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْيَمِينِ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي غَيْرِهِمَا مِنْ أَيْمَانِ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَيَقْتُلَنَّ النَّفْسَ أَوْ لَيَقْطَعَنَّ رَحِمَهُ أَوْ لَيَمْنَعَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مِنْ أَدَاءِ أَمَانَةٍ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الطَّلَاقَ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ أَنْ يَبَرَّ وَيَتَّقِيَ

وَيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّا يَجْعَلُ اللَّهَ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ، ثُمَّ إنْ وَفَّى يَمِينَهُ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ مَا قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الدُّخُولِ فِيهِ، وَإِنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَفِي الطَّلَاقِ أَيْضًا مِنْ ضَرَرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا لَا خَفَاءَ فِيهِ، أَمَّا الدِّينُ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ مَعَ اسْتِقَامَةِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ، إمَّا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ أَوْ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، فَكَيْفَ إذَا كَانَا فِي غَايَةِ الِاتِّصَالِ وَبَيْنَهُمَا مِنْ الْأَوْلَادِ وَالْعَشِيرَةِ مَا يَكُونُ فِي طَلَاقِهِمَا مِنْ ضَرَرِ الدِّينِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَكَذَلِكَ ضَرَرُ الدُّنْيَا كَمَا يَشْهَدُ بِهِ الْوَاقِعُ بِحَيْثُ لَوْ خُيِّرَ أَحَدُهُمَا بَيْنَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَالِهِ وَوَطَنِهِ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ لَاخْتَارَ فِرَاقَ مَالِهِ وَوَطَنِهِ عَلَى الطَّلَاقِ، وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ فِرَاقَ الْوَطَنِ بِقَتْلِ النَّفْسِ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ مُتَابَعَةً لِعَطَاءٍ أَنَّهَا إذَا أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ فَحَلَفَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا بِالطَّلَاقِ أَنَّهَا لَا تَحُجُّ صَارَتْ مُحْصَرَةً وَجَازَ لَهَا التَّحَلُّلُ لِمَا عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ الزَّائِدِ عَلَى ضَرَرِ الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ أَوْ الْقَرِيبِ مِنْهُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَك أَوْ أُعْتِقَ عَبِيدِي، فَإِنَّ هَذَا فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأُطَلِّقَنَّكِ أَوْ لَأُعْتِقُ عَبِيدِي، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَ وُجُودِ الْعِتْقِ وَوُجُوبِهِ هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ، الْمُفَرِّقُونَ، وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] . وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَا مِنْ تَحْرِيمٍ لِمَا أَحَلَّ اللَّهُ إلَّا وَاَللَّهُ غَفُورٌ لِفَاعِلِهِ رَحِيمٌ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا عِلَّةَ تَقْتَضِي ثُبُوتَ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِأَيِّ شَيْءٍ اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ وَالْإِنْكَارِ وَالتَّقْدِيرُ لَا سَبَبَ لِتَحْرِيمِك مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَلَوْ كَانَ الْحَالِفُ بِالنُّذُورِ وَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا لَا رُخْصَةَ لَهُ. لَكَانَ هُنَا سَبَبٌ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْحَلَالِ، وَلَا يَبْقَى مُوجِبُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى هَذَا الْفَاعِلِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] إلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] . وَالْحُجَّةُ مِنْهَا كَالْحُجَّةِ مِنْ الْأُولَى، وَأَقْوَى عِلْمٍ، فَإِنَّهُ لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ

اللَّهُ لَكُمْ وَهَذَا لِتَحْرِيمِهَا بِالْأَيْمَانِ مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ الْمُخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] أَيْ فَكَفَّارَةُ تَعْقِيدِكُمْ أَوْ عَقْدِكُمْ الْأَيْمَانَ وَهَذَا عَامٌّ، ثُمَّ قَالَ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] . وَهَذَا عَامٌّ كَعُمُومِ قَوْلِهِ: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] . مِمَّا يُوَضِّحُ عُمُومَهُ أَنَّهُمْ قَدْ أَدْخَلُوا الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: " مَنْ حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ " فَأَدْخَلُوا فِيهِ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ وَالْحَلِفِ بِاَللَّهِ وَإِنَّمَا لَمْ يُدْخِلْ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا تَنْجِيزًا بِالطَّلَاقِ مُوَافَقَةً لِابْنِ عَبَّاسٍ.؛ لِأَنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ لَيْسَ بِحَلِفٍ. وَإِنَّمَا الْحَلِفُ الْمُنْعَقِدُ مَا تَضَمَّنَ مَحْلُوفًا بِهِ وَمَحْلُوفًا عَلَيْهِ إمَّا بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَإِمَّا بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ تَنْبِيهٌ عَلَى أُصُولِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ نَذَرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا عَلَى التَّكْفِيرِ فِيهِ بِهَذَا الْآيَةِ وَجَعَلُوا، قَوْلَهُ: {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . كَفَّارَةَ أَيْمَانِكُمْ عَامًّا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَالْيَمِينِ بِالنَّذْرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ شُمُولَ اللَّفْظِ لِنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ فِي الْحَجِّ وَالْعِتْقِ وَنَحْوِهِمَا سَوَاءٌ، فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ فَقَطْ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ مُطْلَقِ الْيَمِينِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ {عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وَ {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] مُنْصَرِفًا إلَى الْيَمِينِ الْمَعْهُودَةِ عَلَيْهِمْ وَهِيَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُعْلَمُ اللَّفْظُ إلَّا الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ وَالْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ، وَلَوْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْيَمِينُ الَّتِي لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً كَالْيَمِينِ بِالْمَخْلُوقَاتِ، فَلَا يَدْخُلُ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْيَمِينِ الْمَشْرُوعَةِ، لِقَوْلِهِ «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ

وَإِلَّا فَلْيَصْمُتْ» ، وَهَذَا سُؤَالُ، مَنْ يَقُولُ كُلُّ يَمِينٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ فَلَا كَفَّارَةَ لَهَا وَلَا حِنْثَ، فَيُقَالُ: لَفْظُ الْيَمِينِ شَمِلَ هَذَا كُلَّهُ بِدَلِيلِ اسْتِعْمَالِ النَّبِيِّ وَالصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ اسْمَ الْيَمِينِ فِي هَذَا كُلِّهِ، كَقَوْلِهِ: «النَّذْرُ حَلِفٌ» ، وَقَوْلِ الصَّحَابَةِ لِمَنْ حَلَفَ بِالْهَدْيِ بِالْعِتْقِ كَفِّرْ يَمِينَك، وَكَذَلِكَ فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَلِإِدْخَالِ الْعُلَمَاءِ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ» وَيَدُلُّ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] ، ثُمَّ قَالَ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . فَاقْتَضَى هَذَا أَنَّ نَفْسَ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ يَمِينٌ، كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ إمَّا تَحْرِيمُهُ الْعَسَلَ وَإِمَّا تَحْرِيمُهُ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةَ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَتَحْرِيمُ الْحَلَالِ يَمِينٌ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ وَلَيْسَ يَمِينًا بِاَللَّهِ، وَلِهَذَا أَفْتَى جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ كَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينٌ مُكَفِّرَةٌ إمَّا كَفَّارَةٌ كُبْرَى كَالظِّهَارِ وَإِمَّا كَفَّارَةٌ صُغْرَى كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ، وَمَا زَالَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ الظِّهَارَ وَنَحْوَهُ يَمِينًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] . إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ لِمَ تُحَرِّمُ بِلَفْظِ الْحَرَامِ، وَإِمَّا لِمَ تُحَرِّمُهُ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوِهَا، وَإِمَّا لِمَ تُحَرِّمُهُ مُطْلَقًا. فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ، فَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ بِغَيْرِ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ. ثَمَّ فَيَعُمُّ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمُهُ بِالْحَلِفِ بِاَللَّهِ فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْحَلِفَ بِاَللَّهِ تَحْرِيمًا لِلْحَلَالِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ لَمْ يُوجِبْ الْحُرْمَةَ الشَّرْعِيَّةَ، لَكِنْ لَمَّا أَوْجَبَتْ امْتِنَاعَ الْحَالِفِ مِنْ الْفِعْلِ فَقَدْ حَرَّمَتْ عَلَيْهِ الْفِعْلَ تَحْرِيمًا شَرْطِيًّا لَا شَرْعِيًّا، فَكُلٌّ يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ مِنْ الْفِعْلِ فَقَدْ حَرَّمَتْ عَلَيْهِ الْفِعْلَ، فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] ، لَا بُدَّ أَنْ يَعُمَّ كُلَّ يَمِينٍ حَرَّمَتْ الْحَلَالَ،

لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُطَابِقَ صُوَرَهُ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ هُوَ سَبَبُ قَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . وَسَبَبُ الْجَوَابِ إذَا كَانَ عَامًّا كَانَ الْجَوَابُ عَامًّا لِئَلَّا يَكُونَ جَوَابًا عَنْ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْمِيمِ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] إلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمَتْ الْعُمُومَ، وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ عَامَّتُهُمْ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَغَيْرِهَا، وَأَيْضًا فَنَقُولُ عَلَى الرَّأْسِ سَلَّمْنَا أَنَّ الْيَمِينَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ الْمُرَادُ بِهَا الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَا سِوَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا يَلْزَمُ بِهَا حُكْمٌ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِصِفَاتِهِ كَالْحَلِفِ بِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: وَعِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لَعَمْرُ اللَّهِ، أَوْ وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ جَوَازُ الْحَلِفِ بِالصِّفَاتِ وَنَحْوِهَا عَنْ النَّبِيِّ وَالصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ الْحَلِفَ بِصِفَاتِهِ كَالِاسْتِعَاذَةِ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ الِاسْتِعَاذَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِاَللَّهِ، فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ: «أَعُوذُ بِوَجْهِك» ، وَ «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ» ، وَ «أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك» وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا أَمْرٌ مُتَقَرِّرٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْحَلِفُ بِالنَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِمَا هُوَ الْحَلِفُ بِصِفَاتِ اللَّهِ. فَإِنَّهُ إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ فَقَدْ حَلَفَ بِإِيجَابِ الْحَجِّ عَلَيْهِ، وَإِيجَابُ الْحَجِّ عَلَيْهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مِنْ صِفَاتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: فَعَلَيَّ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وَإِذْ قَالَ: فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، وَعَبْدِي حُرٌّ، فَقَدْ حَلَفَ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ الَّذِي هُوَ تَحْرِيمُهُ عَلَيْهِ، وَالتَّحْرِيمُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، كَمَا أَنَّ الْإِيجَابَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] . فَجَعَلَ صُدُورَهُ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ مِنْ آيَاتِهِ، لَكِنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ فَقَدْ عَقَدَ الْيَمِينَ لِلَّهِ كَمَا يَعْقِدُ النَّذْرَ لِلَّهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ الْحَجُّ وَالصَّوْمُ عَقْدٌ لِلَّهِ، وَلَكِنْ إذَا كَانَ حَالِفًا فَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ الْعَقْدَ لِلَّهِ بَلْ قَصَدَ الْحَلِفَ بِهِ، فَإِذَا حَنِثَ وَلَمْ يُوفِ بِهِ فَقَدْ تَرَكَ مَا عَقَدَ لِلَّهِ، كَمَا أَنَّهُ إذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ فَقَدْ تَرَكَ مَا عَقَدَهُ بِاَللَّهِ.

يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ أَوْ بِغَيْرِ اللَّهِ مِمَّا يُعَظِّمُهُ بِالْحَلِفِ فَإِنَّمَا حَلَفَ بِهِ لِيَعْقِدَ بِهِ الْمُحَلَّفَ عَلَيْهِ، وَيَرْبِطَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُعَظِّمُهُ فِي قَلْبِهِ إذَا رَبَطَ بِهِ شَيْئًا لَمْ يَجِدْهُ، فَإِذَا حَلَّ مَا رَبَطَهُ بِهِ فَقَدْ انْتَقَصَتْ عَظَمَتُهُ مِنْ قَلْبِهِ، وَقَطَعَ السَّبَبَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَكَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ الْيَمِينُ الْعَقْدُ عَلَى نَفْسِهِ لِحَقِّ مَنْ لَهُ حَقٌّ، وَلِهَذَا إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ غَمُوسًا كَانَتْ مِنْ الْكَبَائِرِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] . وَذَكَرَهَا النَّبِيُّ فِي عَدِّ الْكَبَائِرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَعَمَّدَ أَنْ يَعْقِدَ بِاَللَّهِ مَا لَيْسَ مُنْعَقِدًا بِهِ فَقَدْ نَقَصَ الصِّلَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ اللَّهِ بِمَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ، أَوْ تَبَرَّأَ مِنْ اللَّهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهُ عَقْدٌ بِاَللَّهِ فِعْلًا قَاصِدًا لِعَقْدِهِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ، لَكِنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَهُ حِلَّ هَذَا الْعَقْدِ الَّذِي عَقَدَهُ، كَمَا يُبِيحُ لَهُ تَرْكُ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ لِحَاجَةٍ، أَوْ يُزِيلُ عَنْهُ وُجُوبَهَا، وَلِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إذَا قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهِيَ يَمِينٌ، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ؛ لِأَنَّهُ رَبَطَ عَدَمَ الْفِعْلِ بِكُفْرِهِ الَّذِي هُوَ بَرَاءَتُهُ مِنْ اللَّهِ، فَيَكُونُ قَدْ رَبَطَ الْفِعْلَ بِإِيمَانِهِ بِاَللَّهِ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ، فَرَبْطُ الْفِعْلِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ مِنْ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ أَدْنَى حَالًا مِنْ رَبْطِهِ بِاَللَّهِ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إذَا عَقَدَ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ فَهُوَ عَقْدٌ لَهَا بِإِيمَانِهِ بِاَللَّهِ، وَهُوَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ حَلَالِ اللَّهِ وَإِكْرَامِهِ الَّذِي هُوَ حَدُّ اللَّهِ، وَمَثَلُهُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، كَمَا أَنَّهُ إذَا سَبَّحَ لِلَّهِ وَذَكَرَهُ فَهُوَ مُسَبِّحٌ لِلَّهِ وَذَاكِرًا لَهُ بِقَدْرِ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ التَّسْبِيحُ تَارَةً لِاسْمِ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] . وَتَارَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الأحزاب: 42] وَكَذَلِكَ الذِّكْرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الإنسان: 25] ، مَعَ قَوْلِهِ: {اُذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} .

فَحَيْثُ عَظَّمَ الْعَبْدُ رَبَّهُ بِتَسْبِيحِ اسْمِهِ أَوْ الْحَلِفِ بِهِ أَوْ الِاسْتِعَاذَةِ بِهِ فَهُوَ مُسَبِّحٌ لَهُ بِتَوَسُّطِ الْمَثَلِ الْأَعْلَى الَّذِي فِي قَلْبِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، عِلْمًا وَفَضْلًا وَإِجْلَالًا وَإِكْرَامًا، وَحُكْمُ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ إنَّمَا يَعُودُ إلَى مَا كَسَبَهُ قَلْبُهُ مِنْ ذَلِكَ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] ، وَكَمَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] ، فَلَوْ اعْتَبَرَ الشَّارِعُ مَا فِي لَفْظَةِ الْقَسَمِ مِنْ انْعِقَادِهِ بِالْأَيْمَانِ وَارْتِبَاطِهِ بِهِ دُونَ قَصْدِ الْحَلِفِ؛ لَكَانَ مُوجِبُهُ أَنَّهُ إذَا حَنِثَ بِغَيْرِ أَيْمَانِهِ وَتَزُولُ حَقِيقَتُهُ، كَمَا قَالَ «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» ، وَكَمَا أَنَّهُ إذَا حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ يَمِينًا فَاجِرَةً كَانَتْ مِنْ الْكَبَائِرِ؛ وَإِذَا اشْتَرَى بِهَا مَالًا مَعْصُومًا فَلَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِ وَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، لَكِنْ الشَّارِعُ عَلِمَ أَنَّ الْحَالِفَ بِهَا لَيَفْعَلَنَّ أَوْ لَا يَفْعَلَنَّ، لَيْسَ غَرَضُهُ الِاسْتِخْفَافَ بِحُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ وَالتَّعَلُّقَ بِهِ لِغَرَضِ الْحَالِفِ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ، فَشُرِعَ لَهُ الْكَفَّارَةُ، وَحَلَّ هَذَا الْعَقْدُ وَأَسْقَطَهَا عَنْ لَغْوِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْقِدْ قَلْبُهُ شَيْئًا مِنْ الْجِنَايَةِ عَلَى إيمَانِهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الْكَفَّارَةِ، وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ مُوجِبَ لَفْظِ الْيَمِينِ انْعِقَادُ الْفِعْلِ بِهَذَا الْيَمِينِ الَّذِي هُوَ إيمَانُهُ بِاَللَّهِ، فَإِذَا عَدِمَ الْفِعْلُ كَانَ مُقْتَضَى لَفْظِهِ عَدَمَ إيمَانِهِ هَذَا لَوْلَا مَا شَرَعَ اللَّهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ، كَمَا أَنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا أَوْجَبَ عَلَيَّ كَذَا أَنَّهُ عِنْدَ الْفِعْلِ يَجِبُ ذَلِكَ الْفِعْلُ لَوْلَا مَا شَرَعَ اللَّهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَمَا قَالَ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَجَعَلَ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ فِي قَوْلِهِ وَيَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا كَالْغَمُوسِ فِي قَوْلِهِ وَاَللَّهِ مَا فَعَلْت كَذَا. إذْ هُوَ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ قَدْ قَطَعَ عَهْدَهُ مِنْ اللَّهِ. حَيْثُ عَلَّقَ الْأَيْمَانَ بِأَمْرٍ مَعْدُومٍ. وَالْكُفْرَ بِأَمْرٍ مَوْجُودٍ، بِخِلَافِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَطَرَدَ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ إذَا كَانَتْ فِي النَّذْرِ الطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ بِهِ، وَلَمْ تَرْفَعْهُ الْكَفَّارَةُ، كَمَا يَقَعُ الْكُفْرُ بِذَلِكَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ الْمُرَادُ بِهِ الْيَمِينُ الْمَشْرُوعَةُ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 224]

فَإِنَّ السَّلَفَ مُجْمِعُونَ أَوْ كَالْمُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّكُمْ لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ مَانِعًا لَكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ بِهِ مِنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ. بِأَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ أَنْ يَفْعَلَ مَعْرُوفًا مُسْتَحَبًّا أَوْ وَاجِبًا أَوْ لَيَفْعَلَ مَكْرُوهًا أَوْ حَرَامًا وَنَحْوَهُ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ افْعَلْ ذَلِكَ أَوْ لَا تَفْعَلْ هَذَا قَالَ قَدْ حَلَفْت بِاَللَّهِ، فَيَجْعَلُ اللَّهَ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ، فَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى عِبَادَهُ أَنْ يَجْعَلُوا نَفْسَهُ مَانِعًا لَهُمْ فِي الْحَلِفِ مِنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَالْحَلِفُ بِهَذِهِ الْأَيْمَانِ إنْ كَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ الْحَلِفِ بِهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَانِعًا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى، فَإِنَّهُ إذَا نَهَى عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ سُبْحَانَهُ عُرْضَةً لِأَيْمَانِنَا أَنْ نَبَرَّ وَنَتَّقِيَ فَغَيْرُهُ أَوْلَى، أَنْ نَكُونَ مَنْهِيِّينَ عَنْ جَعْلِهِ عُرْضَةً لِأَيْمَانِنَا، وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّنَا مَنْهِيُّونَ عَنْ أَنْ نَجْعَلَ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ عُرْضَةً لِأَيْمَانِنَا أَنْ نَبَرَّ وَنَتَّقِيَ وَنُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِمَا فِي الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَأْمُرُ بِهِ. فَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِالنَّذْرِ أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ بِالتَّعَلُّقِ، وَأَنْ لَا يَبَرَّ وَلَا يَتَّقِيَ وَلَا يُصْلِحَ، فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إنْ وَفَّى بِذَلِكَ فَقَدْ جَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ أَنْ يَبَرَّ وَيَتَّقِيَ وَيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ، وَإِنْ حَنِثَ فِيهَا وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُ الْمَنْذُورِ، فَقَدْ يَكُونُ خُرُوجُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ مِنْهُ أَبْعَدَ عَنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ الْأَمْرِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى يَمِينِهِ تَرَكَ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ تَرَكَ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى فَصَارَتْ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ أَنْ يَبَرَّ وَيَتَّقِيَ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ هَمَّامٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ: «مَنْ اسْتَنْتَجَ فِي أَهْلِهِ بِيَمِينٍ فَهُوَ أَعْظَمُ إثْمًا» فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ أَنَّ اللَّجَاجَ بِالْيَمِينِ فِي أَهْلِ الْحَالِفِ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ التَّكْفِيرِ، وَاللَّجَاجُ التَّمَادِي فِي الْخُصُومَةِ، وَمِنْهُ قِيلَ رَجُلٌ لَجُوجٌ إذَا تَمَادَى فِي الْخُصُومَةِ، وَلِهَذَا سَمَّى الْعُلَمَاءُ هَذَا نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، فَإِنَّهُ يَلِجُّ حَتَّى يَعْقِدَهُ ثُمَّ يَلِجُّ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ الْحِنْثِ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ أَنَّ اللَّجَاجَ بِالْيَمِينِ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ الْكَفَّارَةِ وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَيْمَانِ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ. قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: «إذَا حَلَفْت عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْت غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلْ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» . وَهَذَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَيَعُمُّ كُلَّ حَلِفٍ عَلَى يَمِينٍ كَائِنًا مَا كَانَ الْحَلِفُ. فَإِذَا رَأَى غَيْرَ الْيَمِينِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا خَيْرًا مِنْهَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا تَرْكًا لِخَيْرٍ فَيَرَى فِعْلَهُ خَيْرًا مِنْ تَرْكِهِ، أَوْ يَكُونُ فِعْلًا لِشَرٍّ فَيَرَى تَرْكَهُ خَيْرًا مِنْ فِعْلِهِ فَقَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ أَنْ يَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَقَوْلُهُ هُنَا عَلَى يَمِينٍ هُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ، سُمِّيَ الْأَمْرُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَمِينًا كَمَا يُسَمَّى الْمَخْلُوقُ خَلْقًا وَالْمَضْرُوبُ ضَرْبًا وَالْمَبِيعُ بَيْعًا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ «أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي قِصَّتِهِ، وَقِصَّةِ أَصْحَابِهِ بِهِ لَمَّا جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ لِيَسْتَحْمِلُوهُ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إنِّي إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا كَفَّرْت عَنْ يَمِينِي، وَأَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى الْيَمِينِ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْهَا وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا فَلْيُكَفِّرْهَا وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» . وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْجُشَمِيِّ، فَهَذِهِ نُصُوصُ رَسُولِ اللَّهِ الْمُتَوَاتِرَةُ، أَنَّهُ أَمَرَ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ وَيَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ أَنَّ النَّذْرَ وَنَحْوَهُ، وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَا عَلَى الْأَرْضِ يَمِينٌ أَحْلِفُ عَلَيْهَا فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْته» وَهَذَا صَرِيحٌ بِأَنَّهُ قَصَدَ تَعْمِيمَ كُلِّ يَمِينٍ فِي الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ فَهِمُوا مِنْهُ دُخُولَ الْحَلِفِ

بِالنَّذْرِ فِي هَذَا الْكَلَامِ، فَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ أَخَوَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ فَسَأَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ الْقِسْمَةَ فَقَالَ: إنْ عُدْت تَسْأَلُنِي الْقِسْمَةَ فَكُلُّ مَالٍ لِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إنَّ الْكَعْبَةَ غَنِيَّةٌ عَنْ مَالِك. كَفِّرْ عَنْ يَمِينِك وَكَلِّمْ أَخَاك. سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «لَا يَمِينَ عَلَيْك وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَفِيمَا لَا يُمْلَكُ» ". فَهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمَرَ هَذَا الَّذِي حَلَفَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَنَذَرَ نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ بِأَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ، وَأَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ الْمَنْذُورَ، وَاحْتَجَّ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَمِينَ عَلَيْك وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَفِيمَا لَا يُمْلَكُ» ، فَفُهِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِيَمِينٍ أَوْ نَذْرٍ عَلَى مَعْصِيَةٍ أَوْ قَطِيعَةٍ فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ النَّذْرِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ كَمَا أَفْتَاهُ عُمَرُ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا النَّذْرَ كَانَ عِنْدَهُ يَمِينًا لَمْ يَقُلْ لَهُ كَفِّرْ عَنْ يَمِينِك، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ: " لَا يَمِينَ وَلَا نَذْرَ " لِأَنَّ الْيَمِينَ مَا قُصِدَ بِهَا الْحَضُّ أَوْ الْمَنْعُ، وَالنَّذْرُ مَا قُصِدَ بِهِ التَّقَرُّبُ، وَكِلَاهُمَا لَا يُوَفِّي بِهِ الْمَعْصِيَةَ وَالْقَطِيعَةَ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ: «لَا يَمِينَ وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ، وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ» يُعْلِمُ جَمِيعَ مَا يُسَمَّى يَمِينًا أَوْ نَذْرًا، سَوَاءٌ كَانَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ أَوْ كَانَتْ بِوُجُوبِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ مِنْ الصَّدَقَةِ أَوْ الصِّيَامِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ الْهَدْيِ، أَوْ كَانَتْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ كَالظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَمَقْصُودُ النَّبِيِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَهْيُهُ عَنْ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ وَالْقَطِيعَةِ فَقَطْ. أَوْ يَكُونُ مَقْصُودُهُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مَا فِي الْيَمِينِ وَالنُّذُورِ مِنْ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ، وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ لِاسْتِدْلَالِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِهِ. فَإِنَّهُ لَوْلَا أَنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى هَذَا لَمْ يَصِحَّ اسْتِدْلَالُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَا أَجَابَ بِهِ السَّائِلُ مِنْ الْكَفَّارَةِ دُونَ إخْرَاجِ الْمَالِ فِي كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ النَّبِيِّ يُعْلِمُ ذَلِكَ كُلَّهُ. وَأَيْضًا كَمَا تَبَيَّنَ دُخُولُ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي الْيَمِينِ وَالْحَلِفِ فِي

كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِ رَسُولِهِ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَنْ حَلَفَ يَمِينًا وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَأَبُو دَاوُد وَلَفْظُهُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، ثِنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ اسْتَثْنَى» . رَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ غَيْرَ حِنْثٍ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَلَفْظُهُ فَلَهُ ثُنْيَا وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ: فَقَدْ اسْتَثْنَى. ثَمَّ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ أَدْخَلُوا الْحَلِفَ بِالنَّذْرِ وَبِالطَّلَاقِ وَبِالْعَتَاقِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالُوا يَنْفَعُ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ يَجْعَلُ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ لَا خِلَافَ فِيهِ فِي مَذْهَبِهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَدْخُلُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ هُوَ نَفْسُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ إيقَاعِهِمَا وَالْحَلِفِ بِهِمَا ظَاهِرٌ، وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ قَاعِدَةَ الِاسْتِثْنَاءِ، فَإِذَا كَانُوا قَدْ أَدْخَلُوا الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي قَوْلِهِ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» ، فَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» ، فَإِنَّ كِلَا اللَّفْظَيْنِ سَوَاءٌ وَهَذَا وَاضِحٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ. مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ، لَفْظُ الْعُمُومِ فِيهِ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» ، وَإِذَا كَانَ لَفْظُ رَسُولِ اللَّهِ فِي حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ لَفْظُهُ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا يَنْفَعُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ يَنْفَعُ فِيهِ التَّكْفِيرُ، وَكُلُّ مَا يَنْفَعُ فِيهِ التَّكْفِيرُ يَنْفَعُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَمَنْ قَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَصَدَ بِقَوْلِهِ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا مِنْ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَبِالنَّذْرِ وَبِالطَّلَاقِ وَبِالْعَتَاقِ، وَبِقَوْلِهِ مَنْ حَلَفَ يَمِينًا فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إنَّمَا قَصَدَ بِهِ التَّمَيُّنَ بِاَللَّهِ أَوْ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ وَالنَّذْرَ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ مُوجِبَ حُضُورِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ بِقَلْبِ النَّبِيِّ.

مِثْلُ حُضُورِ مُوجِبِ اللَّفْظِ الْآخَرِ، كِلَاهُمَا لَفْظٌ وَاحِدٌ وَالْحُكْمُ فِيهِمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُوَ رَفْعُ الْيَمِينِ إمَّا بِالِاسْتِثْنَاءِ وَإِمَّا بِالتَّكْفِيرِ. وَبَعْدَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ انْقَسَمَتْ فِي دُخُولِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي حَدِيثِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: فَقَوْمٌ قَالُوا: يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ أَنْفُسُهُمَا حَتَّى لَوْ قَالَ: أَنْت طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ، دَخَلَ ذَلِكَ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَقَوْمٌ قَالُوا: يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لَا إيقَاعُهُمَا وَلَا الْحَلِفُ بِهِمَا لَا بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ وَلَا بِصِيغَةِ الْقَسَمِ، وَهَذَا أَشْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ، بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ إنْ كَانَ الْحَلِفُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ دَخَلَ فِي الْحَدِيثِ وَنَفَعَتْهُ الْمَشِيئَةُ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ هُوَ الصَّوَابُ الْمَأْثُورُ مَعْنَاهُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ. جُمْهُورُ التَّابِعِينَ، كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ لَمْ يَجْعَلُوا فِي الطَّلَاقِ اسْتِثْنَاءً. وَلَمْ يَجْعَلُوهُ مِنْ الْأَيْمَانِ، ثُمَّ ذَكَرْنَاهُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْحَلِفَ بِالصَّدَقَةِ وَالْهَدْيِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَمِينًا مُكَفِّرَةً، وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مِنْ الْأَيْمَانِ. وَقَالَ أَيْضًا: الثُّنْيَا فِي الطَّلَاقِ لَا أَقُولُ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ جَزْمًا وَاقِعَانِ. وَقَالَ أَيْضًا: إنَّمَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ كَفَّارَةٌ، وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لَا يُكَفَّرَانِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَيْسَ يَمِينًا أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْإِبْرَاءِ مِنْ الدَّيْنِ، وَلِهَذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ يَمِينًا ثُمَّ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ أَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ أَبْرَأَ غَرِيمَهُ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ، مَا

عَلِمْت أَحَدًا خَالَفَ فِي ذَلِكَ، فَمَنْ أَدْخَلَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ بَعْدُ» ، حَمَّلَ الْعَامُّ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، كَمَا أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ مِنْ الْعَامِّ قَوْلَهُ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَأَفْعَلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إنْ فَعَلْته فَامْرَأَتِي طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ مِنْ الْقَوْلِ الْعَامِّ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِيهِ، قَالَ هَذَا يَمِينٌ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَهُنَا يَنْبَغِي تَقْلِيدُ أَحْمَدَ بِقَوْلِهِ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لَيْسَا مِنْ الْأَيْمَانِ، فَإِنَّ الْحَلِفَ بِهِمَا كَالْحَلِفِ بِالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهِمَا، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ عَقْلًا وَعُرْفًا وَشَرْعًا. وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ أَبَدًا ثُمَّ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ حَنِثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ سَمَّوْهُ يَمِينًا، وَكَذَلِكَ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ سَمَّوْهُ يَمِينًا، وَكَذَلِكَ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ سَمَّوْهُ يَمِينًا، وَمَعْنَى الْيَمِينِ مَوْجُودٌ فِيهِ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ تَعُودُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى إنِّي حَالِفٌ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِعْلَهُ، فَإِذَا لَمْ يُفْعَلْ لَمْ يَكُنْ قَدْ شَاءَهُ، فَلَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لَهُ، فَلَوْ نَوَى عَوْدَهُ إلَى الْحَلِفِ بِأَنْ يَقْصِدَ أَيْ الْحَالِفُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَكُونَ حَالِفًا كَانَ مَعْنَى هَذَا مُغَايِرٌ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِنْشَاءَاتِ كَالطَّلَاقِ وَعَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ، تَعُودُ الْمَشِيئَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى الْفِعْلِ، فَالْمَعْنَى لَأَفْعَلَنَّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِعْلَهُ، فَمَتَى لَمْ يَفْعَلْهُ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ قَدْ شَاءَهُ فَلَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لِلطَّلَاقِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَنَى بِالطَّلَاقِ يَلْزَمُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ لُزُومَهُ إيَّاهُ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ إنَّمَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا فِيهِ حُكْمُ الْكَفَّارَةِ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لَا يُكَفَّرَانِ. كَلَامٌ حَسَنٌ بَلِيغٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ، أَخْرَجَ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ وَحُكْمَ الْكَفَّارَةِ مَخْرَجًا وَاحِدًا بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ، وَبِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا جَمَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا يَقَعُ لِمَا عُلِّقَ بِهِ الْفِعْلُ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي هِيَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَنَحْوُهُمَا لَا تُعَلَّقُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا، فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ بِوُجُوبِ أَسْبَابِهَا، فَإِذَا انْعَقَدَتْ أَسْبَابُهَا فَقَدْ شَاءَهَا اللَّهُ، وَإِنَّمَا تُعَلَّقُ عَلَى الْحَوَادِثِ الَّتِي قَدْ يَشَاءَهَا اللَّهُ وَقَدْ لَا يَشَاءَهَا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَنَحْوِهَا، وَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا شُرِعَتْ لِمَا يَحْصُلُ مِنْ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الَّتِي قَدْ يَحْصُلُ فِيهَا الْمُوَافَقَةُ بِالْبِرِّ تَارَةً وَالْمُخَالَفَةُ بِالْحِنْثِ أُخْرَى، وَوُجُوبُ

الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْمُوَافَقَةَ وَالْمُخَالَفَةَ، كَارْتِفَاعِ الْيَمِينِ بِالْمَشِيئَةِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ وَعَدَمَ التَّعْلِيقِ فَكُلُّ مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ لَيَفْعَلَنَّهُ فَلَمْ يَفْعَلْهُ فَإِنَّهُ إنْ عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَلِّقْهُ بِالْمَشِيئَةِ لَزِمَتْهُ بِالْكَفَّارَةِ. فَالِاسْتِثْنَاءُ وَالتَّكْفِيرُ يَتَعَاقَبَانِ الْيَمِينَ إذَا لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الْمُوَافَقَةُ؛ فَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدْفَعُ مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الزِّيَادَةِ أَوْ النَّقْصِ، فَهَذَا عَلَى مَا أَوْجَبَهُ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ، ثُمَّ يُقَالُ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لَا يُكَفَّرَانِ كَقَوْلِ غَيْرِهِ لَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِمَا. وَهَذَا فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَأَمَّا الْحَلِفُ بِهِمَا فَلَيْسَ تَكْفِيرًا لَهُمَا، وَإِنَّمَا هُوَ تَكْفِيرٌ لِلْحَلِفِ بِهِمَا، كَمَا أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَالْهَدْيِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي نَذَرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ فَإِنَّهُ لَمْ يُكَفِّرْ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ وَالْهَدْيَ، وَإِنَّمَا يُكَفِّرُ الْحَلِفَ بِهِمْ، وَإِلَّا فَالصَّلَاةُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَكَمَا أَنَّهُ إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِلَا خِلَافٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَمُوَافَقَةٍ مِنْ الْقَائِلِينَ بِنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ وَلَيْسَ ذَلِكَ تَكْفِيرًا لِلْعِتْقِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَكْفِيرٌ لِلْحَلِفِ بِهِ، فَلَازِمُ قَوْلِ أَحْمَدَ هَذَا أَنَّهُ إذَا جَعَلَ الْحَلِفَ بِهِمَا يَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ كَانَ الْحَلِفُ بِهِمَا يَصِحُّ فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَهَذَا مُوجِبُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْحَلِفَ بِهِمَا يَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَمَذْهَبِ مَالِكٍ فَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ، وَنَحْنُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ، وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى حِدَةٍ، وَإِذَا قَالَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ، لَزِمَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْحَلِفِ بِهِمَا، وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ فَقَالَ يَصِحُّ الْحَلِفُ فِي الْحَلِفِ بِهِمَا الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا تَصِحُّ الْكَفَّارَةُ فَهَذَا لَمْ أَعْلَمْهُ مَنْصُوصًا عَنْ أَحْمَدَ، وَلَكِنَّهُمْ مَعْذُورُونَ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ حَيْثُ لَمْ يَجِدُوهُ نُصَّ فِي تَكْفِيرِ الْحَلِفِ بِهِمَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ، كَمَا نُصَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْحَلِفِ بِهَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ لَكِنْ هَذَا الْقَوْلُ لَازِمٌ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ الَّتِي يَنْصُرُونَهَا، وَمِنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ قَوْلَهُ لَوَازِمُ يَتَفَطَّنُ لِلُزُومِهَا، وَلَوْ تَفَطَّنَ لَكَانَ إمَّا أَنْ يَلْتَزِمَهَا أَوْ لَا يَلْتَزِمَهَا بَلْ يَرْجِعُ عَنْ الْمَلْزُومِ أَوْ لَا يَرْجِعُ عَنْهُ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهَا غَيْرُ لَوَازِمَ.

وَالْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ إذَا خَرَّجُوا عَلَى قَوْلِ عَالِمٍ لَوَازِمَ قَوْلِهِ وَقِيَاسِهِ، فَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ اللَّازِمِ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ أَوْ نَصَّ عَلَى نَفْيِهِ، وَإِذَا نَصَّ عَلَى نَفْيِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نُصَّ عَلَى نَفْيِ لُزُومِهِ أَوْ لَمْ يَنُصَّ، فَإِنْ كَانَ قَدْ نَصَّ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ اللَّازِمِ وَخَرَّجُوا عَنْهُ خِلَافَ الْمَنْصُوصِ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، مِثْلُ أَنْ يَنُصَّ فِي مَسْأَلَتَيْنِ مُتَشَابِهَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَوْ يُعَلِّلَ مَسْأَلَةً بِعِلَّةٍ يَنْقُضُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، كَمَا عَلَّلَ أَحْمَدُ هُنَا عَدَمَ التَّكْفِيرِ بِعَدَمِ الِاسْتِثْنَاءِ وَعَنْهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ رِوَايَتَانِ، فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَخْرِيجِ مَا لَمْ يُتَكَلَّمْ فِيهِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ، هَلْ يُسَمَّى ذَلِكَ مَذْهَبًا أَوْ لَا يُسَمَّى. وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ، فَالْأَثْرَمُ وَالْخِرَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا يَجْعَلُونَهُ مَذْهَبًا لَهُ، وَالْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ وَغَيْرُهُمَا لَا يَجْعَلُونَهُ مَذْهَبًا لَهُمَا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا قِيَاسُ قَوْلِهِ وَلَازِمُ قَوْلِهِ فَلَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْمَذْهَبِ الْمَنْصُوصِ عَنْهُ، وَلَا أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَيْسَ بِلَازِمِ قَوْلِهِ بَلْ هُوَ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ، هَذَا حَيْثُ أَمْكَنَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ الطَّلَاقَ مُبِيحًا لَهُ أَوْ آمِرًا بِهِ أَوْ مُلْزِمًا لَهُ إذَا أَوْقَعَهُ صَاحِبُهُ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ وَكَذَلِكَ النَّذْرُ وَهَذِهِ الْعُقُودُ مِنْ النَّذْرِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ يَقْتَضِي وُجُوبَ أَشْيَاءَ عَلَى الْعَبْدِ، أَوْ تَحْرِيمَ أَشْيَاءَ عَلَيْهِ. وَالْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ إنَّمَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ إذَا قَصَدَهُ أَوْ قَصَدَ سَبَبَهُ، فَإِنَّهُ لَوْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ هَذَا الْكَلَامُ لِغَيْرِ قَصْدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ تَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ مُكْرَهًا لَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ إنَّمَا هُوَ دَفْعُ الْمَكْرُوهِ عَنْهُ لَمْ يَقْصِدْ حُكْمَهَا وَلَا قَصَدَ التَّكَلُّمَ بِهَا ابْتِدَاءً، فَكَذَلِكَ الْحَالِفُ إذَا قَالَ إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ الطَّلَاقُ لَيْسَ يَقْصِدُ الْتِزَامَ حَجٍّ وَلَا طَلَاقٍ، وَلَا تَكَلُّمٍ بِمَا يُوجِبُهُ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا قَصْدُهُ الْحَضُّ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ مَنْعُ نَفْسِهِ مِنْهُ، كَمَا أَنَّ قَصْدَ الْمُكْرَهِ دَفْعُ الْمَكْرُوهِ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ، عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْحَضِّ وَالْمَنْعِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَهَذَا لِي لَازِمٌ أَوْ هَذَا عَلَيَّ حَرَامٌ لِشِدَّةِ امْتِنَاعِهِ مِنْ هَذَا اللُّزُومِ وَالتَّحْرِيمِ عُلِّقَ ذَلِكَ بِهِ، فَقَصْدُهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا لَا ثُبُوتُ أَحَدِهِمَا وَلَا ثُبُوتُ سَبَبِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لِلْحُكْمِ وَلَا لِسَبَبِهِ إنَّمَا قَصْدُهُ عَدَمُ الْحُكْمِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَلْزَمَهُ الْحُكْمُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّهُ كَانَ يَحْلِفُ بِهَا عَلَى عَهْدِ قُدَمَاءِ الصَّحَابَةِ، وَلَكِنْ قَدْ ذَكَرُوهَا فِي أَيْمَانِ الْبَيْعَةِ الَّتِي رَتَّبَهَا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَصَدَقَةِ الْمَالِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَلَمْ أَقِفْ إلَى السَّاعَةِ

عَلَى كَلَامٍ لِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا الَّذِي بَلَغَنَا عَنْهُمْ الْجَوَابُ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ هَذِهِ الْبِدْعَةُ قَدْ شَاعَتْ فِي الْأُمَّةِ وَانْتَشَرَتْ انْتِشَارًا عَظِيمًا، ثُمَّ لَمَّا اعْتَقَدَ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِهَا لَا مَحَالَةَ، صَارَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا مِنْ الْأَغْلَالِ عَلَى الْأُمَّةِ مَا هُوَ شَبِيهٌ بِالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ، وَنَشَأَ عَنْ ذَلِكَ خَمْسُ أَنْوَاعٍ مِنْ الْحِيَلِ وَالْمَفَاسِدِ فِي الْأَيْمَانِ، حَتَّى اتَّخَذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ عَلَى تَرْكِ أُمُورٍ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ فِعْلِهَا إمَّا شَرْعًا وَإِمَّا طَبْعًا، وَعَلَى فِعْلِ أُمُورٍ لَا يَصْلُحُ فِعْلُهَا إمَّا شَرْعًا وَإِمَّا طَبْعًا، وَغَالِبُ مَا يَحْلِفُونَ بِذَلِكَ فِي حَالِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، ثُمَّ فِرَاقُ الْأَهْلِ فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا يَزِيدُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَغْلَالِ الْيَهُودِ، وَقَدْ قِيلَ إنَّ اللَّهَ إنَّمَا حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ لِئَلَّا يَتَسَارَعَ النَّاسُ إلَى الطَّلَاقِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ، فَإِذَا حَلَفُوا بِالطَّلَاقِ عَلَى الْأُمُورِ اللَّازِمَةِ أَوْ الْمَمْنُوعَةِ وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى تِلْكَ الْأُمُورِ أَوْ تَرْكِهَا مَعَ عَدَمِ فِرَاقِ الْأَهْلِ قَدَحَتْ الْأَفْكَارُ لَهُمْ أَنْوَاعًا مِنْ الْحِيَلِ أَرْبَعَةً أُخِذَتْ عَنْ الْكُوفِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ. الْحِيلَةُ الْأُولَى فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ: فَيَتَأَوَّلُ لَهُمْ خِلَافٌ قَصَدُوهُ وَخِلَافُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَصَفَهُ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْفِقْهِ وَيُسَمُّونَهُ بَابَ الْمُعَايَاةِ وَبَابَ الْحِيَلِ فِي الْأَيْمَانِ، وَأَكْثَرُهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ الدِّينِ أَنَّهُ لَا يَسُوغُ فِي الدِّينِ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ كَلَامِ الْحَالِفِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ يُشَدِّدُونَ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ يَحْتَالُ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ. الْحِيلَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا تَعَذَّرَ الِاحْتِيَالُ فِي الْكَلَامِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ احْتَالُوا لِلْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، بِأَنْ يَأْمُرُوهُ بِمُخَالَفَةِ امْرَأَتِهِ لِيَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ الْبَيْنُونَةِ، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ أَحْدَثُ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا وَأَظُنُّهَا حَدَثَتْ فِي حُدُودِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ، فَإِنَّ عَامَّةَ الْحِيَلِ إنَّمَا نَشَأَتْ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَحِيلَةُ الْخُلْعِ لَا تَمْشِي عَلَى أَصْلِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ فُرْقَةٍ بَائِنَةٍ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ عِنْدَهُمْ، فَيَحْتَاجُ الْمُحْتَالُ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ أَنْ يَتَرَبَّصَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، ثُمَّ يَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، وَهَذَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ طُولِ الْمُدَّةِ، فَصَارَ يُفْتِي بِهَا بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَرُبَّمَا رَكَنُوا مَعَهَا إلَى أَخْذِ قَوْلِهِ الْمُوَافِقِ لِأَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، مِنْ أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ فَيَصِيرُ الْحَالِفُ كُلَّمَا

أَرَادَ الْحِنْثَ خَلَعَ زَوْجَتَهُ، وَفَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَإِمَّا أَنْ يُفْتُوهُ بِنَقْصِ عَدَدِ الطَّلَاقِ أَوْ يُفْتُوهُ بِعَدَمِهِ، وَهَذَا الْخُلْعُ الَّذِي هُوَ خُلْعُ الْأَيْمَانِ شَبِيهٌ بِنِكَاحِ الْمُحَلَّلِ سَوَاءٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَقْدٌ لَمْ يَقْصِدْهُ وَإِنَّمَا قَصَدَ إزَالَتَهُ وَهَذَا فَسَخَ فَسْخًا لَمْ يَقْصِدْهُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ إزَالَتَهُ، وَهَذِهِ حِيلَةٌ مُحْدَثَةٌ بَارِدَةٌ قَدْ صَنَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ جُزْءًا فِي إبْطَالِهَا، وَذَكَرَ عَنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ مَا قَدْ ذَكَرْت بَعْضَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الْحِيلَةُ الثَّالِثَةُ: إذَا تَعَذَّرَ الِاحْتِيَالُ فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، احْتَالُوا فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ فَيُبْطِلُونَهُ بِالْبَحْثِ عَنْ شُرُوطِهِ، فَصَارَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يَبْحَثُونَ عَنْ صِفَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ، لَعَلَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى أَمْرٍ يَكُونُ بِهِ فَاسِدًا لِيُرَتِّبُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يَقَعُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ أَنَّ الْوَلِيَّ الْفَاسِقَ لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ، وَالْفُسُوقُ غَالِبٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فَيَقْتَنُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِسَبَبِ الِاحْتِيَالِ لِرَفْعِ الطَّلَاقِ ثُمَّ نَجِدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَحْتَالُونَ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ إنَّمَا يَنْظُرُونَ فِي صِفَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَكَوْنُ فُلَانٍ الْفَاسِقِ لَا يَصِحُّ عِنْدَ إيقَاعِ الطَّلَاقِ الَّذِي قَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَقَعُ الْفَاسِدُ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ الَّذِي أَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَلَا يَنْظُرُونَ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَنْظُرُونَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَ الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، بَلْ عِنْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ خَاصَّةً، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَمِنْ الْمَكْرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ إنَّمَا أَوْجَبَهُ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالضَّرُورَةِ إلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ. الْحِيلَةُ الرَّابِعَةُ: الشَّرْعِيَّةُ فِي إفْسَادِ الْمَحْلُوفِ بِهِ أَيْضًا لَكِنْ لِوُجُودِ مَانِعٍ، لَا لِفَوَاتِ شَرْطٍ فَإِنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ سُرَيْجٍ وَطَائِفَةً بَعْدَهُ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتَ طَالِقٌ قَبْلُ ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَاقٌ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْمُنْجَزُ لَزِمَ وُقُوعُ الْمُعَلَّقِ، وَإِذَا وَقَعَ الْمُعَلَّقُ امْتَنَعَ وُقُوعُ الْمُنْجَزِ، فَيُفْضِي وُقُوعُهُ إلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ فَلَا يَقَعُ، وَأَمَّا عَامَّةُ فُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ، بَلْ رَأَوْهُ مِنْ الزَّلَّاتِ الَّتِي يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ كَوْنُهَا لَيْسَتْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، حَيْثُ قَدْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الطَّلَاقَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ نِكَاحٍ، وَأَنَّهُ مَا مِنْ نِكَاحٍ إلَّا وَيُمْكِنُ فِيهِ الطَّلَاقُ، وَسَبَبُ الْغَلَطِ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا صِحَّةَ هَذَا الْكَلَامِ، فَقَالُوا إذَا وَقَعَ الْمُنْجَزُ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ، وَهَذَا الْكَلَامُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ وُقُوعَ طَلْقَةٍ

مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ، وَوُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثٍ مُمْتَنِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ، فَالْكَلَامُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَإِذَا كَانَ بَاطِلًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ وُقُوعِ الْمُنْجَزِ وُقُوعُ الْمُعَلَّقِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ يَقَعُ مِنْ الْمُعَلَّقِ تَمَامُ الثَّلَاثِ أَمْ يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ وَلَا يَقَعُ إلَّا الْمُنْجَزُ، عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا. وَمَا أَدْرِي هَلْ اسْتَحْدَثَ ابْنُ سُرَيْجٍ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِلِاحْتِيَالِ عَلَى دَفْعِ الطَّلَاقِ أَمْ قَالَهُ طَرْدًا لِقِيَاسٍ اُعْتُقِدَ صِحَّتُهُ، وَاحْتَالَ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ، لَكِنِّي رَأَيْت مُصَنَّفًا لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ صَنَّفَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَقْصُودُهُ بِهَا الِاحْتِيَالُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَلِهَذَا صَاغُوهَا بِقَوْلِهِ إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالُوا إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا لَمْ تَنْفَعْهُ هَذِهِ الصِّيغَةُ فِي الْحِيلَةِ وَإِنْ كَانَ كِلَاهُمَا فِي الدَّوْرِ سَوَاءً، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ فَأَنْتَ طَالِقٌ، لَمْ يَحْنَثْ إلَّا بِتَطْلِيقٍ يُنَجِّزُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْيَمِينِ أَوْ يُعَلِّقُهُ بَعْدَهَا عَلَى شَرْطٍ فَيُوجَدُ، فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ التَّنْجِيزِ وَالتَّعْلِيقِ الَّذِي وُجِدَ شَرْطُهُ تَطْلِيقٌ، أَمَّا إذَا كَانَ قَدْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا قَبْلَ هَذِهِ الْيَمِينِ بِشَرْطٍ وَوُجِدَ الشَّرْطُ بَعْدَ هَذِهِ الْيَمِينِ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدُ وُجُودِ الشَّرْطِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ تَطْلِيقًا؛ لِأَنَّ التَّطْلِيقَ لَا بُدَّ أَنْ يَصْدُرَ عَنْ الْمُطَلَّقِ، وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ بِصِفَةٍ يَفْعَلُهَا غَيْرُهُ لَيْسَ فِعْلًا مِنْهُ. فَأَمَّا إذْ قَالَ إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَهَذَا يَعُمُّ الْمُنْجَزَ وَالْمُعَلَّقَ يُعَدُّ هَذَا شَرْطٌ وَالْوَاقِعُ بَعْدَ هَذَا شَرْطٌ يُقَدَّمُ تَعْلِيقُهُ، فَصَوَّرُوا الْمَسْأَلَةَ بِصُوَرٍ قَوْلُهُ إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي حَتَّى إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِالطَّلَاقِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، قَالُوا لَهُ بَلْ إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا فَيَقُولُ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ لَهُ افْعَلْ الْآنَ مَا حَلَفْت عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْك طَلَاقٌ، فَهَذَا التَّسْرِيحُ الْمُنْكَرُ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْمَعْلُومُ يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الشَّرِيعَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا إنَّمَا تَفَقُّهٌ فِي الْغَالِبِ وَأَحْوَجَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ إلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، وَإِلَّا فَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَكَادُ يَقْصِدُ انْسِدَادَ بَابِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ إلَّا بِالْبِرِّ. الْحِيلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَمْ يُمْكِنْ الِاحْتِيَالُ لَا فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ قَوْلًا

وَلَا فِعْلًا، وَلَا فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ إبْطَالًا وَلَا مَنْعًا، احْتَالُوا لِإِعَادَةِ النِّكَاحِ بِنِكَاحِ الْمُحَلَّلِ الَّذِي دَلَّتْ السُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مَعَ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ وَشَوَاهِدِ الْأُصُولِ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَفَسَادِهِ، ثُمَّ قَدْ تَوَالَدَ مِنْ نِكَاحِ الْمُحَلَّلِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ كَمَا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِهِ فِي كِتَابِ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ، وَأَغْلَبُ مَا يُحْوِجُ النَّاسَ إلَى نِكَاحِ الْمُحَلَّلِ هُوَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ، وَإِلَّا فَالطَّلَاقُ الثَّلَاثُ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ فِي الْغَالِبِ إلَّا إذَا قَصَدَهُ. وَمَنْ قَصَدَهُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مِنْ النَّدَمِ وَالْفَسَادِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَنْ اُضْطُرَّ لِوُقُوعِهِ لِحَاجَتِهِ إلَى الْحِنْثِ، فَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ الْخَمْسُ الَّتِي هِيَ الِاحْتِيَالُ عَلَى نَقْضِ الْأَيْمَانِ وَإِخْرَاجِهِمَا عَلَى مَفْهُومِهِمَا وَمَقْصُودِهَا بِالِاحْتِيَالِ بِالْخُلْعِ وَإِعَادَةِ النِّكَاحِ، ثُمَّ الِاحْتِيَالُ عَنْ فَسَادِ النِّكَاحِ، ثُمَّ الِاحْتِيَالُ بِمَنْعِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، ثُمَّ الِاحْتِيَالُ بِنِكَاحِ الْمُحَلَّلِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّعِبِ الَّذِي يُنَفِّرُ الْعُقَلَاءَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَيُوجِبُ ظَفْرَ الْكُفَّارِ فِيهِ كَمَا رَأَيْته فِي بَعْضِ كُتُبِ النَّصَارَى وَغَيْرِهَا، وَتَبَيَّنَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ صَحِيحِ الْفِطْرَةِ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ بَرِيءٌ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذِهِ الْخُزَعْبَلَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ حِيلَ الْيَهُودِ وَمَخَارِيفَ الرُّهْبَانِ، وَأَكْثَرُ مَا أَوْقَعَ النَّاسَ فِيهَا وَأَوْجَبَ كَثْرَةَ إنْكَارِ الْفُقَهَاءِ فِيهَا وَاسْتِخْرَاجَهُمْ لَهَا هُوَ حَلِفُ النَّاسِ بِالطَّلَاقِ. وَاعْتِقَادُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحِنْثِ لَا مَحَالَةَ حَتَّى لَقَدْ فَرَّعَ الْكُوفِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُرُوعِ الْأَيْمَانِ شَيْئًا كَثِيرًا مَبْنَاهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُرُوعِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي يُفَرِّعُهَا هَؤُلَاءِ وَنَحْوُهُمْ هِيَ كَمَا كَانَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ مِثَالُهَا مِثَالُ رَجُلٍ بَنَى دَارًا حَسَنَةً عَلَى حِجَارَةٍ مَغْصُوبَةٍ، فَإِذَا تَوَزَّعَ فِي اسْتِحْقَاقِ تِلْكَ الْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ الْأَسَاسُ فَاسْتَحَقَّهَا غَيْرُهُ انْهَدَمَ بِنَاؤُهُ، فَإِنَّ الْفُرُوعَ الْحَسَنَةَ إنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى أُصُولٍ مُحْكَمَةٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْفَعَةٌ، فَإِذَا كَانَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَاعْتِقَادُ لُزُومِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحِنْثِ قَدْ أَوْجَبَ هَذِهِ الْمَفَاسِدَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي قَدْ غَيَّرَتْ بَعْضَ أُمُورِ الْإِسْلَامِ، غَلَّا مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ وَقَالَ فِي هَؤُلَاءِ شَبَهٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ. مَعَ أَنَّ لُزُومَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحَلِفِ بِهِ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَا أَفْتَى بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ. بَلْ وَلَا أَحَدٌ مِنْهُمْ مِمَّا أَعْلَمُهُ وَلَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ التَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَالْعُلَمَاءُ بَعْدَهُمْ وَلَا هُوَ مُنَاسِبٌ لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ قَالَهُ أَكْثَرَ مِنْ عَادَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ أُسْنِدَتْ إلَى قِيَاسٍ مُعْتَضَدٍ بِتَقْلِيدٍ لِقَوْمٍ أَئِمَّةٍ عُلَمَاءَ مَحْمُودِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ، وَهُمْ لِلَّهِ

الْحَمْدُ فَوْقَ مَا يُظَنُّ بِهِ، لَكِنْ لَمْ نُؤْمَرْ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَّا بِالرَّدِّ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ. وَقَدْ خَالَفَهُمْ مَنْ لَيْسَ دُونَهُمْ بَلْ مِثْلُهُمْ أَوْ فَوْقَهُمْ، فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ أَعْيَانٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْمُجْمَعِ عَلَى إمَامَتِهِ وَفِقْهِهِ وَدِينِهِ وَأُخْتِهِ حَفْصَةِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَزَيْنَبُ رَبِيبَةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَهِيَ مِنْ أَمْثَلِ فَقِيهَاتِ الصَّحَابَةِ فِي الْإِفْتَاءِ بِالْكَفَّارَةِ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ أَوْلَى مِنْهُ، وَذَكَرْنَا عَنْ طَاوُسٍ وَهُوَ مِنْ أَفَاضِلِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ عِلْمًا وَفِقْهًا وَدِينًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ مُوقِعَةً لَهُ، فَإِذَا كَانَ مِنْ لُزُومِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ بِهِ مُقْتَضِيًا لِهَذِهِ الْمَفَاسِدِ وَحَالُهُ فِي الشَّرِيعَةِ هَذِهِ الْحَالُ كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا أَفْضَى إلَى هَذَا الْفَسَادِ لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ، كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي ضَمَانِ الْحَدَائِقِ لِمَنْ يَزْدَرِعُهَا وَيَسْتَثْمِرُهَا، وَبَيْعِ الْخُضَرِ وَنَحْوِهَا وَذَلِكَ أَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ، إذَا حَلَفَ لَيَقْطَعَنَّ رَحِمَهُ، وَلَيَعُقَّنَّ أَبَاهُ، وَلَيَقْتُلَنَّ عَدُوَّهُ الْمُسْلِمَ الْمَعْصُومَ، وَلَيَأْتِيَنَّ الْفَاحِشَةَ وَلَيَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ، وَلَيُفَرِّقَنَّ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ. فَهُوَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إمَّا أَنْ يَفْعَلَ هَذَا الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، فَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ بَلْ وَالْمُفْتِينَ إذَا رَأَوْهُ قَدْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَخْفِيفِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ وَإِقَامَةِ عُذْرِهِ. وَإِمَّا أَنْ يَحْتَالَ بِبَعْضِ تِلْكَ الْحِيَلِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا اسْتَخْرَجَهُ قَوْمٌ مِنْ الْمُفْتِينَ، فَفِي ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَمُخَادَعَتِهِ وَالْمَكْرِ فِي دِينِهِ وَالْكَيْدِ لَهُ، وَضَعْفِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَالِاعْتِدَاءِ لِحُدُودِهِ وَالِانْتِهَاكِ لِمَحَارِمِهِ وَالْإِلْحَادِ فِي آيَاتِهِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي إخْوَانِنَا الْفُقَهَاءِ مَنْ قَدْ يَسْتَجِيزُ بَعْضَ ذَلِكَ، فَقَدْ دَخَلَ مِنْ الْغَلَطِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَغْفُورًا لِصَاحِبِهِ الْمُجْتَهِدِ الْمَنْفِيِّ لِلَّهِ مَا فَسَادُهُ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ حَقِيقَةَ الدِّينِ. وَإِمَّا أَنْ لَا يَحْتَالَ وَلَا يَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بَلْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ إذَا اعْتَقَدَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، فَفِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا لَا يَأْذَنْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ، أَمَّا فَسَادُ الدِّينِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مَعَ اسْتِقَامَةِ حَالِ الزَّوْجِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ «إنَّ الْمُخْتَلِعَاتِ وَالْمُنْتَزِعَاتِ هُنَّ مِنْ الْمُنَافِقَاتِ» .

وَقَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ» . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ. وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَدْ اسْتَحْسَنُوا جَوَابَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا سُئِلَ عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ، وَلَيَطَأَنَّ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَ: يُطَلِّقُهَا وَلَا يَطَؤُهَا قَدْ أَبَاحَ اللَّهُ الطَّلَاقَ وَحَرَّمَ وَطْءَ الْحَائِضِ، وَهَذَا الِاسْتِحْسَانُ يَتَوَجَّهُ عَلَى أَصْلَيْنِ إمَّا عَلَى قَوْلِهِ إنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهُ دُونَ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ، وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ كِلَاهُمَا حَرَامًا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ حَرَامٍ إلَّا إلَى حَرَامٌ، وَأَمَّا ضَرَرُ الدُّنْيَا فَأَبْيَنُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ، فَإِنَّ لُزُومَ الطَّلَاقِ الْمَحْلُوفِ بِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ يُوجِبُ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَمْ تَأْتِ بِهِ الشَّرِيعَةُ فِي مِثْلِ هَذَا قَطُّ. فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الصَّالِحَةَ تَكُونُ فِي صُحْبَةِ زَوْجِهَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ سِنِينَ كَثِيرَةً، وَهِيَ مَتَاعُهُ الَّذِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الْمُؤْمِنَةُ، إنْ نَظَرْت إلَيْهَا أَعْجَبَتْك وَإِنْ أَمَرْتهَا أَطَاعَتْك وَإِنْ غِبْت عَنْهَا حَفِظَتْك فِي نَفْسِهَا وَمَالِك» . وَهِيَ الَّتِي أَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ فِي قَوْلِهِ لَمَّا سَأَلَهُ الْمُهَاجِرُونَ أَيُّ الْمَالِ نَتَّخِذُ فَقَالَ: «لِسَانًا ذَاكِرًا وَقَلْبًا شَاكِرًا أَوْ امْرَأَةً صَالِحَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى إيمَانِهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ ثَوْبَانَ. وَيَكُونُ مِنْهَا مِنْ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ مَا امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِي كِتَابِهِ، فَيَكُونُ أَلَمُ الْفِرَاقِ أَشَدَّ عَلَيْهَا مِنْ الْمَوْتِ أَحْيَانًا وَأَشَدَّ مِنْ ذَهَابِ الْمَالِ وَأَشَدَّ مِنْ فِرَاقِ الْأَوْطَانِ، خُصُوصًا إنْ كَانَ بِأَحَدِهِمَا عَلَاقَةٌ مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَطْفَالٌ يَضِيعُونَ بِالْفِرَاقِ وَيَفْسُدُ حَالُهُمْ، ثُمَّ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى الْقَطِيعَةِ بَيْنَ أَقَارِبِهَا وَوَقَعَ الشَّرُّ لَمَّا زَالَتْ نِعْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِي قَوْلِهِ {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ

الْحَرَجِ الدَّاخِلِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وَمِنْ الْعُسْرِ الْمَنْفِيِّ بِقَوْلِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ فِعْلَ بِرٍّ وَإِحْسَانٍ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ وَتَعْلِيمِ عِلْمٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا، فَإِنَّهُ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ فِي الطَّلَاقِ أَعْظَمُ لَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بَلْ وَلَا يُؤْمَرُ بِهِ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْفَسَادُ النَّاشِئُ مِنْ الطَّلَاقِ أَعْظَمَ مِنْ الصَّلَاحِ الْحَاصِلِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ. وَهَذِهِ الْمَفْسَدَةُ هِيَ الَّتِي أَزَالَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] . وَقَوْلُهُ: «لَأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ الْكَفَّارَةَ» . فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي أَحَدِ هَذِهِ الضَّرَائِرِ الثَّلَاثِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْلِفَ. قِيلَ: لَيْسَ فِي شَرِيعَتِنَا ذَنْبٌ إذَا فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَخْرَجٌ مِنْهُ بِالتَّوْبَةِ إلَّا بِضَرَرٍ عَظِيمٍ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، فَهَبْ هَذَا قَدْ أَتَى كَبِيرَةً مِنْ الْكَبَائِرِ فِي حَلِفِهِ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ تَابَ مِنْ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ، فَكَيْفَ يُنَاسِبُ أُصُولَ شَرِيعَتِنَا أَنْ تَنْفِيَ ضَرَرَ ذَلِكَ الذَّنْبِ عَلَيْهِ لَا يَجِدُ مِنْهُ مَخْرَجًا، وَهَذَا بِخِلَافِ الَّذِي يُنْشِئُ الطَّلَاقَ لَا بِالْحَلِفِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا هُوَ مُرِيدٌ لِلطَّلَاقِ إمَّا لِكَرَاهَةِ الْمَرْأَةِ أَوْ غَضَبٍ عَلَيْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ الطَّلَاقَ ثَلَاثًا، فَإِذَا كَانَ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِالطَّلَاقِ بِاخْتِيَارِهِ، وَلَهُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَانَ وُقُوعُ الضَّرَرِ بِمِثْلِ هَذَا نَادِرًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ لَمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ أَوْ لَا يَفْعَلُهُ ثُمَّ قَدْ يَأْمُرُهُ الشَّرْعُ أَوْ يَضْطَرُّهُ الْحَاجَةُ إلَى فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ، فَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ لَا لَهُ وَلَا لِسَبَبِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا فِي بَابِ الْأَيْمَانِ تَخْفِيفُهَا بِالْكَفَّارَةِ لَا

تَثْقِيلُهَا بِالْإِيجَابِ أَوْ التَّحْرِيمِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَرَوْنَ الظِّهَارَ طَلَاقًا، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ حَتَّى ظَاهَرَ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ مِنْ امْرَأَتِهِ، وَأَيْضًا فَالِاعْتِبَارُ بِنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْفَرْقِ إلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ، وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ تَأْثِيرِهِ. وَالْقِيَاسُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ أَصَحُّ مَا يَكُونُ مِنْ الِاعْتِبَارِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ إذَا أَكَلْت أَوْ شَرِبْت فَعَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدِي، أَوْ فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ فَأَنَا مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ، أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ أَوْ فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ فَإِنَّهُ تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إنْ أَكَلْت هَذَا أَوْ شَرِبْت هَذَا فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ أَوْ فَالطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ أَوْ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ الطَّلَاقُ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ عَلَيَّ الْحَجُّ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ الْحَجُّ لِي لَازِمٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا. وَكِلَاهُمَا يَمِينَانِ مُحْدَثَتَانِ لَيْسَتَا مَأْثُورَتَيْنِ عَنْ الْعَرَبِ، وَلَا مَعْرُوفَتَيْنِ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا الْمُتَأَخِّرُونَ صَاغُوا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي أَيْمَانًا وَرَبَطُوا إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى كَالْأَيْمَانِ الَّتِي كَانَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ يَحْلِفُونَ بِهَا، وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَحْلِفُ بِهَا لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إنْ فَعَلْت فَمَالِي صَدَقَةٌ، يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّدَقَةِ عِنْدَ الْفِعْلِ، وَقَوْلُهُ: فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، يَقْتَضِي وُجُودَ الطَّلَاقِ، فَاَلَّذِي يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ نَفْسُ الشَّرْطِ، وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ بَعْدَ هَذَا طَلَاقًا وَلَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الصَّدَقَةِ حَتَّى تَحْدُثَ صَدَقَةٌ. وَجَوَابُ هَذَا الْفَرْقِ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْفُقَهَاءُ الْمُفَرِّقُونَ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مَعَ الْوَصْفِ الْفَارِقِ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا، وَفِي بَعْضِ صُوَرِ الْفُرُوعِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا بَيَانُ عَدَمِ التَّأْثِيرِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَمَالِي صَدَقَةٌ، أَوْ فَأَنَا مُحْرِمٌ أَوْ فَبَعِيرِي هَدْيٌ، فَالْمُعَلَّقُ بِالصِّفَةِ وُجُودُ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْرَامِ وَالْهَدْيِ لَا وُجُوبُهُمَا، كَمَا أَنَّ الْمُعَلَّقَ فِي قَوْلِهِ فَعَبْدِي حُرٌّ وَامْرَأَتِي طَالِقٌ وُجُودُ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ لَا وُجُوبُهُمَا، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِيمَا إذَا قَالَ: هَذَا هَدْيٌ، وَهَذَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، هَلْ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ أَوْ لَا يَخْرُجُ. فَمَنْ قَالَ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ فَهُوَ كَخُرُوجِ زَوْجَتِهِ وَعَبْدِهِ عَنْ مِلْكِهِ، أَكْثَرُ مَا فِي

الْبَابِ أَنَّ الصَّدَقَةَ وَالْهَدْيَ يَتَمَلَّكُهُ النَّاسُ بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ وَالْعَبْدِ، وَهَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ الطَّلَاقُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا فَهُوَ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ الْحَجُّ لَأَفْعَلَنَّ، فَهَلْ جَعَلَ الْمَحْلُوفَ بِهِ هَاهُنَا وُجُوبَ الطَّلَاقِ لَا وُجُودَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ، فَبَعْضُ صُوَرِ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ يَكُونُ الْمَحْلُوفُ بِهِ صِيغَةَ وُجُودٍ. وَأَمَّا الثَّانِي فَيَقُولُ هَبْ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالْفِعْلِ هُنَا وُجُودُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْمُعَلَّقَ هُنَاكَ وُجُوبُ الصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالْإِهْدَاءِ لَيْسَ مُوجِبُ الشَّرْطِ ثُبُوتَ هَذَا الْوُجُوبِ بَلْ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ هَذَا الْوُجُوبُ بَلْ تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ الْوُجُوبُ، كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ هَذَا الْوُجُودُ، بَلْ كَمَا لَوْ قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ إنْ فَعَلَ كَذَا فَإِنَّ الْمُعَلَّقَ هُنَا وُجُودُ الْكُفْرِ عِنْدَ الشَّرْطِ، ثُمَّ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ لَمْ يُوجَدْ الْكُفْرُ بِالِاتِّفَاقِ بَلْ يَلْزَمُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَ ابْتِدَاءً: هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ يَلْزَمُهُ الْكُفْرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ ابْتِدَاءً: عَبْدِي حُرٌّ وَامْرَأَتِي طَالِقٌ، وَهَذِهِ الْبَدَنَةُ هَدْيٌ، وَعَلَيَّ صَوْمُ هَدْيٍ، وَعَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ الْخَمِيسِ. وَلَوْ عَلَّقَ الْكُفْرَ بِشَرْطٍ يُقْصَدُ وُجُودُهُ، كَقَوْلِهِ: إذَا هَلَّ الْهِلَالُ فَقَدْ بَرِئْت مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، لَكِنْ لَا يُنَاجِزُ الْكُفْرَ؛ لِأَنَّ تَوْقِيتَهُ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ عَقِيدَتِهِ، قِيلَ: فَالْحَلِفُ بِالنَّذْرِ إنَّمَا عَلَيْهِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ فَقَطْ، قِيلَ: مُثِّلَ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ وَكَذَلِكَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ، كَمَا لَوْ قَالَ: فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي، وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ إذَا قَالَ: فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَقِيَاسُ قَوْلِهِ الطَّلَاقُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَلِهَذَا تَوَقَّفَ طَاوُسٌ فِي كَوْنِهِ يَمِينًا وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِهِ وَالتَّكْفِيرِ، فَكَذَلِكَ هُنَا يُخَيَّرُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَبَيْنَ التَّكْفِيرِ فَإِنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ كَانَ اخْتِيَارًا لِلتَّكْفِيرِ، كَمَا أَنَّهُ فِي الظِّهَارِ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ التَّكْفِيرِ وَبَيْنَ تَطْلِيقِهَا؛ فَإِنْ وَطِئَهَا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَلَكِنْ فِي الظِّهَارِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْوَطْءُ حَتَّى يُكَفِّرَ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ حَرَّمَهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا هُنَا فَقَوْلُهُ إنْ فَعَلْت فَهِيَ طَالِقٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَهَا أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأُطَلِّقَنَّهَا إنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا فَلَا شَيْءَ وَإِنْ طَلَّقَهَا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. يَبْقَى أَنْ يُقَالَ هَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْفَوْرِ إذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا حِينَئِذٍ كَمَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ

فصل موجب نذر اللجاج والغضب

لَأُطَلِّقُهَا السَّاعَةَ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا أَوْ لَا تَجِبُ إلَّا إذَا عَزَمَ عَلَى إمْسَاكِهَا. أَوْ لَا تَجِبُ حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَاءِ بِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. كَاَلَّذِي يُخَيَّرُ بَيْنَ فِرَاقِهَا وَإِمْسَاكِهَا وَنَحْوِهِ كَالْمُتْعَةِ تَجِبُ ابْتِدَاءً أَوْ لَا تَجِبُ بِحَالٍ حَتَّى يَفُوتَ الطَّلَاقُ، قِيلَ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ فَثُلُثُ مَالِي صَدَقَةٌ أَوْ هَدْيٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَإِلَّا قِيسَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَاءِ بِأَحَدِهِمَا كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْخِيَارِ. [فَصَلِّ مُوجِبُ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ] فَصْلٌ مُوجِبُ نَذَرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ عِنْدَنَا أَحَدُ شَيْئَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ، إمَّا التَّكْفِيرُ وَإِمَّا فِعْلُ الْمُعَلَّقِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مُوجِبَ اللَّفْظِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ صَدَقَةُ أَلْفٍ أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ صَوْمُ شَهْرٍ هُوَ الْوُجُوبُ عِنْدَ الْفِعْلِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذَا الْوُجُوبِ وَبَيْنَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا لَمْ يَلْتَزِمْ الْوُجُوبَ الْمُعَلَّقَ ثَبَتَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ، فَاللَّازِمُ لَهُ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَابِتٌ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الْآخَرِ، كَمَا فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ عِتْقُ هَذَا الْعَبْدِ أَوْ تَطْلِيقُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَوْ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ أَوْ أُهْدِيَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعَبْدِ لِلْإِعْتَاقِ وَالْمَالَ لِلتَّصَدُّقِ وَالْبَدَنَةَ لِلْهَدْيِ، وَلَوْ أَنَّهُ نَجَزَ ذَلِكَ فَقَالَ هَذَا الْمَالُ صَدَقَةٌ وَهَذِهِ الْبَدَنَةُ هَدْيٌ وَعَلَيَّ عِتْقُ هَذَا الْعَبْدِ، فَهَلْ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ بِذَلِكَ أَوْ يَسْتَحِقُّ الْإِخْرَاجَ، فِيهِ خِلَافٌ، وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَهُ هَذَا وَقْفٌ، فَأَمَّا إذَا قَالَ هَذَا الْعَبْدُ حُرٌّ وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ طَالِقٌ فَهُوَ إسْقَاطٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ ذِمَّةُ فُلَانٍ بَرِيئَةٌ مِنْ كَذَا أَوْ مِنْ دَمِ فُلَانٍ، أَوْ مِنْ قَذْفِي. فَإِنَّ إسْقَاطَ حَقِّ الدَّمِ وَالْمَالِ وَالْغَرَضِ مِنْ بَابِ إسْقَاطِ حَقِّ الْمِلْكِ بِمِلْكِ الْبُضْعِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ. فَإِنْ قَالَ إنْ فَعَلْت فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ أَوْ فَعَلَيَّ الْعِتْقُ أَوْ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ، وَقُلْنَا إنَّ مُوجِبَهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ وُقُوعِ ذَلِكَ وَبَيْنَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، كَمَا لَوْ قَالَ: فَهَذَا الْمَالُ صَدَقَةٌ أَوْ هَذِهِ الْبَدَنَةُ هَدْيٌ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا لَوْ قَالَ: إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ أَوْ نِسَائِي طَوَالِقُ، وَقُلْنَا التَّخْيِيرُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِيَارِهِ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْوُقُوعِ أَوْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ أَيْضًا إذَا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ أَوْ أُخْتَانِ فَاخْتَارَ إحْدَاهُمَا فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي تَكُونُ الْفُرْقَةُ أَحَدَ اللَّازِمَيْنِ، إمَّا فُرْقَةُ مُعَيَّنٍ أَوْ نَوْعُ الْفُرْقَةِ لَا يَحْتَاجُ إنْشَاءَ طَلَاقٍ لَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ الطَّلَاقُ إلَّا بِمَا يُوجِبُ تَعْيِينَهُ كَمَا فِي النَّظَائِرِ

الْمَذْكُورَةِ، ثُمَّ إذَا اخْتَارَ الطَّلَاقَ فَهَلْ يَقَعُ مِنْ حِينِ الِاخْتِيَارِ أَوْ مِنْ حِينِ الْحِنْثِ يَخْرُجُ عَلَى نَظِيرِ ذَلِكَ؟ فَلَوْ قَالَ فِي جِنْسِ مَسَائِلِ نَذَرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ اخْتَرْت التَّكْفِيرَ، أَوْ اخْتَرْت فِعْلَ الْمَنْذُورِ، هَلْ يُعَيَّنُ بِالْقَوْلِ أَوْ لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالْفِعْلِ؟ إنْ كَانَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْوُجُوبَيْنِ تَعَيَّنَ بِالْقَوْلِ كَمَا فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْإِنْشَاءِ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ لَمْ يَتَعَيَّنْ إلَّا بِالْفِعْلِ، كَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْحُكْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ، أَوْ امْرَأَتِي طَالِقٌ، أَوْ دَمِي هَدَرٌ، أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ، أَوْ بَدَنَتِي هَدْيٌ، تَعَيَّنَ الْحُكْمُ بِالْقَوْلِ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ الْفِعْلُ إلَّا بِالْفِعْلِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْجَمْعِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا لَا تُنْكَحُ الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى وَلَا الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ نَهَى عَنْ ذَلِكَ. فَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ بَيْنَ أَرْحَامِكُمْ» ، وَلَوْ رَضِيَتْ إحْدَاهُمَا بِنِكَاحِ الْأُخْرَى عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ فَإِنَّ الطَّبْعَ يَتَغَيَّرُ. وَلِهَذَا لَمَّا عَرَضَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ عَلَى النَّبِيِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ: «أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ لَسْت لَك بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَقُّ مَنْ شَرَكَنِي فِي الْخَيْرِ أُخْتِي فَقَالَ: إنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي فَقِيلَ لَهُ: إنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّك نَاكِحٌ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي لَمَا حَلَّتْ لِي فَإِنَّهَا بِنْتُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعِ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا أَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ أَمَةُ أَبِي لَهَبٍ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ» . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالضَّابِطُ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ مُحَرَّمٌ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِحَيْثُ لَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا ذَكَرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّزَوُّجُ بِالْأُخْرَى لِأَجْلِ النَّسَبِ فَإِنَّ الرَّحِمَ الْمُحَرَّمَ لَهَا أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ حُكْمَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا وَحُكْمَانِ مُتَنَازَعٌ فِيهِمَا فَلَا يَجُوزُ مِلْكُهُمَا بِالنِّكَاحِ وَلَا وَطْؤُهُمَا فَلَا يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ ذَاتَ رَحِمِهِ الْمُحَرَّمِ وَلَا يَتَسَرَّى بِهَا وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَلْ وَهُنَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ فَلَا تَحِلُّ لَهُ بِنِكَاحٍ وَلَا مِلْكِ يَمِينٍ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي مِلْكِ النِّكَاحِ فَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا، وَهَذَا أَيْضًا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْلِكَهُمَا لَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّاهُمَا فَمَنْ حَرَّمَ جَمْعَهُمَا فِي النِّكَاحِ حَرَّمَ جَمْعَهُمَا فِي التَّسَرِّي، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّى الْأُخْتَيْنِ وَلَا الْأَمَةَ وَعَمَّتَهَا وَالْأَمَةَ وَخَالَتَهَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَكْثَرِ

الصَّحَابَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَسَرَّى مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْجَمْعِ، فَتَوَقَّفَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فِيهَا، وَقَالَ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ. وَظَنَّ أَنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ قَدْ يَكُونُ كَتَحْرِيمِ الْعَدَدِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّى مَا شَاءَ مِنْ الْعَدَدِ، وَلَا يَتَزَوَّجُ إلَّا بِأَرْبَعٍ. فَهَذَا تَحْرِيمٌ عَارِضٌ وَهَذَا عَارِضٌ بِخِلَافِ تَحْرِيمِ النَّسَبِ وَالظَّهْرِ فَإِنَّهُ لَازِمٌ، وَلِهَذَا تَصِيرُ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِهَذَا، وَلَا تَصِيرُ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِذَلِكَ، بَلْ أُخْتُ امْرَأَتِهِ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ لَا يَخْلُو بِهَا وَلَا يُسَافِرُ بِهَا كَمَا لَا يَخْلُو بِمَا زَادَ عَلَى أَرْبَعٍ مِنْ النِّسَاءِ لِتَحْرِيمِ مَا زَادَ عَلَى الْعَدَدِ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَطَعُوا بِالتَّحْرِيمِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، قَالُوا؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْآيَةِ بِمِلْكِ النِّكَاحِ حُرِّمَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَآيَةِ التَّحْلِيلِ وَهِيَ قَوْلُهُ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] إنَّمَا أُبِيحَ فِيهَا جِنْسُ الْمَمْلُوكَاتِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهَا مَا يُبَاحُ وَيَحْرُمُ مِنْ التَّسَرِّي، كَمَا لَمْ يُذْكَرْ مَا يُبَاحُ وَيَحْرُمُ مِنْ الْمَمْهُورَاتِ، وَالْمَرْأَةُ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً وَمُحْرِمَةً وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً أَوْ سُرِّيَّةً، وَتَحْرِيمُ الْعَدَدِ كَانَ لِأَجْلِ وُجُوبِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: 3] . أَيْ: لَا تَجُورُوا فِي الْقَسْمِ. هَكَذَا قَالَ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ لَا تَكْثُرَ عِيَالُكُمْ؛ وَقَالُوا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ؛ وَغَلِطَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ لَفْظًا وَمَعْنًى؛ أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّهُ يُقَالُ عَالَ يَعُولُ إذَا جَارَ؛ وَعَالَ يُعِيلُ إذَا افْتَقَرَ وَأَعَالَ، يُعِيلُ إذَا كَثُرَ عِيَالُهُ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَالَ تَعُولُوا لَمْ يَقُلْ تُعِيلُوا؛ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّ كَثْرَةَ النَّفَقَةِ وَالْعِيَالِ يَحْصُلُ بِالتَّسَرِّي، كَمَا يَحْصُلُ بِالزَّوْجَاتِ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ أَبَاحَ مِمَّا مَلَكَتْ الْيَمِينُ مَا شَاءَ الْإِنْسَانُ بِغَيْرِ عَدَدٍ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَاتِ لَا يَجِبُ لَهُنَّ قَسْمٌ، وَلَا يَسْتَحْقِقْنَ عَلَى الرَّجُلِ وَطْئًا، وَلِهَذَا يَمْلِكُ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا كَأُمِّ امْرَأَتِهِ وَبِنْتِهَا وَأُخْتِهِ

وَابْنَتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ، وَلَوْ كَانَ عِنِّينًا أَوْ مُوَالِيًا لَمْ يَجِبْ أَنْ يُزَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا، وَالزَّوْجَاتُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ، وَخَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ. فَالْعَوْلُ الَّذِي يُطِيقُهُ عَامَّةُ النَّاسِ يَنْتَهِي إلَى الْأَرْبَعَةِ، وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ قَوَّاهُ عَلَى الْعَدْلِ فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ نُضُوبُ الْقَسْمِ عَلَيْهِ، وَسُقُوطُ الْقَسْمِ عَنْهُ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَحَقَّ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَحَلَّ لَهُ التَّزَوُّجَ بِلَا مَهْرٍ، قَالُوا وَإِذَا كَانَ تَحْرِيمُ جَمْعِ الْعَدَدِ إنَّمَا حُرِّمَ لِوُجُوبِ الْعَدْلِ فِي الْقَسْمِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي الْمَمْلُوكَةِ، فَلِهَذَا لَمْ يَحْرُمْ أَنْ يَتَسَرَّى بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، بِخِلَافِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَإِنَّهُ إنَّمَا كَانَ دَفْعًا لِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ بَيْنَ الْمَمْلُوكَتَيْنِ كَمَا يُوجَدُ فِي الزَّوْجَتَيْنِ، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِالتَّسَرِّي حَصَلَ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّغَايُرِ مَا يَحْصُلُ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ فَيُفْضِي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُؤْثَرُ فِي الشَّرْعِ جَازَ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا حُرْمَةٌ بِلَا نَسَبٍ أَوْ نَسَبٌ بِلَا حُرْمَةٍ فَالْأَوَّلُ مِثْلُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَابْنَةِ زَوْجِهَا كَمَا جَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، لَمَّا مَاتَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَ امْرَأَةِ عَلِيٍّ وَابْنَتِهِ، وَهَذَا يُبَاحُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا تَحْرُمُ عَلَى الْأُخْرَى فَذَاكَ تَحْرِيمٌ بِالْمُصَاهَرَةِ لَا بِالرَّحِمِ، وَالْمَعْنَى إنَّمَا كَانَ بِتَحْرِيمِ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى. وَأَمَّا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ مِثْلُ بِنْتِ الْعَمِّ وَالْخَالِ فَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، لَكِنْ هَلْ يُكْرَهُ، فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا رَحِمًا غَيْرَ مُحَرَّمٍ. وَأَمَّا الْحُكْمَانِ الْمُتَنَازَعُ فِيهِمَا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَمْلِكَ ذَا الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي مِلْكٍ فَيَبِيعَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، هَاتَانِ فِيهِمَا نِزَاعٌ وَأَقْوَالٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهَا. وَتَحْرِيمُ الْجَمْعِ يَزُولُ بِزَوَالِ النِّكَاحِ، فَإِذَا مَاتَتْ إحْدَى الْأَرْبَعِ أَوْ الْأُخْتَيْنِ أَوْ طَلَّقَهَا أَوْ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ رَابِعَةً وَيَتَزَوَّجَ الْأُخْتَ الْأُخْرَى بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَزَوُّجُ الْأُخْرَى عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ رَوَى عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ: قَالَ لَمْ يَتَّفِقْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ عَلَى شَيْءٍ كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْخَامِسَةَ لَا تُنْكَحُ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ، وَلَا تُنْكَحُ الْأُخْتُ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ بِمَنْزِلَةِ الزَّوْجَةِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرِثُ الْآخَرَ، لَكِنَّهَا صَابِرَةٌ إلَى الْبَيْنُونَةِ، وَذَلِكَ

لَا يَمْنَعُ كَوْنَهَا زَوْجَتَهُ كَمَا لَوْ حَالَهَا إلَى أَجَلٍ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إنْ أَعْطَيْتنِي أَلْفًا فِي رَأْسِ الْحَوْلِ فَأَنْتَ طَالِقٌ، فَإِنَّ هَذِهِ صَائِرَةٌ إلَى بَيْنُونَةٍ صُغْرَى، مَعَ هَذَا فَهِيَ زَوْجَةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَإِذَا قِيلَ: هَذِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُعْطِيَهُ الْعِوَضَ الْمُعَلَّقَ بِهِ فَيَدُومَ النِّكَاحُ. قِيلَ: وَالرَّجْعِيَّةُ يُمْكِنُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَيَدُومَ النِّكَاحُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ لَمْ تَلِدِي فِي هَذَا الشَّهْرِ فَأَنْتَ طَالِقٌ وَكَانَتْ قَدْ بَقِيَتْ عَلَى وَاحِدَةٍ فَهَا هُنَا هِيَ زَوْجَةٌ لَا يَزُولُ نِكَاحُهَا إلَّا إذَا انْقَضَى الشَّهْرُ وَلَمْ تَلِدْ، وَإِنْ كَانَتْ صَائِرَةً إلَى بَيْنُونَةٍ، وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا كَمَا تَنَازَعُوا فِي وَطْءِ الرَّجْعِيَّةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْخَامِسَةَ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ وَالْأُخْتُ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا، هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَالْجَوَازُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالتَّحْرِيمُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قاعدة في الوقف الذي يشترى بعوضه ما يقوم مقامه

[قَاعِدَةٌ فِي الْوَقْفِ الَّذِي يُشْتَرَى بِعِوَضِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ] وَذَلِكَ مِثْلُ الْوَقْفِ الَّذِي أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ عِوَضُهُ يُشْتَرَى بِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، فَإِنَّ الْوَقْفَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَمَضْمُونٌ بِالْيَدِ، فَلَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ تَلِفَ تَحْتَ يَدِهِ الْعَادِيَةِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، لَكِنْ قَدْ تَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ هَلْ تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ كَالْعَقَارِ، وَفِي بَعْضِهَا هَلْ يَصِحُّ وَقْفُهُ كَالْمَنْقُولِ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَنَازَعُوا أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ بِالْيَدِ كَالْأَمْوَالِ بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْإِتْلَافِ. فَقَدْ تَنَازَعُوا هَلْ تُضْمَنُ بِالْيَدِ أَوْ لَا، فَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ هِيَ مَضْمُونَةٌ بِالْيَدِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَقُولُ لَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ، وَضَمَانُ الْيَدِ هُوَ ضَمَانُ الْعَقْدِ لِضَمَانِ الْبَائِعِ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ وَسَلَامَتَهُ مِنْ الْعَيْبِ، وَأَنَّهُ بَيْعٌ بِحَقٍّ وَضَمَانُ دَرْكِهِ عَلَيْهِ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ بِلَفْظِهِ. مِنْ أُصُولِ الِاشْتِرَاءِ بِبَدَلِ الْوَقْفِ إذَا تَعَطَّلَ نَفْعُ الْوَقْفِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَهَلْ يَجُوزُ مَعَ كَوْنِهِ فِعْلًا أَنْ يُبَدَّلَ بِخَيْرٍ مِنْهُ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِهِ، وَالْجَوَازُ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ حَيْثُ جَازَ الْبَدَلُ هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّرْبِ أَوْ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْوَقْفُ الْأَوَّلُ أَمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَصْلَحَ لِأَهْلِ الْوَقْفِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونُوا مُقِيمِينَ بِبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِ الْوَقْفِ وَإِذَا اشْتَرَى فِيهِ الْبَدَلَ كَانَ أَنْفَعَ لَهُمْ لِكَثْرَةِ الرُّبُعِ وَيُسْرِ التَّنَاوُلِ، فَيَقُولُ: مَا عَلِمْت أَحَدًا اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ فِي بَلَدِ الْوَقْفِ الْأَوَّلِ، بَلْ النُّصُوصُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأُصُولِهِ وَعُمُومُ كَلَامِهِ وَكَلَامِ أَصْحَابِهِ وَإِطْلَاقُهُ يَقْتَضِي أَنْ يُفْعَلَ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ مَصْلَحَةُ أَهْلِ الْوَقْفِ.

فَإِنَّ أَصْلَهُ فِي هَذَا الْبَابِ مُرَاعَاةُ مَصْلَحَةِ الْوَقْفِ ، بَلْ أَصْلُهُ فِي عَامَّةِ الْعُقُودِ اعْتِبَارُ مَصْلَحَةِ النَّاسِ ، فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالصَّلَاحِ وَنَهَى عَنْ الْفَسَادِ وَبَعَثَ رُسُلَهُ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا. وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142] . وَقَالَ شُعَيْبٌ: {إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ - أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 11 - 12] . وَقَدْ جَوَّزَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إبْدَالَ مَسْجِدٍ بِمَسْجِدٍ آخَرَ لِلْمَصْلَحَةِ، كَمَا جَوَّزَ تَغْيِيرَهُ لِلْمَصْلَحَةِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَبْدَلَ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ الْقَدِيمَ بِمَسْجِدٍ آخَرَ، وَصَارَ الْمَسْجِدُ الْأَوَّلُ سُوقًا لِلْمَارِّينَ، وَجَوَّزَ أَحْمَدُ إذَا خَرِبَ الْمَكَانُ أَنْ يُنْقَلَ الْمَسْجِدُ إلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى، بَلْ وَيَجُوزُ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنْ يُبَاعَ ذَلِكَ الْمَسْجِدُ وَيُعَمَّرَ بِثَمَنِهِ مَسْجِدٌ آخَرُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى إذَا لَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ فِي الْقَرْيَةِ الْأُولَى، فَاعْتَبَرَ الْمَصْلَحَةَ بِجِنْسِ الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ غَيْرِ الْقَرْيَةِ الْأُولَى إذَا كَانَ جِنْسُ الْمَسَاجِدِ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْمٍ بِعَيْنِهِمْ أَحَقُّ بِجَوَازِ نَقْلِهِ إلَى مَدِينَتِهِمْ مِنْ الْمَسْجِدِ. فَإِنَّ الْوَقْفَ عَلَى مُعَيَّنِينَ حَقٌّ لَهُمْ لَا يَشْرُكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ انْقِضَائِهِمْ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَيَكُونُ كَالْمَسْجِدِ، فَإِذَا كَانَ الْوَقْفُ بِبَلَدِهِمْ أَصْلَحَ لَهُمْ كَانَ اشْتِرَاءُ الْبَدَلِ بِبَلَدِهِمْ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي فِعْلُهُ لِمُتَوَلِّي ذَلِكَ وَصَارَ هَذَا كَالْفَرَسِ الْحَبِيسِ الَّذِي يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِقِيمَتِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ إذَا كَانَ مَحْبُوسًا عَلَى نَاسٍ بِبَعْضِ الثُّغُورِ ثُمَّ انْتَقَلُوا إلَى ثَغْرٍ آخَرَ، فَشِرَاءُ الْبَدَلِ بِالثَّغْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مَضْمُونٌ أَوْلَى مِنْ شِرَائِهِ بِثَغْرٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ الْفَرَسُ حَبِيسًا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْمَسَاجِدِ، وَالْوَقْفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الْوَقْفَ

لَوْ كَانَ مَنْقُولًا كَالنُّورِ وَالسِّلَاحِ وَكُتُبِ الْعِلْمِ، وَهُوَ وَقْفٌ عَلَى ذُرِّيَّةِ رَجُلٍ يُعَيِّنُهُمْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَقَرُّ الْوَقْفِ حَيْثُ كَانُوا، بَلْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُتَعَيَّنُ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْقَفَ عَلَى أَهْلِ بَلَدٍ بِعَيْنِهِ، لَكِنْ إذَا صَارَ لَهُ عِوَضٌ هَلْ يُشْتَرَى بِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ كَانَ الْعِوَضُ مَنْقُولًا، وَكَانَ أَنْ يُشْتَرَى بِهَذَا الْعِوَضِ فِي بَلَدِ مَقَامِهِمْ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُشْتَرَى بِهِ فِي مَكَانِ الْعَقَارِ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَصْلَحَ لَهُمْ، إذْ لَيْسَ فِي تَخْصِيصِ مَكَانِ الْعَقَارِ الْأَوَّلِ مَقْصُودٌ شَرْعِيٌّ وَلَا مَصْلَحَةٌ لِأَهْلِ الْوَقْفِ وَمَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّارِعُ، وَلَا مَصْلَحَةٌ فِيهِ لِلْإِنْسَانِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ، فَعُلِمَ أَنَّ تَعْيِينَ الْمَكَانِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ لِمَنْ يَشْتَرِي بِالْعِوَضِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، بَلْ الْعُدُولُ عَنْ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إذَا تَعَيَّنَتْ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قاعدة فيما يشترط الناس في الوقف

[قَاعِدَةٌ فِيمَا يَشْتَرِطُ النَّاسُ فِي الْوَقْفِ] فَإِنَّ فِيهَا مَا فِيهِ عِوَضٌ دُنْيَوِيٌّ وَأُخْرَوِيٌّ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَفِي بَعْضِهَا تَشْدِيدٌ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَنَقُولُ الْأَعْمَالُ الْمَشْرُوطَةُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ مِثْلُ الْوَقْفِ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ بِالْعِبَادَاتِ أَوْ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: عَمَلٌ يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْوَاجِبَاتُ الْمُسْتَحَبَّاتُ الَّتِي رَغَّبَ رَسُولُ اللَّهِ فِيهَا، وَحَضَّ عَلَى تَحْصِيلِهَا فَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَيَقِفُ اسْتِحْقَاقُ الْوَقْفِ عَلَى جِهَةِ حُصُولِهِ فِي الْجُمْلَةِ. وَالثَّانِي: عَمَلٌ نَهَى النَّبِيُّ عَنْهُ، نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ نَهْيَ تَنْزِيهٍ، فَاشْتِرَاطُ مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لِمَا قَدْ اسْتَفَاضَ، عَنْ النَّبِيِّ. أَنَّهُ خَطَبَ عَلَى مِنْبَرِهِ، فَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ خَرَجَ بِسَبَبِ شَرْطِ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَذَا مَا كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ مُسْتَلْزِمًا وُجُودَ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّارِعُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَمَا عُلِمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ بِبَعْضِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا عُلِمَ أَنَّهُ صَرَّحَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، لَكِنْ قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَيَخْتَلِفُ اجْتِهَادُهُمْ فِي ذَلِكَ الشَّرْطِ بِنَاءً عَلَى هَذَا، وَهَذَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْأُمَّةِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ الْمُشْتَرَطُ لَيْسَ مُحَرَّمًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ مُنَافٍ

لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَمِثَالُ هَذِهِ الشُّرُوطِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى أَهْلِ الرِّبَاطِ مُلَازَمَتَهُ، وَهَذَا مَكْرُوهٌ فِي الشَّرِيعَةِ مِمَّا أَحْدَثَهُ النَّاسُ، أَوْ يَشْتَرِطُ عَلَى الْفُقَهَاءِ اعْتِقَادَ بَعْضِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ بَعْضِ الْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ، أَوْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ الْمُؤَذِّنِ تَرْكَ بَعْضِ سُنَنِ الصَّلَاةِ أَوْ الْأَذَانِ، أَوْ فِعْلُ بَعْضِ بِدَعِهِمَا مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْفَجْرِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ، أَوْ أَنْ يَصِلَ الْأَذَانَ بِذِكْرٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، أَوْ أَنْ يُقِيمَ صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْمَدْرَسَةِ أَوْ الْمَسْجِدِ مَعَ إقَامَةِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَلُّوا وُحْدَانًا، وَمِمَّا يَلْحَقُ بِهَذَا الْقِسْمِ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مُسْتَلْزِمًا تَرْكَ مَا نَدَبَ إلَيْهِ الشَّارِعُ، مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى أَهْلِ رِبَاطٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ إلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ أَنْ يُصَلُّوا فِيهَا فَرْضَهُمْ، فَإِنَّ هَذَا دُعَاءٌ إلَى تَرْكِ الْفَرْضِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا يَلْتَفِتُ إلَى مِثْلِ هَذَا. بَلْ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ هُوَ الْأَفْضَلُ، بَلْ الْوَاجِبُ هَدْمُ مَسَاجِدِ الضَّرَائِرِ، مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِهِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اشْتِرَاطُ الْإِيقَادِ عَلَى الْقُبُورِ، إيقَادُ الشَّمْعِ أَوْ الدُّهْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ «النَّبِيَّ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» . وَبِنَاءُ الْمَسْجِدِ أَوْ إسْرَاجُ الْمَصَابِيحِ عَلَى الْقُبُورِ مِمَّا لَمْ أَعْلَمْ فِيهِ خِلَافًا أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَفَاصِيلُ هَذِهِ الشُّرُوطِ يَطُولُ جِدًّا وَإِنَّمَا نَذْكُرُ هَاهُنَا جِمَاعَ الشُّرُوطِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: عَمَلٌ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ فِي الشَّرْعِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ. بَلْ هُوَ مُبَاحٌ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ. فَهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ، وَالْجُمْهُورُ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّ شَرْطَهُ بَاطِلٌ، فَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ أَنْ يَشْرِطَ إلَّا مَا كَانَ قُرْبَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْذُلَ مَالَهُ إلَّا لِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ فِي الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا، فَمَا دَامَ الْإِنْسَانُ حَيًّا فَلَهُ أَنْ يَبْذُلَ مَالَهُ فِي تَحْصِيلِ الْأَغْرَاضِ الْمُبَاحَةِ، لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ، فَأَمَّا الْمَيِّتُ فَمَا بَقِيَ بَعْدَ الْمَوْتِ يَنْتَفِعُ مِنْ أَعْمَالِ الْأَحْيَاءِ إلَّا بِعَمَلٍ صَالِحٍ قَدْ أَمَرَ بِهِ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ أَوْ أَهْدَى إلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَأَمَّا الْأَعْمَالُ الَّتِي لَيْسَتْ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمَيِّتُ بِحَالٍ، فَإِذَا اشْتَرَطَ الْمُوصِي أَوْ الْوَاقِفُ عَمَلًا أَوْ صِفَةً لَا ثَوَابَ فِيهَا كَانَ السَّعْيُ فِي تَحْصِيلِهَا سَعْيًا فِيمَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي دُنْيَاهُ وَلَا فِي آخِرَتِهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ، وَهَذَا إنَّمَا مَقْصِدُهُ بِالْوَقْفِ التَّقَرُّبُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

المسائل التي انفرد بها شيخ الإسلام ابن تيمية

[الْمَسَائِلُ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ] َ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ اتَّبَعَ فِيهَا بَعْضَ مَذَاهِبِهِمْ الْقَوْلُ بِقَصْرِ الصَّلَاةِ: تُقْصَرُ الصَّلَاةُ فِي كُلِّ مَا يُسَمَّى سَفَرًا طَوِيلًا كَانَ أَوْ قَصِيرًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الظَّاهِرِيَّةِ، وَقَوْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ. وَالْقَوْل بِأَنَّ الْبِكْرَ لَا تُسْتَبْرَأُ وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً، كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَاخْتَارَهُ الْبُخَارِيُّ صَاحِبُ الصَّحِيحِ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا وُضُوءٌ كَمَا يُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَاخْتَارَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ مَنْ أَكَلَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَيْلٌ فَبَانَ نَهَارًا لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ التَّابِعِينَ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَكْفِيهِ سَعْيٌ وَاحِدٌ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، كَمَا فِي حَقِّ الْقَارِنِ وَالْمُفْرِدِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَوَاهَا عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لَا يَعْرِفُونَهَا. وَالْقَوْلُ بِجَوَازِ الْمُسَابَقَةِ بِلَا مُحَلَّلٍ وَإِنْ أَخْرَجَ الْمُتَسَابِقَانِ. وَالْقَوْلُ بِاسْتِبْرَاءِ الْمُخْتَلِعَةِ بِحَيْضَةٍ. وَكَذَلِكَ الْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ. وَالْمُطَلَّقَةُ آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ. وَالْقَوْلُ بِإِبَاحَةِ وَطْءِ الْوَثَنِيَّاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَالْقَوْلُ بِجَوَازِ عَقْدِ الرِّدَاءِ فِي الْإِحْرَامِ. وَجَوَازُ طَوَافِ الْحَائِضِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا إذَا لَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تَطُوفَ طَاهِرًا.

وَالْقَوْلُ بِجَوَازِ بَيْعِ الْأَصْلِ بِالْعَصِيرِ كَالزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ. وَالسِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ. وَالْقَوْلُ بِجَوَازِ الْوُضُوءِ بِكُلِّ مَا يُسَمَّى مَاءً. مُطْلَقًا كَانَ أَوْ مُقَيَّدًا. وَالْقَوْلُ بِجَوَازِ بَيْعِ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْفِضَّةِ لِلتَّحَلِّي وَغَيْرِهِ كَالْخَاتَمِ وَنَحْوِهِ بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا وَجَعْلِ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ فِي مُقَابَلَةِ الصَّنْعَةِ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَائِعَ لَا يَنْجُسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ إلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا. وَالْقَوْلُ بِجَوَازِ التَّيَمُّمِ لِمَنْ خَافَ فَوَاتَ الْعِيدِ أَوْ الْجُمُعَةِ بِاسْتِعْمَالِهِ الْمَاءَ. وَالْقَوْلُ بِجَوَازِ التَّيَمُّمِ فِي مَوَاضِعَ مَعْرُوفَةٍ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي أَمَاكِنِ مَشْهُورَةٍ. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمَعْرُوفَةِ مِنْ أَقْوَالِهِ. وَكَانَ يَمِيلُ أَخِيرًا إلَى الْقَوْلِ بِتَوْرِيثِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ الذِّمِّيِّ. وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفٌ وَبَحْثٌ طَوِيلٌ. وَمِنْ أَقْوَالِهِ الْمَعْرُوفَةِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي جَرَى بِسَبَبِ الْإِفْتَاءِ بِهَا مِحَنٌ وَقَلَاقِلُ قَوْلُهُ: بِالتَّكْفِيرِ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، وَأَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً، وَأَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ لَا يَقَعُ وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٌ وَمُؤَلَّفَاتٌ. مِنْهَا قَاعِدَةٌ كَبِيرَةٌ سَمَّاهَا: " تَحْقِيقُ الْفُرْقَانِ بَيْنَ التَّطْلِيقِ وَالْأَيْمَانِ ". نَحْوَ أَرْبَعِينَ كُرَّاسَةً. وَقَاعِدَةٌ سَمَّاهَا: " الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْيَمِينِ ". بِقَدْرِ نِصْفِ ذَلِكَ. وَقَاعِدَةٌ فِي " أَنَّ جَمِيعَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ مُكَفَّرَةٌ ". مُجَلَّدٌ لَطِيفٌ. وَقَاعِدَةٌ فِي تَقْرِيرِ أَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ مِنْ الْأَيْمَانِ حَقِيقَةً. وَقَاعِدَةٌ سَمَّاهَا: " التَّفْصِيلُ بَيْنَ التَّكْفِيرِ وَالتَّحْلِيلِ ". وَقَاعِدَةٌ سَمَّاهَا: " اللُّمْعَةَ ". وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْقَوَاعِدِ وَالْأَجْوِبَةِ فِي ذَلِكَ لَا تَنْحَصِرُ وَلَا تَنْضَبِطُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

مسألة شراء الجفان لعصير الزيت أو للوقيد أو لهما

[مَسْأَلَةٌ شِرَاء الْجِفَان لِعَصِيرِ الزَّيْتِ أَوْ لِلْوَقِيدِ أَوْ لَهُمَا] مَسْأَلَةٌ: فِي شِرَاءِ الْجِفَانِ لِعَصِيرِ الزَّيْتِ أَوْ لِلْوَقِيدِ أَوْ لَهُمَا؟ الْجَوَابُ: بَيْعُ الزَّيْتِ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ زَيْتِهِ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ حَبِّ الْقُطْنِ، وَالزَّيْتُونِ، وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْمُنْعَصِرَاتِ وَالْمَبِيعَاتِ مُجَازَفَةً، وَسَوَاءٌ اشْتَرَاهُ لِلْعَصِيرِ أَوْ لِلْوَقِيدِ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ لِلْعَاصِرِ أَنْ يَغُشَّ صَاحِبَهُ، وَإِذَا كَانَ قَدْ اشْتَرَطَ أَنْ تَكُونَ الْجَفْنَةُ أُجْرَةً لِرَبِّ الْمَعْصَرَةِ، بِحَيْثُ قَدْ تَوَاطَأَ عَلَيْهِ الْعَاصِرُ، عَلَى أَنْ يُبْقِيَ فِيهَا زَيْتًا لَهُ، كَانَ هَذَا غِشًّا حَرَامًا، وَحَرُمَ شِرَاؤُهُ لِلزَّيْتِ. [مَسْأَلَةٌ مُسْلِمٌ مِنْ ذِمِّيٍّ عَقَارًا ثُمَّ رَمَى نَفْسَهُ عَلَيْهِ] 780 - 2 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ اشْتَرَى مُسْلِمٌ مِنْ ذِمِّيٍّ عَقَارًا، ثُمَّ رَمَى نَفْسَهُ عَلَيْهِ، وَاشْتَرَى مِنْهُ قِسْطَيْنِ، وَالْتَزَمَ يَمِينًا شَرْعِيَّةً الْوَفَاءَ إلَى شَهْرٍ، فَهَلْ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يُعْلِمَهُ حِيلَةً وَهُوَ قَادِرٌ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا كَانَ الْغَرِيمُ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْزِمَ رَبَّ الدَّيْنِ بِتَرْكِ مُطَالَبَتِهِ، وَلَا يَطْلُبُ مِنْهُ حِيلَةً لَا حَقِيقَةَ لَهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ، مِثْلَ أَنْ يَقْبِضَ مِنْهُ ثُمَّ يُعِيدَ إلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ - وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا وَجَبَ إنْظَارُهُ وَالْيَمِينُ الْمُطْلَقَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى حَالِ الْقُدْرَةِ لَا عَلَى حَالِ الْعَجْزِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مُقَرّ عَلَى وَظِيفَةٍ سَافَرَ وَاسْتَنَابَ شَخْصًا] 781 - 3 - مَسْأَلَةٌ: فِي مُقَرٍّ عَلَى وَظِيفَةٍ ثُمَّ أَنَّهُ سَافَرَ وَاسْتَنَابَ شَخْصًا، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا عَادَ قَبَضَ الْجَمِيعَ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَكَانِ، فَهَلْ يَسْتَحِقُّ النَّائِبُ الْمَشْرُوطَ كُلَّهُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. نَعَمْ النَّائِبُ يَسْتَحِقُّ الْمَشْرُوطَ كُلَّهُ، لَكِنْ إذَا عَادَ الْمُسْتَنِيبُ فَهُوَ أَحَقُّ بِمَكَانِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

باب اللقطة

[بَابُ اللُّقَطَةِ] [مَسْأَلَةٌ وَجَدَ لُقَطَةً وَعَرَّفَ بِهَا بَعْضَ النَّاسِ سِرًّا أَيَّامًا] ِ وَغَيْرِ ذَلِكَ 782 - 4 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ وَجَدَ لُقَطَةً وَعَرَّفَ بِهَا بَعْضَ النَّاسِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ سِرًّا أَيَّامًا وَلَهَا عِنْدَهُ مُدَّةُ سِنِينَ فَمَا الْحُكْمُ فِيهَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا يَحِلُّ لَهُ مِثْلُ هَذَا التَّعْرِيفِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفَهَا تَعْرِيفًا ظَاهِرًا، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ مُجْمَلٍ، بِأَنْ يَقُولَ: مَنْ ضَاعَ لَهُ نَفَقَةٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ حُجَّاج الْتَقَوْا مَعَ عَرَبٍ قَدْ قَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى النَّاسِ] 783 - 5 - مَسْأَلَةٌ: فِي حُجَّاجٍ الْتَقَوْا مَعَ عَرَبٍ قَدْ قَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى النَّاسِ، وَأَخَذُوا قُمَاشَهُمْ فَهَرَبُوا وَتَرَكُوا جِمَالَهُمْ وَالْقُمَاشَ، فَهَلْ يَحِلُّ أَخْذُ الْجِمَالِ الَّتِي لِلْحَرَامِيَّةِ، وَالْقُمَاشِ الَّذِي سَرَقُوهُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا أَخَذُوهُ مِنْ مَالِ الْحُجَّاجِ فَإِنَّهُ يَجِبُ رَدُّهُ إلَيْهِمْ إنْ أَمْكَنَ، فَإِنَّ هَذَا كَاللُّقَطَةِ، يُعَرَّفُ سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَذَاكَ إلَّا فَلِآخِذِهَا أَنْ يُنْفِقَهَا بِشَرْطِ ضَمَانِهَا، وَلَوْ أَيِسَ مِنْ وُجُودِ صَاحِبِهَا فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَالٍ لَا يُعْرَفُ مَالِكُهُ مِنْ الْمَغْصُوبِ، وَالْعَوَادِي، وَالْوَدَائِعِ، وَمَا أُخِذَ مِنْ الْحَرَامِيَّةِ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، أَوْ مَا هُوَ مَنْبُوذٌ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ. كَانَ هَذَا كُلُّهُ يُتَصَدَّقُ بِهِ، وَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. [مَسْأَلَةٌ سَفِينَة غَرِقَتْ فِي الْبَحْرِ] 784 - 6 - مَسْأَلَةٌ: فِي سَفِينَةٍ غَرِقَتْ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ إنَّهَا انْحَدَرَتْ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ إلَى بَعْضِ الْبِلَادِ، وَقَدْ كَانَ فِيهَا جَوَازُ زَيْتٍ حَارٍّ، ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ تَعَاوَنُوا عَلَى الْمَرْكَبِ حَتَّى أَخْرَجُوهَا إلَى الْبَرِّ وَقَلَبُوهَا فَطَفَى الزَّيْتُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَبَقِيَ رَائِحًا مَعَ الْمَاءِ،

ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ جَاءُوا إلَى الْبَحْرِ فَوَجَدُوا الزَّيْتَ عَلَى الْمَاءِ، فَجَمَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَالْمَرْكَبُ قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ، فَهَذَا الزَّيْتُ الْمَجْمُوعُ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ؟ وَمَرْكَبُ رُمَّانٍ غَرِقَتْ، وَجَمِيعُ مَا فِيهَا انْحَدَرَ فِي الْبَحْرِ، فَبَقِيَ كُلُّ أَحَدٍ يَجْمَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ صَاحِبٌ، فَهَلْ هُوَ مِمَّا لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهُ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ؟ الْجَوَابُ: الَّذِينَ جَمَعُوا الزَّيْتَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ قَدْ خَلَّصُوا مَالَ الْمَعْصُومِ مِنْ التَّلَفِ، وَلَهُمْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَالزَّيْتُ لِصَاحِبِهِ. وَأَمَّا كَوْنُ الزَّيْتِ لِصَاحِبِهِ فَلَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا إلَّا نِزَاعًا قَلِيلًا، فَإِنَّهُ يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ بِأَنَّهُ قَالَ: هُوَ لِمَنْ خَلَّصَهُ. وَأَمَّا وُجُوبُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ لِمَنْ خَلَّصَهُ، فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَصَحُّهُمَا: وُجُوبُ الْأُجْرَةِ، وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمُخَلِّصَ مُتَبَرِّعٌ وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ يَقُولُونَ: إنْ خَلَّصُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَأَجْرُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ خَلَصُوهُ لِأَجْلِ الْعِوَضِ فَلَهُمْ الْعِوَضُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يُفْعَلْ لَأَفْضَى إلَى هَلَاكِ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُخَلِّصُوهَا مِنْ الْمَهَالِكِ إذَا عَرَفُوا أَنَّهُمْ لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ. وَالصَّحَابَةُ قَدْ قَالُوا فِيمَنْ اشْتَرَى أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكُفَّارِ: أَنَّهُ يَأْخُذُهُ مِمَّنْ اشْتَرَاهُ بِالثَّمَنِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَّصَهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْمَالَ كَانَ مُسْتَهْلَكًا، لَوْلَا أَخْذُ هَذَا، وَتَخْلِيصُهُ عَمَلٌ مُبَاحٌ لَيْسَ هُوَ عَاصِيًا فِيهِ، فَيَكُونُ الْمَالُ إذَا حَصَلَ بِعَمَلِ هَذَا، وَالْأَصْلُ لِهَذَا فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، لَكِنْ لَا تَجِبُ الشَّرِكَةُ عَلَى الْبَيْنِ، فَيَجِبُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ، فَإِنْ عَادَةَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ مَنْ يُخَلِّصُ لَهُمْ هَذَا بِالْأُجْرَةِ، وَالْإِجَارَةِ تَثْبُتُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، كَمَنْ دَخَلَ إلَى حَمَّامٍ، أَوْ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بِغَيْرِ مُشَارَطَةٍ، وَكَمَنْ دَفَعَ طَعَامًا إلَى طَبَّاخٍ وَغَسَّالٍ بِغَيْرِ مُشَارَطَةٍ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ حَيَوَانًا فَخَلَّصَهُ مِنْ مَهْلَكَةٍ، مَلَكَهُ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَهُ حُرْمَةٌ فِي نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْمَتَاعِ، فَإِنَّ حُرْمَتَهُ لِحُرْمَةِ صَاحِبِهِ، فَهُنَاكَ تَخْلِيصُهُ لَحِقَ الْحَيَوَانَ وَهُوَ بِالْمَهْلَكَةِ قَدْ يَيْأَسُ صَاحِبُهُ، بِخِلَافِ الْمَتَاعِ فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَقُولُ لِلْمُخَلِّصِ كَانَ يَجُوزُ لَك مِنْ حِينِ أَنْ أَدَعَهُ، أَوْ الْحَقُّ فِيهِ لِي، فَإِذَا لَمْ تُعْطِنِي حَقِّي لَمْ آذَنْ لَك فِي تَخْلِيصِهِ

مسألة حكم من وجد لقطة

وَأَمَّا الرُّمَّانُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ صَاحِبُهُ فَهُوَ كَاللُّقَطَةِ، وَاللُّقَطَةُ إنْ رُجِيَ وُجُودُ صَاحِبِهَا عُرِّفَتْ حَوْلًا وَإِنْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ وُجُودَ صَاحِبِهِ، فَفِي تَعْرِيفِهِ قَوْلَانِ، لَكِنْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ: لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا الرُّمَّانَ، أَوْ يَبِيعُوهُ وَيَحْفَظُوا ثَمَنَهُ ثُمَّ يُعَرِّفُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ حُكْم مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً] 785 - 7 - مَسْأَلَةٌ: فِي حُكْمِ مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً. الْجَوَابُ: يُعَرِّفُ سَنَةً قَرِيبًا مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي وَجَدَهَا فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَاحِبَهَا بَعْدَ سَنَةٍ، فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا، وَلَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا. [مَسْأَلَةٌ لَقِيَ لَقِيَّةً فِي وَسَطِ فَلَاةٍ] 786 - 8 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَقِيَ لَقِيَّةً فِي وَسَطِ فَلَاةٍ، وَقَدْ أَنْشَدَ عَلَيْهَا إلَى حَيْثُ دَخَلَ إلَى بَلَدِهِ، فَهَلْ هِيَ حَلَالٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: يُعَرِّفُهَا سَنَةً قَرِيبًا مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي وَجَدَهَا فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَعْدَ سَنَةٍ صَاحِبَهَا فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا، وَلَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 787 - 9 - مَسْأَلَةٌ: جَاءَ التَّتَارُ وَجَفَلَ النَّاسُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَخَلَّفُوا دَوَابَّ وَإِنَاء مِنْ النُّحَاسِ وَغَيْرِهِ، وَضَمَّهُ مُسْلِمٌ، وَطَالَتْ مُدَّتُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ صَاحِبٌ وَلَا مُنْشِدٌ، وَهُوَ يَسْتَعْمِلُ الدَّوَابَّ وَالْمَتَاعَ فَمَا يَصْنَعُ؟ الْجَوَابُ: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة وجد طفلا ومعه شيء من المال

[مَسْأَلَةٌ وَجَدَ طِفْلًا وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ] 788 - 10 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ وَجَدَ طِفْلًا وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ، ثُمَّ رَبَّاهُ حَتَّى بَلَغَ مِنْ الْعُمْرِ شَهْرَيْنِ، فَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ لِتُرْضِعَهُ امْرَأَتُهُ لِلَّهِ، فَلَمَّا كَبِرَ الطِّفْلُ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ ابْنُهَا، وَأَنَّهَا رَبَّتْهُ فِي حِضْنِ أَبِيهِ، فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهَا؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُعْطِيَ الرَّجُلَ الثَّانِيَ مَا أَنْفَقَهُ عَلَيْهِ، وَيَلْزَمُ الرَّجُلَ الْأَوَّلَ مَا وُجِدَ مَعَ ابْنِهِ؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَ الطِّفْلُ مَجْهُولَ النَّسَبِ، وَادَّعَتْ أَنَّهُ ابْنُهَا قُبِلَ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ، وَيَصْرِفُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي وُجِدَ مَعَهُ فِي نَفَقَتِهِ مُدَّةَ مَقَامِهِ عِنْدَ الْمُلْتَقِطِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ وَجَدَ فَرَسًا لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ] 789 - 11 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ وَجَدَ فَرَسًا لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَعَ أُنَاسٍ مِنْ الْعَرَبِ، فَأَخَذَ الْفَرَسَ مِنْهُمْ، ثُمَّ إنَّ الْفَرَسَ مَرِضَ بِحَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَشْيِ، فَهَلْ لِلْآخِذِ بَيْعُ الْفَرَسِ لِصَاحِبِهَا أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَعَمْ يَجُوزُ بَلْ يَجِبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَبِيعَهُ الَّذِي اسْتَنْقَذَهُ لِصَاحِبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَكَّلَهُ فِي الْبَيْعِ، وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَنَظَائِرِهَا، وَيَحْفَظُ الثَّمَنَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْعَطَايَا وَالْهَدَايَا] [مَسْأَلَةٌ أَقْطَعَ فَدَّانَ طِينٍ وَتَرَكَهُ بِدِيوَانِ الْأَحْبَاسِ] بَابُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْعَطَايَا وَالْهَدَايَا وَغَيْرِهِ 790 - 12 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أَقْطَعَ فَدَّانَ طِينٍ، وَتَرَكَهُ بِدِيوَانِ الْأَحْبَاسِ، فَزَرَعَهُ ثُمَّ. مَاتَ الْجُنْدِيُّ، فَتَرَكَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَمُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَأَخَذَ تَوْقِيعَ السُّلْطَانِ الْمُطْلَقَ لَهُ بِأَنْ يَجْرِيَ عَلَى عَادَتِهِ، فَمَنَعَهُ وَقَدْ زَرَعَهُ، فَهَلْ لَهُ أُجْرَةُ الْأَرْضِ أَمْ الزَّرْعِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا كَانَ الْمُقْطِعُ أَعْطَاهُ إيَّاهُ مِنْ إقْطَاعِهِ، وَخَرَجَ مِنْ دِيوَانِ الْإِقْطَاعِ إلَى دِيوَانِ الْأَحْبَاسِ الَّذِي لَا يَقْطَعُ، وَأَمْضَى ذَلِكَ فَلَيْسَ لِلْمُقْطِعِ الثَّانِي انْتِزَاعُهُ.

مسألة في الرجل يهب الرجل

وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُقْطِعُ الْأَوَّلُ تَبَرَّعَ لَهُ بِهِ مِنْ إقْطَاعِهِ، وَلِلْمُقْطِعِ الثَّانِي أَنْ يَتَبَرَّعَ وَأَنْ لَا يَتَبَرَّعَ، فَالْأَمْرُ مَوْكُولٌ لِلثَّانِي، وَالزَّرْعُ لِمَنْ زَرَعَهُ، وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مِنْ حِينِ أَقْطَعَ إلَى حِينِ كَمَالِ الِانْتِفَاعِ. وَأَمَّا قَبْلَ إقْطَاعِهِ فَالْمَنْفَعَةُ كَانَتْ لِلْأَوَّلِ الْمُتَبَرِّعِ لَا لِلثَّانِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي الرَّجُلِ يَهَبُ الرَّجُلَ] 791 - 13 - مَسْأَلَةٌ: فِي الرَّجُلِ يَهَبُ الرَّجُلَ شَيْئًا إمَّا ابْتِدَاءً أَوْ يَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ ثُمَّ يَحْصُلُ بَيْنَهُمَا شَنَآنٌ فَيَرْجِعُ فِي هِبَتِهِ، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ، وَإِذَا أَنْكَرَ الْهِبَةَ وَحَلَفَ الْمَوْهُوبُ إلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْوَاهِبُ فِي ذِمَّتِهِ شَيْئًا هَلْ يَحْنَثُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ غَيْرَ الْوَالِدِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْهِبَةُ عَلَى جِهَةِ الْمُعَاوَضَةِ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا، فَإِذَا كَانَتْ لِأَجْلِ عِوَضٍ وَلَمْ يَحْصُلْ، فَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِيهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَتْ زَوْجَتُهُ وَخَلَّفَتْ أَوْلَادًا لَهُمْ مَوْجُودَاتٌ تَحْتَ يَدِهِ] 792 - 14 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تُوُفِّيَتْ زَوْجَتُهُ وَخَلَّفَتْ أَوْلَادًا لَهُمْ مَوْجُودَاتٌ تَحْتَ يَدِهِ. وَلَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ أَنْ يَتَزَوَّجَ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَوْجُودِ الْأَوْلَادِ جَارِيَةً تَخْدُمُهُمْ وَيَطَأَهَا، أَوْ يَتَزَوَّجُ مِنْ مَالِهِمْ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُضِرًّا بِأَوْلَادِهِ فَلَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ مِنْ مَالِهِمْ مَا يَشْتَرِي بِهِ أَمَةً يَطَأهَا وَتَخْدُمُهُمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ وَهَبَتْ لِزَوْجِهَا كِتَابَهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَبٌ سِوَى إخْوَةٍ] 793 - 15 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ وَهَبَتْ لِزَوْجِهَا كِتَابَهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَبٌ سِوَى إخْوَةٍ. فَهَلْ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهَا ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَيْسَ لِإِخْوَتِهَا عَلَيْهَا وِلَايَةٌ وَلَا حَجْرٌ، فَإِنْ

مسألة أعطى أولاده الكبار شيئا

كَانَتْ مِمَّنْ يَجُوزُ تَبَرُّعُهَا فِي مَالِهَا صَحَّتْ هِبَتُهَا سَوَاءٌ رَضُوا، أَوْ لَمْ يَرْضَوْا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أَعْطَى أَوْلَادَهُ الْكِبَارَ شَيْئًا] 794 - 16 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أَعْطَى أَوْلَادَهُ الْكِبَارَ شَيْئًا ثُمَّ أَعْطَى لِأَوْلَادِهِ الصِّغَارَ نَظِيرَهُ، أَنَّهُ قَالَ: اشْتَرَوْا بِالرَّيْعِ مِلْكًا وَأَوْقِفُوهُ عَلَى الْجَمِيعِ، بَعْدَ أَنْ قَبَضُوا مَا أَعْطَاهُمْ فَهَلْ يَكُونُ هَذَا رُجُوعًا أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَلَدَيْنِ الْمُمَلَّكَيْنِ بِمَا ذُكِرَ، إذْ لَيْسَ ذَلِكَ رُجُوعًا فِي الْهِبَةِ، وَلَوْ كَانَ رُجُوعًا فِي الْهِبَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْهِبَةِ، فَإِنَّهُ إذَا أَعْطَى الْوَلَدَيْنِ الْآخَرَيْنِ مَا عَدَلَ بِهِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْبَاقِينَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ: «اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ» . وَقَالَ: " إنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى الْجَوْرِ ". وَقَالَ فِي التَّفْضِيلِ: " اُرْدُدْهُ ". وَقَالَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ لِلْمُفَضِّلِ: " أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي ". وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ قَدَّمَ لِأَمِيرٍ مَمْلُوكًا] 795 - 17 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَدَّمَ لِأَمِيرٍ مَمْلُوكًا عَلَى سَبِيلِ التَّعْوِيضِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ

مسألة تملك زيادة عن ألف درهم ونوت أن تهب ثيابها لبنتها

النَّاسِ مِنْ غَيْرِ مُبَايَعَةٍ، فَمَكَثَ الْغُلَامُ عِنْدَ الْأَمِيرِ مُدَّةَ سَنَةٍ يَخْدُمُهُ، ثُمَّ مَاتَ الْأَمِيرُ فَهَلْ لِصَاحِبِ الْمَمْلُوكِ التَّعَلُّقُ عَلَى وَرَثَةِ الْأَمِيرِ بِوَجْهٍ، بِثَمَنٍ أَوْ أُجْرَةِ خِدْمَةٍ، أَوْ بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ. الْجَوَابُ: نَعَمْ إذَا وَهَبَهُ بِشَرْطِ الثَّوَابِ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْمَوْهُوبِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الثَّوَابُ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ، إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ بَاقِيًا، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا فَلَهُ قِيمَتُهُ أَوْ الثَّوَابُ، وَالثَّوَابُ هُنَا هُوَ الْعِوَضُ الْمَشْرُوطُ عَلَى الْمَوْهُوبِ. [مَسْأَلَةٌ تَمْلِكُ زِيَادَةً عَنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَنَوَتْ أَنْ تَهَبَ ثِيَابَهَا لِبِنْتِهَا] 796 - 18 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ تَمْلِكُ زِيَادَةً عَنْ نَحْوِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَنَوَتْ أَنْ تَهَبَ ثِيَابَهَا لِبِنْتِهَا فَهَلْ الْأَفْضَلُ أَنْ تُبْقِيَ قُمَاشَهَا لِبِنْتِهَا أَوْ تَحُجَّ بِهَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَعَمْ تَحُجُّ بِهَذَا الْمَالِ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَنَحْوُهَا، وَتُزَوِّجُ الْبِنْتَ بِالْبَاقِي إنْ شَاءَتْ، فَإِنَّ الْحَجَّ فَرِيضَةٌ مَفْرُوضَةٌ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ تَسْتَطِيعُ إلَيْهِ سَبِيلًا، وَمَنْ لَهَا هَذَا الْمَالُ تَسْتَطِيعُ السَّبِيلَ. [مَسْأَلَةٌ لَهُ جَارِيَةٌ فَأَذِنَ لِوَلَدِهِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا] 797 - 19 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ، فَأَذِنَ لِوَلَدِهِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِالْجَارِيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَيَطَأَهَا وَلَمْ يُصْدَرْ مِنْهُ تَمْلِيكٌ لَهُ بِالْجَارِيَةِ، وَلَا هِبَةٌ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْجَارِيَةَ حَصَلَ لَهَا وَلَدٌ مِنْ وَلَدِ مَالِكِ الْجَارِيَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَهَلْ يَكُونُ الْإِذْنُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ وَالْوَطْءِ تَمْلِيكًا لِلْوَلَدِ، وَهَلْ يَكُونُ الْوَلَدُ حُرًّا وَتَكُونُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِوَلَدِ مَالِكِ الْجَارِيَةِ، فَيَحْرُمُ بَيْعُهَا لِلْمَالِكِ وَالِدِ الصَّبِيِّ الْآذِنِ لِوَلَدِهِ فِي اسْتِمْتَاعِهَا وَوَطْئِهَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: صِفَةُ الْعُقُودِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَالْإِجَارَةَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى صِيغَةٍ، بَلْ يَثْبُتُ ذَلِكَ بِالْمُعَاطَاةِ، فَمَا

عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا، أَوْ هِبَةً، أَوْ إجَارَةً فَهُوَ كَذَلِكَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَشْهُورُ: اعْتِبَارُ الصِّيغَةِ إلَّا فِي مَوَاضِعَ مُسْتَثْنَاةٍ، وَحَيْثُ كَانَ ذَلِكَ بِالصِّيغَةِ فَلَيْسَ لِذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ صِيغَةٌ مَحْدُودَةٌ فِي الشَّرْعِ، بَلْ الْمَرْجِعُ فِي الصِّيغَةِ الْمُقَيِّدَةِ لِذَلِكَ إلَى عُرْفِ الْخِطَابِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. وَلِذَلِكَ صَحَّحُوا الْهِبَةَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: أَعْمَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ، وَأَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ، وَحَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، مِمَّا يَفْهَمُ مِنْهُ أَهْلُ الْخِطَابِ بِهِ الْهِبَةَ، وَتَجْهِيزُ الْمَرْأَةِ بِجِهَازِهَا إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا تَمْلِيكٌ كَمَا أَفْتَى بِهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَغَيْرُهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ وَالْعَطِيَّةَ مُطْلَقًا فِي كِتَابِهِ، لَيْسَ لَهَا حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَلَا الشَّرْعِ، فَيَرْجِعُ فِيهَا إلَى الْعُرْفِ وَالْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ إفْهَامُ الْمَعَانِي، فَأَيُّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَقْصُودُ الْعَقْدِ انْعَقَدَ بِهِ، وَعَلَى هَذَا قَاعِدَةُ النَّاسِ إذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمْ لِابْنِهِ أَمَةً، وَقَالَ: خُذْهَا لَك اسْتَمْتِعْ بِهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ، كَانَ هَذَا تَمْلِيكًا عِنْدَهُمْ. وَأَيْضًا فَمَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمَةَ لَا تُوطَأُ إلَّا بِمِلْكٍ، إذَا أَذِنَ لِابْنِهِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا لَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ إلَّا تَمْلِيكَهَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ حَصَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّمْلِيكِ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَصَحُّ قَوْلَيْهِمْ كَانَ الِابْنُ وَاطِئًا فِي مِلْكِهِ، وَوَلَدُهُ حُرٌّ لَاحِقُ النَّسَبِ، وَالْأَمَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَلَا تُورَثُ، وَأَمَّا إنْ قُدِّرَ أَنَّ الْأَبَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ تَمْلِيكٌ بِحَالٍ، وَاعْتَقَدَ الِابْنُ أَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا كَانَ وَلَدُهُ أَيْضًا حُرًّا، أَوْ نَسَبُهُ لَاحِقٌ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ اعْتَقَدَ الِابْنُ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا وَلَكِنْ وَطِئَهَا بِالْإِذْنِ، فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْأَصْلِ الثَّانِي. فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ وَطِئَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، قَالَ مَالِكٌ: يَمْلِكُهَا بِالْقِيمَةِ، حَمَلَتْ أَوْ لَمْ تَحْمِلْ، وَقَالَ الثَّلَاثَةُ: لَا يَمْلِكُهَا بِذَلِكَ، فَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ هِيَ أَيْضًا مِلْكٌ لِلْوَالِدِ، وَأُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَوَلَدُهُ حُرٌّ، وَعَلَى قَوْلِ الثَّلَاثَةِ: الْأَمَةُ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ، وَلَكِنَّ الْوَلَدَ هَلْ يَصِيرُ حُرًّا مِثْلَ أَنْ يَطَأَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ بِإِذْنِهَا فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: لَا يَكُونُ حُرًّا، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهَا حَلَالٌ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ حُرًّا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ إذَا ظَنَّ الْوَاطِئُ أَنَّهَا حَلَالٌ، فَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمُرْتَهِنِ، فَإِذَا وَطِئَ الْأَمَةَ الْمَرْهُونَةَ بِإِذْنِ

مسألة وهب لأولاده مماليك ثم قصد عتقهم

الرَّاهِنِ، وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، فَإِنَّ وَلَدَهُ يَنْعَقِدُ حُرًّا لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ فَإِنَّ شِبْهَ الِاعْتِقَادِ أَوْ الْمِلْكِ يُسْقِطُ الْمِلْكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، فَكَذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ وَنَسَبِهِ، كَمَا لَوْ وَطِئَهَا فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ مِلْكٍ فَاسِدٍ، فَإِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ حُرًّا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُخَالِفُهُمَا فِي هَذَا وَيَقُولُ: الْوَلَدُ مَمْلُوكٌ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَعِنْدَهُ أَنَّ الْوَاطِئَ قَدْ مَلَكَ الْجَارِيَةَ بِالْوَطْءِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَهَلْ عَلَى هَذَا الْوَاطِئِ بِالْإِذْنِ قِيمَةُ الْوَلَدِ فِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَهُ بِإِذْنِهِ. وَالثَّانِي: تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَأَمَّا الْمَهْرُ فَلَا يَلْزَمُهُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَمَالِكٍ، وَغَيْرِهِمَا. وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَا تَصِيرُ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا. [مَسْأَلَةٌ وَهَبَ لِأَوْلَادِهِ مَمَالِيكَ ثُمَّ قَصَدَ عِتْقَهُمْ] 798 - 20 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ وَهَبَ لِأَوْلَادِهِ مَمَالِيكَ، ثُمَّ قَصَدَ عِتْقَهُمْ فَهَلْ الْأَفْضَلُ اسْتِرْجَاعُهُمْ مِنْهُمْ وَعِتْقُهُمْ، أَوْ إبْقَاؤُهُمْ فِي يَدِ الْأَوْلَادِ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إنْ كَانَ أَوْلَادُهُ مُحْتَاجِينَ إلَى الْمَمَالِيكِ فَتَرْكُهُمْ لِأَوْلَادِهِ أَفْضَلُ مِنْ اسْتِرْجَاعِهِمْ وَعِتْقِهِمْ، بَلْ صِلَةُ ذِي الرَّحِمِ الْمُحْتَاجِ أَفْضَلُ مِنْ الْعِتْقِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ «مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ أَعْتَقَتْ جَارِيَةً لَهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ، فَقَالَ: لَوْ أَعْطَيْتهَا أَخْوَالَك كَانَ خَيْرًا لَك» فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ قَدْ فَضَّلَ إعْطَاءَ الْخَالِ عَلَى الْعِتْقِ، فَكَيْفَ الْأَوْلَادُ الْمُحْتَاجُونَ؟ وَأَمَّا إنْ كَانَ الْأَوْلَادُ مُسْتَغْنِينَ عَنْ بَعْضِهِمْ، فَفِقْهٌ حَسَنٌ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هَذِهِ الْهِبَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمَا، وَلَا يَرْجِعُ فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَ وَخَلَّفَ وَلَدَيْنِ وَبِنْتًا وَزَوْجَةً] 799 - 21 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مَاتَ وَخَلَّفَ وَلَدَيْنِ ذَكَرَيْنِ، وَبِنْتًا، وَزَوْجَةً، وَقُسِّمَ

مسألة له أولاد وهب لهم ماله ووهب أحدهم نصيبه لولده

عَلَيْهِمْ الْمِيرَاثُ. ثُمَّ إنَّ لَهُمْ أُخْتًا بِالْمَشْرِقِ، فَلَمَّا قَدِمَتْ تَطْلُبُ مِيرَاثَهَا فَوَجَدَتْ الْوَلَدَيْنِ مَاتَا، وَالزَّوْجَةَ أَيْضًا، وَوَجَدَتْ الْمَوْجُودَ عِنْدَ أُخْتِهَا، فَلَمَّا ادَّعَتْ عَلَيْهَا وَأَلْزَمَتْ بِذَلِكَ فَخَافَتْ مِنْ الْقَطِيعَةِ بَيْنَهُمَا فَأَشْهَدَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَنَّهَا أَبْرَأَتْهَا، فَلَمَّا حَصَلَ الْإِبْرَاءُ مَعَهَا حَلَفَ زَوْجُهَا بِالطَّلَاقِ أَنَّ أُخْتَهَا لَا تَجِيءُ إلَيْهَا، وَلَا هِيَ تَرُوحُ لَهَا، وَالْمَذْكُورَةُ لَمْ تَهَبْهَا الْمَالَ إلَّا لِتَحْصِيلِ الصِّلَةِ وَالْمَوَدَّةِ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَحْصُلْ غَرَضُهَا، فَهَلْ لَهَا الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ، وَهَلْ يَمْنَعُ الْإِبْرَاءَ أَنْ تَدَّعِيَ بِذَلِكَ وَتَطْلُبَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: إذَا كَانَتْ قَدْ قَالَتْ عِنْدَ الْهِبَةِ: أَنَا أَهَبُ أُخْتِي لِتُعِينَنِي عَلَى أُمُورِي، وَنَتَعَاوَنَ أَنَا وَهِيَ فِي بِلَادِ الْغُرْبَةِ، أَوْ قَالَتْ لَهَا أُخْتُهَا: هَبِينِي هَذَا الْمِيرَاثَ قَالَتْ: مَا أَهَبُك إلَّا لِتَخْدُمِينِي فِي بِلَادِ الْغُرْبَةِ ثُمَّ أَوْهَبَتْهَا، أَوْ جَرَى بَيْنَهُمَا مِنْ الِاتِّفَاقِ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ بِحَيْثُ وَهَبَتْهَا لِأَجْلِ مَنْفَعَةٍ تُحَصِّلُ لَهَا الْغَرَضَ، فَلَهَا أَنْ تَفْسَخَ الْهِبَةَ وَتَرْجِعَ فِيهَا، فَالْعِوَضُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْهِبَةِ فِيهِ قَوْلَانِ، فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: قِيلَ: إنَّ مَنْفَعَتَهُ تَكُونُ بِقَدْرِ قِيمَةِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ لَهُ أَوْلَادٌ وَهَبَ لَهُمْ مَالَهُ وَوَهَبَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ لِوَلَدِهِ] 800 - 22 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ أَوْلَادٌ وَهَبَ لَهُمْ مَالَهُ، وَوَهَبَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ لِوَلَدِهِ، وَقَدْ رَجَعَ الْوَالِدُ الْأَوَّلُ فِيمَا وَهَبَهُ لِأَوْلَادِهِ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ إلَّا الَّذِي وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ امْتَنَعَ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْ وَلَدِهِ وَيُسَلِّمَهُ لِوَلَدِهِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إذَا كَانَ قَدْ وَهَبَ لِوَلَدِهِ شَيْئًا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَارَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ زَوَّجُوهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أَعْطَاهَا زَوْجُهَا حُقُوقَهَا فِي حَيَاتِهِ وَمَبْلَغًا عَنْ صَدَاقِهَا] 801 - 23 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ أَعْطَاهَا زَوْجُهَا حُقُوقَهَا فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَلَهَا مِنْهُ أَوْلَادٌ وَأَعْطَاهَا مَبْلَغًا عَنْ صَدَاقِهَا لِتَنْفَعَ بِهِ نَفْسَهَا وَأَوْلَادَهَا، فَإِنْ ادَّعَى عَلَيْهَا أَحَدٌ وَأَرَادَ أَنْ يُحَلِّفَهَا، فَهَلْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَحْلِفَ لِنَفْيِ الظُّلْمِ عَنْهَا؟

مسألة دار لرجل تصدق منها بالنصف والربع على ولده لصلبه

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا وَهَبَ لِأَوْلَادِهِ مِنْهَا مَا وَهَبَهُ، وَقَبَضَ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ ظُلْمٌ لِأَحَدٍ، كَانَ ذَلِكَ هِبَةً صَحِيحَةً، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْهَا، وَإِذَا كَانَ قَدْ جَعَلَ نَصِيبَ الْأَوْلَادِ إلَيْهَا حَيًّا وَمَيِّتًا، وَهِيَ أَصْلٌ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْهَا، وَإِذَا حَلَفَتْ تَحْلِفُ أَنَّ عِنْدَهَا لِلْمَيِّتِ شَيْئًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ دَار لِرَجُلِ تَصَدَّقَ مِنْهَا بِالنِّصْفِ وَالرُّبُعِ عَلَى وَلَدِهِ لِصُلْبِهِ] 802 - 24 - مَسْأَلَةٌ: فِي دَارٍ لِرَجُلٍ وَأَنَّهُ تَصَدَّقَ مِنْهَا بِالنِّصْفِ وَالرُّبُعِ عَلَى وَلَدِهِ لِصُلْبِهِ، وَالْبَاقِي وَهُوَ الرُّبُعُ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى أُخْتِهِ شَقِيقَتِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تُوُفِّيَ وَلَدُهُ الَّذِي كَانَ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِالنِّصْفِ وَالرُّبُعِ، ثُمَّ إنَّ الْمُتَصَدِّقَ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ الدَّارِ عَلَى ابْنَتِهِ، فَهَلْ تَصِحُّ الصَّدَقَةُ الْأَخِيرَةُ وَيَبْطُلُ مَا تَصَدَّقَ بِهِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَ قَدْ مَلَّكَ أُخْتَهُ الرُّبُعَ تَمْلِيكًا مَقْبُوضًا، وَمَلَّكَ ابْنَتَهُ الثَّلَاثَةَ أَرْبَاعٍ، فَمِلْكُ الْأُخْتِ يَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَتِهَا لَا إلَى الْبِنْتِ، وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى ابْنَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أَهْدَى الْأَمِيرَ هَدِيَّةً لِطَلَبِ حَاجَةٍ] 803 - 25 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أَهْدَى الْأَمِيرَ هَدِيَّةً لِطَلَبِ حَاجَةٍ أَوْ التَّقَرُّبِ أَوْ لِلِاشْتِغَالِ بِالْخِدْمَةِ عِنْدَهُ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهَلْ يَجُوزُ أَخْذُ هَذِهِ الْهَدِيَّةِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ أَمْ لَا، وَإِنْ أَخَذَ الْهَدِيَّةَ انْبَعَثَتْ النَّفْسُ إلَى قَضَاءِ الشُّغْلِ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ لَمْ تَنْبَعِثْ النَّفْسُ فِي قَضَاءِ الشُّغْلِ. فَهَلْ يَجُوزُ أَخْذُهَا وَقَضَاءُ شُغْلِهِ أَوْ لَا يَأْخُذُ وَلَا يَقْضِي، وَرَجُلٌ مَسْمُوعُ الْقَوْلِ عِنْدَ مَخْدُومِهِ إذَا أَعْطَوْهُ شَيْئًا لِلْأَكْلِ أَوْ هَدِيَّةً لِغَيْرِ قَضَاءِ حَاجَةٍ فَهَلْ يَجُوزُ أَخْذُهَا، وَإِنْ رَدَّهَا عَلَى الْمُهْدِي انْكَسَرَ خَاطِرُهُ فَهَلْ يَحِلُّ أَخْذُ هَذِهِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ: عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَفَعَ لِأَخِيهِ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً فَقِبَلهَا فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا»

وَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ السُّحْتِ فَقَالَ: هُوَ أَنْ تَشْفَعَ لِأَخِيك شَفَاعَةً، فَيُهْدِي لَك هَدِيَّةً فَتَقْبَلُهَا فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْت إنْ كَانَتْ هَدِيَّةً فِي بَاطِلٍ، فَقَالَ: ذَلِكَ كُفْرٌ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] . وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَنَّ مَنْ أَهْدَى هَدِيَّةً لِوَلِيِّ أَمْرٍ لِيَفْعَلَ مَعَهُ مَا لَا يَجُوزُ كَانَ حَرَامًا عَلَى الْمُهْدِي وَالْمُهْدَى إلَيْهِ، وَهَذِهِ مِنْ الرِّشْوَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ: «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ» وَالرِّشْوَةُ تُسَمَّى الْبِرْطِيلَ، وَالْبِرْطِيلُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْحَجَرُ الْمُسْتَطِيلُ فَاهُ. فَأَمَّا إذَا أَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً لِيَكُفَّ ظُلْمَهُ عَنْهُ أَوْ لِيُعْطِيَهُ حَقَّهُ الْوَاجِبَ كَانَتْ هَذِهِ الْهَدِيَّةُ حَرَامًا عَلَى الْآخِذِ، وَجَازَ لِلدَّافِعِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ يَقُولُ: «إنِّي لَأُعْطِي أَحَدَهُمْ الْعَطِيَّةَ فَيَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبَّطُهَا نَارًا. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلِمَ تُعْطِيهِمْ؟ قَالَ: يَأْبَوْنِي إلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ» . وَمِثْلُ ذَلِكَ: إعْطَاءُ مَنْ أُعْتِقَ وَكَتَمَ عِتْقَهُ، أَوْ أَسَرَّ خَبَرًا، أَوْ كَانَ ظَالِمًا لِلنَّاسِ فَإِعْطَاءُ هَؤُلَاءِ جَائِزٌ لِلْمُعْطِي، حَرَامٌ عَلَيْهِمْ أَخْذُهُ. وَأَمَّا الْهَدِيَّةُ فِي الشَّفَاعَةِ، مِثْلُ: أَنْ يُشْفَعَ لِرَجُلٍ عِنْدَ وَلِيِّ أَمْرٍ لِيَرْفَعَ عَنْهُ مَظْلِمَةً، أَوْ يُوَصِّلَ إلَيْهِ حَقَّهُ، أَوْ يُوَلِّيَهُ وِلَايَةً يَسْتَحِقُّهَا، أَوْ يَسْتَخْدِمَهُ فِي الْجُنْدِ الْمُقَاتِلَةِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ، أَوْ يُعْطِيَهُ مِنْ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوْ الْفُقَهَاءِ أَوْ الْقُرَّاءِ أَوْ النُّسَّاكِ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَنَحْوُ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ الَّتِي فِيهَا إعَانَةٌ عَلَى فِعْلِ وَاجِبٍ، أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ، فَهَذِهِ أَيْضًا لَا يَجُوزُ فِيهَا قَبُولُ الْهَدِيَّةِ، وَيَجُوزُ لِلْمُهْدِي أَنْ يَبْذُلَ فِي ذَلِكَ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ أَوْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ، هَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَكَابِرِ. وَقَدْ رَخَّصَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَجُعِلَ هَذَا مِنْ بَابِ الْجَعَالَةِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ، فَهُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْعَمَلِ هُوَ مِنْ

الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَكُونُ الْقِيَامُ بِهَا فَرْضًا، إمَّا عَلَى الْأَعْيَانِ وَإِمَّا عَلَى الْكِفَايَةِ، وَمَتَى شُرِعَ أَخْذُ الْجُعْلِ عَلَى مِثْلِ هَذَا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْوِلَايَةُ وَإِعْطَاءُ أَمْوَالِ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتُ وَغَيْرُهَا لِمَنْ يَبْذُلُ فِي ذَلِكَ، وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ كَفُّ الظُّلْمِ عَمَّنْ يَبْذُلُ فِي ذَلِكَ، وَاَلَّذِي لَا يَبْذُلُ لَا يُوَلَّى وَلَا يُعْطَى وَلَا يُكَفُّ عَنْهُ الظُّلْمُ، وَإِنْ كَانَ أَحَقَّ وَأَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا. وَالْمَنْفَعَةُ فِي هَذَا لَيْسَتْ لِهَذَا الْبَاذِلِ حَتَّى يُؤْخَذَ مِنْهُ الْجُعْلُ كَالْجُعْلِ عَلَى الْآبِقِ، وَالشَّارِدِ، وَإِنَّمَا الْمَنْفَعَةُ لِعُمُومِ النَّاسِ أَعْنِي الْمُسْلِمِينَ - فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُوَلَّى فِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ أَصْلَحُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُرْزَقَ مِنْ رِزْقِ الْمُقَاتِلَةِ، وَالْأَئِمَّةِ، وَالْمُؤَذِّنِينَ، وَأَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ وَأَنْفَعُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ وَعَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يُعَاوِنُوهُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَخْذُ جُعْلٍ مِنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ عَلَى ذَلِكَ يُفْضِي إلَى أَنْ تُطْلَبَ هَذِهِ الْأُمُورُ بِالْعِوَضِ، وَنَفْسُ طَلَبِ الْوِلَايَاتِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِالْعِوَضِ، وَلَزِمَ أَنَّ مَنْ كَانَ مُمَكَّنًا فِيهَا يُوَلَّى وَيُعْطَى وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَحَقَّ وَأَوْلَى، بَلْ يَلْزَمُ تَوْلِيَةُ الْجَاهِلِ، وَالْفَاسِقِ وَالْفَاجِرِ، وَتَرْكُ الْعَالِمِ الْعَادِلِ الْقَادِرِ، وَأَنْ يُرْزَقَ فِي دِيوَانِ الْمُقَاتِلَةِ الْفَاسِقُ وَالْجَبَانُ الْعَاجِزُ عَنْ الْقِتَالِ، وَتَرْكُ الْعَدْلِ الشُّجَاعِ النَّافِعِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَفَسَادُ مِثْلِ هَذَا كَثِيرٌ، وَإِذَا أَخَذَ وَشَفَعَ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ وَغَيْرُهُ أَوْلَى، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَلَا يَشْفَعَ وَتَرْكُهُمَا خَيْرٌ، وَإِذَا أَخَذَ وَشَفَعَ لِمَنْ هُوَ الْأَحَقُّ الْأَوْلَى وَتَرَكَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ، فَحِينَئِذٍ تَرَكَ الشَّفَاعَةَ، وَالْأَخْذُ أَضَرُّ مِنْ الشَّفَاعَةِ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ. وَيُقَالُ لِهَذَا الشَّافِعِ الَّذِي لَهُ الْحَاجَةُ الَّتِي تُقْبَلُ بِهَا الشَّفَاعَةُ: يَجِبُ عَلَيْك أَنْ تَكُونَ نَاصِحًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَك هَذَا الْجَاهُ وَالْمَالُ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ لَك هَذَا الْجَاهُ وَالْمَالُ، فَأَنْتَ عَلَيْك أَنْ تَنْصَحَ الْمَشْفُوعَ إلَيْهِ فَتُبَيِّنَ لَهُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ، وَالِاسْتِخْدَامَ، وَالْعَطَاءَ، وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، وَتَنْصَحَ لِلْمُسْلِمِينَ بِفِعْلِ مِثْلِ ذَلِكَ، وَتَنْصَحَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ بِطَاعَتِهِ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ طَاعَتِهِ، وَتَنْفَعَ هَذَا الْمُسْتَحِقَّ بِمُعَاوَنَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا عَلَيْك أَنْ تُصَلِّيَ وَتَصُومَ وَتُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَأَمَّا الرَّجُلُ الْمَسْمُوعُ الْكَلَامِ، فَإِذَا أَكَلَ قَدْرًا زَائِدًا عَنْ الضِّيَافَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُكَافِئَ الْمُطْعِمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، أَوْ لَا يَأْكُلَ الْقَدْرَ الزَّائِدَ، وَإِلَّا فَقَبُولُهُ الضِّيَافَةَ الزَّائِدَةَ مِثْلُ قَبُولِهِ لِلْهَدِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الشَّاهِدِ وَالشَّافِعِ إذَا أَدَّى الشَّهَادَةَ وَأَقَامَ بِالشَّفَاعَةِ

مسألة تبرع وفرض لأمه في كل يوم درهمين

لِضِيَافَةٍ أَوْ جُعْلٍ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ الْفَسَادِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَبَرَّعَ وَفَرَضَ لِأُمِّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ] 804 - 26 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَبَرَّعَ وَفَرَضَ لِأُمِّهِ عَلَى نَفْسِهِ وَهِيَ صَحِيحَةٌ عَاقِلَةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ، وَأَذِنَ لَهَا أَنْ تَسْتَدِينَ وَتُنْفِقَ عَلَيْهَا وَتَرْجِعَ عَلَيْهِ، وَبَقِيَتْ مُقِيمَةً عِنْدَهُ مُدَّةً وَلَمْ تَسْتَدِنْ لَهَا نَفَقَةً ثُمَّ تُوُفِّيَتْ، وَلَمْ تَتْرُكْ عَلَيْهَا دَيْنًا، وَخَلَّفَتْ مِنْ الْوَرَثَةِ ابْنَهَا هَذَا وَبِنْتَيْنِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ ابْنُهَا بَعْدَهَا، فَهَلْ يَصِيرُ مَا فَرَضَ عَلَى نَفْسِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَيُقْسَمُ عَلَى وَرَثَتِهَا أَمْ لَا؟ وَهَلْ إذَا حَكَمَ حَاكِمٌ مَعَ قَوْلِكُمْ النَّفَقَةُ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ هَلْ يَنْفُذُ حُكْمُهُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجِبُ اسْتِرْجَاعُ مَا أَخَذَ وَرَثَتُهَا مِنْ تَرِكَةِ وَلَدِهَا بِهَذَا الْوَجْهِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَيْسَ ذَاكَ دَيْنًا لَهَا فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا يُقْضَى مِنْ تَرِكَتِهِ، وَالْمُسْتَحِقَّةُ وَرَثَتهَا وَمَا عَلِمْت أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالَ إنَّ نَفَقَةَ الْقَرِيبِ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ لِمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ، إلَّا إذَا كَانَ قَدْ اسْتَدَانَ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ بِإِذْنِ حَاكِمٍ أَوْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ إذْنِ حَاكِمٍ غَيْرِ مُتَبَرِّعٍ، وَطَلَبَ الرُّجُوعَ بِمَا أَنْفَقَ، فَهَذَا فِي رُجُوعِهِ خِلَافٌ. فَأَمَّا اسْتِقْرَارُهَا فِي الذِّمَّةِ بِمُجَرَّدِ الْفَرْضِ، إمَّا بِإِنْفَاقِ مُتَبَرِّعٍ أَوْ بِكَسْبِهِ، كَمَا يُقَالُ مِثْلُهُ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ فَمَا عَلِمْت لَهُ قَائِلًا، فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ لَمْ يَلْزَمْ بِحُكْمِ حَاكِمٍ، وَلِمَنْ أَخَذَ مِنْهُ الْمَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَخَذَهُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَإِنْ قَضَى بِهَا الْقَاضِي، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْقَاضِي فِي الِاسْتِدَانَةِ؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةً عَامَّةً فَصَارَ كَإِذْنِ الْغَائِبِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي قَضَاءِ الْقَاضِي هَلْ يَصِيرُ بِهِ دَيْنًا، رِوَايَتَيْنِ: لَكِنْ حَمَلُوا رِوَايَةَ الْوُجُوبِ عَلَى مَا إذَا أَمَرَ بِالِاسْتِدَانَةِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ، وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ. وَكَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُوسِرًا وَتَمَرَّدَ وَامْتَنَعَ عَنْ الْإِنْفَاقِ فَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ يَأْمُرَهَا بِالِاسْتِدَانَةِ فَأَمَرَهَا الْقَاضِي بِذَلِكَ وَتَرْجِعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي كَأَمْرِهِ، وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي لَهَا بِالنَّفَقَةِ فَأَمَرَهَا بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَى الزَّوْجِ لِئَلَّا يَبْطُلَ حَقُّهَا فِي النَّفَقَةِ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَسْقُطُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، فَكَانَتْ فَائِدَةُ الْأَمْرِ بِالِاسْتِدَانَةِ لِتَأْكِيدِ حَقِّهَا فِي النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِي مَأْمُورٌ بِإِيصَالِ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ لَكِنْ لَوْ أَمَرَ الْقَرِيبَ

مسألة اشترى عبدا ووهبه شيئا حتى أثرى العبد

بِالِاسْتِدَانَةِ، وَلَمْ يَسْتَدِنْ، بَلْ اسْتَغْنَى بِنَفَقَةِ مُتَبَرِّعٍ، أَوْ بِكَسْبٍ لَهُ فَقَدْ فَهِمَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَسْتَقِرُّ فِي الذِّمَّةِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ لِإِطْلَاقِهِمْ الْأَمْرَ بِالِاسْتِدَانَةِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ وُجُودِ الِاسْتِدَانَةِ وَغَيْرِهِ، إنَّمَا فَهِمَ أَنَّ الِاسْتِدَانَةَ، لِأَجْلِ وُجُودِ الِاسْتِدَانَةِ، وَأَمَّا الْإِذْنُ الِاسْتِدَانَةُ مِنْ غَيْرِ وُجُودِهَا لَا يَصِيرُ الْمَأْذُونُ فِيهِ دَيْنًا حَتَّى يُسْتَدَانَ. [مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى عَبْدًا وَوَهَبَهُ شَيْئًا حَتَّى أَثْرَى الْعَبْدُ] 805 - 27 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا وَوَهَبَهُ شَيْئًا، حَتَّى أَثْرَى الْعَبْدُ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ حُرًّا، فَهَلْ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا وَهَبَهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ عَبْدُهُ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ لَهُ أَخْذُهُ 806 - 28 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ أَعْتَقَتْ جَارِيَةً دُونَ الْبُيُوعِ، وَكَتَبَتْ لَهَا أَمْوَالَهَا، وَلَمْ تَزَلْ تَحْتَ يَدِهَا إلَى حَالِ وَفَاتِهَا أَيْ السَّيِّدَةِ الْمُعْتِقَةِ. وَخَلَّفَتْ وَرَثَةً فَهَلْ يَصِحُّ تَمْلِيكُهَا لِلْجَارِيَةِ أَمْ لِلْوَرَثَةِ انْتِزَاعُهَا أَوْ بَعْضِهَا؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا مُجَرَّدُ التَّمْلِيكِ بِدُونِ الْقَبْضِ الشَّرْعِيِّ فَلَا يَلْزَمُ بِهِ عَقْدُ الْهِبَةِ، بَلْ لِلْوَارِثِ أَنْ يَنْتَزِعَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ هِبَةَ تَلْجِئَةٍ بِحَيْثُ تُوهَبُ فِي الظَّاهِرِ وَتُقْبَضُ مَعَ اتِّفَاقِ الْوَاهِبِ وَالْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى أَنَّهُ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُ إذَا شَاءَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْحِيَلِ الَّتِي تُجْعَلُ طَرِيقًا إلَى مَنْعِ الْوَارِثِ أَوْ الْغَرِيمِ حُقُوقَهُمْ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَتْ أَيْضًا هِبَةً بَاطِلَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ وَهَبَ لِإِنْسَانٍ فَرَسًا] 807 - 29 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ وَهَبَ لِإِنْسَانٍ فَرَسًا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَلَبَ الْوَاهِبُ مِنْهُ أُجْرَتَهَا، فَقَالَ لَهُ: مَا أَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ إلَّا فَرَسَك خُذْهَا. قَالَ الْوَاهِبُ: مَا آخُذُهَا إلَّا أَنْ تُعْطِيَنِي أُجْرَتَهَا فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ وَتَجُوزُ لَهُ أُجْرَةٌ أَمْ لَا؟

مسألة تصدق على ولده بصدقة

الْجَوَابُ: إذَا أَعَادَ إلَيْهِ الْعَيْنَ الْمَوْهُوبَةَ فَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأُجْرَتِهَا وَلَا مُطَالَبَتُهُ بِالضَّمَانِ، فَإِنَّهُ كَانَ ضَامِنًا لَهَا وَكَانَ يُطْعِمُهَا بِانْتِفَاعِهِ بِهَا مُقَابَلَةً لِذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ تَصَدَّقَ عَلَى وَلَدِهِ بِصَدَقَةٍ] 808 - 30 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَصَدَّقَ عَلَى وَلَدِهِ بِصَدَقَةٍ وَنَزَّلَهَا فِي كِتَابِ زَوْجَتِهِ وَقَدْ ضَعُفَ حَالُ الْوَالِدِ وَجَفَاهُ وَلَدُهُ فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَ قَدْ أَعْطَاهُ لِلْمَرْأَةِ فِي صَدَاقِ زَوْجَتِهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. [مَسْأَلَةٌ رَجُل أَعْطَاهُ أَخٌ لَهُ شَيْئًا] 809 - 31 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أَعْطَاهُ أَخٌ لَهُ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا، أَيَقْبَلُهُ أَمْ يَرُدُّهُ؟ وَقَدْ وَرَدَ مَنْ جَاءَهُ شَيْءٌ بِغَيْرِ سُؤَالٍ فَرَدَّهُ فَكَأَنَّمَا رَدَّهُ عَلَى اللَّهِ، هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: قَدْ ثَبَتَ عَنْ «النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَك» . وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا حَكِيمُ مَا أَكْثَرَ مَسْأَلَتُكَ إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ» فَكَانَ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ. فَقَالَ لَهُ حَكِيمٌ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أُرْزَقُ بَعْدَك مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُعْطِيَانِهِ فَلَا يَأْخُذُ.

مسألة وهب لزوجته ألف درهم

فَتَبَيَّنَ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا كَانَ سَائِلًا بِلِسَانِهِ وَمُشْرِفًا إلَى مَا يُعْطَاهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَهُ، إلَّا حَيْثُ تُبَاحُ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَالِاسْتِشْرَافُ، وَأَمَّا إذَا أَتَاهُ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إشْرَافٍ فَلَهُ أَخْذُهُ إنْ كَانَ الَّذِي أَعْطَاهُ حَقَّهُ كَمَا أَعْطَى النَّبِيُّ عُمَرَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ عَمِلَ لَهُ فَأَعْطَاهُ عِمَالَتَهُ، وَلَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَهُ كَمَا فَعَلَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْقَبُولِ وَالنِّزَاعُ مَشْهُورٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَعْطَاهُ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَبِلَهُ وَكَانَ مِنْ غَيْرِ إشْرَافٍ لَهُ عَلَيْهِ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكَافِئَ بِالْمَالِ مَنْ أَسْدَاهُ إلَيْهِ لِخَبَرِ «مَنْ أَسْدَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا لَهُ مَا تُكَافِئُوهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ» . [مَسْأَلَةٌ وَهَبَ لِزَوْجَتِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ] 810 - 32 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ وَهَبَ لِزَوْجَتِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَكَتَبَ عَلَيْهِ بِهَا حُجَّةً يُقْبِضُهَا شَيْئًا وَمَاتَتْ، وَقَدْ طَالَبَهُ وَرَثَتُهَا بِالْمَبْلَغِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي ذِمَّتِهِ شَيْءٌ قَبْلَ ذَلِكَ لَا هَذَا الْمَبْلَغُ أَوْ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَبْلَغُ عِوَضًا عَنْهُ، مِثْلَ: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَ بَعْضَ صَالِحِهَا عَنْ قِيمَتِهِ بِهَذَا الْمَبْلَغِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ وَرَثَتُهَا شَيْئًا مِنْ هَذَا الدَّيْنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ إقْرَارَهُ فَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ دَيْنَ هَذَا الْإِقْرَارِ يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ، وَإِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى الْمُقِرِّ وَالْمُقَرِّ لَهُ بِأَنَّ هَذَا إقْرَارُ تَلْجِئَةٍ فَلَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَلَوْ كَانَ قِيمَةُ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ مَالِهَا أَقَلَّ مِنْ هَذَا الْمَبْلَغِ، فَصَالَحَهَا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَفِي لُزُومِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ تُبْطِلُهُ طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَيُصَحِّحُهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ لَهُ أَوْلَادٌ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ فَنَحَلَ الْبَنَاتِ دُونَ الذُّكُورِ] 811 - 33 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ أَوْلَادٌ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ فَنَحَلَ الْبَنَاتِ دُونَ الذُّكُورِ قَبْلَ وَفَاتِهِ فَهَلْ يَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ شَيْءٌ أَمْ لَا؟

مسألة الصدقة والهدية أيهما أفضل

الْجَوَابُ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْحَلَ بَعْضَ أَوْلَادِهِ دُونَ بَعْضٍ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ. حَيْثُ قَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ» . «وَكَانَ رَجُلٌ قَدْ نَحَلَ بَعْضَ أَوْلَادِهِ وَطَلَبَ أَنْ يُشْهِدَهُ، فَقَالَ: إنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» . وَأَمَرَهُ بِرَدِّ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ وَلَمْ يُسَلِّمْ إلَى الْبَنَاتِ مَا أَعْطَاهُمْ حَتَّى مَاتَ أَوْ مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ فَهَذَا مَرْدُودٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَقْبَضَهُمْ فِي الصِّحَّةِ فَفِي رَدِّهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الصَّدَقَة وَالْهَدِيَّة أَيُّهُمَا أَفْضَلُ] 812 - 34 - مَسْأَلَةٌ: فِي الصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. الصَّدَقَةُ مَا يُعْطَى لِوَجْهِ اللَّهِ عِبَادَةً مَحْضَةً مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَلَا طَلَبِ غَرَضٍ مِنْ جِهَتِهِ، لَكِنْ يُوضَعُ فِي مَوَاضِعِ الصَّدَقَةِ كَأَهْلِ الْحَاجَاتِ، وَأَمَّا الْهَدِيَّةُ فَيُقْصَدُ بِهَا إكْرَامُ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، إمَّا لِمَحَبَّةٍ، وَإِمَّا لِصَدَاقَةٍ، وَإِمَّا لِطَلَبِ حَاجَةٍ؛ وَلِهَذَا «كَانَ النَّبِيُّ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا، فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ مِنَّةٌ، وَلَا يَأْكُلُ أَوْسَاخَ النَّاسِ الَّتِي يَتَطَهَّرُونَ بِهَا مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَهِيَ الصَّدَقَاتُ. وَلَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ لِذَلِكَ وَغَيْرِهِ» ، وَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَالصَّدَقَةُ أَفْضَلُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْهَدِيَّةِ مَعْنًى تَكُونُ بِهِ أَفْضَلَ مِنْ الصَّدَقَةِ مِثْلَ الْإِهْدَاءِ لِرَسُولِ اللَّهِ مَحَبَّةً لَهُ، وَمِثْلَ الْإِهْدَاءِ لِقَرِيبٍ يَصِلُ بِهِ رَحِمَهُ، وَأَخٍ لَهُ فِي اللَّهِ، فَهَذَا قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الصَّدَقَةِ. [مَسْأَلَةٌ وَهَبَ لِابْنَتِهِ مَصَاغًا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِأَحَدٍ] 813 - 35 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ وَهَبَ لِابْنَتِهِ مَصَاغًا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِأَحَدٍ وَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا مِنْهُ، وَاحْتَاجَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ أَمْ لَا؟ وَإِنْ أَعْطَتْهُ شَيْئًا مِنْ طِيبِ نَفْسِهَا هَلْ يَحْنَثُ أَمْ لَا؟

مسألة أهدى إلى ملك عبدا

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَهُ لَهَا لَكِنَّهُ إنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ حَنِثَ، فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ قَلْبِهَا أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهَا، فَإِذَا طَابَتْ نَفْسُهَا أَوْ أَذِنَتْ لَمْ يَحْنَثْ. [مَسْأَلَةٌ أَهْدَى إلَى مَلِكٍ عَبْدًا] 814 - 36 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أَهْدَى إلَى مَلِكٍ عَبْدًا ثُمَّ إنَّ الْمُهْدَى إلَيْهِ مَاتَ وَوَلِيَ مَكَانَهُ مَلِكٌ آخَرُ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ عِتْقُ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: الْأَرِقَّاءُ الَّذِينَ يُشْتَرَوْنَ بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ: كَالْخَيْلِ، وَالسِّلَاحُ الَّذِي يُشْتَرَى بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ يُهْدَى لِمُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِمْ الْمَلِكُ الثَّانِي بِعِتْقٍ أَوْ إعْطَاءٍ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِ الْأَوَّلِ لَهُ وَهَلْ بِالْإِعْتَاقِ وَالْإِعْطَاءِ يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الثَّانِي كَمَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْأَوَّلِ، نَعَمْ وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ كُلِّهِمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ لَهَا أَوْلَادٌ غَيْر أَشِقَّاءَ فَخَصَّصَتْ أَحَدَهُمْ وَتَصَدَّقَتْ عَلَيْهِ] 815 - 37 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ لَهَا أَوْلَادٌ غَيْرُ أَشِقَّاءَ، فَخَصَّصَتْ أَحَدَ الْأَوْلَادِ وَتَصَدَّقَتْ عَلَيْهِ بِحِصَّةٍ مِنْ مِلْكٍ دُونَ بَقِيَّةِ إخْوَتِهِ، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ الْمَذْكُورَةُ وَهِيَ مُقِيمَةٌ بِالْمَكَانِ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ فَهَلْ تَصِحُّ الصَّدَقَةُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا لَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى مَاتَتْ بَطَلَتْ الْهِبَةُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِنْ أَقْبَضَهُ إيَّاهُ لَمْ يَجُزْ عَلَى الصَّحِيحِ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ الْمَوْهُوبُ لَهُ، بَلْ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ إخْوَتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَصَدَّقَتْ عَلَى وَلَدِهَا بِحِصَّةٍ مِنْ كُلِّ مَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ] 816 - 38 - مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ تَصَدَّقَتْ عَلَى وَلَدِهَا فِي حَالِ صِحَّتِهَا وَسَلَامَتِهَا بِحِصَّةٍ مِنْ كُلِّ مَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مِنْ مُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَى عَشْرِ سِنِينَ، وَمَاتَتْ الْمُتَصَدِّقَةُ ثُمَّ تَصَدَّقَ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا تَصَدَّقَتْ بِهِ وَالِدَتُهُ عَلَيْهِ عَلَى وَلَدِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَثَبَتَ ذَلِكَ

مسألة ملك بنته ملكا ثم ماتت

جَمِيعُهُ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُتَصَدِّقَةِ الْأُولَى عِنْدَ بَعْضِ الْقَضَاءِ وَحُكِمَ بِهِ، فَهَلْ لِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ أَنْ تُبْطِلَ ذَلِكَ بِحُكْمِ اسْتِمْرَارِهِ بِالسُّكْنَى بَعْدَ تَسْلِيمِهِ لِوَلَدِهَا الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا كَانَتْ هَذِهِ الصَّدَقَةُ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ يَدِ الْمُتَصَدِّقِ حَتَّى مَاتَ بَطَلَتْ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ فِي أَقْوَالِهِمْ الْمَشْهُورَةِ، وَإِذَا أَثْبَتَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إثْبَاتُهُ لِذَلِكَ الْعَقْدِ مُوجِبًا لِصِحَّتِهِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ بِصِحَّتِهِ وَلَهُ وَرَثَةٌ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ حَاكِمٌ عَالِمٌ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْقَضِيَّةُ لَيْسَتْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَا يَكُونُ حِينَئِذٍ حَاكِمًا. وَأَمَّا أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ قَدْ أَخْرَجَهَا الْمُتَصَدِّقُ عَنْ يَدِهِ إلَى مَنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَهَا التَّسْلِيمَ الشَّرْعِيَّ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُعْطِي أَعْطَى بَقِيَّةَ الْأَوْلَادِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ أَوْ يُعْطِيَ الْبَاقِينَ مِثْلَ ذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، «قَالَ نَحَلَنِي أَبِي غُلَامًا. فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ، فَأَتَيْت النَّبِيَّ وَقُلْت: إنِّي نَحَلْت ابْنِي غُلَامًا وَإِنَّ أُمَّهُ قَالَتْ لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لَك وَلَدٌ غَيْرُهُ. قُلْت: نَعَمْ، قَالَ: فَكُلُّهُمْ أَعْطَيْت مِثْلَ مَا أَعْطَيْته، قُلْت: لَا، قَالَ: أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» . وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا تُشْهِدْنِي فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ اُرْدُدْهُ فَرَدَّهُ» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَلَّكَ بِنْتَه مِلْكًا ثُمَّ مَاتَتْ] 817 - 39 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مَلَّكَ بِنْتَه مِلْكًا ثُمَّ مَاتَتْ وَخَلَفَتْ وَالِدَهَا وَوَلَدَهَا، فَهَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا كَتَبَهُ لِبِنْتِهِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مَا مَلَكَتْهُ الْبِنْتُ مِلْكًا تَامًّا مَقْبُوضًا، مَاتَتْ انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهَا، فَلِأَبِيهَا السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِابْنِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ مَوْتِ الْبِنْتِ فِيمَا مَلَّكَهَا بِالِاتِّفَاقِ.

مسألة وهب لابنه هبة ثم تصرف فيها

[مَسْأَلَةٌ وَهَبَ لِابْنِهِ هِبَةً ثُمَّ تَصَرَّفَ فِيهَا] مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ وَهَبَ لِابْنِهِ هِبَةً ثُمَّ تَصَرَّفَ فِيهَا وَادَّعَى أَنَّهَا مِلْكُهُ فَهَلْ يَتَضَمَّنُ هَذَا الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الرُّجُوعَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قَدَّمَ لِبَعْضِ الْأَكَابِرِ غُلَامًا] 819 - 41 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَدَّمَ لِبَعْضِ الْأَكَابِرِ غُلَامًا، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ أَنَّهُ إذَا قَدَّمَ يُعْطَى ثَمَنَهُ أَوْ نَظِيرَ الثَّمَنِ، فَلَمْ يُعْطَ شَيْئًا، وَتَزَوَّجَ وَجَاءَهُ أَوْلَادٌ وَتُوُفِّيَ، فَهَلْ أَوْلَادُهُ أَحْرَارٌ أَمْ لَا وَهَلْ يَرِثُ الْأَوْلَادُ الْمَالِكَ الْأَصْلَ صَاحِبَ الْعُهْدَةِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ الْجَارِيَةُ بِالتَّعْوِيضِ وَأَعْطَاهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ إمَّا التَّعْوِيضُ وَإِمَّا الرُّجُوعُ فِي الْمَوْهُوبِ، وَأَمَّا الْمَمْلُوكُ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُعْتِقْهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ وَأَمَّا أَوْلَادُهُ فَيَتْبَعُونَ أُمَّهُمْ، فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَهُمْ أَحْرَارٌ، وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً فَهُمْ مِلْكٌ لِمَالِكِهَا لَا لِمَالِكِ الْأَبِ، إذْ الْأَوْلَادُ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهَا يَتْبَعُونَ أُمَّهُمْ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، وَيَتْبَعُونَ أَبَاهُمْ فِي النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ، وَإِذَا لَمْ يَرْجِعْ الْوَاهِبُ حَتَّى فَاتَ الرُّجُوعُ فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمَوْهُوبَ لَهُ بِالتَّعْوِيضِ إنْ كَانَ حَيًّا، وَفِي تَرِكَتِهِ إنْ كَانَ مَيِّتًا كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَتَقَ، وَلَهُ أَوْلَادٌ مِنْ حُرَّةٍ فَهُمْ أَحْرَارٌ. [مَسْأَلَةٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ مَالٌ يَسْتَغْرِقُ الدَّيْنَ وَأَوْهَبَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ] 820 - 42 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ مَالٌ يَسْتَغْرِقُ الدَّيْنَ، وَيَفْضُلُ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ، وَأَوْهَبَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لِمَمْلُوكٍ مَعْتُوقٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ، فَهَلْ لِأَهْلِ الدَّيْنِ اسْتِرْجَاعُهُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَعَمْ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِمَالِهِ فَلَيْسَ لَهُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ أَنْ يَتَبَرَّعَ لِأَحَدٍ بِهِبَةٍ وَلَا مُحَابَاةٍ، وَلَا إبْرَاءٍ مِنْ دَيْنٍ إلَّا بِإِجَازَةِ الْغُرَمَاءِ، بَلْ لَيْسَ لِلْوَرَثَةِ حَقٌّ إلَّا بَعْدَ وَفَاءِ الدَّيْنِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا أَنَّ «النَّبِيَّ قَضَى

مسألة له بنتان ومطلقة حامل وكتب لابنتيه ألفي دينار

بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ» . وَالتَّبَرُّعُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ كَالْوَصِيَّةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. [مَسْأَلَةٌ لَهُ بِنْتَانِ وَمُطَلَّقَةٌ حَامِلٌ وَكَتَبَ لِابْنَتَيْهِ أَلْفَيْ دِينَارٍ] 821 - 43 - مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ بِنْتَانِ وَمُطَلَّقَةٌ حَامِلٌ، وَكَتَبَ لِابْنَتَيْهِ أَلْفَيْ دِينَارٍ وَأَرْبَعِ أَمْلَاكٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وُلِدَ لِلْمُطَلَّقَةِ وَلَدٌ ذَكَرٌ، وَلَمْ يَكْتُبْ لَهُ شَيْئًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تُوُفِّيَ الْوَالِدُ وَخَلَفَ مَوْجُودًا خَارِجًا عَمَّا كَتَبَهُ لِبِنْتَيْهِ. وَقَسَمَ الْمَوْجُودَ بَيْنَهُمْ عَلَى حُكْمِ الْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَهَلْ يُفْسَخُ مَا كَتَبَ لِلْبَنَاتِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، إنْ كَانَ قَدْ مَلَّكَ الْبَنَاتَ تَمْلِيكًا تَامًّا مَقْبُوضًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَتَبَ لَهُنَّ فِي ذِمَّتِهِ أَلْفَيْ دِينَارٍ مِنْ غَيْرِ إقْبَاضٍ أَوْ أَعْطَاهُنَّ شَيْئًا وَلَمْ يُقْبِضْهُ لَهُنَّ، فَهَذَا الْعَقْدُ مَفْسُوخٌ وَيَقْسِمُ الْجَمِيعَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَأَمَّا مَعَ حُصُولِ الْقَبْضِ فَفِيهِ نَزْعٌ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَسَمَ مَالَهُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ، فَلَمَّا مَاتَ وَلَدٌ لَهُ حَمْلٌ، فَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ أَنْ يُعْطَى الْحَمْلُ نَصِيبَهُ مِنْ الْمِيرَاثِ، فَلِهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ بِهَذَا كَذَلِكَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ» . وَقَالَ: «إنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» لِمَنْ أَرَادَ تَخْصِيصَ بَعْضِ أَوْلَادِهِ بِالْعَطِيَّةِ. وَعَلَى الْبَنَاتِ أَنْ يَتَّقِينَ اللَّهَ وَيُعْطِينَ الِابْنَ حَقَّهُ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ لِلَّذِي خَصَّصَ بَعْضَ أَوْلَادِهِ: «أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» تَهْدِيدًا لَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: " اُرْدُدْهُ " وَقَدْ رَدَّهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ. وَأَمَّا إذَا أَوْصَى لَهُنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهِيَ غَيْرُ لَامَّةٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَالصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا وَاَلَّذِي خَصَّ بَنَاتِهِ بِالْعَطِيَّةِ دُونَ حَمْلِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ. وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَرُدَّهُ رُدَّ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا، طَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَاتِّبَاعًا لِلْعَدْلِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، وَاقْتِدَاءً بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَلَا

مسألة صداق المرأة تعوضت عنه بعقار

يَحِلُّ لِلَّذِي فَضَّلَ أَنْ يَأْخُذَ الْفَضْلَ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاسِمَ إخْوَتَهُ فِي جَمِيعِ الْمَالِ بِالْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ صَدَاقُ الْمَرْأَةِ تَعَوَّضَتْ عَنْهُ بِعَقَارٍ] 822 - 44 - مَسْأَلَةٌ: فِي صَدَاقِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا، تَمُرُّ عَلَيْهِ السُّنُونَ الْمُتَوَالِيَةُ لَا يُمْكِنُهَا مُطَالَبَتُهُ بِهِ لِئَلَّا يَقَعَ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ، ثُمَّ إنَّهَا تَتَعَوَّضُ عَنْ صَدَاقِهَا بِعَقَارٍ، أَوْ يَدْفَعُ إلَيْهَا الصَّدَاقَ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنْ السِّنِينَ، فَهَلْ تَجِبُ زَكَاةُ السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ أَمْ إلَى أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ قَبَضَتْ الصَّدَاقَ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ: قِيلَ: يَجِبُ تَزْكِيَةُ السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَقَدْ نَصَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِمَا. وَقِيلَ: تَجِبُ مَعَ يَسَارِهِ وَتَمَكُّنِهَا مِنْ قَبْضِهَا دُونَ مَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَمْكِينُهُ مِنْ الْقَبْضِ كَالْقَوْلِ الْآخَرِ فِي مَذْهَبِهِمَا. وَقِيلَ: تَجِبُ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ: كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَقِيلَ: لَا تَجِبُ بِحَالٍ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَأَضْعَفُ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ يُوجِبُهَا لِلسِّنِينَ الْمَاضِيَةِ حَتَّى مَعَ الْعَجْزِ عَنْ قَبْضِهِ، فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَاطِلٌ، فَأَمَّا أَنْ يَجِبَ لَهُمْ مَا يَأْخُذُونَهُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ شَيْءٌ، فَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ إذَا طَالَ الزَّمَانُ كَانَتْ الزَّكَاةُ أَكْثَرَ مِنْ الْمَالِ، ثُمَّ إذَا نَقَصَ النِّصَابُ وَقِيلَ إنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي عَيْنِ النِّصَابِ لَمْ يُعْلَمْ الْوَاجِبُ إلَّا بِحِسَابٍ طَوِيلٍ يَمْتَنِعُ إتْيَانُ الشَّرِيعَةِ بِهِ. وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ لَا يُوجِبُ فِيهِ شَيْئًا بِحَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ أَوْ يُوجِبَ فِيهِ زَكَاةً وَاحِدَةً عَنْ الْقَبْضِ، فَهَذَا الْقَوْلُ لَهُ وَجْهٌ، وَهَذَا وَجْهٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَكِلَاهُمَا قِيلَ بِهِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة دفع مال يتيم إلى عامل يشتري به ثمرة مضاربة

[مَسْأَلَةٌ دَفَعَ مَالَ يَتِيمٍ إلَى عَامِلٍ يَشْتَرِي بِهِ ثَمَرَةً مُضَارَبَةً] 823 - 45 - مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ دَفَعَ مَالَ يَتِيمٍ إلَى عَامِلٍ يَشْتَرِي بِهِ ثَمَرَةً مُضَارَبَةً وَمَعَهُ آخَرُ أَمِينًا عَلَيْهِ وَلَهُ النِّصْفُ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا الرُّبُعُ فَخَسِرَ الْمَالُ، وَانْفَرَدَ الْعَامِلُ بِالْعَمَلِ لِتَعَذُّرِ الْآخَرِ وَكَانَتْ الشَّرِكَةُ بَعْدَ تَأْبِيرِ الثَّمَرَةِ، وَأَفْتَى بَعْضُهُمْ بِفَسَادِهَا، وَأَنَّ عَلَى الْعَامِلِ وَوَلِيِّ الْيَتِيمِ ضَمَانَ مَا صُرِفَ مِنْ مَالِهِ. الْجَوَابُ: هَذِهِ الشَّرِكَةُ فِي صِحَّتِهَا خِلَافٌ، وَالْأَظْهَرُ صِحَّتُهَا وَسَوَاءٌ كَانَتْ صَحِيحَةً أَوْ فَاسِدَةً، فَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ فَرَّطَ فِيمَا فَعَلَهُ ضَمِنَ، وَأَمَّا إذَا فَعَلَ مَا ظَاهِرُهُ الْمَصْلَحَةُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِجِنَايَةٍ مِنْ عَامِلِهِ، وَأَمَّا الْعَامِلُ فَإِنْ خَانَ أَوْ فَرَّطَ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ وَإِلَّا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا كَانَ مَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ يُضْمَنُ بِالْفَاسِدِ، وَمَا لَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ، لَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا الْيَمِينُ فِي نَفْيِ الْجِنَايَةِ وَالتَّفْرِيطِ. [مَسْأَلَةٌ مُضَارِب رَفَعَهُ صَاحِبُ الْمَالِ إلَى الْحَاكِمِ] 824 - 46 - مَسْأَلَةٌ: فِي مُضَارِبٍ رَفَعَهُ صَاحِبُ الْمَالِ إلَى الْحَاكِمِ وَطَلَبَ مِنْهُ لِجَمِيعِ الْمَالِ وَحَكَمَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ بِذَلِكَ، فَدَفَعَ إلَيْهِ الْبَعْضَ. وَطَلَبَ مِنْهُ الْإِنْظَارَ بِالْبَاقِي فَأَنْظَرَهُ، وَضَمِنَ عَلَى وَجْهِهِ فَسَافَرَ الْمُضَارِبُ عَنْ الْبَلَدِ مُدَّةً، فَهَلْ تَبْطُلُ الشَّرِكَةُ بِرَفْعِهِ إلَى الْحَاكِمِ وَحُكْمِ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ بِدَفْعِ الْمَبْلَغِ وَإِنْظَارِهِ، وَهَلْ يَضْمَنُ فِي ذِمَّتِهِ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ تَنْفَسِخُ الشَّرِكَةُ بِمُطَالَبَتِهِ الْمَذْكُورَةِ، وَيَضْمَنُ الْمَالَ فِي ذِمَّتِهِ بِالسَّفَرِ الْمَذْكُورِ بِتَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ مَعَ الْإِمْكَانِ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهِ. 825 - 47 - مَسْأَلَةٌ: فِي ضَمَانِ بَسَاتِينَ بِدِمَشْقَ، وَأَنَّ الْجَيْشَ الْمَنْصُورَ لَمَّا كَسَرَ الْعَدُوَّ وَقَدِمَ إلَى دِمَشْقَ وَنَزَلَ فِي الْبَسَاتِينِ رَعَى زَرْعَهُمْ وَغِلَالَهُمْ فَاسْتُهْلِكَتْ الْغِلَالُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَهَلْ لَهُمْ الْإِجَاحَةُ فِي ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: إتْلَافُ الْجَيْشِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ هُوَ مِنْ الْآفَاتِ السَّمَاوِيَّةِ

مسألة ضمان بساتين

كَالْجَرَادِ، وَإِذَا تَلِفَ الزَّرْعُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ قَبْلَ تَمَكُّنِ الْآخَرِ مِنْ حَصَادِهِ، فَهَلْ تُوضَعُ فِيهِ الْجَائِحَةُ كَمَا تُوضَعُ فِي التَّمْرِ الْمُشْتَرَى عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ، أَصَحُّهُمَا وَأَشْبَهُهُمَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَدْلِ: وَضْعُ الْجَائِحَةِ. [مَسْأَلَةٌ ضَمَان بَسَاتِينَ] 826 - 48 - مَسْأَلَةٌ: فِي ضَمَانِ بَسَاتِينَ وَأَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا بِقُدُومِ الْعَدُوِّ الْمَخْذُولِ دَخَلُوا إلَى الْمَدِينَةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ سَبِيلٌ إلَى الْبَسَاتِينِ، وَنُهِبَ زَرْعُهُمْ وَغَلَّتُهُمْ اُسْتُهْلِكَتْ، فَهَلْ لَهُمْ الْإِجَاحَةُ فِي ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: الْخَوْفُ الْعَامُّ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ هُوَ مِنْ الْآفَاتِ السَّمَاوِيَّةِ، وَإِذَا تَلِفَتْ الزُّرُوعُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَهَلْ تُوضَعُ الْجَائِحَةُ فِيهِ كَمَا تُوضَعُ فِي الثَّمَرَةِ كَمَا نَصَّ النَّبِيُّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ حَيْثُ قَالَ النَّبِيُّ: «إذَا بِعْت أَخَاك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَخِيك شَيْئًا بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ» اخْتَلَفُوا فِي الزَّرْعِ إذَا تَلِفَ قَبْلَ تَمَكُّنِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ حَصَادِهِ، هَلْ تُوضَعُ فِيهِ الْجَائِحَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَشْبَهُهُمَا بِالْمَنْصُوصِ وَالْأُصُولِ أَنَّهَا تُوضَعُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [أَعْتَقَتْ جَارِيَةً دُونَ الْبُلُوغِ وَكَتَبَتْ لَهَا أَمْوَالَهَا] 827 - 49 - وَسُئِلَ: عَنْ امْرَأَةٍ أَعْتَقَتْ جَارِيَةً دُونَ الْبُلُوغِ، وَكَتَبَتْ لَهَا أَمْوَالَهَا، وَلَمْ تَزَلْ تَحْتَ يَدِهَا إلَى حَالِ وَفَاتِهَا - أَيْ السَّيِّدَةِ الْمُعْتِقَةِ - وَخَلَّفَتْ وَرَثَةً، فَهَلْ يَصِحُّ تَمْلِيكُهَا لِلْجَارِيَةِ؟ أَمْ لِلْوَرَثَةِ انْتِزَاعُهَا؟ أَوْ بَعْضِهَا؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا مُجَرَّدُ التَّمْلِيكِ بِدُونِ الْقَبْضِ الشَّرْعِيِّ فَلَا يَلْزَمُ بِهِ عَقْدُ الْهِبَةِ؛ بَلْ لِلْوَارِثِ أَنْ يَنْتَزِعَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ هِبَةَ تَلْجِئَةٍ بِحَيْثُ تُوهَبُ فِي الظَّاهِرِ، وَتُقْبَضُ مَعَ اتِّفَاقِ الْوَاهِبِ وَالْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْهُ إذَا شَاءَ، وَنَحْوُ

مسألة الصدقة على المحتاجين

ذَلِكَ مِنْ الْحِيَلِ الَّتِي تَجْعَلُ طَرِيقًا إلَى مَنْعِ الْوَارِثِ أَوْ الْغَرِيمِ حُقُوقَهُمْ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ: كَانَتْ أَيْضًا هِبَةً بَاطِلَةً؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 828 - 50 - وَسُئِلَ: عَمَّنْ أَشْهَدَ عَلَى أَبِيهِ أَنَّ عِنْدَهُ ثَلَاثَمِائَةٍ [فِي] حُجَّةٍ عَنْ فُلَانَةَ، فَقَالَ وَرَثَتُهَا: لَا يَخْرُجُ إلَّا بِثُلُثِهَا، فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ: أُمِّي تَبَرَّعَتْ بِهَا. فَمَا الْحُكْمُ؟ . فَأَجَابَ: مُجَرَّدُ هَذَا الْإِشْهَادِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَالُ تَرِكَةً مُخَلَّفَةً يَسْتَحِقُّ الْوَرَثَةُ ثُلُثَيْهَا؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ مَالِ الْمَرْأَةِ، وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ حُجَّةَ الْإِسْلَامِ الْخَارِجَةَ مِنْ صُلْبِ التَّرِكَةِ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الصَّدَقَة عَلَى الْمُحْتَاجِينَ] 829 - 51 - مَسْأَلَةٌ: فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنْ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ. فَإِنْ كَانَ مَالُ الْإِنْسَانِ لَا يَتَّسِعُ لِلْأَقَارِبِ وَالْأَبَاعِدِ، فَإِنَّ نَفَقَةَ الْقَرِيبِ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، فَلَا يُعْطِي الْبَعِيدُ مَا يَضُرُّ بِالْقَرِيبِ، وَأَمَّا الزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَةُ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا الْقَرِيبُ الَّذِي لَا يُنْفَقُ عَلَيْهِ، وَالْقَرِيبُ أَوْلَى إذَا اسْتَوَتْ الْحَاجَةُ. [مَسْأَلَةٌ تَاجِر يُخْرِج مِنْ زَكَاتِهِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ صِنْفًا يَحْتَاجُ إلَيْهِ] 830 - 52 - مَسْأَلَةٌ: فِي تَاجِرٍ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ زَكَاتِهِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ صِنْفًا يَحْتَاجُ إلَيْهِ؟ وَهَلْ إذَا مَاتَ إنْسَانٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَهُ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِ الْمَيِّتِ إنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلزَّكَاةِ ثُمَّ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْهُ؟ وَهَلْ إذَا أَخْرَجَ زَكَاتَهُ عَلَى أَهْلِ بَلَدٍ آخَرَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ هَلْ يُجْزِئُهُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا أَعْطَاهُ دَرَاهِمَ أَجْزَأَ بِلَا رَيْبٍ. وَأَمَّا إذَا أَعْطَاهُ الْقِيمَةَ فَفِيهِ نِزَاعٌ، هَلْ يَجُوزُ مُطْلَقًا أَوْ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا، أَوْ يَجُوزُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لِلْحَاجَةِ، أَوْ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ، فَإِنْ كَانَ آخِذُ الزَّكَاةِ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا كِسْوَةً فَاشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ لَهُ

مسألة بيع المغشوش الذي يعرف قدر غشه

بِهَا كِسْوَةً وَأَعْطَاهُ فَقَدْ أَحْسَنَ إلَيْهِ، وَأَمَّا إذَا قَوَّمَ هُوَ الثِّيَابَ الَّتِي عِنْدَهُ وَأَعْطَاهَا فَقَدْ يُقَوِّمُهَا بِأَكْثَرَ مِنْ السِّعْرِ، وَقَدْ يَأْخُذُ الثِّيَابَ مَنْ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا، بَلْ يَبِيعُهَا فَيَغْرَمُ أُجْرَةَ الْمُنَادِي، وَرُبَّمَا خَسِرَتْ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ. وَالْأَصْنَافُ الَّتِي يُتَّجَرُ فِيهَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهَا جَمِيعًا دَرَاهِمَ بِالْقِيمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ دَرَاهِمُ فَأَعْطَى ثَمَنَهَا بِالْقِيمَةِ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ وَاسَى الْفُقَرَاءَ فَأَعْطَاهُمْ مِنْ جِنْسِ مَالِهِ، وَأَمَّا الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الْمَيِّتِ فَيَجُوزُ أَنْ يُوَفَّى مِنْ الزَّكَاةِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] وَلَمْ يَقُلْ: وَلِلْغَارِمِينَ، فَالْغَارِمُ لَا يُشْتَرَطُ تَمْلِيكُهُ عَلَى هَذَا، وَهَذَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ عَنْهُ، وَأَنْ يَمْلِكَ لِوَارِثِهِ وَلِغَيْرِهِ وَلَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يُعْطِي لِيَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ بَيْعُ الْمَغْشُوشِ الَّذِي يُعْرَفُ قَدْرُ غِشِّهِ] 831 - 53 - مَسْأَلَةٌ: وَمَا يَقُولُ سَيِّدُنَا فِي النَّسَّاجِينَ إذَا لَبِسُوا نِسَاجَتَهُمْ بِعَجِينٍ أَوْ لُبَابٍ وَبُيِّنَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي هَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا وَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْ لِلْمُشْتَرِي ذَلِكَ فَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى الْمُدَلِّسِ ثَمَنُ ذَلِكَ أَمْ لَا. أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكُمْ. فَأَجَابَ: وَبَيْعُ الْمَغْشُوشِ الَّذِي يُعْرَفُ قَدْرُ غِشِّهِ: إذَا عَرَفَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ وَلَمْ يُدَلِّسْهُ عَلَى غَيْرِهِ جَائِزٌ: كَالْمُعَامَلَةِ بِدَرَاهِمِنَا الْمَغْشُوشَةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ قَدْرُهُ مَجْهُولًا كَاللَّبَنِ الَّذِي يُخْلَطُ بِالْمَاءِ، وَلَا يُقَدَّرُ قَدْرَ الْمَاءِ فَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ مَغْشُوشٌ، وَمَنْ بَاعَ مَغْشُوشًا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا مِقْدَارُ ثَمَنِ الْغِشِّ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ لِصَاحِبِهِ أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ، إنْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ. مِثْلَ مَنْ يَبِيعُ مَعِيبًا مَغْشُوشًا بِعَشَرَةٍ، وَقِيمَتُهُ لَوْ كَانَ سَالِمًا عَشَرَةٌ وَبِالْعَيْبِ قِيمَتُهُ ثَمَانِيَةٌ، فَعَلَيْهِ إنْ عَرَّفَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الدِّرْهَمَيْنِ إنْ اخْتَارَ وَإِلَّا رَدَّ إلَيْهِ الْمَبِيعَ، وَإِنْ لَمْ يُعَرِّفْهُ تَصَدَّقَ عَنْهُ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الشهادة والأقضية والأموال

[كِتَابُ الشَّهَادَةِ وَالْأَقْضِيَةِ وَالْأَمْوَالِ] [مَسْأَلَةٌ الشَّهَادَة عَلَى الْعَاصِي وَالْمُبْتَدِعِ] ِ 832 - 1 - مَسْأَلَةٌ: فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْعَاصِي وَالْمُبْتَدِعِ، هَلْ تَجُوزُ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَالشُّهْرَةِ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ السَّمَاعِ وَالْمُعَايَنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الِاسْتِفَاضَةُ فِي ذَلِكَ كَافِيَةً فَمَنْ ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَمَا وَجْهُ حُجَّتِهِ. وَالدَّاعِي إلَى الْبِدْعَةِ وَالْمُرَجِّحُ لَهَا، هَلْ يَجُوزُ السَّتْرُ عَلَيْهِ أَمْ يَتَأَكَّدُ إشْهَارُهُ لِيَحْذَرَهُ النَّاسُ، وَمَا حَدُّ الْبِدْعَةِ الَّتِي يُعَدُّ فِيهَا الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ؟ الْجَوَابُ: مَا يُجَرَّحُ بِهِ الشَّاهِدُ وَغَيْرُهُ مِمَّا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ وَدِينِهِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ بِهِ إذَا عَلِمَهُ الشَّاهِدُ بِهِ بِالِاسْتِفَاضَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ قَدْحًا شَرْعِيًّا، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ طَوَائِفُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنْبَلِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ فِي كُتُبِهِمْ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، صَرَّحُوا فِيمَا إذَا جُرِّحَ الرَّجُلُ جَرْحًا مُفْسِدًا أَنَّهُ يُجَرِّحُهُ الْجَارِحُ بِمَا سَمِعَهُ مِنْهُ أَوْ رَآهُ وَاسْتَفَاضَ. مَا أَعْلَمُ فِي هَذَا نِزَاعًا بَيْنَ النَّاسِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ يَشْهَدُونَ فِي وَقْتِنَا فِي مِثْلِ عُمَرَ بْنِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَأَمْثَالِهِمَا وَاَلَّذِينَ بِمَا لَمْ يَعْلَمُوهُ إلَّا بِالِاسْتِفَاضَةِ. وَيَشْهَدُونَ فِي مِثْلِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، وَالْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَغَيْلَانَ الْقَدَرِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ الرَّافِضِيِّ، وَنَحْوِهِمْ مِنْ الظُّلْمِ وَالْبِدْعَةِ بِمَا لَا يَعْلَمُونَهُ إلَّا بِالِاسْتِفَاضَةِ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ «النَّبِيِّ: أَنَّهُ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ: وَجَبَتْ وَمُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ: وَجَبَتْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا قَوْلُك وَجَبَتْ قَالَ: هَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقُلْت وَجَبَتْ لَهَا الْجَنَّةُ، وَهَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَرًّا فَقُلْت وَجَبَتْ لَهَا النَّارُ. أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» . هَذَا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ تَفْسِيقَهُ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ وَوِلَايَتِهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ التَّحْذِيرَ مِنْهُ وَاتِّقَاءَ شَرِّهِ، فَيَكْتَفِي بِمَا دُونَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَخْدَانِهِمْ. وَبَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا يَجْتَمِعُ إلَيْهِ الْأَحْدَاثُ فَنَهَى عَنْ مُجَالَسَتِهِ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُخَالِطًا فِي السَّيْرِ لِأَهْلِ الشَّرِّ يُحَذِّرُ عَنْهُ. وَالدَّاعِي إلَى الْبِدْعَةِ مُسْتَحِقٌّ الْعُقُوبَةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَعُقُوبَتُهُ تَكُونُ تَارَةً بِالْقَتْلِ، وَتَارَةً بِمَا دُونَهُ، كَمَا قَتَلَ السَّلَفُ جَهْمَ بْنَ صَفْوَانَ، وَالْجَعْدَ بْنَ دِرْهَمٍ، وَغَيْلَانَ الْقَدَرِيَّ، وَغَيْرَهُمْ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ أَوْ لَا يُمْكِنُ عُقُوبَتُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ بِدْعَتِهِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا، فَإِنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. وَالْبِدْعَةُ الَّتِي يُعَدُّ بِهَا الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مَا اشْتَهَرَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ مُخَالَفَتُهَا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: كَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ، وَالرَّوَافِضِ، وَالْقَدَرِيَّةِ، وَالْمُرْجِئَةِ، فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ، وَيُوسُفَ بْنَ أَسْبَاطٍ، وَغَيْرَهُمَا قَالُوا: أُصُولُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً هِيَ أَرْبَعٌ. الْخَوَارِجُ، وَالرَّوَافِضُ، وَالْقَدَرِيَّةُ، وَالْمُرْجِئَةُ. قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: فَالْجَهْمِيَّةُ؟

مسألة الأقضية هل هي مقتضية الحكمة أم لا

قَالَ: لَيْسَتْ الْجَهْمِيَّةُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ. وَالْجَهْمِيَّةُ نُفَاةُ الصِّفَاتِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَى اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا حَيَاةَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْمُتَفَلْسِفَةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: هُمَا صِنْفَانِ، فَاحْذَرْهُمَا: الْجَهْمِيَّةُ وَالرَّافِضَةُ. فَهَذَانِ الصِّنْفَانِ شِرَارُ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَمِنْهُمْ دَخَلَتْ الْقَرَامِطَةُ الْبَاطِنِيَّةُ كَالنُّصَيْرِيَّةِ، وَالْإِسْمَاعِيلِيَّة، وَمِنْهُمْ اتَّصَلَتْ الِاتِّحَادِيَّةُ، فَإِنَّهُمْ مِنْ جِنْسِ الطَّائِفَةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ. وَالرَّافِضَةُ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ مَعَ الرَّفْضِ جَهْمِيَّةٌ قَدَرِيَّةٌ، فَإِنَّهُمْ ضَمُّوا إلَى الرَّفْضِ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ، ثُمَّ قَدْ يَخْرُجُونَ إلَى مَذْهَبِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالِاتِّحَادِ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْأَقْضِيَة هَلْ هِيَ مُقْتَضِيَةُ الْحِكْمَةِ أَمْ لَا] 833 - 2 - مَسْأَلَةٌ: فِي الْأَقْضِيَةِ، هَلْ هِيَ مُقْتَضِيَةُ الْحِكْمَةِ أَمْ لَا؟ فَإِذَا كَانَتْ مُقْتَضِيَةَ الْحِكْمَةِ أَرَادَ رَبُّك مِنْ النَّاسِ مَا هُمْ فَاعِلُوهُ. وُجُوبُ الْقَدَرِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَدْ أَحَاطَ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَقُدْرَةً وَحُكْمًا، وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، فَمَا مِنْ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي إلَّا وَهُوَ شَاهِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِتَمَامِ الْعِلْمِ وَالرَّحْمَةِ. وَكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ. وَمَا خَلَقَ الْخَلْقَ بَاطِلًا وَلَا فَعَلَ شَيْئًا عَبَثًا، بَلْ هُوَ الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ مِنْ حِكْمَتِهِ مَا أَطْلَعَ خَلْقَهُ بَعْضَهُمْ - وَمِنْهُ مَا اسْتَأْثَرَ سُبْحَانَهُ بِعِلْمِهِ. وَإِرَادَتُهُ قِسْمَانِ: إرَادَةُ أَمْرٍ وَتَشْرِيعٍ، وَإِرَادَةُ قَضَاءٍ وَتَقْدِيرٍ.

فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالطَّاعَاتِ دُونَ الْمَعَاصِي، سَوَاءٌ وَقَعَتْ أَوْ لَمْ تَقَعْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 26] وَقَوْلِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ إرَادَةُ التَّقْدِيرِ فَهِيَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، مُحِيطَةٌ بِجَمِيعِ الْحَادِثَاتِ، وَقَدْ أَرَادَ مِنْ الْعَالِمِ مَا هُمْ فَاعِلُوهُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125] وَفِي قَوْلِهِ: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ} [هود: 34] . وَفِي قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ تَتَنَاوَلُ مَا حَدَثَ مِنْ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي دُونَ مَا لَمْ يَحْدُثْ، كَمَا أَنَّ الْأُولَى تَتَنَاوَلُ الطَّاعَاتِ، حَدَثَتْ أَوْ لَمْ تَحْدُثْ، وَالسَّعِيدُ مَنْ أَرَادَ مِنْهُ تَشْرِيعًا مَا أَرَادَ بِهِ تَقْدِيرًا. وَالْعَبْدُ الشَّقِيُّ مَنْ أَرَادَ بِهِ تَقْدِيرًا مَا أَرَادَ بِهِ تَشْرِيعًا، وَالْحُكْمُ يَجْرِي عَلَى وَفْقِ هَاتَيْنِ الْإِرَادَتَيْنِ. فَمَنْ نَظَرَ إلَى الْأَعْمَالِ بِهَاتَيْنِ الْعَيْنَيْنِ كَانَ بَصِيرًا، وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْقَدَرِ دُونَ الشَّرْعِ، أَوْ الشَّرْعِ دُونَ الْقَدَرِ، كَانَ أَعْوَرَ، مِثْلَ قُرَيْشٍ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]

فَإِنَّ هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا أَنَّ كُلَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وُجُودَهُ وَكَوْنَهُ، وَهِيَ الْإِرَادَةُ الْقَدَرِيَّةُ، فَقَدْ أَمَرَ بِهِ وَرَضِيَهُ دُونَ الْإِرَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ ثُمَّ رَأَوْا أَنَّ شِرْكَهُمْ بِغَيْرِ شَرْعٍ مِمَّا قَدْ شَاءَ اللَّهُ وُجُودَهُ، قَالُوا فَيَكُونُ قَدْ رَضِيَهُ وَأَمَرَ بِهِ، قَالَ اللَّهُ: هَكَذَا كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بِالشَّرَائِعِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا، قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا بِأَنَّ اللَّهَ شَرَعَ الشِّرْكَ وَتَحْرِيمَ مَا حَرَّمْتُوهُ، إنْ تَتَّبِعُونَ فِي هَذَا إلَّا الظَّنَّ، وَهُوَ تَوَهُّمُكُمْ أَنَّ كُلَّ مَا قَدَّرَهُ فَقَدْ شَرَّعَهُ، وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ، أَيْ تَكْذِبُونَ وَتَفْرُونَ بِإِبْطَالِ شَرِيعَتِهِ. {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] عَلَى خَلْقِهِ حِينَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ إلَيْهِمْ فَدَعَوْهُمْ إلَى تَوْحِيدِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَمَعَ هَذَا فَلَوْ شَاءَ هَدَى الْخَلْقَ أَجْمَعِينَ إلَى مُتَابَعَةِ شَرِيعَتِهِ، لَكِنَّهُ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَيَهْدِيهِ فَضْلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا، وَيَحْرِمُ مَنْ يَشَاءُ؛ لِأَنَّ الْمُتَفَضِّلَ لَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ وَلَهُ أَنْ لَا يَتَفَضَّلَ، فَتَرْكُ تَفَضُّلِهِ عَلَى، مَنْ حَرَمَهُ عَدْلٌ مِنْهُ وَقِسْطٌ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَهُوَ يُعَاقِبُ الْخَلْقَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَإِرَادَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَإِرَادَتُهُ الْقَدَرِيَّةُ، فَإِنَّ الْقَدَرَ كَمَا جَرَى بِالْمَعْصِيَةِ جَرَى أَيْضًا بِعِقَابِهَا، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ يُقَدِّرُ عَلَى الْعَبْدِ أَمْرَاضًا تُعْقِبُهُ آلَامًا فَالْمَرَضُ بِقَدَرِهِ وَالْأَلَمُ بِقَدَرِهِ. فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: قَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِرَادَةُ بِالذَّنْبِ فَلَا أُعَاقَبُ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْمَرِيضِ: قَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِرَادَةُ بِالْمَرَضِ فَلَا أَتَأَلَّمُ، أَوْ قَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِرَادَةُ بِأَكْلِ الْحَارِّ فَلَا يُحَمُّ مِزَاجِي، أَوْ قَدْ تَقَدَّمَتْ بِالضَّرْبِ فَلَا يَتَأَلَّمُ الْمَضْرُوبُ، وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ جَهْلٌ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُ، بَلْ اعْتِلَالُهُ بِالْقَدَرِ ذَنْبٌ ثَانٍ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا اعْتَلَّ بِالْقَدَرِ إبْلِيسُ حَيْثُ قَالَ: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [الحجر: 39] . وَأَمَّا آدَم فَقَالَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] . فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ سَعَادَتَهُ أَلْهَمَهُ أَنْ يَقُولَ كَمَا قَالَ آدَم، أَوْ نَحْوُهُ، وَمَنْ أَرَادَ شَقَاوَتَهُ اعْتَلَّ بِعِلَّةِ إبْلِيسَ، أَوْ نَحْوِهَا، فَيَكُونُ كَالْمُسْتَجِيرِ مِنْ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ. وَمَثَلُهُ مَثَلُ رَجُلٍ طَارَ إلَى دَارِهِ شَرَارَةُ نَارٍ، فَقَالَ لَهُ الْعُقَلَاءُ: أَطْفِئْهَا لِئَلَّا تَحْرِقَ

مسألة كفارة اليمين

الْمَنْزِلَ، فَأَخَذَ يَقُولُ: مِنْ أَيْنَ كَانَتْ، هَذِهِ رِيحٌ أَلْقَتْهَا وَأَنَا لَا ذَنْبَ لِي فِي هَذِهِ النَّارِ، فَمَا زَالَ يَتَعَلَّلُ حَتَّى انْتَشَرَتْ وَانْتَثَرَتْ الدَّارَ وَمَا فِيهَا، هَذِهِ حَالُ مَنْ شَرَعَ يُحِيلُ الذُّنُوبَ عَلَى الْمَقَادِيرِ. وَلَا يَرُدُّهَا بِالِاسْتِغْفَارِ وَالْمَعَاذِيرِ. بَلْ حَالُهُ أَسْوَأُ مِنْ زَلَّاتِ الذَّنْبِ، فَعَلَهُ إنْ كَانَ اللَّهَ. بِخِلَافِ الشَّرَرَةِ فَإِنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ فِيهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يُوَفِّقُنَا وَإِيَّاكُمْ وَسَائِرَ إخْوَانِنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَلَا تُنَالُ طَاعَتُهُ إلَّا بِمَعُونَتِهِ، وَتُتْرَكُ مَعْصِيَتُهُ إلَّا بِعِصْمَتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ] 834 - 3 مَسْأَلَةٌ: فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. الْجَوَابُ: قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: كَفَّارَةُ الْيَمِينِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، قَالَ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] . فَمَتَى كَانَ وَاحِدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِإِحْدَى الثَّلَاثِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثِهِ أَيَّامٍ، وَإِذَا اخْتَارَ أَنْ يُطْعِمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ فَلَهُ ذَلِكَ، وَمِقْدَارُ مَا يُطْعِمُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ إطْعَامَهُمْ هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ أَوْ بِالْعُرْفِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ وَهَؤُلَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُطْعِمُ كُلَّ وَاحِدٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَشَعِيرٍ، أَوْ رُبُعَ صَاع مِنْ بُرٍّ، وَهُوَ مُدٌّ كَقَوْلِ أَحْمَدَ وَطَائِفَةٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ يُجْزِئُ فِي الْجَمِيعِ مُدٌّ مِنْ الْجَمِيعِ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ بِالْعُرْفِ، لَا بِالشَّرْعِ، فَيُطْعِمُ أَهْلَ كُلِّ بَلَدٍ مِنْ

أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُونَ أَهْلِيهِمْ قَدْرًا وَنَوْعًا. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ مَالِكٌ يَرَى فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنَّ الْمُدَّ يُجْزِئُ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ مَالِكٌ: وَأَمَّا الْبُلْدَانُ فَإِنَّ لَهُمْ عَيْشًا غَيْرَ عَيْشِنَا فَأَرَى أَنْ يُكَفِّرُوا بِالْوَسَطِ مِنْ عَيْشِهِمْ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ مُطْلَقًا. وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ هَذَا الْقَوْلُ، وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ الْأَوْسَطُ خُبْزٌ وَلَبَنٌ، خُبْزٌ وَسَمْنٌ، وَخُبْزٌ وَتَمْرٌ. وَالْأَعْلَى خُبْزٌ وَلَحْمٌ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْآثَارَ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ، وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَأُصُولِهِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ أَنَّ مَا لَمْ يُقَدِّرْهُ الشَّارِعُ فَإِنَّهُ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، وَهَذَا لَمْ يُقَدِّرْهُ الشَّارِعُ فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْله تَعَالَى {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] فَإِنَّ أَحْمَدَ لَا يُقَدِّرُ طَعَامَ الْمَرْأَةِ وَالْوَلَدِ وَلَا الْمَمْلُوكِ وَلَا يُقَدِّرُ أُجْرَةَ الْأَجِيرِ الْمُسْتَأْجَرِ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ، وَلَا يُقَدِّرُ الضِّيَافَةَ الْوَاجِبَةَ عِنْدَهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَا يُقَدِّرُ الضِّيَافَةَ الْمَشْرُوطَةَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ. هَذَا مَعَ أَنَّ هَذِهِ وَاجِبَةٌ بِالشَّرْطِ، فَكَيْفَ يُقَدِّرُ طَعَامًا وَاجِبًا بِالشَّرْعِ، بَلْ وَلَا يُقَدِّرُ الْجِزْيَةَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَلَا الْخَرَاجَ، وَلَا يُقَدِّرُ أَيْضًا الْأَطْعِمَةَ الْوَاجِبَةَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ وَجَبَتْ بِشَرْعٍ أَوْ شَرْطٍ، وَلَا غَيْرَ الْأَطْعِمَةِ مِمَّا وَجَبَتْ مُطْلَقًا، فَطَعَامُ الْكَفَّارَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يُقَدَّرَ. وَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ: فَمَالُهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ أَوْ اللُّغَةِ رَجَعَ فِي ذَلِكَ إلَيْهِمَا، وَمَا لَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِيهِمَا رَجَعَ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، وَلِهَذَا لَا يُقَدِّرُ لِلْعُقُودِ أَلْفَاظًا، بَلْ أَصْلُهُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ جِنْسِ أَصْلِ مَالِكٍ، كَمَا أَنَّ قِيَاسَ مَذْهَبِهِ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ نِصْفَ

صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ كَلَامُهُ أَيْضًا كَمَا قَدْ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ تَقْدِيرَ ذَلِكَ بِالصَّاعِ كَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأُدْمِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يُطْعِمُ أَهْلَهُ، بِأُدْمٍ أَطْعَمَ الْمَسَاكِينَ بِأُدْمٍ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يُطْعِمُهُمْ بِلَا أُدْمٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يُفَضِّلَ الْمَسَاكِينَ عَلَى أَهْلِهِ، بَلْ يُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ. وَعَلَى هَذَا فَمِنْ الْبِلَادِ مَنْ يَكُونُ أَوْسَطُ طَعَامِ أَهْلِهِ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ، كَمَا يُقَالُ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَإِذَا صَنَعَ خُبْزًا جَاءَ نَحْوَ رِطْلَيْنِ بِالْعِرَاقِيِّ، وَهُوَ بِالدِّمَشْقِيِّ خَمْسَةُ أَوَاقٍ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ أُوقِيَّةٍ، فَإِنْ جَعَلَ بَعْضَهُ أُدْمًا كَمَا جَاءَ عَنْ السَّلَفِ كَانَ الْخُبْزُ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوَاقٍ، وَهَذَا لَا يَكْفِي أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَمْصَارِ. فَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يُطْعِمُ فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا: إمَّا مُدَّانِ أَوْ مُدٌّ وَنِصْفٌ عَلَى قَدْرِ طَعَامِهِمْ، فَيُطْعِمُ مِنْ الْخُبْزِ إمَّا نِصْفُ رِطْلٍ بِالدِّمَشْقِيِّ، وَإِمَّا ثُلُثَا رِطْلٍ، وَإِمَّا رِطْلٌ، وَإِمَّا أَكْثَرُ، إمَّا مَعَ الْأُدْمِ، وَإِمَّا بِدُونِ الْأُدْمِ عَلَى قَدْرِ عَادَتِهِمْ فِي الْأَكْلِ فِي وَقْتٍ. فَإِنَّ عَادَةَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ بِالرُّخْصِ، وَالْغَلَاءِ، وَالْيَسَارِ، وَالْإِعْسَارِ، وَتَخْتَلِفُ بِالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَإِذَا حُسِبَ مَا يُوجِبُهُ أَبُو حَنِيفَةَ خُبْزًا كَانَ رِطْلًا وَثُلُثًا بِالدِّمَشْقِيِّ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ نِصْفَ صَاعٍ عِنْدَهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ. وَأَمَّا مَا يُوجِبُهُ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ فَيُوجِبُ صَاعًا ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ، وَذَلِكَ بِقَدْرِ مَا يُوجِبُهُ الشَّافِعِيُّ سِتَّ مَرَّاتٍ، وَهُوَ بِقَدْرِ مَا يُوجِبُهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَتِهِمْ فَقَدْ يُجْزِئُ فِي بَلَدٍ مَا أَوْجَبَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَفِي بَلَدٍ مَا أَوْجَبَهُ أَحْمَدُ، وَفِي بَلَدٍ آخَرَ مَا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا عَلَى حَسَبِ عَادَتِهِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]

وَإِذَا جَمَعَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ وَعَشَّاهُمْ خُبْزًا أَوْ أُدْمًا مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ، أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي الدَّلِيلِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْإِطْعَامِ لَمْ يُوجِبْ التَّمْلِيكَ، وَهَذَا إطْعَامٌ حَقِيقَةً، وَمَنْ أَوْجَبَ التَّمْلِيكَ احْتَجَّ بِحُجَّتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ الطَّعَامَ الْوَاجِبَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ، وَلَا يَعْلَمُ إذَا أَكَلُوا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَأْكُلُ قَدْرَ حَقِّهِ وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ بِالتَّمْلِيكِ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ مَعَ الْإِطْعَامِ. وَجَوَابُ الْأُولَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ، وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِهِ. فَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ إذَا أَشْبَعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَدَّاهُ وَعَشَّاهُ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ قَدْ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ قَدْرَ حَقِّهِ وَأَكْثَرَ. وَأَمَّا التَّصَرُّفُ بِمَا شَاءَ، فَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ إنَّمَا أَوْجَبَ الْإِطْعَامَ، وَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَأَوْجَبَ مَالًا مِنْ النَّقْدِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ. وَالزَّكَاةُ إنَّمَا أَوْجَبَ فِيهَا التَّمْلِيكَ، لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا بِاللَّامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] . وَلِهَذَا حَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ التَّصَرُّفَ بِحَرْفِ الظَّرْفِ كَقَوْلِهِ: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] . فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّمْلِيكُ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُعْتِقَ مِنْ الزَّكَاةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَمْلِيكًا لِلْمُعْتِقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهَا سِلَاحًا يُعِينُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ: الْإِطْعَامُ أَوْلَى مِنْ التَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّ الْمُمَلَّكَ قَدْ يَبِيعُ مَا أَعْطَيْته وَلَا يَأْكُلُهُ، بَلْ قَدْ يَكْنِزُهُ، فَإِذَا أَطْعَمَ الطَّعَامَ حَصَلَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ قَطْعًا. وَغَايَةُ مَا يُقَالُ أَنَّ التَّمْلِيكَ قَدْ يُسَمَّى إطْعَامًا كَمَا يُقَالُ أَطْعَمَ رَسُولُ اللَّهِ الْجَدَّةَ السُّدُسَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا أَطْعَمَ اللَّهُ نَبِيًّا طُعْمَةً إلَّا كَانَتْ لِمَنْ يَلِي الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ» .

مسألة تصرفات السكران

لَكِنْ يُقَالُ لَا رَيْبَ أَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ الْإِطْعَامَ الْمَعْرُوفَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَلِأَنَّ ذَاكَ إنَّمَا يُقَالُ إذَا ذَكَرَ الْمُطْعَمَ فَيُقَالُ أَطْعَمَهُ كَذَا، فَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ وَقِيلَ أَطْعَمَ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينَ، فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا نَفْسُ الْإِطْعَامِ، لَكِنْ لَمَّا كَانُوا يَأْكُلُونَ مَا يَأْخُذُونَهُ سُمِّيَ التَّمْلِيكُ لِلطَّعَامِ إطْعَامًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِطْعَامُ، أَمَّا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مَصْرِفًا غَيْرَ الْأَكْلِ فَهَذَا لَا يُسَمَّى إطْعَامًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. [مَسْأَلَةٌ تَصَرُّفَاتِ السَّكْرَانِ] 835 - 4 مَسْأَلَةٌ: فِي تَصَرُّفَاتِ السَّكْرَانِ قَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَفِيهِ النِّزَاعُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَجْوِبَةِ أَحْمَدَ فِيهِ كَانَ التَّوَقُّفُ وَالْأَقْوَالُ الْوَاقِعَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ تَصَرُّفَاتِهِ مُطْلَقًا أَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ، وَالْقَوْلَ بِفَسَادِهَا مُطْلَقًا، وَالْفَرْقَ بَيْنَ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا، وَالْفَرْقَ بَيْنَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، وَالْفَرْقَ بَيْنَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ وَمَا لَا يَنْفَرِدُ بِهِ، وَهَذَا التَّنَازُعُ مَوْجُودٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ تَنَازَعُوا فِيمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِغَيْرِ سُكْرٍ: كَالْبَنْجِ، هَلْ يُلْحَقُ بِالسَّكْرَانِ أَوْ الْمَجْنُونِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَكُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ يَتَمَسَّكُ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ كَلَامِهِ وَلَيْسَ عَنْهُ رِوَايَةٌ وَوَجْهٌ، بَلْ رِوَايَتَانِ مُتَأَوَّلَتَانِ. وَتَنَازَعُوا فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ هَلْ يَأْثَمُ بِذَلِكَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَمِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ كَالْخَلَّالِ مَنْ يَنْصُرُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ طَلَاقُهُ، وَمِنْهُمْ كَالْقَاضِي مَنْ يَنْصُرُ وُقُوعَ طَلَاقِهِ، وَاَلَّذِينَ أَوْقَعُوا طَلَاقَهُ لَهُمْ ثَلَاثَةُ مَآخِذَ. أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ لَهُ، وَصَاحِبُ هَذَا قَدْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تُعَاقِبْ أَحَدًا بِهَذَا الْجِنْسِ مِنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ أَوْ عَدَمِ إيقَاعِهِ. وَلِأَنَّ فِي هَذَا مِنْ الضَّرَرِ عَلَى زَوْجَتِهِ الْبَرِيئَةِ وَغَيْرِهَا مَا لَا يَجُوزُ. فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ الشَّخْصُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ السَّكْرَانَ عُقُوبَتُهُ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ الْجَلْدِ وَنَحْوِهِ، فَعُقُوبَتُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِحُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا عَاقَبَتْهُ بِمَا السُّكْرُ مَظِنَّتُهُ وَهُوَ الْهَذَيَانُ وَالِافْتِرَاءُ فِي الْقَوْلِ، عَلَى أَنَّهُ إذَا سَكِرَ هَذَى،

وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ، فَبَيَّنَ أَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى السُّكْرِ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الِافْتِرَاءِ يُلْحِقُهُ بِالْمُقْدِمِ عَلَى الِافْتِرَاءِ، وَإِقَامَةٌ لِمَظِنَّةِ الْحِكْمَةِ مَقَامَ الْحَقِيقِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ هُنَا خَفِيَّةٌ مُنْتَشِرَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُعْلَمُ افْتِرَاؤُهُ، وَلَا مَتَى يَفْتَرِي، وَلَا عَلَى مَنْ يَفْتَرِي. كَمَا أَنَّ الْمُضْطَجِعَ يُحْدِثُ وَلَا يَدْرِي هَلْ أَحْدَثَ أَمْ لَا، فَقَامَ النَّوْمُ مَقَامَ الْحَدَثِ، فَهَذَا فِقْهٌ مَعْرُوفٌ، فَلَوْ كَانَتْ تَصَرُّفَاتُهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَطْلُقَ امْرَأَتُهُ، سَوَاءٌ طَلَّقَ أَوْ لَمْ يُطَلِّقْ، كَمَا يُحَدُّ حَدَّ الْمُفْتَرِي، سَوَاءٌ افْتَرَى أَوْ لَمْ يَفْتَرِ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ. الْمَأْخَذُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ زَوَالُ عَقْلِهِ إلَّا بِقَوْلِهِ، وَهُوَ فَاسِقٌ بِشُرْبِهِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي عَدَمِ الْعَقْلِ وَالسُّكْرِ، وَحَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْبَاطِنِ، وَلَكِنْ فِي الظَّاهِرِ لَا يُقْبَلُ دَعْوَى الْمُسْقِطِ. وَمَنْ قَالَ هَذَا قَدْ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ. الْمَأْخَذُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَأْخَذُ الْأَئِمَّةِ مَنْصُوصًا عَنْهُمْ، الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ أَنَّ حُكْمَ التَّكْلِيفِ جَارٍ عَلَيْهِ لَيْسَ كَالْمَجْنُونِ الْمَرْفُوعِ عَنْهُ الْقَلَمُ، وَلَا النَّائِمِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْ الْمَجْنُونِ، وَالسَّكْرَانُ مُعَاقَبٌ كَمَا ذَكَرَهُ الصَّحَابَةُ، وَلَيْسَ مَأْخَذٌ أَجْوَدَ مِنْ هَذَا. وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ مَا قِيلَ فِيهِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ وَقْتَ السُّكْرِ يُؤْمَرُ وَيُنْهَى، فَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا يَفْهَمُ الْخِطَابَ لَمْ يَدْرِ بِشَرْعٍ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ يُؤْمَرُ وَيُنْهَى، بَلْ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ تَنْفِي أَنْ يُخَاطَبَ مِثْلُ هَذَا، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ قَدْ يُؤَاخَذُ بِمَا يَفْعَلُهُ فِي سُكْرِهِ، فَهَذَا صَحِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّ هَذَا؛ خُوطِبَ فِي صَحْوِهِ، بِأَنْ لَا يَشْرَبَ الْخَمْرَ الَّذِي يَقْتَضِي تِلْكَ الْجِنَايَاتِ، فَإِذَا فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا فِيمَا فَعَلَهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ، كَمَا قُلْت فِي سُكْرِ الْأَحْوَالِ الْبَاطِنَةِ إذَا كَانَ سَبَبُ السُّكْرِ مَحْذُورًا لَمْ يَكُنْ السَّكْرَانُ مَعْذُورًا. هَذَا الَّذِي قُلْته قَدْ يَقْتَضِي أَنَّهُ فِي الْحُدُودِ كَالصَّاحِي، وَهَذَا قَرِيبٌ، وَأَنَا إنَّمَا تَكَلَّمْت عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ صِحَّتِهَا وَفَسَادِهَا. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فَهُوَ نَهْيٌ لَهُمْ أَنْ

يَسْكَرُوا سُكْرًا يُفَوِّتُونَ بِهِ الصَّلَاةَ، أَوْ نَهْيٌ لَهُمْ عَنْ الشُّرْبِ قَرِيبَ الصَّلَاةِ أَوْ نَهْيٌ لِمَنْ يَدِبُّ فِيهِ أَوَائِلُ النَّشْوَةِ. وَأَمَّا فِي حَالِ السُّكْرِ فَلَا يُخَاطَبُ بِحَالٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاسْتِنْكَاهِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ. الثَّانِي: أَنَّ عِبَادَتَهُ كَالصَّلَاةِ لَا تَصِحُّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ اللَّهَ نَهَى عَنْ قُرْبِ الصَّلَاةِ مَعَ السُّكْرِ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقُولُهُ، وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى هَذَا بِخِلَافِ الشَّارِبِ غَيْرِ السَّكْرَانِ، فَإِنَّ عِبَادَتَهُ تَصِحُّ بِشُرُوطِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ صَلَاتَهُ إنَّمَا لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، فَنَقُولُ: كُلُّ مَنْ بَطَلَتْ عِبَادَتُهُ لِعَدَمِ عَقْلِهِ، فَبُطْلَانُ عُقُودِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى كَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّهُ قَدْ تَصِحُّ عِبَادَاتُ مَنْ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ لِنَقْصِ عَقْلِهِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ جَمِيعَ الْأَقْوَالِ وَالْعُقُودِ مَشْرُوطَةٌ بِوُجُودِ التَّمْيِيزِ وَالْعَقْلِ، فَمَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهُ وَلَا عَقْلَ لَيْسَ لِكَلَامِهِ فِي الشَّرْعِ اعْتِبَارٌ أَصْلًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» . فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ قَدْ زَالَ عَقْلُهُ الَّذِي بِهِ يَتَكَلَّمُ وَيَتَصَرَّفُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، أَوْ إثْبَاتُ مِلْكٍ، أَوْ إزَالَةٌ؟ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ مَعَ تَقْرِيرِ الشَّارِعِ لَهُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْعُقُودَ وَغَيْرَهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَشْرُوطَةٌ بِالْمَقْصُودِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَقَدْ قُرِّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي كِتَابِ: (بَيَانُ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ) وَقَرَّرَتْ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ لِسَهْوٍ وَسَبْقِ لِسَانٍ أَوْ عَدَمِ عَقْلٍ، فَإِنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ. وَأَمَّا إذَا قُصِدَ اللَّفْظُ وَلَمْ يُقْصَدْ مَعْنَاهُ: كَالْهَازِلِ، فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ. وَالْمُرَادُ هُنَا بِالْقَصْدِ: الْعَقْلُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْعَقْلِ، فَأَمَّا الْقَصْدُ الْحَيَوَانِيُّ

الَّذِي يَكُونُ لِكُلِّ حَيَوَانٍ، فَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي وُجُودِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْأَفْعَالِ، وَهَذَا وَحْدَهُ غَيْرُ كَافٍ فِي صِحَّةِ الْعُقُودِ وَالْأَقْوَالِ، فَإِنَّ الْمَجْنُونَ وَالصَّبِيَّ وَغَيْرَهُمَا لَهُمَا هَذَا الْقَصْدُ كَمَا هُوَ لِلْبَهَائِمِ، وَمَعَ هَذَا فَأَصْوَاتُهُمْ وَأَلْفَاظُهُمْ بَاطِلَةٌ مَعَ عَدَمِ التَّمْيِيزِ، لَكِنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ وَالْمَجْنُونَ الَّذِي يُمَيِّزُ أَحْيَانَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ حِينَ التَّمْيِيزِ. الْخَامِسُ: أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْأَخْبَارِ، لَا مِنْ بَابِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ السَّكْرَانِ مُعَاقَبًا، أَوْ غَيْرَ مُعَاقَبٍ، لَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِصِحَّةِ عُقُودِهِ وَفَسَادِهَا، فَإِنَّ الْعُقُودَ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُثَابُ عَلَيْهَا، وَلَا الْجِنَايَاتِ الَّتِي يُعَاقَبُ عَلَيْهَا، بَلْ هِيَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ وُجُوبِ الْخُلُقِ، فَإِنَّ الْعُهُودَ وَالْوَفَاءَ بِهَا أَمْرٌ لَا يَتِمُّ مَصْلَحَةُ الْآدَمِيِّينَ إلَّا بِهَا، لِاحْتِيَاجِ بَعْضِ النَّاسِ إلَى بَعْضٍ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، وَإِنَّمَا تَصْدُرُ عَنْ الْعَقْلِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَقْلٌ وَلَا تَمْيِيزٌ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَاهَدَ، وَلَا حَلَفَ، وَلَا بَاعَ، وَلَا نَكَحَ، وَلَا طَلَّقَ، وَلَا أَعْتَقَ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَانَ كَلَامُ السَّكْرَانِ بَاطِلًا بِالِاتِّفَاقِ، وَلِهَذَا لَمَّا تَكَلَّمَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي سُكْرِهِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ: وَهَلْ أَنْتُمْ إلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي، لَمْ يَكُنْ مُؤَاخَذٌ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَمَّا خَلَطَ الْمُخْلِطُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] قَبْلَ النَّهْيِ لَمْ يُعْتَبْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ لَوْ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَعَاهَدُوا وَشَرَطُوا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَنْ سَكِرَ سُكْرًا لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ مِثْلَ أَنْ يَشْرَبَ مَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُسْكِرُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَأَمَّا مَنْ سَكِرَ بِشُرْبٍ مُحَرَّمٍ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَأْثَمُ بِذَلِكَ وَيَسْتَحِقُّ مِنْ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا جَاءَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى. فَهَذَا الْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ سَكِرَ سُكْرًا يُعْذَرُ فِيهِ، فَأَمَّا كَوْنُ عَهْدِهِ الَّذِي يُعَاهِدُ بِهِ الْآدَمِيِّينَ مُنْعَقِدًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ، وَيَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُهُ، فَهَذَا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ سُكْرِ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ؛ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا كَانَ الْمُوجِبُ لِصِحَّتِهِ أَنَّ صَاحِبَهُ فَعَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ مُمَيِّزٌ، لَا أَنَّهُ بَرٌّ وَفَاجِرٌ، وَالشَّرْعُ لَمْ يَجْعَلْ السَّكْرَانَ بِمَنْزِلَةِ الصَّاحِي أَصْلًا.

مسألة جماعة اشتركوا شركة الأبدان بغير رضا بعضهم

هَذَا آخِرُ مَا وُجِدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْكَلَامِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ جَمَاعَةٍ اشْتَرَكُوا شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ بِغَيْرِ رِضَا بَعْضِهِمْ] 836 - 5 سُئِلَ: أَيْضًا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ جَمَاعَةٍ اشْتَرَكُوا شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ بِغَيْرِ رِضَا بَعْضِهِمْ، وَعَمِلُوا عَمَلًا مُجْتَمِعِينَ فِيهِ، وَعَمَلًا مُتَفَرِّقِينَ فِيهِ، فَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ الشَّرِكَةُ، وَمَا يَسْتَحِقُّ كُلٌّ مِنْهُمْ مِنْ أُجْرَةِ مَا عَمِلَ، وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ لَا عَمَلَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَةً عَنْ عَمَلِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَا مَنْ عَمِلَ. أَجَابَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ الَّتِي تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِكَا فِيمَا يَتَقَبَّلَانِ مِنْ الْعَمَلِ فِي ذِمَّتِهِمَا: كَأَهْلِ الصِّنَاعَاتِ مِنْ الْخِيَاطَةِ، وَالتِّجَارَةِ، وَالْحِيَاكَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الَّذِينَ تُقَدَّرُ أُجْرَتُهُمْ بِالْعَمَلِ لَا بِالزَّمَانِ، وَيُسَمَّى الْأَجِيرُ الْمُشْتَرِكَ، وَيَكُونُ الْعَمَلُ فِي ذِمَّةِ أَحَدِهِمْ بِحَيْثُ يَسُوغُ لَهُ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ أَنْ يَعْمَلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ. وَالْعَمَلُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ كَدُيُونِ الْأَعْيَانِ، لَيْسَ وَاجِبًا عَلَى عَيْنِهِ كَالْأَجِيرِ الْخَاصِّ، فَهَؤُلَاءِ جَوَّزَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ اشْتِرَاكَهُمْ كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِجَاهِهِ شَيْئًا لَهُ وَلِشَرِيكِهِ كَمَا يَتَقَبَّلُ الشَّرِيكُ الْعَمَلَ لَهُ وَلِشَرِيكِهِ. قَالُوا: وَهَذِهِ الشَّرِكَةُ مَبْنَاهَا عَلَى الْوَكَالَةِ: فَكُلٌّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ بِالْمِلْكِ، وَلِشَرِيكِهِ بِالْوَكَالَةِ، وَلَمْ يُجَوِّزْهَا الشَّافِعِيُّ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ، وَهُوَ أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الشَّرِكَةُ شَرِكَةَ الْأَمْلَاكِ خَاصَّةً، فَإِذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي مَالٍ كَانَ لَهُمَا نَمَاؤُهُ وَعَلَيْهِمَا غُرْمُهُ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ شَرِكَةُ الْعِنَانِ مَعَ اخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَالَيْنِ، وَلَا يُجَوِّزُهَا إلَّا مَعَ خَلْطِ الْمَالَيْنِ. وَلَا يَجْعَلُ الرِّبْحَ إلَّا عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ. وَالْجُمْهُورُ يُخَالِفُونَهُ فِي هَذَا وَيَقُولُونَ: الشَّرِكَةُ نَوْعَانِ: شَرِكَةُ أَمْلَاكٍ، وَشَرِكَةُ عُقُودٍ، وَشَرِكَةُ الْعُقُودِ أَصْلًا لَا تَفْتَقِرُ إلَى شَرِكَةِ الْأَمْلَاكِ، كَمَا أَنَّ شَرِكَةَ الْأَمْلَاكِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى شَرِكَةِ الْعُقُودِ. وَإِنْ كَانَا قَدْ يَجْتَمِعَانِ.

وَالْمُضَارَبَةُ شَرِكَةُ عُقُودٍ بِالْإِجْمَاعِ لَيْسَتْ شَرِكَةَ أَمْلَاكٍ، إذْ الْمَالُ لِأَحَدِهِمَا، وَالْعَمَلُ لِلْآخَرِ، وَكَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهَا مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ، وَأَنَّهَا خِلَافُ الْقِيَاسِ، فَالصَّوَابُ أَنَّهَا أَصْلٌ مُسْتَقِلٌّ، وَهِيَ مِنْ بَابِ الْمُشَارَكَةِ لَا مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ الْخَاصَّةِ، وَهِيَ عَلَى وَفْقِ قِيَاسِ الْمُشَارَكَاتِ. وَلَمَّا كَانَ مَبْنَى الشَّرِكَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَنَازَعُوا فِي الشَّرِكَةِ فِي اكْتِسَابِ الْمُبَاحَاتِ، بِنَاءً عَلَى جَوَازِ التَّوَكُّلِ فِيهَا، فَجَوَّزَ ذَلِكَ أَحْمَدُ، وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِحَدِيثِ سَعْدٍ، وَعَمَّارٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَدْ يُقَالُ: هَذِهِ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي إذَا تَشَارَكَا فِيمَا يُؤَجِّرَانِ فِيهِ أَبْدَانَهُمَا وَدَابَّتَيْهِمَا إجَارَةً خَاصَّةً، فَفِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ قَوْلَانِ مُرَتَّبَانِ: وَالْبُطْلَانُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: كَأَبِي الْخَطَّابِ، وَالْقَاضِي فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ: هُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الضَّمَانُ بِذَلِكَ الِاشْتِرَاكِ عَلَى كَسْبِ الْمُبَاحِ، كَالِاصْطِيَادِ، وَالِاحْتِطَابِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى أَحَدِهِمَا مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي وَجَبَ عَلَى الْآخَرِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي نِتَاجِ مَاشِيَتِهِمَا وَتُرَاثِ بَسَاتِينِهِمَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمَنْ جَوَّزَهُ قَالَ: هُوَ مِثْلُ الِاشْتِرَاكِ فِي اكْتِسَابِ الْمُبَاحَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ هُنَاكَ فِي ذِمَّةِ أَحَدِهِمَا عَمَلٌ، وَلَكِنْ بِالشَّرِكَةِ صَارَ مَا يَعْمَلُهُ أَحَدُهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ شَرِيكِهِ، وَكَذَلِكَ هُنَا مَا يَشْتَرِطُهُ أَحَدُهُمَا مِنْ الْأُجْرَةِ، أَوْ شُرِطَ لَهُ مِنْ الْجُعْلِ هُوَ لَهُ وَلِشَرِيكِهِ، وَالْعَمَلُ الَّذِي يَعْمَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ شَرِيكِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ شَرِكَةَ الْعِنَانِ مَعَ عَدَمِ اخْتِلَاطِ الْمَالَيْنِ، وَمَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، إلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا» وَأَظُنُّ هَذَا قَوْلَ مَالِكٍ. وَأَمَّا اشْتِرَاكُ الشُّهُودِ فَقَدْ يُقَالُ مِنْ مَسْأَلَةِ شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ الَّتِي تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا،

فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ فِيهَا حَتَّى يَكُونَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مُتَصَرِّفًا لِنَفْسِهِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَلِشَرِيكِهِ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ، وَالْعِوَضُ فِي الشَّهَادَةِ مِنْ بَابِ الْجَعَالَةِ، لَا مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ اللَّازِمَةِ فَإِنَّمَا هِيَ اشْتِرَاكٌ فِي الْعَقْدِ، لَا عَقْدُ الشَّرِكَةِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ الْجَمَاعَة: ابْنُوا لِي هَذَا الْحَائِطَ وَلَكُمْ عَشَرَةٌ، أَوْ إنْ بَنَيْتُمُوهُ فَلَكُمْ عَشْرَةٌ، أَوْ إنْ خِطْتُمْ هَذَا الثَّوْبَ فَلَكُمْ عَشَرَةٌ، أَوْ إنْ رَدَدْتُمْ عَبْدِي الْآبِقَ فَلَكُمْ عَشَرَةٌ. وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ الْجُعْلُ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِالْجُعْلِ مِثْلَ: حَمَّالِينَ يَحْمِلُونَ مَالَ تَاجِرٍ مُتَعَاوِنِينَ عَلَى ذَلِكَ، فَهُمْ يَسْتَحِقُّونَ جُعْلَ مِثْلِهِمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ، كَمَا يَسْتَحِقُّهُ الطَّبَّاخُ الَّذِي يَطْبُخُ بِالْأُجْرَةِ، وَالْخَبَّازُ الَّذِي يَخْبِزُ بِالْأُجْرَةِ، وَالنَّسَّاجُ الَّذِي يَنْسِجُ بِالْأُجْرَةِ، وَالْقَصَّارُ الَّذِي يُقَصِّرُ بِالْأُجْرَةِ، وَصَاحِبُ الْحَمَّامِ وَالسَّفِينَةِ، وَالْعُرْفُ الَّذِي جَرَتْ عَادَتُهُ بِأَنْ يَسْتَوْفِيَ مَنْفَعَتَهُ بِالْأَجْرِ، فَهَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَ عِوَضَ الْمِثْلِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَعْمَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ وَيَكْتُبُوا خُطُوطَهُمْ بِالشَّهَادَةِ، يَسْتَحِقُّونَ الْجُعْلَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اسْتِعْمَالِهِ إيَّاهُمْ فِي نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ، إذَا قِيلَ إنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْجُعْلَ فَيَسْتَحِقُّونَ جُعْلَ مِثْلِهِمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ وَمَنَافِعُهُمْ مُتَسَاوِيَةً اسْتَحَقُّوا الْجُعْلَ بِالسَّوَاءِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ صَحِيحٌ إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُمْ شَرِكَةٌ، فَأَمَّا إذَا اشْتَرَكُوا فِيمَا يَكْتَسِبُونَهُ بِالشَّهَادَةِ فَهُوَ كَاشْتِرَاكِهِمْ فِيمَا يَكْتَسِبُونَهُ بِسَائِرِ الْجَعَالَاتِ وَالْإِجَارَاتِ. ثُمَّ الْجُعْلُ فِي الشَّهَادَةِ قَدْ يَكُونُ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ، وَلِلشَّاهِدِ أَنْ يُقِيمَ مَقَامَهُ مَنْ يَشْهَدُ لِلْجَاعِلِ، فَهُنَا تَكُونُ شَرِكَةً صَحِيحَةً عِنْدَ كُلِّ مَنْ يَقُولُ بِشَرِكَةِ الْأَبْدَانِ، وَهُمْ الْجُمْهُورُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالِاعْتِبَارُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْجُعْلُ عَلَى أَنْ يَشْهَدَ الشَّاهِدُ بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ فِيهَا الْقَوْلَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ، وَالصَّحِيحُ أَيْضًا جَوَازُ الِاشْتِرَاكِ فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، لَكِنْ لَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَدَعَ الْعَمَلَ وَيَطْلُبَ مُقَاسَمَةَ الْآخَرِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ مَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا.

مسألة الأموال التي يجهل مستحقها مطلقا أو مبهما

وَأَمَّا إذَا أَكْرَهَهُمْ الْقُضَاةُ عَلَى هَذِهِ الشَّرِكَةِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ، فَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْعُقُودِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِأَنَّ الْقُضَاةَ هُمْ الَّذِينَ يَأْذَنُونَ لَهُمْ فِي الِارْتِزَاقِ بِالشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى تَعْدِيلِهِمْ، لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الصُّنَّاعِ الَّذِينَ يَكْتَسِبُونَ بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّ الْأَمْرِ، وَإِذَا كَانَ لِلْقُضَاةِ أَمْرٌ فِي ذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي التَّشْرِيكِ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قُعُودِ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا وَلَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الشَّهَادَةِ، إذْ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ لَا تُحَصِّلُ مَقْصُودَ الشَّهَادَةِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُرَاعَى فِي ذَلِكَ مُوجَبُ الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدُهُمْ عَنْ عَمَلٍ هُوَ عَلَيْهِ، وَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الرِّزْقِ الَّذِي وَقَعَتْ الشَّرِكَةُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ أَوْ مُتَفَرِّقِينَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْأَمْوَالِ الَّتِي يُجْهَلُ مُسْتَحِقُّهَا مُطْلَقًا أَوْ مُبْهَمًا] 837 - 6 مَسْأَلَةٌ: فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي يُجْهَلُ مُسْتَحِقُّهَا مُطْلَقًا أَوْ مُبْهَمًا فَإِنَّ هَذِهِ عَامَّةُ النَّفْعِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يَحْصُلُ فِي أَيْدِيهِمْ أَمْوَالٌ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ لِحَقِّ الْغَيْرِ، إمَّا لِكَوْنِهَا قُبِضَتْ ظُلْمًا: كَالْغَصْبِ وَأَنْوَاعِهِ مِنْ الْجِنَايَاتِ، وَالسَّرِقَةِ وَالْغُلُولِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهَا قُبِضَتْ، بِعَقْدٍ فَاسِدٍ مِنْ رِبًا أَوْ مَيْسِرٍ، وَلَا يَعْلَمُ عَيْنُ الْمُسْتَحِقِّ لَهَا، وَقَدْ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ أَحَدُ رَجُلَيْنِ وَلَا يَعْلَمُ عَيْنَهُ: كَالْمِيرَاثِ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لِإِحْدَى الزَّوْجَيْنِ الْبَاقِيَةِ دُونَ الْمُطَلَّقَةِ، وَالْعَيْنِ الَّتِي يَتَدَاعَاهَا اثْنَانِ فَيُقِرُّ بِهَا ذُو الْيَدِ لِأَحَدِهِمَا. فَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَعَامَّةِ السَّلَفِ: إعْطَاءُ هَذِهِ الْأَمْوَالِ لِأَوْلَى النَّاسِ بِهَا. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُحْفَظُ مُطْلَقًا وَلَا تُنْفَقُ بِحَالٍ، فَيَقُولُ فِيمَا جُهِلَ مَالِكُهُ مِنْ الْغُصُوبِ، وَالْعَوَارِيّ، وَالْوَدَائِعِ أَنَّهَا تُحْفَظُ حَتَّى يَظْهَرَ أَصْحَابُهَا كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ، وَيَقُولُ فِي الْعَيْنِ الَّتِي عُرِّفَتْ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ يُوقَفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَصْطَلِحَا. وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا جُهِلَ مَالِكُهُ أَنَّهُ يُصْرَفُ عَنْ أَصْحَابِهِ فِي

الْمَصَالِحِ: كَالصَّدَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ. وَفِيمَا اسْتَهَمَّ مَالِكُهُ الْقُرْعَةُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْقِسْمَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَلْفٌ مِنْ الْمَسَائِلِ نَافِعَةٌ وَاقِعَةٌ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَمَّا فَرَضَهُ أَبُو الْمَعَالِي فِي كِتَابِهِ الْغِيَاثِيِّ " وَتَبِعَهُ مَنْ تَبِعَهُ إذَا طَبَقَ الْحَرَامُ الْأَرْضَ وَلَمْ يَبْقَ سَبِيلٌ إلَى الْحَلَالِ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لِلنَّاسِ قَدْرُ الْحَاجَةِ مِنْ الْمَطَاعِمِ، وَالْمَلَابِسِ، وَالْمَسَاكِنِ، وَالْحَاجَةُ أَوْسَعُ مِنْ الضَّرُورَةِ. وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ يُتَصَوَّرُ إذَا اسْتَوْلَتْ الظَّلَمَةُ مِنْ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَمْوَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَبَثَّنَّهَا فِي النَّاسِ، وَأَنَّ زَمَانَهُ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ فَكَيْفَ بِمَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَزْمَانِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فَرْضٌ مُحَالٌ لَا يُتَصَوَّرُ لِمَا ذَكَرْته مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ قِسْمَانِ: مُحَرَّمٌ لِعَيْنِهِ كَالنَّجَاسَاتِ مِنْ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ، وَمُحَرَّمٌ لِحَقِّ الْغَيْرِ، وَهُوَ مَا جِنْسُهُ مُبَاحٌ مِنْ الْمَطَاعِمِ، وَالْمَسَاكِنِ، وَالْمَلَابِسِ، وَالْمَرَاكِبِ، وَالنُّقُودِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَتَحْرِيمُ هَذِهِ جَمِيعِهَا يَعُودُ إلَى الظُّلْمِ فَإِنَّهَا إنَّمَا تَحْرُمُ لِسَبَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَبْضُهَا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِ صَاحِبِهَا وَلَا إذْنِ الشَّارِعِ، وَهَذَا هُوَ الظُّلْمُ الْمَحْضُ: كَالسَّرِقَةِ، وَالْخِيَانَةِ، وَالْغَصْبِ الظَّاهِرِ، وَهَذَا أَشْهَرُ الْأَنْوَاعِ بِالتَّحْرِيمِ. وَالثَّانِي: قَبْضُهَا بِغَيْرِ إذْنِ الشَّارِعِ، وَإِنْ أَذِنَ صَاحِبُهَا وَهِيَ الْعُقُودُ وَالْقُبُوضُ الْمُحَرَّمَةُ كَالرِّبَا، وَالْمَيْسِرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ حَصَلَتْ بِيَدِهِ رَدُّهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا، فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَالْمَجْهُولُ كَالْمَعْدُومِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اللُّقَطَةِ: «فَإِنْ وَجَدْت صَاحِبَهَا فَارْدُدْهَا إلَيْهِ، وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ» فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ اللُّقَطَةَ الَّتِي عُرِفَ أَنَّهَا مِلْكٌ لِمَعْصُومٍ، وَقَدْ خَرَجَتْ عَنْهُ بِلَا رِضَاهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ فَقَدْ آتَاهَا اللَّهُ لِمَنْ سَلَّطَهُ عَلَيْهَا بِالِالْتِقَاطِ الشَّرْعِيِّ. وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ، وَلَا وَارِثَ لَهُ مَعْلُومًا، فَمَالُهُ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي غَالِبِ الْخَلْقِ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَصَبَةٌ بَعِيدٌ، لَكِنْ جُهِلَتْ عَيْنُهُ، وَلَمْ تُرْجَ مَعْرِفَتُهُ فَجُعِلَ كَالْمَعْدُومِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَلَهُ دَلِيلَانِ قِيَاسِيَّانِ

قَطْعِيَّانِ، كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ مَا لَا يُعْلَمُ أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِحَالٍ هُوَ فِي حَقِّنَا بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ، فَلَا نُكَلَّفُ إلَّا بِمَا نَعْلَمُهُ وَنَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَكَمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي حَقِّنَا بَيْنَ فِعْلٍ لَمْ نُؤْمَرْ بِهِ، وَبَيْنَ فِعْلٍ أُمِرْنَا بِهِ جُمْلَةً عِنْدَ فَوْتِ الْعِلْمِ أَوْ الْقُدْرَةِ، كَمَا فِي حَقِّ الْمَجْنُونِ وَالْعَاجِزِ، كَذَلِكَ لَا فَرْقَ فِي حَقِّنَا بَيْنَ مَالٍ لَا مَالِكَ لَهُ أُمِرْنَا بِإِيصَالِهِ إلَيْهِ، وَبَيْنَ مَا أُمِرْنَا بِإِيصَالِهِ إلَى مَالِكِهِ جُمْلَةً إذَا فَاتَ الْعِلْمُ بِهِ أَوْ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ، وَالْأَمْوَالُ كَالْأَعْمَالِ سَوَاءٌ. وَهَذَا النَّوْعُ إنَّمَا حَرُمَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ، فَإِذَا كَانَ الْغَيْرُ مَعْدُومًا أَوْ مَجْهُولًا بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ مَعْجُوزًا عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ: يَسْقُطُ حَقُّ تَعَلُّقِهِ بِهِ مُطْلَقًا، كَمَا يَسْقُطُ حَقُّ تَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ إذَا رُجِيَ الْعِلْمُ بِهِ أَوْ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ، إلَى حِينِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ كَمَا فِي اللُّقَطَةِ سَوَاءٌ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ» . فَإِنَّهُ لَوْ عُدِمَ الْمَالِكُ انْتَقَلَ الْمِلْكُ عَنْهُ بِالِاتِّفَاقِ، فَكَذَلِكَ إذَا عُدِمَ الْعِلْمُ بِهِ إعْدَامًا مُسْتَقِرًّا، وَإِذَا عَجَزَ عَنْ الْإِيصَالِ إلَيْهِ إعْجَازًا مُسْتَقِرًّا، فَالْإِعْدَامُ ظَاهِرٌ، وَالْإِعْجَازُ مِثْلُ الْأَمْوَالِ الَّتِي قَبَضَهَا الْمُلُوكُ: كَالْمُكُوسِ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَصْحَابِهَا، وَقَدْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُنَا إعَادَتُهَا إلَى أَصْحَابِهَا، فَإِنْفَاقُهَا فِي مَصَالِحِ أَصْحَابِهَا مِنْ الْجِهَادِ عَنْهُمْ أَوْلَى مِنْ إبْقَائِهَا بِأَيْدِي الظَّلَمَةِ يَأْكُلُونَهَا، وَإِذَا أُنْفِقَتْ كَانَتْ لِمَنْ يَأْخُذُهَا بِالْحَقِّ مُبَاحَةً، كَمَا أَنَّهَا عَلَى مَنْ يَأْكُلُهَا بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمَةٌ. وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: الْقِيَاسُ، مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ لَا تَخْلُو: إمَّا أَنْ تُحْبَسَ، وَإِمَّا أَنْ تَتْلَفَ، وَإِمَّا أَنْ تُنْفَقَ. فَأَمَّا إتْلَافُهَا فَإِفْسَادٌ، وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَهُوَ إضَاعَةٌ لَهَا، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَمَالِكٍ: تَجُوزُ الْعُقُوبَاتُ الْمَالِيَّةُ تَارَةً بِالْأَخْذِ، وَتَارَةً بِالْإِتْلَافِ كَمَا يَقُولُهُ أَحْمَدُ فِي مَتَاعِ الْفَسَادِ، وَكَمَا يَقُولُهُ أَحْمَدُ وَمَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ فِي أَوْعِيَةِ الْخَمْرِ، وَمَحِلِّ الْخَمَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ بِإِتْلَافِ بَعْضِ الْأَمْوَالِ أَحْيَانَا كَالْعُقُوبَةِ بِإِتْلَافِ بَعْضِ النُّفُوسِ أَحْيَانًا.

وَهَذَا يَجُوزُ إذَا كَانَ فِيهِ مِنْ التَّنْكِيلِ عَلَى الْجَرِيمَةِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ مَا شَرَعَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي إتْلَافِ النَّفْسِ وَالطَّرَفِ، وَكَمَا أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ يَحْرُمُ إلَّا بِنَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 32] . وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] . فَكَذَلِكَ إتْلَافُ الْمَالِ، إنَّمَا يُبَاحُ قِصَاصًا، أَوْ لِإِفْسَادِ مَالِكِهِ كَمَا أَبَحْنَا مِنْ إتْلَافِ الْبِنَاءِ، وَالْغِرَاسِ الَّذِي لِأَهْلِ الْحَرْبِ، مِثْلَ مَا يَفْعَلُونَ بِنَا بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَجَوَّزْنَا لِإِفْسَادِ مَالِكِهِ مَا جَوَّزْنَا، وَلِهَذَا لَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ قَالَ إنَّ الْأَمْوَالَ الْمُحْتَرَمَةَ الْمَجْهُولَةَ الْمَالِكِ تَتْلَفُ. وَإِنَّمَا يُحْكَى بَعْضُ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الْغَالِطِينَ مِنْ الْمُتَوَرِّعَةِ أَنَّهُ أَلْقَى شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فِي الْبَحْرِ أَوْ أَنَّهُ تَرَكَهُ فِي الْبَرِّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَؤُلَاءِ تَجِدُ مِنْهُمْ حُسْنَ الْقَصْدِ، وَصِدْقَ الْوَرَعِ، لَا صَوَابَ الْعَمَلِ. وَأَمَّا حَبْسُهَا دَائِمًا أَبَدًا إلَى غَيْرِ غَايَةٍ مُنْتَظَرَةٍ، بَلْ مَعَ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا يُرْجَى مَعْرِفَةُ صَاحِبِهَا وَلَا الْقُدْرَةُ عَلَى إيصَالِهَا إلَيْهِ، فَهَذَا مِثْلُ إتْلَافِهَا، فَإِنَّ الْإِتْلَافَ إنَّمَا حَرُمَ لِتَعْطِيلِهَا عَنْ انْتِفَاعِ الْآدَمِيِّينَ بِهَا، وَهَذَا تَعْطِيلٌ أَيْضًا بَلْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلنُّفُوسِ بِإِبْقَاءِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ انْتِفَاعٍ بِهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ الظَّلَمَةِ بَعْدَ هَذَا إذَا لَمْ يُنْفِقْهَا أَهْلُ الْعَدْلِ وَالْحَقِّ، فَيَكُونُ حَبْسُهَا إعَانَةً لِلظَّلَمَةِ وَتَسْلِيمًا فِي الْحَقِيقَةِ إلَى الظَّلَمَةِ، فَيَكُونُ قَدْ مَنَعَهَا أَهْلَ الْحَقِّ، وَأَعْطَاهَا أَهْلَ الْبَاطِلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَصْدِ وَعَدَمِهِ فِي هَذَا، فَإِنَّ مَنْ وَضَعَ إنْسَانًا بِمَسْبَعَةٍ فَقَدْ قَتَلَهُ، وَمَنْ أَلْقَى اللَّحْمَ بَيْنَ السِّبَاعِ فَقَدْ أَكَلَهُ، وَمَنْ حَبَسَ الْأَمْوَالَ الْعَظِيمَةَ لِمَنْ يَسْتَوْلِي عَلَيْهَا مِنْ الظَّلَمَةِ فَقَدْ أَعْطَاهُمُوهَا. فَإِذَا كَانَ إتْلَافُهَا حَرَامًا وَحَبْسُهَا أَشَدُّ مِنْ إتْلَافِهَا تَعَيَّنَ إنْفَاقُهَا، وَلَيْسَ لَهَا مَصْرِفٌ مُعَيَّنٌ، فَتُصْرَفُ فِي جَمِيعِ جِهَاتِ الْبِرِّ وَالْقُرَبِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ

مسألة هل تقبل شهادة المرضعة

الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ، وَخَلَقَ لَهُمْ الْأَمْوَالَ لِيَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى عِبَادَتِهِ، فَتُصْرَفُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُرْضِعَةِ] 838 - 7 مَسْأَلَةٌ: هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُرْضِعَةِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ الشَّاهِدُ ذَا عَدْلٍ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، لَكِنْ فِي تَحْلِيفِهِ نِزَاعٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ يَحْلِفُ، فَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً لَمْ يَحُلْ الْحَوْلُ حَتَّى يَبْيَضَّ ثَدْيَاهَا. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ وُلِّيَ عَلَى مَالِ يَتَامَى وَهُوَ قَاصِرٌ] 839 - 8 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ وُلِّيَ عَلَى مَالِ يَتَامَى وَهُوَ قَاصِرٌ، فَمَا الْحُكْمُ فِي وِلَايَتِهِ وَأُجْرَتِهِ؟ الْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَلَّى عَلَى مَالِ الْيَتَامَى إلَّا مَنْ كَانَ قَوِيًّا خَبِيرًا بِمَا وَلِيَ عَلَيْهِ أَمِينًا عَلَيْهِ، وَالْوَاجِبُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْوَلِيُّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْ يَصْلُحُ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ، لَكِنْ إذَا عَمِلَ لِلْيَتَامَى عَمَلًا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ مِثْلِهِ كَالْعَمَلِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ عِنْدَهُ يَتِيمٌ وَلَهُ مَالٌ تَحْتَ يَدِهِ] 840 - 9 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ عِنْدَهُ يَتِيمٌ، وَلَهُ مَالٌ تَحْتَ يَدِهِ وَقَدْ رَفَعَ كُلْفَةَ الْيَتِيمِ عَنْ مَالِهِ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِهِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِ بِتِجَارَةٍ أَوْ شِرَاءِ عَقَارٍ مِمَّا يُزِيدُ الْمَالَ وَيُنَمِّيهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يَنْبَغِي لَهُ، وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ الْحَاكِمِ إنْ كَانَ وَصِيًّا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَصِيٍّ، وَكَانَ النَّاظِرُ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى الْحَاكِمَ الْعَالِمَ الْعَادِلَ يَحْفَظُهُ وَيَأْمُرُ فِيهِ بِالْمَصْلَحَةِ وَجَبَ اسْتِئْذَانُهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي اسْتِئْذَانِهِ إضَاعَةُ الْمَالِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ أَوْ نَائِبُهُ فَاسِقًا، أَوْ جَاهِلًا، أَوْ عَاجِزًا، أَوْ لَا يَحْفَظُ مَالَ الْيَتَامَى، حِفْظَةَ

مسألة فيم استقر إطلاقه من الملوك المتقدمين

الْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ، وَعَمِلَ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَ اسْتَقَرَّ إطْلَاقُهُ مِنْ الْمُلُوكِ الْمُتَقَدِّمِينَ] 841 - 10 مَسْأَلَةٌ: فِيمَ اسْتَقَرَّ إطْلَاقُهُ مِنْ الْمُلُوكِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَإِلَى الْآنَ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْقُرُبَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْمُرَتَّبِ الْمُرْتَزِقِينَ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ الْفَقِيرُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ عَائِلَةٌ كَثِيرَةٌ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ، وَكَسْبُهُ لَا يَقُومُ بِكُلْفَتِهِمْ، وَمِنْهُمْ الْمُنْقَطِعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، الَّذِي لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ يَتَسَبَّبُ بِهِ لَا يُحْسِنُ صَنْعَةً يَصْنَعُهَا، وَمِنْهُمْ الْعَاجِزُ عَنْ الْحَرَكَةِ لِكِبَرٍ أَوْ ضَعْفٍ، وَمِنْهُمْ الصَّغِيرُ دُونَ الْبَالِغِ وَالنِّسَاءُ الْأَرَامِلُ، وَذُو الْعَاهَاتِ، وَمِنْهُمْ الْمُشْتَغِلُونَ بِالْعِلْمِ الشَّرِيفِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَمَنْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِمْ نَفْعٌ عَامٌّ، وَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ نَصِيبٌ، وَمِنْهُمْ أَرْبَابُ الزَّوَايَا وَالرَّبْطِ الْمُتَجَرِّدُونَ لِلْعِبَادَةِ وَتَلَقِّي الْوَارِدِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَمِنْهُمْ أَيْتَامُ الْمُسْتَشْهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَوْلَادِ الْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَخْلُفْ لَهُ مَا يَكْفِيهِ. وَمِمَّنْ يَسْأَلُ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ فَأَحْيَاهَا أَوْ اسْتَصْلَحَ أَحْرَاسًا عَالِيَةً لِتَكُونَ لَهُ مُسْتَمِرَّةً بَعْدَ إصْلَاحِهَا فَاسْتَخْرَجَهَا فِي مُدَّةِ سِنِينَ عَدِيدَةٍ، وَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ عَلَى جَارِي الْفَوَائِدِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، فَهَلْ تَكُونُ هَذِهِ الْأَنْسَابُ الَّتِي اتَّصَفُوا بِهَا مُسَوِّغَةً لَهُمْ تَنَاوُلَ مَا قَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَطْلَقَهُ لَهُمْ مُلُوكُ الْإِسْلَامُ وَثَوَابُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ، وَاسْتَقَرَّ بِأَيْدِيهِمْ إلَى الْآنَ أَمْ لَا؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ يُنْزِلُهُمْ بِعَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَتَقَرَّبَ إلَى السُّلْطَانِ بِالسَّعْيِ بِقَطْعِ أَرْزَاقِهِمْ الْمُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ الزَّوَايَا، وَمُعْظَمُ الزَّوَايَا وَالرَّبْطِ الَّتِي يَرْتَفِقُ بِهَا أَبْنَاءُ السَّبِيلِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُجَرَّدِينَ وَيَقُومُ بِهَا شِعَارُ الْإِسْلَامِ، هَلْ يَكُونُ بِذَلِكَ آثِمًا عَاصِيًا، أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجِبُ أَنْ يُكَلِّفَ هَؤُلَاءِ إثْبَاتَ اسْتِحْقَاقِهِمْ، مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ مُسْتَقِرًّا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ قِبَلِ أُولِي الْأَمْرِ، وَلَوْ كُلِّفُوا ذَلِكَ فَهَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ إثْبَاتُهُ عِنْدَ حَاكِمٍ بِعَيْنِهِ غَرِيبٍ مِنْ بِلَادِهِمْ مُتَظَاهِرٍ بِمُنَافَرَتِهِمْ مَعَ وُجُودِ عَدَدٍ مِنْ الْحُكَّامِ غَيْرِهِ فِي بِلَادِهِمْ أَوْ لَا؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ عَجَزَ مِنْهُمْ عَنْ الْإِثْبَاتِ لِضَعْفِهِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْحَالُ مِنْ أَنَّ شُهُودَ هَذَا الزَّمَانِ لَا يُؤَدُّونَ شَهَادَةً إلَّا بِأُجْرَةٍ تُرْضِيهِمْ، وَقَدْ يَعْجِزُ الْفَقِيرُ عَنْ مِثْلِهَا، وَكَذَلِكَ النِّسْوَةُ اللَّاتِي لَا يَعْلَمُ الشُّهُودُ أَحْوَالَهُنَّ غَالِبًا.

وَإِذَا سَأَلَ الْإِمَامُ حَاكِمًا عَنْ اسْتِحْقَاقِ مَنْ ذُكِرَ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ إلَّا الْأَعْمَى وَالْمُكَسَّحُ وَالزَّمِنُ لَا غَيْرُ، وَأَضْرَبَ عَمَّا سِوَاهُمْ مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعٍ عَلَى حَقِيقَةِ أَحْوَالِهِمْ، هَلْ يَكُونُ بِذَلِكَ آثِمًا عَاصِيًا أَمْ لَا؟ وَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا سَأَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ الزَّوَايَا وَالرُّبُطِ هَلْ يَسْتَحِقُّ مَنْ هُوَ بِهَا مَا هُوَ مُرَتَّبٌ لَهُمْ، فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذِهِ الزَّوَايَا وَالرُّبُطَ دَكَاكِينُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِيهِمْ الصُّلَحَاءَ وَالْعُلَمَاءَ، وَحَمَلَةَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَالْمُنْقَطِعِينَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى هَلْ يَكُونُ مُؤْذِيًا لَهُمْ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَمَا حُكْمُ هَذَا الْقَوْلِ الْمُطْلَقِ فِيهِمْ مَعَ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِجَمِيعِهِمْ. وَالِاضْطِلَاعِ عَلَى حَقِيقَةِ أَحْوَالِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ، إذَا تَبَيَّنَ سُقُوطُهُ وَبُطْلَانُهُ هَلْ تَسْقُطُ بِذَلِكَ رِوَايَتُهُ وَمَا عَدَاهَا مِنْ أَخْبَارِهِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ لِلْمُقْذِفِينَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ بِهَذَا الطَّعْنِ، عَلَيْهِمْ الْمُؤَدِّي عِنْدَ الْمُلُوكِ إلَى قَطْعِ أَرْزَاقِهِمْ وَأَنْ يُكَلِّفُوهُ إثْبَاتَ ذَلِكَ وَإِذَا عَجَزَ عَنْ إثْبَاتِهِ، فَهَلْ لَهُمْ مُطَالَبَتُهُ بِمُقَاضَاةٍ أَمْ لَا؟ وَإِذَا عَجَزَ عَنْ ثُبُوتِ ذَلِكَ، هَلْ يَكُونُ قَادِحًا فِي عَدَالَتِهِ وَجَرْحِهِ يَنْعَزِلُ بِهِمَا عَنْ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ أَمْ لَا؟ وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ وَهُمْ لَهُ فِي غَايَةِ الْكَرَاهَةِ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ بِهِمْ، وَقَدْ جَاءَ «لَا يَؤُمَّ الرَّجُلُ قَوْمًا أَكْثَرُهُمْ لَهُ كَارِهُونَ» ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: هَذِهِ الْمَسَائِلُ تَحْتَاجُ إلَى تَقْرِيرِ أَصْلٍ جَامِعٍ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، مَبْنِيٍّ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي يَسُنُّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوُلَاةُ الْأَمْرِ بَعْدَهُ أَشْيَاءَ، الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتِعْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُهَا وَلَا النَّظَرُ فِي رَأْيِ مَنْ خَالَفَهَا، وَمَنْ اهْتَدَى بِهَا فَهُوَ مُهْتَدٍ، وَمَنْ اسْتَنْصَرَ بِهَا فَهُوَ مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُوصِيكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا

بِهَا، وَعُضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . وَالْوَاجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْعَمَلُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ» . وَنَحْنُ نَذْكُرُ ذَلِكَ مُخْتَصَرًا فَنَقُولُ الْأَمْوَالُ الَّتِي لَهَا أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ الَّتِي يَتَوَلَّى قَسْمَهَا وُلَاةُ الْأَمْرِ ثَلَاثَةٌ: مَالُ الْمَغَانِمِ: وَهَذَا لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ إلَّا الْخُمُسَ، فَإِنَّ مَصْرِفَهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} [الأنفال: 41] وَالْمَغَانِمُ مَا أُخِذَ مِنْ الْكُفَّارِ بِالْقِتَالِ فَهَذِهِ الْمَغَانِمُ وَخُمُسُهَا. وَالثَّانِي الْفَيْءُ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ، حَيْثُ قَالَ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مَا أَوَجَفْتُمْ أَيْ: مَا حَرَّكْتُمْ وَلَا أَعْمَلْتُمْ وَلَا سُقْتُمْ، يُقَالُ وَجَفَ الْبَعِيرُ يَجِفُ وُجُوفًا وَأَوْجَفْتُهُ إذَا سَارَ نَوْعًا مِنْ السَّيْرِ فَهَذَا هُوَ الْفَيْءُ الَّذِي أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَهُوَ مَا صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ إيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقِتَالِ، أَيْ مَا قَاتَلْتُمْ عَلَيْهِ، فَمَا قَاتَلُوا عَلَيْهِ كَانَ لِلْمُقَاتِلَةِ، وَمَا لَمْ يُقَاتِلُوا عَلَيْهِ فَهُوَ فَيْءٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَفَاءَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ، وَأَحَلَّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ لِيَأْكُلُوا طَيِّبًا وَيَعْمَلُوا صَالِحًا، وَالْكُفَّارُ عَبَدُوا غَيْرَهُ فَصَارُوا غَيْرَ مُسْتَحِقِّينَ لِلْمَالِ، فَأَبَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَأَنْ يَسْتَرِقُّوا أَنْفُسَهُمْ، وَأَنْ يَسْتَرْجِعُوا الْأَمْوَالَ مِنْهُمْ، فَإِذَا أَعَادَهَا اللَّهُ إلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فَقَدْ فَاءَتْ؛ أَيْ رَجَعَتْ إلَى مُسْتَحِقِّهَا؛ وَلِهَذَا الْفَيْءُ يَدْخُلُ فِيهِ جِزْيَةُ الرُّءُوسِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ

وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مِنْ الْعُشُورِ، وَأَنْصَافِ الْعُشُورِ، وَمَا يُصَالِحُ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ مِنْ الْمَالِ: كَاَلَّذِي يَحْمِلُونَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا خَلَوْا عَنْهُ وَتَرَكُوهُ خَوْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَأَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا سُورَةَ الْحَشْرِ، وَقَالَ: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ - وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} [الحشر: 2 - 3] . وَهَؤُلَاءِ أَجَلَاهُمْ النَّبِيُّ. وَكَانُوا يَسْكُنُونَ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةَ فَأَجَلَاهُمْ بَعْدَ أَنْ حَاصَرَهُمْ، وَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَذَكَرَ مَصَارِفَ الْفَيْءِ بِقَوْلِهِ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7] {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8] {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] . فَهَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَكِيمٍ النَّهْرَوَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَغَيْرُهُمْ: أَنَّ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْفَيْءِ نَصِيبٌ. مِنْ الْفَيْءِ مَا ضَرَبَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي فَتَحَهَا عَنْوَةً وَلَمْ يَقْسِمْهَا: كَأَرْضِ مِصْرَ، وَأَرْضِ الْعِرَاقِ، إلَّا شَيْئًا يَسِيرًا مِنْهَا، وَبَرِّ الشَّامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ

فَهَذَا الْفَيْءُ لَا خُمُسَ فِيهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَإِنَّمَا يَرَى تَخْمِيسَهُ الشَّافِعِيُّ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَذَكَرَ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْهُ: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ فِي الْفَيْءِ خُمُسًا كَخُمُسِ الْغَنِيمَةِ، وَهَذَا الْفَيْءُ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ كَانَ مِلْكًا لَهُ. وَأَمَّا مَصْرِفُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنْ يَصْرِفَ مِنْهُ أَرْزَاقَ الْجُنْدِ الْمُقَاتِلِينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ، فَإِنَّ تَقْوِيَتَهُمْ تَذِلُّ الْكُفَّارَ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْفَيْءُ، وَتَنَازَعُوا هَلْ يُصْرَفُ فِي سَائِرِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَمْ تَخْتَصُّ بِهِ الْمُقَاتِلَةُ، عَلَى قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ، وَوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ فِي مَذْهَبِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ: أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُقَاتِلَةُ، بَلْ يُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ كُلِّهَا، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ: يُعْطَى مَنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَامَّةٌ لِأَهْلِ الْفَيْءِ. فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ مَنْ فِي الْبُلْدَانِ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ. وَهُوَ مَنْ بَلَغَ وَيُحْصِي الذُّرِّيَّةَ وَهِيَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ، وَالنِّسَاءَ إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ يُعْطِي الْمُقَاتِلَةَ فِي كُلِّ عَامٍ عَطَاءَهُمْ، وَيُعْطِي الذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ مَا يَكْفِيهِمْ لِسَنَتِهِمْ، قَالَ: وَالْعَطَاءُ مِنْ الْفَيْءِ لَا يَكُونُ إلَّا لِبَالِغٍ يُطِيقُ الْقِتَالَ، قَالَ: وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِمَّنْ لَقِيَهُ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَمَالِيكِ فِي الْعَطَاءِ حَقٌّ، وَلَا لِلْأَعْرَابِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الصَّدَقَةِ. قَالَ: فَإِنْ فَضَلَ مِنْ الْفَيْءِ شَيْءٌ وَضَعَهُ الْإِمَامُ فِي أَهْلِ الْحُصُونِ وَالِازْدِيَادِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَكُلُّ مَا يَقْوَى بِهِ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنْ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ وَحَصَلَتْ كُلُّ مَصْلَحَةٍ لَهُمْ، فَرْقُ مَا يَبْقَى عَنْهُمْ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ. قَالَ: وَيُعْطَى مِنْ الْفَيْءِ رِزْقُ الْعُمَّالِ وَالْوُلَاةِ وَكُلُّ مَنْ قَامَ بِأَمْرِ الْفَيْءِ مِنْ وَالٍ، وَحَاكِمٍ، وَكَاتِبٍ، وَجُنْدِيٍّ مِمَّنْ لَا غِنَى لِأَهْلِ الْفَيْءِ عَنْهُ. وَهَذَا مُشْكِلٌ مَعَ قَوْلِهِ إنَّهُ لَا يُعْطَى مِنْ الْفَيْءِ صَبِيٌّ، وَلَا مَجْنُونٌ، وَلَا عَبْدٌ، وَلَا امْرَأَةٌ، وَلَا ضَعِيفٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ. وَهَذَا إذَا كَانَ لِلْمَصَالِحِ فَيَنْصَرِفُ مِنْهُ إلَى كُلِّ مَنْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ مَنْفَعَةٌ عَامَّةٌ: كَالْمُجَاهِدِينَ، وَكَوُلَاةِ أُمُورِهِمْ مِنْ وُلَاةِ الْحَرْبِ، وَوُلَاةِ الدِّيوَانِ، وَوُلَاةِ الْحُكْمِ، وَمَنْ يُقْرِئُهُمْ الْقُرْآنَ، وَيُفْتِيهِمْ، وَيُحَدِّثُهُمْ، وَيَؤُمُّهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ، وَيُؤَذِّنُ لَهُمْ. وَيُصْرَفُ مِنْهُ فِي سَدَادِ ثُغُورِهِمْ، وَعِمَارَةِ طُرُقَاتِهِمْ، وَحُصُونِهِمْ، وَيُصْرَفُ مِنْهُ إلَى

ذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْهُمْ أَيْضًا، وَيَبْدَأُ فِيهِ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، فَيَتَقَدَّمُ ذَوُو الْمَنَافِعِ الَّذِينَ يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ عَلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ الَّذِينَ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِمْ، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِمْ. قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ مَا يُعَدُّ بِهَا الثُّغُورُ مِنْ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ، وَيُعْطَى قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ مَا يَكْفِيهِمْ، وَيُدْفَعُ مِنْهُ أَرْزَاقُ الْمُقَاتِلَةِ، وَذُو الْحَاجَاتِ يُعْطَوْنَ مِنْ الزَّكَوَاتِ وَنَحْوِهَا، وَمَا فَضَلَ عَنْ مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ قُسِمَ بَيْنَهُمْ، لَكِنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَغْنِيَاءِ الَّذِينَ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِمْ فِيهِ حَقٌّ، إذَا فَضَلَ الْمَالُ وَاتَّسَعَ عَنْ حَاجَاتِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لَمَّا كَثُرَ الْمَالُ أَعْطَى مِنْهُمْ عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ. فَكَانَ لِجَمِيعِ أَصْنَافِ الْمُسْلِمِينَ فَرْضٌ فِي دِيوَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ، لَكِنْ كَانَ أَهْلُ الدِّيوَانِ نَوْعَيْنِ: مُقَاتِلَةٌ وَهُمْ الْبَالِغُونَ، وَذُرِّيَّةٌ وَهُمْ الصِّغَارُ وَالنِّسَاءُ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، وَمَعَ هَذَا قَالُوا يَجِبُ تَقْدِيمُ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ. الَّذِينَ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِمْ، فَلَا يُعْطَى غَنِيٌّ شَيْئًا حَتَّى يَفْضُلَ عَنْ الْفُقَرَاءِ، هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: كَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ تَخْصِيصُ الْفُقَرَاءِ بِالْفَاضِلِ. وَأَمَّا الْمَالُ الثَّالِثُ: فَهُوَ الصَّدَقَاتُ الَّتِي هِيَ زَكَاةُ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ زَكَاةُ الْحَرْثِ، وَهِيَ الْعُشُورُ وَأَنْصَافُ الْعُشُورِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، وَزَكَاةُ الْمَاشِيَةِ وَهِيَ الْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ، وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ، وَزَكَاةُ النَّقْدَيْنِ، فَهَذَا الْمَالُ مَصْرِفُهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] . وَفِي السُّنَنِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَأَلَهُ رَجُلٌ أَنْ يُعْطِيَهُ شَيْئًا مِنْ الصَّدَقَاتِ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ فِي الصَّدَقَاتِ بِقِسْمَةِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَكِنْ جَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُك»

وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ بِالصَّدَقَاتِ عَنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ إذَا تَبَيَّنَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَذْكُرُ أَصْلًا آخَرَ وَنَقُولُ: أَمْوَالُ بَيْتِ الْمَالِ فَيْءٌ بَلْ هَذِهِ الْأَزْمِنَةُ هِيَ أَصْنَافٌ: صِنْفٌ مِنْهَا هُوَ مِنْ الْفَيْءِ أَوْ الصَّدَقَاتِ أَوْ الْخُمُسِ. فَهَذَا قَدْ عُرِفَ حُكْمُهُ، وَصِنْفٌ صَارَ إلَى بَيْتِ الْمَالِ بِحَقٍّ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ، مِثْلَ: مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا وَارِثَ لَهُ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا فِيهِ نِزَاعٌ،، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَصِنْفٌ قُبِضَ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ بِتَأْوِيلٍ يَجِبُ رَدُّهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ إذَا أَمْكَنَ وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ، مِثْلَ: مَا يُؤْخَذُ مِنْ مُصَادَرَاتِ الْعُمَّالِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ أَخَذُوا مِنْ الْهَدَايَا وَأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ فَاسْتَرْجَعَهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ مِنْهُمْ، أَوْ مِنْ تَرِكَاتِهِمْ وَلَمْ يَعْرِفْ مُسْتَحِقَّهُ، وَمِثْلُ مَا قُبِضَ مِنْ الْوَظَائِفِ الْمُحْدَثَةِ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ إلَى أَصْحَابِهِ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأَمْوَالُ الَّتِي تَعَذَّرَ رَدُّهَا إلَى أَهْلِهَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِمْ مَثَلًا هِيَ مِمَّا يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ لَا يَعْرِفُ صَاحِبَهُ كَالْغَاصِبِ التَّائِبِ، وَالْخَائِنِ التَّائِبِ، وَالْمُرَائِي التَّائِبِ وَنَحْوِهِمْ. مِمَّنْ صَارَ بِيَدِهِ مَالٌ لَا يَمْلِكُهُ وَلَا يَعْرِفُ صَاحِبَهُ، فَإِنَّهُ يَصْرِفُهُ إلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. إذَا تَبَيَّنَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ فَنَقُولُ: مَنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَالْغَارِمِينَ، وَابْنِ السَّبِيلِ، فَهَؤُلَاءِ يَجُوزُ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُعْطُوا مِنْ الزَّكَوَاتِ وَمِنْ الْأَمْوَالِ الْمَجْهُولَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ يُعْطُوا مِنْ الْفَيْءِ مِمَّا فَضَلَ عَنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، سَوَاءٌ كَانُوا مُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ الْوَاجِبِ عَلَى الْكِفَايَةِ أَوْ لَمْ يَكُونُوا، وَسَوَاءٌ كَانُوا فِي زَوَايَا أَوْ رُبُطٍ أَوْ لَمْ يَكُونُوا. لَكِنْ مَنْ كَانَ مُمَيِّزًا بِعِلْمٍ أَوْ دِينٍ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ وَأَحَقُّ هَذَا الصِّنْفِ مَنْ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]

فَمَنْ كَانَ مَا هُوَ مَشْغُولٌ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ الَّذِي أُحْصِرَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَدْ مَنَعَهُ الْكَسْبَ هُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ. وَيُعْطِي قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ عُلَمَاءَهُمْ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِمْ، وَيَدْفَعُ مِنْهُ أَرْزَاقَ الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيِّهِمْ، لَا سِيَّمَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ الطَّالِبِينَ وَالْعَبَّاسِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَتَعَيَّنُ إعْطَاؤُهُمْ مِنْ الْخُمُسِ وَالْفَيْءِ وَالْمَصَالِحِ لِكَوْنِ الزَّكَاةِ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ. وَالْفَقِيرُ الشَّرْعِيُّ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ مِنْ الزَّكَاةِ وَالْمَصَالِحِ وَنَحْوِهِمَا، لَيْسَ هُوَ الْفَقِيرُ الِاصْطِلَاحِيُّ الَّذِي يَتَقَيَّدُ بِلُبْسَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَطَرِيقَةٍ مُعَيَّنَةٍ، بَلْ كُلُّ مَنْ لَيْسَ لَهُ كِفَايَةٌ تَكْفِيهِ وَتَكْفِي عِيَالَهُ فَهُوَ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ الْفَقِيرُ أَشَدُّ حَاجَةً أَوْ الْمِسْكِينُ، أَوْ الْفَقِيرُ مَنْ يَتَعَفَّفُ وَالْمِسْكِينُ مَنْ يَسْأَلُ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ لَهُمْ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ فَإِنَّهُ يُعْطَى مَا يَكْفِيهِ سَوَاءٌ كَانَ لُبْسُهُ لُبْسَ الْفَقِيرِ الِاصْطِلَاحِيِّ، أَوْ لِبَاسَ الْجُنْدِ وَالْمُقَاتِلَةِ أَوْ لُبْسَ الشُّهُودِ، أَوْ لُبْسَ التُّجَّارِ أَوْ الصُّنَّاعِ أَوْ الْفَلَّاحِينَ، فَالصَّدَقَةُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا صِنْفٌ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، بَلْ كُلُّ مَنْ لَيْسَ لَهُ كِفَايَةٌ تَامَّةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ: مِثْلُ الصَّانِعِ الَّذِي لَا تَقُومُ صَنْعَتُهُ بِكِفَايَتِهِ، وَالتَّاجِرِ الَّذِي لَا تَقُومُ تِجَارَتُهُ بِكِفَايَتِهِ، وَالْجُنْدِيِّ الَّذِي لَا تَقُومُ إقْطَاعُهُ بِكِفَايَتِهِ، وَالْفَقِيرِ وَالصُّوفِيِّ الَّذِي لَا يَقُومُ مَعْلُومُهُ مِنْ الْوَقْفِ بِكِفَايَتِهِ، وَالشَّاهِدِ وَالْفَقِيهِ الَّذِي لَا يَقُومُ مَا يَحْصُلُ لَهُ بِكِفَايَتِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ فِي رِبَاطٍ أَوْ زَاوِيَةٍ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ كِفَايَتِهِ، فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مُسْتَحِقُّونَ. وَمَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ مُؤْمِنًا تَقِيًّا كَانَ لِلَّهِ وَلِيًّا، فَإِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانُوا مِنْ أَصْنَافِ الْقِبْلَةِ. وَمَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ مُنَافِقًا أَوْ مُظْهِرًا لِبِدْعَةٍ تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِنْ بِدَعِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ فَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ، وَمِنْ عُقُوبَتِهِ أَنْ يُحْرَمَ حَتَّى يَتُوبَ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ زِنْدِيقًا: كَالْحُلُولِيَّةِ، وَالْمُبَاحِيَّةِ، وَمَنْ يُفَضِّلُ مَتْبُوعَهُ عَلَى النَّبِيِّ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ اتِّبَاعُ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَنَّهُ إذَا حَصَلَتْ لَهُ الْمَعْرِفَةُ وَالتَّحْقِيقُ سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ أَوْ أَنَّهُ الْعَارِفُ الْمُحَقِّقُ يَجُوزُ لَهُ التَّدَيُّنُ بِدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مُنَافِقُونَ زَنَادِقَةٌ، وَإِذَا ظُهِرَ عَلَى أَحَدِهِمْ فَإِنَّهُ يَجِبُ قَتْلُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ كَثِيرُونَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ، وَعَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ مَعَ إعْطَاءِ الْفُقَرَاءِ بَلْ وَالْأَغْنِيَاءِ بِأَنْ يُلْزِمُوا هَؤُلَاءِ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا يُمَكِّنُوا أَحَدًا مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ ادَّعَى مِنْ الدَّعَاوَى مَا ادَّعَاهُ، وَلَوْ زَعَمَ أَنَّهُ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ لَمْ تَشْغَلْهُمْ مَنْفَعَةُ غَايَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ الْكَسْبِ قَادِرًا عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَجَوَّزَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ مَنْ يَصْنَعُ بِهَا دَعْوَةً وَضِيَافَةً لِلْفُقَرَاءِ، وَلَا يُقِيمُ بِهَا سِمَاطٌ لَا لِوَارِدٍ وَلَا غَيْرِ وَارِدٍ. بَلْ يَجِبُ أَنْ يُعْطَى مِلْكًا لِلْفَقِيرِ الْمُحْتَاجِ بِحَيْثُ يُنْفِقُهَا عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ فِي بَيْتِهِ إنْ شَاءَ، وَيَقْضِي مِنْهَا دُيُونَهُ وَيَصْرِفُهَا فِي حَاجَاتِهِ. وَلَيْسَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُنْكِرُ صَرْفَ الصَّدَقَاتِ، وَفَاضِلَ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ إلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمَنْ نُقِلَ عَنْهُ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْهَلْ النَّاسِ بِالْعِلْمِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كُفْرًا بِالدِّينِ، بَلْ بِسَائِرِ الْمِلَلِ وَالشَّرَائِعِ، أَوْ يَكُونَ النَّقْلُ عَنْهُ كَذِبًا أَوْ مُحَرَّفًا، فَأَمَّا مَنْ هُوَ مُتَوَسِّطٌ فِي عِلْمٍ وَدِينٍ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَا يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ. وَلَكِنْ قَدْ اخْتَلَطَ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ الْمُرَتَّبَةِ السُّلْطَانِيَّةِ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ، فَأَقْوَامٌ كَثِيرُونَ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ، وَالدِّينِ، وَالْعِلْمِ، لَا يُعْطَى أَحَدُهُمْ كِفَايَتَهُ، وَيَتَمَزَّقُ جُوعًا وَهُوَ لَا يَسْأَلُ، وَمَنْ يَعْرِفُهُ فَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُعْطِيهِ، وَأَقْوَامٌ كَثِيرُونَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ

بِالْبَاطِلِ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَوْمٌ لَهُمْ رَوَاتِبُ أَضْعَافُ حَاجَاتِهِمْ، وَقَوْمٌ لَهُمْ رَوَاتِبُ مَعَ غِنَاهُمْ، وَعَدَمِ حَاجَاتِهِمْ، وَقَوْمٌ يَنَالُونَ جِهَاتٍ كَمَسَاجِدَ وَغَيْرِهَا فَيَأْخُذُونَ مَعْلُومَهَا وَيَسْتَثْنُونَ مَنْ يُعْطُونَ شَيْئًا يَسِيرًا، وَأَقْوَامٌ فِي الرُّبُطِ وَالزَّوَايَا يَأْخُذُونَ مَا لَا يَسْتَحِقُّونَ، وَيَأْخُذُونَ فَوْقَ حَقِّهِمْ وَيَمْنَعُونَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُمْ حَقَّهُ أَوْ تَمَامَ حَقِّهِ. وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مَوَاضِيعَ كَثِيرَةٍ، وَلَا يَسْتَرِيبُ مُسْلِمٌ أَنَّ السَّعْيَ فِي تَمْيِيزِ الْمُسْتَحِقِّ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِعْطَاءَ الْوِلَايَاتِ وَالْأَرْزَاقِ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَالْعَدْلَ بَيْنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَفِعْلَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ هُوَ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِ وُلَاةِ الْأُمُورِ، بَلْ وَمِنْ أَوْجَبِهَا عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَالْعَدْلُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَكَمَا أَنَّ النَّظَرَ فِي الْجُنْدِ الْمُقَاتِلَةِ وَالتَّعْدِيلَ بَيْنَهُمْ وَزِيَادَةَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ، وَنُقْصَانَ مَنْ يَسْتَحِقُّ النُّقْصَانَ، وَإِعْطَاءَ الْعَاجِزِ عَنْ الْجِهَادِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى هُوَ مِنْ أَحْسَنِ أَفْعَالِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَأَوْجَبِهَا. فَكَذَلِكَ النَّظَرُ فِي حَالِ سَائِرِ الْمُرْتَزِقِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْمَصَالِحِ وَالْوُقُوفِ وَالْعَدْلِ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَإِعْطَاءِ الْمُسْتَحِقِّ تَمَامَ كِفَايَتِهِ، وَمَنْعِ مَنْ دَخَلَ فِي الْمُسْتَحِقِّينَ وَلَيْسَ مِنْهُمْ مِنْ أَنْ يُزَاحِمَهُمْ فِي أَرْزَاقِهِمْ، وَإِذَا ادَّعَى الْفَقْرَ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِهِ الْغَنِيُّ وَطَلَبَ الْأَخْذَ مِنْ الصَّدَقَاتِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُ بِلَا بَيِّنَةٍ بَعْدَ أَنْ يُعْلِمَهُ أَنَّهُ لَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ. وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَأَلَهُ رَجُلَانِ مِنْ الصَّدَقَةِ فَلَمَّا رَآهُمَا جَلْدَيْنِ صَعَّدَ فِيهِمَا النَّظَرَ، وَصَوَّبَهُ فَقَالَ: إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» . وَأَمَّا إنْ ذَكَرَ أَنَّ لَهُ عِيَالًا فَهَلْ يَفْتَقِرُ إلَى بَيِّنَةٍ؛ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ مَشْهُورَانِ: هُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ فِيهِ يَفْتَقِرُ إلَى بَيِّنَةٍ، فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ مِنْ الشُّهُودِ الْمُعَدَّلِينَ، بَلْ يَجِبُ أَنَّهُمْ لَمْ يَرْتَزِقُوا عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ إذَا أَخَذُوا عَلَيْهَا رِزْقًا لَا سِيَّمَا مَعَ الْعِلْمِ بِكَثْرَةِ مَنْ يَشْهَدُ بِالزُّورِ. وَلِهَذَا كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّ الشُّهُودَ فِي الْعَامَّةِ الْمُرْتَزِقَةِ بِالشَّهَادَةِ لَا يَشْهَدُونَ فِي الِاجْتِهَادِيَّاتِ: كَالْأَعْشَارِ، وَالرُّشْدِ، وَالْعَدَالَةِ، وَالْأَهْلِيَّةِ، وَالِاسْتِحْقَاقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ،

بَلْ يَشْهَدُونَ بِالْحِسِّيَّاتِ، كَاَلَّذِي سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ بِالِاجْتِهادِيّات ت يَدْخُلُهَا التَّأْوِيلُ وَالتُّهَمُ، فَالْجُعْلُ يُسَهِّلُ الشَّهَادَةَ فِيهَا بِغَيْرِ تَحَرٍّ، بِخِلَافِ الْحِسِّيَّاتِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا كَذِبٌ صَرِيحٌ لَا يَقْدُمُ عَلَيْهِ إلَّا مَنْ يَقْدُمُ عَلَى صَرِيحِ الزُّورِ، وَهَؤُلَاءِ أَقَلُّ مِنْ غَيْرِهِمْ، بَلْ إذَا أَتَى الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِمَنْ يُعْرَفُ صِدْقُهُ مِنْ جِيرَانِهِ وَمَعَارِفِهِ وَأَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ بِهِ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ جَمِيعَ مَنْ بِالرُّبُطِ وَالزَّوَايَا غَيْرُ مُسْتَحِقِّينَ بَاطِلٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ. كَمَا أَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ فِيهِمْ مُسْتَحِقٌّ لِمَا يَأْخُذُهُ هُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا، فَلَا هَذَا وَلَا هَذَا بَلْ فِيهِمْ الْمُسْتَحِقُّ الَّذِي يَأْخُذُ حَقَّهُ وَفِيهِمْ مَنْ يَأْخُذُ فَوْقَ حَقِّهِ، وَفِيهِمْ مَنْ لَا يُعْطَى إلَّا دُونَ حَقِّهِ، وَفِيهِمْ غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ حَتَّى أَنَّهُمْ فِي الطَّعَامِ الَّذِي يَشْتَرِكُونَ فِيهِ يُعْطَى أَحَدُهُمْ أَفْضَلَ مِمَّا يُعْطَى الْآخَرُ، وَإِنْ كَانَ أَغْنَى مِنْهُ خِلَافُ مَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ الْعَدْلِ الَّذِينَ يُسَوُّونَ فِي الطَّعَامِ بِالْعَدْلِ، كَمَا يُعْمَلُ فِي رِبَاطَاتِ أَهْلِ الْعَدْلِ. وَأَمْرُ وَلِيِّ الْأَمْرِ بِجَمِيعِ هَؤُلَاءِ بَيْنَهُمْ هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ، وَأَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ، وَمَا ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْحُكَّامِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ هَؤُلَاءِ إلَّا الْأَعْمَى وَالْمُكَسَّحُ، وَالزَّمِنُ قَوْلٌ لَمْ يَعْلَمْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقُولَ هَذَا حَاكِمٌ مِمَّنْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنْ يَتَوَلَّى الْحُكْمَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ أَوْ أَفْجَرِهِمْ. فَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَرْحِهِ كَمَا أَنَّهُ إنْ كَانَ النَّاقِلُ لِهَذَا عَنْ حَاكِمٍ قَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً مُرْدِعَةً، وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْمُفْتَرِينَ عَلَى النَّاسِ، وَعُقُوبَةُ الْإِمَامِ لِلْكَذِبِ الْمُفْتَرَى عَلَى النَّاسِ وَالْمُتَكَلِّم فِيهِمْ وَفِي اسْتِحْقَاقِهِمْ لِمَا يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَعْوَاهُمْ. بَلْ الْعُقُوبَةُ فِي ذَلِكَ جَائِزَةٌ بِدُونِ دَعْوَى أَحَدٍ كَعُقُوبَتِهِ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ، فَيُحَدِّثُ بِلَا عِلْمٍ وَيُفْتِي بِلَا عِلْمٍ. وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ يُعَاقَبُونَ، فَعُقُوبَةُ كُلِّ هَؤُلَاءِ جَائِزَةٌ بِدُونِ دَعْوَى، فَإِنَّ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَالتَّكَلُّمَ فِي الدِّينِ وَفِي النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَثِيرٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ قَالَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا الْأَعْمَى، وَالزَّمِنُ، وَالْمُكَسَّحُ فَقَدْ أَخْطَأَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إنَّ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِأَصْنَافٍ

مِنْهُمْ الْفُقَرَاءُ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إطْلَاقُ كِفَايَتِهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَقَدْ أَخْطَأَ، بَلْ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ الزَّكَوَاتِ بِلَا رَيْبٍ، وَأَمَّا مِنْ الْفَيْءِ وَالْمَصَالِحِ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ إلَّا مَا فَضَلَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مِنْ الزَّكَوَاتِ مَا يَكْفِيهِمْ وَأَمْوَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُسْتَغْرِقَةٌ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَانَ إعْطَاءُ الْعَاجِزِ مِنْهُمْ عَنْ الْكَسْبِ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ، فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا أَنْ يُطْعِمُوا الْجَائِعَ وَيَكْسُوا الْعَارِي، وَلَا يَدَعُوا بَيْنَهُمْ مُحْتَاجًا، وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَصْرِفَ ذَلِكَ مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ الْفَاضِلِ عَنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا. وَأَمَّا مَنْ يَأْخُذُ بِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مَعَ حَاجَتِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَعَ الْغِنَى كَالْقَاضِي، وَالشَّاهِدِ، وَالْمُفْتِي، وَالْحَاسِبِ، وَالْمُقْرِئِ، وَالْمُحْدِثِ، إذَا كَانَ غَنِيًّا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْتَزِقَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَعَ غِنَاهُ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ عِنَايَةَ الْإِمَامِ بِأَهْلِ الْحَاجَاتِ تَجِبُ أَنْ تَكُونَ فَوْقَ عِنَايَتِهِ بِأَهْلِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهَا فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، كَالْجِهَادِ، وَالْوِلَايَةِ، وَالْعِلْمُ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي مَالِ الْفَيْءِ وَالْمَصَالِحِ أَنْ يُقَدَّمَ أَهْلُ الْمَنْفَعَةِ الْعَامَّةِ، وَأَمَّا مَالُ الصَّدَقَاتِ فَيَأْخُذُ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَأْخُذُ بِحَاجَتِهِ كَالْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ، وَالْغَارِمِينَ لِمَصْلَحَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَقَوْمٌ يَأْخُذُونَ لِمَنْفَعَتِهِمْ: كَالْعَامِلِينَ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، كَمَنْ فِيهِ نَفْعٌ عَامٌّ كَالْمُقَاتِلَةِ وَوُلَاةِ أُمُورِهِمْ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ أَحَقَّ مِنْ الْآخَرِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ هَذَا وَهَذَا. الثَّانِي: أَنْ مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْقَائِمِينَ بِالْمَصَالِحِ مِنْ الْجِهَادِ وَالْوِلَايَاتِ وَالْعِلْمِ مِنْ فَسَادِ النِّيَّةِ، مُعَارَضٌ بِمَا يُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْ الْفِسْقِ وَالزَّنْدَقَةِ. وَكَمَا أَنَّ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ صَالِحِينَ أَوْلِيَاءً لِلَّهِ فَفِي الْمُجَاهِدِينَ وَالْعُلَمَاءِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانُوا، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ وَالْعِلْمِ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنْ سَادَات أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، كَانُوا كَذَلِكَ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ الْيَوْمَ فِي زَمَانِنَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ وَالْعُلَمَاءِ إنَّمَا

يَتَّخِذُونَ الْجِهَادَ، وَالْقِتَالَ، وَالِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ، مَعِيشَةً دُنْيَوِيَّةً يُحَامُونَ بِهَا عَنْ الْجَاهِ وَالْمَالِ وَإِنَّهُمْ عُصَاةٌ بِقِتَالِهِمْ وَاشْتِغَالِهِمْ، مَعَ انْضِمَامِ مَعَاصٍ وَمَصَائِبَ أُخْرَى لَا يَتَّسِعُ الْحَالُ لَهَا، وَالْمُجَاهِدُ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَالْمُعَلِّمُ لِيَكُونَ التَّعَلُّمُ مَحْضَ التَّقَرُّبِ قَلِيلُ الْوُجُودِ أَوْ مَفْقُودٌ بِلَا رَيْبٍ أَنَّ الْإِخْلَاصَ وَاتِّبَاعَ السُّنَّةِ فِيمَنْ لَا يَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَأْكُلُ الْأَمْوَالَ بِذَلِكَ، بَلْ وَالزَّنْدَقَةُ تُعَارِضُهُ بِمَا هُوَ أَصْدَقُ مِنْهُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الرُّبُطِ وَالزَّوَايَا وَالْمُتَظَاهِرِينَ لِلنَّاسِ بِالْفَقْرِ إنَّمَا يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ مَعِيشَةً دُنْيَوِيَّةً، هَذَا مَعَ انْضِمَامِ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ وَمَصَائِبَ لَا يَتَّسِعُ الْحَالُ لِقَوْلِهَا بِمِثْلِ دَعْوَى الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فِي الْعِبَادِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْجِهَادِ. وَكَذَلِكَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ بِالْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ فِي كُلِّ طَائِفَةٍ بَرٌّ، وَفَاجِرٌ، وَصِدِّيقٌ، وَزِنْدِيقٌ، وَالْوَاجِبُ مُوَالَاةُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ مِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، وَبَعْضُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، وَالْفَاسِقُ الْمِلِّيُّ يُعْطَى مِنْ الْمُوَالَاةِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ، وَيُعْطَى مِنْ الْمُعَادَاةِ بِقَدْرِ فِسْقِهِ، فَإِنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ لَهُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ إذَا لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ مِنْ الْفُسَّاقِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، بَلْ يَخْلُدُ فِيهَا الْمُنَافِقُونَ كَمَا يَخْلُدُ فِيهَا الْمُتَظَاهِرُونَ بِالْكُفْرِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ غَالِبُ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْجُنْدِ، وَأَهْلِ الْعِلْمِ، وَنَحْوِهِمْ مَحَاوِيجُ أَيْضًا، بَلْ غَالِبُهُمْ لَيْسَ لَهُ رِزْقٌ إلَّا الْعَطَاءُ، وَمَنْ يَأْخُذُ لِلْمَنْفَعَةِ وَالْحَاجَةِ، أَوْلَى مِمَّنْ يَأْخُذُ بِمُجَرَّدِ الْحَاجَةِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ الْعَطَاءُ إذَا كَانَ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُنْظَرْ إلَى الْآخِذِ هَلْ هُوَ صَالِحُ النِّيَّةِ أَوْ فَاسِدُهَا، وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ أَعْطَى ذَوِي الْحَاجَاتِ الْعَاجِزِينَ عَنْ الْقِتَالِ، وَتَرَكَ إعْطَاءَ الْمُقَاتِلَةِ حَتَّى يُصْلِحُوا نِيَّاتِهِمْ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَاسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ تَعْلِيقَ الْعَطَايَا فِي الْقُلُوبِ مُتَعَذِّرٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ، وَبِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ» .

وَقَالَ: «إنِّي لَأُعْطِي رِجَالًا وَأَدَعُ رِجَالًا، وَاَلَّذِينَ أَدَعُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الَّذِينَ أُعْطِي، أُعْطِي رِجَالًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ، وَأَكِلُ رِجَالًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْرِ» . وَقَالَ: «إنِّي لَأُعْطِي أَحَدَهُمْ الْعَطِيَّةَ فَيَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبَّطُهَا نَارًا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلِمَ تُعْطِيهِمْ؟ قَالَ: يَأْبَوْنَ إلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ» وَلَمَّا كَانَ عَامُ حُنَيْنٍ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ بَيْنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، وَالطُّلَقَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ، كَعُيَيْنَةَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَالْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ، وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَأَمْثَالِهِمْ، وَبَيْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَابْنِهِ مُعَاوِيَةَ، وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الطُّلَقَاءِ اللَّذَيْنِ أَطْلَقَهُمْ عَامَ الْفَتْحِ، وَلَمْ يُعْطِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ شَيْئًا. أَعْطَاهُمْ لِيَتَأَلَّفَ بِذَلِكَ قُلُوبَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَتَأْلِيفُهُمْ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَاَلَّذِينَ لَمْ يُعْطِهِمْ هُمْ أَفْضَلُ عِنْدَهُ وَهُمْ سَادَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ، وَأَفْضَلُ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ بَعْدَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ، وَاَلَّذِينَ أَعْطَاهُمْ مِنْهُمْ مِنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَعَامَّتُهُمْ أَغْنِيَاءٌ لَا فُقَرَاءُ فَلَوْ كَانَ الْعَطَاءُ لِلْحَاجَةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْعَطَاءِ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لَمْ يُعْطِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَؤُلَاءِ الْأَغْنِيَاءَ السَّادَةَ الْمُطَاعِينَ فِي عَشَائِرِهِمْ، وَيَدَعُ عَطَاءَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ هُمْ أَحْوَجُ مِنْهُمْ وَأَفْضَلُ. وَبِمِثْلِ هَذَا طَعَنَ الْخَوَارِجُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لَهُ أَوَّلُهُمْ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ فَإِنَّك لَمْ تَعْدِلْ: قَالَ: إنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ: «وَيْحَك وَمَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلْ، لَقَدْ خِبْت وَخَسِرْت إنْ لَمْ أَعْدِلْ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا. فَقَالَ: إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِي هَذَا قَوْمٌ يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ» .

وَهَؤُلَاءِ خَرَجُوا عَلَى عَهْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَتَلَ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ جَمِيعَهُمْ مَعَ كَثْرَةِ صَوْمِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَقِرَاءَتِهِمْ، فَأُخْرِجُوا عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُمْ قَوْمٌ لَهُمْ عَنَاءٌ وَوَرَعٌ وَزُهْدٌ لَكِنْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَاقْتَضَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعَطَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا لِذَوِي الْحَاجَاتِ، وَأَنَّ إعْطَاءَ السَّادَةِ الْمُطَاعِينَ الْأَغْنِيَاءَ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهِ بِزَعْمِهِمْ، وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ فَإِنَّمَا الْعَطَاءُ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مَصْلَحَةِ دِينِ اللَّهِ، فَكُلَّمَا كَانَ لِلَّهِ أَطْوَعُ وَلِدِينِ اللَّهِ أَنْفَعُ كَانَ الْعَطَاءُ فِيهِ أَوْلَى، وَعَطَاءُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فِي إقَامَةِ الدِّينِ وَقَمْعِ أَعْدَائِهِ وَإِظْهَارِهِ وَإِعْلَائِهِ أَعْظَمُ مِنْ إعْطَاءِ مَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَحْوَجَ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ هَذِهِ الْقُيُودَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، دُونَ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَمَا نَقَلَهُ مِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ، فَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةٍ بِمَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ، وَسِيرَةِ الْخُلَفَاءِ فِي الْعَطَاءِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ إذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً فَفِيهَا لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ قَسْمُهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، إلَّا أَنْ تَسْتَطِيبَ أَنْفُسُهُمْ فَيَقِفُهَا، وَذُكِرَ فِي الْأُمِّ " أَنَّهُ لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِوَقْفِهَا مِنْ غَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ نُقِضَ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ خَيْبَرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ» ، لَكِنَّ جُمْهُورَ الْأَئِمَّةِ خَالَفُوا الشَّافِعِيَّ فِي ذَلِكَ، وَرَأَوْا أَنَّ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ جَعْلِ الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً فَيْئًا حَسَنٌ جَائِزٌ، وَأَنَّ عُمَرَ حَبَسَهَا بِدُونِ اسْتِطَابَةِ أَنْفُسِ الْغَانِمِينَ، وَلَا نِزَاعَ أَنَّ كُلَّ أَرْضٍ فَتَحَهَا عُمَرُ بِالشَّامِ عَنْوَةً، وَالْعِرَاقِ، وَمِصْرَ، وَغَيْرِهَا لَمْ يَقْسِمْهَا عُمَرُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَإِنَّمَا قَسَمَ الْمَنْقُولَاتِ. لَكِنْ قَالَ مَالِكٌ وَطَائِفَةٌ وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَدْ صَنَّفَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ إمَامُ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ بِمَا نَازَعَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَتَكَلَّمَ عَلَى حُجَجِهِ. وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ كَالْقَوْلَيْنِ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ فِي مَذْهَبِهِ، هُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ: أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَ يَفْعَلُ فِيهَا مَا هُوَ أَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَسْمِهَا أَوْ حَبْسِهَا، فَإِنْ رَأَى قَسْمَهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ فَعَلَ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَدَعَهَا فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ فَعَلَ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ. وَكَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ بِنِصْفِ خَيْبَرَ، وَأَنَّهُ قَسَمَ نِصْفَهَا وَحَبَسَ نِصْفَهَا لِنَوَائِبِهِ، وَأَنَّهُ فَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً وَلَمْ

يَقْسِمْهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَعُلِمَ أَنَّ أَرْضَ الْعَنْوَةِ يَجُوزُ قَسْمُهَا، وَيَجُوزُ تَرْكُ قَسْمِهَا، وَقَدْ يَقْسِمُهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَعُلِمَ أَنَّ أَرْضَ الْعَنْوَةِ يَجُوزُ قَسْمُهَا، وَيَجُوزُ تَرْكُ قَسْمِهَا، وَقَدْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا كَبِيرًا. إذَا عَرَفَ ذَلِكَ فَمِصْرُ هِيَ مِمَّا فُتِحَ عَنْوَةً، وَلَمْ يَقْسِمْهَا عُمَرُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنْبَلِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، لَكِنْ تَنَقَّلَتْ أَحْوَالُهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا تَنَقَّلَتْ أَحْوَالُ الْعِرَاقِ، فَإِنَّ حُلَفَاءَ بَنِي الْعَبَّاسِ نَقَلُوهُ إلَى الْمُقَاسَمَةِ بَعْدَ الْمُحَاوَصَةِ، وَهَذَا جَائِزٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ مِصْرُ رُفِعَ عَنْهَا الْخَرَاجُ مِنْ مُدَّةٍ لَا أَعْلَمُ ابْتِدَاءَهَا، وَصَارَتْ الرَّقَبَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا جَائِزٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا مَذْهَبُ عُمَرَ فِي الْفَيْءِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فِيهِ حَقًّا، لَكِنَّهُ يُقَدِّمُ الْفُقَرَاءَ وَأَهْلَ الْمَنْفَعَةِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لَيْسَ أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْمَالِ مِنْ أَحَدٍ إنَّمَا هُوَ الرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ، وَالرَّجُلُ وَغَنَاؤُهُ، وَالرَّجُلُ وَسَابِقَتُهُ، وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ، فَكَانَ يُقَدِّمُ فِي الْعَطَاءِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَكَانَتْ سِيرَتُهُ التَّفْضِيلَ فِي الْعَطَاءِ بِالْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ. وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْعَطَاءِ إذَا اسْتَوَوْا فِي الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَفْضَلَ فِي دِينِهِ، وَقَالَ: إنَّمَا أَسْلَمُوا لِلَّهِ وَأُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ الدُّنْيَا بَلَاغٌ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: اسْتَوَى فِيهِمْ إيمَانُهُمْ يَعْنِي أَنَّ حَاجَتَهُمْ إلَى الدُّنْيَا وَاحِدَةٌ، فَأُعْطِيهِمْ لِذَلِكَ لَا لِلسَّابِقَةِ وَالْفَضِيلَةِ فِي الدِّينِ، فَإِنَّ أَجْرَهُمْ يَبْقَى عَلَى اللَّهِ، فَإِذَا اسْتَوَوْا فِي الْحَاجَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْعَطَاءِ. وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ قَالَ: لَإِنْ عِشْت إلَى قَابِلَ لَأَجْعَلَنَّ النَّاسَ بَيَانًا وَاحِدًا أَيْ مِائَةً وَاحِدَةً أَيْ صِنْفًا وَاحِدًا، وَتَفْضِيلُهُ كَانَ بِالْأَسْبَابِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ وَهُوَ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِي قِتَالِ الْأَعْدَاءِ، وَالرَّجُلُ وَغَنَاؤُهُ وَهُوَ الَّذِي يُغْنِي عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي مَصَالِحِهِمْ لِوُلَاةِ أُمُورِهِمْ وَمُعَلِّمِيهِمْ، وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ، وَالرَّجُلُ وَسَابِقَتُهُ وَهُوَ مَنْ كَانَ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُفَضِّلُهُمْ فِي الْعَطَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَالرَّجُلُ وَفَاقَتُهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ الْفُقَرَاءَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ مَعَ وُجُودِ الْمُحْتَاجِينَ كَيْفَ يُحْرِمُ بَعْضَهُمْ وَيُعْطِي لِغَنِيٍّ لَا حَاجَةَ لَهُ وَلَا مَنْفَعَةَ بِهِ، لَا سِيَّمَا إذَا ضَاقَتْ أَمْوَالُ بَيْتِ الْمَالِ عَنْ إعْطَاءِ كُلِّ الْمُسْلِمِينَ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْغَنِيَّ

الَّذِي لَيْسَ فِيهِ نَفْعٌ عَامٌّ، وَيَحْرِمُ الْفَقِيرَ الْمُحْتَاجَ بَلْ الْفَقِيرَ النَّافِعَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَعْطَى مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ، وَكَانَتْ لِلْمُهَاجِرِينَ لِفَقْرِهِمْ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ مِنْهَا شَيْئًا لِغِنَاهُمْ إلَّا أَنَّهُ أَعْطَى بَعْضَ الْأَنْصَارِ لِفَقْرِهِ» . وَفِي السُّنَنِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا أَتَاهُ مَالٌ أَعْطَى الْآهِلَ قِسْمَيْنِ، وَالْعَزَبَ قِسْمًا» فَيُفَضِّلُ الْمُتَأَهِّلَ عَلَى الْمُتَعَزِّبِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى نَفَقَةِ نَفْسِهِ وَنَفَقَةِ امْرَأَتِهِ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَأَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَلَفْظُهُ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا أَتَاهُ الْفَيْءُ قَسَمَهُ مِنْ يَوْمِهِ فَأَعْطَى الْآهِلَ حَظَّيْنِ وَأَعْطَى الْعَزَبَ حَظًّا» ، وَحَدِيثُ عُمَرَ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد: عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ: ذَكَرَ عُمَرُ يَوْمًا الْفَيْءَ فَقَالَ: مَا أَنَا بِأَحَقَّ بِهَذَا الْفَيْءِ مِنْكُمْ، وَمَا أَحَدٌ مِنَّا بِأَحَقَّ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا أَنَّا عَلَى مَنَازِلِنَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، الرَّجُلُ وَقَدَمُهُ وَالرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ وَالرَّجُلُ وَغَنَاؤُهُ وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ. وَلَفْظُ أَحْمَدَ: قَالَ كَانَ عُمَرُ يَحْلِفُ عَلَى أَيْمَانٍ ثَلَاثٍ: وَاَللَّهِ مَا أَحَدٌ أَحَقُّ بِهَذَا الْمَالِ مِنْ أَحَدٍ، وَمَا أَنَا أَحَقُّ بِهِ مِنْ أَحَدٍ، وَوَاللَّهِ مَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ إلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ نَصِيبٌ إلَّا عَبْدًا مَمْلُوكًا، وَلَكِنَّا عَلَى مَنَازِلِنَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَالرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَالرَّجُلُ وَقَدَمُهُ وَالرَّجُلُ وَغَنَاؤُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ، وَاَللَّهِ لَئِنْ بَقِيت لَهُمْ لَأُوتَيَنَّ الرَّاعِيَ بِجَبَلِ صَنْعَاءَ حَظَّهُ فِي هَذَا الْمَالِ، وَهُوَ يَرْعَى مَكَانَهُ. فَهَذَا كَلَامُ عُمَرَ الَّذِي يَذْكُرُ فِيهِ بِأَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ حَقًّا يَذْكُرُ فِيهِ تَقْدِيمَ أَهْلِ الْحَاجَاتِ، وَلَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى الْأَغْنِيَاءُ الَّذِينَ لَا مَنْفَعَةَ لَهُمْ وَيُحْرَمَ الْفُقَرَاءُ، فَإِنَّ هَذَا مُضَادٌّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] وَإِذَا جَعَلَ الْفَيْءَ مُتَدَاوَلًا بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ، فَهَذَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَأَمَّا نَقْلُ النَّاقِلِ مَذْهَبَ مَالِكٍ بِأَنَّ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَجِزْيَةُ جَمَاجِمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَخَرَاجُ الْأَرْضِينَ، مَا كَانَ مِنْهَا عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا فَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ جِزْيَةٌ، وَالْجِزْيَةُ عِنْدَهُ فَيْءٌ، قَالَ:

وَيُعْطِي هَذَا الْفَيْءَ أَهْلَ كُلِّ بَلْدَةٍ افْتَتَحُوهَا عَنْوَةً أَوْ صَالَحُوا عَلَيْهَا، فَيَقْسِمُ عَلَيْهِمْ وَيُفَضِّلُ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ مِنْ الْفَيْءِ، وَيَبْدَأُ بِأَهْلِ الْحَاجَةِ حَتَّى يَغْنَوْا مِنْهُ، وَلَا يَخْرُجُ إلَى غَيْرِهِمْ، إلَّا أَنْ يَنْزِلَ بِقَوْمِ حَاجَةٍ فَيَنْقُلُ إلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَ أَهْلَهُ مِنْهُ مَا يُغْنِيهِمْ عَنْ الِاجْتِهَادِ، وَقَالَ أَيْضًا: قَالَ مَالِكٌ: وَأَمَّا جِزْيَةُ الْأَرْضِ فَمَا أَدْرِي كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِيهَا، إلَّا أَنَّ عُمَرَ قَدْ أَقَرَّ الْأَرْضَ فَلَمْ يَقْسِمْهَا بَيْنَ الَّذِينَ افْتَتَحُوهَا، وَأَرَى لِمَنْ يَنْزِلُ ذَلِكَ بِهِ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُ مَنْ يَرْضَاهُ، فَإِنْ وَجَدَ عَالِمًا يَسْتَفْتِيهِ وَإِلَّا اجْتَهَدَ هُوَ وَمَنْ بِحَضْرَتِهِ رَأْسًا. وَأَمَّا إحْيَاءُ الْمَوَاتِ فَجَائِزٌ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَقَالَ مَالِكٍ: إنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْ الْعُمْرَانِ بِحَيْثُ لَا تُبَاحُ النَّاسُ فِيهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى إذْنِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا قَرُبَ مِنْ الْعُمْرَانِ، وَيُبَاحُ النَّاسُ فِيهِ افْتَقَرَ إلَى إذْنِهِ، لَكِنْ إنْ كَانَ الْإِحْيَاءُ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ فَهَلْ يَمْلِكُ بِالْإِحْيَاءِ، وَلَا خَرَاجَ عَلَيْهِ أَوْ يَكُونُ بِيَدِهِ، وَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ، عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. وَأَمَّا مَنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ فَإِنَّهُ تُرْزَقُ امْرَأَتُهُ وَأَوْلَادُهُ الصِّغَارُ، وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَغَيْرِهِمَا: فَيُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ حَتَّى تَتَزَوَّجَ، وَعَلَى ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ حَتَّى تَتَزَوَّجَ، وَعَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ، حَتَّى يَبْلُغَ، ثُمَّ يُجْعَلُ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ إنْ كَانَ يَصْلُحُ لِلْقِتَالِ وَإِلَّا إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ، وَاَلَّذِينَ يُعْطَوْنَ مِنْ الصَّدَقَةِ وَفَاضِلِ الْفَيْءِ وَالْمَصَالِحِ أَعْطَى لَهُ مِنْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا.

كتاب الوقف

[كِتَابُ الْوَقْفِ] [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ احْتَكَرَ مِنْ رَجُلٍ قِطْعَةَ أَرْضِ بُسْتَانٍ] ِ 842 - 1 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ احْتَكَرَ مِنْ رَجُلٍ قِطْعَةَ أَرْضِ بُسْتَانٍ، ثُمَّ إنَّ الْمُحْتَكِرَ عَمَرَ فِي أَرْضِ الْبُسْتَانِ صُورَةَ مَسْجِدٍ، وَبَنَى فِيهَا مِحْرَابًا، وَقَالَ لِمَالِكِ الْأَرْضِ: هَذَا عَمَرْته مَسْجِدًا فَلَا تَأْخُذْ مِنِّي حَكْرَهُ، فَأَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّ مَالِكَ الْأَرْضِ بَاعَ الْبُسْتَانَ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ شَيْئًا، فَهَلْ يَصِيرُ هَذَا الْمَكَانُ مَسْجِدًا بِذَلِكَ، أَمْ لَا؟ وَإِذَا لَمْ يَصِرْ مَسْجِدًا بِذَلِكَ، فَهَلْ يَكُونُ عَدَمُ أَخْذِ مَالِكِ الْأَرْضِ الْحَكْرَ يَصِيرُ مَسْجِدًا؟ وَإِذَا لَمْ يَصِرْ بَيْعُ الْبُسْتَانِ جَمِيعِهِ، هَلْ يَجُوزُ لِبَانِي صُورَةِ الْمَسْجِدِ أَنْ يَضَعَ مَا بَنَاهُ؟ الْجَوَابُ: إذَا لَمْ يُسَبَّلْ لِلنَّاسِ كَمَا تُسَبَّلُ الْمَسَاجِدُ؛ بِحَيْثُ تُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الَّتِي تُصَلَّى فِي الْمَسَاجِدِ، لَمْ يَصِرْ مَسْجِدًا بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ فِي الْعِمَارَةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قُرْبَةً يَقْتَضِي خُرُوجَهُ مِنْ الْمَبِيعِ دَخَلَ فِي الْمَبِيعِ، فَإِنَّ الشُّرُوعَ فِي تَصْيِيرِهِ مَسْجِدًا لَا يَجْعَلُهُ مَسْجِدًا. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْعِمَارَةِ، لَكِنْ يَنْبَغِي لِمَنْ أَخْرَجَ ثَمَنَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَعُودَ إلَى مِلْكِهِ، كَمَنْ أَخْرَجَ مِنْ مَالِهِ مَالًا لِيَتَصَدَّقَ بِهِ، فَلَمْ يَجِدْ السَّائِلَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُمْضِيَ ذَلِكَ، وَيَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى سَائِلٍ آخَرَ، وَلَا يُعِيدُهُ إلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ. وَإِذَا صُرِفَ مِثْلُ هَذَا الْمَكَانِ فِي مَصَالِحِ مَسْجِدٍ آخَرَ جَازَ ذَلِكَ، بَلْ إذَا صَارَ مَسْجِدًا، وَكَانَ بِحَيْثُ لَا يُصَلِّي فِيهِ أَحَدٌ جَازَ أَنْ يُنْقَلَ إلَى مَسْجِدٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، بَلْ إذَا جَازَ أَنْ يُبَاعَ وَيُصْرَفَ ثَمَنُهُ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُعْمَرَ عِمَارَةً يُنْتَفَعُ بِهَا لِمَسْجِدٍ آخَرَ.

مسألة بنى مسجدا وأوقف حانوتا على مؤذن

[مَسْأَلَةٌ بَنَى مَسْجِدًا وَأَوْقَفَ حَانُوتًا عَلَى مُؤَذِّنٍ] مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ بَنَى مَسْجِدًا، وَأَوْقَفَ حَانُوتًا عَلَى مُؤَذِّنٍ وَقَيِّمٍ مُعَيَّنٍ، وَلَمْ يَتَسَلَّمْ مِنْ رِيعِ الْحَانُوتِ شَيْئًا فِي حَيَاتِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ تَنَاوُلُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. إذَا وَقَفَ وَقْفًا، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ يَدِهِ فَفِيهِ: قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ: أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبِهِ مُحَمَّدٍ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ بِنَاء طَبَقَة عَلَيَّ الْمِحْرَاب لِمِنْ يَسْكُنهَا] 844 - 3 مَسْأَلَةٌ: فِي حُقُوقِ زَاوِيَةٍ وَهُوَ بِظَاهِرِهَا، وَقَدْ أُقِيمَ فِيهِ مِحْرَابٌ مُنْذُ سِنِينَ، فَرَأَى مَنْ لَهُ النَّظَرُ عَلَى الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ الْمَصْلَحَةَ فِي بِنَاءِ طَبَقَةٍ عَلَى ذَلِكَ الْمِحْرَابِ: إمَّا لِسَكَنِ الْإِمَامِ، أَوْ لِمَنْ يَخْدُمُ الْمَكَانَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ تَعُودُ عَلَى الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ، وَلَا عَلَى أَهْلِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَسْجِدًا مُعَدًّا لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، بَلْ هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْمَكَانِ: جَازَ أَنْ يُبْنَى فِيهِ مَا يَكُونُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْمَكَانِ، وَمُجَرَّدُ تَصْوِيرِ مِحْرَابٍ لَا يَجْعَلُهُ مَسْجِدًا، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمَسْجِدُ الْمُعَدُّ لِلصَّلَوَاتِ فَفِي الْبِنَاءِ عَلَيْهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. [مَسْأَلَةٌ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا وَبَنَى فِيهَا دَارًا وَدُكَّانًا] 845 - 4 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا، وَبَنَى فِيهَا دَارًا، وَدُكَّانًا أَوْ شَيْئًا يَسْتَحِلُّ لَهُ كِرَى عِشْرِينَ دِرْهَمًا كُلَّ شَهْرٍ، إذَا يَعْمُرُ، وَعَلَيْهِ حَكْرٌ فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ؟ تَوَقَّفَ قَدِيمًا، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَعْمُرَ مَعَ مَا قَدْ عَمَرَهُ مِنْ الْمِلْكِ مَسْجِدًا لِلَّهِ وَيُوقَفَ الْمِلْكُ عَلَى الْمَسْجِدِ؟ الْجَوَابُ: يَجُوزُ أَنْ يَقِفَ الْبِنَاءَ الَّذِي بَنَاهُ فِي الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، سَوَاءٌ وَقَفَهُ مَسْجِدًا أَوْ غَيْرَ مَسْجِدٍ، وَلَا يُسْقِطُ ذَلِكَ حَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ مَتَى انْقَضَتْ مُدَّةُ

مسألة فيمن وصى أو وقف على جيرانه

الْإِجَارَةِ، وَانْهَدَمَ الْبِنَاءُ زَالَ حُكْمُ الْوَقْفِ، سَوَاءٌ كَانَ مَسْجِدًا أَوْ غَيْرَ مَسْجِدٍ، وَأَخَذُوا أَرْضَهُمْ فَانْتَفَعُوا بِهَا، وَمَا دَامَ الْبِنَاءُ قَائِمًا فِيهَا فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى رَبْعٍ أَوْ دَارٍ مَسْجِدًا، ثُمَّ انْهَدَمَتْ الدَّارُ أَوْ الرَّبْعُ، فَإِنَّ وَقْفَ الْعُلْوِ لَا يُسْقِطُ حَقَّ مُلَّاكِ السُّفْلِ، كَذَلِكَ وَقْفُ الْبِنَاءِ لَا يَسْقُطُ عَلَى مُلَّاكِ الْأَرْضِ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ وَصَّى أَوْ وَقَفَ عَلَى جِيرَانِهِ] 846 - 5 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ وَصَّى، أَوْ وَقَفَ عَلَى جِيرَانِهِ فَمَا الْحُكْمُ؟ الْجَوَابُ: إذَا لَمْ يُعْرَفْ مَقْصُودُ الْوَاقِفِ وَالْوَصِيِّ، لَا بِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ وَلَا عُرْفِيَّةٍ، وَلَا كَانَ لَهُ عُرْفٌ فِي مُسَمَّى الْجِيرَانِ رُجِعَ فِي ذَلِكَ إلَى الْمُسَمَّى الشَّرْعِيِّ وَهُوَ أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْجِيرَانُ أَرْبَعُونَ مِنْ هَهُنَا، وَهَهُنَا، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ مُعَرِّفٍ عَلَى الْمَرَاكِبِ وَبَنَى مَسْجِدًا وَجَعَلَ لِلْإِمَامِ فِي كُلِّ الْمَرَاكِبِ شَهْرَ أُجْرَةٍ مِنْ عِنْدِهِ] 847 - 6 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مُعَرِّفٍ عَلَى الْمَرَاكِبِ، وَبَنَى مَسْجِدًا، وَجَعَلَ لِلْإِمَامِ فِي كُلِّ الْمَرَاكِبِ شَهْرَ أُجْرَةٍ مِنْ عِنْدِهِ: فَهَلْ هُوَ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ، وَهَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ يُعْطِي هَذِهِ الدَّرَاهِمَ مِنْ أُجْرَةِ الْمَرَاكِبِ الَّتِي لَهُ جَازَ أَخْذُهَا، وَإِنْ كَانَ يُعْطِيهَا مِمَّا يَأْخُذُ مِنْ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قَوْمٍ بِيَدِهِمْ وَقْفٌ مِنْ جَدِّهِمْ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً] 848 - 7 مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْمٍ بِيَدِهِمْ وَقْفٌ مِنْ جَدِّهِمْ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً عَلَى مَشْهَدٍ مُضَافٍ إلَى شِيثٍ، وَعَلَى ذُرِّيَّةِ الْوَاقِفِ وَالْفُقَرَاءِ، وَنَظَرُهُ لَهُمْ، وَالْوَقْفُ مَعْرُوفٌ بِذَلِكَ مِنْ الزَّمَانِ الْقَدِيمِ. وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ الشَّرِيفِ، وَبِيَدِهِمْ مَرَاسِيمُ الْمُلُوكِ مِنْ زَمَانِ نُورِ الدِّينِ، وَصَلَاحِ الدِّينِ، تَشْهَدُ بِذَلِكَ، وَتَأْمُرُ

بِإِعْفَاءِ هَذَا الْوَقْفِ وَرِعَايَةِ حُرْمَتِهِ، وَقَدْ قَامَ نُظَّارُ هَذَا الْوَقْفِ فِي هَذَا الْوَقْتِ طَلَبُوا أَنْ يُفَرِّقُوا نِصْفَ الْمُغَلِّ فِي عِمَارَةِ الْمَشْهَدِ، وَالنِّصْفُ الَّذِي يَبْقَى لِذُرِّيَّتِهِ يَأْخُذُونَهُ لَا يُعْطُونَهُمْ إيَّاهُ، وَلَا يَصْرِفُونَهُ فِي مَصَارِفِ الْوَقْفِ؟ . أَجَابَ: لَا يَجُوزُ هَذَا لِلنَّاظِرِ، وَلَا يَجُوزُ تَمْكِينُهُمْ مِنْ أَنْ يَصْرِفُوا الْوَقْفَ فِي غَيْرِ مَصَارِفِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا حِرْمَانُ وَرَثَةِ الْوَاقِفِ وَالْفُقَرَاءِ الدَّاخِلِينَ فِي شَرْطِ الْوَاقِفِ؛ بَلْ ذُرِّيَّتُهُ وَالْفُقَرَاءُ أَحَقُّ بِأَنْ يَصْرِفَ إلَيْهِمْ مَا شَرَطَ لَهُمْ مِنْ الْمَشْهَدِ الْمَذْكُورِ؛ فَكَيْفَ يُحْرَمُونَ - وَالْحَالُ هَذِهِ - بَلْ لَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْمَشْهَدِ وَحْدِهُ لَكَانَ صَرْفُ مَا يَفْضُلُ إلَيْهِمْ مَعَ حَاجَتِهِمْ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إلَى غَيْرِهِمْ. فَمَنْ صَرَفَ بَعْضَ الْوَقْفِ عَلَى الْمَشْهَدِ، وَأَخَذَ بَعْضَهُ يَصْرِفُهُ فِيمَا لَمْ يَقْتَضِهِ الشَّرْطُ؛ وَحَرَمَ الذُّرِّيَّةَ الدَّاخِلِينَ فِي الشَّرْطِ، فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؛ وَتَعَدَّى حُدُودَهُ مِنْ وُجُوبِ أَدَاءِ الْوَقْفِ عَلَى ذُرِّيَّةِ الْوَاقِفِ؛ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُجَوِّزِينَ لِلْوَقْفِ؛ وَهُوَ أَمْرٌ قَدِيمٌ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَأَمَّا بِنَاءُ الْمَشَاهِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَالْوَقْفُ عَلَيْهَا فَبِدْعَةٌ؛ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ؛ وَلَا التَّابِعِينَ؛ وَلَا تَابِعِيهِمْ؛ بَلْ وَلَا عَلَى عَهْدِ الْأَرْبَعَةِ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ بِنَاءُ هَذِهِ الْمَشَاهِدِ عَلَى الْقُبُورِ؛ وَلَا الْإِعَانَةُ عَلَى ذَلِكَ بِوَقْفٍ وَلَا غَيْرِهِ؛ وَلَا النَّذْرُ لَهَا؛ وَلَا الْعُكُوفُ عَلَيْهَا؛ وَلَا فَضِيلَةَ لِلصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ [فِيهَا عَلَى] الْمَسَاجِدِ الْخَالِيَةِ عَنْ الْقُبُورِ؛ فَإِنَّهُ يُعْرَفُ أَنَّ هَذَا خِلَافُ دِينِ الْإِسْلَامِ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ؛ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَرْجِعْ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ؛ بَلْ قَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ الْمُعْتَبَرُونَ عَلَى أَنَّ بِنَاءَ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ مِثْلَ هَذَا الْمَشْهَدِ وَنَحْوِهِ حَرَامٌ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا. قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزَ قَبْرَهُ» ؛ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ: «إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ

مسألة رجل وقف وقفا على مدرسة واشترط شرطا

كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ؛ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ؛ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» . فَقَدْ لَعَنَ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا عَلَى قَبْرٍ؛ وَيُوقِدُ فِيهِ سُرُجًا، مِثْلَ: قِنْدِيلٍ وَشَمْعَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يُصْرَفُ مَالُ أَحَدِهِمْ إلَى مَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَيُتْرَكُ صَرْفُ مَا شَرَطَ لَهُمْ؛ مَعَ اسْتِحْقَاقِهِمْ ذَلِكَ فِي دِينِ اللَّهِ؟ ، نَعَمْ لَوْ كَانَ هَذَا مَسْجِدًا لِلَّهِ خَالِيًا عَنْ قَبْرٍ لَكَانُوا هُمْ وَهُوَ فِي تَنَاوُلِ شَرْطِ الْوَاقِفِ لَهُمَا سَوَاءً. أَمَّا مَا يُصْرَفُ لِبِنَاءِ الْمَشْهَدِ فَمَعْصِيَةٌ لِلَّهِ. وَالصَّرْفُ إلَيْهِمْ وَاجِبٌ. وَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ مُنْفَصِلًا عَنْ الْقَبْرِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلَكِنْ لَا فَضِيلَةَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى مَدْرَسَةٍ وَاشْتَرَطَ شرطا] 849 - 8 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى مَدْرَسَةٍ وَشَرَطَ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ بِالْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَةِ إلَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَظِيفَةٌ بِجَامِكِيَّةٍ وَلَا مُرَتَّبٌ. وَأَنَّهُ لَا يُصْرَفُ رِيعُهَا لِمَنْ لَهُ مُرَتَّبٌ فِي جِهَةٍ أُخْرَى؛ وَشَرَطَ لِكُلِّ طَالِبٍ جَامَكِيَّةً مَعْلُومَةً، فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؛ وَإِذَا صَحَّ فَنَقَصَ رِيعُ الْوَقْفِ؛ وَلَمْ يَصِلْ كُلُّ طَالِبٍ إلَى الْجَامِكِيَّةِ الْمُقَرَّرَةِ لَهُ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلطَّالِبِ أَنْ يَتَنَاوَلَ جَامَكِيَّةً فِي مَكَان آخَرَ؟ وَإِذَا نَقَصَ رِيعُ الْوَقْفِ وَلَمْ يُصَلِّ كُلُّ طَالِبٍ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُبْطِلَ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ أَمْ لَا؟ وَإِذَا حَكَمَ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ الْمَذْكُورِ حَاكِمٌ، هَلْ يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؟ . الْجَوَابُ: أَصْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ إنْ كَانَ قُرْبَةً وَطَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ صَحِيحًا؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا لَازِمًا. وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا، كَمَا لَمْ يُسَوِّغْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّبْقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ؛ وَإِنْ كَانَتْ الْمُسَابَقَةُ بِلَا عِوَضٍ قَدْ جَوَّزَهَا بِالْأَقْدَامِ وَغَيْرِهَا؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي مَالِ الْفَيْءِ: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]

فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ. وَإِنْ كَانَ الْغِنَى وَصْفًا مُبَاحًا فَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ؛ وَعَلَى قِيَاسِهِ سَائِرُ الصِّفَاتِ الْمُبَاحَةِ؛ وَلِأَنَّ الْعَمَلَ إذَا لَمْ يَكُنْ قُرْبَةً لَمْ يَكُنْ الْوَاقِفُ مُثَابًا عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فِيهِ؛ فَيَكُونُ قَدْ صَرَفَ الْمَالَ فِيمَا لَا يَنْفَعُهُ؛ لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا فِي مَمَاتِهِ ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فِي الدُّنْيَا؛ كَانَ تَعْذِيبًا لَهُ بِلَا فَائِدَةٍ تَصِلُ إلَيْهِ؛ وَلَا إلَى الْوَاقِفِ؛ وَيُشْبِهُ مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ مِنْ الْأَحْبَاسِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ؛ وَالْمَائِدَةِ. وَإِذَا خَلَا الْعَمَلُ الْمَشْرُوطُ فِي الْعُقُودِ كُلِّهَا عَنْ مَنْفَعَةٍ فِي الدِّينِ؛ أَوْ فِي الدُّنْيَا كَانَ بَاطِلًا بِالِاتِّفَاقِ فِي أُصُولٍ كَثِيرَةٍ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَيَكُونُ بَاطِلًا؛ وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَشْرِطَ عَلَيْهِ الْتِزَامَ نَوْعٍ مِنْ الْمَطْعَمِ؛ أَوْ الْمَلْبَسِ؛ أَوْ الْمَسْكَنِ الَّذِي لَمْ تَسْتَحِبَّهُ الشَّرِيعَةُ؛ أَوْ تَرْكَ بَعْضِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَسْتَحِبُّ الشَّرِيعَةُ عَمَلَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ. يَبْقَى الْكَلَامُ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْمَنَاطِ فِي اعْتِبَارِ الْمَسَائِلِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ مُخْتَلَفًا فِيهِ؛ لِاخْتِلَافِ الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ؛ فَيَنْظُرُ فِي شَرْطٍ تُرِكَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى؛ فَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَقْصُودٌ شَرْعِيٌّ - خَالِصٌ أَوْ رَاجِحٌ - كَانَ بَاطِلًا؛ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا؛ ثُمَّ [إذَا] نَقَصَ الرِّيعُ عَمَّا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ جَازَ لِلْمُطَالِبِ أَنْ يَرْتَزِقَ تَمَامَ كِفَايَتِهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ رِزْقَ الْكِفَايَةِ لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ؛ بَلْ هُوَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَا قِيَامَ لِلْخَلْقِ بِدُونِهَا؛ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْرِطَ مَا يُنَافِيهَا؛ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ؟ . وَيَجُوزُ لِلنَّاظِرِ مَعَ هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يُوصِلَ إلَى الْمُرْتَزِقَةِ بِالْعِلْمِ مَا جُعِلَ لَهُمْ وَأَنْ لَا يَمْنَعَهُمْ مِنْ تَنَاوُلِ تَمَامِ كِفَايَتِهِمْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يُرَتَّبُونَ فِيهَا؛ وَلَيْسَ هَذَا إبْطَالًا لِلشَّرْطِ؛ لَكِنَّهُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ؛ وَشُرُوطُ اللَّهِ حُكْمُهَا كَذَلِكَ وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لَا يَمْنَعُ مَا ذُكِرَ.

مسألة رجل وقف مدرسة وشرط من يكون له بها وظيفة أن لا يشتغل بوظيفة أخرى بغير مدرسته

وَهَذِهِ الْأَرْزَاقُ الْمَأْخُوذَةُ عَلَى الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ إنَّمَا هِيَ أَرْزَاقٌ وَمَعَاوِنُ عَلَى الدِّينِ؛ بِمَنْزِلَةِ مَا يَرْتَزِقُهُ الْمُقَاتِلَةُ؛ وَالْعُلَمَاءُ مِنْ الْفَيْءِ. وَالْوَاجِبَاتُ الشَّرْعِيَّةُ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ؛ وَلَيْسَتْ كَالْجَعَالَاتِ، عَلَى عِلْمٍ دُنْيَوِيٍّ؛ وَلَا بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا، فَهَذِهِ حَقِيقَةُ حَالِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ وَقَفَ مَدْرَسَةً وَشَرَطَ مَنْ يَكُونُ لَهُ بِهَا وَظِيفَةٌ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِوَظِيفَةٍ أُخْرَى بِغَيْرِ مَدْرَسَتِهِ] 850 - 9 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ وَقَفَ مَدْرَسَةً، وَشَرَطَ مَنْ يَكُونُ لَهُ بِهَا وَظِيفَةٌ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِوَظِيفَةٍ أُخْرَى بِغَيْرِ مَدْرَسَتِهِ، وَشَرَطَ لَهُ فِيهَا مُرَتَّبًا مَعْلُومًا. وَقَالَ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ وَإِذَا حَصَلَ فِي رِيعِ هَذِهِ الْمَدْرَسَةِ نَقْصٌ بِسَبَبِ مَحَلٍّ أَوْ غَيْرِهِ كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ رِيعِ هَذَا الْوَقْفِ مَصْرُوفًا فِي أَرْبَابِ الْوَظَائِفِ بِهَا، لِكُلٍّ مِنْهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَعْلُومِهِ بِالْمُحَاصَصَةِ. وَقَالَ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ: وَإِذَا حَصَلَ فِي السِّعْرِ غَلَاءٌ فَلِلنَّاظِرِ أَنْ يُرَتِّبَ لَهُمْ زِيَادَةً عَلَى مَا قُرِّرَ لَهُمْ بِحَسَبِ كِفَايَتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. ثُمَّ إذَا حَصَلَ فِي رِيعِ الْوَقْفِ نَقْصٌ مِنْ جِهَةِ نَقْصِ وَقْفِهَا بِحَيْثُ إنَّهُ إذَا أُلْغِيَ هَذَا الشَّرْطُ مِنْ عَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا، يُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ الْمَدْرَسَةِ: فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ يَكُونُ بِهَا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا لِيَحْصُلَ لَهُ قَدْرُ كِفَايَتِهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؟ حَيْثُ رَاعَى الْوَاقِفُ الْكِفَايَةَ لِمَنْ يَكُونُ بِهَا، أَوْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ غَلَاءِ السِّعْرِ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذِهِ الشُّرُوطُ الْمَشْرُوطَةُ عَلَى مَنْ فِيهَا كَعَدَمِ الْجَمْعِ إنَّمَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا إذَا لَمْ يُفْضِ ذَلِكَ إلَى الْإِخْلَالِ بِالْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ: الَّذِي هُوَ يَكُونُ أَسْمَى إمَّا وَاجِبٌ، وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ. فَأَمَّا الْمُحَافَظَةُ عَلَى بَعْضِ الشُّرُوطِ مَعَ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ بِالشُّرُوطِ فَلَا يَجُوزُ. فَاشْتِرَاطُ عَدَمِ الْجَمْعِ بَاطِلٌ مَعَ ذَهَابِ بَعْضِ أَصْلِ الْوَقْفِ، وَعَدَمُ حُصُولِ الْكِفَايَةِ لِلْمُرَتَّبِ بِهَا لَا يَجِبُ الْتِزَامُهُ. وَلَا يَجُوزُ الْإِلْزَامُ بِهِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا شُرِطَ عَلَيْهِمْ مَعَ وُجُودِ رِيعِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، سَوَاءٌ كَانَ كَامِلًا أَوْ نَاقِصًا، فَإِذَا ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْفِ لَمْ تَكُنْ الشُّرُوطُ مَشْرُوطَةً فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ نَقْصِ رِيعِ الْوَقْفِ مَعَ وُجُودِ أَصْلِهِ، وَبَيْنَ ذَهَابِ بَعْضِ أَصْلِهِ.

مسألة رجل وقف وقفا على مسجد وأكفان الموتى وشرط فيه الأرشد فالأرشد من ورثته

الْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّ حُصُولَ الْكِفَايَةِ الْمُرَتَّبِ بِهَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، حَتَّى لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْوَاقِفَ صَرَّحَ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَانَ شَرْطًا بَاطِلًا. مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْمُرَتَّبَ بِهَا لَا يَرْتَزِقُ مِنْ غَيْرِهَا وَلَوْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ كِفَايَتُهُ، فَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ، فَإِنَّ حُصُولَ الْكِفَايَةِ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَتَحْصِيلُهَا لِلْمُسْلِمِ وَاجِبٌ، إمَّا عَلَيْهِ؛ وَإِمَّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَصِحُّ شَرْطٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ. وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْوَاقِفَ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لَهُمْ الْكِفَايَةَ، وَلَكِنَّ ذَهَابَ بَعْضِ أَمْوَالِ الْوَقْفِ بِمَنْزِلَةِ تَلَفِ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْوَقْفُ سَوَاءٌ شُبِّهَ بِالْجُعْلِ أَوْ بِالْأُجْرَةِ أَوْ بِالرِّزْقِ، فَإِنَّ مَا عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَعْمَلَ إذَا وَفَّى لَهُ بِمَا شَرَطَ لَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُل وَقَفَ وَقْفًا عَلَى مَسْجِدٍ وَأَكْفَانِ الْمَوْتَى وَشَرَطَ فِيهِ الْأَرْشَدَ فَالْأَرْشَدَ مِنْ وَرَثَتِهِ] 851 - 10 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى مَسْجِدٍ، وَأَكْفَانِ الْمَوْتَى، وَشَرَطَ فِيهِ الْأَرْشَدَ فَالْأَرْشَدَ مِنْ وَرَثَتِهِ، ثُمَّ لِلْحَاكِمِ، وَشَرَطَ لِإِمَامِ الْمَسْجِدِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَالْمُؤَذِّنِ وَالْقَيِّمِ بِالتُّرْبَةِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَشَرَطَ لَهُمَا دَارَيْنِ لِسُكْنَاهُمَا، ثُمَّ إنَّ رِيعَ الْوَقْفِ زَادَ خَمْسَةَ أَمْثَالِهِ، بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ الْأَكْفَانُ إلَى زِيَادَةٍ، فَجَعَلَ لَهُمَا الْحَاكِمُ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، ثُمَّ اطَّلَعَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ فَتَوَقَّفَ فِي أَنْ يَصْرِفَ عَلَيْهِمْ مَا زَادَ عَلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لَهُمَا تَنَاوُلُهُ؟ وَأَيْضًا الدَّارُ الْمَذْكُورَةُ انْهَدَمَتْ، فَأَحْكَرَهَا نَاظِرُ الْوَقْفِ كُلَّ سَنَةٍ بِدِرْهَمَيْنِ، فَعَمَرَهَا الْمُسْتَأْجِرُ، وَأَجَرَهَا فِي السَّنَةِ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا. فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْإِحْكَارُ؟ . أَجَابَ: نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى الْإِمَامُ وَالْمُؤَذِّنُ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْوَقْفِ الْفَائِضِ رِزْقَ مِثْلِهِمَا وَإِنْ كَانَ زَائِدًا عَلَى ثُلُثَيْنِ، بَلْ إذَا كَانَا فَقِيرَيْنِ، وَلَيْسَ لِمَا زَادَ مَصْرِفٌ مَعْرُوفٌ: جَازَ أَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِمَا مِنْهُ تَمَامُ كِفَايَتِهِمَا. وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَقْدِيرَ الْوَاقِفِ دَرَاهِمَ مُقَدَّرَةً فِي وَقْفِ مِقْدَارِ رِيعٍ، قَدْ يُرَادُ بِهِ النِّسْبَةُ: مِثْلَ أَنْ يَشْرِطَ لَهُ عَشَرَةً وَالْمُغَلُّ مِائَةٌ، وَيُرَادُ بِهِ الْعُشْرُ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ هَذَا عُمِلَ بِهِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ فِي الْعُرْفِ أَنَّ الْوَقْفَ إذَا كَانَ مَغَلُهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَشَرَطَ لَهُ سِتَّةً ثُمَّ صَارَ خَمْسَمِائَةٍ، فَإِنَّ الْعَادَةَ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَشْرِطَ لَهُ أَضْعَافَ

مسألة في رجل أوقف وقفا وشرط التنزيل فيه للشيخ

ذَلِكَ مِثْلَ خَمْسَةِ أَمْثَالِهِ، وَلَمْ تَجْرِ عَادَةٌ مِنْ شَرْطِ سِتَّةٍ مِنْ مِائَةٍ أَنْ يَشْتَرِطَ سِتَّةً مِنْ خَمْسِمِائَةٍ، فَيُحْمَلُ كَلَامُ النَّاسِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ فِي خِطَابِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ هَذَا فَزَائِدُ الْوَقْفِ يُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ الَّتِي هِيَ نَظِيرُ مَصَالِحِهِ، وَمَا يُشْبِهُهَا، مِثْلَ صَرْفِهِ فِي مَسَاجِدَ أُخَرَ، وَفِي فُقَرَاءِ الْجِيرَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ: لِأَنَّ الْأَمْرَ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يُصْرَفَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، أَوْ يُرْصَدَ لِمَا يَحْدُثُ مِنْ عِمَارَةٍ وَنَحْوِهِ. وَرَصْدُهُ دَائِمًا مَعَ زِيَادَةِ الرِّيعِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ: بَلْ فِيهِ مَضَرَّةٌ، وَهُوَ حَبْسُهُ لِمَنْ يَتَوَلَّى عَلَيْهِمْ مِنْ الظَّالِمِينَ الْمُبَاشِرِينَ وَالْمُتَوَلِّينَ الَّذِينَ يَأْخُذُونَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّهُ حَضَّ النَّاسَ عَلَى مُكَاتَبٍ يَجْمَعُونَ لَهُ، فَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَأَمَرَ بِصَرْفِهَا فِي الْمُكَاتَبِينَ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ الْمُعَيَّنُ، صَارَ الصَّرْفُ إلَى نَوْعِهِ. لِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ فِي الْوَقْفِ هُوَ هَذَا الْقَوْلُ، وَأَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا فَضَلَ مِنْ كِسْوَتِهِ، كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَتَصَدَّقُ كُلَّ عَامٍ بِكِسْوَةِ الْكَعْبَةِ يَقْسِمُهَا بَيْنَ الْحُجَّاجِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ صَرْفَ الْفَاضِلِ إلَى إمَامِهِ وَمُؤَذِّنِهِ مَعَ الِاسْتِحْقَاقِ أَوْلَى مِنْ الصَّرْفِ إلَى غَيْرِهِمَا، وَتَقْدِيرُ الْوَاقِفِ لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الزِّيَادَةِ بِسَبَبٍ آخَرَ، كَمَا لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ مَسْجِدِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَقَدَّرَ الْأَكْفَانَ الَّتِي هِيَ الْمَصْرُوفَةُ بِبَعْضِ الرِّيعِ، صَرَفَ مَا يَفْضُلُ إلَى الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ مَا ذُكِرَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ أَوْقَفَ وَقْفًا وَشَرَطَ التَّنْزِيلَ فِيهِ لِلشَّيْخِ] 852 - 11 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أَوْقَفَ وَقْفًا، وَشَرَطَ التَّنْزِيلَ فِيهِ لِلشَّيْخِ، وَشَرَطَ أَنْ لَا يَنْزِلَ فِيهِ شِرِّيرٌ وَلَا مُتَجَوِّهٌ، وَأَنَّهُ نَزَلَ فِيهِ شَخْصٌ بِالْجَاهِ، ثُمَّ بَدَا مِنْهُ أَمْرٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شِرِّيرٌ، فَرَأَى الشَّيْخُ الْمَصْلَحَةَ فِي صَرْفِهِ اعْتِمَادًا عَلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ، وَنَزَّلَ الشَّيْخُ شَخْصًا آخَرَ بِطَرِيقِ شَرْطِ الْوَاقِفِ وَمَرْسُومِ أَلْفَاظِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ صَرْفُ مَنْ نَزَّلَ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ، وَإِعَادَةُ الْمُتَجَوِّهِ الشِّرِّيرِ الْمُخَالِفِ لِشَرْطِ الْوَاقِفِ. وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى النَّاظِرِ وَالشَّيْخِ ذَلِكَ، وَيَقْدَحُ ذَلِكَ فِي وِلَايَتِهِمَا؟ وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى السَّاعِي فِي ذَلِكَ الْمُسَاعِدِ لَهُ؟

مسألة رجل أوقف وقفا على مدرسة وشرط فيها أن ريع الوقف للعمارة

أَجَابَ: إذَا عَلِمَ شَرْطَ الْوَاقِفِ، عَدَلَ عَنْهُ إلَى شَرْطِ اللَّهِ قَبْلَ شَرْطِ الْوَاقِفِ [إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِشَرْطِ اللَّهِ] . فَإِنَّ الْجِهَاتِ الدِّينِيَّةِ مِثْلُ الخوانك وَالْمَدَارِسِ وَغَيْرِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ فِيهَا فَاسِقٌ، سَوَاءٌ كَانَ فِسْقُهُ بِظُلْمِهِ لِلْخَلْقِ، وَتَعَدِّيهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ. أَوْ فِسْقُهُ بِتَعَدِّيهِ حُقُوقَ اللَّهِ، الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ. فَإِنَّ كُلًّا مِنْ هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَعُقُوبَتُهُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَرِّرَ فِي الْجِهَاتِ الدِّينِيَّةِ وَنَحْوِهَا، فَكَيْفَ إذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ وُجُوبُهُ مُؤَكَّدًا. وَمَنْ نَزَّلَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ تَنْزِيلًا شَرْعِيًّا لَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ لِأَجْلِ هَذَا الظُّلْمِ، وَلَا لِغَيْرِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ الظَّالِمَ بِالْعَادِلِ، وَالْفَاجِرَ بِالْبَرِّ. وَمَنْ أَعَانَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، سَوَاءٌ عَلِمَ شَرْطَ الْوَاقِفِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ أَوْقَفَ وَقْفًا عَلَى مَدْرَسَةٍ وَشَرَطَ فِيهَا أَنَّ رِيعَ الْوَقْفِ لِلْعِمَارَةِ] 853 - 12 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أَوْقَفَ وَقْفًا عَلَى مَدْرَسَةٍ، وَشَرَطَ فِيهَا أَنَّ رِيعَ الْوَقْفِ لِلْعِمَارَةِ؛ وَالثُّلُثَيْنِ يَكُونُ لِلْفُقَهَاءِ وَلِلْمَدْرَسَةِ وَأَرْبَابِ الْوَظَائِفِ. وَشَرَطَ أَنَّ النَّاظِرَ يَرَى بِالْمَصْلَحَةِ؛ وَالْحَالُ جَارِيًا كَذَلِكَ مُدَّةَ ثَلَاثِينَ سَنَةً؛ وَأَنَّ حَصْرَ الْمَدْرَسَةِ وَمِلْءَ الصِّهْرِيجِ يَكُونُ مِنْ جَامَكِيَّةِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ غَيْبَةً؛ وَأَمَاكِنَ غَيْرَهَا؛ وَأَنَّ مَعْلُومَ الْإِمَامِ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا؛ وَكَذَلِكَ الْمُؤَذِّنُ؛ فَطَالَبَ الْفُقَهَاءُ بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَابَ الْوَظَائِفِ أَنْ يُشَارِكُوهُمْ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْ جَوَامِكِهِمْ لِأَجْلِ الْحُصُرِ وَمِلْءِ الصِّهْرِيجِ؛ وَأَنَّ أَرْبَابَ الْوَظَائِفِ قَائِمُونَ بِهَذِهِ الْوَظِيفَةِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ غَيْرُهَا هَلْ يَجِبُ لِلنَّاظِرِ مُوَافَقَةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى مَا طَلَبُوهُ. وَنَقْصُ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينِ عَنْ مَعْلُومِهِمْ الْيَسِيرِ؟ أَمْ لَا؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا رَأَى النَّاظِرُ تَقْدِيمَ أَرْبَابِ الْوَظَائِفِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ - كَالْإِمَامِ، وَالْمُؤَذِّنِ - فَقَدْ أَصَابَ فِي ذَلِكَ؛ إذَا كَانَ الَّذِي يَأْخُذُونَهُ لَا يَزِيدُ عَلَى جُعْلِ مِثْلِهِمْ فِي الْعَادَةِ؛ كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ [أَنْ يُقَدَّمَ] الْجَابِي وَالْعَامِلُ وَالصَّانِعُ

مسألة وقف تربة وشرط المقري عزبا

وَالْبَنَّاءُ وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ يَأْخُذُ عَلَى عَمَلٍ يَعْمَلُهُ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ؛ أَوْ عِمَارَةِ الْمَكَانِ؛ يُقَدَّمُونَ بِأَخْذِ الْأُجْرَةِ. وَالْإِمَامَةُ وَالْأَذَانُ شَعَائِرُ لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهَا؛ وَلَا تَنْقِيصُهَا بِحَالٍ؛ فَالْجَاعِلُ جَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهَا يُقَدَّمُ عَلَى مَا يَأْخُذُهُ الْفُقَهَاءُ؛ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُدَرِّسِ وَالْمُفِيدِ وَالْفُقَهَاءِ؛ فَإِنَّهُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. وَإِنْ أَمْكَنَ صَرْفُ ثَمَنِ الْحُصُرِ وَمِلْءُ الصِّهْرِيجِ مِنْ ثُلُثِ الْعِمَارَةِ أَوْ غَيْرِهِ يَجْعَلْ ذَلِكَ؛ وَيُوَفَّرْ الثُّلُثَانِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ؛ فَإِنَّهُ إذَا شَرَطَ أَنَّ الثُّلُثَ لِلْعِمَارَةِ وَالثُّلُثَيْنِ لِأَرْبَابِ الْوَظَائِفِ؛ لَمْ يَكُنْ أَخْذُ ثَمَنِ الْحُصُرِ وَنَحْوِهَا مِنْ هَذَا أَوْلَى مِنْ صَرْفِهَا مِنْ هَذَا؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْوَقْفِ شَرْطٌ شَرْعِيٌّ بِخِلَافِ هَذَا. [مَسْأَلَةٌ وَقَفَ تُرْبَةً وَشَرَطَ الْمُقْرِي عَزَبًا] 854 - 13 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ وَقَفَ تُرْبَةً وَشَرَطَ الْمُقْرِي عَزَبًا فَهَلْ يَحِلُّ التَّنَزُّلُ مَعَ التَّزَوُّجِ الْجَوَابُ: هَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ؛ وَالْمُتَأَهِّلُ أَحَقُّ بِمِثْلِ هَذَا مِنْ الْمُتَعَزِّبِ؛ إذَا اسْتَوَيَا فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ؛ إذْ لَيْسَ فِي التَّعَزُّبِ هُنَا مَقْصُودٌ شَرْعِيٌّ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى عَدَدٍ مَعْلُومٍ مِنْ النِّسَاءِ وَالْأَرَامِلِ وَالْأَيْتَامِ] 855 - 14 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى عَدَدٍ مَعْلُومٍ مِنْ النِّسَاءِ وَالْأَرَامِلِ وَالْأَيْتَامِ؛ وَشَرَطَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ؛ ثُمَّ الصَّالِحُ مِنْ وَلَدِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى؛ وَلِلْوَاقِفِ أَقَارِبُ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ مِمَّنْ هُوَ مُحْتَاجٌ؛ وَقَصَدَ النَّاظِرُ أَنْ يُمَيِّزَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي الصَّرْفِ. هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُمَيِّزَهُمْ؟ الْجَوَابُ: إذَا اسْتَوَوْا هُمْ وَغَيْرُهُمْ فِي الْحَاجَةِ؛ فَأَقَارِبُ الْوَاقِفِ يُقَدَّمُونَ عَلَى نَظَائِرِهِمْ الْأَجَانِبِ؛ كَمَا يُقَدَّمُونَ لِصِلَتِهِ فِي حَيَاتِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَدَقَتُك عَلَى الْمُسْلِمِينَ صَدَقَةٌ؛ وَعَلَى ذَوِي الرَّحِمِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» . وَلِهَذَا يُؤْمَرُ أَنْ يُوصِيَ لِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ؛ إمَّا أَمْرَ إيجَابٍ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ

مسألة رجل وقف وقفا على جهة معينة وشرط شروطا ومات الواقف

الْعُلَمَاءِ؛ وَإِمَّا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ كَقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ؛ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَشَرَطَ شُرُوطًا وَمَاتَ الْوَاقِفُ] 856 - 15 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ وَشَرَطَ شُرُوطًا؛ وَمَاتَ الْوَاقِفُ؛ وَلَمْ يَثْبُتْ الْوَقْفُ عَلَى حَاكِمٍ، وَعَدِمَ الْكِتَابَ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَمِلَ مَحْضَرًا مُجَرَّدًا يُخَالِفُ الشُّرُوطَ وَالْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ، وَأَثْبَتَ عَلَى حَاكِمٍ بَعْدَ تَارِيخِ الْوَقْفِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ ظَهَرَ كِتَابُ الْوَقْفِ، وَفِيهِ شُرُوطٌ لَمْ يَتَضَمَّنْ الْمَحْضَرُ شَيْئًا مِنْهَا، وَتَوَجَّهَ الْكِتَابُ لِلثُّبُوتِ، فَهَلْ يَجُوزُ مَنْعُ ثُبُوتِهِ، وَالْعَمَلِ الْمَذْكُورِ، أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَا يَجُوزُ مَنْعُ ثُبُوتِهِ بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ، بَلْ إذَا أَمْكَنَ ثُبُوتُهُ وَجَبَ ثُبُوتُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ خَالَفَهُ الْمَحْضَرُ الْمُثْبَتُ بَعْدَهُ؛ وَإِنْ حَكَمَ بِذَلِكَ الْمَحْضَرِ حَاكِمٌ، فَالْحَاكِمُ بِهِ مَعْذُورٌ بِكَوْنِهِ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ مَا يُخَالِفُهُ. وَلَكِنْ إذَا ظَهَرَ مَا يُقَالُ: أَنَّهُ كِتَابُ الْوَقْفِ، وَجَبَ التَّمَكُّنُ مِنْ إثْبَاتِهِ بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنْ ثَبَتَ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ أَوْقَفَ وَقْفًا وَشَرَطَ فِي بَعْضِ شُرُوطِهِ أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ مَا تَيَسَّرَ وَيُسَبِّحُونَ وَيُهَلِّلُونَ] 857 - 16 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أَوْقَفَ وَقْفًا، وَشَرَطَ فِي بَعْضِ شُرُوطِهِ أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ مَا تَيَسَّرَ وَيُسَبِّحُونَ وَيُهَلِّلُونَ وَيُكَبِّرُونَ وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ. فَهَلْ الْأَفْضَلُ السِّرُّ أَوْ الْجَهْرُ؟ وَإِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ فَمَا يَكُونُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. بَلْ الْإِسْرَارُ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ - كَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهَا - أَفْضَلُ؛ وَلَا هُوَ الْأَفْضَلُ مُطْلَقًا، إلَّا لِعَارِضٍ رَاجِحٍ، وَهُوَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَفْضَلُ خُصُوصًا: فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «لَمَّا رَأَى الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ ارْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا وَإِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا. إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ» . وَفِي

مسألة رجل وقف وقفا وشرط فيه شروطا على جماعة قراء

الْحَدِيثِ: «خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ؛ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا كَفَى» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا وَشَرَطَ فِيهِ شُرُوطًا عَلَى جَمَاعَةِ قُرَّاءٍ] 858 - 17 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا وَشَرَطَ فِيهِ شُرُوطًا عَلَى جَمَاعَةِ قُرَّاءٍ، وَأَنَّهُمْ يَحْضُرُونَ كُلَّ يَوْمٍ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَقْرَءُونَ مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، ثُمَّ يَتَدَاوَلُونَ النَّهَارَ بَيْنَهُمْ يَوْمًا، مَثْنَى مَثْنَى، وَيَجْتَمِعُونَ أَيْضًا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ يَقْرَأُ كُلٌّ مِنْهُمْ حِزْبَيْنِ، وَيَجْتَمِعُونَ أَيْضًا فِي كُلِّ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ. جُمْلَةُ اجْتِمَاعِهِمْ فِي الشَّهْرِ سَبْعَةٌ وَسَبْعُونَ مَرَّةً عَلَى هَذَا النَّحْوِ عِنْدَ قَبْرِهِ بِالتُّرْبَةِ؛ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَنْ يَبِيتُوا كُلَّ لَيْلَةٍ بِالتُّرْبَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَجَعَلَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ سَكَنًا يَلِيقُ بِهِ، وَشَرَطَ لَهُمْ جَارِيًا مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ يَتَنَاوَلُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَفِي كُلِّ شَهْرٍ. فَهَلْ يَلْزَمُهُمْ الْحُضُورُ عَلَى شَرْطِهِ عَلَيْهِمْ؟ أَمْ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَتَّصِفُوا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فِي أَيِّ مَكَان أَمْكَنَ إقَامَتُهُمْ بِوَظِيفَةِ الْقِرَاءَةِ، أَوْ لَا يَتَعَيَّنُ الْمَكَانُ وَلَا الزَّمَانُ؟ وَهَلْ يَلْزَمُهُمْ أَيْضًا أَنْ يَبِيتُوا بِالْمَكَانِ الْمَذْكُورِ أَمْ لَا؟ وَإِنْ قِيلَ بِاللُّزُومِ فَاسْتَخْلَفَ أَحَدُهُمْ مَنْ يَقْرَأُ عَنْهُ وَظِيفَتَهُ فِي الْوَقْفِ، وَالْمَكَانِ وَالْوَاقِفُ شَرَطَ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ أَنْ يَسْتَنِيبُوا فِي أَوْقَاتِ الضَّرُورَاتِ فَمَا هِيَ الضَّرُورَةُ الَّتِي تُبِيحُ النِّيَابَةَ؟ وَأَيْضًا إنْ نَقَصَهُمْ النَّاظِرُ مِنْ مَعْلُومِهِمْ الشَّاهِدِ بِهِ كِتَابُ الْوَقْفِ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصُوا مِمَّا شُرِطَ عَلَيْهِمْ؟ وَسَوَاءٌ كَانَ النَّقْصُ بِسَبَبِ ضَرُورَةٍ. أَوْ مِنْ اجْتِهَادِ النَّاظِرِ أَوْ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادِهِ، وَلْيَشْفِ سَيِّدُنَا بِالْجَوَابِ مُسْتَوْعِبًا بِالْأَدِلَّةِ، وَيُجْلِي بِهِ عَنْ الْقُلُوبِ كُلَّ عُسْرٍ مُثَابًا فِي ذَلِكَ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - وَهُوَ عَلَى أَهْلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْوَصِيَّةُ لِأَهْلِهَا وَالنَّذْرُ لَهُمْ - أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مِنْ الطَّاعَاتِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَإِذَا كَانَتْ مَنْهِيًّا عَنْهَا لَمْ يَجُزْ الْوَقْفُ عَلَيْهَا. وَلَا اشْتِرَاطُهَا فِي الْوَقْفِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ فِي النَّذْرِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْوَقْفِ وَالنَّذْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَيْسَ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَصْلًا.

وَمِنْ أُصُولِ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» . وَمِنْ أُصُولِهِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ لَمَّا أَرَادَ أَهْلُ بَرِيرَةَ أَنْ يَشْتَرِطُوا الْوَلَاءَ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ الْمُسْتَفِيضُ الَّذِي اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَلَقِّيه بِالْقَبُولِ، اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ عَامٌّ فِي الشُّرُوطِ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ، لَيْسَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِالشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ، بَلْ مَنْ اشْتَرَطَ فِي الْوَقْفِ أَوْ الْعِتْقِ أَوْ الْهِبَةِ أَوْ الْبَيْعِ أَوْ النِّكَاحِ أَوْ الْإِجَارَةِ أَوْ النَّذْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ شُرُوطًا تُخَالِفُ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، بِحَيْثُ تَتَضَمَّنُ تِلْكَ الشُّرُوطُ الْأَمْرَ بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، أَوْ النَّهْيَ عَمَّا أَمَرَ بِهِ، أَوْ تَحْلِيلَ مَا حَرَّمَهُ، أَوْ تَحْرِيمَ مَا حَلَّلَهُ، فَهَذِهِ الشُّرُوطُ بَاطِلَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ: الْوَقْفِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا» . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ هُوَ مِنْ الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ إنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَلَا يُقْتَصَرُ عَلَى سَبَبِهِ، فَلَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى أَسْبَابٍ لَا تَخْتَصُّ بِأَسْبَابِهَا كَالْآيَاتِ النَّازِلَةِ بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ: مِثْلَ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ وَالْجِهَادِ وَالظِّهَارِ وَاللِّعَانِ وَالْقَذْفِ وَالْمُحَارَبَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْفَيْءِ وَالرِّبَا وَالصَّدَقَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَعَامَّتُهَا نَزَلَتْ عَلَى أَسْبَابٍ مُعَيَّنَةٍ مَشْهُورَةٍ فِي

كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالْمَغَازِي، مَعَ اتِّفَاقِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ حُكْمَهَا عَامٌّ فِي حَقِّ غَيْرِ أُولَئِكَ الْمُعَيَّنِينَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُمَاثِلُ قَضَايَاهُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ مِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى عُمُومِهِ، وَأَنَّهُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي أُوتِيَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبُعِثَ بِهَا حَيْثُ قَالَ: «مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» . وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي الْعُقُودِ الْمُبَاحَاتِ، كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالنِّكَاحِ: هَلْ مَعْنَى الْحَدِيثِ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ خَالَفَ فِيهِ شَرْعًا، أَوْ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ؟ هَذَا فِيهِ تَنَازُعٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ.: «كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ الْبَاطِلَ مَا خَالَفَ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: «مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ» قَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ. وَصَاحِبُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَقُولُ: مَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ؛ فَهُوَ مِمَّا أُذِنَ فِيهِ فَيَكُونُ مَشْرُوعًا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأَمَّا مَا كَانَ فِي الْعُقُودِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الطَّاعَاتُ كَالنَّذْرِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَنْذُورُ طَاعَةً، فَمَتَى كَانَ مُبَاحًا لَمْ يَجِبْ الْوَفَاءُ بِهِ؛ لَكِنْ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، كَالنِّزَاعِ فِي الْكَفَّارَةِ بِنَذْرِ الْمَعْصِيَةِ؛ لَكِنَّ نَذْرَ الْمَعْصِيَةِ لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَنَذْرُ الْمُبَاحِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ أَيْضًا. وَحُكْمُ الشُّرُوطِ فِيهِ يُعْرَفُ بِذِكْرِ أَصْلَيْنِ: أَنَّ الْوَاقِفَ إنَّمَا وَقَفَ الْوُقُوفَ بَعْدَ مَوْتِهِ لِيَنْتَفِعَ بِثَوَابِهِ، وَأَجْرُهُ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَنْتَفِعُ الْمَيِّتُ إلَّا بِالْأَجْرِ وَالثَّوَابِ. لِهَذَا فَرَّقَ بَيْنَ مَا قَدْ يُقْصَدُ بِهِ مَنْفَعَةُ الدُّنْيَا، وَبَيْنَ مَا لَا يُقْصَدُ بِهِ إلَّا الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ. فَالْأَوَّلُ: كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ، فَهَذَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَبْذُلَ مَالَهُ فِيهَا لِيُحَصِّلَ أَغْرَاضًا مُبَاحَةً دُنْيَوِيَّةً، وَمُسْتَحَبَّةً وَدِينِيَّةً، بِخِلَافِ الْأَغْرَاضِ الْمُحَرَّمَةِ. وَأَمَّا الْوَقْفُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْذُلَ مِلْكَهُ إلَّا فِيمَا يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ؛ فَإِنَّهُ إذَا بَذَلَهُ فِيمَا لَا يَنْفَعُهُ فِي الدِّينِ، وَالْوَقْفُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الدُّنْيَا، صَارَ بَذْلُ الْمَالِ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ تَعُودُ إلَيْهِ؛ لَا فِي دِينِهِ، وَلَا فِي دُنْيَاهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ.

وَلِهَذَا فَرَّقَ الْعُلَمَاءُ بَيْنَ الْوَقْفِ عَلَى مُعَيَّنٍ وَعَلَى جِهَةٍ. فَلَوْ وَقَفَ أَوْ وَصَّى لِمُعَيَّنٍ جَازَ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا ذِمِّيًّا لِأَنَّ صِلَتَهُ مَشْرُوعَةٌ. كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] ، وَمِثْلُ حَدِيثِ «أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا قَدِمَتْ أُمُّهَا وَكَانَتْ مُشْرِكَةً فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ، وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: صِلِي أُمَّكَ» وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] . وقَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272] . فَبَيَّنَ أَنَّ عَطِيَّةَ مِثْلِ هَؤُلَاءِ إنَّمَا يُعْطُونَهَا لِوَجْهِ اللَّهِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» فَإِذَا أَوْصَى أَوْ وَقَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ، وَكَانَ كَافِرًا، أَوْ فَاسِقًا، لَمْ يَكُنْ الْكُفْرُ وَالْفِسْقُ هُوَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَا شَرْطًا فِيهِ، بَلْ هُوَ يَسْتَحِقُّ مَا أَعْطَاهُ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا عَدْلًا فَكَانَتْ الْمَعْصِيَةُ عَدِيمَةَ التَّأْثِيرِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ جَعَلَهَا شَرْطًا فِي ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ، أَوْ عَلَى الطَّائِفَةِ الْفُلَانِيَّةِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا كُفَّارًا أَوْ فُسَّاقًا، فَهَذَا الَّذِي لَا رَيْبَ فِي بُطْلَانِهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي الْوَقْفِ عَلَى جِهَةٍ مُبَاحَةٍ، الْوَقْفُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَالْأُصُولُ أَنَّهُ بَاطِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي مَالِ الْفَيْءِ: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] فَأَخْبَرَ

سُبْحَانَهُ أَنَّهُ شَرَعَ مَا ذَكَرَهُ، لِئَلَّا يَكُونَ الْفَيْءُ مُتَدَاوَلًا بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ دُونَ الْفُقَرَاءِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَكْرَهُ هَذَا وَيَنْهَى عَنْهُ وَيَذُمُّهُ، فَمَنْ جَعَلَ الْوَقْفَ لِلْأَغْنِيَاءِ فَقَطْ فَقَدْ جَعَلَ الْمَالَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ، فَيَتَدَاوَلُونَهُ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ دُونَ الْفُقَرَاءِ، وَهَذَا مُضَادٌّ لِلَّهِ فِي أَمْرِهِ وَدِينِهِ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ. فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا سَبْقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ» . فَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ بَذْلِ السَّبْقِ إلَّا فِيمَا يُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْجِهَادِ، مَعَ أَنَّهُ بَذَلَ لِذَلِكَ فِي الْحَيَاةِ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَمْرُ فِي الْوَقْفِ. وَهَذَا بَيِّنٌ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَذْلَ الْمَالِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِمَنْفَعَةٍ فِي الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا، وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَمَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ سَفِيهًا، وَحُجِرَ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَحْجُرُونَ عَلَى السَّفِيهِ، وَكَانَ مُبَذِّرًا لِمَالِهِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ تَبْذِيرِ الْمَالِ: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] وَهُوَ إنْفَاقُهُ فِي غَيْرِ مَصْلَحَةٍ وَكَانَ مُضَيِّعًا لِمَالِهِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ» . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] . وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: هَذَا مِثْلُ تَوْكِيلِ السَّفِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ مَالَهُ إلَى وَلَدِهِ السَّفِيهِ أَوْ امْرَأَتِهِ السَّفِيهَةِ، فَيُنْفِقَانِ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ

تَحْتَ أَمْرِهِمَا. وَقَالَ آخَرُونَ: ذَلِكَ أَنْ يُسَلِّمَ إلَى السَّفِيهِ مَالَ نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ نَهَى عَنْ تَسْلِيمِ مَالِ نَفْسِهِ إلَيْهِ، إلَّا إذَا أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى النَّوْعَيْنِ كِلَيْهِمَا: فَقَدْ نَهَى اللَّهُ أَنْ يُجْعَلَ السَّفِيهُ مُتَصَرِّفًا لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ: بِالْوَكَالَةِ، أَوْ الْوِلَايَةِ. وَصَرْفُ الْمَالِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ فِي الدِّينِ وَلَا الدُّنْيَا مِنْ أَعْظَمِ السَّفَهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي الشَّرْعِ. إذَا عُرِفَ هَذَا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَاقِفَ لَا يَنْتَفِعُ بِوَقْفِهِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا يَنْتَفِعُ بِمَا يَبْذُلُهُ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ، وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الدِّينِ، إنْ لَمْ يُنْفِقْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَسَبِيلُ اللَّهِ طَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا يُثِيبُ الْعِبَادَ عَلَى مَا أَنْفَقُوهُ فِيمَا يُحِبُّهُ، وَأَمَّا مَا لَا يُحِبُّهُ فَلَا ثَوَابَ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِ وَنَفَقَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ وَاجِبَةٌ؛ فَلِهَذَا كَانَ الثَّوَابُ عَلَيْهَا أَعْظَمَ مِنْ الثَّوَابِ عَلَى التَّطَوُّعَاتِ عَلَى الْأَجَانِبِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُبَاحَاتُ الَّتِي لَا يُثِيبُ الشَّارِعُ عَلَيْهَا لَا يُثِيبُ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِيهَا وَالْوَقْفِ عَلَيْهَا. وَلَا يَكُونُ فِي الْوَقْفِ عَلَيْهَا مَنْفَعَةٌ وَثَوَابٌ فِي الدِّينِ، وَلَا مَنْفَعَةَ فِي الْوَقْفِ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا. فَالْوَقْفُ عَلَيْهَا خَالٍ مِنْ انْتِفَاعِ الْوَاقِفِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَيَكُونُ بَاطِلًا. وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْأَغْنِيَاءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا بَلْ وَاجِبًا، فَإِنَّمَا ذَاكَ إذَا أَعْطَوْا بِسَبَبٍ غَيْرِ الْغِنَى، مِنْ الْقَرَابَةِ وَالْجِهَادِ وَالدِّينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ جَعَلَ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْغِنَى وَتَخْصِيصُ الْغَنِيِّ بِالْإِعْطَاءِ مَعَ مُشَارَكَةِ الْفَقِيرِ لَهُ فِي أَسْبَابِ الِاسْتِحْقَاقِ سِوَى الْغَنِيِّ، مَعَ زِيَادَةِ اسْتِحْقَاقِ الْفَقِيرِ عَلَيْهِ فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ، فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ فِيمَا يُؤَبَّدُ عَلَى الْكُفَّارِ وَنَحْوِهِمْ. وَفِيمَا يَمْنَعُ مِنْهُ التَّوَارُثَ، وَهَذَا لَوْ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً رَاجِحَةً، وَإِلَّا كَانَ يُمْنَعُ مِنْهُ الْوَاقِفُ، لِأَنَّهُ فِيهِ حَبْسُ الْمَالِ عَنْ أَهْلِ الْمَوَارِيثِ، وَمَنْ يَنْتَقِلُ إلَيْهِمْ. وَهَذَا مَأْخَذُ مَنْ قَالَ: لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ، لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ تَرْكٌ لِقَوْلِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ، بَلْ قَدْ حَبَسَ الْمَالَ فَمَنَعَهُ الْوَارِثُ

وَسَائِرُ النَّاسِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، وَهُوَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ تَنْفِيذُهُ بِلَا رَيْبٍ. ثُمَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الْمُتَنَازَعُ فِيهَا هِيَ فِي الْوَقْفِ عَلَى الصِّفَاتِ الْمُبَاحَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَالْغِنَى بِالْمَالِ. وَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ كَالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ وَالْإِمَامَةِ وَالْجِهَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ الثَّانِي. وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوقَفَ إلَّا عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَأَحَبَّهُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ. فَأَمَّا مَنْ ابْتَدَعَ عَمَلًا لَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ، وَجَعَلَهُ دِينًا فَهَذَا يُنْهَى عَنْ عَمَلِ هَذَا الْعَمَلِ، فَكَيْفَ يُشَرَّعُ لَهُ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ الْأَمْوَالَ، بَلْ هَذَا مِنْ جِنْسِ الْوَقْفِ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عِبَادَاتٍ، وَذَلِكَ مِنْ الدِّينِ الْمُبَدَّلِ أَوْ الْمَنْسُوخِ. وَلِهَذَا جَعَلْنَا هَذَا أَحَدَ الْأَصْلَيْنِ فِي الْوَقْفِ. وَذَلِكَ أَنَّ بَابَ الْعِبَادَاتِ وَالدِّيَانَاتِ وَالتَّقَرُّبَاتِ مُتَلَقَّاةٌ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ شَيْئًا عِبَادَةً أَوْ قُرْبَةً إلَّا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ. قَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] . وَقَالَ تَعَالَى: {المص - كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ - اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 1 - 3] . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ كَثِيرٌ، يَأْمُرُ اللَّهُ فِيهِ بِطَاعَةِ رَسُولِهِ وَاتِّبَاعِ كِتَابِهِ، وَيَنْهَى عَنْ اتِّبَاعِ مَا لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ. وَالْبِدَعُ جَمِيعُهَا كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْبِدْعَةَ الشَّرْعِيَّةَ - أَيْ الْمَذْمُومَةَ فِي الشَّرْعِ - هِيَ مَا لَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ فِي الدِّينِ، أَيْ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَأَمَّا إنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ الشِّرْعَةِ لَا مِنْ الْبِدْعَةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ فُعِلَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا عُرِفَ مِنْ أَمْرِهِ: كَإِخْرَاجِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْدَ مَوْتِهِ، وَجَمْعِ الْمُصْحَفِ، وَجَمْعِ النَّاسِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ

وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الَّذِي أَمَرَ بِذَلِكَ وَإِنْ سَمَّاهُ بِدْعَةً، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ فِي اللُّغَةِ، إذْ كُلُّ أَمْرٍ فُعِلَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ مُتَقَدِّمٍ يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ بِدْعَةً، وَلَيْسَ مِمَّا تُسَمِّيهِ الشَّرِيعَةُ بِدْعَةً، وَيُنْهَى عَنْهُ، فَلَا يَدْخُلُ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ «إنَّ أَصْدَقَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . فَإِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» حَقٌّ، وَلَيْسَ فِيمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بِدْعَةٌ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إلَيْنَا؟ فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَعَلَيْكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْمُحْدَثَاتِ الَّتِي هِيَ الْبِدَعُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا مَا خَالَفَ ذَلِكَ. فَالتَّرَاوِيحُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ تُعْلِمْ دَلَالَةُ نُصُوصِهِ وَأَفْعَالِهِ عَلَيْهَا، لَكَانَ أَدْنَى أَمْرِهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، فَلَا تَكُونُ مِنْ الْبِدَعِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي سَمَّاهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدْعَةً، وَنَهَى عَنْهَا. وَبِالْجُمْلَةِ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى صَلَاةٍ أَوْ صِيَامٍ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ جِهَادٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ وَقْفُهُ، بَلْ هُوَ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَعَنْ الْبَذْلِ فِيهِ، وَالْخِلَافُ الَّذِي بَيْنَهُمْ فِي الْمُبَاحَاتِ لَا يَخْرُجُ مِثْلُهُ هُنَا، لِأَنَّ اتِّخَاذَ الشَّيْءِ عِبَادَةً، وَاعْتِقَادَ كَوْنِهِ عِبَادَةً، وَعَمَلَهُ، لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ: لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ، أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ - وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا فِي الشَّرِيعَةِ - كَانَ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ عِبَادَةً، وَالرَّغْبَةُ فِيهِ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ، وَمَحَبَّتُهُ وَعَمَلُهُ مَشْرُوعًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ فَلَيْسَ

بِوَاجِبٍ، وَلَا مُسْتَحَبٍّ، لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَلَا أَنَّهُ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ، وَلَا يَتَّخِذُهُ دِينًا، وَلَا يُرَغِّبُ فِيهِ لِأَجْلِ كَوْنِهِ عِبَادَةً. وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الدِّيَانَاتِ، وَهُوَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُبَاحِ الَّذِي يُفْعَلُ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ، وَبَيْنَ مَا يُتَّخَذُ دِينًا وَعِبَادَةً وَطَاعَةً وَقُرْبَةً وَاعْتِقَادًا وَرَغْبَةً وَعَمَلًا. فَمَنْ جَعَلَ مَا لَيْسَ مَشْرُوعًا، وَلَا هُوَ دِينًا وَلَا طَاعَةً وَلَا قُرْبَةً جَعَلَهُ دِينًا وَطَاعَةً وَقُرْبَةً: كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا، بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ لَكِنْ قَدْ يَتَنَازَعُ الْعُلَمَاءُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ: هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْقُرَبِ وَالْعِبَادَاتِ أَمْ لَا؟ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ الْقَوْلِيَّةِ، أَوْ مِنْ بَابِ الْإِرَادَاتِ الْعَمَلِيَّةِ حَتَّى قَدْ يَرَى أَحَدُهُمْ وَاجِبًا مَا يَرَاهُ الْآخَرُ حَرَامًا؛ كَمَا يَرَى بَعْضُهُمْ وُجُوبَ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ؛ وَيَرَى آخَرُ تَحْرِيمَ ذَلِكَ؛ وَيَرَى أَحَدُهُمْ وُجُوبَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ السَّكْرَانِ وَامْرَأَتِهِ إذَا طَلَّقَهَا فِي سُكْرِهِ، وَيَرَى الْآخَرُ تَحْرِيمَ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا؛ وَكَمَا يَرَى أَحَدُهُمْ وُجُوبَ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْمَأْمُومِ وَيَرَى الْآخَرُ كَرَاهَةَ قِرَاءَتِهِ، إمَّا مُطْلَقًا؛ وَإِمَّا إذَا سَمِعَ جَهْرَ الْإِمَامِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ. كَمَا أَنَّ اعْتِقَادَهَا وَعَمَلَهَا مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ، فَبَذْلُ الْمَالِ عَلَيْهَا هُوَ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ أَيْضًا، وَهُوَ الِاجْتِهَادِيَّةُ. وَأَمَّا كُلُّ عَمَلٍ يَعْلَمُ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ بِدْعَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا؛ فَإِنَّ الْعَالِمَ بِذَلِكَ لَا يُجَوِّزُ الْوَقْفَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَشْرِطُ بَعْضُهُمْ بَعْضَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ الشَّرِيعَةَ أَوْ مَنْ هُوَ يُقَلِّدُ فِي ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إلَى السُّنَّةِ، وَلِمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ الْعَادِلِ إذَا خَالَفَ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا وَلَمْ يَعْلَمْهُ فَهُوَ مَنْقُوضٌ، فَكَيْفَ بِتَصَرُّفِ مَنْ لَيْسَ يَعْلَمُ هَذَا الْبَابَ مِنْ وَاقِفٍ لَا يَعْلَمُ حُكْمَ الشَّرِيعَةِ؛ وَمَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ لَهُ مِنْ وُكَلَائِهِ. وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ بِصُورَةِ ذَلِكَ وَلُزُومِهِ فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا عَادِلًا، فَلَا يُنَفِّذُ مَا خَالَفَ فِيهِ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَالشُّرُوطُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْأَمْرِ بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِهِ مُخَالَفَةٌ

لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ، فَإِنَّ طَاعَتَهُ فِيهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . فَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ هِيَ الْكَلِمَاتُ الْجَامِعَةُ وَالْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَيْهَا هَذِهِ الْمَسَائِلُ وَنَحْوُهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا نُكَتًا جَامِعَةً بِحَسَبِ مَا تَحْتَمِلُهُ الْوَرَقَةُ يَعْرِفُهَا الْمُتَدَرِّبُ فِي فِقْهِ الدِّينِ. وَبَعْدَ هَذَا يَنْظُرُ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ وَغَيْرِهَا بِنَظَرِهِ. فَمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ أُلْغِيَ؛ وَمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ شَرْطٌ مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عُمِلَ بِهِ؛ وَمَا اشْتَبَهَ أَمْرُهُ أَوْ كَانَ فِيهِ نِزَاعٌ فَلَهُ حُكْمُ نَظَائِرِهِ. وَمِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ الْبَاطِلَةِ مَا يَحْتَاجُ تَغْيِيرُهُ إلَى هِمَّةٍ قَوِيَّةٍ وَقُدْرَةٍ نَافِذَةٍ. وَيُؤَيِّدُهَا اللَّهُ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ. وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ قِيَامِ الشَّخْصِ فِي هَوَى نَفْسِهِ لِجَلْبِ دُنْيَا أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، إذَا أَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، لَا يَكَادُ يَنْجَحُ سَعْيُهُ. وَإِنْ كَانَ مُتَظَلِّمًا طَالِبًا مَنْ يُعِينُهُ، فَإِنْ أَعَانَهُ اللَّهُ بِمَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِذَلِكَ، أَوْ بِمَا يُقَدِّرُهُ لَهُ مِنْ جِهَةٍ تُعِينُهُ حَصَلَ مَقْصُودُهُ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَمَا ذَكَرَهُ السَّائِلُونَ فَرْضُ تَمَامِ الْوُجُودِ. وَاَللَّهُ يُسَهِّلُ لَهُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُعِينُهُمْ عَلَى خَيْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فَمِمَّا مَا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَبِيتَ الشَّخْصِ فِي مَكَان مُعَيَّنٍ دَائِمًا لَيْسَ قُرْبَةً وَلَا طَاعَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ إذَا كَانَ فِي التَّعْيِينِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ، مِثْلُ الْمَبِيتِ فِي لَيَالِي مِنًى؛ وَمِثْلُ مَبِيتِ الْإِنْسَانِ فِي الثَّغْرِ لِلرِّبَاطِ، أَوْ مَبِيتِهِ فِي الْحَرْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ عِنْدَ عَالِمٍ أَوْ رَجُلٍ صَالِحٍ يَنْتَفِعُ بِهِ. وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَأَمَّا إنَّ الْمُسْلِمَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُرَابِطَ دَائِمًا بِبُقْعَةٍ بِاللَّيْلِ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ الدِّينِ. بَلْ لَوْ كَانَ الْمَبِيتُ عَارِضًا، وَكَانَ يَشْرَعُ فِيهَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَيْضًا مِنْ

الدِّينِ. - وَمَنْ شَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَوَقَفَ الْمَالَ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَلَا رَيْبَ فِي بُطْلَانِ مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ وَسُقُوطِهِ. بَلْ تَعْيِينُ مَكَان مُعَيَّنٍ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ إهْدَائِهِ غَيْرَ مَا عَيَّنَهُ الشَّارِعُ لَيْسَ أَيْضًا مَشْرُوعًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. حَتَّى لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَوْ يَقْرَأَ أَوْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ بِعَيْنِهِ غَيْرِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَتَعَيَّنْ. وَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ؛ لَكِنْ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِفَوَاتِ التَّعْيِينِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ. وَالْعُلَمَاءُ لَهُمْ فِي وُصُولِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ: كَالْقِرَاءَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ إلَى الْمَيِّتِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَصِلُ؛ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالتَّفَاضُلِ فِي مَكَان دُونَ مَكَان. وَلَا قَالَ أَحَدٌ قَطُّ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ: أَنَّ الصَّلَاةَ أَوْ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ أَفْضَلُ مِنْهَا عِنْدَ غَيْرِهِ؛ بَلْ الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي كَرَاهَتِهَا، فَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ. وَمَالِكٌ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَطَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ. وَرَخَّصَ فِيهَا طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَلَيْسَ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ نَصٌّ نَعْرِفُهُ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ أَفْضَلُ. وَمَنْ قَالَ إنَّهُ عِنْدَ الْقَبْرِ يَنْتَفِعُ الْمَيِّتُ بِسَمَاعِهَا دُونَ مَا إذَا بَعُدَ الْقَارِئُ فَقَوْلُهُ هَذَا بِدْعَةٌ بَاطِلَةٌ مُخَالِفَةٌ لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ. وَالْمَيِّتُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَنْتَفِعُ بِأَعْمَالٍ يَعْمَلُهَا هُوَ بَعْدَ الْمَوْتِ: لَا مِنْ اسْتِمَاعٍ وَلَا قِرَاءَةٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِآثَارِ مَا عَمِلَهُ فِي حَيَاتِهِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ» . وَيَنْتَفِعُ أَيْضًا بِمَا يُهْدَى إلَيْهِ مِنْ ثَوَابِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِمْ. وَإِلْزَامُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَعْمَلُوا وَلَا يَتَصَدَّقُوا إلَّا فِي بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، مِثْلَ كَنَائِسِ النَّصَارَى بَاطِلٌ. وَبِكُلِّ حَالٍ فَالِاسْتِخْلَافُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوطَةِ جَائِزٌ، وَكَوْنُهَا عَنْ

مسألة أوقف رباطا وجعل فيه جماعة من أهل القرآن

الْوَاقِفِ إذَا كَانَ النَّائِبُ مِثْلَ الْمُسْتَنِيبِ فَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ، كَالْأَعْمَالِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ، لِأَنَّ التَّعْيِينَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ. فَشَرْطٌ بَاطِلٌ وَمَتَى نَقَصُوا مِنْ الْمَشْرُوطِ لَهُمْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَنْقُصُوا مِنْ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أَوْقَفَ رِبَاطًا وَجَعَلَ فِيهِ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ] 859 - 18 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ أَوْقَفَ رِبَاطًا؛ وَجَعَلَ فِيهِ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ؛ وَجَعَلَ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ مَا يَكْفِيهِمْ؛ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ شُرُوطًا غَيْرَ مَشْرُوعَةٍ: مِنْهَا أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي وَقْتَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ مِنْ النَّهَارِ؛ فَيَقْرَءُونَ شَيْئًا مُعَيَّنًا مِنْ الْقُرْآنِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَوْقَفَهُ لَا فِي غَيْرِهِ؛ مُجْتَمِعِينَ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مُتَفَرِّقِينَ؛ وَشَرَطَ أَنْ يُهْدُوا لَهُ ثَوَابَ التِّلَاوَةِ؛ وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا شَرَطَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَوْقَفَهُ لَمْ يَأْخُذْ مَا جُعِلَ لَهُ. فَهَلْ جَمِيعُ الشُّرُوطِ لَازِمَةٌ لِمَنْ أَخَذَ الْمَعْلُومَ؟ أَمْ بَعْضُهَا؟ أَمْ لَا أَثَرَ لِجَمِيعِهَا؟ وَهَلْ إذَا لَزِمَتْ الْقِرَاءَةُ. فَهَلْ يَلْزَمُ جَمِيعُ مَا شَرَطَهُ مِنْهَا؟ أَمْ يَقْرَءُونَ مَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِمْ قِرَاءَتَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُهْدُوا شَيْئًا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. الْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا شُرِطَ مِنْ الْعَمَلِ مِنْ الْوُقُوفِ الَّتِي تُوقَفُ عَلَى الْأَعْمَالِ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قُرْبَةً؛ إمَّا وَاجِبًا؛ وَإِمَّا مُسْتَحَبًّا وَأَمَّا اشْتِرَاطُ عَمَلٍ مُحَرَّمٍ فَلَا يَصِحُّ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ؛ وَكَذَلِكَ الْمُبَاحُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ شُرُوطَ الْوَاقِفِ تَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ. كَالشُّرُوطِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ. وَمَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ: إنَّ شُرُوطَ الْوَاقِفِ نُصُوصٌ كَأَلْفَاظِ الشَّارِعِ، فَمُرَادُهُ أَنَّهَا كَالنُّصُوصِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مُرَادِ الْوَاقِفِ؛ لَا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا: أَيْ أَنَّ مُرَادَ الْوَاقِفِ يُسْتَفَادُ مِنْ أَلْفَاظِهِ الْمَشْرُوطَةِ؛ كَمَا يُسْتَفَادُ مُرَادُ الشَّارِعِ مِنْ أَلْفَاظِهِ؛ فَكَمَا يُعْرَفُ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ وَالْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ وَالتَّشْرِيكُ وَالتَّرْتِيبُ فِي الشَّرْعِ مِنْ أَلْفَاظِ الشَّارِعِ. فَكَذَلِكَ تُعْرَفُ فِي الْوَقْفِ مِنْ أَلْفَاظِ الْوَاقِفِ. مَعَ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي هَذَا أَنَّ لَفْظَ الْوَاقِفِ وَلَفْظَ الْحَالِفِ وَالشَّافِعِ وَالْمُوصِي وَكُلِّ عَاقِدٍ يُحْمَلُ عَلَى عَادَتِهِ فِي خِطَابِهِ وَلُغَتِهِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا؛ سَوَاءٌ وَافَقَتْ الْعَرَبِيَّةَ الْعَرْبَاءَ؛ أَوْ الْعَرَبِيَّةَ الْمُوَلَّدَةَ؛ أَوْ الْعَرَبِيَّةَ الْمَلْحُونَةَ؛ أَوْ كَانَتْ غَيْرَ عَرَبِيَّةٍ وَسَوَاءٌ وَافَقَتْ

لُغَةَ الشَّارِعِ؛ أَوْ لَمْ تُوَافِقْهَا؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَلْفَاظِ دَلَالَتُهَا عَلَى مُرَادِ النَّاطِقِينَ بِهَا؛ فَنَحْنُ نَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ كَلَامِ الشَّارِعِ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ لُغَتِهِ وَعُرْفِهِ وَعَادَتِهِ تَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ مُرَادِهِ، وَكَذَلِكَ فِي خِطَابِ كُلِّ أُمَّةٍ وَكُلِّ قَوْمٍ؛ فَإِذَا تَخَاطَبُوا بَيْنَهُمْ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ أَوْ الْوَقْفِ أَوْ الْوَصِيَّةِ أَوْ النَّذْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بِكَلَامٍ رَجَعَ إلَى مَعْرِفَةِ مُرَادِهِمْ وَإِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِمْ مِنْ عَادَتِهِمْ فِي الْخِطَابِ؛ وَمَا يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ. وَأَمَّا أَنْ تَحِلَّ نُصُوصُ الْوَاقِفِ أَوْ نُصُوصُ غَيْرِهِ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ كَنُصُوصِ الشَّارِعِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا؛ فَهَذَا كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ إذْ لَا أَحَدَ يُطَاعُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ الْبَشَرِ - بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالشُّرُوطُ إنْ وَافَقَتْ كِتَابَ اللَّهِ كَانَتْ صَحِيحَةً. وَإِنْ خَالَفَتْ كِتَابَ اللَّهِ كَانَتْ بَاطِلَةً. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ خَطَبَ عَلَى مِنْبَرِهِ قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ ، مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» . وَهَذَا الْكَلَامُ حُكْمُهُ ثَابِتٌ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْوَقْفِ. وَغَيْرِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. سَوَاءٌ تَنَاوَلَهُ لَفْظُ الشَّارِعِ أَوْ لَا؛ إذْ الْأَخْذُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. أَوْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِغَيْرِ الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ عُمُومًا مَعْنَوِيًّا. وَإِذَا كَانَتْ شُرُوطُ الْوَاقِفِ تَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَبَاطِلٍ بِالِاتِّفَاقِ؛ فَإِنْ شَرَطَ فِعْلًا مُحَرَّمًا ظَهَرَ أَنَّهُ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَإِنْ شَرَطَ مُبَاحًا لَا قُرْبَةَ فِيهِ كَانَ أَيْضًا بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ شَرْطًا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، لَا لَهُ وَلَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَا يَنْتَفِعُ إلَّا بِالْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. وَأَمَّا بَذْلُ الْمَالِ فِي مُبَاحٍ: فَهَذَا إذَا بَذَلَهُ فِي حَيَاتِهِ مِثْلَ الِابْتِيَاعِ؛ وَالِاسْتِئْجَارِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِتَنَاوُلِ الْمُبَاحَاتِ فِي حَيَاتِهِ. وَأَمَّا الْوَاقِفُ وَالْمُوصِي فَإِنَّهُمَا لَا يَنْتَفِعَانِ بِمَا يَفْعَلُ الْمُوصَى لَهُ وَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يُثَابَانِ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فِي ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، فَلَوْ بَذَلَ الْمَالَ فِي ذَلِكَ عَبَثًا وَسَفَهًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى تَنَاوُلِ الْمَالِ، فَكَيْفَ إذَا أُلْزِمَ بِمُبَاحٍ لَا

غَرَضَ لَهُ فِيهِ فَلَا هُوَ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْآخِرَةِ؛ بَلْ يَبْقَى هَذَا مُنْفِقًا لِلْمَالِ فِي الْبَاطِلِ مُسَخَّرٌ مُعَذَّبٌ آكِلٌ لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ. وَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ قَدْ قَالَ: «لَا سَبْقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ» ، فَلَمْ يُجَوِّزْ بِالْجُعْلِ شَيْئًا لَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْجِهَادِ. وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، كَمَا فِي الْمُصَارَعَةِ وَالْمُسَابَقَةِ عَلَى الْأَقْدَامِ، فَكَيْفَ يَبْذُلُ الْعِوَضَ الْمُؤَبَّدَ فِي عَمَلٍ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، لَا سِيَّمَا وَالْوَقْفُ مَحْبِسٌ مُؤَبَّدٌ فَكَيْفَ يُحْبَسُ الْمَالُ دَائِمًا مُؤَبَّدًا عَلَى عَمَلٍ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ هُوَ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَامِلُ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى حَبْسِ الْوَرَثَةِ وَسَائِرِ الْآدَمِيِّينَ بِحَبْسِ الْمَالِ عَلَيْهِمْ بِلَا مَنْفَعَةٍ حَصَلَتْ لِأَحَدٍ، وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْمُنَاوِلِينَ بِاسْتِعْمَالِهِمْ فِي عَمَلٍ هُمْ فِيهِ مُسَخَّرُونَ. يَعُوقُهُمْ عَنْ مَصَالِحِهِمْ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، فَلَا فَائِدَةَ تَحْصُلُ لَهُ وَلَا لَهُمْ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ مُجْتَمِعِينَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ؛ فَإِنَّ هَذِهِ تُسَمَّى " قِرَاءَةَ الْإِرَادَةِ " وَقَدْ كَرِهَهَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: كَمَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَغَيْرُهُمْ. وَمَنْ رَخَّصَ فِيهَا - كَبَعْضِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - لَمْ يَقُلْ إنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الِانْفِرَادِ، يَقْرَأُ كُلٌّ مِنْهُمْ جَمِيعَ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا هَذِهِ الْقِرَاءَةُ فَلَا يَحْصُلُ لِوَاحِدٍ جَمِيعُ الْقُرْآنِ، بَلْ هَذَا يُتِمُّ مَا قَرَأَهُ هَذَا، وَهَذَا يُتِمُّ مَا قَرَأَهُ هَذَا، وَمَنْ كَانَ لَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ يَتْرُكُ قِرَاءَةَ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ. وَلَيْسَ فِي الْقِرَاءَةِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَضِيلَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ يُقَدَّمُ بِهَا عَلَى الْقِرَاءَةِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، أَوْ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْقَاتِ، فَلَا قُرْبَةَ فِي تَخْصِيصِ مِثْلِ ذَلِكَ بِالْوَقْتِ. وَلَوْ نَذَرَ صَلَاةً أَوْ صِيَامًا أَوْ قِرَاءَةً أَوْ اعْتِكَافًا فِي مَكَان بِعَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ لِلتَّعْيِينِ مَزِيَّةٌ فِي الشَّرْعِ: كَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَزِيَّةٌ: كَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ فِي مَسَاجِدِ الْأَمْصَارِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالنَّذْرِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» .

مسألة وقف مدرسة بيت المقدس وشرط على أهلها الصلوات الخمس فيها

فَإِذَا كَانَ النَّذْرُ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لَا يَجِبُ أَنْ يُوَفَّى بِهِ إلَّا مَا كَانَ طَاعَةً بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يُوَفَّى مِنْهُ بِمُبَاحٍ، كَمَا لَا يَجِبُ أَنْ يُوَفَّى مِنْهُ بِمُحَرَّمٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فِي الصُّورَتَيْنِ. وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ: كَمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. فَكَيْفَ بِغَيْرِ النَّذْرِ مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي لَيْسَ فِي لُزُومِهَا مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا فِي النَّذْرِ. وَأَمَّا اشْتِرَاطُ إهْدَاءِ ثَوَابِ التِّلَاوَةِ، فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى إهْدَاءِ ثَوَابِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ: كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْقِرَاءَةِ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةَ يَجُوزُ إهْدَاءُ ثَوَابِهَا بِلَا نِزَاعٍ، وَأَمَّا الْبَدَنِيَّةُ فَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ. فَمَنْ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إهْدَاءُ ثَوَابِهَا: كَأَكْثَرِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ كَانَ هَذَا الشَّرْطُ عِنْدَهُمْ بَاطِلًا، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يَحْمِلَ عَنْ الْوَاقِفِ دُيُونَهُ فَإِنَّهُ {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] . وَمَنْ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يُجَوِّزُ إهْدَاءَ ثَوَابِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ؛ كَأَحْمَدَ وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فَهَذَا يَعْتَبِرُ أَمْرًا آخَرَ. وَهُوَ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا قُصِدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَأَمَّا مَا يَقَعُ مُسْتَحَقًّا بِعَقْدِ إجَارَةٍ أَوْ جَعَالَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ قُرْبَةً فَإِنْ جَازَ أَخْذُ الْأَجْرِ وَالْجُعْلِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، نَقُولُ. [مَسْأَلَةٌ وَقَفَ مَدْرَسَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَشَرَطَ عَلَى أَهْلِهَا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِيهَا] 860 - 19 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ وَقَفَ مَدْرَسَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَشَرَطَ عَلَى أَهْلِهَا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِيهَا فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُنْزَلِينَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى دُونَهَا. وَيَتَنَاوَلُونَ مَا قُرِّرَ لَهُمْ؟ أَمْ لَا يَحِلُّ التَّنَاوُلُ إلَّا بِفِعْلِ هَذَا الشَّرْطِ. الْجَوَابُ: لَيْسَ هَذَا شَرْطًا صَحِيحًا يَقِفُ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَيْهِ، كَمَا كَانَ يُفْتِي بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِعَيْنِهَا الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَدِلَّةٍ

مسألة واقف وقف رباطا على الصوفية

مُتَعَدِّدَةٍ. وَقَدْ بَسَطْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ. وَيَجُوزُ لِلْمُنْزَلِينَ أَنْ يُصَلُّوا فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَلَا يُصَلُّوهَا فِي الْمَدْرَسَةِ. وَيَسْتَحِقُّونَ مَعَ ذَلِكَ مَا قُدِّرَ لَهُمْ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ لَهُمْ مِنْ أَنْ يُصَلُّوا فِي الْمَدْرَسَةِ، وَالِامْتِنَاعُ مِنْ أَدَاءِ الْفَرْضِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، لِأَجْلِ حِلِّ الْجَارِي وَرَعٌ فَاسِدٌ، يَمْنَعُ صَاحِبَهُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ وَاقِفٍ وَقَفَ رِبَاطًا عَلَى الصُّوفِيَّةِ] 861 - 20 مَسْأَلَةٌ: فِي وَاقِفٍ وَقَفَ رِبَاطًا عَلَى الصُّوفِيَّةِ، وَكَانَ هَذَا الرِّبَاطُ قَدِيمًا جَارِيًا عَلَى قَاعِدَةِ الصُّوفِيَّةِ فِي الرُّبُطِ: مِنْ الطَّعَامِ، وَالِاجْتِمَاعِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَطْ؟ فَتَوَلَّى نَظَرَهُ شَخْصٌ، فَاجْتَهَدَ فِي تَبْطِيلِ قَاعِدَتِهِ، وَشَرَطَ عَلَى مَنْ بِهِ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي الرِّبَاطِ أَصْلًا، ثُمَّ إنَّهُمْ يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي هَذَا الرِّبَاطِ، وَيَقْرَءُونَ بَعْدَ الصُّبْحِ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ، حَتَّى أَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا غَابَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ قِرَاءَةٍ كُتِبَ عَلَيْهِ غَيْبَةٌ، مَعَ أَنَّ هَذَا الرِّبَاطَ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ كِتَابُ وَقْفٍ؛ وَلَا شَرْطٌ. فَهَلْ يَجُوزُ إحْدَاثُ هَذِهِ الشُّرُوطِ عَلَيْهِمْ؟ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَأْثَمُ مَنْ أَحْدَثَهَا أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَحِلُّ لِلنَّاظِرِ الْآنَ أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهِمْ غَيْبَةً أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجِبُ إبْطَالُ هَذِهِ الشُّرُوطِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُثَابُ وَلِيُّ الْأَمْرِ إذَا أَبْطَلَهَا، أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ قَدْ شَرَطَهَا الْوَاقِفُ: هَلْ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا أَمْ لَا؟ وَمَا الصُّوَرُ فِي الَّذِي يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ؟ وَهَلْ إذَا كَانَ فِي الْجَمَاعَةِ مَنْ هُوَ مُشْتَغِلٌ بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ يَكُونُ أَوْلَى مِمَّنْ هُوَ مُتَرَسِّمٌ بِرَسْمٍ ظَاهِرٍ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ؟ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَأَدِّبًا بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مُشْتَغِلٌ بِالْعِلْمِ الشَّرِيفِ. وَلَهُ مِنْ الدُّنْيَا مَا لَا يَقُومُ بِبَعْضِ كِفَايَتِهِ، هَلْ يَكُونُ أَوْلَى مِمَّنْ لَيْسَ مُتَأَدِّبًا بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ. وَلَا عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. وَبَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ بَيَانًا شَافِيًا، بِالدَّلِيلِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكُمْ. الْجَوَابُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ إحْدَاثُ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَلَا غَيْرِهَا، فَإِنَّ النَّاظِرَ إنَّمَا هُوَ مُنَفِّذٌ لِمَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ. لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ شُرُوطًا لَمْ يُوجِبْهَا الْوَاقِفُ، وَلَا أَوْجَبَهَا الشَّارِعُ، وَيَأْثَمُ مَنْ أَحْدَثَهَا فَإِنَّهُ مَنَعَ الْمُسْتَحِقِّينَ حَقَّهُمْ حَتَّى يَعْمَلُوا أَعْمَالًا لَا تَجِبُ. وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى مَنْ أَخَلَّ بِذَلِكَ غَيْبَةً؛ بَلْ يَجِبُ إبْطَالُ هَذِهِ الشُّرُوطِ. وَيُثَابُ السَّاعِي فِي إبْطَالِهَا مُبْتَغِيًا بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَأَمَّا الصُّوفِيُّ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الصُّوفِيَّةِ؛ فَيُعْتَبَرُ لَهُ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَدْلًا فِي دِينِهِ يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَيَجْتَنِبُ الْمَحَارِمَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُلَازِمًا لِغَالِبِ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، مِثْلَ آدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنَّوْمِ وَالسَّفَرِ وَالرُّكُوبِ وَالصُّحْبَةِ وَالْعِشْرَةِ وَالْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَلْقِ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآدَابِ الشَّرِيفَةِ، قَوْلًا وَفِعْلًا. وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ مِنْ الْآدَابِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا فِي الدِّينِ؛ مِنْ الْتِزَامِ شَكْلٍ مَخْصُوصٍ فِي اللُّبْسَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يُحْتَسَبُ فِي الشَّرِيعَةِ. فَإِنَّ مَبْنَى الْآدَابِ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَلَا يُلْتَفَتُ أَيْضًا إلَى مَا يَهْدُرُهُ بَعْضُ الْمُتَفَقِّهَةِ مِنْ الْآدَابِ الْمَشْرُوعَةِ، يَعْتَقِدُ - لِقِلَّةِ عِلْمِهِ - أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ آدَابِ الشَّرِيعَةِ؛ لِكَوْنِهِ لَيْسَ فِيمَا بَلَغَهُ مِنْ الْعِلْمِ أَوْ طَالَعَهُ مِنْ كُتُبِهِ؛ بَلْ الْعِبْرَةُ فِي الْآدَابِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ: قَوْلًا وَفِعْلًا وَتَرْكًا؛ كَمَا أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْفَرَائِضِ وَالْمَحَارِمِ بِذَلِكَ أَيْضًا. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ فِي الصُّوفِيِّ: قَنَاعَتُهُ بِالْكَفَافِ مِنْ الرِّزْقِ، بِحَيْثُ لَا يُمْسِكُ مِنْ الدُّنْيَا مَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ؛ فَمَنْ كَانَ جَامِعًا لِفُضُولِ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يُقْصَدُ إجْرَاءُ الْأَرْزَاقِ عَلَيْهِمْ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُفْسَحُ لَهُمْ فِي مُجَرَّدِ السُّكْنَى فِي الرَّبْطِ وَنَحْوِهَا. فَمَنْ حَمَلَ هَذِهِ الْخِصَالَ الثَّلَاثَ كَانَ مِنْ الصُّوفِيَّةِ الْمَقْصُودِينَ بِالرَّبْطِ وَالْوَقْفِ عَلَيْهَا. وَمَا فَوْقَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَرْبَابِ الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الزَّكِيَّةِ، وَذَوِي الْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ، وَالْمِنَحِ الرَّبَّانِيَّةِ: فَيَدْخُلُونَ فِي الْعُمُومِ؛ لَكِنْ لَا يَخْتَصُّ الْوَقْفُ بِهِمْ لِقِلَّةِ هَؤُلَاءِ؛ وَلِعُسْرِ تَمْيِيزِ الْأَحْوَالِ الْبَاطِنَةِ عَلَى غَالِبِ الْخَلْقِ؛ فَلَا يُمْكِنُ رَبْطُ اسْتِحْقَاقِ الدُّنْيَا بِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَنْزِلُ الرَّبْطُ إلَّا نَادِرًا، وَمَا دُونَ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى مُجَرَّدِ رَسْمٍ فِي لُبْسَةٍ أَوْ مِشْيَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ: لَا يَسْتَحِقُّونَ الْوَقْفَ؛ وَلَا يَدْخُلُونَ فِي مُسَمَّى الصُّوفِيَّةِ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ ذَلِكَ مُحْدَثًا لَا أَصْلَ لَهُ فِي السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ بَذْلَ الْمَالِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الرُّسُومِ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ التَّلَاعُبِ بِالدِّينِ؛ وَأَكْلٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ؛ وَصُدُودٌ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَمَنْ كَانَ مِنْ الصُّوفِيَّةِ الْمَذْكُورِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ فِيهِ قَدْرٌ زَائِدٌ، مِثْلَ اجْتِهَادٍ فِي نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ؛ أَوْ سَعْيٍ فِي تَصْحِيحٍ أَحْوَالِ الْقَلْبِ؛ أَوْ طَلَبِ شَيْءٍ مِنْ الْأَعْيَانِ؛ أَوْ

مسألة قناة سبيل لها فائض ينزل على قناة الوسخ

عِلْمِ الْكِفَايَةِ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَأَدِّبًا بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ؛ وَطَالِبُ الْعِلْمِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ تَمَامُ الْكِفَايَةِ: أَوْلَى مِمَّنْ لَيْسَ فِيهِ الْآدَابُ الشَّرْعِيَّةُ؛ وَلَا عِلْمَ عِنْدَهُ؛ بَلْ مِثْلُ هَذَا لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا. [مَسْأَلَةٌ قَنَاةِ سَبِيلٍ لَهَا فَائِضٌ يَنْزِلُ عَلَى قَنَاةِ الْوَسَخِ] 862 - 21 مَسْأَلَةٌ: عَنْ قَنَاةِ سَبِيلٍ، لَهَا فَائِضٌ، يَنْزِلُ عَلَى قَنَاةِ الْوَسَخِ، وَقَرِيبٌ مِنْهَا قَنَاةٌ طَاهِرَةٌ قَلِيلَةُ الْمَاءِ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسَاقَ ذَلِكَ الْفَائِضُ إلَى الْمُطَهِّرَةِ. وَهَلْ يُثَابُ فَاعِلُ ذَلِكَ؟ وَهَلْ يَجُوزُ مَنْعُهُ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ. يَجُوزُ ذَلِكَ بِإِذْنِ وَلِيِّ الْأَمْرِ، وَلَا يَجُوزُ مَنْعُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَيُثَابُ السَّاعِي فِي ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الشُّرُوطِ الَّتِي قَدْ جَرَتْ الْعَوَائِدُ فِي اشْتِرَاطِ أَمْثَالِهَا مِنْ الْوَاقِفِينَ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ] 863 - 22 مَسْأَلَةٌ: فِي الشُّرُوطِ الَّتِي قَدْ جَرَتْ الْعَوَائِدُ فِي اشْتِرَاطِ أَمْثَالِهَا مِنْ الْوَاقِفِينَ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، مِمَّا بَعْضُهُ لَهُ فَائِدَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ مَطْلُوبَةٌ، وَبَعْضُهَا لَيْسَ فِيهَا كَبِيرُ غَرَضٍ لِلْوَاقِفِ؛ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ؛ فَإِنْ وَفَّى بِهِ شَقَّ عَلَيْهِ؛ وَإِنْ أَهْمَلَهُ خَشِيَ الْإِثْمَ وَأَنْ يَكُونَ مُتَنَاوِلًا لِلْحَرَامِ، وَذَلِكَ كَشَرْطِ وَاقِفِ الرِّبَاطِ أَوْ الْمَدْرَسَةِ الْمَبِيتَ وَالْعُزُوبَةَ وَتَأْدِيَةَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ بِالرِّبَاطِ، وَتَخْصِيصَ الْقِرَاءَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِالْمَكَانِ بِعَيْنِهِ، وَأَنْ يَكُونُوا مِنْ مَدِينَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ قَبِيلَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ فِي الْإِمَامَةِ بِالْمَسَاجِدِ وَالْأَذَانِ وَسَمَاعِ الْحَدِيثِ بِخُلُقِ الْحَدِيثِ بالخوانك، فَهَلْ هَذِهِ الشُّرُوطُ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِمَّا هُوَ مُبَاحٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلِلْوَاقِفِ فِيهِ يَسِيرُ غَرَضٍ لَازِمَةٌ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ الْإِخْلَالُ بِهَا، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهَا؟ أَمْ يَلْزَمُ الْبَعْضُ مِنْهَا دُونَ الْبَعْضِ؟ وَأَيُّ ذَلِكَ هُوَ اللَّازِمُ؟ وَأَيُّ ذَلِكَ الَّذِي لَا يَلْزَمُ؟ وَمَا الضَّابِطُ فِيمَا يَلْزَمُ وَمَا لَا يَلْزَمُ؟ . فَأَجَابَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْأَعْمَالُ الْمَشْرُوطَةُ فِي الْوَقْفِ مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، مِثْلِ الْوَقْفِ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ، وَالْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ، وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ بِالْعِبَادَةِ أَوْ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: عَمَلٌ يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْوَاجِبَاتُ، وَالْمُسْتَحَبَّاتُ الَّتِي رَغَّبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا، وَحَضَّ عَلَى تَحْصِيلِهَا. فَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَيَقِفُ اسْتِحْقَاقُ الْوَقْفِ عَلَى حُصُولِهِ فِي الْجُمْلَةِ. وَالثَّانِي: عَمَلٌ قَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ، أَوْ نَهْيَ تَنْزِيهٍ، فَاشْتِرَاطُ مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، لِمَا قَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ خَطَبَ عَلَى مِنْبَرِهِ فَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشُرُوطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ خَرَجَ بِسَبَبِ شَرْطِ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَا كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ مُسْتَلْزِمًا وُجُودَ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّارِعُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا نَهَى عَنْهُ وَمَا عُلِمَ بِبَعْضِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا عُلِمَ أَنَّهُ صَرَّحَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ؛ لَكِنْ قَدْ يَخْتَلِفُ اجْتِهَادُهُمْ فِي ذَلِكَ الشَّرْطِ، بِنَاءً عَلَى هَذَا، وَهَذَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْأُمَّةِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَطُ لَيْسَ مُحَرَّمًا فِي نَفْسِهِ؛ لَكِنَّهُ مُنَافٍ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ. فَمِثَالُ هَذِهِ الشُّرُوطِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى أَهْلِ الرِّبَاطِ مُلَازَمَتَهُ، هَذَا مَكْرُوهٌ فِي الشَّرِيعَةِ، كَمَا قَدْ أَحْدَثَهُ النَّاسُ، أَوْ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْفُقَهَاءِ اعْتِقَادَ بَعْضِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ بَعْضِ الْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ، أَوْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ تَرْكَ بَعْضِ سُنَنِ الصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ، أَوْ فِعْلَ بَعْضِ بِدَعِهَا، مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْفَجْرِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ، وَأَنْ يَصِلَ الْأَذَانَ بِذِكْرٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، أَوْ أَنْ يُقِيمَ صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْمَدْرَسَةِ وَالْمَسْجِدِ مَعَ إقَامَةِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَوْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَلُّوا وُحْدَانًا. وَمِمَّا يَلْتَحِقُ بِهَذَا الْقِسْمِ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مُسْتَلْزِمًا لِلْحَضِّ عَلَى تَرْكِ مَا نَدَبَ إلَيْهِ الشَّارِعُ، مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى أَهْلِ رِبَاطٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ إلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ أَنْ يُصَلُّوا فِيهَا فَرْضَهُمْ، فَإِنَّ هَذَا دُعَاءٌ إلَى تَرْكِ أَدَاءِ الْفَرْضِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مِثْلِ هَذَا؛

بَلْ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ هُوَ الْأَفْضَلُ بَلْ الْوَاجِبُ هَدْمُ مَسَاجِدِ الضِّرَارِ مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ تَفْصِيلِهِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اشْتِرَاطُ الْإِيقَادِ عَلَى الْقُبُورِ، وَإِيقَادِ شَمْعٍ أَوْ دُهْنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» . وَبِنَاءُ الْمَسْجِدِ وَإِسْرَاجُ الْمَصَابِيحِ عَلَى الْقُبُورِ مِمَّا لَمْ أَعْلَمْ خِلَافًا أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَتَفَاصِيلُ هَذِهِ الشُّرُوطِ تَطُولُ جِدًّا، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ هُنَا جِمَاعَ الشُّرُوطِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: عَمَلٌ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ فِي الشَّرْعِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ، بَلْ هُوَ مُبَاحٌ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ. فَهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ، وَالْجُمْهُورُ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ بَاطِلٌ، وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ أَنْ يَشْتَرِطَ إلَّا مَا كَانَ قُرْبَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْذُلَ مَالَهُ إلَّا لِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ فِي الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا، فَمَا دَامَ الرَّجُلُ حَيًّا فَلَهُ أَنْ يَبْذُلَ مَالَهُ فِي تَحْصِيلِ الْأَغْرَاضِ الْمُبَاحَةِ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ. فَأَمَّا الْمَيِّتُ فَمَا بَقِيَ بَعْدَ الْمَوْتِ يَنْتَفِعُ مِنْ أَعْمَالِ الْأَحْيَاءِ إلَّا بِعَمَلٍ صَالِحٍ قَدْ أَمَرَ بِهِ، أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ، أَوْ قَدْ أَهْدَى إلَيْهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَأَمَّا الْأَعْمَالُ الَّتِي لَيْسَتْ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمَيِّتُ بِحَالٍ. فَإِذَا اشْتَرَطَ الْمُوصِي أَوْ الْوَاقِفُ عَمَلًا أَوْ صِفَةً لَا ثَوَابَ فِيهَا كَانَ السَّعْيُ فِيهَا بِتَحْصِيلِهَا سَعْيًا فِيمَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ. وَهُوَ إنَّمَا مَقْصُودُهُ بِالْوَقْفِ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّارِعُ أَعْلَمُ مِنْ الْوَاقِفِينَ بِمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَعْمَلَ فِي شُرُوطِهِمْ بِمَا شَرَطَهُ اللَّهُ وَرَضِيَهُ فِي شُرُوطِهِمْ. وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ: «لَا سَبْقَ إلَّا فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ» وَعَمِلَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ وَمُتَابِعُوهُمْ. فَنَهَى عَنْ بَذْلِ الْمَالِ فِي الْمُسَابَقَةِ إلَّا فِي مُسَابَقَةٍ يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى الْجِهَادِ، الَّذِي هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى؛ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَبْذُلَ الْجُعْلَ الْمُؤَبَّدَ لِمَنْ يَعْمَلُ دَائِمًا عَمَلًا لَيْسَ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى.

وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ؛ لَكِنْ قَدْ تَخْتَلِفُ آرَاءُ النَّاسِ وَأَهْوَاؤُهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، وَلَا يُمْكِنُ هُنَا تَفْصِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَلَكِنْ مَنْ لَهُ هِدَايَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَيْهِ الْمَقْصُودُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ. وَتُسَمِّي الْعُلَمَاءُ مِثْلَ هَذِهِ الْأُصُولِ " تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ " وَذَلِكَ كَمَا أَنَّهُمْ جَمِيعَهُمْ يَشْتَرِطُونَ الْعَدَالَةَ فِي الشَّهَادَةِ؛ وَيُوجِبُونَ النَّفَقَةَ بِالْمَعْرُوفِ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَدْ يَخْتَلِفُ اجْتِهَادُهُمْ فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ، هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْعَدَالَةِ؟ وَيَخْتَلِفُونَ فِي صِفَةِ الْإِنْفَاقِ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا يُنَبِّهُ عَنْ مِثَالِهِ. أَمَّا إذَا اشْتَرَطَ عَلَى أَهْلِ الرِّبَاطِ أَوْ الْمَدْرَسَةِ أَنْ يُصَلُّوا فِيهَا الْخَمْسَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ فَإِنْ كَانَتْ فِيمَا فِيهِ مَقْصُودٌ شَرْعِيٌّ؛ كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَكَان بِعَيْنِهِ؛ فَإِنْ كَانَ فِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الْمَكَانِ قُرْبَةٌ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ؛ بِأَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ إذَا لَمْ يُصَلِّ صَلَاةً تَكُونُ مِثْلَ تِلْكَ أَوْ أَفْضَلَ؛ وَإِلَّا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِالصَّلَاةِ؛ دُونَ التَّعْيِينِ وَالْمَكَانِ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّعْيِينِ مَقْصُودٌ شَرْعِيٌّ. فَإِذَا كَانَ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَلُّوا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ هُنَاكَ فِي جَمَاعَةٍ اُعْتُبِرَتْ الْجَمَاعَةُ، فَإِنَّهَا مَقْصُودٌ شَرْعِيٌّ بِحَيْثُ مَنْ لَمْ يُصَلِّ فِي جَمَاعَةٍ لَمْ يَفِ بِالشَّرْطِ الصَّحِيحِ؛ وَأَمَّا التَّعْيِينُ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ. أَمَّا اشْتِرَاطُ التَّعَزُّبِ وَالرَّهْبَانِيَّةِ فَالْأَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ بِحَالٍ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا عَلَى أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَلَا عَلَى أَهْلِ الْجِهَادِ؛ فَإِنَّ غَالِبَ الْخَلْقِ يَكُونُ لَهُمْ شَهَوَاتٌ وَالنِّكَاحُ فِي حَقِّهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ إمَّا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؛ فَاشْتِرَاطُ التَّعَزُّبِ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ إنْ كَانَ فَهُوَ مُنَاقَضَةٌ لِلشَّرْعِ. وَإِنْ قِيلَ: الْمَقْصُودُ بِالتَّعَزُّبِ الَّذِي لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ النِّكَاحُ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ خَرَجَ عَامَّةُ الشَّبَابِ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ؛ وَهُمْ الَّذِينَ تُرْجَى الْمَنْفَعَةُ بِتَعْلِيمِهِمْ فِي الْغَالِبِ؛ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَقَفْت عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ الَّذِينَ لَا تُرْجَى مَنْفَعَتُهُمْ فِي الْغَالِبِ؛ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَتَاهُ مَالٌ قَسَمَ لِلْآهِلِ قِسْمَيْنِ؛ وَلِلْعَزَبِ قِسْمًا» ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ الْآهِلُ مَحْرُومًا. وَقَدْ قَالَ لِأَصْحَابِهِ الْمُتَعَلِّمِينَ الْمُتَعَبِّدِينَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ» .

فَكَيْفَ يُقَالُ لِلْمُتَعَلِّمِينَ وَالْمُتَعَبِّدِينَ؛ لَا تَتَزَوَّجُوا؛ وَالشَّارِعُ نَدَبَ إلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ؛ وَحَضَّ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ: «لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ» . فَكَيْفَ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ رَهْبَانِيَّةٍ؟ ،. وَمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ التَّعَزُّبَ أَعْوَنُ عَلَى كَيْدِ الشَّيْطَانِ وَالتَّعَلُّمِ وَالتَّعَبُّدِ غَلَطٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ، وَلِلْوَاقِعِ؛ بَلْ عَدَمُ التَّعَزُّبِ أَعْوَنُ عَلَى كَيْدِ الشَّيْطَانِ، وَالْإِعَانَةُ لِلْمُتَعَبِّدِينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ إعَانَةِ الْمُتَرَهِّبِينَ مِنْهُمْ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِقْصَاءِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُ أَهْلِ بَلَدٍ أَوْ قَبِيلَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ؛ مِمَّا لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ؛ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً؛ فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالْمَسَاجِدُ لِلَّهِ تُبْنَى لِلَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ، فَإِذَا قَيَّدَ إمَامَ الْمَسْجِدِ بِبَلَدٍ فَقَدْ يُوجَدُ فِي غَيْرِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْإِمَامَةِ فِي شَرْطِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنْ وَفَّيْنَا بِشَرْطِ الْوَاقِفِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَزِمَ تَرْكُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ وَشَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ. وَأَمَّا بَقِيَّةُ الشُّرُوطِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا فَيَحْتَاجُ كُلُّ شَرْطٍ مِنْهَا إلَى كَلَامٍ خَاصٍّ فِيهِ؛ لَا تَتَّسِعُ لَهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ؛ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَصْلَ. فَعَلَى الْمُؤْمِنِ بِاَللَّهِ أَنْ يَنْظُرَ دَائِمًا فِي كُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْخُلُقِ؛ فَيَسْعَى فِي تَحْصِيلِهِ بِالْوَقْفِ وَغَيْرِهِ؛ وَمَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَسْعَى فِي إعْدَامِهِ؛ وَمَا لَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَلَا يُحِبُّهُ يُعْرِضُ عَنْهُ وَلَا يُعَلِّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقَ وَقْفٍ وَلَا عَدَمَهَ وَلَا غَيْرَهُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ.

مسألة سكنى المرأة بين الرجال والرجال بين النساء

[مَسْأَلَةٌ سُكْنَى الْمَرْأَةِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالرِّجَالِ بَيْنَ النِّسَاءِ] مَسْأَلَةٌ: فِي زَاوِيَةٍ فِيهَا عَشَرَةُ فُقَرَاءَ مُقِيمُونَ، وَبِتِلْكَ الزَّاوِيَةِ مُطَّلِعٌ بِهِ امْرَأَةٌ عَزْبَاءُ، وَهِيَ مِنْ أَوْسَطِ النِّسَاءِ؛ وَلَمْ يَكُنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ لَهَا مَسْكَنَهَا فِي تِلْكَ الزَّاوِيَةِ؛ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ أَقَارِبِ الْوَاقِفِ؛ وَلَمْ يَكُنْ سَاكِنٌ فِي الْمَطْلَعِ سِوَى الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ وَبَابُ الْمَطْلَعِ الْمَذْكُورِ يُغْلَقُ عَلَيْهِ بَابُ الزَّاوِيَةِ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهَا السُّكْنَى بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ الْمُقِيمِينَ؛ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا الْجَوَابُ: إنْ كَانَ شَرْطُ الْوَاقِفِ لَا يَسْكُنُهُ إلَّا الرِّجَالُ، سَوَاءٌ كَانُوا عُزَّبًا أَوْ مُتَأَهِّلِينَ؛ مُنِعَتْ؛ لِمُقْتَضَى الشَّرْطِ. وَكَذَلِكَ سُكْنَى الْمَرْأَةِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالرِّجَالِ بَيْنَ النِّسَاءِ يُمْنَعُ مِنْهُ لِحَقِّ اللَّهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ نَاظِرِ وَقْفٍ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَبِالْوَقْفِ] 865 - 24 مَسْأَلَةٌ: فِي نَاظِرِ وَقْفٍ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَبِالْوَقْفِ [شَخْصٌ] يَتَصَرَّفُ بِغَيْرِ وِلَايَةِ النَّاظِرِ، يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةِ أَحَدِ الْحُكَّامِ، لِأَنَّ لَهُ النَّظَرَ الْعَامَّ، وَأَنَّ النَّاظِرَ عَزَلَ هَذَا الْمُبَاشِرَ، فَبَاشَرَ بَعْدَ عَزْلِهِ، وَسَأَلَ النَّاظِرُ الْحَاكِمَ أَنْ يَدْفَعَ هَذَا عَنْ الْمُبَاشَرَةِ، فَادَّعَى الْحَاكِمُ عَلَى النَّاظِرِ دَعْوَى فَأَنْكَرَهَا. فَهَلْ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَ بِدُونِ أَمْرِ النَّاظِرِ الشَّرْعِيِّ؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْحَاكِمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا النَّاظِرِ الَّذِي هُوَ خَصْمُهُ دُونَ سَائِرِ الْحُكَّامِ؟ وَإِذَا اعْتَدَى عَلَى النَّاظِرِ فَمَاذَا يَسْتَحِقُّ عَلَى عُدْوَانِهِ عَلَيْهِ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُوَلِّيَ وَلَا يَتَصَرَّفَ فِي الْوَقْفِ بِدُونِ أَمْرِ النَّاظِرِ الشَّرْعِيِّ الْخَاصِّ، إلَّا أَنْ يَكُونَ النَّاظِرُ الشَّرْعِيُّ قَدْ تَعَدَّى فِيمَا يَفْعَلُهُ، وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ إذَا خَرَجَ عَمَّا يَجِب عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ بَيْنَ النَّاظِرِ وَالْحَاكِمِ مُنَازَعَةٌ حَكَمَ بَيْنَهُمَا غَيْرُهُمَا بِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ اعْتَدَى عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُقَابَلُ عَلَى عُدْوَانِهِ، إمَّا أَنْ يُعَاقَبَ بِمِثْلِ ذَلِكَ إنْ أَمْكَنَتْ الْمُمَاثَلَةُ: وَإِلَّا عُوقِبَ بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُ شَرْعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة في ناظرين هل لهما أن يقتسما المنظور عليه بحيث ينظر كل منهما في نصفه فقط

[مَسْأَلَةٌ فِي نَاظِرَيْنِ هَلْ لَهُمَا أَنْ يَقْتَسِمَا الْمَنْظُورَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَنْظُرُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي نِصْفِهِ فَقَطْ] 866 - 25 مَسْأَلَةٌ: فِي نَاظِرَيْنِ، هَلْ لَهُمَا أَنْ يَقْتَسِمَا الْمَنْظُورَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَنْظُرُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي نِصْفِهِ فَقَطْ؟ . الْجَوَابُ: لَا يَتَصَرَّفَانِ إلَّا جَمِيعًا فِي جَمِيع الْمَنْظُورِ فِيهِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ انْفَرَدَ بِالتَّصَرُّفِ لَمْ يَجُزْ، فَكَيْف إذَا وُزِّعَ الْمُفْرَدُ، فَإِنَّ الشَّرْعَ شَرَعَ جَمْعَ الْمُتَفَرِّقِ بِالْقِسْمَةِ، وَالشُّفْعَةِ فَكَيْفَ يُفَرَّقُ الْمُجْتَمِعُ؟ ،. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ وَقَفَ وَقْفًا وَشَرَطَ لِلنَّاظِرِ جِرَايَةً] 867 - 26 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ وَقَفَ وَقْفًا، وَشَرَطَ لِلنَّاظِرِ جِرَايَةً وَجَامِكِيَّةً، كَمَا شَرَطَ لِلْمُعِينِ وَالْفُقَهَاءِ، فَهَلْ يَقْدَمُ النَّاظِرُ بِمَعْلُومِهِ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: لَيْسَ فِي اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ مَا يَقْتَضِي تَقَدُّمَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَعْلُومِهِ، بَلْ هُوَ مَذْكُورٌ بِالْوَاوِ الَّتِي مُقْتَضَاهَا الِاشْتِرَاكُ وَالْجَمْعُ الْمُطْلَقُ. فَإِنْ كَانَ ثَمَّ دَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ يَقْتَضِي جَوَازَ الِاخْتِصَاصِ وَالتَّقَدُّمِ غَيْرُ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، مِثْلُ: كَوْنِهِ حَائِزًا أُجْرَةَ عَمَلِهِ مَعَ فَقْرِهِ، كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ عُمِلَ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ الْمُنْفَصِلِ الشَّرْعِيِّ وَإِلَّا فَشَرْطُ الْوَاقِفِ لَا يَقْتَضِي التَّقْدِيمَ؛ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَامِكِيَّةِ وَالْجِرَايَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعِمَارَةِ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ، لَا مِنْ عُمَالَة النَّاظِرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ وَفِيهِمْ مَنْ قَرَّرَ الْوَاقِفُ لِوَظِيفَتِهِ شَيْئًا مَعْلُومًا] 868 - 27 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ، وَفِيهِمْ مَنْ قَرَّرَ الْوَاقِفُ لِوَظِيفَتِهِ شَيْئًا مَعْلُومًا، وَجَعَلَ لِلنَّاظِرِ عَلَى هَذَا الْوَقْفِ صَرْفَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، يُخْرِجُ بِغَيْرِ خَرَاجٍ، وَإِخْرَاجَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَالتَّعَوُّضَ عَنْهُ، وَزِيَادَةَ مَنْ أَرَادَ زِيَادَتَهُ وَنُقْصَانَهُ، عَلَى مَا يَرَاهُ وَيَخْتَارُهُ، وَيَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، فَعَزَلَ أَحَدَ الْمُعَيَّنِينَ وَاسْتَبْدَلَ بِهِ غَيْرَهُ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْقِيَامِ بِهَا بِبَعْضِ ذَلِكَ الْمَعْلُومِ الْمُقَدَّرِ لِلْوَظِيفَةِ، وَوَفَّى بَاقِيَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ. فَهَلْ لِلنَّاظِرِ فِعْلُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَإِذَا عَزَلَ أَحَدَ الْمُعَيَّنِينَ لِلْمَصْلَحَةِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى تَنَاوُلِ الْمَعْلُومِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْعَزْلِ: يَفْسُقُ بِذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا أَخَذَهُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَلْزَمُ النَّاظِرَ بَيَانُ الْمَصْلَحَةِ أَمْ لَا؟

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، النَّاظِرُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا فِي أَمْرِ الْوَقْفِ إلَّا بِمُقْتَضَى الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ الْأَصْلَحَ، فَالْأَصْلَحَ. وَإِذَا جَعَلَ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ صَرْفَ مَنْ شَاءَ، وَزِيَادَةَ مَنْ أَرَادَ زِيَادَتَهُ وَنُقْصَانَهُ، فَلَيْسَ لِلَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِهَذَا الشَّرْطِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشْتَهِيه، أَوْ مَا يَكُونُ فِيهِ اتِّبَاعُ الظَّنِّ، وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ؛ بَلْ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِهَذَا الشَّرْطِ أَنْ يَفْعَلَ مِنْ الْأُمُورِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ مَا يَكُونُ إرْضَاءً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَهَذَا فِي كُلِّ مَنْ تَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ، كَالْإِمَامِ، وَالْحَاكِمِ، وَالْوَاقِفِ، وَنَاظِرِ الْوَقْفِ، وَغَيْرِهِمْ: إذَا قِيلَ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ كَذَا وَكَذَا، أَوْ يَفْعَلُ مَا شَاءَ، وَمَا رَأَى، فَإِنَّمَا ذَاكَ تَخْيِيرُ مَصْلَحَةٍ، لَا تَخْيِيرُ شَهْوَةٍ. وَالْمَقْصُودُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِعْلٌ مُعَيَّنٌ، بَلْ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ إلَى مَا هُوَ أَصْلَحُ وَأَرْضَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ قَالَ الْوَاقِفُ: عَلَى مَا يَرَاهُ وَيَخْتَارُهُ وَيَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ. وَمُوجَبُ هَذَا كُلِّهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِرَأْيِهِ وَاخْتِيَارِهِ الشَّرْعِيِّ، الَّذِي يَتَّبِعُ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ الشَّرْعِيَّةَ. وَقَدْ يَرَى هُوَ مَصْلَحَةً، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ يَأْمُرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مَصْلَحَةً كَمَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً، وَقَدْ يَخْتَارُ مَا يَهْوَاهُ لَا مَا فِيهِ رِضَى اللَّهِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى اخْتِيَارِهِ، حَتَّى لَوْ صَرَّحَ الْوَاقِفُ بِأَنَّ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَهْوَاهُ وَمَا يَرَاهُ مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ هَذَا الشَّرْطُ صَحِيحًا؛ بَلْ كَانَ بَاطِلًا، لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ: " وَمَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ ". وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَ عَزْلُ النَّاظِرِ وَاسْتِبْدَالُهُ، مُوَافِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمَعْزُولِ وَلَا غَيْرِهِ رَدُّ ذَلِكَ، وَلَا يَتَنَاوَلُ شَيْئًا مِنْ الْوَقْفِ وَالْحَالُ هَذِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ مَرْدُودًا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» . وَقَالَ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» . وَإِنْ تَنَازَعُوا هَلْ الَّذِي فَعَلَهُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ أَمْ لَا؟ رُدَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي فَعَلَ النَّاظِرُ أَرْضَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ نَفَذَ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَرْضَى

مسألة رجل له مزرعة وبها شجر وقف للفقراء

أُلْزِمَ النَّاظِرُ بِإِقْرَارِهِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ أَمْرٌ ثَالِثٌ هُوَ الْأَرْضَى لَزِمَ اتِّبَاعُهُ. وَعَلَى النَّاظِرِ بَيَانُ الْمَصْلَحَةِ، فَإِنْ ظَهَرَتْ وَجَبَ اتِّبَاعُهَا. وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهَا مَفْسَدَةٌ رُدَّتْ، وَإِنْ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ وَكَانَ النَّاظِرُ عَالِمًا عَادِلًا سُوِّغَ لَهُ اجْتِهَادُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ لَهُ مَزْرَعَةٌ وَبِهَا شَجَرٌ وَقْفٌ لِلْفُقَرَاءِ] 869 - 28 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ مَزْرَعَةٌ، وَبِهَا شَجَرٌ وَقْفٌ لِلْفُقَرَاءِ، تُبَاعُ كُلَّ سَنَةٍ، وَتُصْرَفُ فِي مَصَارِفِهَا. ثُمَّ إنَّ النَّاظِرَ أَجَّرَ الْوَقْفَ لِمَنْ يَضُرُّ بِالْوَقْفِ، وَكَانَ هُنَاكَ حَوْضٌ لِلسَّبِيلِ، وَمَطْهَرَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَهَدَمَهَا هَذَا الْمُسْتَأْجِرُ، وَهَدَمَ الْحِيطَانَ. فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ إكْرَاءُ الْوَقْفِ لِمَنْ يَضُرُّ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ وَلَا يَجُوزُ إكْرَاءُ الشَّجَرِ بِحَالٍ، وَإِنْ سُوقِي عَلَيْهَا بِجُزْءٍ حِيلَةً لَمْ يَجُزْ بِالْوَقْفِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يَجُوزُ إزَالَةُ مَا كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لِلشُّرْبِ وَالطَّهَارَةِ، بَلْ يُعَزَّرُ هَذَا الْمُسْتَأْجِرُ الظَّالِمُ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ، وَيُلْزَمُ بِضَمَانِ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ الْبِنَاءِ، وَأَمَّا الْقِيمَةُ وَالشَّجَرُ فَيُسْتَغَلُّ، كَمَا جَرَتْ عَادَتُهَا، وَتُصْرَفُ الْغَلَّةُ فِي مَصَارِفِهَا الشَّرْعِيَّةِ. [مَسْأَلَةٌ فِي مَسَاجِدَ وَجَوَامِعَ لَهُمْ أَوْقَافٌ وَفِيهَا قَوَّامٌ وَأَئِمَّةٌ] 870 - 29 مَسْأَلَةٌ: فِي مَسَاجِدَ وَجَوَامِعَ لَهُمْ أَوْقَافٌ، وَفِيهَا قَوَّامٌ وَأَئِمَّةٌ، وَمُؤَذِّنُونَ، فَهَلْ لِقَاضِي الْمَكَانِ أَنْ يَصْرِفَ مِنْهُ إلَى نَفْسِهِ؟ الْجَوَابُ: بَلْ الْوَاجِبُ صَرْفُ هَذِهِ الْأَمْوَالِ فِي مَصَارِفِهَا الشَّرْعِيَّةِ، فَيُصْرَفُ مِنْ الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ إلَى الْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْقَوَّامِ مَا يَسْتَحِقُّهُ أَمْثَالُهُمْ. وَكَذَلِكَ يُصْرَفُ فِي فُرُشِ الْمَسَاجِدِ وَتَنْوِيرِهَا كِفَايَتُهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَمَا فَضَلَ عَنْ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يُصْرَفَ فِي مَصَالِحِ مَسَاجِدَ أُخَرَ، وَيُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ، كَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا صَرْفُهَا لِلْقُضَاةِ وَمَنْعُ مَصَالِحِ الْمَسَاجِدِ فَلَا يَجُوزُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ بَنَى مَدْرَسَةً وَأَوْقَفَ عَلَيْهَا وَقْفًا عَلَى فُقَهَاءٍ] 871 - 30 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ بَنَى مَدْرَسَةً، وَأَوْقَفَ عَلَيْهَا وَقْفًا عَلَى فُقَهَاءِ وَأَرْبَابِ وَظَائِفَ، ثُمَّ إنَّ السَّلْطَنَةَ أَخَذَتْ أَكْثَرَ الْوَقْفِ، وَأَنَّ الْوَاقِفَ اشْتَرَطَ الْمُحَاصَصَةَ بَيْنَهُمْ.

مسألة في دار حديث شرط واقفها في كتاب وقفها ما صورته بحروفه

فَهَلْ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُعْطِيَ أَصْحَابَ الْوَظَائِفِ بِالْكَامِلِ وَمَا بَقِيَ لِلْفُقَهَاءِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إنْ كَانَ الَّذِي يَحْصُلُ بِالْمُحَاصَّةِ لِأَرْبَابِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُسْتَأْجَرُ عَلَيْهَا - كَالْبَوَّابِ وَالْقَيِّمِ وَالسَّوَّاقِ وَنَحْوِهِمْ - أُجْرَةَ مِثْلِهِمْ يُعْطُوهُ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَا يَحْصُلُ دُونَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَأَمْكَنَ مَنْ يَعْمَلُ بِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ الْحَاصِلُ لَهُمْ أَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَلَا يُحَصَّلُ مَنْ يَعْمَلُ بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَكْمِيلِ الْمِثْلِ لَهُمْ، إذَا لَمْ تَقُمْ مَصْلَحَةُ الْمَكَانِ إلَّا بِهِمْ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ شَخْصٌ وَاحِدٌ قَيِّمًا وَبَوَّابًا أَوْ قَيِّمًا وَمُؤَذِّنًا أَوْ يُجْمَعَ لَهُ بَيْنَ تِلْكَ الْوَظَائِفِ وَيَقُومَ بِهَا فَإِنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَا يُكْثِرُ الْعَدَدَ الَّذِي لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، مَعَ كَوْنِ الْوَقْفِ قَدْ عَادَ إلَى رِيعِهِ، بَلْ إذَا أَمْكَنَ سَدُّ أَرْبَعِ وَظَائِفَ بِوَاحِدٍ فَعَلَ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي دَارِ حَدِيثٍ شَرَطَ وَاقِفُهَا فِي كِتَابِ وَقْفِهَا مَا صُورَتُهُ بِحُرُوفِهِ] 872 - 31 مَسْأَلَةٌ: فِي دَارِ حَدِيثٍ شَرَطَ وَاقِفُهَا فِي كِتَابِ وَقْفِهَا مَا صُورَتُهُ بِحُرُوفِهِ، قَالَ: وَالنَّظَرُ فِي أَمْرِ أَهْلِ الدَّارِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ إثْبَاتًا وَصَرْفًا، وَإِعْطَاءً وَمَنْعًا، وَزِيَادَةً وَنَقْصًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ إلَى شَيْخ الْمَكَانِ. وَكَذَلِكَ النَّظَر إلَيْهِ فِي خِزَانَةِ كُتُبِهَا، وَسَائِرِ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ أَوْ يُلْحَقُ بِهِ. وَلَهُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ الْوَقْفُ فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ أَنْ يُفَوِّضَ ذَلِكَ إلَى مَنْ يَتَوَلَّاهُ. ثُمَّ قَالَ: وَالنَّظَرُ فِي أَمْرِ الْأَوْقَافِ وَأُمُورِهَا الْمَالِيَّةِ إلَى الْوَاقِفِ - ضَاعَفَ اللَّهُ ثَوَابَهُ - يُفَوِّضُ ذَلِكَ إلَى مَنْ يَشَاءُ، وَمَتَى فَوَّضَ ذَلِكَ إلَيْهِ تَلَقَّاهُ بِحُكْمِ الشَّرْطِ الْمُقَارِنِ لِإِنْشَاءِ الْوَقْفِ وَيَنْتَقِلُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ بِدِمَشْقَ، وَلَهُ أَنْ يَصْرِفَ إلَى مَنْ سِوَى ذَلِكَ مِنْ عَامِلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ مَغَلِّ الْوَقْفِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيه الْحَالُ. فَهَلْ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي شَرْطِ النَّظَرِ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ شَيْءٌ آخَرُ يَكُونُ النَّظَرُ الْمَشْرُوطُ لِلْحَاكِمِ مُخْتَصًّا بِحَاكِمِ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ بِمُقْتَضَى لَفْظِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ؟ أَمْ لَا يَخْتَصُّ بِحَاكِمٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ يَكُونُ النَّظَرُ الْمَذْكُورُ لِمَنْ كَانَ حَاكِمًا بِدِمَشْقَ عَلَى أَيِّ مَذْهَبٍ كَانَ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ؟ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُخْتَصًّا وَفَوَّضَ بَعْضُ الْحُكَّامِ قُضَاةَ الْقُضَاةِ أَعَزَّهُمْ اللَّهُ بِدِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ لِأَهْلٍ كَانَ النَّظَرُ الْمَذْكُورُ بِمُقْتَضَى مَا رَآهُ مِنْ عَدَمِ الِاخْتِصَاصِ يَجُوزُ لِحَاكِمٍ آخَرَ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ بَعْضِ مَا فَعَلَهُ بِغَيْرِ قَادِحٍ؟

الْجَوَابُ: لَيْسَ فِي اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ فِي شَرْطِ الْوَاقِفِ مَا يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إلَّا حَاكِمٌ عَلَى غَيْرِ الْمَذْهَبِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ حَاكِمُ الْبَلَدِ وَمِنْ الْوَاقِفِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ النَّظَرُ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَقِفُونَ الْأَوْقَافَ، وَيَشْرِطُونَ أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ لِلْحَاكِمِ، أَوْ لَا يَشْتَرِطُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الشَّرْطِ فِي الْوُقُوفِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَمْ يُعَيِّنْ وَلِيُّ الْأَمْرِ لَهَا نَاظِرًا خَاصًّا، وَفِي الْوُقُوفِ الْخَاصَّةِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْحَاكِمُ وَقْتَ الْوَقْفِ لَهُ مَذْهَبٌ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِلْحَاكِمِ مَذْهَبٌ آخَرُ، كَمَا يَكُونُ فِي الْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُوَلُّونَ قُضَاةَ الْقُضَاةِ تَارَةً لِحَنَفِيٍّ، وَتَارَةً لِمَالِكِيٍّ، وَتَارَةً لِشَافِعِيٍّ، وَتَارَةً لِحَنْبَلِيٍّ. وَهَذَا الْقَاضِي يُوَلِّي فِي الْأَطْرَافِ مَنْ يُوَافِقُهُ عَلَى مَذْهَبِهِ تَارَةً، وَمَنْ يُخَالِفُهُ أُخْرَى، وَلَوْ شَرَطَ الْإِمَامُ عَلَى الْحَاكِمِ أَوْ شَرَطَ الْحَاكِمُ عَلَى خَلِيفَتِهِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ بَطَلَ الشَّرْطُ، وَفِي فَسَادِ الْعَقْدِ وَجْهَانِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا إذَا أَمْكَنَ الْقُضَاةَ أَنْ يَحْكُمُوا بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الشَّرْطِ [فَعَلُوا] . فَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ فِي الْخُرُوجِ عَنْ ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ جَهْلًا وَظُلْمًا أَعْظَمَ مِمَّا فِي التَّقْدِيرِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابُ دَفْعِ أَعْظَمِ الْفَسَادَيْنِ بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا؛ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُسَوِّغُ لِوَاقِفٍ أَنْ لَا يَجْعَلَ النَّظَرَ فِي الْوَقْفِ إلَّا لِذِي مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ دَائِمًا، مَعَ إمْكَانٍ؛ إلَّا أَنْ يَتَوَلَّى فِي ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، فَكَيْف إذَا لَمْ يَشْرِطْ ذَلِكَ. وَلِهَذَا كَانَ فِي بَعْضِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ يَشْرِطُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ لَا يَحْكُمَ إلَّا بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ، كَمَا صَارَ أَيْضًا فِي بَعْضِهَا بِوِلَايَةِ قُضَاةٍ مُسْتَقِلِّينَ، ثُمَّ عُمُومُ النَّظَرِ فِي عُمُومِ الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ فِي كُلٍّ مِنْ هَذَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ، وَفِيمَنْ يُعَيَّنُ إذَا تَنَازَعَ الْخَصْمَانِ: هَلْ يُعَيَّنُ الْأَقْرَبُ؟ أَوْ بِالْقُرْعَةِ؟ فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي فِيهَا اجْتِهَادٌ إذَا فَعَلَهَا وَلِيُّ الْأَمْرِ نَفَذَتْ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْحَاكِمُ عَلَى أَيِّ مَذْهَبٍ كَانَ إذَا كَانَتْ وِلَايَتُهُ تَتَنَاوَلُ النَّظَرَ فِي

مسألة في الناظر متى يستحق معلومه من حين فوض إليه

هَذَا الْوَقْفِ كَانَ تَفْوِيضُهُ سَائِغًا وَلَمْ يَجُزْ لِحَاكِمٍ آخَرَ نَقْضُ مِثْلِ هَذَا، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ فِي التَّفْوِيضِ إلَيْهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي الْمَالِ وَمُسْتَحِقِّهِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ. وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ حَاكِمَيْنِ وَلَّى أَحَدُهُمَا شَخْصًا، وَوَلَّى آخَرُ شَخْصًا؛ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُقَدِّمَ أَحَقَّهُمَا بِالْوِلَايَةِ؛ فَإِنَّ مَنْ عُرِفَتْ قُوَّتُهُ وَأَمَانَتُهُ يُقَدَّمُ عَلَى مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. [مَسْأَلَةٌ فِي النَّاظِرِ مَتَى يَسْتَحِقُّ مَعْلُومَهُ مِنْ حِينَ فُوِّضَ إلَيْهِ] 873 - 32 مَسْأَلَةٌ: فِي النَّاظِرِ مَتَى يَسْتَحِقُّ مَعْلُومَهُ: مِنْ حِينَ فُوِّضَ إلَيْهِ؟ أَوْ مِنْ حِينَ مَكَّنَهُ السُّلْطَانُ؟ أَوْ مِنْ حِينِ الْمُبَاشَرَةِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. الْمَالُ الْمَشْرُوطُ لِلنَّاظِرِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ، فَمَنْ عَمِلَ مَا عَلَيْهِ يَسْتَحِقُّ مَالَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضَ وَقْفٍ مِنْ النَّاظِرِ عَلَى الْوَقْفِ] 874 - 33 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضَ وَقْفٍ مِنْ النَّاظِرِ عَلَى الْوَقْفِ النَّظَرَ الشَّرْعِيَّ ثَلَاثِينَ سَنَةً بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَأَثْبَتَ الْإِجَارَةَ عِنْدَ حَاكِمٍ مِنْ الْحُكَّامِ، وَأَنْشَأَ عِمَارَةً، وَغَرَسَ فِي الْمَكَانِ مُدَّةَ أَرْبَعِ سِنِينَ، ثُمَّ سَافَرَ وَالْمَكَانُ فِي إجَارَتِهِ، وَغَابَ إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمَّا حَضَرَ وَجَدَ بَعْضَ النَّاسَ قَدْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَادَّعَى أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا، وَذَلِكَ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ. فَهَلْ لَهُ نَزْعُ هَذَا الثَّانِي وَطَلَبُهُ بِتَفَاوُتِ الْأُجْرَةِ؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ الثَّانِي قَدْ اسْتَأْجَرَ الْمَكَانَ مِنْ غَيْرِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَارِ وَاسْتَأْجَرَهُ مَعَ بَقَاءِ إجَارَةٍ صَحِيحَةٍ عَلَيْهِ: فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ، وَيَدُهُ يَدٌ عَادِيَةٌ مُسْتَحِقَّةٌ لِلرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ. وَإِذَا كَانَ الثَّانِي اسْتَأْجَرَهَا وَتَسَلَّمَهَا وَهِيَ فِي إجَارَةِ الْأَوَّلِ. فَالْأَوَّلُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ وَتَسْقُطَ عَنْهُ الْإِجَارَةُ مِنْ حِينِ الْفَسْخِ، وَيُطَالِبَ أَهْلَ الْمَكَانِ بِالْإِجَارَةِ لِهَذَا الثَّانِي الْمُتَوَلِّي عَلَيْهِ؛ يَطْلُبُونَ مِنْهُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ إنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً؛ وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً طَالَبُوهُ بِالْفَسْخِ وَبُيِّنَ إمْضَاءُ الْإِجَارَةِ؛ وَيُعْطَى أَهْلُ الْمَكَانِ أُجْرَتَهُمْ؛ وَيُطَالَبُ الْغَاصِبُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ حِينِ اسْتِيلَائِهِ عَلَى مَا اسْتَأْجَرَهُ.

مسألة قوم وقف عليهم حصة من حوانيت وبعضهم وقف على جهة أخرى

[مَسْأَلَةٌ قَوْمٍ وُقِفَ عَلَيْهِمْ حِصَّةٌ مِنْ حَوَانِيتَ وَبَعْضُهُمْ وَقَفَ عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى] 875 - 34 مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْمٍ وُقِفَ عَلَيْهِمْ حِصَّةٌ مِنْ حَوَانِيتَ؛ وَبَعْضُهُمْ وَقَفَ عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى، وَكَانَتْ مِلْكًا لِغَيْرِهِمْ، وَشَرَطَ الْوَاقِفُ الْمَذْكُورُ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ لِلْأَسَنِّ، فَإِذَا اسْتَوَوْا فِي ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي النَّظَرِ. فَتَدَاعَى الْوَقْفُ الْمَذْكُورُ إلَى الْخَرَابِ، فَأَجَّرُوهُ لِمَالِكِي بَاقِي الْحِصَّةِ مُدَّةَ ثَلَاثِينَ سَنَةً بِأُجْرَةٍ حَالَّةٍ وَأُجْرَةٍ مُؤَجَّلَةٍ؛ وَعَيَّنُوا شُهُودَ الْإِجَارَةِ جَمِيعَ مَا فِي الْحَوَانِيتِ الْمَذْكُورَةِ: مِنْ خَشَبٍ، وَقَصَبٍ، وَجَرِيدٍ، وَجُدُرٍ، وَطُولَهَا، وَعَرْضَهَا؛ وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَذَكَرَ شُهُودَ الْإِجَارَةِ فِيهَا: اعْتَرَفَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ - الْآخَرَانِ الْمَذْكُورَانِ - بِقَبْضِ الْأُجْرَةِ الْحَالَّةِ بِتَمَامِهَا؛ وَمَنْ فِي دَرَجَتِهَا. وَمَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ. وَانْتَقَلَ مَا كَانَ مِلْكًا لَهُ مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَانْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ، وَانْتَقَلَ الْوَقْفُ الْمَذْكُورُ إلَى الْبَطْنِ الثَّانِي، فَهَلْ لِلْبَطْنِ الثَّانِي أَنْ يَتَسَلَّمُوا الْحَوَانِيتَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ الْآنَ، وَقَدْ اعْتَرَفَ الْآخَرَانِ بِقَبْضِ الْأُجْرَةِ الْحَالَّةِ لِيَصْرِفَاهَا فِي عِمَارَةِ الْوَقْفِ وَإِعَادَتِهِ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، أَوْ يَلْزَمُهُمْ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّ الْآخَرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَمَّا قَبَضَا الْأُجْرَةَ صَرَفَاهَا فِي الْعِمَارَةِ، أَوْ الْمُسْتَأْجِرِينَ، أَوْ مَنْ انْتَقَلَ إلَيْهِمْ مَا كَانَ مِلْكًا لِلْمُسْتَأْجِرِ الْمَنْعُ مِنْ تَسْلِيمِ الْحِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ الْحَوَانِيتِ إلَّا عَلَى صُورَتِهَا الْأُولَى وَالْحَالَةُ هَذِهِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. بَلْ مَا كَانَ فِي الْعَرْصَةِ الْمُشْتَرَكَةِ مِنْ الْبِنَاءِ بِيَدِ أَهْلِ الْعَرْصَةِ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الِاشْتِرَاكِ أَيْضًا، حَتَّى يُقِيمَ أَحَدُهُمْ حُجَّةً شَرْعِيَّةً بِاخْتِصَاصِهِ بِالْبِنَاءِ، وَلَا يُقْبَلُ مُجَرَّدُ دَعْوَى أَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي الْعَرْصَةِ الِاخْتِصَاصَ بِالْبِنَاءِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْعَرْصَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ وَقْفٍ وَطَلْقٍ، أَوْ بَيْنَ طَلْقَيْنِ، أَوْ وَقْفَيْنِ. وَيَدُ الْمُسْتَأْجِرِ إنَّمَا هِيَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ، وَلَيْسَ بِمُجَرَّدِ الْإِجَارَةِ تَثْبُتُ دَعْوَى اسْتِحْقَاقِ الْبِنَاءِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بِذَلِكَ حُجَّةً. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ أَقَرَّ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ أَنَّ جَمِيعَ الْحَانُوتِ وَالْأَعْيَانِ الَّتِي بِهَا وَقْفٌ عَلَى وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْقُرُبَاتِ] 876 - 35 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أَقَرَّ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ أَنَّ جَمِيعَ الْحَانُوتِ وَالْأَعْيَانِ الَّتِي بِهَا وَقْفٌ عَلَى وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْقُرُبَاتِ. وَتُصْرَفُ الْأُجْرَةُ وَالثَّوَابُ مِنْ مُدَّةٍ تَتَقَدَّمُ عَلَى إقْرَارِهِ هَذَا بِعِشْرِينَ سَنَةً. فَفَعَلَ بِمُقْتَضَى شَرْطِ إقْرَارِهِ. وَعَيَّنَ النَّاظِرَ الْإِمَامُ بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ عَيَّنَ نَاظِرًا آخَرَ مِنْ غَيْرِ عَزْلِ الْإِمَامِ النَّاظِرَ الْأَوَّلَ، فَصَرَفَ أَحَدُ النَّاظِرِينَ عَلَى ثُبُوتِ الْوَقْفِ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِصَرْفِهِ عَلَى ثُبُوتِ مِثْلِهِ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصْرَفَ إلَى

مسألة صورة كتاب وقف

مُسْتَحَقِّي الرِّيعِ شَيْئًا. فَهَلْ تَجِبُ الْأُجْرَةُ مِنْ الرِّيعِ؟ أَمْ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْمُقِرِّ بِالْوَقْفِ الْمَذْكُورِ؟ وَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَارُ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ بِسَبَبِ اشْتِغَالِهَا بِمَالِ الْوَرَثَةِ فَهَلْ تَجِبُ الْأُجْرَةُ عَلَى الْوَرَثَةِ تِلْكَ الْمُدَّةَ؟ وَهَلْ تَفُوتُ الْأُجْرَةُ السَّابِقَةُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ بِمُقْتَضَى إقْرَارِهِ بِالْمُدَّةِ الْأُولَى وَيَرْجِعُ بِهَا فِي تَرِكَتِهِ؟ وَهَلْ إذَا عَيَّنَ نَاظِرًا ثُمَّ عَيَّنَ نَاظِرًا آخَرَ يَكُونُ عَزْلًا لِلْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِعَزْلِهِ.؟ أَمْ يَشْتَرِكَانِ فِي النَّظَرِ؟ وَهَلْ إذَا عَلِمَ الشُّهُودُ ثُبُوتَ الْمَالِ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ يَحِلُّ كَتْمُهُ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: لَيْسَتْ أُجْرَةُ إثْبَاتِ الْوَقْفِ وَالسَّعْيَ فِي مَصَالِحِهِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، فَإِنَّ مَا زَادَ عَلَى الْمُقَرِّ بِهِ كُلُّهُ مُسْتَحَقٌّ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ رَفْعُ أَيْدِيهمْ عَنْ ذَلِكَ وَتَمْكِينُ النَّاظِرِ مِنْهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ السَّعْيُ وَلَا أُجْرَةُ ذَلِكَ وَأَمَّا الْعَيْنُ الْمُقَرُّ بِهَا إذَا انْتَفَعَ بِهَا الْوَرَثَةُ أَوْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهَا، بِحَيْثُ يُمْنَعُ الِانْتِفَاعُ الْمُسْتَحَقُّ بِهَا: فَعَلَيْهِمْ أُجْرَةُ الْمَنْفَعَةِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَقُولُ بِأَنَّ مَنَافِعَ الْغَصْبِ مَضْمُونَةٌ. وَالنِّزَاعُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَشْهُورٌ. وَإِقْرَارُ الْمَيِّتِ بِأَنَّهَا وَقْفٌ مِنْ الْمُدَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي أَنَّهُ كَانَ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهَا بِطَرِيقِ الْغَصْبِ، وَالضَّمَانُ لَا يَجِبُ بِالِاحْتِمَالِ. وَأَمَّا تَعْيِينُ نَاظِرٍ بَعْدَ آخَرَ فَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى عُرْفِ مِثْلِ هَذَا الْوَقْفِ وَعَادَةِ أَمْثَالِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا فِي الْعَادَةِ رُجُوعًا كَانَ رُجُوعًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي لَفْظِهِ مَا يَقْتَضِي انْفِرَادَ الثَّانِي بِالتَّصَرُّفِ، وَإِلَّا فَقَدْ عَرَفْت الْمَسْأَلَةَ، وَهِيَ مَا إذَا وَصَّى بِالْعَيْنِ لِشَخْصٍ، ثُمَّ وَصَّى بِهَا لِآخَرَ: هَلْ يَكُونُ رُجُوعًا أَمْ لَا؟ وَمَا عَلِمَهُ الشُّهُودُ مِنْ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ يَصِلُ الْحَقُّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يَكْتُمُوهَا، وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ وَلَا يَصِلُ إلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُعَيِّنُوا وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ بِتَأْوِيلٍ وَاجْتِهَادٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ أَيْضًا نَزْعُهُ مِنْ يَدِهِ، بَلْ الْمُتَأَوِّلُ الْمُجْتَهِدُ عَلَى مَنْ لَا تَأْوِيلَ لَهُ وَلَا اجْتِهَادَ. [مَسْأَلَةٌ صُورَةِ كِتَابِ وَقْفٍ] 877 - 36 مَسْأَلَةٌ: فِي صُورَةِ كِتَابِ وَقْفٍ نَصُّهُ: هَذَا مَا وَقَفَهُ عَامِرُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ عَامِرٍ عَلَى أَوْلَادِهِ: عَلِيٍّ، وَطَرِيفَةَ؛ وَزُبَيْدَةَ. بَيْنَهُمْ عَلَى الْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ؛ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ. ثُمَّ عَلَى

نَسْلِهِمْ وَعَقِبِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ وَإِنْ سَفَلُوا؛ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ، عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ الْمَذْكُورِينَ؛ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ، وَنَسْلِهِمْ وَعَقِبِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ: عَنْ وَلَدٍ؛ أَوْ وَلَدِ وَلَدٍ؛ وَنَسْلٍ: أَوْ عَقِبٍ وَإِنْ سَفَلَ: كَانَ مَا كَانَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ؛ رَاجِعًا إلَى وَلَدِهِ؛ وَوَلَدِ وَلَدِهِ؛ وَنَسْلِهِ؛ وَعَقِبِهِ مِنْ بَعْدِهِ؛ وَإِنْ سَفَلَ. كُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ - وَإِنْ بَعُدَ - كَانَ مَا كَانَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ رَاجِعًا إلَى مَنْ هُوَ فِي طَبَقَتِهِ وَأَهْلِ دَرَجَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ، عَلَى الْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ ثُمَّ عَلَى جِهَاتٍ ذَكَرَهَا فِي كِتَاب الْوَقْفِ - وَالْمَسْئُولُ مِنْ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَتَأَمَّلُوا شَرْطَ الْوَاقِفِ الْمَذْكُورِ - ثُمَّ تُوُفِّيَ عَنْ بِنْتَيْنِ فَتَنَاوَلْنَا مَا انْتَقَلَ إلَيْهِمَا عَنْهُ؛ ثُمَّ تُوُفِّيَتْ إحْدَاهُمَا عَنْ ابْنٍ وَابْنَةِ ابْنٍ. فَهَلْ يَشْتَرِكَانِ فِي نَصِيبِهَا؟ أَمْ يَخْتَصُّ بِهِ الِابْنُ دُونُ ابْنَةِ الِابْنِ؟ ثُمَّ إنَّ الِابْنَ الْمَذْكُورَ تُوُفِّيَ عَنْ ابْنٍ: هَلْ يَخْتَصُّ بِمَا كَانَ جَارِيًا عَلَى أَبِيهِ دُونَ ابْنَةِ الِابْنِ؟ وَهَلْ يَقْتَضِي شَرْطُ الْوَاقِفِ الْمَذْكُورُ تَرْتِيبَ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ؟ أَوْ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ. الْجَوَابُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَعْرُوفَانِ لِلْفُقَهَاءِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ؛ وَلَكِنَّ الْأَقْوَى أَنَّهَا لِتَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ، وَأَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ يَقُومُ مَقَامَ أَبِيهِ لَوْ كَانَ الِابْنُ مَوْجُودًا مُسْتَحِقًّا قَدْ عَاشَ بَعْدَ مَوْتِ الْجَدِّ وَاسْتَحَقَّ، أَوْ عَاشَ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ لِمَانِعٍ فِيهِ، أَوْ لِعَدَمِ قَبُولِهِ لِلْوَقْفِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَعِشْ، بَلْ مَاتَ فِي حَيَاةِ الْجَدِّ. وَيَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ؛ وَهِيَ تَقْتَضِي تَوْزِيعَ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] . أَيْ لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ مَا تَرَكَتْ زَوْجَتُهُ؛ وَقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] أَيْ: حُرِّمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أُمُّهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. كَذَلِكَ قَوْلُهُ: عَلَى أَوْلَادِهِمْ؛ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ أَيْ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ. وَأَمَّا فِي هَذِهِ فَقَدْ صَرَّحَ الْوَاقِفُ بِأَنَّهُ مَنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ انْتَقَلَ نَصِيبِهِ إلَى وَلَدِهِ؛ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لِتَرْتِيبِ الْأَفْرَاد عَلَى الْأَفْرَادِ؛ فَلَمْ يَبْقَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ.

وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ فِي أَنَّ الْوَلَدَ إذَا مَاتَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ وَلَهُ وَلَدٌ؛ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ عَنْ وَلَدٍ آخَرَ، وَعَنْ وَلَدِ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ: هَلْ يَشْتَرِكَانِ؟ أَوْ يَنْفَرِدُ بِهِ الْأَوَّلُ؟ الْأَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُرَاد أَنَّ كُلَّ وَلَدٍ مُسْتَحِقٌّ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ - سَوَاءٌ كَانَ عَمُّهُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا - فَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ إذًا يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَمُ اسْتِحْقَاقِ الْأَبِ كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي تَرْتِيبِ الْعَصَبَةِ: أَنَّهُمْ الِابْنُ، ثُمَّ ابْنُهُ، ثُمَّ الْأَبُ، ثُمَّ أَبُوهُ؛ ثُمَّ الْعَمُّ، ثُمَّ بَنُو الْعَمِّ؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ إلَّا عَدَمُ اسْتِحْقَاقِ الْأُولَى. فَمَتَى كَانَتْ الثَّانِيَةُ مَوْجُودَةً وَالْأُولَى لَا اسْتِحْقَاقَ لَهَا اُسْتُحِقَّتْ الثَّانِيَةُ؛ سَوَاءٌ كَانَتْ الْأُولَى اُسْتُحِقَّتْ أَوْ لَمْ تُسْتَحَقَّ؛ وَلَا يُشْتَرَطُ لِاسْتِحْقَاقِ الثَّانِيَةِ اسْتِحْقَاقُ الْأُولَى، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَةَ تَتَلَقَّى الْوَقْفَ مِنْ الْوَاقِفِ، لَا مِنْ الثَّانِيَةِ، فَلَيْسَ هُوَ كَالْمِيرَاثِ الَّذِي يَرِثُهُ الِابْنُ؛ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى ابْنِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَالْوَلَاءِ الَّذِي يُورَثُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ ابْنُ الْمُعْتِقِ قَدْ مَاتَ فِي حَيَاةِ الْمُعْتَقِ؛ وَرِثَ الْوَلَاءَ ابْنُ ابْنِهِ. وَإِنَّمَا يَغْلَطُ مَنْ يَغْلَطُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حِينَ يَظُنُّ أَنَّ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَةَ تَتَلَقَّى مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا؛ فَإِنْ لَمْ تَسْتَحِقَّ الْأُولَى شَيْئًا لَمْ تَسْتَحِقَّ الثَّانِيَةُ. ثُمَّ يَظُنُّونَ أَنَّ الْوَالِدَ إذَا مَاتَ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ يَسْتَحِقَّ ابْنُهُ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ هُمْ يَتَلَقَّوْنَ مِنْ الْوَاقِفِ؛ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْأُولَى مَحْجُوبَةً بِمَانِعٍ مِنْ الْمَوَانِعِ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ فِي الْمُسْتَحِقِّينَ أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ، أَوْ عُلَمَاءَ، أَوْ عُدُولًا؛ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَيَكُونُ الْأَبُ مُخَالِفًا لِلشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَابْنُهُ مُتَّصِفًا بِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الِابْنَ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ أَبُوهُ. كَذَلِكَ إذَا مَاتَ الْأَبُ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ ابْنُهُ. وَهَكَذَا جَمِيعُ التَّرْتِيبِ فِي الْحَضَانَةِ، وَوِلَايَةُ النِّكَاحِ وَالْمَالِ، وَتَرْتِيبُ عَصَبَةِ النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ فِي الْمِيرَاثِ وَسَائِرِ مَا جُعِلَ الْمُسْتَحِقُّونَ فِيهِ طَبَقَاتٍ وَدَرَجَاتٍ، فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ عَلَى مَا ذُكِرَ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْوَاقِفُونَ إذَا سَأَلُوا عَنْ مُرَادِهِمْ. وَمَنْ صَرَّحَ مِنْهُمْ بِمُرَادِهِ فَإِنَّهُ يُصَرِّحُ بِأَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ مَا يَنْتَقِلُ إلَى وَلَدِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا؛ لَا سِيَّمَا وَالنَّاسُ يَرْحَمُونَ مَنْ مَاتَ وَالِدُهُ وَلَمْ يَرِثْ؛ حَتَّى إنَّ الْجَدَّ قَدْ يُوصِي لِوَلَدِ وَلَدِهِ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ نِسْبَةَ هَذَا الْوَلَدِ وَنِسْبَةَ وَلَدِ ذَلِكَ الْوَلَدِ إلَى الْجَدِّ سَوَاءٌ. فَكَيْفَ يَحْرِمُ وَلَدَ وَلَدِهِ الْيَتِيمَ وَيُعْطِي وَلَدَ وَلَدِهِ الَّذِي لَيْسَ بِيَتِيمٍ؟ ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقْصِدُهُ عَاقِلٌ. وَمَتَى لَمْ نَقُلْ بِالتَّشْرِيكِ بَقِيَ الْوَقْفُ فِي هَذَا الْوَلَدِ وَوَلَدِهِ؛ دُونَ ذُرِّيَّةِ الْوَلَدِ الَّذِي مَاتَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة وقف على رجل ثم على أولاده فاقتسمه الفلاحون

[مَسْأَلَةٌ وَقْفٍ عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ فَاقْتَسَمَهُ الْفَلَّاحُونَ] 878 - 37 مَسْأَلَةٌ: فِي وَقْفٍ عَلَى رَجُلٍ؛ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ فَاقْتَسَمَهُ الْفَلَّاحُونَ، ثُمَّ تَنَاقَلَ بَعْضُهُمْ حِصَّتَهُ إلَى جَانِبِ حِصَّةِ شَرِيكِهِ فَهَلْ تَنْفَسِخُ الْقِسْمَةُ وَالْمُنَاقَلَةُ؟ الْجَوَابُ: لَا تَصِحُّ قِسْمَةُ رَقَبَةِ الْوَقْفِ الْمَوْقُوفِ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لَكِنْ تَصِحُّ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ، وَهِيَ " الْمُهَايَأَةُ ". وَإِذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً؛ لَا سِيَّمَا إذَا تَغَيَّرَ الْمَوْقُوفُ فَتَجُوزُ بِغَيْرِ هَذِهِ الْمُهَايَأَةِ. [مَسْأَلَةٌ اتِّخَاذ الْبِيعَةِ مَسْجِدًا] 879 - 38 مَسْأَلَةٌ: فِي بِيعَةٍ بِقَرْيَةٍ، وَلَهَا وَقْفٌ، وَانْقَرَضَ النَّصَارَى بِتِلْكَ الْقَرْيَةِ، وَأَسْلَمَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذُ مَسْجِدًا؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ، إذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا تِلْكَ أَحَدٌ جَازَ أَنْ يَتَّخِذَ مَسْجِدًا؛ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ بِبَرِّ الشَّامِ، فَإِنَّهُ فُتِحَ عَنْوَةً. [مَسْأَلَةٌ مَسْجِدٍ مُجَاوِرِ كَنِيسَةٍ مُغْلَقَةٍ خَرَابٍ سَقَطَ بَعْضُ جُدْرَانِهَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ هَلْ تهدم] 880 - 39 مَسْأَلَةٌ: فِي مَسْجِدٍ مُجَاوِرِ كَنِيسَةٍ مُغْلَقَةٍ خَرَابٍ، سَقَطَ بَعْضُ جُدْرَانِهَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَعَلَى رِحَابِهِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ مِنْهَا، وَزَالَ بَعْضُ الْجِدَارِ الَّذِي انْهَدَمَ، وَسَقَطَ عَلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ، وَيُخَافُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَقْعِهَا، وَمَنْ يُصَلِّي بِالْمَسْجِدِ؟ وَإِذَا آلَتْ كُلُّهَا لِلْخَرَابِ هَلْ تُهْدَمُ؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ، إذَا خِيفَ تَضَرُّرُ الْمَسْجِدِ وَإِيذَاءُ الْمُصَلِّينَ فِيهِ وَجَبَ إزَالَةُ مَا يُخَافُ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْمَسْجِدِ وَأَهْلِهِ. وَإِذَا لَمْ يَزُلْ إلَّا بِالْهَدْمِ هُدِمَتْ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «لَا قِبْلَتَانِ بِأَرْضٍ، وَلَا جِزْيَةَ عَلَى مُسْلِمٍ» وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ فِي أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَجَبَ أَنْ تُزَالَ، وَلَا تُتْرَكَ مُجَاوِرَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَسْجِدٍ لَيْسَ لَهُ وَقْفٌ وَبِجِوَارِهِ سَاحَةٌ هَلْ يَجُوزُ أَنْ تُعْمَلَ سَكَنًا لِلْإِمَامِ] 881 - 40 مَسْأَلَةٌ: فِي مَسْجِدٍ لَيْسَ لَهُ وَقْفٌ، وَبِجِوَارِهِ سَاحَةٌ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ تُعْمَلَ سَكَنًا لِلْإِمَامِ؟ أَفْتَوْنَا؟ الْجَوَابُ: يَجُوزُ ذَلِكَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؛ فَإِنَّ السَّاحَةَ لَيْسَتْ مِنْ الْمَسْجِدِ: كَمَا ذُكِرَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة فيمن هو في مسجد يأكل وقفه ولا يقوم بمصالحه

[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ هُوَ فِي مَسْجِدٍ يَأْكُلُ وَقْفَهُ وَلَا يَقُومُ بِمَصَالِحِهِ] 882 - 41 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ هُوَ فِي مَسْجِدٍ يَأْكُلُ وَقْفَهُ. وَلَا يَقُومُ بِمَصَالِحِهِ. وَلِلْوَاقِفِ أَوْلَادٌ مُحْتَاجُونَ: فَهَلْ لَهُمْ تَغْيِيرُهُ، وَإِقَامَةُ غَيْرِهِ، وَأَخْذُ الْفَائِضِ عَنْ مَصْلَحَةِ الْمَسْجِدِ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا لَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبِ فَإِنَّهُ يُغَيِّرُهُ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ لِمَنْ يَقُومُ بِالْوَاجِبِ إذَا لَمْ يَتُبْ الْأَوَّلُ وَيَلْتَزِمْ بِالْوَاجِبِ. وَأَمَّا الْفَاضِلُ عَنْ مَصْلَحَةِ الْمَسْجِدِ فَيَجُوزُ صَرْفُهُ فِي مَسَاجِدَ أُخَرَ. وَفِي الْمُسْتَحِقِّينَ لِلصَّدَقَةِ مِنْ أَقَارِبِ الْوَاقِفِ وَجِيرَانِ الْمَسْجِدِ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ مَسْكَنًا لِيَأْوِيَ فِيهِ أَهْلُ الْمَسْجِدِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِمَصَالِحِهِ] 883 - 42 مَسْأَلَةٌ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ مَسْكَنًا لِيَأْوِيَ فِيهِ أَهْلُ الْمَسْجِدِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِمَصَالِحِهِ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ. يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَبْنُوا خَارِجَ الْمَسْجِدِ مِنْ الْمَسَاكِنِ مَا كَانَ مَصْلَحَةً لِأَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ لِرِيعِ الْوَقْفِ الْقَائِمِينَ بِمَصْلَحَتِهِ. [مَسْأَلَةٌ مَسْجِدٍ أَعْلَاهُ طَبَقَةٌ وَهُوَ عَتِيقُ الْبِنَاءِ وَالطَّبَقَةَ لَمْ يَسْكُنْهَا أَحَدٌ فَهَلْ يَجُوزُ نَقْضُ الطَّبَقَةِ أَوْ يُغْلَقُ الْمَسْجِدُ] 884 - 43 مَسْأَلَةٌ: عَنْ مَسْجِدٍ أَعْلَاهُ طَبَقَةٌ، وَهُوَ عَتِيقُ الْبِنَاءِ، وَإِنَّ الطَّبَقَةَ لَمْ يَسْكُنْهَا أَحَدٌ وَلَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ لِكَوْنِهَا سَاقِطَةً، وَأَنَّهَا ضَرَرٌ عَلَى الْمَسْجِدِ لِثِقَلِهَا عَلَيْهِ تُخَرِّبُهُ، وَلَا لَهُ شَيْءٌ يُعَمَّرُ مِنْهُ: فَهَلْ يَجُوزُ نَقْضُ الطَّبَقَةِ الَّتِي أَعْلَاهُ، أَوْ يُغْلَقُ ذَلِكَ الْمَسْجِدُ؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَ نَقْضُ الطَّبَقَةِ مَصْلَحَةً لِلْمَسْجِدِ فَتُنْقَضُ، وَتُصْرَفُ الْأَنْقَاضُ فِي مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُشْتَرَى بِهَا مَا يُوقَفُ عَلَيْهِ أَوْ يُصْرَفُ فِي عِمَارَتِهِ أَوْ عِمَارَةِ وَقْفِهِ: فَعَلَ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مَوْقُوفَةً وَبَنَى عَلَيْهَا] 885 - 44 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مَوْقُوفَةً، وَبَنَى عَلَيْهَا مَا أَرَادَ؛ ثُمَّ أَوْقَفَ ذَلِكَ الْبِنَاءَ وَشَرَطَ أَنْ يُعْطَى الْأُجْرَةَ الْمَوْقُوفَةَ مِنْ رِيعٍ وَقَفَهُ عَلَيْهَا، وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ عَلَى الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْوَقْفِ. فَهَلْ يَجُوزُ نَقْضُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَإِذَا أَرَادَ الْوَاقِفُ نَقْضَ الْوَقْفِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لِيُدْخِلَ فِيهِ عَدَدًا آخَرَ بِوَقْفٍ ثَانٍ: هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ لَمْ يَجُزْ فِيهِ تَغْيِيرُهُ وَلَا تَبْدِيلُ شُرُوطِهِ.

مسألة للناظر أن يغير صورة الوقف من صورة إلى صورة أصلح منها

[مَسْأَلَةٌ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُغَيِّرَ صُورَةَ الْوَقْفِ مِنْ صُورَةٍ إلَى صُورَةٍ أَصْلَحَ مِنْهَا] 886 - 45 مَسْأَلَةٌ: فِي وَقْفٍ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَفِيهِ أَشْجَارُ زَيْتُونٍ وَغَيْرِهِ يَحْمِلُ بَعْضَ السِّنِينَ بِثَمَرٍ قَلِيلٍ؛ فَإِذَا قُطِعَتْ وَبِيعَتْ يُشْتَرَى بِثَمَنِهَا مِلْكٌ يَغُلُّ بِأَكْثَرَ مِنْهَا: فَهَلْ لِلنَّاظِرِ ذَلِكَ؟ وَهَلْ إذَا طَالَبَهُ بَعْضُ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْوَقْفِ يَقْطَعُ الشَّجَرَ وَيَبِيعُهُ وَيُقَسِّمُ مِنْهُ عَلَيْهِمْ فَهَلْ لَهُمْ ذَلِكَ؟ أَمْ شِرَاءُ الْمِلْكِ؟ وَإِذَا تَوَلَّى شَخْصٌ فَوَجَدَ مَنْ تَقَدَّمَهُ غَيْرُ شَرْطِ الْوَاقِفِ، فَجَهِدَ فِي عَمَلِ شَرْطِ الْوَاقِفِ: فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ الْجَامِكِيَّةِ؛ بِكَوْنِهِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ، وَهَذَا النَّاظِرُ فَقِيرٌ لَا مَالَ لَهُ: فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ نِسْبَةِ الْفُقَرَاءِ، وَيَكُونُ نَظَرُهُ تَبَرُّعًا بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَعَمْ يَجُوزُ بَيْعُ تِلْكَ الْأَشْجَارِ، وَأَنْ يُشْتَرَى بِهَا مَا يَكُونُ مُغَلُّهُ أَكْثَرَ؛ فَإِنَّ الشَّجَرَ كَالْبِنَاءِ، وَلِلنَّاظِرِ أَنْ يُغَيِّرَ صُورَةَ الْوَقْفِ مِنْ صُورَةٍ إلَى صُورَةٍ أَصْلَحَ مِنْهَا، كَمَا غَيَّرَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ صُورَةَ الْمَسْجِدَيْنِ اللَّذَيْنِ بِالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَكَمَا نَقَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَسْجِدَ الْكُوفَةَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَلَا يُقْسَمُ ثَمَنُ الشَّجَرِ بَيْنَ الْمَوْجُودِينَ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَ كَالْبِنَاءِ لَا يَخْتَصُّ بِثَمَنِهِ الْمَوْجُودُونَ، وَلَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ وَالْمَنَافِعِ الَّتِي يَخْتَصُّ كُلُّ أَهْلِ طَبَقَةٍ بِمَا يُؤْخَذُ فِي زَمَنِهَا مِنْهَا. وَأَمَّا النَّاظِرُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ الْوَاجِبِ، وَيَأْخُذَ لِذَلِكَ الْعَمَلِ مَا يُقَابِلُهُ، فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ عَشْرَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ الْعِوَضِ الْمُسْتَحَقِّ أَخَذَهُ؛ وَإِنْ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْجَمِيعَ عَلَى مَا يَعْمَلُهُ أَخَذَ الْجَمِيعَ. وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى فَقْرِهِ مَا يَأْخُذُهُ الْفَقِيرُ عَلَى فَقْرِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تَغْيِيرِ صُورَةِ الْوَقْفِ] 887 - 46 مَسْأَلَةٌ: فِي تَغْيِيرِ صُورَةِ الْوَقْفِ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا مَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ حُدُودِ الْوَقْفِ إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِلَى حُقُوقِ الْجِيرَانِ: فَيَجِبُ إزَالَتُهُ بِلَا رَيْبٍ. وَأَمَّا مَا خَرَجَ إلَى الطَّرِيقِ النَّافِذِ فَلَا بُدَّ مِنْ إزَالَتِهِ وَأَمَّا إنْ كَانَ خَرَجَ إلَى مِلْكِ الْغَيْرِ فَإِنْ أَذِنَ فِيهِ وَإِلَّا أُزِيلَ. وَأَمَّا تَغْيِيرُ صُورَةِ الْبِنَاءِ مِنْ غَيْرِ عُدْوَانٍ فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إلَى الْمَصْلَحَةِ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ أَصْلَحَ لِلْوَقْفِ وَأَهْلِهِ أُقِرَّتْ. وَإِنْ كَانَ إعَادَتُهَا إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ أَصْلَحَ

مسألة امرأة أوقفت وقفا على تربتها بعد موتها

أُعِيدَتْ. وَإِنْ كَانَ بِنَاءُ ذَلِكَ عَلَى صُورَةٍ ثَالِثَةٍ أَصْلَحَ لِلْوَقْفِ بُنِيَتْ. فَيُتْبَعُ فِي صُورَةِ الْبِنَاءِ مَصْلَحَةُ الْوَقْفِ، وَيُدَارُ مَعَ الْمَصْلَحَةِ حَيْثُ كَانَتْ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ - كَعُمَرَ وَعُثْمَانَ - أَنَّهُمَا قَدْ غَيَّرَا صُورَةَ الْوَقْفِ لِلْمَصْلَحَةِ بَلْ فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ حَيْثُ حَوَّلَ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ الْقَدِيمَ فَصَارَ سُوقَ التَّمَّارِينَ، وَبَنَى لَهُمْ مَسْجِدًا فِي مَكَان آخَرَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ امْرَأَةٍ أَوْقَفَتْ وَقْفًا عَلَى تُرْبَتِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا] 888 - 47 مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ أَوْقَفَتْ وَقْفًا عَلَى تُرْبَتِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا، وَأَرْصَدَتْ لِلْمُقْرِئِينَ شَيْئًا مَعْلُومًا، وَمَا يَفْضُلُ عَنْ ذَلِكَ لِلْفُقَرَاءِ، أَوْ وُجُوهِ الْبِرِّ، وَإِنَّ لَهَا قَرَابَةً: خَالُهَا قَدْ افْتَقَرَ وَاحْتَاجَ؛ وَانْقَطَعَ عَنْ الْخَدَمِ، وَإِنَّ النَّاظِرَ لَمْ يَصْرِفْ لَهُ مَا يَقُومُ بِأَوَدِهِ. فَهَلْ يَجِبُ إلْزَامُ النَّاظِرِ بِمَا يَقُومُ بِأَوَدِ الْقَرَابَةِ وَدَفْعُ حَاجَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَ لِلْمُوقِفَةِ قَرَابَةٌ مُحْتَاجٌ كَالْخَالِ وَنَحْوِهِ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ الْفَقِيرِ الْمُسَاوِي لَهُ فِي الْحَاجَةِ، وَيَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ. وَإِذَا اتَّسَعَ الْوَقْفُ لِسَدِّ حَاجَتِهِ سُدَّتْ حَاجَتُهُ مِنْهُ. [مَسْأَلَةٌ فِي أَوْقَافٍ بِبَلَدٍ عَلَى أَمَاكِنَ مُخْتَلِفَةٍ] 889 - 48 مَسْأَلَةٌ: فِي أَوْقَافٍ بِبَلَدٍ عَلَى أَمَاكِنِ مُخْتَلِفَةٍ: مِنْ مَدَارِسَ؛ وَمَسَاجِدَ، وَخَوَانِكَ؛ وَجَوَامِعَ؛ وَمَارَسْتَانَاتٍ؛ وَرُبُطٍ؛ وَصَدَقَاتٍ، وَفِكَاكِ أَسْرَى مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ، وَبَعْضُهَا لَهُ نَاظِرٌ خَاصٌّ، وَبَعْضُهَا لَهُ نَاظِرٌ مِنْ جِهَةِ وَلِيِّ الْأَمْرِ، وَقَدْ أَقَامَ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَى كُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ دِيوَانًا يَحْفَظُونَ أَوْقَافَهُ وَيَصْرِفُونَ رِيعَهُ فِي مَصَارِفِهِ، وَرَأَى النَّاظِرُ أَنْ يُفْرِزَ لِهَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ مُسْتَوْفِيًا يَسْتَوْفِي حِسَابَ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ - يَعْنِي الْأَوْقَافَ كُلَّهَا - وَيَنْظُرُ فِي تَصَرُّفَاتِ النُّظَّارِ وَالْمُبَاشِرِينَ؛ وَيُحَقِّقُ عَلَيْهِمْ مَا يَجِبُ تَحْقِيقُهُ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمَصْرُوفَةِ وَالْبَاقِي؛ وَضَبَطَ ذَلِكَ عِنْدَهُ؛ لِيَحْفَظَ أَمْوَالَ الْأَوْقَافِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَيْدِي؛ وَتَغْيِيرِ الْمُبَاشِرِينَ، وَيَظْهَرُ بِمُبَاشَرَتِهِ مُحَافَظَةُ بَعْضِ الْعُمَّالِ عَلَى فَائِدَةٍ. فَهَلْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إذَا رَأَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ أَمْ لَا؟ وَإِذَا صَارَ الْآنَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا رَأَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ، وَقَرَّرَ الْمَذْكُورُ، وَقَرَّرَ لَهُ مَعْلُومًا يَسِيرُ عَلَى كُلٍّ مَنْ هَذِهِ لَا يَصِلُ إلَى رِيعٍ مَعْلُومٍ أَحَدُ الْمُبَاشِرِينَ لَهَا، وَدُونَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ

لِمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ. فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ سَائِغًا؟ وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْمُسْتَوْفِي الْمَذْكُورُ تَنَاوُلَ مَا قُرِّرَ لَهُ أَمْ لَا، إذَا قَامَ بِوَظِيفَتِهِ؟ وَإِذَا كَانَتْ وَظِيفَتُهُ اسْتِرْجَاعَ الْحِسَابِ عَنْ كُلِّ سَنَةٍ عَلَى حُكْمِ أَوْضَاعِ الْكِتَابِ؛ وَوَجَدَ ارْتِفَاعَ حِسَابِ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ، فَتَصَرَّفَ وَعَمِلَ فِيهِ وَظِيفَتَهُ. هَلْ يَسْتَحِقُّ مَعْلُومَ الْمُدَّةِ الَّتِي اسْتَرْجَعَ حِسَابَهُمْ فِيهَا وَقَامَ بِوَظِيفَتِهِ بِذَلِكَ الْحِسَابِ؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ، لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَنْصِبَ دِيوَانًا مُسْتَوْفِيًا لِحِسَابِ الْأَمْوَالِ الْمَوْقُوفَةِ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ، كَمَا لَهُ أَنْ يَنْصِبَ الدَّوَاوِينَ مُسْتَوْفِيًا لِحِسَابِ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ: كَالْفَيْءِ وَغَيْرِهِ. وَلَهُ أَنْ يَفْرِضَ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِثْلُهُ: مِنْ كُلِّ مَالٍ يَعْمَلُ فِيهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ الْمَالِ، وَاسْتِيفَاءِ الْحِسَابِ، وَضَبْطِ مَقْبُوضِ الْمَالِ، وَمَصْرُوفِهِ مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي لَهُ أَصْلٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] وَفِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا رَجَعَ حَاسَبَهُ» . وَهَذَا أَصْلٌ فِي مُحَاسَبَةِ الْعُمَّالِ الْمُتَفَرِّقِينَ. وَالْمُسْتَوْفِي الْجَامِعُ نَائِبُ الْإِمَامِ فِي مُحَاسَبَتِهِمْ، وَلَا بُدَّ عِنْدَ كَثْرَةِ الْأَمْوَالِ مُحَاسَبَتُهُمْ مِنْ دِيوَانٍ جَامِعٍ. وَلِهَذَا لَمَّا كَثُرَتْ الْأَمْوَالُ عَلَى عَهْد أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَضَعَ " الدَّوَاوِينَ " دِيوَانَ الْخَرَاجِ، وَهُوَ دِيوَانُ الْمُسْتَخْدَمِينَ عَلَى الِارْتِزَاقِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ. وَدِيوَانَ النَّفَقَاتِ، وَهُوَ دِيوَانُ الْمَصْرُوفِ عَلَى الْمُقَاتِلَةِ وَالذُّرِّيَّةِ الَّذِي يُشْبِهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ دِيوَانَ الْحَبْسِ وَالثُّبُوتَاتِ نَحْوَ ذَلِكَ. وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ. وَكَذَلِكَ الْأَمْوَالُ الْمَوْقُوفَةُ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ مِنْ الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ وَنَحْوِهِ إجْرَاؤُهَا عَلَى الشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ الْمُوَافِقَةِ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَإِقَامَةُ الْعُمَّالِ عَلَى مَا لَيْسَ عَلَيْهِ عَامِلٌ مِنْ جِهَةِ النَّاظِرِ. وَالْعَامِلُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ يَدْخُلُ فِيهِ الَّذِي يُسَمَّى نَاظِرًا، وَيَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُ النَّاظِرِ لِقَبْضِ الْمَالِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ صَرْفُهُ وَدَفْعُهُ إلَى مَنْ هُوَ لَهُ؛ لِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وَنَصْبُ الْمُسْتَوْفِي الْجَامِعِ لِلْعُمَّالِ الْمُتَفَرِّقِينَ

مسألة رجل استأجر قطع أرض وقف وغرس فيها غراسا وأثمر

بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ. وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إذَا لَمْ تَتِمَّ مَصْلَحَةُ قَبْضِ الْمَالِ وَصَرْفِهِ إلَّا بِهِ، فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَقَدْ يُسْتَغْنَى عَنْهُ عِنْدَ قِلَّةِ الْعَمَلِ وَمُبَاشَرَةِ الْإِمَامِ لِلْمُحَاسَبَةِ بِنَفْسِهِ، كَمَا فِي نَصْبِ الْإِمَامِ لِلْحَاكِمِ، عَلَيْهِ أَنْ يَنْصِبَ حَاكِمًا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، إذَا لَمْ تَصِلْ الْحُقُوقُ إلَى مُسْتَحِقِّهَا، أَوْ لَمْ يَتِمَّ فِعْلُ الْوَاجِبِ وَتَرْكُ الْمُحَرَّمِ إلَّا بِهِ. وَقَدْ يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْإِمَامُ إذَا أَمْكَنَهُ مُبَاشَرَةُ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ. وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَاشِرُ الْحُكْمَ وَاسْتِيفَاءَ الْحِسَابِ بِنَفْسِهِ، وَفِيمَا بَعُدَ عَنْهُ يُوَلِّي مَنْ يَقُومُ بِالْأَمْرِ، وَلَمَّا كَثُرَتْ الرَّعِيَّةُ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَالْخُلَفَاءِ اسْتَعْمَلُوا الْقُضَاةَ وَدَوَّنُوا الدَّوَاوِينَ فِي أَمْصَارِهِمْ وَغَيْرِهَا فَكَانَ عُمَرُ يَسْتَنِيبُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْقَضَاءِ وَالدِّيوَانِ. وَكَانَ بِالْكُوفَةِ قَدْ اسْتَعْمَلَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ عَلَى الصَّلَاةِ وَالْحَرْبِ، مِثْلُ: نَائِبِ السُّلْطَانِ، وَالْخَطِيبِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ كَانَتْ أَنَّهُ يُصَلِّي بِالنَّاسِ أَمِيرُ حَرْبِهِمْ. وَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَلَى الْقَضَاءِ وَبَيْتِ الْمَالِ، وَاسْتَعْمَلَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَى دُيُونِ الْخَرَاجِ. وَإِذَا قَامَ الْمُسْتَوْفِي بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ اسْتَحَقَّ مَا فُرِضَ لَهُ، وَالْجُعْلُ الَّذِي سَاغَ لَهُ فَرْضُهُ، وَإِذَا عَمِلَ هَذَا وَلَمْ يُعْطَ جُعْلَهُ فَلَهُ أَنْ يَطْلُبَ عَلَى الْعَمَلِ الْخَاصِّ فَإِنَّ مَا وَجَبَ بِطَرِيقِ الْمُعَامَلَةِ يَجِبُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قِطَعَ أَرْضِ وَقْفٍ وَغَرَسَ فِيهَا غِرَاسًا وَأَثْمَرَ] 890 - 49 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قِطَعَ أَرْضَ وَقْفٍ؛ وَغَرَسَ فِيهَا غِرَاسًا وَأَثْمَرَ؛ وَمَضَتْ مُدَّةٌ لِلْإِيجَارِ؛ فَأَرَادَ نُظَّارُ الْوَقْفِ قَلْعَ الْغِرَاسِ. فَهَلْ لَهُمْ ذَلِكَ؟ أَوْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ؟ وَهَلْ يُثَابُ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَى مُسَاعَدَتِهِ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ لِأَهْلِ الْأَرْضِ قَلْعُ الْغِرَاسِ؛ بَلْ لَهُمْ الْمُطَالَبَةُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ أَوْ تَمَلُّكُ الْغِرَاسِ بِقِيمَتِهِ؛ أَوْ ضَمَانُ نَقْصِهِ إذَا قُلِعَ. وَمَا دَامَ بَاقِيًا عَلَى صَاحِبِهِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ. وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ مَنْعُ الظَّالِمِ مِنْ ظُلْمِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ مُتَوَلِّي إمَامَةَ مَسْجِدٍ وَخَطَابَتَهُ وَنَظَرَ وَقْفِهِ] 891 - 50 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مُتَوَلِّي إمَامَةَ مَسْجِدٍ، وَخَطَابَتَهُ؛ وَنَظَرَ وَقْفِهِ: مِنْ سِنِينَ مَعْدُودَةٍ، بِمَرْسُومِ وَلِيِّ الْأَمْرِ، وَلَهُ مُسْتَحِقٌّ بِحُكْمِ وِلَايَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ فَهَلْ لِنُظَّارِ وَقْفٍ آخَرَ

مسألة واقف وقف على فقراء المسلمين فهل يجوز لناظر الوقف أن يصرف جميع ريعه إلى ثلاثة

أَنْ يَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَقْفِ؛ أَوْ يَتَصَرَّفُوا فِيهِ بِدُونِ هَذَا النَّاظِرِ؛ وَأَنْ يَصْرِفُوا مَالَ الْمَسْجِدِ الْمَذْكُورِ فِي غَيْرِ جِهَتِهِ؛ أَوْ يَمْنَعُوا مَا قُدِّرَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ هَذَا الْوَقْفَ كَانَ فِي دِيوَانِ أُولَئِكَ مِنْ مُدَّةٍ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ؛ وَجَعَلَهُ لِلْإِمَامِ الْخَطِيبُ: فَهَلْ لَهُمْ ذَلِكَ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِيهِ وَيَمْنَعُوهُ التَّصَرُّفَ مَعَ بَقَاءِ وِلَايَتِهِ؟ وَهَلْ إذَا تَصَرَّفَ فِيهِ مُتَعَدٍّ وَصَرَفَ مِنْهُ شَيْئًا إلَى غَيْرِهِ مَعَ حَاجَةِ الْإِمَامِ وَقِيَامِ الْمَصَالِحِ، وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - يَقْدَحُ فِي دِينِهِ وَعَدَالَتِهِ أَمْ لَا. الْجَوَابُ: لَيْسَ لِنَاظِرٍ غَيْرِ النَّاظِرِ الْمُتَوَلِّي هَذَا الْوَقْفَ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لَا نُظَّارُ وَقْفٍ آخَرَ وَلَا غَيْرُهُمْ؛ سَوَاءٌ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتَوَلِّينَ نَظَرَهُ أَوْ لَمْ يَكُونُوا مُتَوَلِّينَ نَظَرَهُ؛ وَلَا لَهُمْ أَنْ يَصْرِفُوا مَالَ الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ جِهَاتِهِ الَّتِي وُقِفَ عَلَيْهَا - وَالْحَالُ مَا ذُكِرَ - بَلْ يَجِبُ أَنْ يُعْطَى الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ كَامِلًا؛ وَلَا يَنْقُصُونَ مِنْ مُسْتَحِقِّهِمْ لِأَجْلِ أَنْ يَصْرِفُوا الْفَاضِلَ إلَى وَقْفٍ آخَرَ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ صَرْفِ الْفَاضِلِ، وَمَنْ جَوَّزَهُ فَلَمْ يُجَوِّزْ لِغَيْرِ النَّاظِرِ الْمُتَوَلِّي أَنْ يَسْتَقِلَّ بِذَلِكَ وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى صَرْفِ مَالٍ لِغَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ وَمَنَعَ الْمُسْتَحِقَّ قُدِحَ فِي دِينِهِ وَعَدَالَتِهِ. [مَسْأَلَةٌ وَاقِفٍ وَقَفَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَهَلْ يَجُوزُ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ أَنْ يَصْرِفَ جَمِيعَ رِيعِهِ إلَى ثَلَاثَةٍ] 892 - 51 مَسْأَلَةٌ: فِي وَاقِفٍ وَقَفَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ. فَهَلْ يَجُوزُ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ أَنْ يَصْرِفَ جَمِيعَ رِيعِهِ إلَى ثَلَاثَةٍ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - أَمْ لَا؛ وَإِنْ جَازَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ إلَى ثَلَاثَةٍ؛ وَكَانَ مِنْ أَقَارِبِ الْوَاقِفِ فَقِيرٌ - ثَبَتَ فَقْرُهُ وَاسْتِحْقَاقُهُ لِلصَّرْفِ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ - فَهَلْ يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِ عِوَضًا عَنْ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ الْأَجَانِبِ مِنْ الْوَاقِفِ؛ وَإِذَا جَازَ الصَّرْفُ إلَيْهِ: فَهَلْ هُوَ أَوْلَى مِنْ الْأَجْنَبِيَّيْنِ الْمَصْرُوفِ إلَيْهِمَا؟ وَإِذَا كَانَ أَوْلَى: فَهَلْ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَصْرِفَ إلَى قَرِيبِ الْوَاقِفِ الْمَذْكُورِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ مِنْ الْوَقْفِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - وَإِذَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ: فَهَلْ يَكُونُ فِعْلُهُ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَفْضَلَ مِنْ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ كِفَايَتِهِ؛ وَيَصْرِفَ ذَلِكَ الْقَدْرَ إلَى الْأَجْنَبِيِّ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ.

مسألة رجل ولى ذا شوكة على وقف من مساجد

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. يَجِبُ عَلَى نَاظِرِ الْوَقْفِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَصْرِفِهِ؛ فَيُقَدِّمَ الْأَحَقَّ فَالْأَحَقَّ. وَإِذَا قَدَّرَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الشَّرْعِيَّةَ اقْتَضَتْ صَرْفَهُ إلَى ثَلَاثَةٍ مِثْلَ أَنْ لَا يَكْفِيَهُمْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ؛ فَلَا يَدْخُلُ غَيْرُهُمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ. وَإِذَا كَفَاهُمْ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ يَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ مَعَهُمْ؛ وَيُسَاوِيهِمْ مِمَّا يُحَصِّلُ مِنْ رَيْعِهِ، وَهُمْ أَحَقُّ مِنْهُ عِنْدَ التَّزَاحُمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَقَارِبُ الْوَاقِفِ الْفُقَرَاءِ أَوْلَى مِنْ الْفُقَرَاءِ الْأَجَانِبِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْحَاجَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ إلَيْهِ كِفَايَتَهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُ. وَإِذَا قَدَّرَ وُجُودَ فَقِيرٍ مُضْطَرٍّ كَانَ دَفْعُ ضَرُورَتِهِ وَاجِبًا. وَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِتَنْقِيصِ كِفَايَةِ أُولَئِكَ مِنْ هَذَا الْوَقْفِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ تَحْصُلُ لَهُمْ تَعَيَّنَ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ وَلَّى ذَا شَوْكَةٍ عَلَى وَقْفٍ مِنْ مَسَاجِدَ] 893 - 52 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ وَلَّى ذَا شَوْكَةٍ عَلَى وَقْفٍ مِنْ مَسَاجِدَ وَرُبُطٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، اعْتِمَادًا عَلَى دِينِهِ، وَعِلْمًا بِقَصْدِهِ لِلْمَصْلَحَةِ. فَعِنْدَ تَوْلِيَتِهِ - وَجَدَ تِلْكَ الْوُقُوفَ عَلَى غَيْرِ سَنَنٍ مُسْتَقِيمٍ، وَيَتَعَرَّضُ إلَيْهَا - كُرِهَ مُبَاشَرَتُهَا؛ لِئَلَّا يَقَعَ الطَّمَعُ فِي مَالِهَا، وَغَيْرُ مُلْتَفِتِينَ إلَى صَرْفِهَا فِي اسْتِحْقَاقِهَا. وَهُمْ مِثْلُ الْقَاضِي، وَالْخَطِيبِ وَإِمَامِ الْجَامِعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْ عُمُومِ الْوَقْفِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا عَاجِزٌ عَنْ صَدِّ التَّعَرُّضِ عَنْهَا، وَمَعَ اجْتِهَادِهِ فِيهَا وَمُبَالَغَتِهِ. فَهَلْ يَحِلُّ لِلسَّائِلِ عَزْلُ نَفْسِهِ عَنْهَا، وَعَنْ الْقِيَامِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ مَصَالِحِهَا؛ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ بِأُجْرَةٍ يَكْثُرُ التَّعَرُّضُ فِيهَا، وَالطَّمَعُ فِي مَالِهَا. وَهَلْ يَحِلُّ لَهُ تَنَاوُلُ أُجْرَةِ عَمَلِهِ مِنْهَا مَعَ كَوْنِهِ ذَا عَائِلَةٍ، وَعَاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِ قُوتِهِمْ مِنْ غَيْرِهَا؟ وَهَلْ يَحِلُّ لِلنَّاظِرِ إذَا وَجَدَ مَكَانًا خَرِبًا أَنْ يَصْرِفَ مَالَهُ فِي مَصْلَحَةِ غَيْرِهِ عِنْدَ تَحَقُّقِهِ بِأَنَّ مَصْلَحَتَهُ مَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَقُومَ بِعِمَارَتِهِ؟ وَهَلْ إذَا فَضَلَ عَنْ جِهَتِهِ شَيْءٌ مِنْ مِلْكِهَا صَرَفَهُ إلَى مُهِمٍّ غَيْرِهِ، وَعِمَارَةٍ لَازِمَةٍ يُمْكِنُ أَنْ تَحْفَظَهُ لِكَثْرَةِ التَّعَرُّضِ إلَيْهِ أَمْ لَا؟ أَجَابَ: أَصْلُ هَذِهِ إنَّمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ طَاعَتِهِ وَتَقْوَاهُ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] . وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . وَلِهَذَا جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ بِتَحْصِيلِ

مسألة الوقف الذي أوقف على الأشراف

أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا، وَبِاحْتِمَالِ أَدْنَى الْمَفْسَدَتَيْنِ لِدَفْعِ أَعْلَاهُمَا. فَمَتَى لَمْ يَنْدَفِعْ الْفَسَادُ الْكَبِيرُ عَنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ الْمَوْقُوفَةِ وَمَصَارِفِهَا الشَّرْعِيَّةِ إلَّا بِمَا ذُكِرَ - مِنْ احْتِمَالِ الْمَفْسَدَةِ الْقَلِيلَةِ - كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبَ شَرْعًا. وَإِذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَلَيْسَ لَهُ تَرْكُ ذَلِكَ إلَّا مَعَ ضَرَرٍ أَوْجَبَ الْتِزَامُهُ، أَوْ مُزَاحَمَةِ مَا هُوَ أَوْجَبُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْحَاجَةِ تَنَاوُلُ أُجْرَةِ عَمَلِهِ فِيهَا؛ بَلْ قَدْ جَوَّزَهُ مَنْ جَوَّزَهُ مَعَ الْغِنَى أَيْضًا، كَمَا جَوَّزَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعَامِلِينَ عَلَى الصَّدَقَاتِ الْأَخْذَ مَعَ الْغِنَى عَنْهَا. وَإِذَا خَرِبَ مَكَانُ مَوْقُوفٍ فَتَعَطَّلَ نَفْعُهُ بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ فِي نَظِيرِهِ، أَوْ نُقِلَتْ إلَى نَظِيرِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا خَرِبَ بَعْضُ الْأَمَاكِنِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهَا - كَمَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ - عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ عِمَارَتُهُ، فَإِنَّهُ يُصْرَفُ رِيعُ الْوَقْفِ عَلَيْهِ إلَى غَيْرِهِ. وَمَا فَضَلَ مِنْ رِيعٍ وُقِفَ عَنْ مَصْلَحَتِهِ صُرِفَ فِي نَظِيرِهِ، أَوْ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ نَاحِيَتِهِ، وَلَمْ يُحْبَسْ الْمَالُ دَائِمًا فَلَا فَائِدَةَ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كُلَّ عَامٍ يَقْسِمُ كِسْوَةَ الْكَعْبَةِ بَيْنَ الْحَجِيجِ؛ وَنَظِيرُ كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ الْمَسْجِدُ الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ الْحُصْرِ وَنَحْوِهَا، وَأَمَرَ بِتَحْوِيلِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان حَتَّى صَارَ مَوْضِعُ الْأَوَّلِ سُوقًا. [مَسْأَلَةٌ الْوَقْفِ الَّذِي أُوقِفَ عَلَى الْأَشْرَافِ] 894 - 53 مَسْأَلَةٌ: فِي الْوَقْفِ الَّذِي أُوقِفَ عَلَى الْأَشْرَافِ وَيَقُولُ: إنَّهُمْ أَقَارِبُ: هَلْ الْأَقَارِبُ شُرَفَاءُ أَمْ غَيْرُ شُرَفَاءَ؟ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلُوا شَيْئًا مِنْ الْوَقْفِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ. أَوْ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ: كَالْعَلَوِيِّينَ، وَالْفَاطِمِيِّينَ، أَوْ الطَّالِبِيِّنَ الَّذِينَ يَدْخُلُ فِيهِمْ بَنُو جَعْفَرٍ؛ وَبَنُو عُقَيْلٍ. أَوْ عَلَى الْعَبَّاسِيِّينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَنْ كَانَ نَسَبُهُ صَحِيحًا ثَابِتًا. فَأَمَّا مَنْ ادَّعَى أَنَّهُ مِنْهُمْ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مِنْهُمْ؛ أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ: فَلَا يَسْتَحِقُّ مِنْ هَذَا الْوَقْفِ وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ مِنْهُمْ: كَبَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْأَنْسَابِ وَغَيْرِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ نَسَبٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ شَهِدَ بِذَلِكَ طَوَائِفُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ وَالْأَنْسَابِ، وَثَبَتَ فِي ذَلِكَ مَحَاضِرُ شَرْعِيَّةٌ. وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبٍ عَظِيمَةٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ ذَلِكَ مِمَّا تَوَاتَرَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ.

مسألة رجل بيده مسجد بتواقيع إحياء سنة شرعية

وَكَذَلِكَ مَنْ وَقَفَ عَلَى " الْأَشْرَافِ " فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْعُرْفِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا مَنْ كَانَ صَحِيحَ النَّسَبِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ. وَأَمَّا إنْ وَقَفَ وَاقِفٌ عَلَى بَنِي فُلَانٍ؛ أَوْ أَقَارِبِ فُلَانٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْوَقْفِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لِأَهْلِ الْبَيْت النَّبَوِيِّ، وَكَانَ الْمَوْقُوفُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ يَصِحُّ وَقْفُهُ عَلَى ذُرِّيَّةِ الْمُعِينِ: لَمْ يَدْخُلْ بَنُو هَاشِمٍ فِي هَذَا الْوَقْفِ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ بِيَدِهِ مَسْجِدٌ بِتَوَاقِيعِ إحْيَاءِ سُنَّةٍ شَرْعِيَّةٍ] 895 - 54 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ بِيَدِهِ مَسْجِدٌ بِتَوَاقِيعِ إحْيَاءِ سُنَّةٍ شَرْعِيَّةٍ بِحُكْمِ نُزُولِ مَنْ كَانَ بِيَدِهِ تَوْقِيعًا بِالنُّزُولِ ثَابِتًا بِالْحُكَّامِ، ثُمَّ إنَّ وَلَدَ مَنْ كَانَ بِيَدِهِ الْمَسْجِدُ أَوَّلًا تَعَرَّضَ لِمَنْ بِيَدِهِ الْمَسْجِدُ الْآنَ، وَطَلَبَ مُشَارَكَتَهُ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُسْتَنَدٌ شَرْعِيٌّ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ بِيَدِ وَالِدِهِ. فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُلْجَأَ إلَى الشَّرِكَةِ بِغَيْرِ رِضَاهُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَا يَجُوزُ إلْزَامُ إمَامِ مَسْجِدٍ عَلَى الْمُشَارَكَةِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - وَلَا التَّشْرِيكِ بَيْنَهُمَا؛ أَوْ عَزْلُهُ بِمُجَرَّدِ مَا ذُكِرَ: مِنْ كَوْنِ أَبِيهِ كَانَ هُوَ الْإِمَامَ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ يَجِبُ أَنْ يُوَلَّى فِيهَا الْأَحَقُّ شَرْعًا، وَهُوَ الْأَقْرَأُ لِكِتَابِ اللَّهِ؛ وَالْأَعْلَمُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ الْأَسْبَقُ إلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، مِثْلُ: أَنْ يَكُونَ أَسْبَقَ هِجْرَةً؛ أَوْ أَقْدَمَ سِنًّا. فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْأَحَقُّ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ؟ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَزْلُهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَدْرَسَةٍ وُقِفَتْ عَلَى الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ الْفُلَانِيَّةِ] 896 - 55 مَسْأَلَةٌ: فِي مَدْرَسَةٍ وُقِفَتْ عَلَى الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ الْفُلَانِيَّةِ، بِرَسْمِ سُكْنَاهُمْ، وَاشْتِغَالِهِمْ فِيهَا. فَهَلْ تَكُونُ السُّكْنَى مُخْتَصَّةً بِالْمُرْتَزِقِينَ؟ وَهَلْ يَجُوزُ إخْرَاجُ أَحَدٍ مِنْ السَّاكِنِينَ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ الصِّنْفِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ؟ الْجَوَابُ: لَا تَخْتَصُّ السُّكْنَى وَالِارْتِزَاقُ بِشَخْصٍ وَاحِدٍ. وَتَجُوزُ السُّكْنَى مِنْ غَيْرِ ارْتِزَاقٍ مِنْ الْمَالِ، كَمَا يَجُوزُ الِارْتِزَاقُ مِنْ غَيْرِ سُكْنَى. وَلَا يَجُوزُ قَطْعُ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ إلَّا بِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ - إذَا كَانَ السَّاكِنُ مُشْتَغِلًا - سَوَاءٌ كَانَ يَحْضُرُ الدَّرْسَ أَمْ لَا.

مسألة رجل ملك إنسانا أنشابا قائمة على الأرض الموقوفة

[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ مَلَّكَ إنْسَانًا أَنْشَابًا قَائِمَةً عَلَى الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ] مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مَلَّكَ إنْسَانًا أَنْشَابًا قَائِمَةً عَلَى الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الْمِلْكِ الْمَذْكُورِ وَغَيْرِهِ أَيَّامَ حَيَاتِهِ؛ ثُمَّ بَعْدَ وَفَاته عَلَى أَوْلَادِهِ؛ وَعَلَى مَنْ يُحْدِثُهُ اللَّهُ مِنْ الْأَوْلَادِ مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ: عَلَى أَنَّ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ وَتَرَكَ وَلَدًا كَانَ نَصِيبُهُ مِنْ الْوَقْفِ إلَى وَلَدِهِ؛ أَوْ وَلَدِ وَلَدِهِ، وَإِنْ سَفَلَ، وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى؛ مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ؛ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ. وَإِنْ تُوُفِّيَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ وَلَدٍ وَلَا أَسْفَلُ مِنْ ذَلِكَ كَانَ نَصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ مَصْرُوفًا إلَى مَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ؛ مُضَافًا إلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ رِيعِ هَذَا الْوَقْفِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخٌ، وَلَا أُخْتٌ؛ وَلَا مِنْ يُسَاوِيه فِي الدَّرَجَةِ: كَانَ نَصِيبُهُ مَصْرُوفًا إلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ: الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ؛ تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا الطَّبَقَةَ السُّفْلَى، مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ بِالسَّوِيَّةِ؛ إلَى حِينِ انْقِرَاضِهِمْ. فَإِنْ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يَرْجِعُ بِنَسَبِهِ إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْبِنْتِ: كَانَ مُغَلُّ الْوَقْفِ مَصْرُوفًا إلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ بِثَغْرِ دِمْيَاطَ الْمَحْرُوسَةِ؛ وَالْوَارِدِينَ إلَيْهِ؛ وَالْمُتَرَدَّدِينَ عَلَيْهِ يُفَرِّقُهُ النَّاظِرُ عَلَى مَا يَرَاهُ. ثُمَّ عَلَى أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ. فَمِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ الْأَوَّلِ إحْدَى الْبَنَاتِ تُوُفِّيَتْ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ أَخَذَ إخْوَتُهَا نَصِيبَهَا؛ ثُمَّ مَاتَتْ الْبِنْتُ الثَّانِيَةُ وَلَهَا ابْنَتَانِ أَخَذَتَا نَصِيبَهَا؛ أَمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَاتَتْ الْبِنْتُ الثَّالِثَةُ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ أَخَذَتْ أُخْتُهَا نَصِيبَهَا؛ ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ مَاتَتْ الْأُخْتُ الرَّابِعَةُ فَأَخَذُوا لَهَا الثُّلُثَيْنِ. فَهَلْ يَصِحُّ لِأَوْلَادِ خَالَتِهِ نَصِيبٌ مَعَهُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الْبِنْتُ الْأُولَى انْتَقَلَ نَصِيبُهَا إلَى إخْوَتِهَا الثَّلَاثَةِ؛ كَمَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ؛ لَا يُشَارِكُ أَوْلَادُ هَذِهِ لِأَوْلَادِ هَذِهِ فِي النَّصِيبِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي كَانَ لِأُمِّهَا. وَأَمَّا النَّصِيبُ الْعَائِدُ - وَهُوَ الَّذِي كَانَ لِلثَّالِثَةِ وَانْتَقَلَ إلَى الرَّابِعَةِ - فَهَذَا يَشْتَرِكُ فِيهِ أَوْلَادُ هَذِهِ وَأَوْلَادُ هَذِهِ؛ كَمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ أُمُّهُمَا هَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَقِيلَ: إنَّ جَمِيعَ مَا حَصَلَ لِلرَّابِعَةِ وَهُوَ نَصِيبُهَا؛ وَنَصِيبُ الثَّالِثَةِ يَنْتَقِلُ إلَى أَوْلَادِهَا خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ قَالَ: وَإِنْ تُوُفِّيَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ وَلَدٍ وَلَا أَسْفَلُ مِنْ ذَلِكَ كَانَ نَصِيبُهُ مَصْرُوفًا إلَى مَنْ فِي دَرَجَتِهِ، مُضَافًا إلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ. قَالُوا: فَالْمُضَافُ كَالْمُضَافِ إلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا يَنْتَقِلُ إلَى أَوْلَادِهِ فَكَذَلِكَ الْآخَرُ: لِأَنَّ

قَوْلَ الْوَاقِفِ: مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَتَرَكَ وَلَدًا كَانَ نَصِيبُهُ مِنْ الْوَقْفِ إلَى وَلَدِهِ يَتَنَاوَلُ الْأَصْلِيَّ وَالْعَائِدَ. وَالْأَظْهَرُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: كَانَ نَصِيبُهُ. يَتَنَاوَلُ النَّصِيبَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَأَمَّا تَنَاوُلُهُ لِمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَمَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا يَدْخُلُ بِالشَّكِّ بَلْ قَدْ يُقَالُ: هَذَا هُوَ فِي الْأَصْلِ نَصِيبُ الْمَيِّتِ عَنْهُ، كَمَا ذَكَرَ الْوَاقِفُ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْوَاقِفِ لَفْظًا وَعُرْفًا أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الطَّبَقَةِ فِي نَصِيبِ مَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ، فَأَخَذَهُ الْمُسَاوِي بِكَوْنِهِ كَانَ فِي الطَّبَقَةِ، وَأَوْلَادُهُ فِي الطَّبَقَةِ: كَأَوْلَادِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ. فَكَمَا أَنَّ الْمَيِّتَيْنِ لَوْ كَانَا حَيَّيْنِ اشْتَرَكَا فِي هَذَا النَّصِيبِ الْعَائِدِ: فَكَذَلِكَ يَشْتَرِكُ فِيهِ وَلَدُهُمَا مِنْ بَعْدِهِمَا؛ فَإِنَّ نِسْبَتَهُمَا إلَى صَاحِبِ النَّصِيبِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَصَدَهُ النَّاسُ بِمِثْلِ هَذِهِ الشُّرُوطِ، كَمَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ عُرْفُهُمْ وَعَادَتُهُمْ. وَالْمَقْصُودُ إجْرَاءُ الْوَقْفِ عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي يَقْصِدُهَا الْوَاقِفُ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إنَّ نُصُوصَهُ كَنُصُوصِ الشَّارِعِ. يَعْنِي فِي الْفَهْمِ وَالدَّلَالَةِ. فَيُفْهَمُ مَقْصُودُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَمَا يُفْهَمُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ. وَمَنْ كَشَفَ أَحْوَالَ الْوَاقِفِينَ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ هَذَا الْمَعْنَى؛ فَإِنَّهُ أَشْبَهُ بِالْعَدْلِ. وَنِسْبَةُ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ إلَى الْوَاقِفِ سَوَاءٌ، فَلَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي أَنْ يُعْطِيَ ابْنَ هَذَا نَصِيبَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً لِتَأَخُّرِ مَوْتِ أَبِيهِ، وَأُولَئِكَ لَا يُعْطَوْنَ إلَّا نَصِيبًا وَاحِدًا؛ لَا سِيَّمَا وَهَذَا الْمُتَأَخِّرُ قَدْ اسْتَغَلَّ الْوَقْفَ، فَقَدْ يَكُونُ خَلَّفَ لِأَوْلَادِهِ بَعْضَ مَا اسْتَغَلَّهُ، وَاَلَّذِي مَاتَ أَوَّلًا لَمْ يَسْتَغِلَّهُ إلَّا قَلِيلًا، فَأَوْلَادُهُ أَقْرَبُ إلَى الْحَاجَةِ، وَنِسْبَتُهُمَا إلَى الْوَاقِفِ سَوَاءٌ. فَكَيْفَ يُقَدَّمُ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْحَاجَةِ إلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ عَنْهَا وَهُمَا فِي الْقُرْبِ إلَيْهِ وَإِلَى الْمَيِّتِ صَاحِبِ النَّصِيبِ - بَعْدَ انْقِرَاضِ الطَّبَقَةِ - سَوَاءٌ. وَهُوَ كَمَا لَوْ مَاتَ صَاحِبُهُ آخِرًا، وَلَوْ مَاتَ آخِرًا اشْتَرَكَ جَمِيعُ الْأَوْلَادِ فِيهِ؛ بَلْ هَذَا يَتَنَاوَلُهُ قَوْلُ الْوَاقِفِ: إنْ تُوُفِّيَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ مَصْرُوفًا إلَى مَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخٌ وَلَا أُخْتٌ وَلَا مَنْ يُسَاوِيه فِي الدَّرَجَةِ: فَيَكُونُ نَصِيبُهُ مَصْرُوفًا إلَى أَقْرَبِ النَّاسِ، وَكُلُّهُمْ فِي الْقُرْبِ إلَيْهِ سَوَاءٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة واقف وقف وقفا على أولاده ثم على أولاد أولاده

[مَسْأَلَةٌ وَاقِف وَقَفَ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ] مَسْأَلَةٌ: فِي وَاقِفٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، وَنَسْلِهِ، وَعَقِبِهِ، دَائِمًا مَا تَنَاسَلُوا: عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ: كَانَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ فِي دَرَجَتِهِ وَذَوِي طَبَقَتِهِ. فَإِذَا تُوُفِّيَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ عَنْ وَلَدٍ أَوْ وَلَدِ وَلَدٍ، أَوْ نَسْلٍ أَوْ عَقِبٍ لِمَنْ يَكُونُ نَصِيبُهُ؟ هَلْ يَكُونُ لِوَلَدِهِ؟ أَوْ لِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَبَنِي الْعَمِّ وَنَحْوِهِمْ؟ الْجَوَابُ: نَصِيبُهُ يَنْتَقِلُ إلَى وَلَدِهِ دُونَ إخْوَتِهِ وَبَنِي عَمِّهِ: لِوُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ نَذْكُرُ مِنْهَا ثَلَاثَةً: أَحَدُهَا: إنَّ قَوْلَهُ: عَلَى أَوْلَادِهِ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ. مُقَيَّدٌ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى ذَوِي طَبَقَتِهِ. وَكُلُّ كَلَامٍ اتَّصَلَ بِمَا يُقَيِّدُهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ الْمُقَيَّدُ دُونَ إطْلَاقِهِ أَوَّلَ الْكَلَامِ. بَيَانُ الْمُقَدَّمَةِ الْأُولَى: إنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ. فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْحَالُ صِفَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَالصِّفَةُ مُقَيِّدَةٌ لِلْمَوْصُوفِ وَإِنْ شِئْت قُلْت: لِأَنَّهُ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ مُتَّصِلٌ بِالْفِعْلِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مَفْعُولٌ فِي النَّفْيِ، وَذَلِكَ مُقَيِّدٌ لِلْفِعْلِ. وَإِنْ شِئْت قُلْت: لِأَنَّهُ كَلَامٌ لَمْ يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ، فَيَجِبُ ضَمُّهُ إلَى مَا قَبْلَهُ. وَإِنْ شِئْت قُلْت: لِأَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ لَمْ يَسْكُتْ عَلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُ حَتَّى وَصَلَهُ بِغَيْرِهِ، وَصِلَةُ الْكَلَامِ مُقَيِّدَةٌ لَهُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْقَضَايَا مَعْلُومَةٌ بِالِاضْطِرَارِ فِي كُلِّ لُغَةٍ. بَيَانُ الثَّانِيَةِ: إنَّ الْكَلَامَ مَتَى اتَّصَلَ بِهِ صِفَةٌ أَوْ شَرْطٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُغَيِّرُ مُوجِبَهُ عِنْدِ الْإِطْلَاقِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا، وَلَمْ يَجُزْ قَطْعُ ذَلِكَ الْكَلَامِ عَنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ. وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ أَيْضًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ بَلْ وَلَا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ. وَعَلَى هَذَا تَنْبَنِي جَمِيعُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَقْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ: مِثْلُ الْوَقْفِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالْإِقْرَارِ، وَالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ، وَالْإِجَارَةِ وَالشَّرِكَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: يُرْجَعُ إلَى لَفْظِ الْوَاقِفِ فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ. وَلِهَذَا لَوْ كَانَ أَوَّلُ الْكَلَامِ مُطْلَقًا أَوْ عَامًّا وَوَصَلَهُ الْمُتَكَلِّمُ بِمَا يَخُصُّهُ أَوْ يُقَيِّدُهُ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِذَلِكَ

التَّقْيِيدِ وَالتَّخْصِيصِ، فَإِذَا قَالَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي. كَانَ عَامًّا. فَلَوْ قَالَ الْفُقَرَاءُ، أَوْ الْعُدُولِ، أَوْ الذُّكُورِ. اخْتَصَّ الْوَقْفُ بِهِمْ؛ وَإِنْ كَانَ أَوَّلُ كَلَامِهِ عَامًّا. وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَفْظُ الْأَوْلَادِ عَامٌّ، وَتَخْصِيصُ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي الْحُكْمَ عَنْ النَّوْعِ الْآخَرِ؛ بَلْ الْعُقَلَاءُ كُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ قَصَرَ الْحُكْمَ عَلَى أُولَئِكَ الْمَخْصُوصِينَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ - مُثْبِتُو الْمَفْهُومِ وَنُفَاتُهُ - وَيُسَمُّونَ هَذَا التَّخْصِيصَ الْمُتَّصِلَ. وَيَقُولُونَ: لَمَّا وُصِلَ اللَّفْظُ الْعَامُّ بِالصِّفَةِ الْخَاصَّةِ صَارَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ فَقَطْ، وَصَارَ الْخَارِجُونَ عَنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ خَارِجِينَ عَنْ الْحُكْمِ. أَمَّا عِنْدَ نُفَاةِ الْمَفْهُومِ فَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَحِقُّونَ شَيْئًا إلَّا إذَا دَخَلُوا فِي اللَّفْظِ؛ فَلَمَّا وُصِلَ اللَّفْظُ الْعَامُّ بِالصِّفَةِ الْخَاصَّةِ أَخْرَجَهُمْ مِنْ اللَّفْظِ؛ فَلَمْ يَصِيرُوا دَاخِلِينَ فِيهِ؛ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ. فَهُمْ يَنْفُونَ اسْتِحْقَاقَهُمْ لِعَدَمِ مُوجِبِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَأَمَّا عِنْدَ مُثْبِتِي الْمَفْهُومِ فَيَخْرُجُونَ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ تَخْصِيصَ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ تَخْصِيصِهِ بِالْحُكْمِ. وَقَصْدُ تَخْصِيصِهِمْ بِالْحُكْمِ مُلْتَزِمٌ لِنَفْيِهِ عَنْ غَيْرِهِ. فَهُمْ يَمْنَعُونَ اسْتِحْقَاقَهُمْ لِانْتِفَاءِ مُوجِبِهِ وَلِقِيَامِ مَانِعِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قُيِّدَ الْمُطْلَقُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: وَقْفٌ عَلَى أَوْلَادِي عَلَى أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ. أَوْ عَلَى أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ. أَوْ وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي عَلَى أَنَّهُ يُصْرَفُ مِنْ الْوَقْفِ إلَى الْمَوْجُودِينَ مِنْهُمْ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ. وَوَقَفْت عَلَى أَنَّهُ مَنْ كَانَ فَقِيرًا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ. فَإِنَّ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ: أَوْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ؛ أَوْ إنْ كَانَ فَقِيرًا. وَلَوْ قَالَ: وَقَفْت عَلَى بَنَاتِي عَلَى أَنَّهُ مَنْ كَانَتْ أَيِّمًا أُعْطِيت، وَمَنْ تَزَوَّجَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أُعْطِيت؛ فَإِنَّ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: وَقَفْت عَلَى بَنَاتِي عَلَى الْأَيَامَى مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ صِيغَةَ " عَلَى " مِنْ صِيَغِ الِاشْتِرَاطِ، كَمَا قَالَ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] . وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُك بِنْتِي عَلَى أَلْفٍ، أَوْ عَلَى أَنْ تُعْطِيَهَا أَلْفًا؛ أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهَا فِي ذِمَّتِك أَلْفٌ، كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا ثَابِتًا وَتَسْمِيَتُهُ صَحِيحَةٌ، وَلَيْسَ فِي

هَذَا خِلَافٌ، وَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَوْ غَيْرِهِ خِلَافًا فِي ذَلِكَ؛ مِنْ أَجْلِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْت طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ، أَوْ لِعَبْدِهِ: أَنْت حُرٌّ عَلَى أَلْفٍ، فَلَمْ تَقْبَلْ الزَّوْجَةُ وَالْعَبْدُ؛ فَإِنَّهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ يَقَعُ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَأْخَذُهُ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَيْسَتْ لِلشَّرْطِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: خَلَعْتُك عَلَى أَلْفٍ، أَوْ كَاتَبْتُك عَلَى أَلْفٍ، أَوْ زَوَّجْتُك عَلَى أَلْفٍ أَوْ قَالَ بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ عَلَى أَنْ تَرْهَنَنِي بِهِ كَذَا، أَوْ عَلَى أَنْ يَضْمَنَهُ زَيْدٌ، أَوْ زَوَّجْتُك بِنْتِي عَلَى أَنَّك حُرٌّ: إنَّ هَذِهِ شُرُوطٌ صَحِيحَةٌ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ كُلِّهِمْ. وَإِنَّمَا الْمَأْخَذُ أَنَّ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ لَا يَفْتَقِرَانِ إلَى عِوَضٍ، وَلَمْ يُعَلِّقْ الطَّلَاقَ بِشَرْطٍ؛ وَإِنَّمَا شَرَطَ فِيهِ شَرْطًا، وَفَرْقٌ بَيْنَ التَّعْلِيقِ عَلَى الشَّرْطِ وَبَيْنَ الشَّرْطِ فِي الْكَلَامِ الْمُنْجَزِ؛ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ كَثِيرٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمُعَلَّقَةِ مَعَ صِحَّةِ الِاشْتِرَاطِ فِيهَا؛ وَهَذِهِ الصِّفَةُ قَدْ تَعَذَّرَ وُجُودُهَا، وَالطَّلَاقُ الْمَوْصُوفُ إذَا فَاتَتْ صِفَتُهُ هَلْ يَفُوتُ جَمِيعُهُ؟ أَوْ يَثْبُتُ هُوَ دُونَ الصِّفَةِ؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ. إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ، شَرْطٌ حُكْمِيٌّ، وَوَصْفٌ مَعْنَوِيٌّ لِلْوَقْفِ الْمَذْكُورِ؛ وَأَنَّهُ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَالْعَمَلُ بِمُوجَبِهِ؛ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا اُعْتُبِرَ الْقَيْدُ الْمَذْكُورُ فِي الْكَلَامِ كَانَ انْتِقَالُ نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى إلَى ذَوِي طَبَقَتِهِ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ وَلَدِهِ، وَإِنَّ الْوَاقِفَ لَمْ يَصْرِفْ إلَيْهِ نَصِيبَ الْمُتَوَفَّى فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَمَعْلُومٌ حِينَئِذٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُ نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى إلَيْهِمْ فِي ضِدِّ هَذِهِ الْحَالِ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَعُلِمَ أَنَّ هَذَا ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ بَلْ وَالْعُقَلَاءِ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ، وَالنَّافِينَ لَهُ؛ فَإِنَّ صَرْفَ الْوَقْفِ إلَى غَيْرِ مَنْ صَرَفَهُ إلَيْهِ الْوَاقِفُ حَرَامٌ؛ وَهُوَ لَمْ يَصْرِفْهُ إلَيْهِمْ. فَهَذَا الْمَنْعُ لِانْتِفَاءِ الْمُوجِبِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ مُنِعَ صَرْفُهُ إلَيْهِمْ وَهَذَا الْمَنْعُ لِوُجُودِ الْمَانِعِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ بِشَرْطِ أَنْ يَنْتَقِلَ نَصِيبُ الْمُتَوَفَّى مِنْهُمْ إلَى أَهْلِ طَبَقَتِهِ إذَا كَانَ قَدْ تُوُفِّيَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ. وَلَيْسَ يَخْتَلِفُ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ هَذَا الْبَابَ يَقْتَصِرُ عَلَى الْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ وَإِنَّمَا يَغْلَطُ هُنَا مَنْ لَمْ يُحْكِمْ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ، وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ أَنْوَاعِ أُصُولِ الْفِقْهِ

السَّمْعِيَّةِ، وَلَمْ يَتَدَرَّبْ فِيمَا عُلِّقَ بِأَقْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا هُوَ جَرَى فِي فَهْمِ هَذَا الْخِطَابِ عَلَى الطَّبِيعَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ النَّقِيَّةِ، فَارْتَفَعَ عَنْ شَأْنِ الْعَامَّةِ بِحَيْثُ لَمْ يَدْخُلْ زُمْرَتَهُمْ فِيمَا يَفْهَمُونَهُ فِي عُرْفِ خِطَابِهِمْ، وَانْحَطَّ عَنْ أَوْجِ الْخَاصَّةِ، فَلَمْ يَهْتَدِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُشْتَبِهَاتِ فِي الْكَلَامِ، حَتَّى تُقِرَّ الْفِطَرُ عَلَى مَا فَطَرَهَا عَلَيْهِ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؛ وَالْحُمْقُ أَدَّى بِهِ إلَى الْخَلَاصِ مِنْ كُنَاسَةٍ بَتْرًا، وَمِنْ أَحْكَمِ الْعُلُومِ حَتَّى أَحَاطَ بِغَايَاتِهَا رَدَّهُ ذَلِكَ إلَى تَقْرِيرِ الْفِطَرِ عَلَى بِدَايَاتِهَا، وَإِنَّمَا بُعِثَتْ الرُّسُل لِتَكْمِيلِ الْفِطْرَةِ؛ لَا لِتَغْيِيرِهَا: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْهُ إلَّا إعْطَاءَ أَهْلِ طَبَقَةِ الْمُتَوَفَّى أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُتَوَفَّى وَلَدٌ، وَيَعْقِلُونَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَاحِدٌ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. وَإِنَّمَا نَشَأْ غَلَطُ الْغَالِطِ مِنْ حَيْثُ تَوَهَّمَ أَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ فِيهِ عُمُومٌ، وَالْكَلَامَ الثَّانِيَ قَدْ خَصَّ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ بِالذِّكْرِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ تَعَارُضِ الْعُمُومِ وَالْمَفْهُومِ. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مِمَّنْ نَظَرَ فِي كُتُبِ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ بِدَلَالَةِ الْمَفْهُومِ، وَإِذَا قَالُوا بِهَا رَأَوْا دَلَالَةَ الْعُمُومِ رَاجِحَةً عَلَيْهَا، لِكَوْنِ الْخِلَافَاتِ فِيهَا أَضْعَفَ مِنْهُ فِي دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ فِي الْعُمُومِ إلَّا شِرْذِمَةٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ، وَقَدْ خَالَفَ فِي الْمَفْهُومِ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، حَتَّى قَدْ يُتَوَهَّمُ مَنْ وَقَعَ لَهُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ صَرِيحَ الشَّرْطِ أَوْ عُمُومَهُ لِمَفْهُومِ الصِّفَةِ مَعَ ضَعْفِهِ. فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْعَمَى فِي الْبَصِيرَةِ، أَوْ حَوَلٍ يُرِي الْوَاحِدَ اثْنَيْنِ؛ فَإِنَّ الْأَعْمَى أَسْلَمُ حَالًا فِي إدْرَاكِهِ مِنْ الْأَحْوَلِ إذَا كَانَ مُقَلِّدًا لِلْبَصِيرِ، وَالْبَصِيرُ صَحِيحُ الْإِدْرَاكِ. وَلَوْلَا خَشْيَةُ أَنْ يَحْسِبَ حَاسِبٌ أَنَّ لِهَذَا الْقَوْلِ مَسَاغًا، أَوْ أَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ عَلَى أُصُولِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ لَكَانَ الْإِضْرَابُ عَنْ بَيَانِهِ أَوْلَى. فَيُقَالُ: هَذَا الَّذِي تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ هَلْ هِيَ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَتْ حُجَّةً، فَهَلْ يُخَصُّ بِهَا الْعَامُّ أَمْ لَا؟ إنَّمَا هُوَ فِي كَلَامَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ مِنْ مُتَكَلِّمٍ

وَاحِدٍ أَوْ فِي حُكْمِ الْوَاحِدِ، لَيْسَ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ مُتَّصِلٍ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ؛ وَلَا فِي كَلَامِ مُتَكَلِّمَيْنِ لَا يَجِبُ اتِّحَادُ مَقْصُودِهِمَا. فَهُنَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: كَلَامَانِ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي حُكْمِ الْوَاحِدِ. وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِيَدْخُلَ فِيهِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا كَلَامَ اللَّهِ وَالْآخَرُ كَلَامَ رَسُولِهِ؛ فَإِنَّ حُكْمَ ذَلِكَ حُكْمُ مَا لَوْ كَانَا جَمِيعًا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ كَلَامِ رَسُولِهِ: مِثْلُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» ، مَعَ قَوْلِهِ «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» ، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهِمَا وَاحِدٌ. وَهُمَا كَلَامَانِ. فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمَفْهُومَ حُجَّةٌ يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ خَصَّصَ عُمُومَ قَوْلِهِ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» بِمَفْهُومِ " إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ " مَعَ أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ أَضْعَفُ مِنْ مَفْهُومِ الصِّفَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَغَيْرُهُمَا. وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: قَوْلُهُ: " الْمَاءُ طَهُورٌ " عَامٌّ، وَقَوْلُهُ: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ» هُوَ بَعْضُ ذَلِكَ الْعَامِّ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لَهُ فِي حُكْمِهِ فَلَا تُتْرَكُ دَلَالَةُ الْعُمُومِ لِهَذَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي كِتَابِ الصَّدَقَةِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ: «فِي الْإِبِلِ فِي خَمْسٍ مِنْهَا شَاةٌ» إلَى آخِرِهِ. مَعَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ» وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا مَا قَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى تَرْجِيحِ الْمَفْهُومِ فِيهِ: مِثْلُ قَوْلِهِ: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» مَعَ قَوْلِهِ: «جُعِلَتْ لِي كُلُّ أَرْضٍ طَيِّبَةٍ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» . فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْأَرْضَ الْخَبِيثَةَ لَيْسَتْ بِطَهُورٍ. وَمِنْهَا مَا قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ، كَقَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لِي طَهُورًا» فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرَهُمَا جَعَلُوا مَفْهُومَ هَذَا الْحَدِيثِ مُخَصِّصًا لِقَوْلِهِ «جُعِلَتْ لِي

كُلُّ أَرْضٍ طَيِّبَةٍ طَهُورًا» . وَمِنْهَا مَا قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى تَقْدِيمِ الْعُمُومِ فِيهِ كَقَوْلِهِ: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] . مَعَ قَوْلِهِ: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] . فَإِنَّ أَكْلَهَا حَرَامٌ سَوَاءٌ قَصَدَ بِدَارًا كِبَرَ الْيَتِيمِ أَوْ لَا. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَاتَيْنِ الدَّلَالَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا. فَذَهَبَ أَهْلُ الرَّأْيِ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ: إلَى تَرْجِيحِ الْعُمُومِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ، وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ: إلَى تَقْدِيمِ الْمَفْهُومِ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ صَرِيحًا عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا. وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمِلَةٌ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِهَا؛ فَإِنَّهَا ذَاتُ شُعَبٍ كَثِيرَةٍ، وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِمَسْأَلَةِ " الْمُطْلَقِ، وَالْمُقَيَّدِ " وَهِيَ غَمْرَةٌ مِنْ غَمَرَاتِ " أُصُولِ الْفِقْهِ " وَقَدْ اشْتَبَهَتْ أَنْوَاعُهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ السَّابِحِينَ فِيهِ. لَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ مَسْأَلَتَنَا لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ، مَعَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْهُ لَكَانَ الْوَاجِب عَلَى مَنْ يُفْتِي بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنْ يَبْنِيَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أُصُولِهِمَا، وَأُصُولِ أَصْحَابِهِمَا، دُونَ مَا أَصْلُهُ بَعْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ لَمْ يُمْنَعُوا النَّظَرَ فِي آيَاتِ اللَّهِ. وَدَلَائِلِهِ: الَّتِي بَيَّنَهَا فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَلَا أَحَاطُوا عِلْمًا بِوُجُوهِ الْأَدِلَّةِ، وَدَقَائِقِهَا، الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي وَحْيِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ، وَلَا ضَبَطُوا وُجُودَ دَلَالَاتِ اللِّسَانِ الَّذِي هُوَ أَبْيَنُ الْأَلْسِنَةِ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ أَشْرَفَ الْكُتُبِ. وَإِنَّمَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ وَاحِدٍ مُتَّصِلًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، آخِرُهُ مُقَيِّدٌ لِأَوَّلِهِ: مِثْلُ مَا لَوْ قَالَ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ» أَوْ يُقَالُ: «الْمَاءُ طَهُورٌ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» أَوْ يَقُولُ: «فِي كُلِّ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ، وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ، تَجِبُ هَذِهِ الزَّكَاةُ فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ» ، كَمَا قَالَ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] . فَأَطْلَقَ وَعَمَّمَ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ هَذَا

الْكَلَامَ لَا يُؤْخَذُ بِعُمُومِ أَوَّلِهِ، بَلْ إنَّمَا تَضَمَّنَ طَهَارَةَ الْقُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا، وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ. لَكِنَّ نُفَاةَ الْمَفْهُومِ يَقُولُونَ: لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا سِوَى ذَلِكَ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ فَنَحْنُ نَنْفِيه بِالْأَصْلِ، إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ نَاقِلٌ عَنْ الْأَصْلِ. وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ، بَلْ نَنْفِيه بِدَلِيلِ هَذَا الْخِطَابِ الْمُوَافِقِ لِلْأَصْلِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ: أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ: وَصَّيْت بِهَذَا الْمَالِ لِلْعُلَمَاءِ يُعْطَوْنَ مِنْهُ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ. وَلَوْ قَالَ: مَرَّةً: وَصَّيْت بِهِ لِلْعُلَمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: أَعْطُوا مِنْ مَالِي لِلْعُلَمَاءِ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ. فَهُنَا يُقَالُ تَعَارَضَ الْعُمُومُ وَالْمَفْهُومُ؛ لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجِيءُ فِي الْوَقْفِ، فَإِنَّهُ إذَا وَقَفَ عَلَى صِفَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ لَمْ يُمْكِنْ تَغْيِيرُهَا؛ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ، وَلَوْ فَسَّرَ الْمُوصِي لَفْظَهُ بِمَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ قُبِلَ مِنْهُ؛ بِخِلَافِ الْوَاقِفِ. وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ تَقْيِيدَ هَذَا الْكَلَامِ بِالصِّفَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ وَاجِبٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ وَنُفَاتِهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْكَلَامِ الْمُقَيَّدِ بِوَصْفٍ فِي آخِرِهِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِ مُتَكَلِّمَيْنِ لَا يَجِبُ اتِّحَادُ مَقْصُودِهِمَا: مِثْلُ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا أَنَّ جَمِيعَ الدَّارِ لِزَيْدٍ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّ الْمَوْضِعَ الْفُلَانِيَّ مِنْهَا لِعَمْرٍو، فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْبَيِّنَتَيْنِ تَتَعَارَضَانِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: أَنَّهُ يَبْنِي الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ هُنَا. وَقَدْ غَلِطَ بَعْضُ النَّاسِ مَرَّةً فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَرَأَى أَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، كَمَا غَلِطَ بَعْضُهُمْ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي فَأَلْحَقُوهُ بِالْأَوَّلِ. وَمَنْ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ فَرَّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، وَعَلِمَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهَا ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الْفِطَرِ وَإِنَّمَا خَاصَّةُ الْعُلَمَاءِ إخْرَاجُ مَا فِي الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ، فَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ عَامٌّ أَوْ مُطْلَقٌ فَقَدْ وُصِلَ بِمَا يُقَيِّدُهُ وَيُخَصِّصُهُ، وَقَدْ أَطْبَقَ جَمِيعُ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا مَخْصُوصٌ مُقَيَّدٌ، وَلَيْسَ عَامًّا وَلَا مُطْلَقًا. فَفَرِّقْ - أَصْلَحَك اللَّهُ - بَيْنَ أَنْ يَتِمَّ الْكَلَامُ الْعَامُّ الْمُطْلَقُ فَيُسْكَتُ عَلَيْهِ ثُمَّ يُعَارَضُ مَفْهُومٌ خَاصٌّ أَوْ مُقَيَّدٌ، وَبَيْنَ أَنْ يُوصَلَ بِمَا يُقَيِّدُهُ وَيُخَصِّصُهُ. أَلَسْت تَعْلَمُ أَنَّ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا؟ فَإِنَّهُ لَوْ حَلَفَ وَسَكَتَ سُكُوتًا طَوِيلًا، ثُمَّ وَصَلَهُ بِاسْتِئْنَاءٍ أَوْ عَطْفٍ أَوْ وَصْفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُؤَثِّرْ. فَلَوْ

قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُسَافِرُ، ثُمَّ سَكَتَ سُكُوتًا طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ. أَوْ قَالَ: إلَى الْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ. أَوْ قَالَ: وَلَا أَتَزَوَّجُ. أَوْ قَالَ: لَا أُسَافِرُ رَاجِلًا. لَمْ تَتَقَيَّدْ الْيَمِينُ بِذَلِكَ. وَلَوْ حَلَفَ مَرَّةً: لَا أُسَافِرُ، ثُمَّ حَلَفَ مَرَّةً ثَانِيَةً: لَا يُسَافِرُ رَاجِلًا. لَمْ تُقَيَّدْ الْيَمِينُ الْأُولَى بِقَيْدِ الثَّانِيَةِ. وَلَوْ قَالَ: لَا أُسَافِرُ رَاجِلًا. لَتَقَيَّدَتْ يَمِينُهُ بِذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ. فَلَمَّا قَالَ هُنَا: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِذَوِي طَبَقَتِهِ: صَارَ الْمَعْنَى وَقَفْت وَقْفًا مُقَيَّدًا بِهَذَا الْقَيْدِ الْمُتَضَمِّنِ انْتِقَالَ نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى إلَى أَهْلِ طَبَقَتِهِ بِشَرْطِ عَدَمِ وَلَدِهِ. وَصَارَ مِثْلُ هَذَا أَنْ يَقُولَ: وَقَفْت عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي وَنَسْلِي وَعَقِبِي: عَلَى أَنَّ الْأَوْلَادَ يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْوَقْفَ بَعْدَ مَوْتِ آبَائِهِمْ. أَفَلَيْسَ كُلُّ فَقِيهٍ يُوجِبُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَوْلَادِ مَشْرُوطٌ بِمَوْتِ الْآبَاءِ؟ وَأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي اقْتَضَى التَّشْرِيكَ؟ وَيُوَضِّحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي قَدْ يُظَنُّ أَنَّهَا مِثْلُ هَذِهِ أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ: لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْمَسَاكِينِ شَيْءٌ حَتَّى يَمُوتَ الثَّلَاثَةُ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. فَلَوْ قَالَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: وَقَفْت عَلَى زَيْدٍ وَعُمَرَ وَبَكْرٍ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ الثَّلَاثَةِ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى الْآخَرَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِ الْوَقْفِ مِسْكِينٌ. أَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ الثَّلَاثَةِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَسَاكِينِ أَحَدٌ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى الْآخَرَيْنِ. أَوْ يَقُولُ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ الثَّلَاثَةِ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى الْآخَرَيْنِ إنْ كَانَا فَقِيرَيْنِ. أَوْ إنْ كَانَا مُقِيمَيْنِ بِبَلَدِ الْوَقْفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. أَفَلَيْسَ كُلُّ فَقِيهٍ؛ بَلْ كُلُّ عَاقِلٍ يَقْضِي بِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْبَاقِينَ لِنَصِيبِ الْمُتَوَفَّى مَشْرُوطٌ بِهَذَا الشَّرْطِ؟ وَأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يَتِمُّ بِآخِرِهِ، وَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ الْكَلَامِ الْمُقَيَّدِ دُونَ مُطْلَقِهِ، وَهَذَا مِمَّا قَدْ اضْطَرَّ اللَّهُ الْعُقَلَاءَ إلَى مَعْرِفَتِهِ، إلَّا أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الْبَصِيرَةِ وَبَيْنَ الْإِدْرَاكِ مَانِعٌ، فَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ. وَمَسْأَلَتُنَا أَوْضَحُ مِنْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: وَقْفٌ عَلَى أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ، عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَهُوَ عَدْلٌ انْتَقِلْ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِهِ. فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ الْوَقْفُ إلَى الْوَلَدِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَيِّتُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، وَسَوَاءٌ كَانَ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا فَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ

لِانْدِرَاجِهِ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ قِيلَ لَهُ: اللَّفْظُ الْعَامُّ لَمْ يَنْقَطِعُ وَيُسْكَتُ عَلَيْهِ حَتَّى يُعْمَلَ بِهِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْصُولٌ بِمَا قَيَّدَهُ وَخَصَّصَهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ بَعْضُ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ دُونَ بَعْضٍ، وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ فَلَقِ الصُّبْحِ؛ وَلَكِنْ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْهَرَ الْمُتَكَلِّمَ فِي هَذَا فَالْكَثِيرُ مِنْ النَّظَائِرِ الَّتِي يَصِلُ فِيهَا الْكَلَامُ الْعَامُّ أَوْ الْمُطْلَقُ بِمَا يَخُصُّهُ وَيُقَيِّدُهُ: مِثْلُ أَنْ تَقُولَ: وَقَفْت عَلَى الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَنْ حَضَرَ الدَّرْسَ صَبِيحَةَ كُلِّ يَوْمٍ اسْتَحَقَّ. أَوْ وَقَفْت عَلَى الْفُقَرَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَنْ جَاوَرَ بِالْحَرَمَيْنِ مِنْهُمْ اسْتَحَقَّ. أَوْ تَقُولُ: عَلَى أَنْ يُجَاوِرَ بِأَحَدِ الْحَرَمَيْنِ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَشْهَدُونَ الدَّرْسَ فِي كُلِّ غَدَاةٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ النَّظَائِرِ الَّتِي تَفُوتُ الْعَدَدَ وَالْإِحْصَاءَ. وَمِمَّا يَغْلَطُ فِيهِ بَعْضُ الْأَذْهَانِ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَحْسِبَ أَنَّ بَيْنَ أَوَّلِ الْكَلَامِ وَآخِرِهِ تَنَاقُضًا أَوْ تَعَارُضًا. وَهَذَا شُبْهَةٌ مِنْ شُبُهَاتِ بَعْضِ الطَّمَاطِمِ مِنْ مُنْكِرِي الْعُمُومِ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الصِّيَغُ عَامَّةً لَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رُجُوعًا أَوْ نَقْضًا. وَهَذَا جَهْلٌ؛ فَإِنَّ أَلْفَاظَ الْعَدَدِ نُصُوصٌ مَعَ جَوَازِ وُرُودِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] وَكَذَلِكَ النَّكِرَةُ فِي الْمُوجِبِ مُطْلَقَةٌ مَعَ جَوَازِ تَقْيِيدِهَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] . وَإِنَّمَا أُتِيَ هَؤُلَاءِ مِنْ حَيْثُ تَوَهَّمُوا أَنَّ الصِّيَغَ إذَا قِيلَ: هِيَ عَامَّةٌ: قِيلَ: إنَّهَا عَامَّةٌ مُطْلَقًا. وَإِذَا قِيلَ: إنَّهَا عَامَّةٌ مُطْلَقًا، ثُمَّ رَفَعَ بِالِاسْتِثْنَاءِ بَعْضَ مُوجِبِهَا: فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ الْمَرْفُوعِ الْعُمُومُ الْمُثْبِتُ لَهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ النَّافِي لَهُ. وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ، أَوْ رُجُوعٌ. فَيُقَالُ لَهُمْ: إذَا قِيلَ: هِيَ عَامَّةٌ فَمِنْ شَرْطِ عُمُومِهَا أَنْ تَكُونَ مُنْفَصِلَةً عَنْ صِلَةٍ مُخَصِّصَةٍ، فَهِيَ عَامَّةٌ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ لَا عَامَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهُ بِحَسَبِ إطْلَاقِهِ وَتَقْيِيدِهِ؛ وَلِهَذَا أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ: لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ النَّقْدِ الْفُلَانِيِّ. أَوْ مُكَسَّرَةٌ، وَسُودٌ، أَوْ نَاقِصَةٌ، أَوْ طَبَرِيَّةٌ، أَوْ أَلْفٌ إلَّا خَمْسِينَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ: كَانَ مُقِرًّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ الْمُقَيِّدَةِ. وَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رُجُوعًا لَمَا قُبِلَ فِي الْإِقْرَارِ؛ إذْ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُ الْمُقِرِّ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.

وَكَثِيرًا مَا قَدْ يَغْلَطُ بَعْضُ الْمُتَطَرِّفِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، فَإِنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ شَرْطِ وَاقِفٍ، أَوْ يَمِينِ حَالِفٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَيَرَى أَوَّلَ الْكَلَامِ مُطْلَقًا أَوْ عَامًّا، وَقَدْ قُيِّدَ فِي آخِرِهِ. فَتَارَةً يَجْعَلُ هَذَا مِنْ بَابِ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ، وَيَحْكُمُ عَلَيْهِمَا بِالْأَحْكَامِ الْمَعْرُوفَةِ لِلدَّلَائِلِ الْمُتَعَارِضَةِ مِنْ التَّكَافُؤِ وَالتَّرْجِيحِ، وَتَارَةً يَرَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُتَنَاقِضٌ؛ لِاخْتِلَافِ آخِرِهِ، وَأَوَّلِهِ، وَتَارَةً يَتَلَدَّدُ تَلَدُّدَ الْمُتَحَيِّرِ، وَيَنْسِبُ الشَّاطِرَ إلَى فِعْلِ الْمُقَصِّرِ. وَرُبَّمَا قَالَ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ الْكَاتِبِ. وَكُلُّ هَذَا مُنْشَؤُهُ مِنْ عَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ وَالْكَلَامِ الْمُنْفَصِلِ. وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ أَوَّلِ كَلَامِهِ حَتَّى يَسْكُتَ سُكُوتًا قَاطِعًا، وَإِنَّ الْكَاتِبَ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ كِتَابِهِ حَتَّى يَفْرَغَ فَرَاغًا قَاطِعًا: زَالَتْ عَنْهُ كُلُّ شُبْهَةٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَعُلِمَ صِحَّةُ مَا تَقُولُهُ الْعُلَمَاءُ فِي دَلَالَاتِ الْخِطَابِ. وَمِنْ أَعْظَمِ التَّقْصِيرِ نِسْبَةُ الْغَلَطِ إلَى الْمُتَكَلِّمِ مَعَ إمْكَانِ تَصْحِيحِ كَلَامِهِ، وَجَرَيَانِهِ عَلَى أَحْسَنِ أَسَالِيبِ كَلَامِ النَّاسِ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ أَحَدُ الْمَوْضِعَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِالْغَلَطِ دُونَ الْآخَرِ، فَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ. غَلِطَ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَوْلَى مِنْ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُ: " ثُمَّ " هُوَ الْغَلَطُ؛ فَإِنَّ الْغَلَطَ فِي تَبْدِيلِ حَرْفٍ بِحَرْفٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَاتِبِ أَوْلَى مِنْ الْغَلَطِ بِذِكْرِ عِدَّةِ كَلِمَاتٍ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ، وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ، وَلَا نَسْلٍ، وَلَا عَقِبٍ، مُشْتَمِلٌ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ كَلِمَاتٍ. ثُمَّ مِنْ الْعَجَبِ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا تَوْكِيدٌ؛ وَالْمُؤَكِّدُ إنَّمَا يُزِيحُ الشُّبْهَةَ؛ فَكَانَ قَوْلُهُ: مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ. أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ. إذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْبَابَيْنِ وَاحِدًا، وَقُصِدَ التَّوْكِيدُ؛ فَإِنَّ نَقْلَ نَصِيبِ الْمَيِّتِ إلَى إخْوَتِهِ مَعَ وَلَدِهِ تَنْبِيهٌ عَلَى نَقْلِهِ إلَيْهِمْ مَعَ عَدَمِهِمْ. إمَّا أَنْ يَكُونَ التَّوْكِيدُ بِبَيَانِ الْحُكْمِ الْجَلِيِّ دُونَ الْخَفِيِّ فَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ حُدُودِ الْعَقْلِ وَالْكَلَامِ. ثُمَّ التَّوْكِيدُ لَا يَكُونُ بِالْأَوْصَافِ الْمُقَيِّدَةِ لِلْمَوْصُوفِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: أَكْرِمْ الرِّجَالَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ: أَرَدْت إكْرَامَ جَمِيعِ الرِّجَالِ، وَخَصَصْت الْمُسْلِمِينَ بِالذِّكْرِ تَوْكِيدًا، وَذِكْرُهُمْ لَا يَنْفِي غَيْرَهُمْ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِي الِاسْمِ الْأَوَّلِ: لَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ سَاقِطًا غَيْرَ مَقْبُولٍ أَصْلًا؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ صِفَةُ الرِّجَالِ ؛ وَالصِّفَةُ تُخَصِّصُ الْمَوْصُوفَ. فَلَا يَبْقَى فِيهِ عُمُومٌ؛ لَكِنْ لَوْ قَالَ: أَكْرِمْ الرِّجَالَ وَالْمُسْلِمِينَ - بِحَرْفِ الْعَطْفِ، مَعَ اتِّفَاقِ الْحُكْمِ فِي الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَكَوْنِهِ بَعْضَهُ - لَكَانَ

تَوْكِيدًا؛ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ لَا يَجِبُ أَنْ يُقَيِّدَ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ وَيُخَصِّصَهُ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُغَايَرَةِ الْحَاصِلَةِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ؛ بِخِلَافِ الصِّفَاتِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهَا مُقَيِّدَةٌ؛ وَكَذَلِكَ بَعْضُ أَنْوَاعِ الْعَطْفِ؛ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْعَطْفِ الْمُغَيِّرِ وَغَيْرِ الْمُغَيِّرِ فِي " بَابِ الْإِقْرَارِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعُقُودِ ". وَمَنْ رَامَ أَنْ يَجْعَلَ الْكَلَامَ مَعْنًى صَحِيحًا قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ لَزِمَهُ أَنْ يَجْعَلَ أَوَّلَ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ كُفْرًا وَآخِرَهَا إيمَانًا؛ وَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَا قَدْ كَفَرَ؛ ثُمَّ آمَنَ. فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا الْخَبَالِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ قَالَ: مَا كَلِمَةٌ أَوَّلُهَا كُفْرٌ وَآخِرُهَا إيمَانٌ؟ فَقِيلَ لَهُ: مَا هِيَ؟ فَقَالَ: كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ. قُلْت قَصَدَ بِذَلِكَ أَنَّ أَوَّلَهَا لَوْ سُكِتَ عَلَيْهِ كَانَ كُفْرًا؛ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهَا كُفْرٌ مَعَ اتِّصَالِهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ هَذَا لَكَانَ قَدْ كَفَرَ. وَلِهَذَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ بِمَا عَدَا الْمُسْتَثْنَى. وَغَلِطَ بَعْضُهُمْ فَظَنَّ أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَلْفٌ إلَّا خَمْسِينَ. كَانَتْ الْأَلْفُ مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِجُمْلَةِ الْعَدَدِ؛ وَلَمْ يُرِدْ الْمُتَكَلِّمُ ذَلِكَ. فَيُقَالُ لَهُ: هُوَ مَوْضُوعٌ لَهُ إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا عَنْ صِلَةٍ؛ وَذَلِكَ الشَّرْطُ قَدْ زَالَ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: إنَّمَا فُهِمَ الْمَعْنَى هُنَا بِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ: أَلْفٌ إلَّا خَمْسِينَ؛ لَا بِنَفْسِ الْأَلْفِ. فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الدَّالَّةَ عَلَى تِسْعمِائَةٍ وَخَمْسِينَ. وَهَذِهِ شُبْهَةُ مَنْ رَأَى أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ تَخْصِيصًا مُتَّصِلًا مَجَازًا. كَالْعَامِّ الْمَخْصُوصِ تَخْصِيصًا مُنْفَصِلًا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ. وَسِيَاقُ هَذَا الْقَوْلِ يُوجِبُ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ أَوْ فِعْلٍ وُصِلَ بِوَصْفٍ: أَوْ عَطْفِ بَيَانٍ؛ أَوْ بَدَلٍ؛ أَوْ أَحَدِ الْمَفْعُولَاتِ الْمُقَيِّدَةِ، أَوْ الْحَالِ، أَوْ التَّمْيِيزِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ: كَانَ اسْتِعْمَالُهُ مَجَازًا. وَفَسَادُ هَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَرِينَةِ اللَّفْظِيَّةِ الْمُتَّصِلَةِ بِاللَّفْظِ الدَّالَّةِ بِالْوَضْعِ وَبَيْنَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ مِنْ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ وَالْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ بِالْوَضْعِ - كَقَوْلِهِ: رَأَيْت أَسَدًا يَكْتُبُ، وَبَحْرًا رَاكِبًا فِي الْبَحْرِ - وَبَيْنَ الْأَلْفَاظِ الْمُنْفَصِلَةِ مَعْلُومٌ يَقِينًا مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ. وَمَعَ هَذَا فَلَا رَيْبَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُقَلَاءِ أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يَتِمُّ بِآخِرِهِ؛ وَأَنَّ دَلَالَتَهُ إنَّمَا تُسْتَفَادُ بَعْدَ تَمَامِهِ وَكَمَالِهِ؛ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُهُ دَالًّا دُونَ آخِرِهِ؛ سَوَاءٌ سُمِّيَ أَوَّلُهُ حَقِيقَةً، أَوْ مَجَازًا وَلَا أَنْ يُقَالَ: إنَّ أَوَّلَهُ يُعَارِضُ آخِرَهُ. فَإِنَّ التَّعَارُضَ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ. وَالْكَلَامُ الْمُتَّصِلُ كُلُّهُ دَلِيلٌ وَاحِدٌ، فَالْمُعَارَضَةُ بَيْنَ أَبْعَاضِهِ كَالْمُعَارَضَةِ بَيْنَ أَبْعَاضِ الْأَسْمَاءِ الْمُرَكَّبَةِ.

وَهَذَا كَلَامٌ بَيِّنٌ، خُصُوصًا فِي بَابِ الْوُقُوفِ فَإِنَّ الْوَاقِفَ يُرِيدُ أَنْ يَشْرِطَ شُرُوطًا كَثِيرَةً فِي الْمَوْقُوفِ وَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ: مِنْ الْجَمْعِ، وَالتَّرْتِيبِ وَالتَّسْوِيَةِ، وَالتَّفْصِيلِ، وَالْإِطْلَاقِ، وَالتَّقَيُّدِ: يَحْتَمِلُ سِجِلًّا كَبِيرًا. ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ مُسْلِمٌ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ أَوَّلِ كَلَامِهِ إطْلَاقًا وَعُمُومًا وَإِلْغَاءُ آخِرِهِ، أَوْ يُجْعَلُ مَا قَيَّدَهُ وَفَصَّلَهُ وَخَصَّصَهُ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مُنَاقِضًا أَوْ مُعَارِضًا لِمَا صَدَّرَ بِهِ كَلَامَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُطْلَقَةِ أَوْ الْعَامَّةِ؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا مِثْلُ رَجُلٍ نَظَرَ فِي وَقْفٍ قَدْ قَالَ وَاقِفُهُ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَمِنْ شَرْطِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ أَوْ عُدُولًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ: فَقَالَ: هَذَا الْكَلَامُ مُتَعَارِضٌ: لِأَنَّهُ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ قَدْ وَقَفَ عَلَى الْجَمِيعِ وَهَذَا مُنَاقِضٌ لِتَخْصِيصِ الْبَعْضِ، ثُمَّ يَجْعَلُ هَذَا مِنْ بَابِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَمِنْ بَابِ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ خَبْطٌ؛ إذْ التَّعَارُضُ فَرْعٌ عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالدَّلَالَةِ، وَالِاسْتِقْلَالُ بِالدَّلَالَةِ فَرْعٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْكَلَامِ وَانْفِصَالِهِ، فَأَمَّا مَعَ اتِّصَالِهِ بِمَا يُغَيِّرُ حُكْمَهُ فَلَا يَجُوزُ جَعْلُ بَعْضِهِ دَلِيلًا مُخَالِفًا لِبَعْضٍ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يُوَفِّقُنَا وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَرَطَهُ الْوَاقِفُ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْوَقْفَ يَنْتَقِلُ إلَى مَنْ بَقِيَ؛ وَأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ فِي وَسَطِهِ؛ فَإِنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَدْ خَرَجَ فِي قَوْلِهِ: عَلَى وَلَدِي، ثُمَّ عَلَى وَلَد وَلَدِي إذَا مَاتَ أَحَدُهُمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ؛ كَالْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي قَوْلِهِ: عَلَى أَوْلَادِي الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ. أَحَدُهَا - وَهُوَ الْمَشْهُورُ - أَنَّهُ يَكُونُ لِلْبَاقِينَ مِنْ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إلَى الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ؛ كَمَا لَوْ انْقَرَضَتْ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَكُون مَسْكُوتًا. فَيَكُونُ مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ؛ كَمَا لَوْ قَالَ: وَقَفْته عَلَى زَيْدٍ: وَبَعْدَ مَوْتِهِ بِعَشْرِ سِنِينَ عَلَى الْمَسَاكِينِ. وَإِذَا كَانَ انْقِطَاعُهُ فِي وَسَطٍ عِنْدَ مَوْتِ الْوَاحِدِ مُحْتَمِلًا، فَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِفُ هَذَا الشَّرْطَ لِيَنْفِيَ هَذَا الِاحْتِمَالَ وَإِنْ كَانَ هَذَا الشَّرْطُ مُقْتَضَى الْوَقْفِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ؛ ثُمَّ مِنْ الشُّرُوطِ مَا يَكُونُ مُطَابِقًا لِمُقْتَضَى الْمَدْلُولِ؛ فَيَزِيدُ مُوجِبَهَا تَوْكِيدًا. قُلْنَا: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ هَذَا كَلَامُ مَنْ قَدْ نَأَى عَنْ مَوْضِعِ اسْتِدْلَالِنَا، فَإِنَّا لَمْ

نَسْتَدِلَّ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ الْمُطْلَقَةِ؛ فَإِنَّمَا اسْتَدْلَلْنَا بِمَا تَضَمَّنَهُ الشَّرْطُ مِنْ التَّقْيِيدِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ جَيِّدٌ لَوْ كَانَ الْوَاقِفُ قَالَ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى ذَوِي طَبَقَتِهِ. وَلَوْ قَالَ هَذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ شُبْهَةُ أَنَّ نَصِيبَ الْمَيِّتِ يَنْتَقِلُ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ مَعَ الْوَلَدِ وَعَدَمُهُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ. مِنْهَا: أَنَّ هَذَا هُوَ مُوجَبُ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يُوصَلْ بِمَا يُغَيِّرُهُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ وُصِلَ بِمَا وَكَّدَ مُوجَبَ مُطْلَقِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَدْ شَرَطَ ذَلِكَ شَرْطًا نَفَى بِهِ الصَّرْفَ إلَى الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ وَنَفَى بِهِ الِانْقِطَاعَ، سَوَاءٌ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَإِنَّمَا صُورَةُ مَسْأَلَتِنَا أَنَّهُ قَالَ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِذَوِي طَبَقَتِهِ. فَجُعِلَ الِانْتِقَالُ إلَيْهِمْ مَشْرُوطًا بِمَوْتِ الْمَيِّتِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ. وَهَذَا الشَّرْطُ - كَمَا أَنَّهُ قَدْ نُفِيَ بِهِ الِانْقِطَاعُ فَقَدْ قُيِّدَ بِهِ الِانْتِقَالُ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ، وَاللَّفْظُ دَالٌّ عَلَيْهِمَا دَلَالَةً صَرِيحَةً فَإِفَادَتُهُ لِإِحْدَاهُمَا لَا تَنْفِي إفَادَتَهُ لِلْأُخْرَى، كَمَا لَوْ قَالَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي الثَّلَاثَةِ ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ: عَلَى أَنَّهُ مِنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِي حَيَاة الْوَاقِف صُرِفَ نَصِيبُهُ إلَى مَنْ فِي دَرَجَتِهِ. فَهَلْ يَجُوز أَنْ يَصْرِفَ نَصِيبَهُ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ إذَا مَاتَ بَعْد مَوْتِ الْوَاقِفِ. هَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إنَّهُ مَسْكُوتٌ عَنْ مَوْتِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْوَاقِفِ، فَيَكُونُ مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ. وَالصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ النَّاس قَدِيمًا وَحَدِيثًا: إنَّهُ يَكُون لِلْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ اقْتَضَى جَعْلَهُ لِلثَّلَاثَةِ؛ ثُمَّ لِلْمَسَاكِينِ، فَحَيْثُ لَمْ يُصْرَفْ إلَى الثَّلَاثَةِ تَعَيَّنَ صَرْفُهُ إلَى الْمَسَاكِينِ، لَحَصْرِ الْوَاقِفِ الْوَقْفَ فِيهَا، مَعَ أَنْ بَحْثَ مَسْأَلَتِنَا أَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ كَمَا تَقَدَّمَ؛ بَلْ لَوْ فُرِضَ أَنْ قَائِلًا قَدْ قَالَ: إذَا مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ يَكُونُ مُنْقَطِعًا، وَإِذَا مَاتَ عَنْ وَلَدٍ لَمْ يَكُنْ: لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الشَّرْطُ لِنَفْيِ احْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ دَالٌّ عَلَى التَّقْيِيدِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صَرْفِ نَصِيبِ الْمَيِّتِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ إلَى طَبَقَتِهِ، وَعَلَى عَدَمِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ مَعَ الْوَلَد. فَالدَّلَالَةُ الْأُولَى تَنْفِي الِانْقِطَاعَ، وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ تُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا. بَلْ الْأُولَى حَصَلَتْ مِنْ وَضْعِ هَذَا اللَّفْظِ، وَالثَّانِيَةُ حَصَلَتْ مِنْ مَجْمُوعِ الشَّرْطِ أَوْ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ؛ فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ؟

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا نَفْيٌ لِلِاحْتِمَالِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْفِهِ فِي أُخْرَى قُلْنَا: هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إنْ لَوْ لَمْ تَكُنْ الصُّورَةُ الْمَذْكُورَةُ مُقَيِّدَةً لِلَّفْظِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ. مُطْلَقٌ، وَقَدْ قَيَّدَهُ: عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ. وَفِي مِثْلِ هَذَا لَا يُقَالُ: ذِكْرُ صُورَةٍ وَتَرْكُ أُخْرَى؛ إلَّا إذَا كَانَ الْكَلَامُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِغَيْرِهِ؛ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْكَلَامُ مُتَّصِلًا بِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ قَيْدًا فِي ذَلِكَ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ. نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَيْضًا؛ وَالْحَالُ صِفَةٌ، وَالصِّفَةُ مُقَيِّدَةٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بِشَرْطِ أَنَّهُ مَنْ كَانَ مَوْتُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ؛ أَوْ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ نَصِيبُ الْمَيِّتِ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ، وَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الِانْتِقَالَ الْمَشْرُوطَ بِصِفَةٍ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِدُونِ تِلْكَ الصِّفَةِ. فَقَوْلُهُ: عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ. صِفَةٌ لِمَوْتِ الْمَيِّتِ؛ وَالِانْتِقَالُ إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ صِفَةٌ لِلْوَقْفِ، وَالْوَقْفُ الْمَوْصُوفُ بِصِفَةٍ، وَتِلْكَ الصِّفَةُ مَوْصُوفَةٌ بِأُخْرَى: لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ إلَّا مَعَ وُجُودِ الصِّفَةِ وَصِفَةِ الصِّفَةِ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَقْفًا عَلَى الْأَوْلَادِ؛ ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ؛ إلَّا بِشَرْطِ انْتِقَالِ نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ. وَلَا يَجُوزُ نَقْلُ نَصِيبِ الْمَيِّتِ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ إلَّا بِشَرْطِ مَوْتِهِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ أَوْ وَلَدِ وَلَدٍ أَوْ نَسْلٍ أَوْ عَقِبٍ؛ حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ - وَإِنْ بَعُدَ - كَانَ وُجُودُهَا مَانِعًا مِنْ الِانْتِقَالِ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ، وَمُوجِبًا لِلِانْتِقَالِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: عَلَى أَوْلَادِهِ، ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ. ثُمَّ نَسْلِهِ وَعَقِبِهِ دَائِمًا مَا تَنَاسَلُوا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ لَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ وُجُوهُ فَسَادِهِ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ لِكَثْرَتِهَا. مِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَصْدُهُ مُجَرَّدَ نَفْيِ احْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ لَكَانَ التَّعْمِيمُ بِقَوْلِهِ: مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ. أَوْ التَّنْبِيهُ بِقَوْلِهِ: مَنْ مَاتَ مِنْهُ عَنْ وَلَدٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى ذَوِي طَبَقَتِهِ. هُوَ الْوَاجِبُ؛ فَإِنَّهُ إذَا انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ مَعَ الْوَلَدِ فَمَعَ عَدَمِهِ أَوْلَى. أَمَّا أَنْ يَنُصَّ عَلَى انْتِقَالِهِ إلَيْهِمْ أَيْضًا مَعَ الْوَلَدِ لِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: عَلَى وَلَدِي، ثُمَّ وَلَدِ وَلَدِي؛ مَعَ أَنَّ احْتِمَالَ الِانْقِطَاعِ هُنَا قَائِمٌ مَعَ احْتِمَالٍ آخَرَ يَنْفَرِدُ بِهِ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ إلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ انْتِقَالِهِ إلَى وَلَدِ الْوَلَدِ هُنَا أَظْهَرُ مِنْ احْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ، وَمَعَ أَنَّ فَهْمَ التَّخْصِيصِ مَعَ التَّقْيِيدِ أَظْهَرُ مِنْ فَهْمِ الِانْقِطَاعِ، وَمَعَ أَنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِ: عَلَى وَلَدِ وَلَدِي. فِي الِانْتِقَالِ إلَى الطَّبَقَةِ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ أَظْهَرُ مِنْ دَلَالَتِهِ فِي الِانْتِقَالِ إلَيْهِمْ مَعَ وُجُودِ

الْوَلَدِ. فَقَدْ أَرَادَ مِنَّا أَنْ نَفْهَمَ الْكَلَامَ الْمَقْلُوبَ، وَنَخْرُجَ عَنْ حُدُودِ الْعَقْلِ وَالْبَيَانِ؛ فَإِنَّ تَرْكَهُ لِرَفْعِ احْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ وَغَيْرِهِ فِيمَا هُوَ فِيهِ أَظْهَرُ، وَعُدُولُهُ عَنْ الْعِبَارَةِ الْمُحَقِّقَةِ لِنَفْيِ الِانْقِطَاعِ مُطْلَقًا بِلَا لَبْسٍ إلَى عِبَارَةٍ هِيَ فِي التَّقْيِيدِ أَظْهَرُ مِنْهَا فِي مُجَرَّدِ نَفْيِ انْقِطَاعِ بَعْضِ الصُّوَرِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ. وَنَظِيرُ هَذَا رَجُلٌ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَكْرِمْ زَيْدًا إنْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا فَأَكْرِمْهُ. وَكَانَ غَيْرَ صَالِحٍ فَلَمْ يُكْرِمْهُ الْغُلَامُ. فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: عَصَيْت أَمْرِي. أَلَمْ آمُرْك بِإِكْرَامِهِ؟ قَالَ: قَدْ قُلْت لِي: إنْ كَانَ صَالِحًا فَأَكْرِمْهُ، قَالَ: إنَّمَا قُلْت هَذَا، لِئَلَّا تَتَوَهَّمَ أَنِّي أَبْغَضُ الصَّالِحِينَ فَلَا تُكْرِمُهُ مَعَ صَلَاحِهِ، فَنَفَيْت احْتِمَالَ التَّخْصِيصِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. فَهَلْ يُقْبَلُ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ عَاقِلٍ أَوْ يُنْسَبُ الْغُلَامُ إلَى تَفْرِيطٍ، أَوْ يَقُولُ لِلسَّيِّدِ: هَذِهِ الْعِبَارَةُ دَالَّةٌ عَلَى التَّخْصِيصِ وَلَوْ كُنْت مُثْبِتًا لِلتَّعْمِيمِ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ تَقُولَ: أَكْرِمْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَالِحًا؛ لِأَنَّ إكْرَامَ الصَّالِحِ يَصِيرُ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ؛ أَوْ أَكْرِمْهُ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا إنْ كَانَ حُبًّا لَك صَحِيحًا؟ وَكَذَا هُنَا يَقُولُ الْمُنَازِعُ: هُوَ نَقَلَهُ إلَى الطَّبَقَةِ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. فَإِذَا قِيلَ لَهُ: فَلِمَ قَيَّدَ النَّقْلَ بِقَوْلِهِ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى الطَّبَقَةِ؟ قَالَ: لِيَنْفِيَ احْتِمَالَ الِانْقِطَاعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ دُونَ الصُّورَةِ الَّتِي هِيَ أَوْلَى بِنَفْيِ الِانْقِطَاعِ فِيهَا. فَيُقَالُ لَهُ: كَانَ الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ فِي مِثْلِ هَذَا: عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ وَإِنْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى مَنْ فِي دَرَجَتِهِ. أَوْ يَقُولُ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ. فَيَأْتِي بِحَرْفِ الْعَطْفِ. أَمَّا إذَا قَالَ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ. فَهَذَا نَصٌّ فِي التَّقْيِيدِ لَا يُقْبَلُ غَيْرُهُ، وَمَنْ تَوَهَّمَ غَيْرَ هَذَا أَوْ جَوَّزَهُ وَلَوْ عَلَى بُعْدٍ أَوْ جَوَّزَ لِعَاقِلٍ أَنْ يُجَوِّزَهُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ نِعْمَةِ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى الْإِنْسَانِ حَيْثُ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ. وَمَا ظَنِّي أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ وَفِطْرَتَهُ تُوُهِّمَ هَذَا وَلَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لِلْفِطَرِ آفَاتٌ تَصُدُّهَا عَنْ سَلَامَتِهَا، كَمَا نَطَقَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَنْفِي احْتِمَالًا بَعِيدًا بِإِثْبَاتِ احْتِمَالٍ أَظْهَرَ مِنْهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ سَكَتَ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ لَكَانَ احْتِمَالُ الِانْقِطَاعِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، فَإِنَّهُ إمَّا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، أَوْ مَعْدُودٌ مِنْ الْوُجُوهِ السُّودِ. وَإِذَا ذُكِرَ الشَّرْطُ صَارَ احْتِمَالُ التَّقْيِيدِ وَتَرْتِيبُ التَّوْزِيعِ احْتِمَالًا قَوِيًّا؛ إمَّا ظَاهِرًا عِنْدَ الْمُنَازِعِ؛ أَوْ قَاطِعًا عِنْدَ غَيْرِهِ. فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ

يُحْمَلَ كَلَامُ الْوَاقِفِ عَلَى الْمَنْهَجِ الذَّمِيمِ دُونَ الطَّرِيقِ الْحَمِيدِ مَعَ إمْكَانِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ لَا يَتَفَطَّنُ لَهُ إلَّا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يُخْلَقْ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا مِنْ زَمَنٍ قَرِيبٍ، وَاحْتِمَالُ التَّقْيِيدِ أَمْرٌ لُغَوِيٌّ مَوْجُودٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. فَكَيْفَ يُحْمَلُ كَلَامُ وَاقِفٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ احْتِمَالٍ لَا يَخْطِرُ إلَّا بِقَلْبِ الْفَرْدِ مِنْ النَّاسِ بَعْدَ الْفَرْدِ. وَلَعَلَّهُ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِ الْوَاقِفِ؛ دُونَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ احْتِمَالٍ قَائِمٍ بِقَلْبِ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ، أَوْ غَالِبِ الْمُتَكَلِّمِينَ: مُنْذُ عُلِّمَ آدَم الْبَيَانَ. وَمِنْهَا أَنَّ الْوَاقِفَ إذَا كَانَ قَصْدُهُ نَفْيَ احْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِقَوْلِهِ: عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ. أَيْضًا صَالِحٌ لَأَنْ يَكُونَ نَفَى بِهِ احْتِمَالَ الِانْقِطَاعِ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى، وَيَكُونُ نَفْيُ احْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ فِيهَا بِانْتِقَالِ نَصِيبِ مَنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ إلَى وَلَدِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا فِيهِ صَوْنُ هَذَا التَّقْيِيدِ عَنْ الْإِلْغَاءِ، وَرَفْعٌ لِلِانْقِطَاعِ فِي الصُّورَتَيْنِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَمْلَ كَلَامِ الْوَاقِفِ عَلَى هَذَا أَحْسَنُ مِنْ جَعْلِهِ مُهْدَرًا مَبْتُورًا. وَمِنْهَا: أَنَّ هَذَا الْمَقْصُودَ كَانَ حَاصِلًا عَلَى التَّمَامِ لَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ. فَزِيَادَةُ اللَّفْظِ وَنَقْصُ الْمَعْنَى خَطَأً لَا يَجُوزُ حَمْلُ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَيْهِ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ هُنَا كَذَلِكَ. وَمِنْهَا: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: عَلَى أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ. مُقْتَضٍ لِتَرْتِيبِ الْمَجْمُوعِ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَهَذَا الِاقْتِضَاءُ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ وَصْلِ اللَّفْظِ بِمَا يُقَيِّدُهُ؛ فَإِنَّهُ إذَا وُصِلَ بِمَا يُقَيِّدُهُ وَيَقْتَضِي تَرْتِيبَ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ: مِثْلُ قَوْلِهِ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ. وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ كَانَ ذَلِكَ الِاقْتِضَاءُ مُنْتَفِيًا بِالِاتِّفَاقِ. وَهَذَا اللَّفْظُ وَهُوَ قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ. ظَاهِرٌ فِي تَقْيِيدِ الِانْتِقَالِ بِعَدَمِ الْوَلَدِ، وَإِنَّمَا يَصْرِفُهُ مَنْ يَصْرِفُهُ عَنْ هَذَا الظُّهُورِ لِمُعَارَضَةِ الْأَوَّلِ لَهُ، وَشَرْطُ كَوْنِ الْأَوَّلِ دَلِيلًا عَدَمُ الصِّلَةِ الْمُغَيِّرَةِ، فَيَدُورُ الْأَمْرُ فَتَبْطُلُ الدَّلَالَةُ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ كَوْنُ الْأَوَّلِ مُقْتَضِيًا لِتَرْتِيبِ الْمَجْمُوعِ إلَّا مَعَ الِانْقِطَاعِ عَنْ الْمُغَيِّرِ، وَلَا يَثْبُتُ هُنَا الِانْقِطَاعُ عَنْ الْمُغَيِّرِ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى التَّغْيِيرِ؛ بَلْ عَلَى مَعْنًى آخَرَ. وَلَا تَثْبُتُ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى حَتَّى يَثْبُت أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ دَلِيلٌ عَلَى تَرْتِيبِ الْمَجْمُوعِ. وَهَذَا هُوَ الدَّوْرُ، وَهُوَ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الْمَطْلُوبَ مُقَدَّمَةً فِي إثْبَاتِ نَفْسِهِ.

وَمِنْهَا أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ. قَيْدٌ فِي الِانْتِقَالِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالَ: لَيْسَ بِقَيْدٍ. فَهُوَ مُكَابَرَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي اللُّغَةِ. وَإِنْ قَالَ: هُوَ قَيْدٌ، قِيلَ لَهُ: فَيَجُوزُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ الْمُقَيَّدِ بِدُونِ قَيْدِهِ. فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ بِالدَّلِيلِ الْأَوَّلِ. قِيلَ: فَيَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِأَوَّلِ الْكَلَامِ مُطْلَقًا عَمَّا قُيِّدَ بِهِ فِي آخِرِهِ. فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، عُلِمَ أَنَّهُ مُكَابِرٌ. وَإِنْ قَالَ: لَا. ثَبَتَ الْمَطْلُوبُ. وَهَذِهِ مُقَدَّمَاتٌ يَقِينِيَّةٌ، لَا يَقْدَحُ فِيهَا كَوْنُ الْكَلَامِ لَهُ فَوَائِدُ أُخَرُ، وَمَنْ وَقَفَ عَلَيْهَا مُقَدَّمَةً لَمْ يَبْقَ إلَّا مُعَانِدًا أَوْ مُسَلِّمًا لِلْحَقِّ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ إذَا قِيلَ بِأَنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ، وَلَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا إذَا مَاتَ عَنْ وَلَدٍ: كَانَ لِهَذَا السُّؤَالِ وَجْهٌ؛ لَكِنْ يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُنَازِعِ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا مَعَ مَوْتِهِ عَنْ وَلَدٍ فَإِنْ كَانَ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَلَدِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَإِنْ كَانَ يَنْتَقِلُ إلَى الطَّبَقَةِ: فَمُحَالٌ أَنْ يَقُولَ فَقِيهٌ: إنَّهُ يَنْتَقِلُ إلَى الطَّبَقَةِ مَعَ الْوَلَدِ، وَيَكُونُ مُنْقَطِعًا مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ. فَثَبَتَ أَنَّ جَعْلَ هَذَا الْكَلَامِ رَفْعًا لِاحْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى انْتِقَالِ نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى عَنْ وَلَدٍ إلَى وَلَدِهِ. وَدَلَائِلُ هَذَا مِثْلُ الْمَطَرِ وَاَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: عَلَى أَوْلَادِهِ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ. مُقْتَضٍ لِلتَّرْتِيبِ. وَهُوَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ بَعْدَ الْأَوْلَادِ. وَهُنَا جَمْعَانِ: أَحَدُهُمَا مُرَتَّبٌ عَلَى الْآخَرِ. وَالْأَحْكَامُ الْمُرَتَّبَةُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَثْبُتُ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ، سَوَاءٌ قُدِّرَ وُجُودُ الْفَرْدِ الْآخَرِ، أَوْ عَدَمُهُ. وَالثَّانِي: مَا يَثْبُتُ لِمَجْمُوعِ تِلْكَ الْأَفْرَادِ؛ فَيَكُونُ وُجُودُ كُلٍّ مِنْهَا شَرْطًا فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِلْآخَرِ. مِثَالُ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] . وَمِثَالُ الثَّانِي

قَوْله تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] فَإِنَّ الْخَلْقَ ثَابِتٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ؛ وَكُلًّا مِنْهُمْ مُخَاطَبٌ بِالْعِبَادَةِ وَالطَّهَارَةِ؛ وَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ أُمَّةً وَسَطًا. وَلَا خَيْرَ أُمَّةٍ. ثُمَّ الْعُمُومُ الْمُقَابَلُ بِعُمُومٍ آخَرَ قَدْ يُقَابَلُ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ هَذَا بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ هَذَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ آمَنَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ. وَقَدْ يُقَابَلُ الْمَجْمُوعُ بِالْمَجْمُوعِ بِشَرْطِ الِاجْتِمَاعِ مِنْهُمَا؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} [آل عمران: 13] ؛ فَإِنَّ الِالْتِقَاءَ ثَبَتَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا حَالَ اجْتِمَاعِهِمَا. وَقَدْ يُقَابَلُ شَرْطُ الِاجْتِمَاعِ مِنْ أَحَدِهِمَا كَقَوْلِهِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] فَإِنَّ مَجْمُوعَ الْأُمَّةِ خَيْرٌ لِلنَّاسِ مُجْتَمِعِينَ وَمُنْفَرِدِينَ. وَقَدْ يُقَابَلُ الْمَجْمُوعُ بِالْمَجْمُوعِ بِتَوْزِيعِ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعُمُومَيْنِ وَاحِدٌ مِنْ الْعُمُومِ الْآخَرِ، كَمَا يُقَالُ: لَبِسَ النَّاسُ ثِيَابَهُمْ، وَرَكِبَ النَّاسُ دَوَابَّهُمْ. فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ رَكِبَ دَابَّتَهُ، وَلَبِسَ ثَوْبَهُ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: النَّاسُ يُحِبُّونَ أَوْلَادَهُمْ. أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ يُحِبُّ وَلَدَهُ؛ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] . أَيْ: كُلُّ وَالِدَةٍ تُرْضِعُ وَلَدَهَا؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ قُلْت: النَّاسُ يُعَظِّمُونَ الْأَنْبِيَاءَ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُعَظِّمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. فَقَوْلُ الْوَاقِفِ: عَلَى أَوْلَادِهِ؛ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ: قَدْ اقْتَضَى تَرْتِيبَ أَحَدِ الْعُمُومَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الْعُمُومَ الثَّانِيَ بِمَجْمُوعِهِ مُرَتَّبٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْعُمُومِ الْأَوَّلِ وَعَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، فَلَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ الثَّانِي فِي الْوَقْفِ، حَتَّى يَنْقَضِيَ جَمِيعُ أَفْرَادِ الْعُمُومِ الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ تَرْتِيبًا يُوَزَّعُ فِيهِ الْأَفْرَادُ عَلَى الْأَفْرَادِ، فَيَكُونُ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ دَاخِلًا عِنْدَ عَدَمِ وَالِدِهِ؛ لَا عِنْدَ عَدَمِ وَالِدِ

غَيْرِهِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] ، وَقَوْلِهِمْ: النَّاسُ يُحِبُّونَ أَوْلَادَهُمْ. وَاللَّفْظُ صَالِحٌ لِكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَلَاحًا قَوِيًّا؛ لَكِنْ قَدْ يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِأَسْبَابٍ أُخْرَى، كَمَا رَجَّحَ الْجُمْهُورُ تَرْتِيبَ الْكُلِّ عَلَى الْكُلِّ فِي قَوْلِهِ: وَقَفْت عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ. فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْمَسَاكِينِ وَبَيْنَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةِ مُسَاوَاةٌ فِي الْعَدَدِ حَتَّى يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مُرَتَّبًا عَلَى الْآخَرِ، وَلَا مُنَاسَبَةَ تَقْتَضِي أَنْ يُعَيَّنَ لِزَيْدٍ هَذَا الْمِسْكِينَ، وَلِعَمْرٍو هَذَا، وَلِبَكْرٍ هَذَا؛ بِخِلَافِ قَوْلِنَا: النَّاسُ يُحِبُّونَ أَوْلَادَهُمْ؛ فَإِنَّ الْمُرَادَ هُنَا مَنْ لَهُ وَلَدٌ. فَصَارَ أَحَدُ الْعُمُومَيْنِ مُقَاوِمًا لِلْآخَرِ. وَفِي أَوْلَادِهِمْ مِنْ الْإِضَافَةِ مَا اقْتَضَى أَنْ يُعَيِّنَ لِكُلِّ إنْسَانٍ وَلَدَهُ دُونَ وَلَدِ غَيْرِهِ. وَكَمَا يَتَرَجَّحُ الْمَعْنَى الثَّانِي فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلَى آخِرِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُخَاطَبِينَ جَمِيعَ أُمَّهَاتِ الْمُخَاطَبِينَ وَبَنَاتِهِمْ؛ وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أُمَّهُ وَبِنْتَهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] فَإِنَّهُ لَيْسَ لِجَمِيعِ الْأَزْوَاجِ نِصْفُ مَا تَرَكَ جَمِيعُ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ مَا تَرَكَتْ زَوْجَتُهُ فَقَطْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] إنَّمَا مَعْنَاهُ اتَّبَعَ كُلُّ وَاحِدٍ ذُرِّيَّتَهُ؛ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الذُّرِّيَّةِ اتَّبَعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْآبَاءِ. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ: مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: النَّاسُ فِي دِيَارِهِمْ وَمَعَ أَزْوَاجِهِمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَيُنْفِقُونَ عَلَى أَوْلَادِهِمْ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. ثُمَّ الَّذِي يُوَضِّحُ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى قَوِيٌّ فِي الْوَقْفِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَكْثَرَ الْوَاقِفِينَ يَنْقُلُونَ نَصِيبَ كُلِّ وَالِدٍ إلَى وَلَدِهِ، لَا يُؤَخِّرُونَ الِانْتِقَالَ إلَى انْقِضَاءِ الطَّبَقَةِ؛ وَالْكَثْرَةُ دَلِيلُ الْقُوَّةِ؛ بَلْ وَالرُّجْحَانِ. الثَّانِي: أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْأَوْلَادِ يُقْصَدُ بِهِ غَالِبًا أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْرُوثِ الَّذِي لَا

يُمْكِنُ بَيْعُهُ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْأَكْبَرَ انْتِفَاعُ الذُّرِّيَّةِ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُمْ إذْهَابَ عَيْنِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْمِيرَاثِ هُنَا شَبَهًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الِانْتِقَالَ إلَى وَلَدِ الْوَلَدِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْوَلَدِ فِيهِمَا. ثُمَّ مِثْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ لَوْ أُطْلِقَتْ فِي الْمِيرَاثِ كَمَا أَطْلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] لَمَا فُهِمَ مِنْهَا إلَّا مُقَابَلَةُ التَّوْزِيعِ لِلْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ؛ لَا مُقَابَلَةُ الْمَجْمُوعِ بِالْمَجْمُوعِ، وَلَا مُقَابَلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ بِكُلِّ وَاحِدٍ وَلَا مُقَابَلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ بِالْمَجْمُوعِ، كَمَا لَوْ قَالَ الْفَقِيهُ لِرَجُلٍ: مَالُك يَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَتِك، ثُمَّ إلَى وَرَثَتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ يَنْتَقِلُ إلَى وَارِثِهِ. فَلْيَكُنْ قَوْلُهُ: عَلَى أَوْلَادِهِمْ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ كَذَلِكَ؛ إمَّا صَلَاحًا، وَإِمَّا ظُهُورًا. الثَّالِثُ: إنَّ قَوْلَهُ: عَلَى أَوْلَادِهِمْ. مُحَالٌ أَنْ يَحْصُلَ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ مُقَابَلَةُ كُلِّ فَرْدٍ بِكُلِّ فَرْدٍ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْلَادِ لَيْسَ مُضَافًا إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَالِدَيْنِ؛ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: ثُمَّ عَلَى مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْلَادِ. فَإِذَا قَالَ: وَقَفْت عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ. فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ، وَهَذِهِ الْمُقَابَلَةُ مُقَابَلَةُ التَّوْزِيعِ. وَفِي الْكَلَامِ مَعْنَيَانِ: إضَافَةٌ، وَتَرْتِيبٌ. فَإِذَا كَانَتْ مُقَابَلَةُ الْإِضَافَةِ مُقَابَلَةَ تَوْزِيعٍ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مُقَابَلَةُ التَّرْتِيبِ أَيْضًا مُقَابَلَةَ تَوْزِيعٍ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: {يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] لَمَّا كَانَ مَعْنَى إرْضَاعٍ وَإِضَافَةً، وَالْإِضَافَةُ مُوَزَّعَةٌ: كَانَ الْإِرْضَاعُ مُوَزَّعًا. وَقَوْلُهُ: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] لَمَّا كَانَ مَعْنَى إضَافَةٍ مُوَزَّعَةٍ: كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ مُوَزَّعًا. وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ مُقَابَلَةَ التَّوْزِيعِ فِي هَذَا الضَّرْبِ قَوِيَّةٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ رَاجِحَةً، أَوْ مَرْجُوحَةً، أَوْ مُكَافِئَةً. وَلِلنَّاسِ تَرَدُّدٌ فِي مُوجَبِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي الْوَقْفِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ. مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ يُرَجِّحُونَ تَرْتِيبَ الْجَمْعِ عَلَى الْجَمْعِ بِلَا تَوْزِيعٍ، كَمَا فِي قَوْلِنَا: عَلَى هَؤُلَاءِ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ. وَلِأَصْحَابِنَا فِي مُوجَبِ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَجْهَانِ، مَعَ

أَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا فِي قَوْلِهِ: وَقَفْت عَلَى هَذَيْنِ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ خِلَافًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لِتَرْتِيبِ الْجَمْعِ عَلَى الْجَمْعِ. وَلَهُمْ وَجْهٌ: أَنَّهُ مَنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ أَوْ غَيْرِ وَلَدٍ فَنَصِيبُهُ مُنْقَطِعُ الْوَسَطِ. وَخَرَّجَ بَعْضُهُمْ وَجْهًا أَنَّ نَصِيبَ الْمَيِّتِ يَنْتَقِلُ إلَى جَمِيعِ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ. وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا الْكَلَامَ فِي مُوجِبِ هَذَا اللَّفْظِ لَوْ أُطْلِقَ، فَإِنَّا إنَّمَا نَتَكَلَّمُ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ، لِكَوْنِهِ يَقْتَضِي تَرْتِيبَ الْجَمْعِ عَلَى الْجَمْعِ؛ إذْ الْكَلَامُ عَلَى التَّقْدِيرِ الْآخَرِ ظَاهِرٌ، فَأَمَّا صَلَاحُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَيَيْنِ فَلَا يُنَازِعُ فِيهِ مَنْ تَصَوَّرَ مَا قُلْنَاهُ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَالِحٌ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّفْظَ إذَا وَصَلَ بِمَا يُمَيِّزُ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ الصَّالِحَيْنِ لَهُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ، وَلَا يَسْتَرِيبُ عَاقِلٌ فِي أَنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْوَاقِفَ قَصَدَ أَنْ يَنْقُلَ نَصِيبَ كُلِّ وَالِدٍ إلَى وَلَدِهِ؛ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ أَوْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ، بَلْ لَمْ يَكُنْ إلَى ذِكْرِ الشَّرْطِ حَاجَةٌ أَصْلًا. أَكْثَرُ مَا يُقَالُ: أَنَّهُ تَوْكِيدٌ لَوْ خَلَا عَنْ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ. فَيُقَالُ: حَمْلُهُ عَلَى التَّأْسِيسِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّوْكِيدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّلَالَةَ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: صَلَاحُ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ لِتَرْتِيبِ التَّوْزِيعِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَفْهُومَ يُشْعِرُ بِالِاخْتِصَاصِ. وَهَذَا لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَاقِلٌ وَإِنْ نَازَعَ فِي كَوْنِهِ دَلِيلًا. الثَّالِثُ: أَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنْ التَّوْكِيدِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ؛ وَلَا مِنْ بَابِ تَقْيِيدِ الْكَلَامِ الْمُطْلَقِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ تَفْسِيرِ اللَّفْظِ الَّذِي فِيهِ احْتِمَالُ الْمَعْنَيَيْنِ. فَإِنْ قُلْتُمْ: اللَّفْظُ الْأَوَّلُ إنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي تَرْتِيبِ الْجَمْعِ فَهَذَا صَرْفٌ لِلظَّاهِرِ. وَإِنْ قُلْتُمْ: هُوَ مُحْتَمَلٌ، أَوْ ظَاهِرٌ فِي التَّوْزِيعِ: مَنَعْنَاكُمْ، وَإِنْ قُلْتُمْ لَا يُوصَفُ اللَّفْظُ بِظُهُورٍ وَلَا إكْمَالٍ إلَّا عِنْدَ تَمَامِهِ، وَالْأَوَّلُ لَمْ يَتِمَّ: فَهَذَا هُوَ الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا: فِي الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ بَيَانٌ أَنَّ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ لَوْ كَانَ نَصًّا لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَإِنْ وَصْلَهُ بِمَا يُقَيِّدُهُ يُبْطِلُ تِلْكَ الدَّلَالَةَ كَمَا لَوْ قَالَ: وَقَفْت عَلَى زَيْدٍ، ثُمَّ قَالَ: إنْ كَانَ فَقِيرًا فَهَذَا لَا يُعَدُّ تَفْسِيرًا لِلَفْظٍ مُحْتَمَلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَقْيِيدٌ. وَفِي هَذَا الدَّلِيلِ بَيَانُ أَنَّ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ مُحْتَمِلٌ لِمَعْنَيَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِظُهُورٍ فِي أَحَدِهِمَا

إلَّا أَنْ يَنْفَصِلَ عَمَّا بَعْدَهُ. فَأَمَّا إذَا اتَّصَلَ بِمَا بَعْدَهُ بَيَّنَ ذَلِكَ الْوَصْلُ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ. فَقَوْلُكُمْ: اللَّفْظُ الْأَوَّلُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا فِي أَحَدِهِمَا أَوْ مُحْتَمَلًا. قُلْنَا: قَبْلَ تَمَامِهِ لَا يُوصَفُ بِوَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّمَا قَدْ يُوصَفُ بِالصَّلَاحِ لِلْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ. وَلَا يُقَالُ فِيهِ: صَرْفٌ لِلظَّاهِرِ أَصْلًا، فَإِنَّهُ لَا ظَاهِرَ لِكَلَامٍ لَمْ يَتِمَّ بَعْدُ، وَإِنَّمَا ظَاهِرُ الْكَلَامِ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ عِنْدَ فَرَاغِ الْمُتَكَلِّمِ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ مَنْشَأُ الْغَلَطِ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ. عَامٌّ فِي أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ بِلَا تَرَدُّدٍ. فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَهُوَ مُقْتَضٍ لِلتَّرْتِيبِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ الْأَوْلَادَ مُرَتَّبُونَ عَلَى أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ لَكِنَّ صِفَةَ هَذَا الْعُمُومِ: أَهُوَ عُمُومُ التَّفْسِيرِ وَالتَّوْزِيعِ الْمُقْتَضِي لِمُقَابَلَةِ كُلِّ فَرْدٍ بِفَرْدٍ؟ أَوْ عُمُومِ الشِّيَاعِ الْمُقْتَضِي لِمُقَابَلَةِ كُلِّ فَرْدٍ بِكُلِّ فَرْدٍ؟ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ اللَّفْظَ صَرِيحٌ فِي هَذَا بِمَعْنَى أَنَّهُ نَصٌّ فِيهِ فَهُوَ جَاهِلٌ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، خَارِجٌ عَنْ مَنَاهِجِ الْعُقُولِ الطَّبِيعِيَّةِ؛ وَمَنْ سَلَّمَ صَلَاحَ اللَّفْظِ لَهُمَا؛ وَادَّعَى رُجْحَانَ أَحَدِهِمَا عِنْدَ انْقِطَاعِ الْكَلَامِ: لَمْ نُنَازِعْهُ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مَسْأَلَتَنَا؛ وَإِنْ نَازَعَ فِي رُجْحَانِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ بَعْدَ تِلْكَ الصِّلَةِ فَهُوَ أَيْضًا مُخْطِئٌ قَطْعًا. وَهَذِهِ حُجَّةٌ عِنْدَ مُثْبِتِي الْمَفْهُومِ وَنُفَاتِهِ؛ كَالْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّ نَافِيَ الْمَفْهُومِ يَقُولُ: الْمَسْكُوتُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الثَّانِي؛ لَكِنْ إنْ دَخَلَ فِي الْأَوَّلِ عَمِلْت بِهِ؛ وَنُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَوْ إذَا عُلِمَ أَنْ لَا مُوجِبَ لِلتَّخْصِيصِ سِوَى الِاخْتِصَاصِ بِالْحُكْمِ: كَانَ الْمَفْهُومُ دَلِيلًا. فَإِذَا تَأَمَّلَ قَوْلَهُ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِأَهْلِ طَبَقَتِهِ. قَالَ إنْ كَانَ مُرَادُ الْوَاقِفِ عُمُومَ الشِّيَاعِ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مُقَيِّدًا لِبَيَانِ مُرَادِهِ، وَمَتَى دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ تَجْعَلَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مُفَسِّرَةً لِلَّفْظِ الْأَوَّلِ؛ وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ لَغْوًا: كَانَ حَمْلُهَا عَلَى الْإِفَادَةِ وَالتَّفْسِيرِ أَوْلَى؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنِّي أَعْتَبِرُهَا؛ وَاعْتِبَارُ كَلَامِ الْوَاقِفِ أَوْلَى مِنْ إهْدَارِهِ. وَالثَّانِي: أَجْعَلُهَا بَيَانًا لِلَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ حِينَئِذٍ؛ فَأَدْفَعُ بِهَا احْتِمَالًا كُنْت أَعْمَلُ بِهِ لَوْلَا هِيَ؛، وَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ كَانَ الْمُقْتَضِي لِتَعْيِينِ أَحَدِهِمَا قَائِمًا،

سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الِاقْتِضَاءُ مَانِعًا مِنْ النَّقِيضِ أَوْ غَيْرَ مَانِعٍ. فَإِذَا حَمَلْت هَذَا اللَّفْظَ عَلَى الْبَيَانِ كُنْت قَدْ وَفَّيْت الْمُقْتَضَى حَقَّهُ مِنْ الِاقْتِضَاءِ وَصُنْت الْكَلَامَ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَنْ الْإِهْدَارِ وَالْإِلْغَاءِ. فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ يَأْخُذُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ أَوَّلُ اللَّفْظِ وَيُهْدِرُ آخِرَهُ؛ وَيَنْسِبُ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ إلَى الْعِيِّ وَاللَّغْوِ. وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: عَلَى أَنَّهُ مِنْ صِيَغِ الِاشْتِرَاطِ، وَالتَّقْيِيدِ وَالشَّرْطِ إنَّمَا يَكُونُ لِمَا يَحْتَمِلُهُ الْعَقْدُ؛ مَعَ أَنَّ إطْلَاقَهُ لَا يَقْتَضِيه. بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: بِعْت، وَاشْتَرَيْت، لَا يَقْتَضِي أَجَلًا، وَلَا رَهْنًا، وَلَا ضَمِينًا وَلَا نَقْدًا غَيْرَ نَقْدِ الْبَلَدِ، وَلَا صِفَةً زَائِدَةً فِي الْمَبِيعِ؛ لَكِنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ صَالِحٌ لِهَذَا وَلِهَذَا؛ لَكِنْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْفِي هَذِهِ الْأَشْرَاءِ: فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا يُوجِبُهَا، وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا. فَمَتَى قَالَ: عَلَى أَنْ تَرْهَنَنِي بِهِ كَذَا كَانَ هَذَا تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: بِعْتُك بِأَلْفٍ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: بِأَلْفٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِرَهْنٍ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِذَوِي طَبَقَتِهِ. دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ لَمْ يَكُنْ نَصِيبُهُ لِذَوِي طَبَقَتِهِ. وَهَذِهِ دَلَالَةُ الْمَفْهُومِ؛ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَقْرِيرِهَا؛ لَكِنْ نَذْكُرُ هُنَا نُكَتًا تُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَوْلَ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا: مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنْبَلِيَّةِ؛ بَلْ هُوَ نَصُّ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مَعَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ. فَيَجِبُ أَنْ يُضَافَ إلَى مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ مَا يُوَافِقُ أُصُولَهُمْ. فَمَنْ نَسَبَ خِلَافَ هَذَا الْقَوْلِ إلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ كَانَ مُخْطِئًا. وَإِنْ كَانَ بِمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ مُجْتَهِدًا فَيَجِبُ أَنْ يَحْتَوِيَ عَلَى أَدَوَاتِ الِاجْتِهَادِ. وَمِمَّا يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبَ ظَنُّ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ حُجَّةٌ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ دُونَ كَلَامِ النَّاسِ: بِمَنْزِلَةِ الْقِيَاسِ. وَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ النَّاسِ: فَإِنَّ النَّاسَ إمَّا قَائِلٌ بِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ جُمْلَةِ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ. أَوْ قَائِلٌ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَتِهَا. أَمَّا هَذَا التَّفْصِيلُ فَمُحْدَثٌ. ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ إنَّمَا قَالُوا هُوَ حُجَّةٌ فِي الْكَلَامِ مُطْلَقًا: وَاسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً بِكَلَامِ النَّاسِ. وَبِمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ؛ وَبِأَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ تُبَيِّنُ لِكُلِّ ذِي نَظَرٍ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ مِنْ جِنْسِ دَلَالَةِ الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، وَهُوَ دَلَالَةٌ مِنْ دَلَالَاتِ

اللَّفْظِ. وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ، وَالْقِيَاسُ لَيْسَ مِنْ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ دَلِيلًا بِنَصِّ الشَّارِعِ؛ بِخِلَافِ الْمَفْهُومِ؛ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ فِي اللُّغَةِ؛ وَالشَّارِعُ بَيَّنَ الْأَحْكَامَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ مِنْ بَابِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ الْخَاصَّةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ الِاسْمِ الْعَامِّ، وَهَذَا قَدْ وَافَقَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِمَّنْ خَالَفَ فِي الصِّفَةِ الْمُبْتَدَأَةِ حَتَّى إنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ يَكُونُ حُجَّةً فِي الِاسْمِ غَيْرِ الْمُشْتَقِّ؛ كَمَا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا طَهُورًا» . وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: النَّاسُ رَجُلَانِ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَيَجِبُ عَلَيْك أَنْ تُحْسِنَ إلَيْهِ. عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَصَدَ تَخْصِيصَ الْمُسْلِمِ بِهَذَا الْحُكْمِ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ ابْتِدَاءً: يَجِبُ عَلَيْك أَنْ تُحْسِنَ إلَى الْمُسْلِمِ. فَإِنَّهُ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ عَلَى الْعَادَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى بَيَانِ حُكْمِهِ غَالِبًا؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» وَكَذَلِكَ «فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ» أَقْوَى مِنْ قَوْلِهِ «فِي السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ» ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: «فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ» فَلَوْ كَانَ حُكْمُهَا مَعَ السَّوْمِ وَعَدَمِهِ سَوَاءً لَكَانَ قَدْ طَوَّلَ اللَّفْظَ وَنَقَصَ الْمَعْنَى أَمَّا إذَا قَالَ: " فِي السَّائِمَةِ " فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهَا أُغْلَبَ الْأَمْوَالِ، أَوْ لِكَوْنِ الْحَاجَةِ إلَى بَيَانِهَا أَمَسَّ، وَهَذَا بَيِّنٌ، كَذَلِكَ هُنَا إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ انْتِقَالَ نَصِيبِ الْمَيِّتِ إلَى طَبَقَتِهِ مَعَ الْوَلَدِ وَعَدَمِهِ. فَلَوْ قَالَ: فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ كَانَ نَصِيبُهُ لِذَوِي طَبَقَتِهِ. كَانَ قَدْ عَمَّمَ الْحُكْمَ الَّذِي أَرَادَهُ؛ وَاخْتَصَرَ اللَّفْظَ. فَإِذَا قَالَ: فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ كَانَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ وَذَوِي طَبَقَتِهِ. كَانَ قَدْ طَوَّلَ الْكَلَامَ وَنَقَصَ الْمَعْنَى؛ بِخِلَافِ مَا إذَا حَمَلَ فِي ذَلِكَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِالْحُكْمِ؛ فَإِنَّهُ يَبْقَى الْكَلَامُ صَحِيحًا مُعْتَبَرًا وَالْوَاجِبُ اعْتِبَارُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا أَمْكَنَ. وَلَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهُ بِحَالٍ مَعَ إمْكَانِ اعْتِبَارِهِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ نُفَاةَ الْمَفْهُومِ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ لِلتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ سَبَبٌ غَيْرُ التَّخْصِيصِ بِالْحُكْمِ: أَمَّا عَدَمُ الشُّعُورِ بِالْمَسْكُوتِ، أَوْ عَدَمُ قَصْدِ بَيَانِ حُكْمِهِ، أَوْ كَوْنُ الْمَسْكُوتِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْهُ، أَوْ كَوْنُهُ مُسَاوِيًا لَهُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ، أَوْ كَوْنُهُ سُئِلَ عَنْ الْمَنْطُوقِ، أَوْ كَوْنُهُ قَدْ جَرَى بِسَبَبٍ أَوْجَبَ بَيَانَ الْمَنْطُوقِ، أَوْ كَوْنُ الْحَاجَةِ دَاعِيَةً إلَى بَيَانِ الْمَنْطُوقِ، أَوْ كَوْنُ الْغَالِبِ عَلَى أَفْرَادِ ذَلِكَ النَّوْعِ هُوَ الْمَنْطُوقَ، فَإِذَا عُلِمَ أَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنْ لَا مُوجِبَ لِلتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَنَحْوِهَا عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْحُكْمِ. وَلِهَذَا كَانَ نُفَاةُ الْمَفْهُوم يَحْتَجُّونَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ بِمَفْهُومَاتٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ أَنْ يَظْهَرَ قَصْدُ التَّخْصِيصِ فِي بَعْضِ الْمَفْهُومَاتِ. وَهَذَا مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ. قَدْ يُشْعِرُ بِالْقِسْمَيْنِ، وَلَهُ مَقْصُودٌ فِي بَيَانِ الشَّرْطِ؛ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ؛ فَإِنَّهُ إذَا جَعَلَ نَصِيبَ الْمَيِّتِ يَنْتَقِلُ إلَى إخْوَتِهِ عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِهِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَيْهِمْ مَعَ وُجُودِ وَلَدِهِ وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى بَيَانِ النَّوْعَيْنِ؛ بَلْ لَوْ كَانَ النَّوْعَانِ عِنْدَهُ سَوَاءً - وَقَدْ خَصَّ بِالذِّكْرِ حَالَ عَدَمِ الْوَالِدِ - لَكَانَ مُلْبِسًا مُعَمِّيًا؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ خِلَافَ مَا قَصَدَ بِخِلَافِ مَا إذَا حُمِلَ عَلَى التَّخْصِيصِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْوَصْفَ إذَا كَانَ مُنَاسِبًا اقْتَضَى الْعِلِّيَّةَ. وَكَوْنُ الْمَيِّتِ لَمْ يَخْلُفْ وَلَدًا مُنَاسِبًا لِنَقْلِ حَقِّهِ إلَى أَهْلِ طَبَقَتِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ النَّقْلِ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ الْمَوْتُ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ، فَيَزُولُ هَذَا بِزَوَالِ عِلَّتِهِ، وَهُوَ وُجُودُ الْوَلَدِ. الْخَامِسُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْخِطَابَ فَهِمَ مِنْهُ التَّخْصِيصَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ هَذَا حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ. إمَّا أَصْلِيَّةٌ لُغَوِيَّةٌ، أَوْ طَارِيَةٌ مَنْقُولَةٌ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَجِبُ حَمْلُ كَلَامِ الْمُتَصَرِّفِينَ عَلَيْهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ إثْبَاتَ هَذَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْخَاصَّةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ كَوْنِ الْمَفْهُومِ دَلِيلًا؛ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ فِي الْمَفْهُومِ إنَّمَا يَدَّعِي سَلْبَ الْعُمُومِ عَنْ الْمَفْهُومَاتِ لَا عُمُومَ السَّلْبِ فِيهَا؛ فَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْمَفْهُومَاتِ دَلِيلًا لِظُهُورِ الْمَقْصُودِ فِيهَا. وَهَذَا الْمَفْهُومُ كَذَلِكَ؛ بِدَلِيلِ فَهْمِ النَّاسِ مِنْهُ ذَلِكَ، وَمَنْ نَازَعَ فِي فَهْمِ ذَلِكَ فَإِمَّا فَاسِدُ الْعَقْلِ أَوْ مُعَانِدٌ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقْتَضِي عَدَمَ الِانْتِقَالِ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ مَعَ وُجُودِ

الْأَوْلَادِ فَأَمَّا أَنْ لَا يَصْرِفَ إلَيْهِمْ وَلَا إلَى الْأَوْلَادِ؛ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِهِ: عَلَى أَوْلَادِهِمْ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا. أَوْ يَصْرِفُ إلَى الْأَوْلَادِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يُسَلَّمُ أَنَّ الْمَفْهُومَ دَلِيلٌ؛ لَكِنْ قَدْ عَارَضَهُ اللَّفْظُ الصَّرِيحُ أَوَّلًا، أَوْ اللَّفْظُ الْعَامُّ: فَلَا يُتْرَكُ ذَلِكَ الدَّلِيلُ لِأَجْلِ الْمَفْهُومِ. قِيلَ: عَنْهُ أَجْوِبَةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ بِحَالٍ عَلَى شَيْءٍ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا يَصِيرُ دَلِيلًا إذَا تَمَّ وَقُطِعَ عَمَّا بَعْدَهُ. أَمَّا إذَا وُصِلَ بِمَا بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ جُزْءًا مِنْ الدَّلِيلِ؛ لَا دَلِيلًا. وَجُزْءُ الدَّلِيلِ لَيْسَ هُوَ الدَّلِيلَ. وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَّصِلَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ يُعَارِضُ آخِرُهُ الْمُقَيَّدُ أَوَّلَهُ الْمُطْلَقُ فَمَا دَرَى أَيَّ شَيْءٍ هُوَ تَعَارُضُ الدَّلِيلَيْنِ؟ ، الثَّانِي: أَنَّ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ لَوْ فُرِضَ تَمَامُهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ. كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ بَلْ هُوَ مُحْتَمِلٌ لِمَعْنَيَيْنِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ عَامًّا فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّا لَا نَخُصُّهُ، بَلْ نُبْقِيه عَلَى عُمُومِهِ: وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي صِفَةِ عُمُومِهِ؛ بَلْ مَا حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ أَبْلَغُ فِي عُمُومِهِ؛ لِأَنَّ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ يَأْخُذُ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي حَيَاةِ أَعْمَامِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِمْ. وَعَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ إنَّمَا يَأْخُذُ فِي حَيَاتِهِمْ فَقَطْ. وَاللَّفْظُ الْمُتَنَاوِلُ لَهُمْ فِي حَالَيْنِ أَعَمُّ فِي الْمُتَنَاوَلِ لَهُمْ فِي أَحَدِهِمَا. الثَّالِثُ: لَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ تَعَارُضِ الْعُمُومِ وَالْمَفْهُومِ فَالصَّوَابُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَفْهُومِ يُقَدَّمُ عَلَى الْعُمُومِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَقَدْ حَكَاهُ بَعْضُ النَّاسِ إجْمَاعًا مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ دَلِيلٌ خَاصٌّ، وَالدَّلِيلُ الْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. وَلَا عِبْرَةَ بِالْخِلَافِ فِي الْمَفْهُومِ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ؛ مَعَ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ فِي الْقِيَاسِ قَرِيبُونَ مِنْ الْمُخَالِفِينَ فِي الْمَفْهُومِ؛ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يُخَصُّ بِهِ عُمُومُ الْكِتَابِ؛ مَعَ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ أَكْثَرُ مِنْ الْمُخَالِفِينَ عُمُومَ الْكِتَابِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ. عَائِدٌ إلَى جَمِيعِ مَنْ تَقَدَّمَ؛ وَهَذَا مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ مَنْ قَالَ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي شُرُوطِ الْوَاقِفِ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا مَعْطُوفَةً وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَتَبْقَى الْجُمَلُ الْأُولَى عَلَى تَرْتِيبهَا؟

قِيلَ: هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ لَازِمَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي، ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ، ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ، وَنَسْلِهِمْ، وَعَقِبِهِمْ؛ عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ: لَكَانَ هَذَا الشَّرْطُ فِي الطَّبَقَةِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الطَّبَقَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْهُمْ لَمْ يَنْتَقِلْ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِهِ؛ بَلْ إلَى ذَوِي الطَّبَقَةِ، عَمَلًا بِمُقْتَضَى مُطْلَقِ التَّرْتِيبِ؛ فَإِنْ الْتَزَمَ الْمُنَازِعُ هَذَا اللَّازِمَ وَقَالَ: كَذَلِكَ أَقُولُ. كَانَ هَذَا قَوْلًا مُخَالِفًا لِمَا عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَكُلِّ مِصْرٍ؛ فَإِنَّ الْوُقُوفَ الْمَشْرُوطَةَ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ لَا يَحْصِي عَدَدَهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ قُضَاتِهِمْ وَمُفْتِيهمْ وَخَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ يَجْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ ثَابِتًا فِي جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ لِذَلِكَ وَلَا مُنَازِعٍ فِيهِ. فَمَنْ قَالَ خِلَافَ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ ابْتَدَعَ قَوْلًا يُخَالِفُ مَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرُونُ السَّالِفَةُ، وَالْعِلْمُ بِهَذَا ضَرُورِيٌّ. ثُمَّ لَوْ فُرِضَ أَنَّ فِي هَذَا خِلَافًا لَكَانَ خِلَافًا شَاذًّا مَعْدُودًا مِنْ الزَّلَّاتِ، وَبِحَسْبِ قَوْلٍ مِنْ الضَّعْفِ أَنْ يُبْنَى عَلَى مِثْلِ هَذَا. وَمِنْ لَوَازِمِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ. وَقْفٌ عَلَى أَوْلَادِي، ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ؛ ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ؛ عَلَى أَنَّهُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فَقِيرًا صُرِفَ إلَيْهِ. وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَنِيًّا لَمْ يُصْرَفْ إلَيْهِ. فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إلَى الطَّبَقَةِ الْأُولَى؛ وَالثَّانِيَةِ، سَوَاءٌ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ؛ أَوْ يَخْتَصُّ التَّفْصِيلُ بِالطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ تَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُعْطِيَ، وَمَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ لَمْ يُعْطَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: وَمِنْ شَرْطِ الْوَقْفِ عَلَى أَنَّهُ يُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ. أَوْ بِشَرْطِ أَنْ يُصْرَفَ إلَى فُقَرَائِهِمْ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ. وَهَكَذَا صُوَرٌ كَثِيرَةٌ لَا يَأْتِي عَلَيْهَا الْإِحْصَاءُ مَنْ الْتَزَمَ فِيهَا قِيَاسَ هَذَا الْقَوْلِ كَانَ قَدْ أَتَى بِدَاهِيَةٍ دَهْيَاءَ،، وَإِنْ قَالَ: بَلْ يَعُودُ الشَّرْطُ إلَى جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ؛ كَمَا هُوَ الْمَعْلُومُ عِنْدَ النَّاسِ فَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَسْأَلَتَنَا وَاحِدَةٌ مِنْ هَذَا النَّوْعِ؛ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذِهِ الصُّوَرِ مِنْ الْفَرْقِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَذْهَبَ عَلَى مُمَيِّزٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّاسَ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إلَّا الِاشْتِرَاطَ فِي جَمِيعِ

الطَّبَقَاتِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْوُقُوفَ الْمَشْرُوطَةَ بِمِثْلِ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، ثُمَّ لَمْ يَفْهَمْ النَّاسُ مِنْهَا إلَّا هَذَا، وَلَعَلَّهُ يَخْطُرُ الِاخْتِصَاصُ بِالطَّبَقَةِ الْأَخِيرَةِ بِبَالِ وَاقِفٍ، وَلَا كَاتِبٍ، وَلَا شَاهِدٍ، وَلَا مُسْتَمِعٍ، وَلَا حَاكِمٍ، وَلَا مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَجَبَ حَمْلُ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي خِطَابِهِمْ، سَوَاءٌ كَانَ عُرْفُهُمْ مُوَافِقًا لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، أَوْ مُخَالِفًا لَهُ. فَإِنْ كَانَ مُوجَبُ اللُّغَةِ عَوْدَ الشَّرْطِ إلَى الطَّبَقَاتِ كُلِّهَا فَالْعُرْفُ مُقَرِّرٌ لَهُ. وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ مُوجَبَ اللُّغَةِ قَصْرُهُ عَلَى الطَّبَقَةِ الْأَخِيرَةِ كَانَ الْعُرْفُ مُغَيِّرًا لِذَلِكَ الْوَضْعِ. وَكَلَامُ الْوَاقِفِينَ وَالْحَالِفِينَ الْمُوصِينَ وَنَحْوِهِمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَقَائِقِ الْعُرْفِيَّةِ دُونَ اللُّغَوِيَّةِ، عَلَى أَنَّا نَقُولُ: هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ فِي الْعُرْفِ وَالْأَصْلُ تَقْرِيرُ اللُّغَةِ لَا تَغْيِيرُهَا، فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ مَفْهُومُ اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ؛ إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ النَّقْلِ. وَمَنْ نَازَعَ فِي أَنَّ النَّاسَ خَاصَّتَهُمْ وَعَامَّتَهُمْ يَفْهَمُونَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَوْدَ الشَّرْطِ إلَى الطَّبَقَاتِ عُلِمَ أَنَّهُ مُكَابِرٌ، وَإِذَا سَلَّمَهُ وَنَازَعَ فِي حَمْلِ كَلَامِ الْمُتَصَرِّفِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَفْهَمُونَهُ عُلِمَ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ قَوَانِينِ الشَّرِيعَةِ. فَهَاتَانِ مُقَدَّمَتَانِ يَقِينِيَّتَانِ؛ وَالْعِلْمُ بِهِمَا مُسْتَلْزِمٌ لِعَوْدِ الشَّرْطِ إلَى جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا حُمِلَ الْكَلَامُ عَلَى عَوْدِ الشَّرْطِ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ: كَانَتْ فَائِدَتُهُ عَلَى رَأْيِ الْمُنَازِعِ أَنَّهُ لَوْلَا هَذَا الشَّرْطُ لَاشْتَرَكَ الْعَقِبُ فِي جَمِيعِ الْوَقْفِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِمْ مِنْ الطَّبَقَةِ الَّتِي فَوْقَهُمْ، وَاَلَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِمْ مِمَّنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ، أَوْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ. فَإِذَا قَالَ: فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ فَنَصِيبُهُ لِذَوِي طَبَقَتِهِ. أَفَادَ ذَلِكَ أَنْ يَخْتَصَّ ذَوُو الطَّبَقَةِ بِنَصِيبِ الْمُتَوَفَّى إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ؛ دُونَ مَنْ فَوْقَهُمْ وَمَنْ دُونَهُمْ. وَهَذَا لَمْ يَكُنْ مَفْهُومًا مِنْ اللَّفْظِ، وَإِذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ اشْتَرَكَ جَمِيعُ أَهْلِ الْوَقْفِ فِي نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى وَلَدُهُ وَغَيْرُ وَلَدِهِ. وَإِذَا حُمِلَ الْكَلَامُ عَلَى عَوْدِ الشَّرْطِ إلَى الطَّبَقَاتِ كُلِّهَا أَفَادَ أَنْ يَنْتَقِلَ نَصِيبُ الْمُتَوَفَّى إلَى طَبَقَتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ. وَإِلَى وَلَدِهِ إذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ. وَمَعْلُومٌ قَطْعًا مِنْ أَحْوَالِ الْخَلْقِ أَنَّ مَنْ شَرِكَ بَيْنَ جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ لَا يَنْقُلُ نَصِيبَ الْمَيِّتِ إلَى ذَوِي طَبَقَتِهِ فَقَطْ دُونَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ، وَإِذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ لَمْ يَنْقُلْهُ إلَى وَلَدِهِ؛ بَلْ يُجْعَلُ كَأَحَدِهِمْ، فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ قَدْ جَعَلَ ذَوِي الطَّبَقَةِ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ الْمَيِّتِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُرَاعِ تَرْتِيبَ الطَّبَقَاتِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَقْصِدُهُ عَاقِلٌ؛ فَإِنَّ الْعَاقِلَ

إمَّا أَنْ يُرَاعِيَ تَرْتِيبَ الطَّبَقَاتِ فَلَا يُشْرِكُ أَوْ يَنْقُلُ نَصِيبَ الْمُتَوَفَّى إلَى وَلَدِهِ، كَالْإِرْثِ. أَمَّا أَنَّهُ مَعَ الشَّرِيكِ يَخُصُّ نَصِيبُ الْمُتَوَفَّى إخْوَتَهُ دُون وَلَدِهِ: فَهَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ. وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الضَّمِيرَ مُتَرَدَّدٌ بَيْنَ عَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ وَعَوْدِهِ إلَى الطَّبَقَةِ الْأَخِيرَةِ كَانَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ الْحَالِيَّةُ الْعُرْفِيَّةُ مُعَيَّنَةً لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَلْزَمُكُمْ إذَا أَعَدْتُمْ الضَّمِيرَ إلَى الْجَمِيعِ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فِي أَرْبَعِ طَبَقَاتٍ، وَالتَّشْرِيكَ فِي الْبَاقِيَةِ. فَأَنْتُمْ تَقُولُونَ فِي بَقِيَّةِ الطَّبَقَاتِ مِثْلَمَا نَقُولُهُ؟ قُلْنَا: هَذَا فِيهِ خِلَافٌ؛ فَإِنَّ الطَّبَقَاتِ الْبَاقِيَةَ هَلْ يُشْرَكُ بَيْنَهَا عَمَلًا بِمَا تَقْتَضِيه الْوَاوُ مِنْ مُطْلَقِ التَّشْرِيكِ، أَوْ يُرَتَّبُ بَيْنَهَا اسْتِدْلَالًا بِالتَّرْتِيبِ فِيمَا ذَكَرَهُ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْبَاقِي، كَمَا هُوَ مَفْهُومُ عَامَّةِ النَّاسِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْوَاوَ كَمَا أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فَهِيَ لَا تَنْفِيه، فَإِنْ كَانَ فِي الْكَلَامِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَجَبَ رِعَايَتُهَا. وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي هَذَا. فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي فَلَا كَلَامَ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ قُلْنَا أَيْضًا: فَإِنَّهُ يَقْتَضِي انْتِقَالَ نَصِيبِ الْمَيِّتِ إلَى وَلَدِهِ فِي جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ؛ فَإِنْ نُقِلَ نَصِيبُ الْمَيِّتِ إلَى ذَوِي طَبَقَتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ دُونَ سَائِرِ أَهْلِ الْوَقْفِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْقُلُهُ إلَى وَلَدِهِ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ، وَالتَّنْبِيهُ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْ النَّصِّ حَتَّى فِي شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ. وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: وَقَفْت عَلَى وَلَدِي عَلَى أَنَّهُ مَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يُعْطَى دِرْهَمًا وَاحِدًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى دِرْهَمَيْنِ بِلَا رَيْبٍ؛ فَإِنَّهُ نَبَّهَ بِحِرْمَانِهِ الْقَلِيلَ عَلَى حِرْمَانِهِ الْكَثِيرَ، كَذَلِكَ نَبَّهَ بِنَقْلِ نَصِيبِ الْمَيِّتِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ إلَى إخْوَتِهِ عَلَى نَقْلِهِ إلَى الْوَلَدِ إذَا كَانَا مَوْجُودَيْنِ، فَيَكُونُ مَنْعُ الْإِخْوَةِ مَعَ الْوَلَدِ مُسْتَفَادًا مِنْ التَّقْيِيدِ، وَإِعْطَاءُ الْوَلَدِ مُسْتَفَادًا مِنْ تَنْبِيهِ الْخِطَابِ وَفَحْوَاهُ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ إعْطَاءَ نَصِيبِ الْمَيِّتِ لِذَوِي طَبَقَتِهِ دُونَ سَائِرِ أَهْلِ الْوَقْفِ وَدُونَ تَخْصِيصِ الْأَقْرَبِ إلَى الْمَيِّتِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ سَبَبَ الِاخْتِصَاصِ الْقُرْبَ إلَى الْمَيِّتِ؛ لَا الْقُرْبَ إلَى الْوَاقِفِ، وَلَا مُطْلَقَ الِاسْتِحْقَاقِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَلَدَ عِنْدَ وُجُودِهِمْ أَقْرَبُ إلَى الْمَيِّتِ، فَيَكُونُ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِمْ أَوْكَدَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ قَصَدَ إعْطَاءَهُمْ. وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. فَإِنْ تَعَذَّرَ عَوْدُهُ إلَى الْجَمِيعِ أُعِيدَ إلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِينَ، أَوْ إلَى مَا يَدُلُّ دَلِيلٌ عَلَى تَعْيِينِهِ. فَأَمَّا اخْتِصَاصُهُ بِبَعْضِ الْمَذْكُورِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ فَمِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ الْمُخَالِفِ لِلْأَصْلِ الَّذِي لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُضْمَرَةَ إضْمَارَ الْغَيْبَةِ هِيَ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ مَوْضُوعَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهَا فِي نَفْسِهَا دَلَالَةٌ عَلَى جِنْسٍ أَوْ قَدْرٍ. فَلَوْ قَالَ: أَدْخِلْ عَلَيَّ بَنِي هَاشِمٍ ثُمَّ بَنِي الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ سَائِرَ قُرَيْشٍ، وَأَكْرِمْهُمْ، وَأَجْلِسْهُمْ، وَنَحْوَ هَذَا الْكَلَامِ: لَكَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَعَقِّبِ جُمَلًا: هَلْ يَعُودُ إلَى جَمِيعِهَا أَوْ إلَى أَقْرَبِهَا؟ ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ هُنَاكَ إنَّمَا نَشَأَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْفَعُ بَعْضَ مَا دَخَلَ فِي اللَّفْظِ، فَقَالَ مَنْ قَصَرَهُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ: أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلدُّخُولِ فِي الْجُمَلِ السَّابِقَةِ قَائِمٌ، وَالْمُخْرَجُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا يَزَالُ عَنْ الْمُقْتَضَى بِالشَّكِّ. وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الضَّمِيرِ؛ فَإِنَّ الضَّمِيرَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ صَالِحٌ لِلْعُمُومِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ إذَا لَمْ يَقُمْ مُخَصِّصٌ، وَعَلَى هَذَا فَحَمْلُ الضَّمِيرِ عَلَى الْعُمُومِ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَقَفَتْ عَلَى الْخُصُوصِ مِثْلُ تَخْصِيصِ اللَّفْظِ الْعَامِّ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ إذَا قَالَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ، عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ أَوْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ. فَإِنَّ إعَادَةَ الضَّمِيرِ إلَى الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ. وَالظَّاهِرُ؛ بَلْ الْمَقْطُوعُ بِهِ مِنْ حَالِ الْعَاقِلِ: إنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ إعْطَاءَ الْأَقْرَبِ إلَيْهِ فَالْأَقْرَبِ فِي جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ إذَا نُقِلَ نَصِيبُ الْمَيِّتِ إلَى ابْنِهِ فِي جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ. أَمَّا كَوْنُهُ فِي بَعْضِ الطَّبَقَاتِ يَخُصُّ الْأَقْرَبِينَ إلَيْهِ وَفِي بَعْضِهَا يَنْقُلُ النَّصِيبَ إلَى وَلَدِ الْمَيِّتِ أَوْ ذَوِي طَبَقَتِهِ؛ فَمَا يَكَادُ عَاقِلٌ يَقْصِدُ هَذَا، وَإِذَا دَارَ حَمْلُ اللَّفْظِ بَيْنَ مَا الظَّاهِرُ إرَادَتُهُ وَبَيْنَ مَا الظَّاهِرُ عَدَمُ إرَادَتِهِ: كَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَا ظَهَرَتْ إرَادَتُهُ هُوَ الْوَاجِبَ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا يُعْمَلُ بِهِ لِكَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى الْمَقْصُودِ. فَإِذَا كَانَ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمِلًا وَقَدْ تَرَجَّحَ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ تَعَيَّنَ الصَّرْفُ إلَيْهِ، فَإِذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ الَّتِي نِسْبَتُهَا وَنِسْبَةُ غَيْرِهَا إلَى غَرَضِ الْوَاقِفِ سَوَاءٌ كَانَ كَالْقَاطِعِ فِي الْعُمُومِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةُ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ، وَالشَّرْطُ الْمُتَعَقِّبُ جُمَلًا يَعُودُ

إلَى جَمِيعِهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَلَا عِبْرَةَ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ نَصُّوا أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، وَلَأَفْعَلَنَّ كَذَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ كِلَا الْفِعْلَيْنِ يَكُونُ مُعَلَّقًا بِالْمَشِيئَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا؛ ثُمَّ عَمْرًا، ثُمَّ بَكْرًا - إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُهُ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا، وَعَبْدُهُ حُرٌّ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ امْرَأَتُهُ كَظَهْرِ أُمِّهِ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُخَصَّصِ؛ لَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُعَلَّقِ. وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُعَلَّقِ: مِثْلُ الشُّرُوطِ؛ لِأَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِإِلَّا وَنَحْوِهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْأَسْمَاءِ؛ لَا بِالْكَلَامِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ بِحُرُوفِ الْجَزَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَلَامِ. وَقَوْلُهُ: عَلَى أَنَّهُ وَنَحْوَهُ. مُتَعَلِّقٌ بِالْكَلَامِ، فَهُوَ بِحُرُوفِ الْجَزَاءِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِحُرُوفِ الِاسْتِثْنَاءِ: إلَّا وَأَخَوَاتِهَا. وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي إلَّا زَيْدًا. الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِأَوْلَادِي. وَقَوْلُهُ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ. الشَّرْطُ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَقَفْت. وَهُوَ الْكَلَامُ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْمُرَكَّبُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَى أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ. حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ مُعَلِّقٌ لِمَعْنَى الْكَلَامِ، وَهُوَ وَقَفْت. وَهَذَا قَاطِعٌ لِمَنْ تَدَبَّرْهُ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا بَيَانٌ لِشُرُوطِ الْوَقْفِ الَّتِي يَقِفُ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَيْهَا؛ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَا إخْرَاجَ بَعْضِ مَا دَخَلَ فِي اللَّفْظِ، فَهِيَ شُرُوطٌ مَعْنَوِيَّةٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ. جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ جَزَائِيَّةٌ مَجْعُولَةٌ خَبَرَ أَنَّ الْمَفْتُوحَةِ، وَاسْمُ أَنَّ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَأَنَّ وَمَا فِي خَبَرِهَا فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ. فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَقَفَتْ عَلَى هَذَا. الرَّابِعُ: أَنَّ حَرْفَ " عَلَى " لِلِاسْتِعْلَاءِ. فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: وَقَفْت عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ كَذَا. أَوْ بِعْتُك عَلَى أَنْ تَرْهَنَنِي. كَانَ الْمَعْنَى وَقَفْت وَقْفًا مُسْتَعْلِيًا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَيَكُونُ الشَّرْطُ أَسَاسًا وَأَصْلًا، لِمَا عَلَا عَلَيْهِ وَصَارَ فَوْقَهُ، وَالْأَصْلُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْفَرْعِ. وَهَذَا خَاصِّيَّةُ الشَّرْطِ؛ وَلِهَذَا فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ بِأَنَّ الشَّرْطَ مَنْزِلَتُهُ التَّقَدُّمُ عَلَى الْمَشْرُوطِ، فَإِذَا أُخِّرَ لَفْظًا كَانَ كَالْمُتَصَدِّرِ فِي الْكَلَامِ، وَلَوْ تَصَدَّرَ فِي الْكَلَامِ تَعَلَّقَتْ بِهِ جَمِيعُ الْجُمَلِ، فَكَذَلِكَ إذَا تَأَخَّرَ. فَلَوْ قَالَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ، إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ. كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: عَلَى أَنْ يَكُونُوا

فُقَرَاءَ. وَأَحَدُ اللَّفْظَيْنِ مُوجِبٌ لِعَوْدِ الضَّمِيرِ إلَى جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ، فَكَذَلِكَ الْآخَرُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ تُوجِبُ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إلَى جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَعَقِّبَ جُمَلًا يَعُودُ إلَى جَمِيعِهَا، وَالْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يَعُودُ إلَى الْأَخِيرَةِ مِنْهَا، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي الشَّرْطِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ فَاسِدٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ خُصُوصًا، وَعَلَى مَذْهَبِ غَيْرِهِ أَيْضًا: وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْت طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ، إنْ دَخَلْت الدَّارَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ، فَطَلَّقَ حِينَئِذٍ ثَلَاثًا إنْ كَانَ مَدْخُولًا بِهَا؛ أَوْ وَاحِدَةً إنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا. هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَقِيلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَطْلُقُ غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثًا، كَالْوَاوِ عِنْدَهُمَا؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ وَأَقْوَى الْوَجْهَيْنِ فِي هَذِهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَطَائِفَةٍ مَعَهُ: بَلْ تَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ الْجُمْلَةُ الْأَخِيرَةُ فَقَطْ. فَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا تَنَجَّزُ طَلْقَتَانِ، وَتُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ وَاحِدَةٌ. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا تَنَجَّزَتْ طَلْقَةٌ بَانَتْ بِهَا؛ فَلَمْ يَصِحَّ إيقَاعُ الْآخِرَتَيْنِ لَا تَنْجِيزًا وَلَا تَعْلِيقًا. قَالُوا: لِأَنَّ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّرَاخِي، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ: ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ. وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا: " ثُمَّ " حَرْفُ عَطْفٍ يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، كَالْوَاوِ؛ لَكِنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي مُطْلَقَ الْجَمْعِ وَالتَّشْرِيكِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى تَقَدُّمٍ أَوْ تَأَخُّرٍ أَوْ مُقَارَنَةٍ، وَثُمَّ تَقْتَضِي التَّشْرِيكَ مَعَ التَّأَخُّرِ. وَافْتِرَاقُهُمَا فِي الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ افْتِرَاقَهُمَا فِي نَفْسِ التَّشْرِيكِ. وَأَمَّا كَوْنُهَا لِلتَّرَاخِي فَعَنْهُ جَوَابَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُقْتَضَّاهَا مُطْلَقُ التَّرْتِيبِ؛ فَيُعْطَفُ بِهَا الْمُتَعَقِّبُ وَالْمُتَرَاخِي لَكِنْ لَمَّا كَانَ لِلْمُتَعَقِّبِ حَرْفٌ يَخُصُّهُ - وَهُوَ الْفَاءُ - صَارَتْ " ثُمَّ " عَلَامَةً عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي انْفَرَدَتْ بِهِ، وَهُوَ التَّرَاخِي؛ وَإِلَّا فَلَوْ قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا: أَنْت طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ، أَوْ أَنْت طَالِقٌ فَطَالِقٌ: لَمْ يَكُنْ بَيْنَ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ فَرْقٌ هُنَا. الثَّانِي: أَنَّ مَا فِيهَا مِنْ التَّرَاخِي إنَّمَا هُوَ فِي الْمَعْنَى لَا فِي اللَّفْظِ. فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: جَاءَ زَيْدٌ، ثُمَّ عَمْرٌو. فَهَذَا كَلَامٌ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضِ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هُوَ:

بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: عَمْرٌو. فَمَنْ قَالَ: إنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ؛ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَكَتَ. ثُمَّ قَالَ طَالِقٌ؛ فَقَدْ أَخْطَأَ؛ وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا يَتَرَاخَى عَنْهُ طَلَاقٌ آخَرُ. وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ تَعَلُّقِ الْجَمِيعِ بِالشَّرْطِ: تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ. فَإِذَا كَانَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهَؤُلَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ. بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ. وَقَوْلُهُ. أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَنَتُنَّ طَوَالِقُ؛ ثُمَّ أَنْتُنَّ طَوَالِقُ: إنْ دَخَلْتُنَّ الدَّارَ. وَإِنَّ الشَّرْطَ تَعَلَّقَ بِالْجَمِيعِ؛ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْعَطْفَ بِمَا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ يُوجِبُ الصَّرْفَ إلَى مَنْ يَلِيه الشَّرْطُ دُونَ السَّابِقَيْنِ؟ ، وَهَلَّا قِيلَ هُنَا: إذَا ثَبَتَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ نَصًّا بِاللَّفْظَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ؛ وَلَمْ يَثْبُتْ مَا يُغَيِّرُهُ: وَجَبَ تَقْرِيرُ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ؛ بَلْ مَسْأَلَةُ الطَّلَاقِ أَوْلَى بِقَصْرِ الشَّرْطِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ؛ لِأَنَّ إحْدَى الطَّلْقَتَيْنِ لَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْأُخْرَى مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ؛ بَلْ يُمْكِنُ إيقَاعُهُمَا مَعًا؛ بِخِلَافِ وَلَدِ الْوَلَدِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُوجَدُونَ إلَّا مُتَعَاقِبِينَ. فَالْحَاجَةُ هُنَا دَاعِيَةٌ إلَى التَّرْتِيبِ مَا لَا تَدْعُو إلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ جَوَازَ تَعْقِيبِ الْبَيْعِ وَالْوَقْفِ وَنَحْوِهِمَا بِالشُّرُوطِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ؛ فَإِنَّ مَذْهَبَ شُرَيْحٍ وَطَائِفَةٍ مَعَهُ - وَهِيَ رِوَايَةٌ مَرْجُوحَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ مُتَأَخِّرٍ، كَمَا ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ وَغَيْرِهِمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الطَّلَاقِ. فَإِذَا كَانُوا قَدْ أَعَادُوا الشَّرْطَ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ الْمُرَتَّبَةِ بِثُمَّ. فَالْقَوْلُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِهَا أَوْلَى. وَهَذَا الْكَلَامُ لِمَنْ تَدَبَّرْهُ يَجْتَثُّ قَاعِدَةَ مَنْ نَسَبَ إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مَا يُخَالِفُ هَذَا. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ: فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ بِهِ هُنَا؟ قُلْنَا: قَدْ أَسْلَفْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى الْجَمِيعِ عَلَى أُصُولِ الْجَمِيعِ؛ لِدَلِيلٍ دَلَّ عَلَى الرُّجُوعِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الضَّمِيرِ حَقِيقَةً فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ. وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ الْكَلَامِ. ثُمَّ الَّذِي يَقُولُ بِهَذَا يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الطَّلَاقِ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّرْطَ فِي الطَّلَاقِ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ وَتِلْكَ الْأَسْمَاءُ الْمَعْطُوفَةُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ هَذَا الْفِعْلِ. وَهِيَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى مَفَاعِيلُ لَهُ؛ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فِي الْقَسَمِ. فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، وَكَذَا، ثُمَّ كَذَا: إنْ شَاءَ اللَّهُ. كَانَ الشَّرْطُ مُتَعَلِّقًا بِالْفِعْلِ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ، وَالْمَفَاعِيلُ دَاخِلَةٌ فِي مُسْتَثْنَاهُ. وَتَنَاوَلَ الْفِعْلُ لِمَفَاعِيلِهِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ، فَإِذَا كَانَ قَدْ قَيَّدَ تَنَاوُلَهُ لَهَا بِقَيْدٍ تَقَيَّدَ تَنَاوُلُهُ لِلْجَمِيعِ بِذَلِكَ الْقَيْدِ؛ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَالِقٌ: إنْ شَاءَ زَيْدٌ. فَإِنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطِ هُنَا اسْمُ الْفَاعِلِ؛ لَا نَفْسُ الْمُبْتَدَأِ. وَالْخَبَرُ الثَّانِي لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي خَبَرِ الْخَبَرِ الْآخَرِ؛ بَلْ كِلَاهُمَا دَاخِلٌ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ؛ فَلِهَذَا خَرَجَ هُنَا خِلَافٌ، وَهَذَا فَرْقٌ بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرْطَ فِي الطَّلَاقِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ. لَيْسَ فِيهِ مَا يُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِجَمِيعِ الْجُمَلِ؛ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ. فَإِنَّ الضَّمِيرَ يَقْتَضِي الْعَوْدَ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ. الثَّالِثُ: أَنَّ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ فِي الطَّلَاقِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْأُخْرَى: فَإِنَّ الطَّلْقَةَ تَقَعُ مَعَ وُجُودِ الْأُولَى وَعَدَمِهَا. فَإِذَا عُلِّقَتْ بِالشَّرْطِ لَمْ تَسْتَلْزِمْ تَعْلِيقَ الْأُولَى؛ لِانْفِصَالِهَا عَنْهَا. وَقَدْ اعْتَقَدُوا أَنَّ " ثُمَّ " بِمَنْزِلَةِ التَّرَاخِي فِي اللَّفْظِ فَيَزُولُ التَّعَلُّقُ اللَّفْظِيُّ وَالْمَعْنَوِيُّ فَتَبْقَى الْجُمْلَةُ الْأُولَى أَجْنَبِيَّةً عَنْ الشَّرْطِ عَلَى قَوْلِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ. فَإِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى مِنْ جِهَةِ الضَّمِيرِ وَمِنْ جِهَةِ الْوُجُودِ، وَمِنْ جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ. فَلَا يَصِحُّ اللَّفْظُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ إلَّا بَعْدَ الْأُولَى، وَلَا وُجُودَ لِمَعْنَاهَا إلَّا بَعْدَ الْأُولَى، وَلَا اسْتِحْقَاقَ لَهُمْ إلَّا بَعْدَ الْأُولَى؛ سَوَاءٌ قُدِّرَ التَّرَاخِي فِي اللَّفْظِ أَوْ لَمْ يُقَدَّرْ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ الْأُولَى أَجْنَبِيَّةً عَنْ الثَّانِيَةِ حَتَّى تُعَلَّقَ الثَّانِيَةُ وَحْدَهَا بِالشَّرْطِ. وَاَلَّذِي تَحَقَّقَ أَنَّ النِّزَاعَ إنَّمَا هُوَ فِي الطَّلَاقِ فَقَطْ: إنَّهُ لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا، ثُمَّ عَمْرًا، ثُمَّ بَكْرًا - إنْ شَاءَ اللَّهُ - عَادَ اسْتِثْنَاءً إلَى الْجَمِيعِ. فَقَوْلُهُ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ. أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ. مِنْ حَيْثُ إنْ هُنَا تُعَلِّقُ الضَّمِيرَ.

الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْعَطْفِ بِالْحَرْفِ الْمُرَتَّبِ وَالْحَرْفِ الْجَامِعِ إنَّمَا ذَكَرَهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ. ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الصِّفَةِ. وَالصِّفَةُ إذَا أُطْلِقَتْ فَكَثِيرًا مَا يُرَادُ بِهَا الصِّفَةُ الصِّنَاعِيَّةُ النَّحْوِيَّةُ. وَهُوَ الِاسْمُ التَّابِعُ لِمَا قَبْلَهُ فِي إعْرَابِهِ: مِثْلُ أَنْ تَقُولَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ الْعُدُولِ. فَإِنَّ اخْتِصَاصَ الْجُمْلَةِ هُنَا بِالصِّفَةِ الْآخِرَةِ قَرِيبٌ وَمَسْأَلَتُنَا شُرُوطٌ حُكْمِيَّةٌ. وَهِيَ إلَى الشُّرُوطِ اللَّفْظِيَّةِ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَإِنْ سُمِّيَتْ صِفَاتٍ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ قُصِدَ هَذَا أَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ وَلَا فَاصِلَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْجَمِيعِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الصِّفَةِ. فَعُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مُشِيرًا إلَى خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُعِيدُ ذَلِكَ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ. وَهَذَا إنَّمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَالصِّفَاتِ التَّابِعَةِ؛ لَا يَقُولُهُ فِي الشُّرُوطِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي تَجْرِي مَجْرَى الشُّرُوطِ. فَصَارَ هُنَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الِاسْتِثْنَاءُ بِحَرْفِ " إلَّا " الْمُتَعَقِّبُ جُمَلًا؛ وَالْخِلَافُ فِيهِ مَشْهُورٌ. الثَّانِي: الِاسْتِثْنَاءُ بِحُرُوفِ الشَّرْطِ؛ فَالِاسْتِثْنَاءُ هُنَا عَائِدٌ إلَى الْجَمِيعِ. الثَّالِثُ: الصِّفَاتُ التَّابِعَةُ لِلِاسْمِ الْمَوْصُوفِ بِهَا وَمَا أَشْبَهَهَا وَعَطْفُ الْبَيَانِ، فَهَذِهِ تَوَابِعُ مُخَصَّصَةٌ لِلْأَسْمَاءِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ. الرَّابِعُ: الشُّرُوطُ الْمَنْعُوتَةُ بِحَرْفِ الْجَرِّ: مِثْلُ قَوْلِهِ: عَلَى أَنَّهُ. أَوْ: بِشَرْطِ أَنْ يَفْعَلَ. أَوْ بِحُرُوفِ الْعَطْفِ: مِثْلُ قَوْلِهِ: وَمِنْ شَرْطِهِ كَذَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ مِثْلُ الِاسْتِثْنَاءِ بِحُرُوفِ الْجَزَاءِ. وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ تَمَامِ الِاسْمِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِثْنَاءِ بِإِلَّا؛ وَكُلُّ مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ الْكَلَامِ وَهُوَ النِّسْبَةُ الْحُكْمِيَّةُ الَّتِي بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَبَيْنَ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ بِحَرْفِ الشَّرْطِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ وَحُرُوفَ الشَّرْطِ الْمُتَأَخِّرَةَ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَقَفْت. وَهُوَ الْكَلَامُ. وَالْجُمْلَةُ وَالِاسْتِثْنَاءُ وَالْبَدَلُ وَالصِّفَةُ النَّحْوِيَّةُ وَعَطْفُ الْبَيَانِ مُتَعَلِّقٌ بِنَفْسِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي هِيَ مَفَاعِيلُ هَذَا الْفِعْلِ. وَيَجُوزُ كَلَامُ مَنْ فَرَّقَ عَلَى جُمَلٍ أَجْنَبِيَّاتٍ مِثْلُ أَنْ تَقُولَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي،

ثُمَّ عَلَى وَلَدِ فُلَانٍ؛ ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ: عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْطَى مِنْهُمْ إلَّا صَاحِبُ عِيَالٍ. فَفِي مِثْلِ هَذَا قَدْ يَقْوَى اخْتِصَاصُ الشَّرْطِ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ لِكَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً مِنْ الْجُمْلَةِ الْأُولَى؛ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِهَا؛ بِخِلَافِ الْأَوْلَادِ وَأَوْلَادِ الْأَوْلَادِ؛ فَإِنَّهُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. وَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ أَوْ نَحْوِهِمَا مُتَعَيِّنٌ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مَعَ دَلِيلِ إرَادَةِ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ تَخْصِيصٌ لِكَلَامِهِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ قَدْ جَاءَ إلَى كَلَامِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ قَالُوا: الِاسْتِثْنَاءُ أَوْ الصِّفَةُ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا مَعْطُوفًا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ عَادَ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ. فَخَصَّ ذَلِكَ بِبَعْضِ حُرُوفِ الْعَطْفِ لِمَا رَآهُ مِنْ الدَّلِيلِ . فَلَأَنْ نَخُصَّ نَحْنُ كَلَامَهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ نُصُوصِ كَلَامِهِمْ الْمُوجِبِ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْوَاوِ وَثُمَّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. فَإِنْ سُلِّمَ أَنَّ كَلَامَهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَإِلَّا تَكَلَّمْنَا مَعَهُ بِ " الْوَجْهِ التَّاسِعِ ". وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ الْمُدَّعَى بَيْنَ الْحَرْفِ الْجَامِعِ جَمْعًا مُطْلَقًا وَالْحَرْفِ الْمُرَتَّبِ فَرْقٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي اللُّغَةِ، وَلَا فِي الْعُرْفِ، وَلَا فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ، وَلَا فِي كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ، وَلَا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ عَلَى صِحَّتِهِ فَاسِدٌ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا. أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: حُرُوفُ الْعَطْفِ هِيَ الَّتِي تُشَرِّكُ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فِي الْإِعْرَابِ وَهِيَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُشَرِّكُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى أَيْضًا، وَهِيَ: الْوَاوُ وَالْفَاءُ وَثُمَّ. فَأَمَّا الْوَاوُ فَتَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ التَّشْرِيكِ وَالْجَمْعِ؛ إلَّا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ. وَأَمَّا " ثُمَّ " فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ التَّرْتِيبِ وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهَا لِلتَّرَاخِي. وَأَمَّا الْفَاءُ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى نَوْعٍ مِنْ التَّرْتِيبِ، وَهُوَ التَّعْقِيبُ. فَهَذِهِ الْحُرُوفُ لَا يُخَالِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي نَفْسِ اجْتِمَاعِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى، وَاشْتِرَاكِهِمَا فِيهِ؛ وَإِنَّمَا تَفْتَرِقُ فِي زَمَانِ الِاجْتِمَاعِ. فَلَوْ قِيلَ: إنَّ الْعِطْف بِالْوَاوِ يَقْتَضِي اشْتِرَاكَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِيمَا يَلْحَقُ الْجُمَلَ مِنْ اسْتِثْنَاءٍ وَنَعْتٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْعَطْفُ بِثُمَّ لَا يَقْتَضِي اشْتِرَاكَهُمَا فِي هَذِهِ اللَّوَاحِقِ: لَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا تَكُونَ ثُمَّ مُشْتَرَكَةً حَيْثُ تَكُونُ الْوَاوُ مُشْتَرَكَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ؛ بَلْ هُوَ خِلَافُ الْمَعْلُومِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ. وَالْأَحْكَامُ اللُّغَوِيَّةُ الَّتِي هِيَ دَلَالَاتُ الْأَلْفَاظِ. تُسْتَفَادُ مِنْ اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالنَّقْلِ عَنْهُمْ، فَإِذَا

كَانَ النَّقْلُ وَالِاسْتِعْمَالُ قَدْ اقْتَضَيَا أَنَّهُمَا لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْمَعْنَى: كَانَ دَعْوَى انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا بِالتَّشْرِيكِ دُونَ الْآخَرِ خُرُوجًا عَنْ لُغَةِ الْعَرَبِ وَعَنْ الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ. وَأَمَّا الْعُرْفُ فَقَدْ أَسْلَفْنَا أَنَّ النَّاسَ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ إلَّا عَوْدَ الشَّرْطِ إلَى الْجَمِيعِ، وَالْعِلْمُ بِهَذَا مِنْ عُرْفِ النَّاسِ ضَرُورِيٌّ. وَأَمَّا كَلَامُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ فَإِنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَعَقِّبِ جُمَلًا فَقَالَ قَوْمٌ: إنَّهُ يَعُودُ إلَى جَمِيعِهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: يَعُودُ إلَى الْأَخِيرَةِ مِنْهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: إنْ كَانَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ تَعَلُّقٌ عَادَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى جَمِيعِهَا، وَإِنْ كَانَتَا أَجْنَبِيَّتَيْنِ عَادَ إلَى الْأَخِيرَةِ. ثُمَّ فَصَلُوا الْجُمَلَ الْمُتَعَلِّقَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَذَكَرُوا عِدَّةَ أَنْوَاعٍ مِنْ التَّفْصِيلِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْعَطْفُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْجَمِيعِ. وَقَالَ قَوْمٌ: بِالْوَقْفِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ. ثُمَّ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فَرَّقَ بَيْنَ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ وَالْفَاءِ أَوْ ثُمَّ: بَلْ قَوْلُهُمْ الْمَعْطُوفُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ يَعُمُّ الْجَمِيعَ. وَكَذَلِكَ الْفُقَهَاءُ ذَكَرُوا هَذَا فِي بَابِ الْأَيْمَانِ وَبَابِ الْوَقْفِ ثُمَّ بَنَوْهُ عَلَى أَصْلِهِمْ، فَقَالُوا: الِاسْتِثْنَاءُ أَوْ الْوَصْفُ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا عَادَ إلَى جَمِيعِهَا أَوْ إلَى بَعْضِهَا. وَقَدْ اعْتَرَفَ مَنْ فَصَّلَ بِأَنَّ الْأَئِمَّةَ أَطْلَقُوا هَذَا الْكَلَامَ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي فَصَّلَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْأَئِمَّةِ إلَّا مَا قَالُوهُ. وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا، ثُمَّ عَمْرًا، ثُمَّ بَكْرًا - إنْ شَاءَ اللَّهُ. عَادَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجَمِيعِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي، لَأَضْرِبُهُنَّ هَذَا، ثُمَّ هَذَا، ثُمَّ هَذَا. أَوْ قَالَ: لَآخُذَنَّ الْمُدْيَةَ، لَأَذْبَحَنَّ الشَّاةَ. لَأَطْبُخَنَّهَا. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ. وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ الْعَطْفُ بِمَا يَقْتَضِي تَرْتِيبَهَا فَالصَّرْفُ إلَى جَمِيعِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهِ بَعْضُ النَّظَرِ وَالْغُمُوضِ فَإِنَّ انْصِرَافَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الَّذِينَ يَلِيهِمْ الِاسْتِثْنَاءُ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَانْعِطَافُهُ عَلَى جَمِيعِ السَّابِقِينَ. وَالْعَطْفُ بِالْحَرْفِ الْمُرَتَّبِ مُحْتَمَلُ، غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ بِلَفْظِ الْوَاقِفِ نَصًّا وَلَمْ يَثْبُتْ مَا يُغَيِّرُهُ: وَجَبَ تَقْرِيرُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَمْ يَجُزْ تَغْيِيرُهُ لِمُحْتَمِلٍ مُتَرَدِّدٍ. فَنَقُولُ: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْعَطْفِ بِالْوَاوِ؛ فَإِنَّ انْعِطَافَهُ عَلَى جَمِيعِ

السَّابِقِينَ مُحْتَمَلٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَطْفُ بِحَرْفٍ مُرَتَّبٍ أَوْ مُشْتَرَكٍ غَيْرِ مُرَتَّبٍ. وَهَذَا بِعَيْنِهِ دَلِيلُ مَنْ أَوْجَبَ قَصْرَ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ. فَإِنْ قَالَ: قَدْ ثَبَتَ الْعُمُومُ فِي الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِمُحْتَمَلٍ مُتَرَدِّدٍ - وَلَيْسَ غَرَضُنَا هُنَا إفْسَادُ هَذَا الدَّلِيلِ - بَلْ نَقُولُ مُوجَبُ هَذَا الدَّلِيلِ اخْتِصَاصُ التَّوَابِعِ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ مُطْلَقًا. أَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ عَاطِفٍ وَعَاطِفٍ فَلَيْسَ فِي هَذَا الدَّلِيلِ مَا يَقْتَضِيه أَصْلًا. وَأَيُّ فَرْقٍ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي، وَعَلَى الْمَسَاكِينِ؛ إلَّا أَنْ يَكُونُوا فُسَّاقًا؟ ، نَعَمْ، صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ رُبَّمَا قَوِيَ عِنْدَ اخْتِصَاصِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْجُمْلَةِ الْآخِرَةِ، وَهَابَ مُخَالَفَةَ الشَّافِعِيِّ فَغَاظَ مَا عِنْدَهُ مِنْ الرُّجْحَانِ، مَعَ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَسْأَلَتَنَا لَيْسَتْ مِنْ مَوَارِدِ الْخِلَافِ؛ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَوْ الصِّفَةِ الْإِعْرَابِيَّةِ. فَأَمَّا الشَّرْطُ وَالصِّفَةُ الشَّرْطِيَّةُ فَلَا خِلَافَ فِيهِمَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. وَبِالْجُمْلَةِ مَنْ سَلَّمَ أَنَّ الْجُمَلَ الْمَعْطُوفَةَ بِالْوَاوِ يَعُودُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى جَمِيعِهَا كَانَ ذِكْرُهُ لِهَذَا الدَّلِيلِ مُبْطِلًا لِمَا سَلَّمَهُ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ؛ فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْحُكْمِ مُسْتَلْزِمٌ تَسْلِيمَ بُطْلَانِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ عَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْجَمِيعِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: انْصِرَافُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الَّذِينَ يَلِيهِمْ الِاسْتِثْنَاءُ مَقْطُوعٌ بِهِ. فَمَمْنُوعٌ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَقَطْ، إذَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ. وَيَجُوزُ لِلْمُتَكَلِّمِ أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ وَيَقْصِدَهُ، وَإِنْ كَانَ حَالِفًا مَظْلُومًا؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: قَاتَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَدَعَاهُمْ وَأَبْغَضَهُمْ إلَّا أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ. كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدًا إلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَقَطْ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي الظَّاهِرِ عَائِدٌ إلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1] {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] ، إلَى قَوْلِهِ: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] وَلَيْسَ هَذَا مُسْتَثْنًى مِمَّا يَلِيه؛ بَلْ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ.

وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: {لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 83] إنَّ {قَلِيلا} [النساء: 83] عَائِدٌ إلَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء: 83] {إِلا قَلِيلا} [النساء: 83] وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدٌ إلَى جُمْلَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ جُمَلٌ أُخْرَى. " وَالْمُقَدَّمُ فِي الْقُرْآنِ، وَالْمُؤَخَّرُ " بَابٌ مِنْ الْعِلْمِ، وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ: مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ هَذَا. وَشِبْهُهُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُؤَخَّرًا فِي اللَّفْظِ مُقَدَّمًا فِي النِّيَّةِ. ثُمَّ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِجُمْلَةٍ مُعْتَرِضَةٍ وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا: لَا يُنْكِرُهُ إلَّا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ اللُّغَةَ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ - وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} [آل عمران: 72 - 73] فَقَوْلُهُ: {أَنْ يُؤْتَى} [آل عمران: 73] مِنْ تَمَامِ قَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ. أَيْ: كَرَاهَةَ أَنْ يُؤْتَى فَهُوَ مَفْعُولُ تُؤْمِنُوا، وَقَدْ فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} [آل عمران: 73] وَهِيَ جُمْلَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ؛ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَأَيُّهُمَا أَبْلَغُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ أَوْ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ؟ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْأَخِيرَةِ مَقْطُوعًا بِهِ لَمْ يَجِبْ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَيْهَا؛ بَلْ رُبَّمَا كَانَ فِي سِيَاقِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ عَوْدَهُ إلَى الْأُولَى أَوْكَدُ. - وَمَسْأَلَتُنَا مِنْ هَذَا الْبَابِ، كَمَا تَقَدَّمَ. الثَّالِثُ قَوْلُهُ: إذَا ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ بِلَفْظِ الْوَاقِفِ نَصًّا وَلَمْ يَثْبُتْ مَا يُغَيِّرُهُ وَجَبَ تَقْرِيرُ الِاسْتِحْقَاقِ. قُلْنَا أَوَّلًا: مَسْأَلَتُنَا لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: عَلَى أَوْلَادِهِ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ لَيْسَ نَصًّا فِي تَرْتِيبِ الطَّبَقَةِ عَلَى الطَّبَقَةِ؛ فَإِنَّهُ صَالِحٌ لِتَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ، لَكِنَّ هَذَا يَجِبُ فِي خُصُوصِ مَسْأَلَتِنَا مَعَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُدْخِلَهَا تَحْتَ عُمُومِ هَذَا الْكَلَامِ، ثُمَّ مَنْ يَقُولُ مِنْ رَأْسٍ: لَا نُسَلِّمُ ثُبُوتَ الِاسْتِحْقَاقِ بِلَفْظِ الْوَاقِفِ نَصًّا فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي يَعْقُبُهَا اسْتِثْنَاءٌ أَوْ شَرْطٌ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا يَكُونُ نَصًّا إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِمَا يُغَيِّرُهُ، وَالتَّغْيِيرُ مُتَحَمَّلٌ، فَشَرْطُ كَوْنِهِ نَصًّا مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَمَتَى كَانَ شَرْطُ الْحُكْمِ

مَشْكُوكًا فِيهِ لَمْ يَثْبُتْ؛ فَإِنَّهُ لَا نَصَّ مَعَ احْتِمَالِ التَّغْيِيرِ؛ لَا سِيَّمَا مِثْلُ هَذَا الِاحْتِمَالِ الْقَوِيِّ الَّذِي هُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ رَاجِحٌ. فَإِنْ قَالَ: الْمُقْتَضِي لِدُخُولِهِمْ قَائِمٌ، وَالْمَانِعُ مِنْ خُرُوجِهِمْ مَشْكُوكٌ فِيهِ. قُلْت عَلَى قَوْلِ مَنْ يَمْنَعُ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ لَا أُسَلِّمُ قِيَامَ الْمُقْتَضِي لِدُخُولِهِمْ فَإِنَّ الْمُقْتَضِيَ لِدُخُولِهِمْ هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي لَمْ يُوصَلْ بِهِ مَا يُخْرِجُهُمْ، فَلَا أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يُوصَلْ بِهِ مَا يُخْرِجُهُمْ حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ لَا يُخْرِجُهُمْ، وَهَذَا الشَّرْطُ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِتَخْصِيصِهَا فَأُسَلِّمُ قِيَامَ الْمُقْتَضِي؛ لَكِنَّ شَرْطَ اقْتِضَائِهِ عَدَمُ الْمَانِعِ الْمُعَارِضِ. وَهُنَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مُعَارِضًا، فَمَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ يَبْقَى صَلَاحُهُ لِلْمُعَارَضَةِ وَإِلَّا لَمْ يَعْمَلْ الْمُقْتَضِي عَمَلَهُ، وَالصَّلَاحُ لِلْمُعَارَضَةِ لَا مَزِيَّةَ فِيهِ. وَهَذَا الْبَحْثُ بِعَيْنِهِ - وَهُوَ بَحْثُ الْقَائِلِينَ بِعَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ مَعَ الْقَاصِرِينَ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ. ثُمَّ يَقُولُ مِنْ رَأْسٍ: إذَا قَالَ مَثَلًا وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ إلَّا الْفُسَّاقَ - الْمُنَازِعُ يَقُولُ: وَلَدِي نَصٌّ فِي أَوْلَادِهِ، وَالْفُسَّاقُ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْفُقَرَاءِ. فَنَقُولُ لَهُ: هَذَا مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ؛ فَإِنَّ الْفُسَّاقَ نَصٌّ فِي جَمِيعِ الْفُسَّاقِ، فَإِنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ، وَإِذَا كَانَ عَامًّا وَجَبَ شُمُولُهُ لِكُلِّ فَاسِقٍ؛ فَدَعْوَى اخْتِصَاصِهِ بِفُسَّاقِ الْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَوْلَادِ يَحْتَاجُ إلَى مُخَصِّصٍ. فَلَيْسَتْ الْمُحَافَظَةُ عَلَى عُمُومِ الْأَوْلَادِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالتَّخْصِيصِ بِأَوْلَى مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى عُمُومِ الْفُسَّاقِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُخَصِّصِ؛ بَلْ الرَّاجِحُ إخْرَاجُهُمْ لِأَسْبَابٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ دُخُولِهِمْ فِي الْوَقْفِ، وَقَدْ تَعَارَضَ عُمُومَانِ فِي دُخُولِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ، فَيَسْلَمُ النَّافِي لِدُخُولِهِمْ عَنْ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ. الثَّانِي: أَنَّا قَدْ تَيَقَّنَّا خُرُوجَهُمْ مِنْ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُ الْعُمُومَيْنِ الْمَعْطُوفِينَ مَخْصُوصًا، فَإِلْحَاقُ شَرِيكِهِ فِي التَّخْصِيصِ أَوْلَى مِنْ إدْخَالِ التَّخْصِيصِ عَلَى مَا لَيْسَ بِشَرِيكِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْطُوفَ وَالْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، فَإِذَا وَرَدَ التَّخْصِيصُ عَلَيْهَا ضَعُفَتْ؛ بِخِلَافِ عُمُومِ الْمُسْتَثْنَى فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ تَخْصِيصٌ.

الرَّابِعُ: كَوْنُ الْفِسْقِ مَانِعًا يَقْتَضِي رُجْحَانَهُ عِنْدَ الْوَاقِفِ عَلَى الْمُقْتَضِي لِلْإِعْطَاءِ، فَإِذَا تَيَقَّنَّا رُجْحَانَهُ فِي مَوْضِعٍ كَانَ تَرْجِيحُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَوْلَى مِنْ تَرْجِيحِ مَا لَمْ يُعْرَفْ رُجْحَانُهُ بِحَالٍ. الْخَامِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ: نَصَّ الْوَاقِفُ. إنْ عُنِيَ بِهِ ظَاهِرُ لَفْظِهِ فَعَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ ظَاهِرٌ لَفْظُهُ أَيْضًا عِنْدَ هَذَا الْقَوْلِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ عُنِيَ بِهِ النَّصُّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا فَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ يَقْبَلُ الِاسْتِثْنَاءَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ إمَّا عَدَدًا أَوْ عُمُومًا، وَالْعُمُومَاتُ ظَوَاهِرُ لَيْسَتْ نُصُوصًا. السَّادِسُ: قَوْلُهُ: لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ بِمُحْتَمَلٍ مُتَرَدِّدٍ. نَقُولُ بِمُوجَبِهِ؛ فَإِنَّ عَوْدَ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَنَا إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ لَيْسَ بِمُحْتَمَلٍ مُتَرَدِّدٍ، بَلْ هُوَ نَصٌّ أَيْضًا بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ غَلَبَتُهُ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] ، إلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 69] {إِلا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 70] وَهُوَ عَائِدٌ إلَى قَوْلِهِ: (يَلْقَ) وَ (يُضَاعَفْ) وَ (يَخْلُدْ) . وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [البقرة: 159] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة: 160] . وَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [آل عمران: 87] {خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [آل عمران: 88] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 89] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] ، إلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] فَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ قَدْ تَعَقَّبَ عِدَّةَ جُمَلٍ. فَإِنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي يَصِحُّ إخْرَاجُ بَعْضِهِ، وَهُوَ الِاسْمُ الْعَامُّ. أَوْ اسْمُ الْعَدَدِ؛ لَيْسَ مَعْنَاهُ الْجُمْلَةَ الَّتِي هِيَ الْكَلَامُ الْمُرَكَّبُ مِنْ اسْمَيْنِ أَوْ اسْمٍ وَفِعْلٍ أَوْ اسْمٍ وَحَرْفٍ. وَقَدْ ثَبَتَ بِمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة: 34] فِي آيَةِ الْقَذْفِ عَائِدٌ إلَى الْجُمْلَتَيْنِ، وَقَالَ النَّبِيُّ: «لَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ،

وَلَا يَجْلِسْ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ» . وَقَالَ النَّبِيُّ: «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ، وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ إلَّا بِالتَّقْوَى» . وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ بَلْ مَنْ تَأَمَّلَ غَالِبَ الِاسْتِثْنَاءَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي تَعَقَّبَتْ جُمَلًا وَجَدَهَا عَائِدَةً إلَى الْجَمِيعِ. هَذَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ. فَأَمَّا فِي الشُّرُوطِ وَالصِّفَاتِ فَلَا يَكَادُ يُحْصِيهَا إلَّا اللَّهُ. وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ عَوْدَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ فَالْأَصْلُ إلْحَاقُ الْفَرْدِ بِالْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ.؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لَهُمَا حَقِيقَةً، فَالْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ، أَوْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِلْأَقَلِّ فَقَطْ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْبَاقِي مَجَازًا، وَالْمَجَازُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ؛ فَكَثْرَتُهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَإِذَا جُعِلَ حَقِيقَةً فِيمَا غَلَبَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ، مَجَازًا فِيمَا قَلَّ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ: كُنَّا قَدْ عَمِلْنَا بِالْأَصْلِ النَّافِي لِلِاشْتِرَاكِ، وَبِالْأَصْلِ النَّافِي لِلْمَجَازِ فِي صُوَرِ التَّفَاوُتِ. وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ مُطْلَقًا. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَوْدَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ نَصٌّ بِمَعْنَى أَنَّهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَوَاضِعِ الْمَنْعِ. وَهَذَا الْبَحْثُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَارِدٌ فِي كُلِّ تَخْصِيصٍ مُتَّصِلٍ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى عُمُومِ الْمَخْصُوصِ بِأَوْلَى مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى عُمُومِ الْمُخَصِّصِ؛ بَلْ هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ عَامٌّ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ؛ وَلِأَنَّ ذِكْرَ التَّخْصِيصِ عَقِبَ كُلِّ جُمْلَةٍ مُسْتَقْبَحٌ. فَلَوْ قَالَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ أَوْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ أَوْ لِذَوِي طَبَقَتِهِ، ثُمَّ عَلَى وَلَدِ وَلَدِي عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، ثُمَّ عَلَى وَلَدِ وَلَدِ وَلَدِي عَلَى هَذَا الشَّرْطِ. لَعُدَّ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي غَيْرُهُ أَفْصَحُ مِنْهُ وَأَحْسَنُ. ثُمَّ يُقَالُ لِمَنْ نَازَعَنَا: وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ عَامَّةَ الْوَاقِفِينَ يَقْصِدُونَ الِاشْتِرَاطَ فِي جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ؛ وَلَا يُعَبِّرُونَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ الْمُسْتَغْرَبَةِ؛ بَلْ يَقْتَصِرُونَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا.

فَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي تَبْلِيغِ مَا فِي نُفُوسِهِمْ لَمَا اقْتَصَرُوا عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ يَشْهَدُ - وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا - أَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَتِنَا يَقِينِيٌّ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَسَالِكِ الْمَظْنُونِ؛ لَكِنَّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْيَقِينَ عِنْدَ قَوْمٍ جَهْلًا عِنْدَ آخَرِينَ. وَيُعَدُّ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا تَكَلُّفًا. وَلَوْلَا أَنَّ الْحَاجَةَ مَسَّتْ إلَى ذَلِكَ بِظَنِّ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ لِمَنْ يُنَازِعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُتَعَلَّقًا، أَوْ أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ [لَمَا أَطَلْنَا هَذِهِ الْإِطَالَةَ] . فَإِنْ قِيلَ: الَّذِي يُرَجِّحُ عَوْدَ الضَّمِيرِ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ هُنَا: أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ عُطِفَتْ بِالْوَاوِ، وَعُطِفَ عَلَيْهَا بِالْوَاوِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ مُخَالَفَتَهَا لِحُكْمِ الْأُولَى فِي التَّرْتِيبِ؛ إذْ الْوَقْفُ هَاهُنَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْبُطُونِ، فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى مِنْ الْأَحْكَامِ إلَّا مُسَمَّى الْوَقْفِيَّةِ عَلَى الْجَمِيعِ، وَالْكَيْفِيَّةُ مُخْتَلِفَةٌ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ اسْتِقْلَالَهَا بِنَفْسِهَا، وَاخْتِصَاصَهَا بِمَا يَعْقُبُهَا: فَإِنَّهُ إذَا تَخَلَّلَ الْجُمَلَ الْفَصْلُ بِشَرْطِ كُلِّ جُمْلَةٍ أَوْجَبَ ذَلِكَ اخْتِصَاصَ الشَّرْطِ الْأَخِيرِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ حِينَئِذٍ. وَالِاخْتِلَافُ مَوْجُودٌ هَاهُنَا. قِيلَ عَنْهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: عُطِفَتْ بِالْوَاوِ، وَعُطِفَ عَلَيْهَا بِالْوَاوِ. يَقْتَضِي أَنَّهَا هِيَ لَفْظُ النَّسْلِ، فَإِنْ كَانَ لَفْظُ النَّسْلِ وَالْعَقِبِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَلَمْ يُعْطَفْ عَلَيْهَا فِي الْمَعْنَى شَيْءٌ. وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَيَيْنِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَى الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ؛ لَا الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا. الثَّانِي: قَوْلُهُ: فَاقْتَضَى ذَلِكَ مُخَالَفَتَهَا لِلْأُولَى فِي حُكْمِ التَّرْتِيبِ. قَدْ تَقَدَّمَ مَنْعُ ذَلِكَ. وَذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَجْعَلُ هَذَا الْوَقْفَ مُرَتَّبًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، وَنَسْلِهِ وَعَقِبِهِ. لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِ لِلتَّرْتِيبِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ التَّرْتِيبِ نَفَيْنَاهُ عِنْدَ الِانْطِلَاقِ فَلِمَا رُتِّبَ هُنَا فِي كَلَامِهِ الْأَوَّلِ - مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يُفَرِّقُ فِي مِثْلِ هَذَا، بَلْ يَكْتَفِي بِمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا - كَانَ إعَادَةُ الشَّرْطِ تَسَمُّحًا؛ وَلَكِنَّ غَرَضَنَا هُنَا تَقْرِيرُ هَذَا. الثَّالِثُ: [لَوْ] سَلَّمْنَا أَنَّهُ يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ، فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ

اخْتِلَافَهُمَا فِي الْحُكْمِ الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ فَإِنَّ غَايَةَ مَا فِي هَذَا أَنَّهُ جَعَلَ الْبَطْنَ الرَّابِعَ وَمَا بَعْدَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً، كَمَا جَعَلَ فِي الْبَطْنِ الْأَوَّلِ وَلَدَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ. وَالْوَلَدُ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ طَبَقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَمْ يُرَتِّبْ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِاعْتِبَارِ الْأَسْنَانِ. فَقَوْلُهُ: فَاقْتَضَى ذَلِكَ مُخَالَفَتَهَا لِحُكْمِ الْأُولَى فِي التَّرْتِيبِ. فِيهِ إبْهَامٌ؛ فَإِنَّهُ إنْ عَنَى بِهِ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَفْرَادِهَا مُخَالِفَةٌ لِتِلْكَ الْجُمَلِ: فَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ جُمْلَةٌ. فَإِنَّهَا حَاوِيَةٌ لِأَفْرَادِهَا عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ، لَا عَلَى سَبِيلِ التَّرْتِيبِ. وَإِنْ عُنِيَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ لَمْ يُرَتَّبْ عَلَيْهَا غَيْرُهَا فَالْجُمْلَةُ الْأُولَى لَمْ تَتَرَتَّبْ عَلَى غَيْرِهَا. وَهَذَا إنَّمَا جَاءَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهَا آخِرَ الْجُمَلِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِفَرْقٍ مُؤَثِّرٍ. كَمَا لَمْ يَكُنْ كَوْنُ الْأُولَى غَيْرَ مُرَتَّبَةٍ فَرْقًا مُؤَثِّرًا. وَإِنْ عُنِيَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى طَبَقَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ بِخِلَافِ الْجُمَلِ الْأُولَى فَذَلِكَ فَرْقٌ لَا يَعُودُ إلَى دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَلَا إلَى الْحُكْمِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ، مَعَ أَنَّ الْجُمَلَ الْأُولَى قَدْ يَحْصُلُ فِيهَا مِنْ التَّفَاوُتِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ يَكُونُ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ عِشْرِينَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ سَبْعُونَ سَنَةً، وَيَكُونُ لِلْأَوَّلِ أَوْلَادٌ قَبْلَ وُجُودِ إخْوَتِهِ فَيَمُوتُ أَوْلَادُهُ، وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهِ، وَأَوْلَادُ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ قَبْلَ انْقِرَاضِ إخْوَتِهِ. وَرُبَّمَا لَمْ يَكُنْ قَدْ بَقِيَ مِنْ النَّسْلِ وَالْعَقِبِ إلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ، فَيَنْقَرِضُونَ. ثُمَّ هَذِهِ فُرُوقٌ عَادَتْ إلَى الْمَوْجُودِ؛ لَا إلَى دَلَالَةِ اللَّفْظِ. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى مِنْ الْأَحْكَامِ إلَّا مُسَمَّى الْوَقْفِيَّةِ. قِيلَ: لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ أَصْلًا؛ بَلْ تَنَاوُلُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى لِأَفْرَادِهَا كَتَنَاوُلِ الثَّانِيَةِ لِأَفْرَادِهَا؛ لَكِنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ أَكْثَرُ فِي الْغَالِبِ. وَهَذَا غَيْرُ مُؤَثِّرٍ. وَقَوْلُهُ: الْكَيْفِيَّةُ مُخْتَلِفَةٌ. مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّ كَيْفِيَّةَ الْوَقْفِ عَلَى الْأَوْلَادِ مِثْلُ كَيْفِيَّةِ الْوَقْفِ عَلَى النَّسْلِ وَالْعَقِبِ: يَشْتَرِكُ هَؤُلَاءِ فِيهِ، وَهَؤُلَاءِ فِيهِ. الْخَامِسُ: لَوْ سُلِّمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا خَارِجًا عَنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ فَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعَطْفِ؛ فَإِنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ فِي الْكَيْفِيَّةِ لَوْ كَانَ صَحِيحًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] ؛ فَإِنَّ ذَوْقَ الْمَيِّتِ يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا؛ لَكِنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ لَا دَلَالَةَ لِلَّفْظِ عَلَيْهِ؛ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ الِاشْتِرَاكِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْعُمُومُ.

السَّادِسُ: أَنَّ الْكَيْفِيَّةَ الْمُخْتَلِفَةَ مَدْلُولٌ عَلَيْهَا بِالْعَطْفِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الِاسْتِقْلَالَ وَالِاخْتِصَاصَ بِمَا يُعْقِبُهَا، كَمَا لَوْ قَالَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَأَوْلَادِ بَنِيَّ، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِي: عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا الْفَصْلُ الَّذِي يَقْطَعُ الثَّانِيَةَ عَنْ الْأُولَى أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِشَرْطٍ: مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي، عَلَى أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي عَلَى أَنْ يَكُونُوا عُدُولًا. فَإِنَّ الشَّرْطَ الثَّانِيَ مُخْتَصٌّ عَمَّا قَبْلَهُ؛ لِكَوْنِ الْأَوَّلِ قَدْ عُقِّبَ بِشَرْطِهِ. وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِشَرْطٍ يَفْصِلُهُ عَنْ مُشَارَكَةِ الثَّانِي فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ لَفْظِيٍّ. السَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَمَا ذَاكَ إلَّا لِاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ. قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ؛ بَلْ إنَّمَا ذَاكَ لِأَجْلِ الْفُصُولِ اللَّفْظِيَّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ الِاشْتِرَاكِ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَحْكَامِ لِلَّفْظِ. أَمَّا إذَا كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى لَفْظِ الْمَعْطُوفِ: فَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مَعْطُوفٍ وَمَعْطُوفٍ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسَيْنِ. وَفَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِشَرْطٍ مَذْكُورٍ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَفْهُومُ لَفْظِ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ غَيْرَ مَفْهُومِ الْأُخْرَى. وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ. فَإِنْ قِيلَ: هُنَا مُرَجِّحٌ ثَانٍ، وَهُوَ أَنَّ جَعْلَهُ مُخْتَصٌّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ يُفِيدُ مَا لَمْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْعُ اشْتِرَاكِ النَّسْلِ فِي نَصِيبِ مَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ؛ فَإِنَّهُ لَوْلَا هَذَا الشَّرْطُ لَاشْتَرَكُوا فِي جَمِيعِ حَقِّهِمْ الْمُتَلَقَّى عَمَّنْ فَوْقَهُمْ، وَعَمَّنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ أَوْ غَيْرِ وَلَدٍ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا عَادَ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُؤَكَّدًا فَقَطْ؛ فَإِنَّا كُنَّا نَجْعَلُ نَصِيبَ الْمَيِّتِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ لِطَبَقَتِهِ. قِيلَ عَنْهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْفَائِدَةَ بَاطِلَةٌ؛ فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يَقُولُ: هَؤُلَاءِ أَعْلَاهُمْ وَأَسْفَلُهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْوَقْفِ، فَمَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ اخْتَصَّ بِنَصِيبِهِ إخْوَتُهُ؛ دُونَ آبَائِهِ وَأَعْمَامِهِ وَمَنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ لَمْ يَخْتَصَّ بِنَصِيبِهِ أَحَدٌ، لَا وَلَدُهُ وَلَا غَيْرُهُ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ، وَلَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَسْتَحْضِرُهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ [مَنْ يَقُولُ:] أَعْطُوا الْبَعِيدَ مِنِّي وَمِنْ الْمَيِّتِ، وَاحْرِمُوا الْقَرِيبَ مِنِّي وَمِنْ الْمَيِّتِ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: يَقْصِدُ مِثْلَ هَذَا فِي الْعَادَاتِ. فَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا قَصَدَ هَذَا.

الثَّانِي: أَنَّا قَدْ مَنَعْنَا كَوْنَ هَذَا مُقْتَضَاهُ التَّشْرِيكَ، فَتَبْطُلُ الْفَائِدَةُ. الثَّالِثُ: أَنَّ فِي عَوْدِهِ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ فَوَائِدَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَدُلُّ بِنُطْقِهِ عَلَى نَقْلِ نَصِيبِ الْمَيِّتِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ إلَى ذَوِي طَبَقَتِهِ، وَتَنْبِيهُهُ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْ النُّطْقِ عَلَى نَقْلِ نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى عَنْ وَلَدٍ إلَى وَلَدِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ: عَلَى أَوْلَادِهِ، ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ - إلَى قَوْلِهِ دَائِمًا مَا تَنَاسَلُوا وَأَبَدًا مَا تَعَاقَبُوا. يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ ذُرِّيَّتِهِ لِلْوَقْفِ، فَإِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ وَلَيْسَ لَهُ إلَّا ذَوُو طَبَقَتَهُ، وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهِ: أَفَادَ الشَّرْطُ إخْرَاجَ الطَّبَقَةِ؛ فَيَبْقَى الْأَوْلَادُ دَاخِلِينَ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ مَعَ الثَّانِي. فَمَجْمُوعُ قَوْلِهِ: عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِي. مَعَ قَوْلِهِ: عَلَى أَنَّ نَصِيبَ الْمَيِّتِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ يَنْتَقِلُ إلَى إخْوَتِهِ. دَلَّنَا عَلَى أَنَّ نَصِيبَ الْمَيِّتِ عَنْ وَلَدٍ يَنْتَقِلُ إلَى وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: أَوْلَادِ أَوْلَادِي، وَدَخَلَتْ الطَّبَقَةُ فِي الْعُمُومِ، فَلَمَّا خَرَجَتْ الطَّبَقَةُ بِالشَّرْطِ بَقِيَ وَلَدُ الْوَلَدِ. وَهَكَذَا كُلُّ لَفْظٍ عَامٍّ لِنَوْعَيْنِ أُخْرِجَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ، وَهَذِهِ دَلَالَةٌ ثَانِيَةٌ عَلَى انْتِقَالِ نَصِيبِ الْمَيِّتِ عَنْ وَلَدٍ إلَى وَلَدِهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ الْعَامِّ الَّذِي لَمْ يَبْقَ فِيهِ إلَّا هُمْ، وَهِيَ غَيْرُ دَلَالَة التَّنْبِيه. وَإِنْ شِئْت عَبَّرْت عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ تَقُولَ: نَصِيبُ الْمَيِّتِ إمَّا لِلْأَوْلَادِ، أَوْ لِأَوْلَادِ الْأَوْلَادِ، كَمَا دَلَّ عَلَى انْحِصَارِ الْوَقْفِ فِيهِمَا قَوْلُهُ: عَلَى أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ. فَكَمَا مَنَعَ الْأَوْلَادَ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَيْهِمْ نَصِيبُ الْمَيِّتِ عَنْ وَلَد: تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ لِلنَّوْعِ الْآخَرِ. يَبْقَى أَنْ يُقَالَ: فَقَدْ يَكُونُ هُنَاكَ مَنْ لَيْسَ مِنْ الطَّبَقَةِ؛ وَلَا مِنْ الْوَلَدِ. قُلْنَا: إذَا ظَهَرَتْ الْفَائِدَةُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَهِيَ صُورَةُ مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّا لَمْ نَتَكَلَّمْ إلَّا فِي نَصِيبِ الْمَيِّتِ: هَلْ يُصْرَفُ إلَى إخْوَتِهِ أَوْ وَلَدِهِ؟ أَمَّا لَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ عَمٌّ - مَثَلًا - فَنَقُولُ: حِرْمَانُ طَبَقَةِ الْمَيِّتِ تَنْبِيهٌ عَلَى حِرْمَانِ مَنْ هُمْ أَبْعَدُ عَنْهُ؛ فَإِنَّ طَبَقَتَهُ لَمْ يَحْرِمْهُمْ لِبُعْدِهِمْ مِنْ الْوَقْفِ؛ فَإِنَّ الْوَلَدَ أَبْعَدُ مِنْهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي إعْطَاءَ الْوَلَدِ فِي أَكْثَرِ الصُّوَرِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ حَرَمَهُمْ لِبُعْدِهِمْ عَنْ الْمَيِّتِ. وَهَذَا الْمَعْنَى فِي أَعْمَامِ الْمَيِّتِ أَقْوَى، فَيَكُونُونَ بِالْمَنْعِ مَعَ الْوَلَدِ أَحْرَى. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ تَرْتِيبَ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ؛ لَا تَرْتِيبَ

الْمَجْمُوعِ عَلَى الْمَجْمُوعِ، كَمَا لَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا حَمَلُ اللَّفْظِ الْوَاحِدَ عَلَى مَفْهُومَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ؛ فَإِنَّ فَائِدَتَهُ فِي الْأَوَّلِ بَيَانُ تَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ، وَفِي الثَّانِي بَيَانُ اخْتِصَاصِ الطَّبَقَةِ بِنَصِيبِ الْمُتَوَفَّى. فَمَنْ مَنَعَ مِنْ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ حَقِيقَتَانِ. أَوْ مَجَازَانِ أَوْ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ: يَمْنَعُ مِنْهُ، وَمَنْ جَوَّزَهُ. قُلْنَا: عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: إذَا ثَبَتَ أَمْرٌ بِلَفْظِ الْوَاقِفِ نَصًّا لَمْ يَجُزْ تَغْيِيرُهُ بِمُحْتَمَلٍ مُتَرَدِّدٍ. قِيلَ هَذَا السُّؤَالُ ضَعِيفٌ جِدًّا لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مُورِدَهُ جَعَلَهُ مُقَرَّرًا لِوَجْهٍ ثَانٍ فِي بَيَانِ عَوْدِ الضَّمِيرِ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ؛ غَيْرَ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا مِنْ عَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ. ثُمَّ إنَّهُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ - عَلَى قَوْلِ الْمُجَوِّزِينَ لَأَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ مَعْنَيَاهُ - اعْتَمَدَ عَلَى ذَلِكَ الْجَوَابِ، فَمَا صَارَ وَجْهًا آخَرَ. الثَّانِي: أَنَّا نَقُولُ: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ أَفَادَ فِي الطَّبَقَةِ الْأَخِيرَةِ عَدَدَ نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ إلَى ذَوِي طَبَقَتِهِ. وَالْمُتَوَفَّى عَنْ وَلَدٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الطَّبَقَةُ. وَهَذَا مَمْنُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ تَقَدَّمَا. الثَّالِثُ: لَوْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ؛ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مَعْدُودٌ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ فَائِدَةَ اللَّفْظِ بِمَنْطُوقِهِ نَقْلُ نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ إلَى طَبَقَتِهِ. وَهَذِهِ فَائِدَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ فِي جَمِيعِ الْجُمَلِ. ثُمَّ إنَّ تَقَيُّدَ الِانْتِقَالِ إلَى الطَّبَقَةِ بِوُجُودِ الْوَلَدِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عَنَى تَرْتِيبَ الْأَفْرَادِ. وَهَذِهِ دَلَالَةٌ لُزُومِيَّةٌ. وَاللَّفْظُ إذَا دَلَّ بِالْمُطَابَقَةِ عَلَى مَعْنًى وَبِالِالْتِزَامِ عَلَى مَعْنًى آخَرَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ الْقِسْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، كَعَامَّةِ الْأَلْفَاظِ، فَإِنَّ كَوْنَهُ دَلِيلًا عَلَى تَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ إنَّمَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ شَرَطَ فِي اسْتِحْقَاقِ الطَّبَقَةِ نَصِيبَ الْمُتَوَفَّى عَدَمَ وَلَدِهِ. ثُمَّ عُلِمَ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ تَرْتِيبَ الْمَجْمُوعِ لَمْ يَشْرِطْهُ بِهَذَا الشَّرْطِ؛ فَإِنَّ تَرْتِيبَ الْمَجْمُوعِ وَاشْتِرَاطَ هَذَا الشَّرْطِ مُتَنَافِيَانِ، وَكَوْنُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ يَتَنَافَيَانِ قَضِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ فُهِمَتْ بَعْدَ تَصَوُّرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ دَلَّ عَلَيْهِمَا بِالْوَضْعِ. وَهَذَا كَمَا فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مَعَ

قَوْله تَعَالَى: {يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] إنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. الرَّابِعُ: لَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي مَعْنَيَيْهِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَنْعَ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ؛ بَلْ لَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ؛ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَعَامَّةِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ لِجَوَازِ ذَلِكَ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ هُوَ صِحَّتَهُ وَيُنَاظِرُ عَلَيْهِ؟ ، الْخَامِسُ: أَنَّ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ أَنَّ النَّصَّ لَا يُدْفَعُ بِمُحْتَمَلٍ. تَقَدَّمَ جَوَابُهُ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا نَصَّ هُنَا؛ بَلْ يُدْفَعُ الْمُحْتَمَلُ بِالنَّصِّ. وَذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ قُصِدَ بِهَذَا الشَّرْطِ نَفْيُ انْقِطَاعِ الْوَقْفِ، وَنَفْيُ اشْتِرَاكِ جَمِيعِ أَهْلِ الْوَقْفِ فِي نَصِيبِ الْمُتَوَفَّى عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ، وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عَنَى بِقَوْلِهِ عَنْ: وَلَدِهِ. تَرْتِيبَ الْأَفْرَادِ. فَإِنْ قِيلَ: عَوْدُهُ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ يُوجِبُ انْقِطَاعَ الْوَقْفِ فِي الْوَسَطِ فَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا يَنْفِي الِانْقِطَاعَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ لَا يُصْرَفُ نَصِيبَهُ إلَى الطَّبَقَةِ عَمَلًا بِمُوجَبِ الشَّرْطِ، وَلَا إلَى الْوَلَدِ عَمَلًا بِمُوجَبِ التَّرْتِيبِ الْمُطْلَقِ. فَإِنْ قُلْتُمْ: إذَا جَعَلْنَاهُ مَبْنِيًّا لِتَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلِانْقِطَاعِ فَنُجِيبُ عَنْهُ بِالْبَحْثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الطَّبَقَةِ مُسْتَحَقٌّ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ، فَلَا يُتْرَكُ بِمُتَرَدِّدٍ مُحْتَمَلٍ. قِيلَ: أَوَّلًا هَذَا الْوَجْهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهَذَا الْبَحْثِ، وَهُوَ إنَّمَا ذُكِرَ لِيَكُونَ مُؤَيِّدًا لَهُ، وَالْمُؤَيِّدُ لِلشَّيْءِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ، وَلَا يَكُونُ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ. فَإِذَا كَانَ الْوَجْهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ الْبَحْثِ كَانَتْ صِحَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى صِحَّتِهِ، وَالْفَرْعُ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ أَصْلِهِ، وَلَا يُكْسِبُهُ قُوَّةً؛ بَلْ يَكُونُ تَقْوِيَةُ ذَلِكَ الْوَجْهِ بِهِ تَقْوِيَةَ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ. وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ

الْمُصَادَرَةِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا مَبْنِيًّا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ فِيمَا مَضَى: فَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا. ثُمَّ نَقُولُ: الِانْتِفَاعُ يَنْتَفِي مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَقْفَ مَحْصُورٌ فِي الْأَوْلَادِ، ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ. فَإِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ عَنْ وَلَدٍ فَنَصِيبُهُ إمَّا لِإِخْوَتِهِ، أَوْ لِبَنِيهِمْ، أَوْ لِبَنِيهِ، أَوْ لِعُمُومَتِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي انْحِصَارَ الْوَقْفِ فِي الْأَوْلَادِ، ثُمَّ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ. وَهُمْ إمَّا ذُو طَبَقَتِهِ، أَوْ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ: عُمُومَتُهُ وَنَحْوُهُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مَعَ وُجُودِ أَبِيهِ، وَمَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُ: وَلَدُهُ وَوَلَدُ إخْوَتِهِ، وَطَبَقَتُهُمْ. فَأَمَّا طَبَقَتُهُ فَانْتَفَوْا بِالْقَيْدِ الْمَذْكُورِ فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ. وَأَمَّا بَنُوهُمْ فَانْتَفَوْا لِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ: أَحَدُهَا: بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ؛ فَإِنَّ أَبَاهُمْ أَقْرَبُ إلَى الْمَيِّتِ، وَإِلَى الْوَاقِفِ. فَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ إلَى الْأَقْرَبِ فَإِلَى الْأَبْعَدِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ سَوَاءٌ عَنَى بِالتَّرْتِيبِ تَرْتِيبَ الْمَجْمُوعِ، أَوْ تَرْتِيبَ الْأَفْرَادِ، لَا يَسْتَحِقُّونَ فِي هَذِهِ الْحَالِ؛ فَإِنَّ الطَّبَقَةَ الْعُلْيَا لَمْ تَنْقَرِضْ، وَآبَاؤُهُمْ لَمْ يَمُوتُوا. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَيْهِمْ مَا هُمْ أَصْلٌ فِيهِ، فَلَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِمْ مَا هُمْ فُرُوعٌ فِيهِ. وَأَمَّا الْعُمُومَةُ فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمَيِّتُ شَيْئًا مَعَ وُجُودِ عُمُومَتِهِ إلَّا عَلَى قَوْلِنَا فَفَرْضُ هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى رَأْيِ الْمُنَازِعِ مُحَالٌ. وَإِذَا كَانَ وُجُودُ الْعُمُومَةِ مُسْتَلْزِمًا لِصِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ: فَمُحَالٌ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ مَا يُفْسِدُهُ؛ فَإِنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ الشَّيْءِ وَفَسَادَهُ؛ لَكِنْ يُقَالُ: قَدْ كَانَ الْمَيِّتُ أَوَّلًا لَمْ يُخَلِّفْ إلَّا إخْوَةً وَوَلَدًا، ثُمَّ مَاتَ وَلَدُهُ عَنْ وَلَدٍ وَأَعْمَامِهِ. فَنَقُولُ: حِرْمَانُ الْإِخْوَةِ مَعَ الْوَلَدِ تَنْبِيهٌ عَلَى حِرْمَانِ الْعُمُومَةِ. وَهَذَا حَقِيقَةُ الْجَوَابِ: أَنَّ نَفْيَ إخْوَتِهِ تَنْبِيهٌ عَلَى نَفْيِ عُمُومَتِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: - النَّافِي لِلِانْقِطَاعِ - أَنَّ إعْطَاءَ الْإِخْوَةِ نَصِيبَ الْمَيِّتِ دُونَ سَائِرِ أَهْلِ الْوَقْفِ تَنْبِيهٌ عَلَى إعْطَاءِ الْوَلَدِ، كَمَا تَقَدَّمَ. الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ الْمُتَقَدِّمَ: تَرْتِيبُ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا تَقْرِيرَ هَذَا.

مسألة وقف على أربعة أنفس

وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يُوَفِّقُنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. [مَسْأَلَةٌ وَقَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ] 899 - 58 مَسْأَلَةٌ: فِي وَقْفٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ: عَمْرٍو، وَيَاقُوتَةَ، وَجَهْمَةَ، وَعَائِشَةَ: يَجْرِي عَلَيْهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ، أَوْ وَلَدِ وَلَدٍ، أَوْ عَنْ نَسْلٍ وَعَقِبٍ، وَإِنْ سَفَلَ: عَادَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَلَدِهِ، ثُمَّ عَلَى وَلَدِ وَلَدِهِ، ثُمَّ عَلَى نَسْلِهِ وَعَقِبِهِ، ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُ وَإِنْ سَفَلَ، بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ عَادَ نَصِيبُهُ وَقْفًا عَلَى إخْوَتِهِ الْبَاقِينَ، ثُمَّ عَلَى أَنْسَالِهِمْ وَأَعْقَابِهِمْ، بَيْنَهُمْ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، عَلَى الشَّرْطِ وَالتَّرْتِيبِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُمَا. فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لِهَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ نَسْلٌ وَلَا عَقِبٌ، أَوْ تُوُفُّوا بِأَجْمَعِهِمْ وَلَمْ يُعْقِبُوا وَلَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَادَ ذَلِكَ وَقْفًا عَلَى الْأَسَارَى، ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ. ثُمَّ تُوُفِّيَ عُمَرُ عَنْ فَاطِمَةَ، وَتُوُفِّيَتْ فَاطِمَةُ عَنْ عَيْنَاشَى ابْنَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي يَعْلَى، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ عَيْنَاشَى عَنْ غَيْرِ نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا بِنْتَ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي يَعْلَى، وَكِلَاهُمَا مِنْ ذُرِّيَّةِ جَهْمَةَ. فَهَاتَانِ الْجِهَتَانِ اللَّتَانِ تَلِيهِمَا عَيْنَاشَى بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهَا هَلْ يَنْتَقِلُ إلَى أُخْتِهَا رُقَيَّةَ؟ أَوْ إلَيْهَا، أَوْ إلَى ابْنَةِ عَمِّهَا صَفِيَّةَ؟ . الْجَوَابُ: هَذَا النَّصِيبُ الَّذِي كَانَ لِعَيْنَاشَى مِنْ أُمِّهَا يَنْتَقِلُ إلَى ابْنَتَيْ الْعَمِّ الْمَذْكُورَتَيْنِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَخُصَّ بِهِ أُخْتَهَا لِأَبِيهَا؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ ذَكَرَ: أَنَّ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ عَادَ نَصِيبُهُ وَقْفًا عَلَى إخْوَتِهِ، ثُمَّ عَلَى أَنْسَالِهِمْ وَأَعْقَابِهِمْ، عَلَى الشَّرْطِ وَالتَّرْتِيبِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُمَا. وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تَعُمُّ مَنْ انْقَطَعَ نَسْلُهُ أَوَّلًا وَآخِرًا. فَكُلُّ مَنْ انْقَطَعَ نَسْلُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ كَانَ نَصِيبُهُ لِإِخْوَتِهِ، ثُمَّ لِأَوْلَادِهِمْ؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ لَمْ يُرِدْ هَذَا لَكَانَ قَدْ سَكَتَ عَنْ بَيَانِ حُكْمِ مَنْ أَعْقَبَ أَوَّلًا ثُمَّ انْقَطَعَ عَقِبُهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَصْرِفَ نَصِيبِهِ. وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نُقِلَ الْوَقْفُ إلَى الْأَسْرَى وَالْفُقَرَاءِ إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ وَلَا لِمَوْقُوفٍ عَلَيْهِمْ نَسْلٌ وَلَا عَقِبٌ. فَمَتَى أَعْقَبُوا - وَلَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ - لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْأَسْرَى شَيْءٌ، وَلَا إلَى الْفُقَرَاءِ. وَذَلِكَ

يُوجِبُ أَنْ يَنْتَقِلَ نَصِيبُ مَنْ انْقَطَعَ نَسْلُهُ مِنْهُمْ إلَى الْإِخْوَةِ الْبَاقِينَ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَسَمَ حَالَ الْمُتَوَفَّى مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ إلَى حَالَيْنِ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، أَوْ نَسْلٌ، وَعَقِبٌ، أَوْ لَا يَكُونُ. فَإِنْ كَانَ لَهُ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى الْوَلَدِ، ثُمَّ إلَى وَلَدِ الْوَلَدِ، ثُمَّ إلَى النَّسْلِ وَالْعَقِبِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ انْتَقَلَ إلَى الْإِخْوَةِ، ثُمَّ إلَى أَوْلَادِهِمْ. فَيَنْبَغِي أَنْ يَعُمَّ هَذَا الْقِسْمُ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لِيَعُمَّ الْبَيَانُ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَزِمَ الْإِهْمَالُ وَالْإِلْغَاءُ وَإِبْطَالُ الْوَقْفِ عَلَى قَوْلٍ. وَدَلَالَةُ الْحَالِ تَنْفِي هَذَا الِاحْتِمَالَ. وَإِذَا عَمَّ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ دَخَلَ فِيهِ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَمَنْ لَا وَلَدَ لِوَلَدِهِ وَمَنْ لَا عَقِبَ لَهُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَيُّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَقِبٌ كَانَ نَصِيبُهُ لِإِخْوَتِهِ ثُمَّ لِعَقِبِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوَاقِفَ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ عَقِبٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى إخْوَتِهِ، ثُمَّ إلَى أَوْلَادِهِمْ. وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ أَنْ لَا يَخْلُفَ وَلَدًا أَوْ يَخْلُفَ وَلَدًا ثُمَّ يَخْلُفَ وَلَدُهُ وَلَدًا؛ فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يَقْصِدُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ قَدْ عُلِمَ بِمُطَّرَدِ الْعَادَةِ أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَقْصِدُهُ، فَيَجِبُ أَنْ لَا يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَيْهِ؛ بَلْ يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلَالَةَ الْحَالِ وَالْعُرْفِ الْمُطَّرَدِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ انْقِطَاعُ النَّسْلِ أَوَّلًا وَآخِرًا سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الِانْتِقَالِ إلَى الْإِخْوَةِ وَجَبَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْوَاقِفَ إنَّمَا قَصَدَ هَذَا بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَاللَّفْظُ سَائِغٌ لَهُ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ وَجْهٌ مُمْكِنٌ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ. فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ قَطْعًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوَقْفَ يُرَادُ لِلتَّأْيِيدِ، فَيَجِبُ بَيَانُ حَالِ الْمُتَوَفَّى فِي جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ، وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ. فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ: وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَيِّتًا وَلَا عَقِبَ لَهُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ نَسْلِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهِمْ مَعْدُومِينَ حَالَ مَوْتِهِ، فَلَا فَرْقَ فِي قَوْلِهِ هَذَا وَقَوْلِهِ: وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَلَا وَلَدَ لَهُ. وَقَوْلِهِ: وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ. وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ وَإِنْ كَانَ قَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهَا إلَّا عَدَمُ الذُّرِّيَّةِ حِينَ الْمَوْتِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ؛ لَكِنَّ اللَّفْظَ سَائِغٌ؛ لِعَدَمِ الذُّرِّيَّةِ مُطْلَقًا؛ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ قَالَ: قَدْ أَرَدْت هَذَا لَمْ يَكُنْ خَارِجًا عَنْ حَدِّ الْإِفْهَامِ. وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ سَائِغًا

لَهُ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ صُورَةَ الْحَادِثَةِ إلَّا هَذَا اللَّفْظُ: وَجَبَ إدْرَاجُهَا تَحْتَهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ إذَا دَارَ بَيْنَ صُورَةٍ يُحْكَمُ فِيهَا بِمَا يَصْلُحُ لَهُ لَفْظُ الْوَاقِفِ وَدَلَالَةُ حَالِهِ وَعُرْفُ النَّاسِ كَانَ الْأَوَّلُ هُوَ الْوَاجِبَ بِلَا تَرَدُّدٍ. إذَا تَقَرَّرَ هَذَا: فَعَمُّ جَدِّ عَيْنَاشَى هُوَ الْآنَ مُتَوَفًّى عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ وَلَدٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا عَقِبٍ فَيَكُونُ نَصِيبُهُ لِإِخْوَتِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنْسَالِهِمْ وَأَعْقَابِهِمْ. وَالْحَالُ الَّتِي انْقَطَعَ فِيهَا نَسْلُهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إلَّا هَاتَانِ الْمَرْأَتَانِ، فَيَجِبُ أَنْ تَسْتَوِيَا فِي نَصِيبِ عَيْنَاشَى. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ انْقَطَعَ نَسْلُهُ؛ فَإِنَّ نَصِيبَهُ يَنْتَقِلُ إلَى ذُرِّيَّةِ إخْوَتِهِ إلَّا أَنْ يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ أَبِيهِمْ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ الْوَقْفُ مِنْهُ، أَوْ مِنْ ذُرِّيَّةِ أُمِّهِ الَّتِي انْتَقَلَ إلَيْهِ الْوَقْفُ مِنْهَا: فَيَكُونُ بَاقِي الذُّرِّيَّةِ هُمْ الْمُسْتَحِقِّينَ لِنَصِيبِ أُمِّهِمْ أَوْ أَبِيهِمْ؛ لِدُخُولِهِمْ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ أَوْ وَلَدِ وَلَدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ إنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى هَذَا كَانَ نَصِيبُ هَذَا وَقْفًا مُنْقَطِعَ الِانْتِهَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ، ثُمَّ لِوَلَدِ وَلَدِهِ، ثُمَّ لِنَسْلِهِ وَعَقِبِهِ. وَلَمْ يُبَيِّنْ بَعْدَ انْقِرَاضِ النَّسْلِ إلَى مَنْ يَصِيرُ؛ لَكِنْ بَيَّنَ فِي آخِرِ الشَّرْطِ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ إلَى الْأَسْرَى وَالْفُقَرَاءِ حَتَّى تَنْقَرِضَ ذُرِّيَّةُ الْأَرْبَعَةِ، فَيَكُونُ مَفْهُومُ هَذَا الْكَلَامِ صَرْفَهُ إلَى الذُّرِّيَّةِ. وَهَاتَانِ مِنْ الذُّرِّيَّةِ، وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الدَّرَجَةِ، وَلَمْ يَبْقَ غَيْرُهُمَا: فَيَجِبُ أَنْ يَشْتَرِكَا فِيهِ وَلَيْسَ بَعْد هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَائِدًا إلَى الْأَرْبَعَةِ وَذُرِّيَّتِهِمْ. فَيُقَالُ حِينَئِذٍ: عَيْنَاشَى قَدْ تُوُفِّيَتْ عَنْ أُخْتٍ مِنْ أَبِيهَا، وَابْنَةِ عَمٍّ. فَيَكُونُ نَصِيبُهَا لِأُخْتِهَا. وَهَذَا الْحَمْلُ بَاطِلٌ قَطْعًا، لَا يَنْفُذُ حُكْمُ حَاكِمٍ إنْ حَكَمَ بِمُوجَبِهِ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ. عَائِدٌ إلَى الْأَرْبَعَةِ. فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَائِدٌ ثَانِيًا إلَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ مَنْ فَعَلَ مِنْهُمْ كَذَا فَافْعَلْ بِهِ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ فَعَلَ مِنْهُمْ كَذَا فَافْعَلْ لِوَلَدِهِ كَذَا. عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الضَّمِيرَ الثَّانِيَ هُوَ الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ. وَلِأَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ عَادَ نَصِيبُهُ إلَى إخْوَتِهِ الْبَاقِينَ. وَهَذَا لَا يُقَالُ إلَّا فِيمَنْ لَهُ إخْوَةٌ تَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنَّا نَعْلَمُ هَذَا فِي هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ؛؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ إخْوَةٌ بَاقُونَ فَلَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَقِيلَ:

مسألة في واقف وقف وقفا على ولديه

عَلَى إخْوَتِهِ إنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ. أَوْ قِيلَ: وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ إخْوَةٍ. كَمَا قِيلَ فِي الْوَلَدِ: وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ. وَأَيْضًا فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ عَنْ إخْوَةٍ كَانَ نَصِيبُهُ لِإِخْوَتِهِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْإِخْوَةِ الَّذِينَ شَرِكُوهُ فِي نَصِيبِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ؛ لَا فِي الْإِخْوَةِ الَّذِينَ هُمْ أَجَانِبُ عَنْ النَّصِيبِ الَّذِي خَلَّفَهُ - عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ - وَهَذَا النَّصِيبُ إنَّمَا تَلَقَّتْهُ عَيْنَاشَى مِنْ أُمِّهَا. وَأُخْتُهَا رُقَيَّةُ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ أُمِّهَا؛ لِأَنَّهَا أُخْتُهَا مِنْ أَبِيهَا فَقَطْ. فَنِسْبَةُ أُخْتِهَا لِأَبِيهَا وَابْنَةِ عَمِّهَا إلَى نَصِيبِ الْأُمِّ سَوَاءٌ. وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي وَاقِفٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى وَلَدَيْهِ] 900 - 59 مَسْأَلَةٌ: فِي وَاقِفٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى وَلَدَيْهِ: عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ، بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ نِصْفَيْنِ: أَيَّامَ حَيَاتِهِمَا، أَبَدًا مَا عَاشَا، دَائِمًا مَا بَقِيَا، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمَا، وَنَسْلِهِمَا، وَعَقِبِهِمَا، أَبَدًا، مَا تَنَاسَلُوا، بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ. فَتُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ وَخَلَّفَ أَوْلَادًا فَرَفَعَ عُمَرُ وَلَدَ عَبْدِ اللَّهِ إلَى حَاكِمٍ يَرَى الْحُكْمَ بِالتَّرْتِيبِ، وَسَأَلَهُ رَفْعَ يَدِ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْوَقْفِ، وَتَسْلِيمَهُ إلَيْهِ، فَرَفَعَ يَدَ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَلَّمَهُ إلَى عُمَرَ بِحُكْمِ أَنَّهُ مِنْ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ الْحُكْمُ جَارِيًا فِي جَمِيعِ الْبُطُونِ أَمْ لَا؟ ثُمَّ إنَّ عُمَرَ تُوُفِّيَ وَخَلَّفَ أَوْلَادًا، فَوَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْوَقْفِ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ، فَطَلَبَ وَلَدُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ حَاكِمٍ يَرَى الْحُكْمَ بِالتَّشْرِيكِ بَيْنَهُمْ فِي الْوَقْفِ تَشْرِيكَهُمْ؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ جَمَعَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالنَّسْلِ وَالْعَقِبِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بَعْدَ عَبْدِ اللَّهِ وَعُمَرَ بِالْوَاوِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ؛ دُونَ التَّرْتِيبِ. وَأَنَّ قَوْلَهُ: بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فَهَلْ الْحُكْمُ لَهُمْ بِالْمُشَارَكَةِ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ حُكْمُ الْأَوَّلِ لِعُمَرَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ مُنَاقِضًا لِلْحُكْمِ بِالتَّشْرِيكِ بَيْنَ أَوْلَادِ عُمَرَ وَأَوْلَادِ عَبْدِ اللَّهِ؟ وَهَلْ لِحَاكِمٍ ثَالِثٍ أَنْ يُبْطِلَ هَذَا الْحُكْمَ وَالتَّنْفِيذَ؟ الْجَوَابُ: مُجَرَّدُ الْحُكْمِ لِأَحَدِ الْأَخَوَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِجَمِيعِ الْوَقْفِ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ الْمُتَوَفَّى لَا يَكُونُ جَارِيًا فِي جَمِيعِ الْبُطُونِ، وَلَا يَكُونُ حُكْمًا لِأَوْلَادِهِ بِمَا حَكَمَ لَهُ بِهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمَا. هَلْ هُوَ لِتَرْتِيبِ الْمَجْمُوعِ عَلَى الْمَجْمُوعِ، أَوْ لِتَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ، بِحَيْثُ يَنْتَقِلُ نَصِيبُ كُلِّ مَيِّتٍ إلَى وَلَدِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ. وَكَذَلِكَ

مسألة فيمن وقف وقفا على ابن ابنه فلان ثم على أولاده

قَوْلُهُ: وَأَوْلَادُهُمَا مِنْ بَعْدِهِمَا بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ. هَلْ هُوَ لِلتَّرْتِيبِ أَوْ لِلتَّشْرِيكِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. فَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِاسْتِحْقَاقِ عُمَرَ الْجَمِيعَ بَعْدَ مَوْتِ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ هَذَا لِاعْتِقَادِهِ لِتَرْتِيبِ الْمَجْمُوعِ إلَى الْمَجْمُوعِ. فَإِذَا مَاتَ عُمَرُ فَقَدْ يَرَى ذَلِكَ الْحَاكِمُ التَّرْتِيبَ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى، فَقَطْ كَمَا قَدْ يُشْعِرُ بِهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ. وَقَدْ يَكُونُ يَرَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي جَمِيعِ الْبُطُونِ؛ لَكِنَّ تَرْتِيبَ الْجَمِيعِ عَلَى الْجَمِيعِ، وَيَشْتَرِكُ كُلُّ طَبَقَةٍ مِنْ الطَّبَقَتَيْنِ فِي الْوَقْفِ دُونَ مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهَا. وَقَدْ يَرَى غَيْرَهُ وَأَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِتَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ؛ فَإِذَا حَكَمَ حَاكِمٌ ثَانٍ فِيمَا لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ الْأَوَّلُ بِمَا لَا يُنَاقِضُ حُكْمَهُ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا لِحُكْمِهِ، فَلَا يَنْقُضُ هَذَا الثَّانِيَ إلَّا بِمُخَالَفَةِ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى ابْنِ ابْنِهِ فُلَانٍ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ] 901 - 60 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى ابْنِ ابْنِهِ فُلَانٍ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ: وَاحِدًا كَانَ أَمْ أَكْثَرَ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، ثُمَّ نَسْلَهُ، وَعَقِبِهِ. فَمَنّ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ أَوْ وَلَدِ وَلَدٍ أَوْ عَنْ نَسْلٍ وَعَقِبٍ عَادَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ مَعَهُ فِي دَرَجَتِهِ. فَتُوُفِّيَ الْأَوَّلُ عَنْ أَوْلَادٍ، تُوُفِّيَ أَحَدُهُمْ فِي حَيَاتِهِ عَنْ أَوْلَادٍ، ثُمَّ مَاتَ الْأَوَّلُ وَخَلَّفَ بِنْتَه وَوَلَدَيْ ابْنِهِ. فَهَلْ تَأْخُذُ الْبِنْتُ الْجَمِيعَ أَوْ يَنْتَقِلُ إلَى وَلَدَيْ الِابْنِ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ أَبُوهُمَا لَوْ كَانَ حَيًّا؟ الْجَوَابُ: بَلْ النَّصِيبُ الَّذِي كَانَ يَسْتَحِقُّهُ مُحَمَّدٌ الْمَيِّتُ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ لَوْ عَاشَ يَنْتَقِلُ إلَى وَلَدَيْهِ دُونَ أُخْتِهِ؛ فَإِنَّ الْوَاقِفَ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ قَوْلَهُ: عَلَى أَوْلَادِهِ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ؛ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَرْتِيبَ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ لَا تَرْتِيبَ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ بِمَا بَيَّنَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ مَدْلُولَ اللَّفْظِ عَنْ الْإِطْلَاقِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَالْحُقُوقُ الْمُرَتَّبُ أَهْلُهَا شَرْعًا أَوْ شَرْطًا إنَّمَا يُشْتَرَطُ انْتِقَالُهَا إلَى الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْأُولَى، أَوْ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِهَا؛ لِاسْتِحْقَاقِ الْأُولَى أَوَّلًا، كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَصَبِ بِالْمِيرَاثِ أَوْ النِّكَاحِ: الِابْنُ؛ ثُمَّ ابْنُهُ، ثُمَّ الْأَبُ، ثُمَّ أَبُوهُ. فَاسْتِحْقَاقُ ابْنِ الِابْنِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ أَبِيهِ؛ لِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ - لِمَانِعٍ يَقُومُ بِهِ كُفْرٌ وَغَيْرُهُ - لَا يُشْتَرَطُ أَنَّ أَبَاهُ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا لَمْ يَنْتَقِلْ إلَيْهِ، كَذَلِكَ فِي الْأُمِّ: النِّكَاحُ، وَالْحَضَانَةُ، وَوِلَايَةُ غَسْلِ الْمَيِّتِ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ.

مسألة وقف إنسان شيئا على زيد ثم على أولاد زيد الثمانية

وَإِنَّمَا يَتَوَهَّمُ مَنْ يَتَوَهَّمُ اشْتِرَاطَ اسْتِحْقَاقِ الطَّبَقَةِ الْأُولَى؛ لِتَوَهُّمِهِ أَنَّ الْوَقْفَ يَنْتَقِلُ مِنْ الْأُولَى إلَيْهَا، وَتَتَلَقَّاهُ الثَّانِيَةُ عَنْ الْأُولَى؛ كَالْمِيرَاثِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ هِيَ تَتَلَقَّى الْوَقْفَ عَنْ الْوَاقِفِ، كَمَا تَلَقَّتْهُ الْأُولَى، وَكَمَا تَتَلَقَّى الْأَقَارِبُ حُقُوقَهُمْ عَنْ الشَّارِعِ؛ لَكِنْ يَرْجِعُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ إلَى مَا شَرَطَهُ الشَّارِعُ وَالْوَاقِفُ مِنْ التَّرْتِيبِ. [مَسْأَلَةٌ وَقَفَ إنْسَانٌ شَيْئًا عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ زَيْدٍ الثَّمَانِيَةِ] 902 - 61 مَسْأَلَةٌ: وَقَفَ إنْسَانٌ شَيْئًا عَلَى زَيْدٍ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ زَيْدٍ الثَّمَانِيَةِ، فَمَاتَ وَاحِدٌ مِنْ أَوْلَادِ زَيْدٍ الثَّمَانِيَةِ الْمُعَيَّنِينَ فِي حَالِ حَيَاةِ زَيْدٍ، وَتَرَكَ وَلَدًا، ثُمَّ مَاتَ زَيْدٌ. فَهَلْ يَنْتَقِلُ إلَى وَلَدِ وَلَدِ زَيْدٍ مَا اسْتَحَقَّهُ وَلَدُ زَيْدٍ لَوْ كَانَ حَيًّا؟ أَمْ يَخْتَصُّ الْجَمِيعُ بِأَوْلَادِ زَيْدٍ؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ يَسْتَحِقُّ وَلَدُ الْوَلَدِ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ وَالِدُهُ، وَلَا يَنْتَقِلُ ذَلِكَ إلَى أَهْلِ طَبَقَةِ الْمَيِّتِ مَا بَقِيَ مِنْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ أَحَدٌ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْوَاقِفِ: عَلَى زَيْدٍ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ. فِيهِ لِلْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِتَرْتِيبِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ، الْمَشْهُورِ فِي قَوْلِهِ: عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِتَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] أَيْ لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ مَا تَرَكَتْهُ زَوْجَتُهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] أَيْ حُرِّمَتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أُمُّهُ: إذْ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ تَقْتَضِي تَوْزِيعَ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: لَبِسَ النَّاسُ ثِيَابَهُمْ، وَرَكِبَ النَّاسُ دَوَابَّهُمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ قَطْعًا؛ إذْ قَدْ صَرَّحَ الْوَاقِفُ بِأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ هَؤُلَاءِ عَنْ وَلَدٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِهِ، فَصَارَ الْمُرَادُ تَرْتِيبَ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ

فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِلَا خِلَافٍ؛ إذْ الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ مَعَ الْإِطْلَاقِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاسْتِحْقَاقُ الْمُرَتَّبِ فِي الشَّرْعِ وَالشَّرْطُ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي انْتِقَالِهِ إلَى الثَّانِي عَدَمُ اسْتِحْقَاقِ الْأَوَّلِ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ وُجِدَ وَاسْتُحِقَّ، أَوْ وُجِدَ وَلَمْ يُسْتَحَقَّ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ بِحَالٍ، كَمَا فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ فِي تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ، وَأَوْلِيَاءِ النِّكَاحِ، وَالْحَضَانَةِ، وَغَيْرِهِمْ فَيَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الِابْنُ، ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ، ثُمَّ الْأَبُ ثُمَّ أَبُوهُ وَإِنْ عَلَا، فَإِنَّ الْأَقْرَبَ إذَا عُدِمَ أَوْ كَانَ مَمْنُوعًا لِكُفْرٍ أَوْ رِقٍّ انْتَقَلَ الْحَقُّ إلَى مَنْ يَلِيه. وَلَا يُشْتَرَطُ فِي انْتِقَالِ الْحَقِّ إلَى مَنْ يَلِيه أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ قَدْ اسْتَحَقَّ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: النَّظَرُ فِي هَذَا لِفُلَانٍ، ثُمَّ لِفُلَانٍ، أَوْ لِابْنِهِ. فَمَتَى انْتَفَى النَّظَرُ عَنْ الْأَوَّلِ لِعَدَمِهِ أَوْ جُنُونِهِ أَوْ كُفْرِهِ انْتَقَلَ إلَى الثَّانِي، سَوَاءٌ كَانَ وَلَدًا أَوْ غَيْرَ وَلَدٍ. وَكَذَلِكَ تَرْتِيبُ الْعَصَبَةِ فِي الْمِيرَاثِ، وَفِي الْإِرْثِ بِالْوَلَاءِ، وَفِي الْحَضَانَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ فِي الْوَقْفِ: لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ عَصَبَتَهُمْ، وَشَرَطَ أَنْ يَكُونُوا عُدُولًا؛ أَوْ فُقَرَاءَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَانْتَفَى شَرْطُ الِاسْتِحْقَاقِ فِي وَاحِدٍ مِنْ الطَّبَقَةِ الْأُولَى، أَوْ كُلُّهُمْ. انْتَقَلَ الْحَقُّ عِنْدَ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْأَوَّلِ إلَى الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ إذَا كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِالِاسْتِحْقَاقِ. وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَةَ تَتَلَقَّى الْوَقْفَ مِنْ الْوَاقِفِ؛ لَا مِنْ الطَّبَقَةِ الْأُولَى؛ لَكِنَّ تَلَقِّيهمْ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْأُولَى، كَمَا أَنَّ الْعَصَبَةَ الْبَعِيدَةَ تَتَلَقَّى الْإِرْثَ مِنْ الْمَيِّتِ؛ لَا مِنْ الْعَاصِبِ الْقَرِيبِ؛ لَكِنَّ شَرْطَ اسْتِحْقَاقِهِ عَدَمُ الْعَاصِبِ الْقَرِيبِ. وَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ - فِي الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ - يَرِثُ بِهِ أَقْرَبُ عَصَبَةِ الْمَيِّتِ يَوْمَ مَوْتِ الْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّهُ يُورَثُ كَمَا يُورَثُ الْمَالُ. وَإِنَّمَا يَغْلَطُ ذِهْنُ بَعْضِ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذَا حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّ الْوَلَدَ يَأْخُذُ هَذَا الْحَقَّ إرْثًا عَنْ أَبِيهِ أَوْ كَالْإِرْثِ؛ فَيَظُنُّ أَنَّ الِانْتِقَالَ إلَى الثَّانِيَةِ مَشْرُوطٌ بِاسْتِحْقَاقِ الْأُولَى، كَمَا ظَنَّ ذَلِكَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ. فَيَقُولُ: إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَبُ قَدْ تَرَكَ شَيْئًا لَمْ يَرِثْهُ الِابْنُ. وَهَذَا غَلَطٌ؛ فَإِنَّ الِابْنَ لَا يَأْخُذُ مَا يَأْخُذُ الْأَبُ بِحَالٍ، وَلَا يَأْخُذُ عَنْ الْأَبِ شَيْئًا؛ إذْ لَوْ كَانَ الْأَبُ؛ مَوْجُودًا لَكَانَ يَأْخُذُ الرِّيعَ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى ابْنِهِ الرِّيعُ الْحَادِثُ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ؛ لَا الرِّيعُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ؛ وَأَمَّا رَقَبَةُ الْوَقْفِ فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى حَالِهَا: حَقُّ الثَّانِي فِيهَا فِي وَقْتِهِ نَظِيرُ حَقِّ الْأَوَّلِ فِي وَقْتِهِ، لَمْ يَنْتَقِلْ إلَيْهِمْ إرْثًا.

وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ فِي طَبَقَاتِ الْوَقْفِ أَنَّهُ لَوْ انْتَفَتْ الشُّرُوطُ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى أَوْ بَعْضِهِمْ لَمْ يَلْزَمْ حِرْمَانُ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ إذَا كَانَتْ الشُّرُوطُ مَوْجُودَةً فِيهِمْ؛ وَإِنَّمَا نَازَعَ بَعْضُهُمْ فِيمَا إذَا عَدِمُوا قَبْلَ زَمَنِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ. وَيُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ قِيلَ بِانْتِقَالِ نَصِيبِ الْمَيِّتِ إلَى إخْوَتِهِ لِكَوْنِهِ مِنْ الطَّبَقَةِ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِتَرْتِيبِ جُمْلَةِ الطَّبَقَةِ عَلَى الطَّبَقَةِ؛ أَوْ إنَّ بَعْضَ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ كُلَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا مَعَ عَدَمِ جَمِيعِ الطَّبَقَةِ الْأُولَى. وَنَصُّ الْوَاقِفِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَرَادَ تَرْتِيبَ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ؛ مَعَ أَنَّا نَذْكُرُ فِي الْإِطْلَاقِ قَوْلَيْنِ: الْأَقْوَى تَرْتِيبُ الْأَفْرَادِ مُطْلَقًا؛ إذْ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ؛ وَهُمْ يَخْتَارُونَ تَقْدِيمَ وَلَدِ الْمَيِّتِ عَلَى أَخِيهِ فِيمَا يَرِثُهُ أَبُوهُ؛ فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ الْوَلَدَ عَلَى الْأَخِ. وَإِنْ قِيلَ بِأَنَّ الْوَقْفَ فِي هَذَا مُنْقَطِعٌ فَقَدْ صَرَّحَ هَذَا الْوَاقِفُ بِالْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاتِّصَالِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَنْتَقِلَ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِهِ. وَفِي الْجُمْلَةِ فَهَذَا مَقْطُوعٌ بِهِ؛ لَا يَقْبَلُ نِزَاعًا فِقْهِيًّا؛ وَإِنَّمَا يَقْبَلُ نِزَاعًا غَلَطًا. وَقَوْلُ الْوَاقِفِ: فَمَنْ مَاتَ مِنْ أَوْلَادِ زَيْدٍ، أَوْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ وَتَرَكَ وَلَدًا، أَوْ وَلَدَ وَلَدٍ وَإِنْ سَفَلَ: كَانَ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِ وَلَدِهِ، أَوْ وَلَدِ وَلَدِ وَلَدِهِ. يُقَالُ فِيهِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: نَصِيبُهُ. يَعُمُّ النَّصِيبُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ إذَا كَانَ مُتَّصِفًا بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، سَوَاءٌ اسْتَحَقَّهُ أَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ، وَلَا يَتَنَاوَلُ إلَّا مَا اسْتَحَقَّهُ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا كَلَامَ وَهُوَ الْأَرْجَحُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَيْسَ هُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ مُسْتَحَقًّا لَهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَبُ مَمْنُوعًا لِانْتِفَاءِ صِفَةٍ مَشْرُوطَةٍ فِيهِ مَثَلًا: مِثْلُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِمْ الْإِسْلَامُ أَوْ الْعَدَالَةُ أَوْ الْفَقْرُ كَأَنْ يَنْتَقِلَ مَعَ وُجُودِ الْمَانِعِ إلَى وَلَدِهِ، كَمَا يَنْتَقِلُ مَعَ عَدَمِهِ؛ وَلِأَنَّ الشَّيْءَ يُضَافُ إلَى الشَّيْءِ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، فَيَصْدُقُ أَنْ يُقَالَ: نَصِيبُهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ وَلِأَنَّ حَمْلَ اللَّفْظ عَلَى ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كَلَامُ الْوَاقِفِ مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِ الصُّوَرِ الْوَاقِعَةِ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْإِخْلَال بِذِكْرِ الْبَعْضِ، وَلِأَنَّهُ يَكُونُ مُطَابِقًا لِلتَّرْتِيبِ الْكَلَامِيِّ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ هُوَ الْمَفْهُومَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَامَّةِ الشَّارِطِينَ مِثْلَ هَذَا. وَهَذَا أَيْضًا مُوجَبُ الِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ النَّظَرِيِّ عِنْدَ النَّاسِ فِي شُرُوطِهِمْ إلَى اسْتِحْقَاقِ وَلَدِ الْوَلَدِ الَّذِي يَكُونُ يَتِيمًا لَمْ يَرِثْ هُوَ وَأَبُوهُ مِنْ الْجَدِّ شَيْئًا، فَيَرَى الْوَاقِفُ أَنْ يُجْبِرَهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ حِينَئِذٍ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَاحِقًا فِيمَا وَرِثَ أَبُوهُ مِنْ التَّرِكَةِ وَانْتَقَلَ إلَيْهِ

مسألة فيمن وقف وقفا على أولاده على أنه من توفي منهم عن ولد ذكر انتقل نصيبه إلى ولده

الْإِرْثُ وَهَذَا الَّذِي يَقْصِدُهُ النَّاسُ مُوَافِقٌ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ أَيْضًا؛ وَلِهَذَا يُوصُونَ كَثِيرًا بِمِثْلِ هَذَا الْوَلَدِ. وَإِنْ قِيلَ: إنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا مَا اسْتَحَقَّهُ كَانَ هَذَا مَفْهُومَ مَنْطُوقٍ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَفْهُومٌ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَتَنَاوَلُهُ فِي قَوْلِهِ: عَلَى زَيْدٍ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ. فَإِنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ مُوجَبَ هَذَا اللَّفْظِ مَعَ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ مِنْ أَنَّ الْمَيِّتَ يَنْتَقِلُ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ تَرْتِيبُ الْأَفْرَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ. وَالتَّقْدِيرُ عَلَى زَيْدٍ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ، ثُمَّ عَلَى وَلَدِ كُلِّ وَاحِدٍ بَعْدَ وَالِدِهِ، وَهَذَا اللَّفْظُ يُوجِبُ أَنْ يَسْتَحِقَّ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ أَبُوهُ مُسْتَحِقَّهُ لَوْ كَانَ مُتَّصِفًا بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، كَمَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ أَهْلُ طَبَقَاتِهِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ شَرْعًا وَشَرْطًا؛ وَإِذَا كَانَ هَذَا مُوجِبَ اسْتِحْقَاقِ الْوَلَدِ؛ وَذَلِكَ التَّفْصِيلُ إمَّا أَنْ يُوجِبَ اسْتِحْقَاقَ الْوَلَدِ أَيْضًا. وَهُوَ الْأَظْهَرُ. أَوْ لَا يُوجِبُ حِرْمَانُهُ فَيُقِرُّ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ ذَكَرٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِهِ] 903 - 62 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ: فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ. وَعَلَى ابْنِ ابْنِهِ فُلَانٍ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ ذَكَرٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِهِ، وَمَنْ مَاتَ عَنْ بِنْتٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَيْهَا؛ ثُمَّ إلَى أَعْمَامِهَا؛ ثُمَّ بَنِي أَعْمَامِهَا الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْهُمْ. فَمَاتَ ابْنُ ابْنٍ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ، وَتَرَكَ أُخْتَهُ مِنْ أَبَوَيْهِ، وَأَعْمَامُهُ فَأَيُّهُمْ أَحَقُّ؟ الْجَوَابُ: يَنْتَقِلُ نَصِيبُهُ إلَى أُخْتِهِ لِأَبَوَيْهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ مِنْ قَصْدِ الْوَاقِفِ تَخْصِيصُ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِقَّهُ أَصْلُهُ؛ وَتَخْصِيصُ نَصِيبِ الْمَيِّتِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ بِالْأَقْرَبِ إلَيْهِ، وَأَنَّهُ أَقَامَ مُوسَى ابْنُ الِابْنِ مَقَامَ ابْنِهِ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَيِّتًا وَقْتَ الْوَقْفِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي قَرْيَةٍ وَقَفَهَا السُّلْطَانُ فَجَعَلَ رِيعَهَا وَقْفًا عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ مِنْ بَعْدِهِ] 904 - 63 مَسْأَلَةٌ: فِي قَرْيَةٍ وَقَفَهَا السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ؛ فَجَعَلَ رِيعَهَا وَقْفًا عَلَى

مسألة قسمة الوقف ومنافعه

شَخْصٍ مُعَيَّنٍ؛ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ مِنْ بَعْدِهِ؛ وَالنِّصْفُ وَالرُّبْعُ عَلَى الْفُقَرَاءِ. وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَالْقَرْيَةُ عَامِرَةٌ؛ فَلَمَّا كَانَ سَنَةَ دُخُولِ قَازَانَ خَرِبَتْ هَذِهِ الْقَرْيَةُ وَاسْتَمَرَّتْ دَائِرَةً مُدَّةَ ثَمَانِ سِنِينَ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْمَشَائِخِ وَأَخَذَ تَوْقِيعًا سُلْطَانِيًّا بِتَمْكِينِهِ مِنْ أَنْ يُعَمِّرَ هَذِهِ الْقَرْيَةَ، فَعَمَّرَهَا وَتُوُفِّيَ إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَخَلَّفَ أَيْتَامًا صِغَارًا فُقَرَاءَ لَا مَالَ لَهُمْ، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ صَاحِبِ الرِّيعِ فَأَثْبَتَتْ نَسَبَهَا، وَتَسَلَّمَتْ رِيعَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، وَاسْتَمَرَّ النِّصْفُ وَالرُّبْعُ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِحُكْمِ شَرْطِ الْوَاقِفِ، وَبَقِيَ أَوْلَادُ الَّذِي عَمَّرَ الْقَرْيَةَ فُقَرَاءَ. فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَقْبِضُوا كِفَايَتَهُمْ فِي جُمْلَةِ الْفُقَرَاءِ؟ أَمْ لَهُمْ مَا غَرِمَهُ وَالِدُهُمْ عَلَى تَعْمِيرِهَا مَا لَمْ يَسْتَوْفِ عِوَضَهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانُوا دَاخِلِينَ فِي شُرُوطِ الْوَاقِفِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ مَا يَقْتَضِيه الشَّرْطُ، وَإِنْ قُدِّرَ تَعَذُّرُ الصَّرْفِ إلَى الْمَوْصُوفِينَ لِتَعَذُّرِ بَعْضِ الْأَوْصَافِ. فَكَانَ هَؤُلَاءِ الْأَطْفَالُ مُشَارِكِينَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ لِمَنْ يُصْرَفُ إلَيْهِ الْمَالَ - فَيَنْبَغِي أَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِمْ أَيْضًا مَا غَرِمَهُ وَالِدُهُمْ مِنْ الْقَرْيَةِ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَالِهِ؛ لِيَسْتَوْفِيَ عِوَضَهُ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَوْفُونَهُ مِنْ مُغَلِّ الْوَقْفِ [مَسْأَلَةٌ قِسْمَةِ الْوَقْفِ وَمَنَافِعِهِ] 905 - 64 مَسْأَلَةٌ: فِي قِسْمَةِ الْوَقْفِ وَمَنَافِعِهِ؟ الْجَوَابُ: مَا كَانَ وَقْفًا عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَجُزْ قِسْمَةُ عَيْنِهِ؛ فَإِنَّمَا يَجُوزُ قِسْمَةُ مَنَافِعِهِ بِالْمُهَايَأَةِ. وَإِذَا تَهَايَئُوا ثُمَّ أَرَادُوا نَقْضَهَا فَلَهُمْ ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَقَعْ مِنْ الْمُسْتَحِقِّ أَوْ وَكِيلِهِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ وَقْفٍ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَسَّمَهُ قَاسِمٌ حَنْبَلِيٌّ] 906 - 65 مَسْأَلَةٌ: فِي وَقْفٍ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَسَّمَهُ قَاسِمٌ حَنْبَلِيٌّ، مُعْتَقِدًا جَوَازَ ذَلِكَ: حَيْثُ وُجِدَ فِي الْمُخْتَصَرَاتِ: إنَّا إذَا قُلْنَا الْقِسْمَةُ إقْرَارٌ جَازَ قِسْمَةُ الْوَقْفِ، ثُمَّ تَنَاقَلَ الشَّرِيكَانِ بَعْضَ الْأَعْيَانِ، ثُمَّ طَلَبَ بَعْضُهُمْ نَصِيبَهُ الْأَوَّلَ مِنْ الْمُقَاسَمَةِ؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ عَيْنَهُ لَا تُقْسَمُ قِسْمَةً لَازِمَةً؛ لَا فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَلَا غَيْرِهِ؛ وَإِنَّمَا فِي الْمُخْتَصَرَاتِ لَمَّا أَرَادُوا بَيَانَ فُرُوعِ قَوْلِنَا: الْقِسْمَةُ إقْرَارٌ أَوْ بَيْعٌ. فَإِذَا قُلْنَا: هِيَ بَيْعٌ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يُبَاعُ. وَإِذَا قُلْنَا: هِيَ إقْرَارٌ جَازَ

مسألة وقف على جماعة

قِسْمَتُهُ فِي الْجُمْلَةِ. وَلَمْ يَذْكُرُوا شُرُوطَ الْقِسْمَةِ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةً مِنْهُمْ فِي قِسْمَةِ الْوَقْفِ وَجْهَيْنِ، وَصَرَّحَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ الْوَقْفَ إنَّمَا يَجُوزُ قِسْمَتُهُ إذَا كَانَ عَلَى جِهَتَيْنِ فَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا تُقْسَمُ عَيْنُهُ اتِّفَاقًا: فَالتَّعْلِيقُ حَقُّ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ؛ لَكِنْ تَجُوزُ الْمُهَايَأَةُ عَلَى مَنَافِعِهِ. وَ " الْمُهَايَأَةُ بِلَا مُنَاقَلَةٍ، فَإِنْ تَرَاضَوْا بِذَلِكَ أُعِيدَ الْمَكَانُ شَائِعًا كَمَا كَانَ فِي الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ وَقْفٍ عَلَى جَمَاعَةٍ] 907 - 66 مَسْأَلَةٌ: فِي وَقْفٍ عَلَى جَمَاعَةٍ، وَأَنَّ بَعْضَ الشَّرِكَةِ قَدْ دَفَعَ فِي الْفَاكِهَةِ مَبْلَغًا، وَأَنَّ بَعْضَ الشَّرِكَةِ امْتَنَعَ مِنْ التَّضْمِينِ وَالضَّمَانِ، وَطَلَبَ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّنْ يَشْتَرِيهِ قَدْرَ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَرَةِ. فَهَلْ يَحْكُمُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ بِالْبَيْعِ مَعَ الشَّرِكَةِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إذَا لَمْ تُمْكِنْ قِسْمَةُ ذَلِكَ قَبْلَ الْبَيْعِ بِلَا ضَرَرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ مَعَ شُرَكَائِهِ وَيُقَاسِمَهُمْ الثَّمَنَ. [مَسْأَلَةٌ فِي وَقْفٍ لِمَصَالِحِ الْحَرَمِ وَعِمَارَتِهِ] 908 - 67 مَسْأَلَةٌ: فِي وَقْفٍ لِمَصَالِحِ الْحَرَمِ وَعِمَارَتِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُصْرَفُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ وَالصَّدَقَاتِ، وَعَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ الْمُقِيمِينَ بِالْحَرَمِ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْقُوَّامِ وَالْفَرَّاشِينَ الْقَائِمِينَ بِالْوَظَائِفِ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ الْقَائِمُونَ بِالْوَظَائِفِ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمَسْجِدُ: مِنْ تَنْظِيفٍ، وَحِفْظٍ، وَفُرُشٍ، وَتَنْوِيرُهُ، وَفَتْحُ الْأَبْوَابِ؛ وَإِغْلَاقُهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ: هُمْ مِنْ مَصَالِحِهِ: يَسْتَحِقُّونَ مِنْ الْوَقْفِ عَلَى مَصَالِحِهِ. [مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ اشْتَرَى دَارًا وَلَمْ يَكُنْ فِي كُتُبِهِ غَيْرُ ثَلَاثِ حُدُودٍ وَالْحَدُّ الرَّابِعُ لِدَارٍ وَقْفٍ] 909 - 68 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ اشْتَرَى دَارًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي كُتُبِهِ غَيْرُ ثَلَاثِ حُدُودٍ، وَالْحَدُّ الرَّابِعُ لِدَارِ وَقْفٍ. ثُمَّ إنَّ الَّذِي اشْتَرَى هَدَمَ الدَّار وَعَمَّرَهَا. ثُمَّ إنَّهُ فَتَحَ الطَّاقَةَ فِي دَارِ الْوَقْفِ يَخْرُجُ النُّورُ مِنْهَا إلَى مَخْزَنٍ، وَجَعَلَ إلَى جَنْبِ الْجِدَارِ سِقَايَةً مُجَاوِرَةً لِلْوَقْفِ، مُحْدَثَةً، تَضُرُّ حَائِطَ الْوَقْفِ، وَبَرَزَ بُرُوزًا عَلَى دَوْرِ قَاعَةِ الْوَقْفِ. فَإِذَا بَنَى عَلَى دَوْرِ الْقَاعَةِ؛ وَجَعَلَ أَخْشَابَ سَقْفٍ عَلَى الْجِدَارِ الَّذِي لِلْوَقْفِ، وَفَعَلَ هَذَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّ الْأَمْرِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ كُلَّ سَنَةٍ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَوَلِيُّ الْأَمْرِ لَمْ يُؤَجِّرْهُ إلَى

مسألة في رجل ساكن في خان وقف وله مباشر لرسم عمارته وإصلاحه

الْآنَ، وَلَا الْمُبَاشِرِينَ. ثُمَّ إنَّ رَجُلًا حَلَفَ بِاَللَّهِ أَنَّهُ يَسْتَأْجِرُ هَذَا الْجِدَارَ، وَهُوَ بَيْنَ الدُّورِ، وَأُزِيلَ مَا فَعَلَهُ مِنْ الْبُرُوزِ وَالسِّقَايَةِ، وَلَمْ أُحْدِثْ فِيهِ عِمَارَةً إلَّا احْتِسَابًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَاسْتَأْجَرَهُ كُلَّ سَنَةٍ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، مُدَّةَ عِشْرِينَ سَنَةً، حَتَّى بَقِيَ دَوْرُ قَاعَةِ الْوَقْفِ نَيِّرَةً، وَلَمْ تَتَضَرَّرْ الْجِيرَةُ بِالْعُلُوِّ. فَهَلْ يَجُوزُ الْإِيجَارُ لِلَّذِي تَعَدَّى؟ أَمْ لِلَّذِي قَصَدَ الْمَثُوبَةَ وَزِيَادَةً لِلْوَقْفِ بِالْأُجْرَةِ إنْ أَجَّرَهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ الْمَنْفَعَةَ بِالزِّيَادَةِ، وَلِإِزَالَةِ الضَّرَرِ عَنْ الْوَقْفِ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى جِدَارِ الْوَقْفِ مَا يَضُرُّ بِهِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَدَعْوَاهُ الِاسْتِئْجَارَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بِغَيْرِ حُجَّةٍ. وَلَوْ آجَرَ إجَارَةً فِيهَا ضَرَرٌ عَلَى الْوَقْفِ لَمْ تَكُنْ إجَارَةً شَرْعِيَّةً. وَمَنْ طَلَبَ اسْتِئْجَارَهُ بَعْدَ هَذَا وَكَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْوَقْفِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ؛ بَلْ يَجِبُ أَنْ يُؤَجِّرَ، وَإِذَا كَانَ لَهُ نِيَّةٌ حَسَنَةٌ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ سَاكِنٍ فِي خَانِ وَقْفٍ وَلَهُ مُبَاشِرٌ لِرَسْمِ عِمَارَتِهِ وَإِصْلَاحِهِ] 910 - 69 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ سَاكِنٍ فِي خَانِ وَقْفٍ، وَلَهُ مُبَاشِرٌ لِرَسْمِ عِمَارَتِهِ وَإِصْلَاحِهِ، وَإِنَّ السَّاكِنَ أَخْبَرَ الْمُبَاشِرَ أَنَّ مَسْكَنَهُ يُخْشَى سُقُوطُهُ، وَهُوَ يُدَافِعُهُ، ثُمَّ إنَّ الْمُبَاشِرَ صَعِدَ إلَى الْمَسْكَنِ الْمَذْكُورِ، وَرَآهُ بِعَيْنِهِ، وَرَكَضَهُ بِرَجُلِهِ، وَقَالَ: لَيْسَ بِهَذَا سُقُوطٌ، وَلَا عَلَيْك مِنْهُ ضَرَرٌ؛ وَتَرَكَهُ وَنَزَلَ، فَبَعْدَ نُزُولِهِ سَقَطَ الْمَسْكَنُ الْمَذْكُورُ عَلَى زَوْجَةِ السَّاكِنِ وَأَوْلَادِهِ، فَمَاتَ ثَلَاثَةٌ، وَعُدِمَ جَمِيعُ مَالِهِ: فَهَلْ يَلْزَمُ الْمُبَاشِرَ مَنْ مَاتَ، وَيَغْرَمُ الْمَالَ الَّذِي عُدِمَ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: عَلَى هَذَا الْمُبَاشِرِ الْمَذْكُورِ الَّذِي تَقَدَّمَ إلَيْهِ وَأَخَّرَ الِاسْتِهْدَامَ ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِسُقُوطِهِ؛ بَلْ يَضْمَنُ، وَلَوْ كَانَ مَالِكَ الْمَكَانِ: إذَا خِيفَ السُّقُوطُ وَأُعْلِمَ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُعْلِمُ لَهُ مُسْتَأْجِرًا مِنْهُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ؛ لَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَشْتَرِطُ الْإِشْهَادَ عَلَيْهِ، وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ مُفَرِّطٌ بِتَرْكِ نَقْضِهِ وَإِصْلَاحِهِ، وَلَوْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ. فَإِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُرِيَ ذَلِكَ لِأَرْبَابِ الْخِبْرَةِ بِالْبِنَاءِ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ كَانَ مُفَرِّطًا

مسألة في مال موقوف على فكاك الأسرى

ضَامِنًا لِمَا تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِ؛ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ لِلْمُسْتَأْجِرِ: إنْ شِئْت فَاسْكُنْ، وَإِنْ شِئْت فَلَا تَسْكُنْ؛ فَإِنَّ هَذَا عُدْوَانٌ مِنْهُ. فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُؤَجِّرِ بِالْعِمَارَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْمَكَانُ، وَاَلَّتِي هِيَ مِنْ مُوجَبِ الْعَقْدِ. وَهَذِهِ الْعِمَارَةُ وَاجِبَةٌ مِنْ جِهَة حَقِّ أَهْلِ الْوَقْفِ وَمِنْ جِهَةِ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ. وَالْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ أَنْ يُفَرِّطَ فِي الْعِمَارَةِ الَّتِي اسْتَحَقَّهَا الْمُسْتَأْجِرُ. فَهَذَانِ التَّفْرِيطَانِ يَجِبُ عَلَيْهِ بِتَرْكِهِمَا ضَمَانُ مَا يُكَفُّ بِتَفْرِيطِهِ، فَيَضْمَنُ مَالَ الْوَقْفِ لِلْوَقْفِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَنَافِعُ الَّتِي اسْتَحَقَّهَا الْمُسْتَأْجِرُ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْعَيْنُ بَاقِيَةً؛ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ إيَّاهَا وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ. وَأَمَّا مَا تَلِفَ بِالتَّفْرِيطِ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي لِلْمُسْتَأْجِرِ فَيَضْمَنُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، وَيَضْمَنُ مَا تَلِفَ لِلْجِيرَانِ مِنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ. [مَسْأَلَةٌ فِي مَالٍ مَوْقُوفٍ عَلَى فِكَاكِ الْأَسْرَى] 911 - 70 مَسْأَلَةٌ: فِي مَالٍ مَوْقُوفٍ عَلَى فِكَاكِ الْأَسْرَى؛ وَإِذَا اُسْتُدِينَ بِمَالٍ فِي ذِمَمِ الْأَسْرَى بِخَلَاصِهِمْ لَا يَجِدُونَ وَفَاءَهُ: هَلْ يَجُوزُ صَرْفُهُ مِنْ الْوَقْفِ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَدَانَهُ وَلِيُّ فِكَاكِهِمْ بِأَمْرِ نَاظِرِ الْوَقْفِ أَوْ غَيْرِهِ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ يَجُوزُ ذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ الطَّرِيقُ فِي خَلَاصِ الْأَسْرَى أَجْوَدُ، مِنْ إعْطَاءِ الْمَالِ ابْتِدَاءً لِمَنْ يَفْتِكُهُمْ بِعَيْنِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُخَافُ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُصْرَفُ فِي غَيْرِ الْفِكَاكِ. وَأَمَّا هَذَا فَهُوَ مَصْرُوفٌ فِي الْفِكَاكِ قَطْعًا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُصْرَفَ عَيْنُ الْمَالِ فِي جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، أَوْ يُصْرَفَ مَا اُسْتُدِينَ، كَمَا «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَارَةً يَصْرِفُ مَالَ الزَّكَاةِ إلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَتَارَةً يَسْتَدِينُ لِأَهْلِ السُّهْمَانِ» ثُمَّ يَصْرِفُ الزَّكَاةَ إلَى أَهْلِ الدَّيْنِ. فَعُلِمَ أَنَّ الصَّرْفَ وَفَاءً كَالصَّرْفِ لِأَدَاءٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ تَحْتَهُ حِصَّةٌ فِي حَمَّامٍ وَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ] 912 - 71 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَحْتَهُ حِصَّةٌ فِي حَمَّامٍ وَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينٍ فَخَرِبَ شَيْءٌ مِنْ الْحَمَّامِ فِي زَمَانِ الْعَدُوِّ. فَأَجَرَ تِلْكَ الْحِصَّةَ لِشَخْصٍ مُدَّةَ ثَمَانِ سِنِينَ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ تِلْكَ الْأُجْرَةَ فِي الْعِمَارَةِ الضَّرُورِيَّةِ فِي

مسألة في وقف على تكفين الموتى

الْحَمَّامِ، فَعَمَرَ الْمُسْتَأْجِرُ، وَصَرَفَ فِي الْعِمَارَةِ: حَتَّى صَارَتْ أُجْرَةَ الْحِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَذُكِرَ أَنَّهُ فَضَلَ لَهُ عَلَى الْوَقْفِ مَالٌ زَائِدٍ عَنْ الْأُجْرَةِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمُؤَجِّرِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا عَمَرَ عِمَارَةً زَائِدَةً عَنْ الْعِمَارَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهَا لَمْ يَكُنْ عَلَى أَهْلِ الْحَمَّامِ أَنْ يَقُومُوا بِبَقِيَّةِ تِلْكَ الْعِمَارَةِ الزَّائِدَةِ، وَلَا قِيمَتِهَا؛ بَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا إذَا لَمْ يَضُرَّ أَخْذُهَا بِالْوَقْفِ. وَإِذَا كَانَتْ الْعِمَارَةُ تَزِيدُ كِرَاءَ الْحَمَّامِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ تَبْقَى الْعِمَارَةُ لَهُ؛ لَا يُعْطُونَهُ بِقِيمَتِهَا؛ بَلْ يَكُونُ مَا يَحْصُلُ مِنْ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ بِإِزَاءِ ذَلِكَ، جَازَ ذَلِكَ. وَإِنْ أَرَادَ أَهْلُ الْوَقْفِ أَنْ يَقْلَعُوا الْعِمَارَةَ الزَّائِدَةَ فَلَهُمْ ذَلِكَ؛ إذَا لَمْ تَنْقُصْ الْمَنْفَعَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ بِالْعَقْدِ. وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يُعْطُوهُ بَقِيَّةَ الْعِمَارَةِ يُزِيدُهُمْ فِي الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا زَادَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ جَازَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي وَقْفٍ عَلَى تَكْفِينِ الْمَوْتَى] 913 - 72 مَسْأَلَةٌ: فِي وَقْفٍ عَلَى تَكْفِينِ الْمَوْتَى، يُقْبَضُ رِيعُهُ كُلَّ سَنَةٍ عَلَى الشَّرْطِ: هَلْ يُتَصَدَّقُ بِهِ. وَهَلْ يُعْطَى مِنْهُ أَقَارِبُ الْوَاقِفِ الْفُقَرَاءُ؟ الْجَوَابُ: إذَا فَاضَ الْوَقْفُ عَنْ الْأَكْفَانِ صُرِفَ الْفَاضِلُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا كَانَ أَقَارِبُهُ مَحَاوِيجَ فَهُمْ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي فَقِيهٍ مُنَزَّلٍ فِي مَدْرَسَةٍ ثُمَّ غَابَ مُدَّةَ الْبَطَالَةِ] 914 - 73 مَسْأَلَةٌ: فِي فَقِيهٍ مُنَزَّلٍ فِي مَدْرَسَةٍ، ثُمَّ غَابَ مُدَّةَ الْبَطَالَةِ: فَهَلْ يَحِلُّ مَنْعُهُ مِنْ الْجَامِكِيَّةِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا لَمْ يَغِبْ إلَّا شَهْرَ الْبَطَالَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الشَّاهِدُ؛ لَا فَرْقَ فِي أَشْهُرِ الْبَطَالَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَطَّالُ شَاهِدًا أَوْ غَائِبًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي مُقْرِئٍ عَلَى وَظِيفَةٍ سَافَرَ وَاسْتَنَابَ شَخْصًا وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ فَلَمَّا عَادَ قَبَضَ الْجَمِيعَ] 915 - 74 مَسْأَلَةٌ: فِي مُقْرِئٍ عَلَى وَظِيفَةٍ، ثُمَّ إنَّهُ سَافَرَ وَاسْتَنَابَ شَخْصًا، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ فَلَمَّا عَادَ قَبَضَ الْجَمِيعَ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَكَانِ. فَهَلْ يَسْتَحِقُّ النَّائِبُ الْمَشْرُوطَ أَمْ لَا؟

مسألة فيمن عمن وقف وقفا مستغلا ثم مات فظهر عليه دين

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. نَعَمْ النَّائِبُ يَسْتَحِقُّ الْمَشْرُوطَ كُلَّهُ؛ لَكِنْ إذَا عَادَ الْمُسْتَنِيبُ فَهُوَ أَحَقُّ بِمَكَانِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ عَمَّنْ وَقَفَ وَقْفًا مُسْتَغَلًّا ثُمَّ مَاتَ فَظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ] 916 - 75 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ عَمَّنْ وَقَفَ وَقْفًا مُسْتَغَلًّا، ثُمَّ مَاتَ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ: فَهَلْ يُبَاعُ الْوَقْفُ فِي دَيْنِهِ. الْجَوَابُ: إذَا أَمْكَنَ وَفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَفَاءُ الدَّيْنِ إلَّا بِبَيْعِ شَيْءٍ مِنْ الْوَقْفِ - وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ - بِيعَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ فِي الصِّحَّةِ: فَهَلْ يُبَاعُ لِوَفَاءِ الدَّيْنِ؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ. وَمَنْعُهُ قَوْلٌ قَوِيٌّ. [مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ قَالَ فِي مَرَضِهِ إذَا مِتّ فَدَارِي وَقْفٌ عَلَى الْمَسْجِدِ الْفُلَانِيِّ فَتَعَافَى] 917 - 76 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَالَ فِي مَرَضِهِ: إذَا مِتّ فَدَارِي وَقْفٌ عَلَى الْمَسْجِدِ الْفُلَانِيِّ، فَتَعَافَى، ثُمَّ حَدَثَ عَلَيْهِ دُيُونٌ: فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْوَقْفُ وَيَلْزَمُ. أَمْ لَا؟ . يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهَا فِي الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ؛ وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَلَيْسَ هَذَا بِأَبْلَغَ مِنْ التَّدْبِيرِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ بَاعَ الْمُدَبَّرَ فِي الدَّيْنِ» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى ضَرِيحِ رَسُولِ اللَّه] 918 - 77 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى ضَرِيحِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَسْمِ شَمْعٍ أَوْ زَيْتٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ إنَّهُ قَصَدَ أَنْ يُغَيِّرَ الْوَقْفَ وَيَجْعَلَهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ بِالْقَاهِرَةِ. وَإِنْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ: فَهَلْ يَجُوزُ عَلَى الْفُقَرَاءِ الْمُجَاوِرِينَ بِالْمَدِينَةِ - مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: أَمَّا الْوَصِيَّةُ بِمَا يُفْعَلُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا وَيُغَيِّرَهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلَوْ كَانَ قَدْ أَشْهَدَ بِهَا وَأَثْبَتَهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ وَصِيَّةً بِوَقْفٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ غَيْرِ

مسألة في الوقف إذا فضل من ريعه واستغني عنه

ذَلِكَ. وَفِي الْوَقْفِ الْمُعَلَّقِ بِمَوْتِهِ وَالْعِتْقِ نِزَاعَانِ مَشْهُورَانِ. وَالْوَقْفُ عَلَى زَيْتٍ وَشَمْعٍ يُوقَدُ عَلَى قَبْرٍ لَيْسَ بِرًّا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ بَلْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» . وَأَمَّا تَنْوِيرُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَغَيْرِهِ فَتَنْوِيرُ بُيُوتِ اللَّهِ حَسَنٌ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ لِلْمَسْجِدِ مَا يَكْفِي تَنْوِيرَهُ لَمْ يَكُنْ لِلزِّيَادَةِ الَّتِي لَا فَائِدَةَ فِيهَا فَائِدَةٌ مَشْرُوعَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَصْرُوفًا فِي تَنْوِيرِهِ؛ بَلْ تُصْرَفُ فِي غَيْرِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي الْوَقْفِ إذَا فَضَلَ مِنْ رِيعِهِ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ] 919 - 78 مَسْأَلَةٌ: فِي الْوَقْفِ إذَا فَضَلَ مِنْ رِيعِهِ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ؟ الْجَوَابُ: يُصْرَفُ فِي نَظِيرِ تِلْكَ الْجِهَةِ كَالْمَسْجِدِ إذَا فَضَلَ عَنْ مَصَالِحِهِ صُرِفَ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ غَرَضُهُ فِي الْجِنْسِ، وَالْجِنْسُ وَاحِدٌ، فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمَسْجِدَ الْأَوَّلَ خَرِبَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ أَحَدٌ صُرِفَ رِيعُهُ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ، فَكَذَلِكَ إذَا فَضَلَ عَنْ مَصْلَحَتِهِ شَيْءٌ؛ فَإِنَّ هَذَا الْفَاضِلَ لَا سَبِيلَ إلَى صَرْفِهِ إلَيْهِ؛ وَلَا إلَى تَعْطِيلِهِ، فَصَرْفُهُ فِي جِنْسِ الْمَقْصُودِ أَوْلَى، وَهُوَ أَقْرَبُ الطُّرُقِ إلَى مَقْصُودِ الْوَاقِفِ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ حَضَّ النَّاسَ عَلَى إعْطَاءِ مُكَاتَبٍ، فَفَضَلَ شَيْءٌ عَنْ حَاجَتِهِ فَصَرَفَهُ فِي الْمُكَاتَبِينَ. [مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ صَالِحٍ فَرَضَ لَهُ الْقَاضِي بِشَيْءٍ مِنْ الصَّدَقَاتِ لِأَجْلِهِ وَأَجْلِ الْفُقَرَاءِ الْوَارِدِينَ عَلَيْهِ] 920 - 79 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ صَالِحٍ فَرَضَ لَهُ الْقَاضِي بِشَيْءٍ مِنْ الصَّدَقَاتِ لِأَجْلِهِ وَأَجْلِ الْفُقَرَاءِ الْوَارِدِينَ عَلَيْهِ. فَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُزَاحِمَهُ فِي ذَلِكَ أَوْ يَتَغَلَّبَ عَلَيْهِ بِالْيَدِ الْقَوِيَّةِ؟ الْجَوَابُ: قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَسْتَامُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَلَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ مَا فِي صَفْحَتِهَا؛ فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» . فَإِذَا «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي

مسألة في وقف أرض على مسجد فيها أشجار معطلة من الثمر وتعطلت الأرض من الزراعة بسببها

عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ قَدْ نَهَى أَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَأَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَتِهِ» قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَطْلُوبُ فِي مِلْكِ الْإِنْسَانِ فَكَيْفَ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجِيءَ إلَى مَنْ فَرَضَ لَهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَى الصَّدَقَاتِ أَوْ غَيْرِهَا مَا يَسْتَحِقُّهُ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ فَيُزَاحِمُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيُرِيدُ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْهُ؟ فَإِنَّ هَذَا أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي وَقْفِ أَرْضٍ عَلَى مَسْجِدٍ فِيهَا أَشْجَارٌ مُعَطَّلَةٌ مِنْ الثَّمَرِ وَتَعَطَّلَتْ الْأَرْضُ مِنْ الزِّرَاعَةِ بِسَبَبِهَا] 921 - 80 مَسْأَلَةٌ: فِي وَقْفِ أَرْضٍ عَلَى مَسْجِدٍ فِيهَا أَشْجَارٌ مُعَطَّلَةٌ مِنْ الثَّمَرِ، وَتَعَطَّلَتْ الْأَرْضُ مِنْ الزِّرَاعَةِ بِسَبَبِهَا. فَهَلْ يَجُوزُ قَلْعُ الْأَشْجَارِ، وَصَرْفُ ثَمَنِهَا فِي مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ وَتُزْرَعُ الْأَرْضُ وَيُنْتَفَعُ بِهَا؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ. إذَا كَانَ قَلْعُ الْأَشْجَارِ مَصْلَحَةً لِلْأَرْضِ بِحَيْثُ يَزِيدُ الِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ إذَا قُلِعَتْ فَإِنَّهَا تُقْلَعُ. وَيَنْبَغِي لِلنَّاظِرِ أَنْ يَقْلَعَهَا وَيَفْعَلَ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لِلْوَقْفِ، وَيَصْرِفَ ثَمَنَهَا فِيمَا هُوَ أَصْلَحُ لِلْوَقْفِ مِنْ عِمَارَةِ الْوَقْفِ، أَوْ مَسْجِدٍ، إنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي مَصِيفِ مَسْجِدٍ بُنِيَ فِيهِ قَبْرُ فَسْقِيَّةٍ وَهُدِمَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَلِلْمَسْجِدِ بَيْتُ خَلَاءٍ] 922 - 81 مَسْأَلَةٌ: فِي مَصِيفِ مَسْجِدٍ بُنِيَ فِيهِ قَبْرُ فَسْقِيَّةٍ، وَهُدِمَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَلِلْمَسْجِدِ بَيْتُ خَلَاءٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَوْضِعٌ يَسَعُ الْوُضُوءَ. فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُعْمَلَ فِي الْمَصِيفِ مَكَان لِلْوُضُوءِ، وَيُتْرَكَ مَا هُوَ فِي الْفَسْقِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ بُنِيَتْ قَبْرًا؟ فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ. نَعَمْ، إذَا كَانَ هَذَا مَصْلَحَةً لِلْمَسْجِدِ وَأَهْلِهِ وَلَيْسَ مَحْذُورٌ إلَّا مُجَرَّدَ الْوُضُوءِ فِي الْمَسْجِدِ جَازَ أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْوُضُوءَ فِي الْمَسْجِدِ جَائِزٌ؛ بَلْ لَا يُكْرَهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي مَسْجِدٍ مُغْلَقٍ عَتِيقٍ فَسَقَطَ وَهُدِمَ وَأُعِيدَ مِثْلَ مَا كَانَ] 923 - 82 مَسْأَلَةٌ: فِي مَسْجِدٍ مُغْلَقٍ عَتِيقٍ، فَسَقَطَ وَهُدِمَ وَأُعِيدَ مِثْلَ مَا كَانَ فِي طُولِهِ وَعَرْضِهِ، وَرَفَعَهُ الْبَانِي لَهُ عَنْ مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَقَدَّمَهُ إلَى قُدَّامٍ، وَكَانَ تَحْتَهُ خَلْوَةٌ فَعَمِلَ تَحْتَهُ بَيْتًا لِمَصْلَحَةِ الْمَسْجِدِ. فَهَلْ يَجُوزُ تَجْدِيدُ الْبَيْتِ وَسَكَنُهُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. نَعَمْ، يَجُوزُ أَنْ يُعْمَلَ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ مَصْلَحَةً لِلْمَسْجِدِ

مسألة في مساجد وجامع يحتاج إلى عمارة وعليها رواتب مقررة على القابض والريع لا يقوم بذلك

وَأَهْلِهِ: مِنْ تَجْدِيدِ عِمَارَةٍ وَتَغْيِيرِ الْعِمَارَةِ مِنْ صُورَةٍ إلَى صُورَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي مَسَاجِدَ وَجَامِعٍ يَحْتَاجُ إلَى عِمَارَةٍ وَعَلَيْهَا رَوَاتِبُ مُقَرَّرَةٌ عَلَى الْقَابِضِ وَالرِّيعُ لَا يَقُومُ بِذَلِكَ] 924 - 83 مَسْأَلَةٌ: فِي مَسَاجِدَ وَجَامِعٍ يَحْتَاجُ إلَى عِمَارَةٍ، وَعَلَيْهَا رَوَاتِبُ مُقَرَّرَةٌ عَلَى الْقَابِضِ وَالرِّيعُ لَا يَقُومُ بِذَلِكَ. فَهَلْ يَحِلُّ أَنْ يُصْرَفَ لِأَحَدٍ قَبْلَ الْعِمَارَةِ الضَّرُورِيَّةِ؟ وَإِلَى مَنْ يَحِلُّ؟ وَمَا يُصْنَعُ بِمَا يَفْضُلُ عَنْ الرِّيعِ أَيُدَّخَرُ أَمْ يَشْتَرِي بِهِ عَقَارًا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِأَنْ يَصْرِفَ مَا لَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهِ لِضَرُورَةِ أَهْلِهِ، وَقِيَامِ الْعَمَلِ الْوَاجِبِ بِهِمْ، وَأَنْ يُعَمِّرَ بِالْبَاقِي: كَانَ هَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ. وَإِنْ تَأَخَّرَ بَعْضُ الْعِمَارَةِ قَدْرًا لَا يَضُرُّ تَأَخُّرُهُ؛ فَإِنَّ الْعِمَارَةَ وَاجِبَةٌ، وَالْأَعْمَالَ الَّتِي لَا تَقُومُ إلَّا بِالرِّزْقِ وَاجِبَةٌ، وَسَدَّ الْفَاقَاتِ وَاجِبَةٌ، فَإِذَا أُقِيمَتْ الْوَاجِبَاتُ كَانَ أَوْلَى مِنْ تَرْكِ بَعْضِهَا. وَأَمَّا مَنْ لَا تَقُومُ الْعِمَارَةُ إلَّا بِهِمْ: مِنْ الْعُمَّالِ وَالْحُسَّابِ فَهُمْ مِنْ الْعِمَارَةِ. وَأَمَّا مَا فَضَلَ مِنْ الرِّيعِ عَنْ الْمَصَارِفِ الْمَشْرُوطَةِ وَمَصَارِفِ الْمَسَاجِدِ فَيُصْرَفُ فِي جِنْسِ ذَلِكَ: مِثْلَ عِمَارَةِ مَسْجِدٍ آخَرَ، وَمَصَالِحِهَا؛ وَإِلَى جِنْسِ الْمَصَالِحِ، وَلَا يُحْبَسُ الْمَالُ أَبَدًا لِغَيْرِ عِلَّةٍ مَحْدُودَةٍ؛ لَا سِيَّمَا فِي مَسَاجِدَ قَدْ عُلِمَ أَنَّ رِيعَهَا يَفْضُلُ عَنْ كِفَايَتِهَا دَائِمًا، فَإِنَّ حَبْسَ مِثْلِ هَذَا الْمَالِ مِنْ الْفَسَادِ {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] . [مَسْأَلَةٌ فِي حَاكِمٍ خَطِيبٍ رُتِّبَ لَهُ عَلَى فَائِضِ مَسْجِدِ رِزْقُهُ] 925 - 84 مَسْأَلَةٌ: فِي حَاكِمٍ خَطِيبٍ رُتِّبَ لَهُ عَلَى فَائِضِ مَسْجِدِ رِزْقُهُ، فَيَبْقَى سَنَتَيْنِ لَا يَتَنَاوَلُ شَيْئًا؛ لِعَدَمِ الْفَائِضِ. ثُمَّ زَادَ الرِّيعُ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ: فَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ رِزْقَ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ ذَلِكَ الْمُغَلِّ؟ الْجَوَابُ: إنْ كَانَ لِمُغَلِّ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مَصَارِفُ شَرْعِيَّةٌ بِالشَّرْطِ الصَّحِيحِ وَجَبَ صَرْفُهَا فِيهِ، وَلَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَخْذُهُ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَصْرِفٌ أَصْلًا وَاقْتَضَى نَظَرُ

مسألة في الواقف والناذر يوقف شيئا ثم يرى غيره أحظ للموقوف عليه منه

الْإِمَامِ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى الْحَاكِمِ عِوَضًا عَمَّا فَاتَهُ فِي الْمَاضِي جَازَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي الْوَاقِفِ وَالنَّاذِرِ يُوقِفُ شَيْئًا ثُمَّ يَرَى غَيْرَهُ أَحَظَّ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنْهُ] 926 - 85 مَسْأَلَةٌ: فِي الْوَاقِفِ وَالنَّاذِرِ يُوقِفُ شَيْئًا؛ ثُمَّ يَرَى غَيْرَهُ أَحَظَّ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنْهُ هَلْ يَجُوزُ إبْدَالُهُ؛ كَمَا فِي الْأُضْحِيَّةِ؟ الْجَوَابُ: وَأَمَّا إبْدَالُ الْمَنْذُورِ وَالْمَوْقُوفِ بِخَيْرٍ مِنْهُ كَمَا فِي إبْدَالِ الْهَدْيِ: فَهَذَا نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِبْدَالَ لِلْحَاجَةِ مِثْلَ أَنْ يَتَعَطَّلَ فَيُبَاعَ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ: كَالْفَرَسِ الْحَبِيسِ لِلْغَزْوِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلْغَزْوِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَالْمَسْجِدِ إذَا خَرِبَ مَا حَوْلَهُ فَتُنْقَلُ آلَتُهُ إلَى مَكَان آخَرَ. أَوْ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ أَوْ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنْ مَقْصُودِ الْوَاقِفِ فَيُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ. وَإِذَا خَرِبَ وَلَمْ تُمْكِنْ عِمَارَتُهُ فَتُبَاعُ الْعَرْصَةُ، وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهَا مَا يَقُومُ مَقَامَهَا: فَهَذَا كُلُّهُ جَائِزٌ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ إذَا لَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْمَقْصُودُ قَامَ بَدَلُهُ مَقَامَهُ. وَالثَّانِي: الْإِبْدَالُ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ مِثْلَ أَنْ يُبْدِلَ الْهَدْيَ بِخَيْرٍ مِنْهُ، وَمِثْلَ الْمَسْجِدِ إذَا بُنِيَ بَدَلَهُ مَسْجِدٌ آخَرُ أَصْلَحُ لِأَهْلِ الْبَلَدِ مِنْهُ، وَبِيعَ الْأَوَّلُ: فَهَذَا وَنَحْوُهُ جَائِزٌ عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَقَلَ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ الْقَدِيمَ إلَى مَكَان آخَرَ؛ وَصَارَ الْأَوَّلُ - سُوقًا لِلتَّمَّارِينَ فَهَذَا إبْدَالٌ لِعَرْصَةِ الْمَسْجِدِ. وَأَمَّا إبْدَالُ بِنَائِهِ بِبِنَاءٍ آخَرَ، فَإِنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ بَنَيَا مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَاءً غَيْرَ بِنَائِهِ الْأَوَّلِ وَزَادَا فِيهِ؛ وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ لَوْلَا أَنَّ قَوْمَك حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَنَقَضْت الْكَعْبَةَ، وَلَأَلْصَقْتهَا بِالْأَرْضِ؛ وَلَجَعَلْت لَهَا بَابَيْنِ بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ، وَبَابًا يَخْرُجُ النَّاسُ مِنْهُ» . فَلَوْلَا الْمُعَارِضُ الرَّاجِحُ لَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُغَيِّرُ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ. فَيَجُوزُ تَغْيِيرُ بِنَاءِ الْوَقْفِ مِنْ صُورَةٍ إلَى صُورَةٍ؛ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ. وَأَمَّا إبْدَالُ الْعَرْصَةِ بِعَرْصَةٍ أُخْرَى: فَهَذَا قَدْ نَصَّ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَلَى جَوَازِهِ اتِّبَاعًا

مسألة فيمن أوقف وقفا على الفقراء وهو من كروم يحصل لأصحابها ضرر به

لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ، وَاشْتُهِرَتْ الْقَضِيَّةُ، وَلَمْ تُنْكَرْ. وَأَمَّا مَا وُقِفَ لِلْغَلَّةِ إذَا أُبْدِلَ بِخَيْرٍ مِنْهُ: مِثْلَ أَنْ يَقِفَ دَارًا أَوْ حَانُوتًا أَوْ بُسْتَانًا أَوْ قَرْيَةً يَكُونُ مُغَلُّهَا قَلِيلًا فَيُبْدِلَهَا بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْوَقْفِ: فَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ أَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ: مِثْلَ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ حربويه، قَاضِي مِصْرَ، وَحُكِمَ بِذَلِكَ. وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ فِي تَبْدِيلِ الْمَسْجِدِ مِنْ عَرْصَةٍ إلَى عَرْصَةٍ لِلْمَصْلَحَةِ؛ بَلْ إذَا جَازَ أَنْ يُبْدِلَ الْمَسْجِدَ بِمَا لَيْسَ بِمَسْجِدٍ لِلْمَصْلَحَةِ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمَسْجِدُ سُوقًا فَلَأَنْ يَجُوزَ إبْدَالُ الْمُسْتَغَلِّ بِمُسْتَغَلٍّ آخَرَ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِهِ فِي إبْدَالِ الْهَدْيِ بِخَيْرٍ مِنْهُ. وَقَدْ نُصَّ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ اللَّاصِقَ بِأَرْضٍ إذَا رَفَعُوهُ وَبَنَوْا تَحْتَهُ سِقَايَةً، وَاخْتَارَ ذَلِكَ الْجِيرَانُ فُعِلَ ذَلِكَ. لَكِنْ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ مَنَعَ إبْدَالَ الْمَسْجِدِ وَالْهَدْيِ وَالْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ؛ لَكِنَّ النُّصُوصَ وَالْآثَارَ وَالْقِيَاسَ تَقْتَضِي جَوَازَ الْإِبْدَالِ لِلْمَصْلَحَةِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ أَوْقَفَ وَقْفًا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَهُوَ مِنْ كُرُومٍ يَحْصُلُ لِأَصْحَابِهَا ضَرَرٌ بِهِ] 927 - 86 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ أَوْقَفَ وَقْفًا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَهُوَ مِنْ كُرُومٍ يَحْصُلُ لِأَصْحَابِهَا ضَرَرٌ بِهِ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَيَقِفَ غَيْرَهُ؟ وَهَلْ إذَا فَعَلَ يَكُونُ الِاثْنَانِ وَقْفًا؟ الْجَوَابُ: إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْجِيرَانِ جَازَ أَنْ يُنَاقِلَ عَنْهُ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَيَعُودُ الْأَوَّلُ مِلْكًا، وَالثَّانِي وَقْفًا، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ لَمَّا جَعَلَ مَكَانَهُ مَسْجِدًا صَارَ الْأَوَّلُ سُوقًا لِلتَّمَّارِينَ. [مَسْأَلَةٌ حَوْضِ سَبِيلٍ وَعَلَيْهِ وَقْفٌ إسْطَبْلٌ وَقَدْ بَاعَهُ النَّاظِرُ وَلَمْ يَشْتَرِ بِثَمَنِهِ شَيْئًا مِنْ مُدَّةِ سِتِّ سِنِينَ] 928 - 87 مَسْأَلَةٌ: فِي حَوْضِ سَبِيلٍ، وَعَلَيْهِ وَقْفٌ إسْطَبْلٌ، وَقَدْ بَاعَهُ النَّاظِرُ، وَلَمْ يَشْتَرِ بِثَمَنِهِ شَيْئًا مِنْ مُدَّةِ سِتِّ سِنِينَ. فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا بَيْعُهُ بِغَيْرِ اسْتِبْدَالٍ لِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا إذَا بَاعَهُ لِتَعَطُّلِ نَفْعِهِ وَاشْتَرَى بِالثَّمَنِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ فَهَذَا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ فِي قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ اسْتَبْدَلَ بِهِ خَيْرًا مِنْهُ مَعَ وُجُودِ نَفْعِهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة في قرية بها عدة مساجد لا تقام الصلاة إلا في واحد منها ولها وقف عليها كلها

[مَسْأَلَةٌ فِي قَرْيَةٍ بِهَا عِدَّةُ مَسَاجِدَ لَا تُقَامُ الصَّلَاةُ إلَّا فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَلَهَا وَقْفٌ عَلَيْهَا كُلِّهَا] مَسْأَلَةٌ: فِي قَرْيَةٍ بِهَا عِدَّةُ مَسَاجِدَ بَعْضُهَا قَدْ خَرِبَ لَا تُقَامُ الصَّلَاةُ إلَّا فِي وَاحِدٍ مِنْهَا، وَلَهَا وَقْفٌ عَلَيْهَا كُلِّهَا فَهَلْ تَجِبُ عِمَارَةُ الْخَرِبِ وَإِقَامَةُ الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدٍ ثَانٍ؟ وَهَلْ يَحِلُّ إغْلَاقُهَا؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ، تَجِبُ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ إلَى إقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ. وَكَذَلِكَ تَرْتِيبُ إمَامٍ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ يَجِبُ أَنْ يُفْعَلَ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ وَالْحَاجَةِ؛ وَلَا يَحِلُّ إغْلَاقُ الْمَسَاجِدِ عَمَّا شُرِعَتْ لَهُ. وَأَمَّا عِنْدَ قِلَّةِ أَهْلِ الْبُقْعَةِ وَاكْتِفَائِهِمْ بِمَسْجِدٍ وَاحِدٍ مِثْلَ أَنْ يَكُونُوا حَوْلَهُ فَلَا يَجِبُ تَفْرِيقُ شَمْلِهِمْ فِي غَيْرِ مَسْجِدِهِمْ. [مَسْأَلَةٌ فِي وَقْفٍ عَلَى جَمَاعَةٍ تُوُفِّيَ بَعْضُهُمْ وَلَهُ شَقِيقٌ وَوَلَدٌ] 930 - 89 مَسْأَلَةٌ: فِي وَقْفٍ عَلَى جَمَاعَةٍ تُوُفِّيَ بَعْضُهُمْ، وَلَهُ شَقِيقٌ وَوَلَدٌ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ مُسْتَفِيضٌ فِي مِثْلِهِ: هَلْ يُخَصُّ الْوَلَدُ أَمْ الْأَخُ؟ فَشَهِدَ قَوْمٌ أَنَّهُ يُخَصُّ الْوَلَدُ دُونَ الْأَخِ بِمُقْتَضَى الْوَقْفِ، مَعَ عَدَمِ تَحْقِيقِهِمْ الْحَدَّ الْمَوْقُوفَ؛ بِحَيْثُ إنَّهُمْ غَيَّرُوا بَعْضَ الْحُدُودِ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ؟ وَهَلْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِمْ هَذِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ؟ وَمَا الْحُكْمُ فِي مَجْمُوعِ السُّؤَالِ؟ أَفْتُونَا مُفَصَّلًا مَأْجُورِينَ. إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. الشَّهَادَةُ فِي الْوَقْفِ بِالِاسْتِحْقَاقِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِرْثِ مِنْ الْأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، كَطَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ، وَلَكِنَّ الشَّاهِدَ يَشْهَدُ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ الشُّرُوطِ؛ ثُمَّ الْحَاكِمُ يَحْكُمُ فِي الشَّرْطِ بِمُوجَبِ اجْتِهَادِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْوَقْفِ الَّذِي يُشْتَرَى بِعِوَضِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ] 931 - 90 مَسْأَلَةٌ: عَنْ الْوَقْفِ الَّذِي يُشْتَرَى بِعِوَضِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ: وَذَلِكَ مِثْلُ الْوَقْفِ الَّذِي أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ عِوَضُهُ يُشْتَرَى بِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، فَإِنَّ الْوَقْفَ مَضْمُونٌ بِالِاخْتِلَافِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَمَضْمُونٌ بِالْيَدِ. فَلَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ تَلِفَ تَحْتَ يَدِهِ الْفَادِيَةِ فَإِنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ: لَكِنْ قَدْ تَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ هَلْ تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ كَالْعَقَارِ؟ وَفِي بَعْضِهَا هَلْ يَصِحُّ وَقْفُهُ كَالْمَنْقُولِ؟ وَلَكِنْ لَمْ يَتَنَازَعُوا أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ بِالْيَدِ كَالْأَمْوَالِ: بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْإِتْلَافِ فَقَدْ تَنَازَعُوا هَلْ تُضْمَنُ بِالْيَدِ أَوْ لَا؟ فَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ:

هِيَ مَضْمُونَةٌ بِالْيَدِ: كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَقُولُ لَا تُضْمَنُ بِالْيَدِ. وَضَمَانُ الْيَدِ هُوَ ضَمَانُ الْعَقْدِ. كَضَمَانِ الْبَائِعِ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ، وَسَلَامَتَهُ مِنْ الْعَيْبِ، وَإِنَّهُ بَيْعٌ بِحَقٍّ. وَضَمَانُ دَرْكِهِ عَلَيْهِ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ بِلَفْظِهِ. وَمِنْ أُصُولِ الِاشْتِرَاءِ بِبَدَلِ الْوَقْفِ: إذَا تَعَطَّلَ نَفْعُ الْوَقْفِ؛ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ. وَهَلْ يَجُوزُ مَعَ كَوْنِهِ مَثَلًا أَنْ يُبْدَلَ بِخَيْرٍ مِنْهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِهِ. وَالْجَوَازُ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ حَيْثُ جَازَ الْبَدَلُ: هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّرْبِ أَوْ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْوَقْفُ الْأَوَّلُ. أَمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَصْلَحَ لِأَهْلِ الْوَقْفِ مِثْلَ أَنْ يَكُونُوا مُقِيمِينَ بِبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِ الْوَقْفِ، وَإِذَا اُشْتُرِيَ فِيهِ الْبَدَلُ كَانَ أَنْفَعَ لَهُمْ لِكَثْرَةِ الرِّيعِ وَيُسْرِ التَّنَاوُلِ؟ فَنَقُولُ: مَا عَلِمْت أَحَدًا اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ فِي بَلَدِ الْوَقْفِ الْأَوَّلِ، بَلْ النُّصُوصُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأُصُولُهُ وَعُمُومُ كَلَامِهِ وَكَلَامِ أَصْحَابِهِ وَإِطْلَاقُهُ يَقْتَضِي أَنْ يُفْعَلَ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ مَصْلَحَةُ أَهْلِ الْوَقْفِ فَإِنَّ أَصْلَهُ فِي هَذَا الْبَابِ مُرَاعَاةُ مَصْلَحَةِ الْوَقْفِ، بَلْ أَصْلَهُ فِي عَامَّةِ الْعُقُودِ اعْتِبَارُ مَصْلَحَةِ النَّاسِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالصَّلَاحِ، وَنَهَى عَنْ الْفَسَادِ وَبَعَثَ رُسُلَهُ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا. {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142] وَقَالَ شُعَيْبٌ: {إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88] وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ - أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 11 - 12] . وَقَدْ جَوَّزَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إبْدَالَ مَسْجِدٍ بِمَسْجِدٍ آخَرَ لِلْمَصْلَحَةِ ، كَمَا جَوَّزَ تَغْيِيرَهُ لِلْمَصْلَحَةِ. وَاحْتَجَّ بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَبْدَلَ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ الْقَدِيمَ بِمَسْجِدٍ آخَرَ، وَصَارَ الْمَسْجِدُ الْأَوَّلُ سُوقًا لِلتَّمَّارِينَ. وَجَوَّزَ أَحْمَدُ إذَا خَرِبَ الْمَكَانُ أَنْ

مسألة ناصب على أرض وقف على أن للوقف ثلثي الشجر المنصوب

يُنْقَلَ الْمَسْجِدُ إلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى؛ بَلْ وَيَجُوزُ؛ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: أَنْ يُبَاعَ ذَلِكَ الْمَسْجِدُ وَيُعَمَّرُ بِثَمَنِهِ مَسْجِدٌ آخَرُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى إذَا لَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ فِي الْقَرْيَةِ الْأُولَى. فَاعْتَبَرَ الْمَصْلَحَةَ بِجِنْسِ الْمَسْجِدِ؛ وَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ غَيْرِ الْقَرْيَةِ الْأُولَى إذْ كَانَ جِنْسُ الْمَسَاجِدِ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْمٍ بِعَيْنِهِمْ أَحَقُّ بِجَوَازِ نَقْلِهِ إلَى مَدِينَتِهِمْ مِنْ الْمَسْجِدِ. فَإِنَّ الْوَقْفَ عَلَى مُعَيَّنِينَ حَقٌّ لَهُمْ، لَا يَشْرَكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ. وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ انْقِضَائِهِمْ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْفُقَرَاءِ؛ وَالْمَسَاكِينِ. فَيَكُونُ كَالْمَسْجِدِ. فَإِذَا كَانَ الْوَقْفُ بِبَلَدِهِمْ أَصْلَحَ لَهُمْ كَانَ اشْتِرَاءُ الْبَدَلِ بِبَلَدِهِمْ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي فِعْلُهُ لِتَوَلِّي ذَلِكَ. وَصَارَ هَذَا كَالْفَرَسِ الْحَبِيسِ الَّذِي يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِقِيمَتِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ إذَا كَانَ مَحْبُوسًا عَلَى نَاسٍ بِبَعْضِ الثُّغُورِ، ثُمَّ انْتَقَلُوا إلَى ثَغْرٍ آخَرَ، فَشِرَاءُ الْبَدَلِ بِالثَّغْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مَضْمُونٌ أَوْلَى مِنْ شِرَائِهِ بِثَغْرٍ آخَرَ. وَإِنْ كَانَ الْفَرَسُ حَبِيسًا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْمَسَاجِدِ وَالْوَقْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الْوَقْفَ لَوْ كَانَ مَنْقُولًا كَالنُّورِ وَالسِّلَاحِ وَكُتُبِ الْعِلْمِ؛ وَهُوَ وَقْفٌ عَلَى ذُرِّيَّةِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِمْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَقَرُّ الْوَقْفِ حَيْثُ كَانُوا بَلْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُتَعَيَّنُ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ أُوقِفَ عَلَى أَهْلِ بَلَدٍ بِعَيْنِهِ. لَكِنْ إذَا صَارَ لَهُ عِوَضٌ: هَلْ يُشْتَرَى بِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَنْقُولًا؟ فَإِنْ يُشْتَرَ بِهَذَا الْعِوَضِ فِي بَلَدٍ مَقَامِهِمْ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُشْتَرَى بِهِ فِي مَكَانِ الْعَقَارِ الْأَوَّلِ، إذَا كَانَ ذَلِكَ أَصْلَحَ لَهُمْ: إذْ لَيْسَ فِي تَخْصِيصِ مَكَانِ الْعَقَارِ الْأَوَّلِ مَقْصُودٌ شَرْعِيٌّ، وَلَا مَصْلَحَةٌ لِأَهْلِ الْوَقْفِ. وَمَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ الشَّارِعُ وَلَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْإِنْسَانِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ. فَعُلِمَ أَنَّ تَعْيِينَ الْمَكَانِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ لِمَنْ يَشْتَرِي بِالْعِوَضِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ؛ بَلْ الْعُدُولُ عَنْ ذَلِكَ جَائِزٌ. وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إذَا تَعَيَّنَتْ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ نَاصَبَ عَلَى أَرْضِ وَقْفٍ عَلَى أَنَّ لِلْوَقْفِ ثُلُثَيْ الشَّجَرِ الْمَنْصُوبِ] 932 - 91 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ نَاصَبَ عَلَى أَرْضِ وَقْفٍ عَلَى أَنَّ لِلْوَقْفِ ثُلُثَيْ الشَّجَرِ الْمَنْصُوبِ، وَلِلْعَامِلِ الثُّلُثَ فَهَلْ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ النُّظَّارِ بَيْعُ نَصِيبِ الْوَقْفِ مِنْ الشَّجَرِ؟

مسألة امرأة وقفت على ولديها دكاكين ودارا ثم بعد بنيها وبني أولادها يرجع على وقف مدرسة

الْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ ذَلِكَ إلَّا لِحَاجَةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ امْرَأَةٍ وَقَفَتْ عَلَى وَلَدَيْهَا دَكَاكِينَ وَدَارًا ثُمَّ بَعْدَ بَنِيهَا وَبَنِي أَوْلَادِهَا يَرْجِعُ عَلَى وَقْفِ مَدْرَسَةِ] 933 - 92 مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ وَقَفَتْ عَلَى وَلَدَيْهَا دَكَاكِينَ وَدَارًا، ثُمَّ بَعْدَ بَنِيهَا وَبَنِي أَوْلَادِهَا يَرْجِعُ عَلَى وَقْفِ مَدْرَسَةِ نُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَصَارِفِ الشَّرْعِيَّةِ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَ قَرَائِبِ الْمَرْأَةِ تَعَدَّى وَتَحَيَّلَ وَبَاعَ الْوَقْفَ، ثُمَّ إنَّ الْوَرَثَةَ حَاكَمُوا الْمُشْتَرِيَ وَرَقَمَ الْقَاضِي عَلَى شُهُودِ الْكِتَابِ وَهُوَ صَحِيحٌ ثَابِتٌ. فَقَامَ الْمُشْتَرِي وَأَوْقَفَهَا صَدَقَةً عَلَى خُبْزٍ يُصْرَفُ لِلْمَسَاكِينٍ وَجَعَلَ الرَّئِيسَ نَاظِرًا عَلَى الصَّدَقَةِ: فَهَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ. وَإِذَا عَلِمَ الرَّئِيسُ الْعَالِمُ الْمُتَعَبِّدُ أَنَّ هَذَا مُغْتَصَبٌ: فَهَلْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَكُونَ نَاظِرًا عَلَيْهِ، وَمَا يَكُونُ؟ الْجَوَابُ: بَيْعُ الْوَقْفِ الصَّحِيحِ اللَّازِمِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْوَقْفِ مِنْ الِانْتِفَاعِ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَصِحُّ وَقْفُ الْمُشْتَرِي لَهُ، وَلَا يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ عَلَى الْوَقْفِ الثَّانِي أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّينَ قَبْلُ، وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِغَيْرِ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ سَوَاءٌ تَصَرَّفَ بِحُكْمِ النَّظَرِ الْبَاطِلِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ بَنَى حَائِطًا فِي مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ يَقْصِدُ نَفْعَهُ لِدَفْنِ مَوْتَاهُ فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ لَهُ مَوْتَى تَحْتَ الْحَائِطِ] 934 - 93 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ بَنَى حَائِطًا فِي مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ يَقْصِدُ أَنْ يَحُوزَ نَفْعَهُ لِدَفْنِ مَوْتَاهُ فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ لَهُ مَوْتَى تَحْتَ الْحَائِطِ، وَمَا هُوَ دَاخِلَ الْحَائِطِ: فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ حَائِطًا، وَلَا أَنْ يَحْتَجِزَ مِنْ مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَخْتَصُّ بِهِ دُونَ سَائِرِ الْمُسْتَحِقِّينَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ حَمَّامٍ أَكْثَرُهَا وَقْفٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْفُقَهَاءِ] 935 - 94 مَسْأَلَةٌ: عَنْ حَمَّامٍ أَكْثَرُهَا وَقْفٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْفُقَهَاءِ، وَأَنَّ إنْسَانًا لَهُ حَمَّامَاتٌ بِالْقُرْبِ مِنْهَا. وَأَنَّهُ احْتَالَ وَاشْتَرَى مِنْهَا نَصِيبًا. وَأَخَذَ الرَّصَاصَ الَّذِي يَخُصُّهُ مِنْ الْحَاصِلِ، وَعَطِلَ الْحَمَّامُ وَضَارَّ. فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْعِمَارَةُ أُسْوَةَ الْوَقْفِ أَمْ لَا؟

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْحَمَّامِ الْمُشْتَرَكَةِ بِغَيْرِ إذْنِ الشُّرَكَاءِ وَلَا بِإِذْنِ الشَّارِعِ. وَلَا يَسْتَوْلِي عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا بِغَيْرِ إذْنِ الشُّرَكَاءِ. وَلَا يَقْسِمُ بِنَفْسِهِ شَيْئًا وَيَأْخُذُ نَصِيبَهُ مِنْهُ. سَوَاءٌ كَانَ رَصَاصًا أَوْ غَيْرَهُ. وَلَا يُغَيِّرُ بِنَاءَ شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا يُغَيِّرُ الْقِدَرَ وَلَا غَيْرَهَا، وَهَذَا كُلُّهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُغْلِقَهَا بَلْ يُكْرِي عَلَى جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ إذَا طَلَبَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ؛ وَتُقْسَمُ بَيْنَهُمْ الْأُجْرَةُ. وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ. وَأَحْمَدَ وَإِذَا احْتَاجَتْ الْحَمَّامُ إلَى عِمَارَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا فَعَلَى الشَّرِيكِ أَنْ يُعَمِّرَ مَعَهُمْ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الوصايا

[كِتَابُ الْوَصَايَا] [مَسْأَلَةٌ قَالَ يُدْفَعُ هَذَا الْمَالُ إلَى يَتَامَى فُلَانٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ] 936 - 1 كِتَابُ الْوَصَايَا سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَمَّنْ قَالَ: يُدْفَعُ هَذَا الْمَالُ إلَى يَتَامَى فُلَانٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَلَمْ يُعْرَفْ أَهَذَا إقْرَارٌ؟ أَوْ وَصِيَّةٌ؟ فَأَجَابَ: إنْ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تُبَيِّنُ مُرَادَهُ هَلْ هُوَ إقْرَارٌ أَوْ وَصِيَّةٌ عُمِلَ بِهَا؛ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ: فَمَا كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِهِ لَمْ يَزَلْ عَنْ مِلْكِهِ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ، بَلْ يُجْعَلُ وَصِيَّةً. [مَسْأَلَةٌ مُودَعٍ مَرِضَ مُودِعُهُ فَقَالَ لَهُ أَمَا يَعْرِفُ ابْنُك بِهَذِهِ الْوَدِيعَةِ] 937 - 2 وَسُئِلَ: عَنْ مُودَعٍ، مَرِضَ مُودِعِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا يَعْرِفُ ابْنُك بِهَذِهِ الْوَدِيعَةِ؟ فَقَالَ: فُلَانٌ الْأَسِيرُ يَجِيءُ مَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ يَعُودُ عَلَيْهِ؛ وَقَصَدَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُوصَدًا لَهُ، وَلَمْ يُرَدَّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي مَصَالِحِ ذَلِكَ الْأَسِيرِ؟ فَأَجَابَ: تَنْعَقِدُ الْوَصِيَّةُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا إذَا فُهِمَتْ الْمُخَاطَبَةُ مِنْ الْمُوصِي، وَيَبْقَى قَبُولُ الْوَصِيَّةِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا مَوْقُوفًا عَلَى قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا وَعَلَى إذْنِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا عَلَى قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا، وَعَلَى إذْنِهِ فِي التَّصَرُّفِ أَوْ إذْنِ الشَّارِعِ، وَيَجُوزُ صَرْفُ مَالِ الْأَسِيرِ فِي فِكَاكِهِ بِلَا إذْنِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ كَتَبَ وَصِيَّتَهُ وَذَكَرَ فِي وَصِيَّتِهِ أَنَّ فِي ذِمَّتِهِ لِزَوْجَتِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَلَمْ تَكُنْ زَوْجَته تَعْلَم] 938 - 3 وَسُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ كَتَبَ وَصِيَّتَهُ، وَذَكَرَ فِي وَصِيَّتِهِ: أَنَّ فِي ذِمَّتِهِ لِزَوْجَتِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَلَمْ تَكُنْ زَوْجَتُهُ تَعْلَمُ أَنَّ لَهَا فِي ذِمَّتِهِ شَيْئًا. فَهَلْ يَجُوزُ لِوَصِيِّهِ بَعْدَ مَوْتِهِ دَفْعُ الدَّرَاهِمِ لِزَوْجَتِهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ - إذَا كَانَ قَدْ أَقَرَّ لَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ؟

مسألة رجل تصدق على ابنته لصلبه وأسند وصيته لرجل فآجره مدة ثلاثين سنة

فَأَجَابَ: لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؛ فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ وَصِيَّةً لِوَارِثٍ، لَا يَجُوزُ لَهُ وَصِيَّتُهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ إلَّا بِإِجَازَةِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، وَأَمَّا فِي الْحُكْمِ فَلَا تُعْطَى شَيْئًا حَتَّى تُصَدِّقَهُ عَلَى الْإِقْرَارِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَإِلَّا كَانَ بَاطِلًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَإِذَا صَدَّقَتْهُ عَلَى الْإِقْرَارِ، فَادَّعَى الْوَصِيُّ أَوْ بَعْضُ الْوَرَثَةِ أَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ - كَمَا جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ يُجْعَلُ الْإِنْشَاءُ إقْرَارًا - فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَدَّعِيَ فِي الْإِقْرَارِ أَنَّهُ أَقَرَّ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّحْلِيفِ عَلَيْهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْلِفُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُعْطَى شَيْئًا حَتَّى تَحْلِفَ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ تَصَدَّقَ عَلَى ابْنَتِهِ لِصُلْبِهِ وَأَسْنَدَ وَصِيَّتَهُ لِرَجُلٍ فَآجَرَهُ مُدَّةَ ثَلَاثِينَ سَنَةً] 939 - 4 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلٍ تَصَدَّقَ عَلَى ابْنَتِهِ لِصُلْبِهِ، وَأَسْنَدَ وَصِيَّتَهُ لِرَجُلٍ فَآجَرَهُ مُدَّةَ ثَلَاثِينَ سَنَةً؛ وَقَدْ تُوُفِّيَ الْوَصِيُّ الْمَذْكُورُ وَرَشِدَ مَنْ كَانَ وَصِيَّةً عَلَيْهَا، وَلَمْ تَرْضَ الْمُوصَى عَلَيْهَا بَعْدَ رُشْدِهَا بِإِجَارَةِ الْوَصِيِّ؛ وَأَنَّ الْوَصِيَّ آجَرَ ذَلِكَ بِغَيْرِ قِيمَةِ الْمِثْلِ: فَهَلْ تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ وَتَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهَا عَادَةَ الْمُلَّاكِ؟ فَأَجَابَ: لَهَا أَنْ تَفْسَخَ هَذِهِ الْإِجَارَةَ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؛ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ هَلْ تَقَعُ بَاطِلَةً مِنْ أَصْلِهَا؟ أَوْ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُؤَجِّرِ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ أَوْصَى لِأَوْلَادِهِ بِسِهَامٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ وَفَاتِهِ بِذَلِكَ] 940 - 5 وَسُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى لِأَوْلَادِهِ بِسِهَامٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ وَفَاتِهِ بِذَلِكَ فَهَلْ تَنْفُذُ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ؟ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَا يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ تَخْصِيصُ بَعْضِ أَوْلَادِهِ بِعَطِيَّةٍ مُنَجَّزَةٍ. وَلَا وَصِيَّةَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِشَيْءٍ فِي ذِمَّتِهِ: وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ تَنْفِيذُهُ بِدُونِ إجَازَةِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ. وَهَذَا كُلُّهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ الشُّهُودِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ شَهَادَةً يُعِينُ بِهَا عَلَى الظُّلْمِ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ مِنْ الْكَبَائِرِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ، حَتَّى قَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ؛

مسألة رجل له زرع ونخل فقال عند موته لأهله أنفقوا من ثلثي على الفقراء والمساكين

لِأَنَّهُ كَالْمُتَسَبِّبِ فِي الشَّحْنَاءِ وَعَدَمِ الِاتِّحَادِ بَيْنَ ذُرِّيَّتِهِ؛ لَا سِيَّمَا فِي حَقِّهِ، فَإِنَّهُ يَتَسَبَّبُ فِي عُقُوقِهِ وَعَدَمِ بِرِّهِ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ لَهُ زَرْعٌ وَنَخْلٌ فَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ لِأَهْلِهِ أَنْفِقُوا مِنْ ثُلُثِي عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ] 941 - 6 وَسُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَرْعٌ وَنَخْلٌ. فَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ لِأَهْلِهِ: أَنْفِقُوا مِنْ ثُلُثِي عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ إلَى أَنْ يُولَدَ لِوَلَدِي وَلَدٌ فَيَكُونُ لَهُمْ، فَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: نَعَمْ تَصِحُّ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ؛ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ لِوَلَدِ الْوَلَدِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ جَائِزَةٌ، كَمَا وَصَّى الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَامّ لِوَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَالْوَصِيَّةُ تَصِحُّ لِلْمَعْدُومِ بِالْمَعْدُومِ، فَيَكُونُ الرِّيعُ لِلْفُقَرَاءِ إلَى أَنْ يَحْدُثَ وَلَدُ الْوَلَدِ فَيَكُونَ لَهُمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى لِأَوْلَادِهِ الذُّكُورِ بِتَخْصِيصِ مِلْكٍ دُونَ الْإِنَاثِ وَأَثْبَتَهُ عَلَى يَدِ الْحَاكِمِ قَبْلَ وَفَاتِهِ] 942 - 7 وَسُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى لِأَوْلَادِهِ الذُّكُورِ بِتَخْصِيصِ مِلْكٍ دُونَ الْإِنَاثِ، وَأَثْبَتَهُ عَلَى يَدِ الْحَاكِمِ قَبْلَ وَفَاتِهِ. فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ أَوْلَادِهِ دُون بَعْضٍ فِي وَصِيَّتِهِ، وَلَا مَرَضِ مَوْتِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَهُمْ بِالْعَطِيَّةِ فِي صِحَّتِهِ أَيْضًا، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ، وَيَرُدَّ الْفَضْلَ، «كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَشِيرَ بْنَ سَعِيدٍ حَيْثُ قَالَ لَهُ اُرْدُدْهُ فَرَدَّهُ، وَقَالَ: إنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» . وَقَالَ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ: «أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» . وَلَا يَجُوزُ لِلْوَلَدِ الَّذِي فَضَلَ أَنْ يَأْخُذَ الْفَضْلَ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ الظَّالِمِ الْجَائِرِ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَا يُرَدُّ فِي حَيَاتِهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ.

مسألة امرأة وصت لطفلة تحت نظر أبيها بمبلغ من ثلث مالها وتوفيت الموصية

[مَسْأَلَةٌ امْرَأَةٍ وَصَّتْ لِطِفْلَةٍ تَحْتَ نَظَرِ أَبِيهَا بِمَبْلَغٍ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا وَتُوُفِّيَتْ الْمُوصِيَةُ] 943 - 8 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ امْرَأَةٍ وَصَّتْ لِطِفْلَةٍ تَحْتَ نَظَرِ أَبِيهَا بِمَبْلَغٍ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا، وَتُوُفِّيَتْ الْمُوصِيَةُ، وَقَبِلَ لِلطِّفْلَةِ وَالِدِهَا الْوَصِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ بَعْدَ وَفَاتِهَا؛ وَادَّعَى لَهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ بِمَا وَصَّتْ الْمُوصِيَةُ، وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِوَفَاتِهَا وَعَلَيْهَا، بِمَا نُسِبَ إلَيْهَا مِنْ الْإِيصَاءِ، وَعَلَى وَالِدُهَا بِقَبُولِ الْوَصِيَّةِ لِابْنَتِهِ، وَتَوَقَّفَ الْحَاكِمُ عَنْ الْحُكْمِ لِلطِّفْلَةِ بِمَا ثَبَتَ لَهَا عِنْدَهُ بِالْبَيِّنَةِ، لِتَعَذُّرِ حَلِفِهَا لِصِغَرِ سِنِّهَا: فَهَلْ يَحْلِفُ وَالِدُهَا؟ أَوْ يُوقَفُ الْحُكْمُ إلَى الْبُلُوغِ وَيُحَلِّفُهَا؟ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَا يَحْلِفُ وَالِدُهَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ؛ وَلَا يُوقَفُ الْحُكْمُ إلَى بُلُوغِهَا وَحَلِفِهَا؛ بَلْ يُحْكَمُ لَهَا بِذَلِكَ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ؛ مَا لَمْ يَثْبُتْ مُعَارِضٌ. بَلْ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا لَوْ ثَبَتَ لِصَبِيٍّ أَوْ لِمَجْنُونٍ حَقٌّ عَلَى غَائِبٍ عَنْهُ مِنْ دَيْنٍ عَنْ مَبِيعٍ، أَوْ بَدَلِ قَرْضٍ، أَوْ أَرْشِ جِنَايَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ مُسْتَحِقًّا بَالِغًا عَاقِلًا. يَحْلِفُ عَلَى عَدَمِ الْإِبْرَاءِ، أَوْ الِاسْتِيفَاءِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ؛ وَيُحْكَمُ بِهِ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَلَا يَحْلِفُ وَلِيُّهُ، كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَلِهَذَا لَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ عَلَى صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ جِنَايَة أَوْ حَقًّا لَمْ يُحْكَمْ لَهُ؛ وَلَا يَحْلِفُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ. وَإِنْ كَانَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ لَا يَقُولُ إلَّا بِيَمِينٍ. وَلَهَا نَظَائِرُ. هَذَا فِيمَا يُشْرَعُ فِيهِ الْيَمِينُ بِالِاتِّفَاقِ، أَوْ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. فَكَيْفَ بِالْوَصِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَذْكُرْ الْعُلَمَاءُ تَحْلِيفَ الْمُوصَى لَهُ فِيهَا؛ وَإِنَّمَا أَخَذَ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ. وَالْوَصِيَّةُ تَكُونُ لِلْحَمْلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَيَسْتَحِقُّهَا إذَا وُلِدَ حَيًّا، وَلَمْ يَقُلْ مُسْلِمٌ: إنَّهَا تُؤَخَّرُ إلَى حِينِ بُلُوغِهِ. وَلَا يَحْلِفُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ امْرَأَةٍ وَصَّتْ فِي حَالِ مَرَضِهَا وَلِزَوْجِهَا وَلِأَخِيهَا بِشَيْءٍ ثُمَّ وَضَعَتْ وَلَدًا ذَكَرًا وَبَعْدَ ذَلِكَ تُوُفِّيَتْ] 944 - 9 وَسُئِلَ: عَنْ امْرَأَةٍ وَصَّتْ وَصَايَا فِي حَالِ مَرَضِهَا؛ وَلِزَوْجِهَا وَلِأَخِيهَا بِشَيْءٍ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَضَعَتْ وَلَدًا ذَكَرًا؛ وَبَعْدَ ذَلِكَ تُوُفِّيَتْ. فَهَلْ يَبْطُلُ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ؟ . فَأَجَابَ: أَمَّا مَا زَادَ عَلَى ثُلُثِ التَّرِكَةِ فَهُوَ لِلْوَارِثِ، وَالْوَلَدُ الْيَتِيمُ لَا يَتَبَرَّعُ بِشَيْءٍ

مسألة امرأة ماتت ولم يكن لها وارث سوى ابن أخت لأم وقد أوصت بصدقة أكثر من الثلث

مِنْ مَالِهِ. فَأَمَّا الزَّوْجُ الْوَارِثُ فَالْوَصِيَّةُ لَهُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ وَارِثٌ. وَأَمَّا الْأَخُ فَالْوَصِيَّةُ لَهُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَعَ الْوَلَدِ لَيْسَ بِوَارِثٍ؛ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ وَارِثًا. فَيُنْظَرُ مَا وَصَّتْ بِهِ لِلْأَخِ وَالنَّاسِ، فَإِنْ وَسِعَهُ الثُّلُثُ وَإِلَّا قُسِمَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ وَصَايَاهَا. [مَسْأَلَةٌ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ سِوَى ابْنِ أُخْتٍ لِأُمٍّ وَقَدْ أَوْصَتْ بِصَدَقَةٍ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ] 945 - 10 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ سِوَى ابْنِ أُخْتٍ لِأُمٍّ، وَقَدْ أَوْصَتْ بِصَدَقَةٍ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ: فَهَلْ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُنَفِّذَ ذَلِكَ وَيُعْطِيَ مَا بَقِيَ لِابْنِ أُخْتِهَا؟ . فَأَجَابَ: يُعْطَى الْمُوصَى لَهُ الثُّلُثَ، وَمَا زَادَ عَنْ ذَلِكَ إنْ أَجَازَهُ الْوَارِثُ جَازَ؛ وَإِلَّا بَطَلَ، وَابْنُ الْأُخْتِ يَرِثُ الْمَالَ كُلَّهُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ؛ وَهُوَ الْوَارِثُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَهُمْ. وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَطَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ إذَا فَسَدَ بَيْتُ الْمَالِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ مَاتَ وَخَلَّفَ سِتَّةَ أَوْلَادٍ ذُكُورٍ وَابْنَ ابْنٍ وَبِنْتَ ابْنٍ وَوَصَّى لِابْنِ ابْنِهِ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَوْلَادِهِ] 946 - 11 - وَسُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ مَاتَ. وَخَلَّفَ سِتَّةَ أَوْلَادٍ ذُكُورٍ، وَابْنَ ابْنٍ، وَبِنْتَ ابْنٍ. وَوَصَّى لِابْنِ ابْنِهِ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَوْلَادِهِ، وَلِبِنْتِ ابْنِهِ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ أَنْ كَانَ يُعْطِي ابْنَ ابْنِهِ نَصِيبَهُ. فَكَمْ يَكُونُ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَصِحُّ مِنْ سِتِّينَ، لِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ، وَلِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ ثُلُثُ مَا بَقِيَ بَعْدَ الثُّلُثِ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُلُثُ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ. وَلَهَا طُرُقٌ يُعْمَلُ بِهَا. وَجَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْعِلْمِ. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى فِي حَالِ مَرَضِهِ أَنْ يُبَاعَ فَرَسُهُ الْفُلَانِيُّ وَيُعْطَى ثَمَنَهُ كُلَّهُ لِمَنْ يَحُجُّ عَنْهُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ] 947 - 12 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ، وَلَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، وَلَهُ وَلَدٌ

مسألة رجل خلف أولادا وأوصى لأخته كل يوم بدرهم فأعطيت ذلك حتى نفذ المال

صَغِيرٌ؛ وَأَوْصَى فِي حَالِ مَرَضِهِ أَنْ يُبَاعَ فَرَسُهُ الْفُلَانِيُّ، وَيُعْطَى ثَمَنَهُ كُلَّهُ لِمَنْ يَحُجُّ عَنْهُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ. وَبِيعَتْ بِتِسْعِمِائَةِ دِرْهَمٍ. فَأَرَادَ الْحَاكِمُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ إنْسَانًا أَجْنَبِيًّا لِيَحُجَّ بِهَذَا الْمِقْدَارِ، فَجَاءَ رَجُلٌ غَيْرُهُ فَقَالَ: أَنَا أَحُجُّ بِأَرْبَعِمِائَةٍ. فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ أَوْ يَتَعَيَّنُ مَا أَوْصَى بِهِ؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. بَلْ يَجِبُ إخْرَاجُ جَمِيعِ مَا أَوْصَى بِهِ إنْ كَانَ يُخْرَجُ مِنْ ثُلُثِهِ؛ وَإِنْ كَانَ لَا يُخْرَجُ مِنْ ثُلُثِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْوَرَثَةِ إخْرَاجُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ خَلَّفَ أَوْلَادًا وَأَوْصَى لِأُخْتِهِ كُلَّ يَوْمٍ بِدِرْهَمٍ فَأُعْطِيَتْ ذَلِكَ حَتَّى نَفَذَ الْمَالُ] 948 - 13 وَسُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ خَلَفَ أَوْلَادًا، وَأَوْصَى لِأُخْتِهِ كُلَّ يَوْمٍ بِدِرْهَمٍ؛ فَأُعْطِيَتْ ذَلِكَ حَتَّى نَفَذَ الْمَالُ؟ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ التَّرِكَةِ إلَّا عَقَارُ مُغَلِّهِ كُلُّ سَنَةٍ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ: فَهَلْ تُعْطَى ذَلِكَ؟ أَوْ دِرْهَمًا كَمَا أُوصِيَ لَهَا؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَا بَقِيَ مُتَّسِعًا لَأَنْ تُعْطَى مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا؛ وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ دِرْهَمٌ: فَلَا تُعْطَى إلَّا مَا يَبْقَى مَعَهُ لِلْوَرَثَةِ الثُّلُثَانِ؛ لَا يُزَادُ عَلَى مِقْدَارِ الثُّلُثِ شَيْءٌ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ؛ إذَا كَانَ الْمُجِيزُ بَالِغًا رَشِيدًا أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُجِيزُ كَذَلِكَ؛ أَوْ لَمْ يُجِزْ لَمْ تُعْطَ شَيْئًا. وَلَوْ لَمْ يَخْلُفْ الْمَيِّتُ إلَّا الْعَقَارَ فَإِنَّهَا تُعْطَى مِنْ مُغَلِّهِ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الدِّرْهَمِ الْمُوصَى بِهِ أَوْ ثُلُثَ الْمُغَلِّ، فَإِنْ كَانَ الْمُغَلُّ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ كُلَّ يَوْمٍ لَمْ تُعْطَ إلَّا ثُلُثَ ذَلِكَ؛ فَلَوْ كَانَ دِرْهَمًا أُعْطِيت ثُلُثَ دِرْهَمٍ فَقَطْ؛ وَإِنْ أَخَذَتْ زِيَادَةً عَلَى مِقْدَارِ ثُلُثِ الْمُغَلِّ اُسْتُرْجِعَ مِنْهَا ذَلِكَ؛ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَتْ وَكَانَتْ قَدْ أَوْصَتْ لزوجها وَعَمّهَا بِكُلِّ التَّرِكَة وَلَمْ تُوصِي لِأَبِيهَا وَجَدتها] 949 - 14 وَسُئِلَ: عَنْ امْرَأَةٍ تُوُفِّيَتْ، وَخَلَفَتْ أَبَاهَا، وَعَمَّهَا أَخَا أَبِيهَا شَقِيقَهُ، وَجَدَّتَهَا، وَكَانَ أَبُوهَا قَدْ رَشَّدَهَا قَبْلَ أَنْ يُزَوِّجَهَا، ثُمَّ أَنَّهَا أَوْصَتْ فِي مَرَضِ مَوْتِهَا

مسألة أوصت قبل موتها بخمسة أيام بأشياء من حج وقراءة وصدقة فهل تنفذ الوصية

لِزَوْجِهَا بِالنِّصْفِ. وَلِعَمِّهَا بِالنِّصْفِ الْآخَرِ؛ وَلَمْ تُوصِ لِأَبِيهَا وَجَدَّتِهَا بِشَيْءٍ. فَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ؟ فَأَجَابَ: أَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْعَمِّ صَحِيحَةٌ؛ لَكِنْ لَا يَنْفُذُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا بِإِجَازَةٍ، وَالْوَصِيَّةُ لِلزَّوْجِ لَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ. وَإِذَا لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ كَانَ لِلزَّوْجِ نِصْفُ الْبَاقِي بَعْدَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الَّتِي هِيَ الثُّلُثُ، وَلِلْجَدَّةِ السُّدُسُ، وَلِلْأَبِ الْبَاقِي، وَهُوَ الثُّلُثُ. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَتْ قَبْلَ مَوْتِهَا بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ بِأَشْيَاءَ مِنْ حَجٍّ وَقِرَاءَةٍ وَصَدَقَةٍ فَهَلْ تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ] 950 - 15 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ امْرَأَةٍ أَوْصَتْ قَبْلَ مَوْتِهَا بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ بِأَشْيَاءَ: مِنْ حَجٍّ، وَقِرَاءَةٍ، وَصَدَقَةٍ: فَهَلْ تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ؟ فَأَجَابَ: إذَا أَوْصَتْ بِأَنْ يُخْرَجَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا مَا يُصْرَفُ فِي قُرْبَةٍ لِلَّهِ وَطَاعَتِهِ وَجَبَ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهَا؛ وَإِنْ كَانَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ كَانَ الزَّائِدُ مَوْقُوفًا، فَإِنْ أَجَازَهُ الْوَرَثَةُ جَازَ، وَإِلَّا بَطَلَ. وَإِنْ وَصَّتْ بِشَيْءٍ فِي غَيْرِ طَاعَةٍ لَمْ تَنْفُذْ وَصِيَّتُهَا. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى زَوْجَتَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّهَا لَا تُوهِبُ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا لِمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُهْدِي لَهُ] 951 - 16 وَسُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى زَوْجَتَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّهَا لَا تُوهِبُ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا لِمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُهْدِي لَهُ، وَقَدْ ادَّعَى أَنَّ فِي صَدْرِهِ قُرْآنًا يَكْفِيهِ، وَلَمْ تَكُنْ زَوْجَتُهُ تَعْلَمُ بِأَنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ. فَهَلْ أَصَابَ فِيمَا أَوْصَى؟ وَقَدْ قَصَدَتْ الزَّوْجَةُ الْمُوصَى إلَيْهَا أَنَّهَا تُعْطِي شَيْئًا لِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْهَدِيَّةِ. وَيَقْرَأُ جُزْءًا مِنْ الْقُرْآنِ وَيُهْدِيهِ لِمَيِّتِهَا. فَهَلْ يُفْسَحُ لَهَا فِي ذَلِكَ؟ . فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ؛ فَإِنَّ إعْطَاءَ أُجْرَةٍ لِمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُهْدِيهِ لِلْمَيِّتِ بِدْعَةٌ، لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ؛ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ يَقْرَأُ لِلَّهِ وَيُهْدِي لِلْمَيِّتِ. وَفِيمَنْ يُعْطِي أُجْرَةً عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وُجُوهٌ.

مسألة مسجد عليه وقف والوقف عليه حكر وأوصى قبل وفاته أن يخرج من الثلث ويشترى الحكر

فَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَإِهْدَائِهَا فَهَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَلَا إذْنَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ إذَا كَانَتْ بِأُجْرَةٍ كَانَتْ مُعَاوَضَةً، فَلَا يَكُونُ فِيهَا أَجْرٌ، وَلَا يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَصِلُ إلَيْهِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى مُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى التَّعْلِيمِ. لَكِنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ إذَا أَرَادَتْ نَفْعَ زَوْجِهَا فَلْتَتَصَدَّقْ عَنْهُ بِمَا تُرِيدُ الِاسْتِئْجَارَ بِهِ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَيَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا. وَإِنْ تَصَدَّقْت بِذَلِكَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ الْفُقَرَاءِ لِيَسْتَغْنُوا بِذَلِكَ عَنْ قِرَاءَتِهِمْ حَصَلَ مِنْ الْأَجْرِ بِقَدْرِ مَا أُعِينُوا عَلَى الْقِرَاءَةِ، وَيَنْفَعُ اللَّهُ الْمَيِّتَ بِذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَسْجِدٍ عَلَيْهِ وَقْفٌ وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ حِكْرٌ وَأَوْصَى قَبْلَ وَفَاتِهِ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ الثُّلُثِ وَيُشْتَرَى الْحِكْرُ] 952 - 17 وَسُئِلَ: عَنْ مَسْجِدٍ لِرَجُلٍ، وَعَلَيْهِ وَقْفٌ، وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ حِكْرٌ؛ وَأَوْصَى قَبْلَ وَفَاتِهِ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ الثُّلُثِ وَيُشْتَرَى الْحِكْرُ الَّذِي لِلْوَقْفِ، فَتَعَذَّرَ مُشْتَرَاهُ؛ لِأَنَّ الْحِكْرَ وَقْفٌ، وَلَهُ وَرَثَةٌ وَهُمْ ضُعَفَاءُ الْحَالِ، وَقَدْ وَافَقَهُمْ الْوَصِيُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الثُّلُثِ لِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ: فَهَلْ إذَا تَأَخَّرَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ لِلْأَيْتَامِ يَتَعَلَّقُ فِي ذِمَّةِ الْوَصِيِّ؟ فَأَجَابَ: بَلْ عَلَى الْوَصِيِّ أَنْ يُخْرِجَ جَمِيعَ الثُّلُثِ كَمَا أَوْصَاهُ الْمَيِّتُ؛ وَلَا يَدَعُ لِلْوَرَثَةِ شَيْئًا. ثُمَّ إنْ أَمْكَنَ شِرَاءُ الْأَرْضِ الَّتِي عَيَّنَهَا الْمُوصِي اشْتَرَاهَا وَوَقَفَهَا. وَإِلَّا اشْتَرَى مَكَانًا آخَرَ وَوَقَفَ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي وَصَّى بِهَا الْمُوصِي؛ كَمَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا قَالَ: بِيعُوا غُلَامِي مِنْ زَيْدٍ، وَتَصَدَّقُوا بِثَمَنِهِ. فَامْتَنَعَ فُلَانٌ مِنْ شِرَائِهِ؛ فَإِنَّهُ يُبَاعُ مِنْ غَيْرِهِ وَيُتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ، فَالْوَصِيَّةُ بِشِرَاءٍ مُعَيَّنٍ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ لِوَقْفٍ كَالْوَصِيَّةِ بِبَيْعٍ مُعَيَّنٍ وَالتَّصَدُّقِ بِثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ هُنَا جِهَةُ الصَّدَقَةِ وَالْوَقْفِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ؛ وَالتَّعَيُّنُ إذَا فَاتَ قَامَ بَدَلُهُ مَقَامَهُ؛ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ الْوَقْفَ مُتْلِفٌ، أَوْ أَتْلَفَ الْمُوصَى بِهِ مُتْلِفٌ؛ فَإِنَّ بَدَلَهُمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا فِي ذَلِكَ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْمُوصَى بِهِ وَالْمَوْقُوفِ؛ وَبَيْنَ بَدَلِ الْمُوصَى لَهُ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ وَصَّى لِزَيْدٍ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ وَصَّى أَنْ يُعْتَقَ عَبْدُهُ الْمُعَيَّنُ، أَوْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ فَمَاتَ الْمُعَيَّنُ لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ. وَتَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ إذَا وَصَّى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فُلَانٌ بِكَذَا فَامْتَنَعَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ مِنْ الْحَجِّ،

مسألة أوصى في مرضه المتصل بموته بأن يباع شراب في حانوت العطر

وَكَانَ الْحَجُّ تَطَوُّعًا. فَهَلْ يَحُجُّ عَنْهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، هُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ؛ وَيَقَعُ الْمُعَيَّنُ مَقْصُودًا، فَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ غَلَّبَ جَانِبَ التَّعْيِينِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ الْحَجُّ مَقْصُودٌ أَيْضًا كَمَا أَنَّ الصَّدَقَةَ وَالْوَقْفَ مَقْصُودٌ، وَتَعْيِينُ الْحَجِّ كَتَعْيِينِ الْمَوْقُوفِ وَالْمُتَصَدَّقِ بِهِ، فَإِذَا فَاتَ التَّعْيِينُ أُقِيمَ بَدَلُهُ، كَمَا يُقَامُ فِي الصَّدَقَةِ وَالْوَقْفِ. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى فِي مَرَضِهِ الْمُتَّصِلِ بِمَوْتِهِ بِأَنْ يُبَاعَ شَرَابٌ فِي حَانُوتِ الْعِطْرِ] 953 - 18 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى فِي مَرَضِهِ الْمُتَّصِلِ بِمَوْتِهِ بِأَنْ يُبَاعَ شَرَابٌ فِي حَانُوتِ الْعِطْرِ قِيمَتُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، مُضَافٌ ذَلِكَ إلَى ثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِهِ، وَأَنْ يُشْتَرَى بِذَلِكَ عَقَارٌ؛ وَيُجْعَلَ وَقْفًا عَلَى مَصَالِحِ مَسْجِدٍ لِإِمَامِهِ وَمُؤَذِّنِهِ وَزَيْتِهِ وَكَتَبَ ذَلِكَ قَبْلَ مَرَضِهِ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. إذَا أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ شَيْءٌ مُعِينٌ مِنْ مَالِهِ مِنْ عَقَارٍ أَوْ مَنْقُولٍ، يُضَمُّ إلَى ثَمَنِهِ شَيْءٌ آخَرُ قَدْره مِنْ مَالِهِ، وَيُصْرَفُ ذَلِكَ فِي وَقْفٍ شَرْعِيٍّ: جَازَ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ يُخْرَجُ مِنْ الثُّلُثِ أُخْرِجَ، وَإِنْ لَمْ تَرْضَ الْوَرَثَةُ، وَمَا أَعْطَاهُ لِلْوَرَثَةِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ إنْ أَعْطَى أَحَدًا مِنْهُمْ زِيَادَةً عَلَى قَدِّ مِيرَاثِهِ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَإِنْ أَعْطَى كُلَّ إنْسَانٍ شَيْئًا مُعَيَّنًا بِقَدْرِ حَقِّهِ أَوْ بَعْضَ حَقِّهِ: فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: أَحَدُهُمَا: لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِذَا قِيلَ: إنَّ لَهُ ذَلِكَ بِحَسْبِ مِيرَاثِ أَحَدِهِمْ؛ فَإِنَّ عَطِيَّةَ الْمَرِيضِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ بِمَنْزِلَةِ وَصِيَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْمُوصَى إلَيْهِ] [مَسْأَلَةٌ وَصِيٍّ عَلَى أَيْتَامٍ بِوَكَالَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَلِلْأَيْتَامِ دَارٌ فَبَاعَهَا وَكِيلُ الْوَصِيِّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْظُرَهَا] 954 - 19 بَابُ الْمُوصَى إلَيْهِ وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ وَصِيٍّ عَلَى أَيْتَامٍ بِوَكَالَةٍ شَرْعِيَّةٍ: وَلِلْأَيْتَامِ

مسألة رجل جليل القدر له تعلقات كثيرة مع الناس وأوصى بأمور

دَارٌ، فَبَاعَهَا وَكِيلُ الْوَصِيِّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْظُرَهَا، وَقَبَضَ الثَّمَنَ، ثُمَّ زِيدَ فِيهَا: فَهَلْ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ الزِّيَادَةَ؟ أَمْ لَا؟ . فَأَجَابَ: إنْ كَانَ الْوَكِيلُ بَاعَهَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ، وَقَدْ رُئِيَتْ لَهُ صَحَّ الْبَيْعُ. وَإِنْ لَمْ تُرَ لَهُ: فِيهِ نِزَاعٌ. وَإِنْ بَاعَهَا بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ فَقَدْ فَرَّطَ فِي الْوَصِيَّةِ، وَيُرْجَعُ عَلَيْهِ بِمَا فَرَّطَ فِيهِ، أَوْ يُفْسَخُ الْبَيْعُ، إذَا لَمْ يُبْذَلْ لَهُ تَمَامُ الْمِثْلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ جَلِيلِ الْقَدْرِ لَهُ تَعَلُّقَاتٌ كَثِيرَةٌ مَعَ النَّاسِ وَأَوْصَى بِأُمُورٍ] 955 - 20 وَسُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ جَلِيلِ الْقَدْرِ، لَهُ تَعَلُّقَاتٌ كَثِيرَةٌ مَعَ النَّاسِ، وَأَوْصَى بِأُمُورٍ: فَجَاءَ رَجُلٌ إلَى وَصِيِّهِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي؛ وَقَالَ: يَا فُلَانٌ: جِئْتُك فِي حَيَاةِ فُلَانٍ الْمُوصِي بِمَالٍ، فَلِي عِنْدَهُ كَذَا، وَكَذَا. فَذَكَرَ الْوَصِيُّ ذَلِكَ لِلْمُوصِي: فَقَالَ الْمُوصِي: مَنْ ادَّعَى بَعْدَ مَوْتِي عَلَيَّ شَيْئًا فَحَلِّفْهُ وَأَعْطِهِ بِلَا بَيِّنَةٍ: فَهَلْ يَجُوزُ أَوْ يَجِبُ عَلَى الْوَصِيِّ فِعْلُ ذَلِكَ مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي. فَأَجَابَ: نَعَمْ: يَجِبُ عَلَى الْوَصِيِّ تَسْلِيمُ مَا ادَّعَاهُ هَذَا الْمُدَّعِي إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَسَوَاءٌ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ لَا؛ أَمَّا إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ كَانَ أَسْوَأَ الْأَحْوَالِ؛ كَمَا يَكُونُ هَذَا الْمُوصِي مُتَبَرِّعًا بِهَذَا الْإِعْطَاءِ. وَلَوْ وَصَّى لِمُعَيَّنٍ إذَا فَعَلَ فِعْلًا، أَوْ وَصَّى لِمُطْلَقٍ مَوْصُوفٍ: فَكُلٌّ مِنْ الْوَصِيَّتَيْنِ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُنَازِعُونَ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَجْهُولِ؛ وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الْإِقْرَارِ بِالْمَجْهُولِ؛ وَلِهَذَا لَا يَقَعُ شُبْهَةٌ لِأَحَدٍ فِي أَنَّهُ إذَا خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ وَجَبَ تَسْلِيمُهُ، وَإِنَّمَا قَدْ تَقَعُ الشُّبْهَةُ فِيمَا إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ. وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهُ يَجِبُ تَسْلِيمُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصَايَا؛ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَفْهُومُهُ رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْأَمْرُ بِتَسْلِيمِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ. لَكِنَّ رَدَّ الْيَمِينِ هَلْ هُوَ كَالْإِقْرَارِ؟ أَوْ كَالْبَيِّنَةِ؟ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ، فَإِذَا قِيلَ: هُوَ كَالْإِقْرَارِ صَارَ هَذَا إقْرَارًا لِهَذَا الْمُدَّعِي، غَايَتُهُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِمَوْصُوفٍ أَوْ بِمَجْهُولٍ؛ وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ إقْرَارٌ يَصِحُّ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ مَعَ أَنَّ هَذَا الشَّخْصَ الْمُعَيَّنَ لَيْسَ الْإِقْرَارُ لَهُ إقْرَارًا

بِمَجْهُولٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ سَبَبُ اللَّفْظِ الْعَامِّ، وَسَبَبُ اللَّفْظِ الْعَامِّ مُرَادٌ فِيهِ قَطْعًا، كَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ إنْ حَلَفَ عَلَى مَا ادَّعَاهُ فَأَعْطُوهُ إيَّاهُ. وَمِثْلُ هَذِهِ الصِّفَةِ جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَاجِبٌ تَنْفِيذُهَا. وَإِنْ قِيلَ: إنَّ الرَّدَّ كَالْبَيِّنَةِ صَارَ حَلِفُ الْمُدَّعِي مَعَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً، وَيَصِيرُ الْمُدَّعِي قَدْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَاهُ، وَمِثْلُ هَذَا يَجِبُ تَسْلِيمُ مَا ادَّعَاهُ إلَيْهِ بِلَا رَيْبٍ هَذَا عَلَى أَصْلِ مَنْ لَا يَقْضِي بِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي: كَمَالِكٍ؛ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ يَقْضِي بِالنُّكُولِ، كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، فَالْأَمْرُ عِنْدَهُ أَوْكَدُ؛ فَإِنَّهُ إذَا رَضِيَ الْخَصْمَانِ فَحَلَفَ الْمُدَّعِي كَانَ جَائِزًا عِنْدَهُمْ؛ وَكَانَ مِنْ النُّكُولِ أَيْضًا، فَالرَّجُلُ الَّذِي قَدْ عُلِمَ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ مُعَامَلَاتٍ مُتَعَدِّدَةً مِنْهَا مَا هُوَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَعَلَيْهِ حُقُوقٌ قَدْ لَا يُعْلَمُ أَرْبَابُهَا، وَلَا مِقْدَارُهَا: لَا تَكُونُ مِثْلُ هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْهُ تَبَرُّعًا؛ بَلْ تَكُونُ وَصِيَّةً بِوَاجِبٍ، وَالْوَصِيَّةُ بِوَاجِبٍ لِآدَمِيٍّ تَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا عُلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ حَقًّا، وَشُكَّ فِي أَدَائِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ؛ بَلْ إذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ فَقَدْ فَعَلَ الْوَاجِبَ، فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ لَا يُعْلَمُ عَيْنُ صَاحِبِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا تَبْرَأَ بِهِ ذِمَّتُهُ؛ فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا، وَكَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ لَا يَعْلَمُ عَيْنَ الْمُسْتَحَقِّ؛ فَإِذَا قَالَ: مَنْ حَلَفَ مِنْكُمَا فَهُوَ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا ادَّعَى عَلَيْهِ بِأَمْرٍ لَا يَعْلَمُ ثُبُوتَهُ وَلَا انْتِفَاءَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى نَفْيِهِ يَمِينَ بَتٍّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَلِفٌ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ؛ وَإِذَا أَخْبَرَهُ مَنْ يُصَدِّقُهُ بِأَمْرٍ بُنِيَ عَلَيْهِ، وَإِذَا رُدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْحَالِ عَلَيْهِ فَقَدْ فَعَلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ نَهَاهُمْ عَنْ إعْطَائِهِ قَدْ يَكُونُ ظَالِمًا مَانِعًا الْمُسْتَحَقَّ؛ وَإِنْ أَمَرَ بِإِعْطَاءِ كُلِّ مُدَّعٍ أَفْضَى إلَى أَنْ يَدَّعِيَ الْإِنْسَانُ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَذَلِكَ تَبَرُّعٌ؛ فَإِذَا أَمَرَ بِتَحْلِيفِهِ وَإِعْطَائِهِ فَقَدْ فَعَلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَيْثُ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ تَبْرَأَ ذِمَّتُهُ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ الْوَاجِبَ أُخْرِجَ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.

مسألة وصي على أولاد أخيه وتوفي وخلف أولادا

[مَسْأَلَةٌ وَصِيٍّ عَلَى أَوْلَادِ أَخِيهِ وَتُوُفِّيَ وَخَلَفَ أَوْلَادًا] وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ وَصِيٍّ عَلَى أَوْلَادِ أَخِيهِ، وَتُوُفِّيَ، وَخَلَفَ أَوْلَادًا. وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى مَوْجُودِ وَالِدِهِمْ: فَهَلْ يَلْزَمُ أَوْلَادَ الْوَصِيِّ الْمُتَوَفَّى الْخُرُوجُ عَنْ ذَلِكَ، وَالدَّعْوَى عَلَيْهِمْ؟ فَأَجَابَ: إذَا عُرِفَ أَنَّ مَالَ الْيَتَامَى كَانَ مُخْتَلِطًا بِمَالِ الرَّجُلِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ كَمْ خَرَجَ مِنْ مَالِ الْيَتَامَى نَفَقَةً وَغَيْرَهَا، وَيُطْلَبُ الْبَاقِي وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ الْمُطَّرِدِ. [مَسْأَلَةٌ وَصِيٍّ عَلَى مَالِ يَتِيمٍ وَقَدْ قَارَضَ فِيهِ مُدَّةَ ثَلَاثِ سِنِينَ فَرِبْح فَهَلْ يَحِلّ لَهُ الْأَخذ مِنْ الرِّبْح] 957 - 22 وَسُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ وَصِيٍّ عَلَى مَالِ يَتِيمٍ، وَقَدْ قَارَضَ فِيهِ مُدَّةَ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَقَدْ رَبِحَ فِيهِ فَائِدَةً مِنْ وَجْهِ حِلٍّ: فَهَلْ يَحِلُّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْفَائِدَةِ شَيْئًا؟ أَوْ هِيَ لِلْيَتِيمِ خَاصَّةً؟ فَأَجَابَ: الرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْيَتِيمِ؛ لَكِنْ إنْ كَانَ الْوَصِيُّ فَقِيرًا وَقَدْ عَمِلَ فِي الْمَالِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ أَوْ كِفَايَتِهِ، فَلَا يَأْخُذُ فَوْقَ أُجْرَةِ عَمَلِهِ وَإِنْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ أَكْثَرَ مِنْ كِفَايَتِهِ لَمْ يَأْخُذْ أَكْثَرَ مِنْهَا. [مَسْأَلَةٌ وَصِيٍّ تَحْتَ يَدِهِ أَيْتَامٌ أَطْفَالٌ وَوَالِدَتُهُمْ حَامِلٌ فَهَلْ يُعْطِي الْأَطْفَالَ نَفَقَةً] 958 - 23 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ وَصِيٍّ تَحْتَ يَدِهِ أَيْتَامٌ أَطْفَالٌ، وَوَالِدَتُهُمْ حَامِلٌ: فَهَلْ يُعْطِي الْأَطْفَالَ نَفَقَةً، وَاَلَّذِي يَخْدُمُ الْأَطْفَالَ وَالْوَالِدَةَ إذَا أَخَذَتْ صَدَاقَهَا: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَأْكُلَ الْأَطْفَالُ وَوَالِدَتُهُمْ وَمَنْ يَخْدُمُهُمْ جَمِيعَ الْمَالِ؟ فَأَجَابَ: أَمَّا الزَّوْجَةُ فَتُعْطَى قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ. وَأَمَّا سَائِرُ الْوَرَثَةِ فَإِنْ أُخِّرَتْ قِسْمَةُ التَّرِكَةِ إلَى حِينِ الْوَضْعِ فَيُنْفَقُ عَلَى الْيَتَامَى بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَخْتَلِطَ مَالُهُمْ بِمَالِ الْأُمِّ؛ وَيَكُونُ خُبْزُهُمْ جَمِيعًا، وَطَبْخُهُمْ جَمِيعًا، إذَا كَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْيَتَامَى؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:

مسألة وصي على أختيه وقد كبرتا وولديهما وآنس منهما الرشد فهل يحتاج إلى إثبات عند الحاكم

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] . وَأَمَّا الْحَمْلُ فَإِنْ أُخِّرَتْ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ عُجِّلَتْ أُخِّرَ لَهُ نَصِيبُ ذَكَرٍ احْتِيَاطًا. وَهَلْ تَسْتَحِقُّ الزَّوْجَةُ نَفَقَةً لِأَجْلِ الْحَمْلِ الَّذِي فِي بَطْنِهَا وَسُكْنَى؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهَا: لَا نَفَقَةَ لَهَا؛ وَلَا سُكْنَى، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ. وَالثَّانِي: لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى؛ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ؛ وَقَوْلِ طَائِفَةٍ. وَالثَّالِثُ: لَهَا السُّكْنَى؛ دُونَ النَّفَقَةِ، كَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ. [مَسْأَلَةٌ وَصِيٍّ عَلَى أُخْتَيْهِ وَقَدْ كَبِرَتَا وَوَلَدَيْهِمَا وَآنَسَ مِنْهُمَا الرُّشْدَ فَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ] 959 - 24 وَسُئِلَ: عَنْ وَصِيٍّ عَلَى أُخْتَيْهِ، وَقَدْ كَبِرَتَا، وَوَلَدَيْهِمَا؛ وَآنَسَ مِنْهُمَا الرُّشْدَ فَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ؟ أَوْ إلَى شُهُودٍ؟ فَأَجَابَ: إذَا آنَسَ الْوَصِيُّ مِنْهُمْ الرُّشْدَ دَفَعَ إلَيْهِمْ الْمَالَ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى شُهُودٍ؛ بَلْ يُقِرُّ بِرُشْدِهِمْ، وَيُسَلِّمُ إلَيْهِمْ الْمَالَ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ لَكِنَّ لَهُ إثْبَاتَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ وَصِيٍّ قَضَى دَيْنًا عَنْ الْمُوصِي بِغَيْرِ ثُبُوتٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ] 960 - 25 وَسُئِلَ: عَنْ وَصِيٍّ قَضَى دَيْنًا عَنْ الْمُوصِي بِغَيْرِ ثُبُوتٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ؛ وَعَوَّضَ عَنْ الْغَائِبِ بِدُونِ قِيمَةِ الْمِثْلِ: فَهَلْ لِلْوَرَثَةِ فَسْخُ ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ: لَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَقْضِيَ مَا يَدَّعِي مِنْ الدَّيْنِ إلَّا بِمُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ؛ بَلْ وَلَا بِمُجَرَّدِ دَعْوَى مِنْ الْمُدَّعِي؛ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّعْوِيضُ إلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ، وَمَا عَوَّضَهُ بِدُونِ الْقِيمَةِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ؛ فَإِمَّا أَنْ يَضْمَنَ مَا نَقَصَ مِنْ حَقِّ الْوَرَثَةِ،

مسألة نصراني توفي وخلف تركة وأوصى وصيته

وَإِمَّا أَنْ يَفْسَخَ التَّعْوِيضَ وَيُوفِيَ الْغَرِيمَ حَقَّهُ. وَالْمُسْتَنَدُ الشَّرْعِيُّ مُتَعَدِّدٌ: مِثْلَ إقْرَارِ الْمَيِّتِ، أَوْ إقْرَارِ مَنْ يُقْبَلُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ: مِثْلَ وَكِيلِهِ إذَا أَقَرَّ بِمَا وَكَّلَهُ فِيهِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ دِيوَانُ الْأَمِيرِ، وَأُسْتَاذُ دَارِهِ: مِثْلَ شَاهِدٍ يَحْلِفُ مَعَهُ الْمُدَّعِي، وَمِثْلَ خَطِّ الْمَيِّتِ الَّذِي يُعْلَمُ أَنَّهُ خَطُّهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. [مَسْأَلَةٌ نَصْرَانِيٍّ تُوُفِّيَ وَخَلَفَ تَرِكَةً وَأَوْصَى وَصِيَّتَهُ] 961 - 26 وَسُئِلَ: عَنْ نَصْرَانِيٍّ تُوُفِّيَ وَخَلَفَ تَرِكَةً، وَأَوْصَى وَصِيَّتَهُ، وَظَهَرَتْ عَلَيْهِ دُيُونٌ بِسَاطِرِ وَغَيْرِ مَسَاطِر، فَهَلْ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُعْطِيَ أَرْبَابَ الدُّيُونِ بِغَيْرِ ثُبُوتٍ عَلَى يَدِ حَاكِمٍ؟ فَأَجَابَ: إذَا كَانَ الْمَيِّتُ مِمَّنْ يَكْتُبُ مَا عَلَيْهِ لِلنَّاسِ فِي دَفْتَرٍ وَنَحْوِهِ، وَلَهُ كَاتِبٌ يَكْتُبُ بِإِذْنِهِ مَا عَلَيْهِ وَنَحْوَهُ، فَإِنَّهُ يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْكِتَابِ الَّذِي بِخَطِّهِ أَوْ خَطِّ وَكِيلِهِ؛ فَمَا كَانَ مَكْتُوبًا وَلَيْسَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْوَفَاءِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمَيِّتِ بِهِ، فَالْخَطُّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَاللَّفْظِ، وَإِقْرَارُ الْوَكِيلِ فِيمَا وَكَّلَ فِيهِ بِلَفْظِهِ أَوْ خَطِّهِ الْمُعْتَبَرِ مَقْبُولٌ؛ وَلَكِنَّ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ الْيَمِينَ بِالِاسْتِحْقَاقِ، أَوْ نَفْيِ الْبَرَاءَةِ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ الدَّيْنُ بِإِقْرَارٍ لَفْظِيٍّ. وَأَمَّا إعْطَاءُ الْمُدَّعِي مَا يَدَّعِيهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ الَّذِي لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ دَعْوَاهُ وَدَعْوَى غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْوَصِيِّ وَنَحْوِهِ إذَا كَانَ بَعْضُ مَالِ الْوَصِيِّ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَصِيٍّ عَلَيْهِ] 962 - 27 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ الْوَصِيِّ وَنَحْوِهِ إذَا كَانَ بَعْضُ مَالِ الْوَصِيِّ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَصِيٍّ عَلَيْهِ وَلِلْمُوصِي فِيهِ نَصِيبٌ؛ وَبَاعَ الشُّرَكَاءُ أَنْصِبَاءَهُمْ أَوْ اكْتَرَوْهُ لِلْوَصِيِّ؛ وَاحْتَاجَ الْوَلِيُّ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَ الْيَتِيمِ؛ أَوْ يُكْرِيَهُ مَعَهُمْ: فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الشِّرَاءُ؟ فَأَجَابَ: يَجُوزُ لَهُ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّ الشُّرَكَاءَ غَيْرُ مُتَّهَمِينَ فِي بَيْعِ نَصِيبِهِمْ، وَلِأَنَّ الشُّرَكَاءَ إذَا عَيَّنُوا الْوَصِيَّ تَعَيَّنَ عَنْ غَيْرِهِ فِي نَصِيبِ الْيَتِيمِ دَخَلَ ضَرُورَةً، وَيَشْهَدُ لَهُ

مسألة وصي يتيم وهو يتجر له ولنفسه بماله

الْمَعْنَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] . [مَسْأَلَةٌ وَصِيٍّ يَتِيمٍ وَهُوَ يَتَّجِرُ لَهُ وَلِنَفْسِهِ بِمَالِهِ] 963 - 28 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ وَصِيٍّ يَتِيمٍ، وَهُوَ يَتَّجِرُ لَهُ وَلِنَفْسِهِ بِمَالِهِ، فَاشْتَرَى لِلْيَتِيمِ صِنْفًا، ثُمَّ بَاعَهُ وَاشْتَرَى لَهُ بِثَمَنِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اشْتَرَى الْمَذْكُورَ، وَمَاتَ وَلَمْ يُعَيِّنْ: هَلْ هُوَ لِأَحَدِهِمْ أَوْ لَهُمَا. فَهَلْ يَكُونُ الصِّنْفُ لِوَرَثَةِ الْوَصِيِّ أَوْ لِلْيَتِيمِ؟ فَأَجَابَ: إذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِهِ إلَّا بِمَالِهِ وَحْدَهُ، وَبِمَالِ الْيَتِيمِ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ لِأَحَدِهِمَا: يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ: هَلْ يُمْكِنُ عِلْمُهُ بِأَنْ يُعْرَفَ مِقْدَارُ مَالِ الْيَتِيمِ. وَمِقْدَارُ مَالِ نَفْسِهِ. وَيُنْظَرَ فِي دَفَاتِرِ الْحِسَابِ، وَمَا كَتَبَهُ بِخَطِّهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَالُ الْيَتِيمِ مُتَمَيِّزًا بِأَنْ يَكُونَ مَا اشْتَرَاهُ بِكُتُبِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ كَانَ مِمَّا لَمْ يَكْتُبْهُ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ الْمُسْتَحِقِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ فِيهِ لِلْفُقَهَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقْسَمَ بَيْنَهُمَا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، كَمَا لَوْ تَدَاعَيَا عَيْنًا يَدُهُمَا عَلَيْهَا. الثَّانِي: يُوقَفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَصْطَلِحَا، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ حَلَفَ وَأَخَذَ، لِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي مَتَاعٍ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَهِمَا عَلَيْهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد «إذَا كَرِهَ الِاثْنَانِ الْيَمِينَ، أَوْ اسْتَحَبَّاهَا فَلْيَسْتَهِمَا عَلَيْهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَلَفْظُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة أيتام تحت الحجر ولهم وصي وكفيل ولأمهم زوج أجنبي فهل له عليهم حكم

[مَسْأَلَةٌ أَيْتَامٍ تَحْتَ الْحَجْرِ وَلَهُمْ وَصِيٌّ وَكَفِيلٌ وَلِأُمِّهِمْ زَوْجٌ أَجْنَبِيٌّ فَهَلْ لَهُ عَلَيْهِمْ حُكْمٌ] وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ أَيْتَامٍ تَحْتَ الْحَجْرِ؛ وَلَهُمْ وَصِيٌّ وَكَفِيلٌ وَلِأُمِّهِمْ زَوْجٌ أَجْنَبِيٌّ: فَهَلْ لَهُ عَلَيْهِمْ حُكْمٌ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَيْسَ لِزَوْجِ الْأُمِّ عَلَيْهِمْ حُكْمٌ فِي أَبْدَانِهِمْ وَلَا أَمْوَالِهِمْ؛ بَلْ الْأُمُّ الْمُزَوَّجَةُ بِالْأَجْنَبِيِّ لَا حَضَانَةَ لَهَا لِئَلَّا يَحْضُنَهُمْ الْأَجْنَبِيُّ، فَإِنَّ الزَّوْجَةَ تَحْتَ أَمْرِ الزَّوْجِ، فَأَسْقَطَ الشَّارِعُ حَضَانَتَهَا؛ لِئَلَّا يَكُونُوا فِي حَضَانَةِ أَجْنَبِيٍّ؛ وَإِنَّمَا الْحَضَانَةُ لِأُمِّ الْأُمِّ؛ أَوْ لِغَيْرِهَا مِنْ الْأَقَارِبِ. وَأَمَّا الْمَالُ فَأَمْرُهُ إلَى الْوَصِيِّ وَالنِّكَاحُ لِلْعَصَبَةِ. [مَسْأَلَةٌ أَوْصَى وَصِيَّةً بِحَضْرَتِهِ إنَّ هَذِهِ الدَّارَ نِصْفُهَا لِلْحَرَمِ الشَّرِيفِ وَنِصْفُهَا لِمَمْلُوكِيٍّ] 965 - 30 وَسُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَأَوْصَى وَصِيَّةً بِحَضْرَتِهِ: إنَّ هَذِهِ الدَّارَ نِصْفُهَا لِلْحَرَمِ الشَّرِيفِ؛ وَنِصْفُهَا لِمَمْلُوكِيٍّ " سُنْقُرٍ " الْمَعْتُوقِ الْحُرِّ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ سِوَى ابْنِ أُسْتَاذِهِ؛ وَأَنَّ الْوَصِيَّ قَالَ لِابْنِ أُسْتَاذِهِ: هَذَا مَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ مَنْعُهُ؛ فَخَلَّى كَلَامَ الْوَصِيِّ وَبَاعَهُ وَتَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمَالِكِ: فَهَلْ يَصِحُّ بَيْعُهُ؟ فَأَجَابَ: إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ وَجَبَ تَنْفِيذُهَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ إبْطَالُهَا، فَإِنْ جَحَدُوهَا فَلَهُ تَحْلِيفُهُمْ، وَمَتَى شَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ بِقَبُولِ الْوَصِيِّ أَوْ غَيْرِهِ فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ وَيَأْخُذَ حِصَّتَهُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ تَحْتَ حَجْرٍ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ وَالْوَصِيَّ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ وَلَدَهُ] 966 - 31 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلٍ تَحْتَ حَجْرٍ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ، وَأَنَّ الْوَصِيَّ تُوُفِّيَ إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَرَكَ وَلَدَهُ، وَأَنَّ وَلَدَهُ قَدْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَا تَرَكَ وَالِدُهُ، وَعَلَى مَا كَانَ وَالِدُهُ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْيَتِيمَ طَلَبَ الْحِسَابَ مِنْ وَلَدِ الْوَصِيِّ فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ، وَأَنَّ وَلَدَهُ ادَّعَى أَنَّ وَالِدَهُ أَقْبَضَ بَعْضَ مَالِ مَحْجُورِهِ لِزَيْدٍ وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ إقْبَاضَ ذَلِكَ شَرْعًا، وَأَنَّهُ بِإِشْهَادٍ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الْقَابِضَ الَّذِي أَقْبَضَهُ الْوَصِيُّ ادَّعَى أَنَّهُ أَقْبَضَ ذَلِكَ الْمَالَ لِلْيَتِيمِ، فَهَلْ تَجُوزُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الْيَتِيمِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ؟ أَمْ لَا؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى مَالِ الْوَصِيِّ بِمَا أَقْبَضَهُ مِنْ مَالِهِ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ إقْبَاضَهُ شَرْعًا؟ وَهَلْ لِوَلَدِ الْوَصِيِّ الرُّجُوعُ عَنْ مَا أَقْبَضَهُ وَالِدُهُ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ؟ وَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا مَاتَ الْوَصِيُّ وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ مَالَ الْيَتِيمِ قَدْ ذَهَبَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَهُوَ بَاقٍ بِحُكْمٍ يُوجِبُ إبْقَاءَهُ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ؛ لَكِنْ هَلْ يَكُونُ دَيْنًا يُحَاصُّ

مسألة وصي تحت يده مال لأيتام فهل يجوز أن يخرج من ماله حصته ومن مالهم حصته

الْغُرَمَاءَ؟ أَوْ يَكُونُ أَمَانَةً يُؤْخَذُ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ؟ فِيهِ نِزَاعٌ. وَإِذَا ادَّعَى الْوَارِثُ رَدَّهُ إلَيْهِ لَمْ يُقْبَلْ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْوَصِيُّ قَدْ أَقْبَضَهُ لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ أَقْبَضَهُ لِلْيَتِيمِ، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ وَكَانَ الْإِقْبَاضُ مِمَّا يَسُوغُ. فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْوَصِيِّ فِي ذَلِكَ. مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْيَتِيمُ قَدْ رَشِدَ. فَسَلَّمَ إلَيْهِ مَالَهُ بَعْدَ أَنَّهُ آنَسَ الرُّشْدَ؛ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْحَجْرَ عَنْهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ثُبُوتِ الْحَاكِمِ وَلَا حُكْمِهِ؛ بَلْ مَتَى آنَسَ الْوَصِيُّ مِنْهُ الرُّشْدَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَالَهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6] . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْوَصِيُّ قَدْ سَلَّمَ الْمَالَ مَنْ لَا يَجُوزُ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَالُ وَصَلَ إلَى الْيَتِيمِ الْبَائِنِ رُشْدُهُ فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْوَصِيِّ، كَمَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ كُلِّ غَاصِبٍ يُوصِلُ الْمَالَ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ فِعْلِ الْغَاصِبِ، وَلَا تَعَدٍّ: مِثْلَ أَنْ يَأْخُذَهُ الْمَالِكُ قَهْرًا، أَوْ يُخَلِّصُهُ لَهُ بَعْضُ النَّاسِ، أَوْ تُطَيِّرُهُ إلَيْهِ الرِّيحُ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْيَتِيمُ بَعْدَ إينَاسِ الرُّشْدِ وُصُولَهُ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ ذَلِكَ الْقَابِضِ الَّذِي لَيْسَ بِوَكِيلٍ لِلْوَصِيِّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَأَمَّا إنْ أَنْكَرَ إقْبَاضَ الْوَصِيِّ أَوْ وَكِيلِهِ لِأَحَدٍ: فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ؟ أَوْ قَوْلُ الْوَصِيِّ؟ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. [مَسْأَلَةٌ وَصِيٍّ تَحْتَ يَدِهِ مَالٌ لِأَيْتَامٍ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِهِ حِصَّتَهُ وَمِنْ مَالِهِمْ حِصَّتَهُ] 967 - 32 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ وَصِيٍّ تَحْتَ يَدِهِ مَالٌ لِأَيْتَامٍ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِهِ حِصَّتَهُ؛ وَمِنْ مَالِهِمْ حِصَّتَهُ؛ وَيُنْفِقَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَيْهِ؟ فَأَجَابَ: يُنْفِقُ عَلَى الْيَتِيمِ بِالْمَعْرُوفِ؛ وَإِذَا كَانَ خَلْطُ طَعَامِهِ بِطَعَامِ الرَّجُلِ أَصْلَحَ لِلْيَتِيمِ فَعَلَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] .

مسألة أيتام تحت يد وصي ولهم أخ من أم وقد باع الوصي حصته على إخوته

فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا لَمَّا تَوَعَّدَ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَأْكُلُ مَالَ الْيَتِيمِ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ يُمَيِّزُونَ طَعَامَ الْيَتِيمِ عَنْ طَعَامِهِمْ، فَيَفْسُدُ، فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. [مَسْأَلَةٌ أَيْتَامٍ تَحْتَ يَدِ وَصِيٍّ وَلَهُمْ أَخٌ مِنْ أُمٍّ وَقَدْ بَاعَ الْوَصِيُّ حِصَّتَهُ عَلَى إخْوَتِهِ] 968 - 33 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ أَيْتَامٍ تَحْتَ يَدِ وَصِيٍّ، وَلَهُمْ أَخٌ مِنْ أُمٍّ، وَقَدْ بَاعَ الْوَصِيُّ حِصَّتَهُ عَلَى إخْوَتِهِ؛ وَذِكْرُ الْمِلْكِ كَانَ وَاقِعًا؛ وَلَمْ تَعْلَمْ الْأَيْتَامُ بِبَيْعِهِ لِمَا بَاعَهُ الْوَصِيُّ مِنْهُ إلَيْهِمْ: فَهَلْ يَجُوزُ الْبَيْعُ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: بَيْعُ الْعَقَارِ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَفْعَلَهُ إلَّا لِحَاجَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ بَيِّنَةٍ؛ وَإِذَا ذَكَرَ أَنَّهُ بَاعَهُ لِلِاسْتِهْدَامِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِلْيَتِيمِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا لِلْيَتِيمِ الْآخَرِ إنْ كَانَ صَادِقًا؛ وَضَرَرًا لِلْأَوَّلِ إنْ كَانَ كَاذِبًا. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ وَلَهُ مِنْهَا أَوْلَادٌ خَمْسَةٌ وَأَوْدَعَ عِنْدَ إنْسَانٍ دَرَاهِمَ وَقَالَ لَهُ إنْ أَنَا مِتُّ تُعْطِيهَا الدَّرَاهِمَ] 969 - 34 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ، وَلَهُ مِنْهَا أَوْلَادٌ خَمْسَةٌ، وَأَوْدَعَ عِنْدَ إنْسَانٍ دَرَاهِمَ، وَقَالَ لَهُ: إنْ أَنَا مِتُّ تُعْطِيهَا الدَّرَاهِمَ، ثُمَّ إنَّهُ مَاتَ، فَأَخَذَتْ مِنْ الْوَصِيِّ بَعْضَ الدَّرَاهِمِ، ثُمَّ إنَّ أَوْلَادَهَا طَلَبُوهَا إلَى الْحَاكِمِ؛ وَطَلَبُوا مِنْهَا الدَّرَاهِمَ؛ فَأَعْطَتْهُمْ إيَّاهَا، وَاعْتَرَفَتْ أَنَّهَا أَخَذَتْهَا مِنْ الْمُوصِي، ثُمَّ إنَّهُمْ طَلَبُوا الْوَصِيَّ بِجُمْلَةِ الْمَالِ وَادَّعَوْا أَنَّ الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ أَنَّهُ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ؛ إلَّا كَانَ بَعْدَ أَنْ أَكْرَهُوهَا عَلَى ذَلِكَ: فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ إنَّهُ مِنْ الْمَبْلَغِ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ الْمُوصَى إلَيْهِ فِي قَدْرِ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ: إنَّهُ دَفَعَ إلَى الْمَرْأَةِ مَا دَفَعَ إذَا صَدَّقَتْهُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَالْوَصِيَّةُ لِأُمِّ الْوَلَدِ وَصِيَّةٌ صَحِيحَةٌ إذَا كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ؛ وَلِهَذِهِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَ مَا وَصَّى لَهَا بِهِ إذَا كَانَ بِدُونِ الثُّلُثِ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْوَارِثُ الْوَصِيَّةَ فَلَهَا عَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَإِنْ شَهِدَ لَهَا شَاهِدُ عَدْلٍ وَحَلَفَتْ مَعَ شَاهِدِهَا حُكِمَ لَهَا بِذَلِكَ؛ وَإِذَا خَرَجَ الْمَالُ عَنْ يَدِ الْوَصِيِّ وَشَهِدَ لَهَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لَهَا.

مسألة وصي نزل عن وصيته عند الحاكم

وَإِذَا كَانَتْ كَتَمَتْ أَوَّلًا مَا عِنْدَ الْوَصِيِّ لِتَأْخُذَ مِنْهُ مَا وَصَّى لَهَا بِهِ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهَا فِي الْبَاطِنِ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْ لَهَا بِذَلِكَ بَيِّنَةً. فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مَالًا فِي بَاطِنِ ذَلِكَ وَأَخَذَهُ كَانَ مُتَأَوِّلًا فِي ذَلِكَ؛ مَعَ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ وَصِيٍّ نَزَلَ عَنْ وَصِيَّتِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ] 970 - 35 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ وَصِيٍّ نَزَلَ عَنْ وَصِيَّتِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَسَلَّمَ الْمَالَ إلَى الْحَاكِمِ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي مَحْضَرٍ لِيُسَلِّمَهُ: فَهَلْ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ؟ فَأَجَابَ: إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ عَنْ نَفْسِهِ فَعَلَى الْحَاكِمِ إجَابَتُهُ إلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحُكْمِ إيصَالُ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا، وَدَفْعُ الْعُدْوَانِ، وَهُوَ يَعُودُ إلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَالْإِلْزَامِ بِذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ وَصَّى لِرَجُلَيْنِ عَلَى وَلَدِهِ ثُمَّ إنَّهُمَا اجْتَهَدَا فِي ثُبُوتِ الْوَصِيَّةِ] 971 - 36 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلٍ وَصَّى لِرَجُلَيْنِ عَلَى وَلَدِهِ، ثُمَّ إنَّهُمَا اجْتَهَدَا فِي ثُبُوتِ الْوَصِيَّةِ: فَهَلْ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ مَا غَرِمُوا عَلَى ثُبُوتِهَا؟ فَأَجَابَ: إذَا كَانَا مُتَبَرِّعَيْنِ بِالْوَصِيَّةِ فَمَا أَنْفَقَاهُ عَلَى إثْبَاتِهَا بِالْمَعْرُوفِ: فَهُوَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَ صَاحِبٌ لَهُ فِي الْجِهَادِ فَجَمَعَ تَرِكَتَهُ بَعْدَ تَعَبٍ فَهَلْ يَجِبُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ أُجْرَةٌ] 972 - 37 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ صَاحِبٌ لَهُ فِي الْجِهَادِ؛ فَجَمَعَ تَرِكَتَهُ فِي مُدَّةِ ثَلَاثِ سِنِينَ بَعْدَ تَعَبٍ: فَهَلْ يَجِبُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ أُجْرَةٌ؟ فَأَجَابَ: إنْ كَانَ وَصِيًّا فَلَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ؛ أَوْ كِفَايَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى هَذَا الْعَمَلِ فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ؛ وَإِنْ عَمِلَ مُتَبَرِّعًا فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ؛ بَلْ

مسألة رجل خص بعض الأولاد على بعض

أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَإِنْ عَمِلَ مَا يَجِبُ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ. فَفِي وُجُوبِ أَجْرِهِ نِزَاعٌ. وَالْأَظْهَرُ الْوُجُوبُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ خَصَّ بَعْضَ الْأَوْلَادِ عَلَى بَعْضٍ] 973 - 38 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ خَصَّ بَعْضَ الْأَوْلَادِ عَلَى بَعْضٍ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ لَهُ فِي حَالِ مَرَضِهِ أَنْ يَخُصَّ أَحَدًا مِنْهُمْ بِأَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ مِيرَاثِهِ، بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَلْتَتَآثَرْ الْوَرَثَةُ رَدَّهُ، وَأَخْذَ حُقُوقِهِمْ بَلْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرُدَّهُ حَيًّا وَمَيِّتًا وَيَرُدَّهُ الْمُخَصَّصُ بَعْدَ مَوْتِهِ. [مَسْأَلَةٌ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ فِي صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ وَبَدَنِهِ أَنَّ وَارِثِي هَذَا لَمْ يَرِثْنِي غَيْرُهُ] 974 - 39 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ فِي صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ وَبَدَنِهِ أَنَّ وَارِثِي هَذَا لَمْ يَرِثْنِي غَيْرُهُ، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ وَلِمَنْ يَكُونُ الْإِرْثُ بَعْدَهُ؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ الشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ، بَلْ إنْ كَانَ وَارِثًا فِي الشَّرْعِ وِرْثًا فِي الشَّرْعِ وَرِثَهُ شَاءَ أَمْ أَبَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا فِي الشَّرْعِ لَمْ يَرِثْ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ وَلَا يُغَيِّرَ دِينَ اللَّهِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كُرْهًا كَانَ فَاسِقًا مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَطَعَ مِيرَاثًا قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنْ الْجَنَّةِ» . [مَسْأَلَةٌ وَصَّى أَوْ وَقَفَ عَلَى جِيرَانِهِ فَمَا الْحُكْمُ] 975 - 40 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ وَصَّى أَوْ وَقَفَ عَلَى جِيرَانِهِ فَمَا الْحُكْمُ؟ الْجَوَابُ: إذَا لَمْ يُعْرَفْ مَقْصُودُ الْوَاقِفِ وَالْوَصِيِّ لَا بِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ وَلَا عُرْفِيَّةٍ، وَلَا كَانَ لَهُ عُرْفٌ فِي مُسَمَّى الْجِيرَانِ، رُجِعَ فِي ذَلِكَ إلَى الْمُسَمَّى الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، لِمَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: الْجِيرَانُ أَرْبَعُونَ، مِنْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة خلف شيئا من الدنيا تقاسمه أولاده وأعطوا أمهم كتابهم

[مَسْأَلَةٌ خَلَفَ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا تَقَاسَمَهُ أَوْلَادُهُ وَأَعْطَوْا أُمَّهُمْ كِتَابَهُمْ] مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ خَلَفَ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا، تَقَاسَمَهُ أَوْلَادُهُ، وَأَعْطَوْا أُمَّهُمْ كِتَابَهُمْ وَثُمُنَهَا وَبَعْدَ قَلِيلٍ وَجَدَ الْأَوْلَادُ مَعَ أُمِّهِمْ شَيْئًا يَجِيءُ ثُلُثَ الْوِرَاثَةِ، فَقَالُوا لَهَا مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا الْمَالُ؟ فَقَالَتْ: لَمَّا كَانَ أَبُوكُمْ مَرِيضًا طَلَبْت مِنْهُ شَيْئًا فَأَعْطَانِي ثُلُثَ مَالِهِ. فَأَخَذُوا الْمَالَ مِنْ أُمِّهِمْ، وَقَالُوا: مَا أَعْطَاكِ أَبُونَا شَيْئًا. فَهَلْ يَجِبُ رَدُّ الْمَالِ إلَيْهَا؟ الْجَوَابُ: مَا أَعْطَى الْمَرِيضُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لِوَارِثِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَمَا أَعْطَاهُ الْمَرِيضُ لِامْرَأَتِهِ فَهُوَ كَسَائِرِ مَالِهِ، إلَّا أَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ بَاقِي الْوَرَثَةِ، وَيَنْبَغِي لِلْأَوْلَادِ أَنْ يُقِرُّوا أُمَّهُمْ وَيُجِيزُوا ذَلِكَ لَهَا، لَكِنْ لَا يُجْبَرُونَ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ تُقْسَمُ جَمِيعُ التَّرِكَةِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . [مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَأَعْطَاهَا الْمَهْرَ وَكَتَبَ عَلَيْهِ صَدَاقًا أَلْفَ دِينَارٍ] 977 - 42 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَأَعْطَاهَا الْمَهْرَ، وَكَتَبَ عَلَيْهِ صَدَاقًا أَلْفَ دِينَارٍ، وَشَرَطُوا عَلَيْهِ أَنَّنَا مَا نَأْخُذُ مِنْك شَيْئًا، إلَّا عِنْدَنَا هَذِهِ عَادَةٌ وَسُمْعَةٌ، وَالْآنَ تُوُفِّيَ الزَّوْجُ وَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ كِتَابَهَا مِنْ الْوَرَثَةِ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ. الْجَوَابُ: إذَا كَانَتْ الصُّورَةُ عَلَى مَا ذُكِرَ لَهُمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ إلَّا مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، فَلَا يَحِلُّ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ بَلْ يَجِبُ لَهَا مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ وَالِدَتُهُ وَخَلَفَتْهُ وَوَالِدَهُ وَكَرِيمَتَهُ ثُمَّ مَاتَتْ كَرِيمَتُهُ فَأَرَادَ وَالِدُهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ] 978 - 43 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مَاتَتْ وَالِدَتُهُ وَخَلَفَتْهُ وَوَالِدَهُ وَكَرِيمَتَهُ ثُمَّ مَاتَتْ كَرِيمَتُهُ، فَأَرَادَ وَالِدُهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ. فَقَالَ: مَا أُزَوِّجُك حَتَّى تُمَلِّكَنِي مَا وَرِثْته عَنْ

وَالِدَتِك. فَمَلَّكَهُ ذَلِكَ وَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِالرُّبْعِ. بِشُهُودٍ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَرِضَ وَالِدُهُ مَرَضًا غَيَّبَ عَقْلَهُ، فَرَجَعَ فِيمَا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى وَلَدِهِ وَأَوْقَفَهَا عَلَى زَوْجَتِهِ، وَوَلَدِهِ وَابْنَتِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ وَلَدَهُ وَانْتَسَخَ كِتَابَ الْوَقْفِ مَرَّتَيْنِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يُخَصِّصَ أَوْلَادَهُ وَيُخْرِجَ وَلَدَهُ مِنْ جَمِيعِ إرْثِ وَالِدَتِهِ. الْجَوَابُ: إنْ كَانَ الْأَبُ قَدْ أَعْطَى ابْنَهُ شَيْئًا عِوَضًا عَمَّا أَخَذَهُ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ صَدَقَةً لِلَّهِ، فَفِي رُجُوعِهِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَرْجِعُ، وَالثَّانِي: يَرْجِعُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَمَتَى رَجَعَ وَعَقْلُهُ غَائِبٌ، أَوْ أَوْقَفَ وَعَقْلُهُ غَائِبٌ، أَوْ عَقَدَ عَقْدًا لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ وَلَا وَقْفُهُ إنْ كَانَ مَغِيبًا عَقْلُهُ بِمَرَضٍ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.

كتاب الفرائض

[كِتَابُ الْفَرَائِضِ] [مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا وَخَلَفَ أَوْلَادًا] ِ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ امْرَأَةٍ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا، وَخَلَفَ أَوْلَادًا؟ فَأَجَابَ: لِلزَّوْجَةِ الصَّدَاقُ؛ وَالْبَاقِي فِي ذِمَّتِهِ، حُكْمُهَا فِيهِ حُكْمُ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ النَّافِذَةِ إنْ كَانَ هُنَاكَ وَصِيَّةٌ فَلَهَا ثُمُنُهُ مَعَ الْأَوْلَادِ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ وَخَلَفَتْ زَوْجًا وَأَبَوَيْنِ] 980 - 2 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ، وَخَلَفَتْ زَوْجًا وَأَبَوَيْنِ، وَقَدْ احْتَاطَ الْأَبُ عَلَى التَّرِكَةِ؛ وَذَكَرَ أَنَّهَا غَيْرُ رَشِيدَةٍ. فَهَلْ لِلزَّوْجِ مِيرَاثٌ مِنْهَا؟ . فَأَجَابَ: مَا خَلَفَتْهُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ: فَلِزَوْجِهَا نِصْفُهُ؛ وَلِأَبِيهَا الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِلْأُمِّ. وَهُوَ السُّدُسُ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ رَشِيدَةً أَوْ غَيْرَ رَشِيدَةٍ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ عَنْ أَبَوَيْنِ وَزَوْجٍ وَأَرْبَعَةِ أَوْلَادٍ ذُكُورٍ وَأُنْثَى] 981 - 3 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ: عَنْ أَبَوَيْنِ، وَزَوْجٍ؛ وَأَرْبَعَةِ أَوْلَادٍ ذُكُورٍ، وَأُنْثَى. فَقَالَ الزَّوْجُ لِجَمَاعَةِ شُهُودٍ: اشْهَدُوا عَلَى أَنَّ نَصِيبِي - هُوَ سِتَّةٌ - لِأَبَوَيْ زَوْجَتِي؛ وَأَوْلَادِهَا الْمَذْكُورِينَ بِالْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَمَا خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؟

مسألة امرأة ماتت ولها زوج وجدة وإخوة أشقاء وابن

فَأَجَابَ: إذَا كَانَ قَدْ مَلَّكَهُ نَصِيبَهُ الَّذِي هُوَ سِتَّةُ أَسْهُمٍ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ عَلَى الْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْبَاقِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا: لِلْأَبَوَيْنِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ، وَأَوْلَادِهِ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ، فَتُرَدُّ تِلْكَ السِّتَّةُ عَلَى هَذِهِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَيُقْسَمُ الْجَمِيعُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، كَمَا يُرَدُّ الْفَاضِلُ عَنْ ذَوِي السِّهَامِ بَيْنَهُمْ، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالرَّدِّ؛ فَإِنَّ نَصِيبَ الْوَارِثِ جَعَلَهُ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ النَّصِيبِ الْمَرْدُودِ بَيْنَهُمْ. [مَسْأَلَةٌ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَلَهَا زَوْجٌ وَجَدَّةٌ وَإِخْوَةٌ أَشِقَّاءُ وَابْنٌ] 982 - 4 وَسُئِلَ: عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ، وَلَهَا زَوْجٌ وَجَدَّةٌ وَإِخْوَةٌ أَشِقَّاءُ وَابْنٌ: فَمَا يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمِيرَاثِ؟ فَأَجَابَ: لِلزَّوْجِ الرُّبْعُ، وَلِلْجَدَّةِ السُّدُسُ، وَلِلِابْنِ الْبَاقِي، وَلَا شَيْءَ لِلْإِخْوَةِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. [مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَتْ وَخَلَفَتْ زَوْجًا وَابْنَتَيْنِ وَوَالِدَتَهَا وَأُخْتَيْنِ أَشِقَّاءَ] 983 - 5 وَسُئِلَ: عَنْ امْرَأَةٍ تُوُفِّيَتْ: وَخَلَفَتْ زَوْجًا وَابْنَتَيْنِ وَوَالِدَتَهَا وَأُخْتَيْنِ أَشِقَّاءَ: فَهَلْ تَرِثُ الْأَخَوَاتُ؟ فَأَجَابَ: يُفْرَضُ لِلزَّوْجِ الرُّبْعُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ. أَصْلُهَا مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، وَتَعُولُ إلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَأَمَّا الْأَخَوَاتُ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ مَعَ الْبَنَاتِ؛ لِأَنَّ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ؛ وَلَمْ يَفْضُلْ لِلْعَصَبَةِ شَيْءٌ، هَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ وَخَلَفَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَأُخْتًا شَقِيقَةً وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأَخًا وَأُخْتًا لِأُمٍّ] 984 - 6 وَسُئِلَ: عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ: وَخَلَفَتْ زَوْجًا، وَأُمًّا، وَأُخْتًا شَقِيقَةً، وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأَخًا وَأُخْتًا لِأُمٍّ؟ فَأَجَابَ: الْمَسْأَلَةُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَتَعُولُ إلَى عَشَرَةٍ وَتُسَمَّى " ذَاتَ الْفُرُوخِ " لِكَثْرَةِ عَوْلِهَا: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ؛ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، سَهْمٌ، وَلِلشَّقِيقَةِ ثَلَاثَةٌ؛

مسألة ماتت وخلفت زوجا وبنتا وأما وأختا من أم فما يستحق كل واحد منهم

وَلِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ السُّدُسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ وَلِوَلَدَيْ الْأُمِّ الثُّلُثُ سُهْمَانٍ فَالْمَجْمُوعُ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ. وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ وَخَلَفَتْ زَوْجًا وَبِنْتًا وَأُمًّا وَأُخْتًا مِنْ أُمٍّ فَمَا يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ] 985 - 7 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ: وَخَلَفَتْ زَوْجًا، وَبِنْتًا، وَأُمًّا، وَأُخْتًا مِنْ أُمٍّ فَمَا يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؟ فَأَجَابَ: هَذِهِ الْفَرِيضَةُ تُقْسَمُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ: لِلْبِنْتِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ. وَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ؛ وَلِلْأُمِّ سَهْمَانِ، وَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ؛ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِالْبِنْتِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ كُلِّهِمْ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالرَّدِّ كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ. وَمَنْ لَا يَقُولُ بِالرَّدِّ: كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ: فَيُقْسَمُ عِنْدَهُمْ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا؛ لِلْبِنْتِ سِتَّةٌ؛ وَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ؛ وَلِلْأُمِّ سَهْمَانِ؛ وَالسَّهْمُ الثَّانِيَ عَشَرَ لِبَيْتِ الْمَالِ. [مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَ وَلَهُ عَمٌّ شَقِيقٌ وَلَهُ أُخْتٌ مِنْ أَبِيهِ] 986 - 8 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ: وَلَهُ عَمٌّ شَقِيقٌ، وَلَهُ أُخْتٌ مِنْ أَبِيهِ. فَمَا الْمِيرَاثُ فَأَجَابَ: لِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ. وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ وَخَلَفَتْ مِنْ الْوَرَثَةِ بِنْتًا وَأَخًا مِنْ أُمِّهَا وَابْنِ عَمّ] 987 - 9 وَسُئِلَ: عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ، وَخَلَفَتْ مِنْ الْوَرَثَةِ بِنْتًا، وَأَخًا مِنْ أُمِّهَا، وَابْنِ عَمٍّ فَمَا يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ؟ . فَأَجَابَ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِابْنِ الْعَمِّ الْبَاقِي. وَلَا شَيْءَ لِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ لَكِنْ إذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُرْضَخَ لَهُ. وَالْبِنْتُ تُسْقِطُ الْأَخَ مِنْ الْأُمِّ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة ماتت عن زوج وأب وأم وولدين ثم بعد وفاتها توفي والدها وترك أباه وأخته وجده وجدته

[مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ وَأَبٍ وَأُمٍّ وَوَلَدَيْنِ ثُمَّ بَعْدَ وَفَاتِهَا تُوُفِّيَ وَالِدُهَا وَتَرَكَ أَبَاهُ وَأُخْتَه وَجَدَّهُ وَجَدَّتَهُ] وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ، وَأَبٍ، وَأُمٍّ، وَوَلَدَيْنِ: أُنْثَى وَذَكَرٍ ثُمَّ بَعْدَ وَفَاتِهَا تُوُفِّيَ وَالِدُهَا: وَتَرَكَ أَبَاهُ، وَأُخْتَه، وَجَدَّهُ، وَجَدَّتَهُ. فَأَجَابَ: لِلزَّوْجِ الرُّبْعُ، وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ، وَهُوَ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِلْوَلَدَيْنِ أَثْلَاثًا؛ ثُمَّ مَا تَرَكَهُ الْأَبُ فَلِجَدَّتِهِ سُدُسُهُ، وَلِأَبِيهِ الْبَاقِي، وَلَا شَيْءَ لِأُخْتِهِ، وَلَا جَدِّهِ؛ بَلْ كِلَاهُمَا يَسْقُطُ بِالْأَبِ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَ وَتَرَك أُمّ وَأُخوة لِأُمّ وَأُخوة لِلْأَبِ] 990 - 11 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلٍ لَهُ أَوْلَادٌ، وَكَسَبَ جَارِيَةً وَأَوْلَدَهَا، فَوَلَدَتْ ذَكَرًا فَعَتَقَهَا، وَتَزَوَّجَتْ وَرُزِقَتْ أَوْلَادًا، فَتُوُفِّيَ الشَّخْصُ، فَخَصَّ ابْنَهُ الَّذِي مِنْ الْجَارِيَةِ دَارًا، وَقَدْ تُوُفِّيَ. فَهَلْ يَخُصُّ إخْوَتَهُ مِنْ أُمِّهِ شَيْءٌ مَعَ إخْوَتِهِ الَّذِينَ مِنْ أَبِيهِ؟ . فَأَجَابَ: لِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِإِخْوَتِهِ مِنْ الْأُمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي لِإِخْوَتِهِ مِنْ أَبِيهِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ وَخَلَفَتْ زَوْجًا وَابْنَ أُخْتٍ] 991 - 12 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ: وَخَلَفَتْ زَوْجًا، وَابْنَ أُخْتٍ؟ فَأَجَابَ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ؛ وَأَمَّا ابْنُ الْأُخْتِ فَفِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ لَهُ الْبَاقِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي: الْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ؛ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: تَنَازُعُ الْعُلَمَاءِ فِي " ذَوِي الْأَرْحَامِ " الَّذِينَ لَا فَرْضَ لَهُمْ، وَلَا تَعْصِيبَ. فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ: أَنَّ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ بِفَرْضٍ وَلَا

مسألة مات وترك زوجة وأختا لأبويه وثلاث بنات أخ لأبويه

تَعْصِيبٍ يَكُونُ مَالُهُ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، يَكُونُ الْبَاقِي لِذَوِي الْأَرْحَامِ {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، يَرِثُ مَالَهُ، وَيَفُكُّ عَانَهُ» . [مَسْأَلَةٌ مَاتَ وَتَرَكَ زَوْجَةً وَأُخْتًا لِأَبَوَيْهِ وَثَلَاثَ بَنَاتِ أَخٍ لِأَبَوَيْهِ] 992 - 13 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ رَجُلٍ مَاتَ، وَتَرَكَ زَوْجَةً، وَأُخْتًا لِأَبَوَيْهِ، وَثَلَاثَ بَنَاتِ أَخٍ لِأَبَوَيْهِ. فَهَلْ لِبَنَاتِ الْأَخِ مَعَهُنَّ شَيْءٌ؟ وَمَا يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ؟ فَأَجَابَ: لِلزَّوْجَةِ الرُّبْعُ؛ وَلِلْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ النِّصْفُ. وَلَا شَيْءَ لِبَنَاتِ الْأَخِ. وَالرُّبْعُ الثَّانِي إنْ كَانَ هُنَاكَ عَصَبَةٌ هُوَ لِلْعَصَبَةِ، وَإِلَّا فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى الْأُخْتِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَعَلَى الْآخَرِ هُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَ وَخَلَفَ بِنْتًا وَلَهُ أَوْلَادُ أَخٍ مِنْ أَبِيهِ وَهُمْ صِغَارٌ وَلَهُ ابْنُ عَمٍّ رَاجِلٌ] 993 - 14 وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلٍ مَاتَ، وَخَلَفَ بِنْتًا، وَلَهُ أَوْلَادُ أَخٍ مِنْ أَبِيهِ، وَهُمْ صِغَارٌ، وَلَهُ ابْنُ عَمٍّ رَاجِلٌ، وَلَهُ بِنْتُ عَمٍّ، وَلَهُ أَخٌ مِنْ أُمِّهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَوْلَادِ أَعْمَامِهِ: فَمَنْ يَأْخُذُ الْمَالَ؟ وَمَنْ يَكُونُ وَلِيُّ الْبِنْتِ؟ فَأَجَابَ: أَمَّا الْمِيرَاثُ فَنِصْفُهُ لِلْبِنْتِ، وَنِصْفُهُ لِأَبْنَاءِ الْأَخِ. وَأَمَّا حَضَانَةُ الْجَارِيَةِ فَهِيَ لِبِنْتِ الْعَمِّ؛ دُونَ الْعَمِّ مِنْ الْأُمِّ؛ وَدُونَ ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِمَحْرَمٍ وَلَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْمَالِ الَّذِي لِلْيَتِيمَةِ لِوَصِيٍّ أَوْ نُوَّابِهِ.

مسألة ترك ابنتين وعمه أخا أبيه من أمه

[مَسْأَلَةٌ تَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَعَمَّهُ أَخَا أَبِيهِ مِنْ أُمِّهِ] وَسُئِلَ: عَمَّنْ تَرَكَ ابْنَتَيْنِ، وَعَمَّهُ أَخَا أَبِيهِ مِنْ أُمِّهِ: فَمَا الْحُكْمُ؟ فَأَجَابَ: إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ وَتَرَكَ بِنْتَيْهِ، وَأَخَاهُ مِنْ أُمِّهِ. فَلَا شَيْءَ لِأَخِيهِ لِأُمِّهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، بَلْ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ. وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ، إنْ كَانَ لَهُ عَصَبَةٌ وَإِلَّا فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى الْبِنْتَيْنِ، أَوْ بَيْتِ الْمَالِ. [مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَ وَخَلَفَ أَخًا لَهُ وَأُخْتَيْنِ شَقِيقَيْنِ وَبِنْتَيْنِ وَزَوْجَةً] 995 - 16 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَخَلَفَ أَخًا لَهُ؛ وَأُخْتَيْنِ شَقِيقَيْنِ؛ وَبِنْتَيْنِ، وَزَوْجَةً وَخَلَفَ مَوْجُودًا. وَكَانَ الْأَخُ الْمَذْكُورُ غَائِبًا، فَمَا تَكُونُ الْقِسْمَةُ؟ فَأَجَابَ: لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ؛ وَلِلْإِخْوَةِ خَمْسَةُ قَرَارِيطَ بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ أَثْلَاثًا. فَتَحَصَّلَ لِلزَّوْجَةِ ثَلَاثَةُ قَرَارِيطَ، وَلِكُلِّ بِنْتٍ ثَمَانِيَةُ قَرَارِيطَ؛ وَلِلْأَخِ ثَلَاثَةُ قَرَارِيطَ وَثُلُثٌ، وَلِلْأُخْتِ قِيرَاطٌ وَثُلُثَا قِيرَاطٍ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ لَهُ خَالَةٌ مَاتَتْ وَخَلَفَتْ مَوْجُودًا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ] 996 - 17 وَسُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ لَهُ خَالَةٌ مَاتَتْ وَخَلَفَتْ مَوْجُودًا؛ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ: فَهَلْ يَرِثُهَا ابْنُ أُخْتِهَا؟ فَأَجَابَ: هَذَا فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ هُوَ الْوَارِثُ؛ وَفِي الْآخَرِ بَيْتُ الْمَالِ الشَّرْعِيُّ. [لَهُ بِنْتُ عَمٍّ وَابْنُ عَمٍّ فَتُوُفِّيَتْ بِنْتُ الْعَمِّ وَتَرَكَتْ بِنْتًا ثُمَّ تُوُفِّيَ ابْنُ الْعَمِّ وَتَرَكَ وَلَدَيْنِ] 997 - 18 وَسُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ بِنْتُ عَمٍّ، وَابْنُ عَمٍّ؛ فَتُوُفِّيَتْ بِنْتُ الْعَمِّ؛ وَتَرَكَتْ بِنْتًا؛ ثُمَّ تُوُفِّيَ ابْنُ الْعَمِّ الْمَذْكُورِ؛ وَتَرَكَ وَلَدَيْنِ، فَبَقِيَ الْوَلَدَانِ وَبِنْتُ بِنْتِ الْعَمِّ الْمُتَوَفِّيَةُ؛ ثُمَّ تُوُفِّيَتْ الْبِنْتُ: وَتَرَكَتْ أَوْلَادَ عَمٍّ، فَمَنْ يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ أَوْلَادُ ابْنِ الْعَمِّ مِنْ الْأُمِّ؛ أَمْ أَوْلَادُ عَمِّهَا؟ .

مسألة خلف زوجة وثلاثة أولاد ذكور منها ثم مات أحدهم وخلف أمه وأخويه

الْجَوَابُ: مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يَقُولُ بِالتَّنْزِيلِ - كَمَا نُقِلَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ - فَتَنْزِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَام مَنْزِلَةَ مَنْ أَدْلَى بِهِ، قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا؛ وَلَا يُعْتَبَرُ الْقُرْبُ إلَى الْوَارِثِ، ثُمَّ اتَّحَدَتْ الْجِهَةُ؛ فَإِنَّ أَوْلَادَ الْعَمِّ لَهُمْ ثُلُثَا الْمَالِ وَأَوْلَادَ ابْنِ عَمِّ الْأُمِّ ثُلُثُ الْمَالِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ يَنْتَهِي أَمْرُهُمْ إلَى الْأُمِّ. وَإِذَا وُجِدَ أُمٌّ مَعَ أَبٍ؛ أَوْ مَعَ جَدٍّ، كَانَ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ؛ وَالْبَاقِي لَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ خَلَفَ زَوْجَةً وَثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ ذُكُورٍ مِنْهَا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمْ وَخَلَفَ أُمَّهُ وَأَخَوَيْهِ] 998 - 19 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلٍ خَلَفَ زَوْجَةً وَثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ ذُكُورٍ مِنْهَا، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمْ وَخَلَفَ أُمَّهُ وَأَخَوَيْهِ. ثُمَّ مَاتَ الْآخَرُ وَخَلَفَ أُمَّهُ وَأَخَاهُ. ثُمَّ مَاتَ الثَّالِثُ: وَخَلَفَ أُمَّهُ وَابْنًا لَهُ: فَمَا يَحْصُلُ لِلْأُمِّ مِنْ تَرِكَتِهِ؟ فَأَجَابَ: لِلزَّوْجَةِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ الثُّمُنُ، وَالْبَاقِي لِلْإِخْوَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوْلَادُ الْمَيِّتِ؛ ثُمَّ الْأَخُ الْأَوَّلُ: لِأُمِّهِ سُدْسُ تَرِكَتِهِ، وَالْبَاقِي لِأَخَوَيْهِ. وَالْأَخُ الثَّانِي: لِأُمِّهِ ثُلُثُ تَرِكَتِهِ؛ وَالْبَاقِي لِأَخِيهِ، وَالْأَخُ الثَّالِثُ: لِأُمِّهِ سُدُسُ التَّرِكَةِ؛ وَالْبَاقِي لِابْنِهِ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلَيْنِ إخْوَةٍ لِأَبٍ وَكَانَتْ أُمُّ أَحَدِهِمَا أُمَّ وَلَدٍ] 999 - 20 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلَيْنِ - إخْوَةٍ لِأَبٍ - وَكَانَتْ أُمُّ أَحَدِهِمَا أُمَّ وَلَدٍ؛ تَزَوَّجَتْ بِإِنْسَانٍ، وَرُزِقَتْ مِنْهُ اثْنَيْنِ، وَكَانَ ابْنُ الْأُمِّ الْمَذْكُورَةِ تَزَوَّجَ وَرُزِقَ وَلَدًا، وَمَاتَ وَخَلَفَ وَلَدَهُ، فَوَرِثَ أَبَاهُ، ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ، وَكَانَ قَدْ مَاتَ أَخُوهُ مِنْ أَبِيهِ فِي حَيَاتِهِ، وَخَلَفَ ابْنًا فَلَمَّا مَاتَ الْوَلَدُ خَلَفَ أَخُوهُ اثْنَيْنِ: وَهُمْ إخْوَةُ أَبِيهِ مِنْ أُمِّهِ وَخَلَفَ ابْنَ عَمٍّ مِنْ أَبِيهِ: فَمَا الَّذِي يَخُصُّ إخْوَةَ أَبِيهِ؟ وَمَا الَّذِي يَخُصُّ ابْنَ عَمِّهِ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. الْمِيرَاثُ جَمِيعُهُ لِابْنِ عَمِّهِ مِنْ الْأَبِ، وَأَمَّا إخْوَةُ أَبِيهِ مِنْ الْأُمِّ فَلَا مِيرَاثَ لَهُمَا، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْمَيِّتِ أَنْ يُوصِيَ لِقَرَابَتِهِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَهُ، فَإِذَا لَمْ يُوصِ فَيَنْبَغِي إذَا حَضَرُوا الْقِسْمَةَ أَنْ يُعْطَوْا مِنْهُ؛ كَمَا قَالَ

مسألة توفي وخلف ابنين وبنتين وزوجة وابن أخ

تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 8] . [مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَ وَخَلَفَ ابْنَيْنِ وَبِنْتَيْنِ وَزَوْجَةً وَابْنَ أَخٍ] 1000 - 21 وَسُئِلَ: عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ، وَخَلَفَ ابْنَيْنِ، وَبِنْتَيْنِ؛ وَزَوْجَةً، وَابْنَ أَخٍ، فَتُوُفِّيَ الِابْنَانِ، وَأَخَذَتْ الزَّوْجَةُ مَا خَصَّهَا، وَتَزَوَّجَتْ بِأَجْنَبِيٍّ، وَبَقِيَ نَصِيبُ الذَّكَرَيْنِ مَا قَسَمَ، وَأَنَّ الزَّوْجَةَ حَبِلَتْ مِنْ الزَّوْجِ الْجَدِيدِ، فَأَرَادَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ قِسْمَةَ الْمَوْجُودِ، فَمَنَعَ الْبَقِيَّةَ إلَى حَيْثُ تَلِدُ الزَّوْجَةُ. فَهَلْ يَكُونُ لَهَا إذَا وَلَدَتْ مُشَارَكَةٌ فِي الْمَوْجُودِ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ لِزَوْجَتِهِ الثُّمْنُ، وَالْبَاقِي لِبَنِيهِ وَبَنَاتِهِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلَا شَيْءَ لِابْنِ الْأَخِ، فَيَكُونُ لِلزَّوْجَةِ ثَلَاثَةُ قَرَارِيطَ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةُ قَرَارِيطَ، وَلِلْبِنْتَيْنِ سَبْعَةُ قَرَارِيطَ. ثُمَّ الِابْنُ الْأَوَّلُ لَمَّا مَاتَ خَلَفَ أَخَاهُ وَأُخْتَيْنِ وَأُمَّهُ، وَالْأَخُ الثَّانِي خَلَفَ أُخْتَيْهِ وَأُمَّهُ وَابْنَ عَمِّهِ، وَالْحَمْلُ إنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا وَرِثَا مِنْهُ: لِأَنَّهُ أَخُوهُ مِنْ أُمِّهِ. وَيَنْبَغِي لِزَوْجِ الْمَرْأَةِ أَنْ يَكُفَّ عَنْ وَطْئِهَا مِنْ حِينِ مَوْتِ هَذَا. وَهَذَا كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَطَأْهَا وَوَلَدَتْهُ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَوْتِ. وَإِذَا وَطِئَهَا وَتَأَخَّرَ الْحَمْلُ اشْتَبَهَ؛ لَكِنْ مَنْ أَرَادَ مِنْ الْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطَى حَقَّهُ أُعْطِيَ الثُّلُثَيْنِ وَوُقِفَ لِلْحَمْلِ نَصِيبٌ، وَهُوَ الثُّلُثُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ يَتِيمٍ لَهُ مَوْجُودٍ تَحْتَ أَمِينِ الْحُكْمِ] 1001 - 22 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ يَتِيمٍ لَهُ مَوْجُودٍ تَحْتَ أَمِينِ الْحُكْمِ، وَأَنَّ عَمَّهُ تَعَمَّدَ قَتْلَهُ حَسَدًا فَقَتَلَهُ، وَثَبَتَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. فَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ شَرْعًا، وَمَا حُكْمُ اللَّهِ فِي قَسْمِ مِيرَاثِهِ: مِنْ وَقْفٍ وَغَيْرِهِ، وَلَهُ مِنْ الْوَرَثَةِ وَالِدَةٌ، وَأَخٌ مِنْ أُمِّهِ، وَجَدٌّ لِأُمِّهِ، وَأَوْلَادُ الْقَاتِلِ. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَمَّا الْمِيرَاثُ مِنْ الْمَالِ فَإِنَّهُ لِوَرَثَتِهِ، وَالْقَاتِلُ لَا

مسألة ماتت عن زوج وأم واثنان من ولد الأم وحمل من الأب

يَرِثُ شَيْئًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ؛ بَلْ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَالْأَخِ مِنْ الْأُمِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِابْنِ الْعَمِّ وَلَا شَيْءَ لِلْجَدِّ أَبِي الْأُمِّ. وَأَمَّا " الْوَقْفُ " فَيَرْجِعُ فِيهِ إلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ الْمُوَافِقِ لِلشَّرْعِ. وَأَمَّا " دَمُ الْمَقْتُولِ " فَإِنَّهُ لِوَرَثَتِهِ: وَهُمْ الْأُمُّ، وَالْأَخُ، وَابْنُ الْعَمِّ الْقَاتِلُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُمْ إنْ اخْتَلَفُوا: فَأَرَادَتْ الْأُمُّ أَمْرًا، وَابْنُ الْعَمِّ أَمْرًا فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ مَا أَرَادَهُ ابْنُ الْعَمِّ؛ وَهُوَ ذُو الْعَصَبِيَّةِ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ الَّتِي اخْتَارَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَفِي " الثَّانِيَةِ " وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ الَّتِي عَلَيْهَا الْعَمَلُ عِنْدَ الْمَغَارِبَةِ: أَنَّ الْأَمْرَ أَمْرُ مَنْ طَلَبَ الدَّمَ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْعَاصِبَ، أَوْ ذَاتَ الْفَرْضِ. وَ " الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ " كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ مَنْ عَفَا مِنْ الْوَرَثَةِ صَحَّ عَفْوُهُ؛ وَصَارَ حَقُّ الْبَاقِينَ فِي الذِّمَّةِ. لَكِنَّ ابْنَ الْعَمِّ: هَلْ يَقْتُلُ أَبَاهُ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ أَيْضًا: " أَحَدُهُمَا " لَا يَقْتُلُهُ، كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ؛ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَفِي " الثَّانِي " يَقْتُلُهُ: كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ؛ لَكِنَّ الْقَوَدَ ثَبَتَ لِلْمَقْتُولِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى الْوَارِثِ؛ لَكِنْ كَرِهَ مَالِكٌ لَهُ قَتْلَهُ، وَمَنْ وَجَبَ لَهُ الْقَوَدُ فَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ، وَإِذَا عَفَا بَعْضُ الْمُسْتَحِقِّ لِلْقَوَدِ سَقَطَ، وَكَانَ حَقُّ الْبَاقِينَ فِي الدِّيَةِ. وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ بِغَيْرِ رِضَى الْقَاتِلِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا يَأْخُذُ الدِّيَةَ إلَّا بِرِضَى الْقَاتِلِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. وَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْ قَاتِلِ الْعَمْدِ؛ فَإِنَّهُ يُضْرَبُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَيُحْبَسُ سَنَةً عِنْدَ مَالِكٍ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ دُونَ الْبَاقِينَ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ عَنْ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَاثْنَانِ مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ وَحَمْلٌ مِنْ الْأَبِ] 1002 - 23 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ قَوْلِهِ: مَا بَالُ قَوْمٍ غَدَوْا قَدْ مَاتَ مَيِّتُهُمْ ... فَأَصْبَحُوا يَقْسِمُونَ الْمَالَ وَالْحُلَلَا فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ غَيْرِ عِتْرَتِهِمْ ... أَلَّا أُخْبِرُكُمْ أُعْجُوبَةً مَثَلًا فِي الْبَطْنِ مِنْ جَنِينٍ دَامَ يَشْكُرُكُمْ ... فَأَخِّرُوا الْقَسْمَ حَتَّى تَعْرِفُوا الْحَمْلَا

مسألة قال لها أنت طالق ثلاثة وهي مقيمة عنده تخدمه وبعد عشرين يوما توفي الزوج

فَإِنْ يَكُنْ ذَكَرًا لَمْ يُعْطَ خَرْدَلَةً ... وَإِنْ يَكُنْ غَيْرَهُ أُنْثَى فَقَدْ فَضَلَا بِالنِّصْفِ حَقًّا يَقِينًا لَيْسَ يُنْكِرُهُ ... مَنْ كَانَ يَعْرِفُ فَرْضَ اللَّهِ لَا زَلَلَا إنِّي ذَكَرْت لَكُمْ أَمْرِي بِلَا كَذِبٍ ... فَلَا أَقُولُ لَكُمْ جَهْلًا وَلَا مَثَلَا فَأَجَابَ: زَوْجٌ، وَأُمٌّ، وَاثْنَانِ مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ، وَحَمْلٌ مِنْ الْأَبِ؛ وَالْمَرْأَةُ الْحَامِلُ لَيْسَتْ أُمَّ الْمَيِّتِ؛ بَلْ هِيَ زَوْجَةُ أَبِيهَا. فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِوَلَدِ الْأُمِّ الثُّلُثُ. فَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ ذَكَرًا فَهُوَ أَخٌ مِنْ أَبٍ فَلَا شَيْءَ لَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ أُنْثَى فَهُوَ أُخْتٌ مِنْ أَبٍ، فَيُفْرَضُ لَهَا النِّصْفُ، وَهُوَ فَاضِلٌ عَنْ السِّهَامِ. فَأَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَتَعُولُ إلَى تِسْعَةٍ. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْحَمْلُ مِنْ أُمِّ الْمَيِّتِ: فَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ إنْ كَانَ الْحَمْلُ ذَكَرًا يُشَارِكُ وَلَدَ الْأُمِّ، كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ وَلَا يَسْقُطُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ. [مَسْأَلَةٌ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةً وَهِيَ مُقِيمَةٌ عِنْدَهُ تَخْدُمُهُ وَبَعْدَ عِشْرِينَ يَوْمًا تُوُفِّيَ الزَّوْجُ] 1003 - 24 وَسُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ امْرَأَةٍ مُزَوَّجَةٍ، وَلِزَوْجِهَا ثَلَاثُ شُهُورٍ، وَهُوَ فِي مَرَضٍ مُزْمِنٍ، فَطَلَبَ مِنْهَا شَرَابًا فَأَبْطَأَتْ عَلَيْهِ، فَنَفَرَ مِنْهَا. وَقَالَ لَهَا: أَنْت طَالِقٌ ثَلَاثَةً، وَهِيَ مُقِيمَةٌ عِنْدَهُ تَخْدُمُهُ، وَبَعْدَ عِشْرِينَ يَوْمًا تُوُفِّيَ الزَّوْجُ: فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ؟ وَهَلْ إذَا حَلَفَ عَلَى حُكْمِ هَذِهِ الصُّورَةِ يَحْنَثُ؟ وَهَلْ لِلْوَارِثِ أَنْ يَمْنَعَهَا الْإِرْثَ؟ فَأَجَابَ: أَمَّا الطَّلَاقُ فَإِنَّهُ يَقَعُ إنْ كَانَ عَاقِلًا مُخْتَارًا؛ لَكِنْ تَرِثُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَوْلِ الْقَدِيمِ، كَمَا قَضَى بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي امْرَأَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. فَإِنَّهُ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَوَرَّثَهَا مِنْهُ عُثْمَانُ. وَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ: مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، أَوْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ عَقْلُهُ قَدْ زَالَ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ.

مسألة قبل موته بثلاثة أيام طلق الزوجة ليمنعها من الميراث

[مَسْأَلَةٌ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ طَلَّقَ الزَّوْجَةَ لِيَمْنَعَهَا مِنْ الْمِيرَاثِ] وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ، وَكَتَبَ الصَّدَاقَ عَلَيْهِ، ثُمَّ إنَّ الزَّوْجَ مَرِضَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَحِينَ قَوِيَ عَلَيْهِ الْمَرَضُ فَقَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ طَلَّقَ الزَّوْجَةَ؛ لِيَمْنَعَهَا مِنْ الْمِيرَاثِ: فَهَلْ يَقَعُ هَذَا الطَّلَاقُ؟ وَمَا الَّذِي يَجِبُ لَهَا فِي تَرِكَتِهِ؟ فَأَجَابَ: هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ إنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً طَلَاقًا رَجْعِيًّا، وَمَاتَ زَوْجُهَا، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَرِثَتْهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا؛ وَرِثَتْهُ أَيْضًا عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَبِهِ قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا طَلَّقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ زَوْجَتَهُ بِنْتَ الْأَصْبَغِ الْكَلْبِيَّةَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا. فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَشَاوَرَ عُثْمَانُ الصَّحَابَةَ فَأَشَارُوا عَلَى أَنَّهَا تَرِثُ مِنْهُ، وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ. وَإِنَّمَا ظَهَرَ الْخِلَافُ فِي خِلَافَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أُوَرِّثْهَا، وَابْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَئِمَّةُ التَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: كَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ، وَمَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ: كَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَأَمْثَالِهِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ. وَفِي الْجَدِيدِ وَافَقَ ابْنُ الزُّبَيْرِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ بِحَيْثُ لَوْ مَاتَتْ هِيَ لَمْ يَرِثْهَا هُوَ بِالِاتِّفَاقِ، فَكَذَلِكَ لَا تَرِثُهُ هِيَ، وَلِأَنَّهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ. فَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَلَا الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا، فَتَكُونُ أَجْنَبِيَّةً، فَلَا تَرِثُ. وَالْجُمْهُورُ قَالُوا: إنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ قَدْ تَعَلَّقَ الْوَرَثَةُ بِمَالِهِ مِنْ حِينِ الْمَرَضِ؛ وَصَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ، فَلَا يَتَصَرَّفُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ إلَّا مَا يَتَصَرَّفُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ فَلَيْسَ لَهُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ أَنْ يَحْرِمَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ مِيرَاثَهُ، وَيَخُصَّ بَعْضَهُمْ بِالْإِرْثِ، كَمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ لِأَجْنَبِيٍّ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ؛ كَمَا لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ قَطَعَ مِيرَاثًا قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنْ الْجَنَّةِ» .

مسألة توفي وخلف مستولدة له ثم بعد ذلك توفيت المستولدة وخلفت ولدا ذكرا وبنتين

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْمَرَضِ أَنْ يَقْطَعَ حَقَّهَا مِنْ الْإِرْثِ؛ لَا بِطَلَاقٍ؛ وَلَا غَيْرِهِ. وَإِنْ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِالنِّسْبَةِ لَهُ، إذْ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ نَفْسَهُ مِنْهَا، وَلَا يَقْطَعُ حَقَّهَا مِنْهُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ نِزَاعٌ. هَلْ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ أَوْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ؟ أَوْ أَطْوَلَهُمَا؟ عَلَى ثَلَاثِهِ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا أَنَّهَا تَعْتَدُّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ وَكَذَلِكَ هَلْ يُكْمِلُ لَهَا الْمَهْرَ؟ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ يُكْمِلُ لَهَا الْمَهْرَ أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ مِنْ حُقُوقِهَا الَّتِي تَسْتَقِرُّ؛ كَمَا تَسْتَحِقُّ الْإِرْثَ. [مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَ وَخَلَفَ مُسْتَوْلَدَةً لَهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تُوُفِّيَتْ الْمُسْتَوْلَدَةُ وَخَلَفَتْ وَلَدًا ذَكَرًا وَبِنْتَيْنِ] 1005 - 26 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ، وَخَلَفَ مُسْتَوْلَدَةً لَهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تُوُفِّيَتْ الْمُسْتَوْلَدَةُ، وَخَلَفَتْ وَلَدًا ذَكَرًا، وَبِنْتَيْنِ، فَهَلْ لِلْبَنَاتِ وَلَاءٌ مَعَ الذَّكَرِ؟ وَهَلْ يَرِثْنَ مِنْهُ شَيْئًا؟ فَأَجَابَ: هَذَا فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: إحْدَاهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْوَلَاءَ يَخْتَصُّ بِالذُّكُورِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْوَلَاءَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْبَنِينَ، وَالْبَنَاتِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ زني بِجَارِيَةِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ وَنَسَبَتْهُ إلَى وَلَدِهِ فَاسْتَلْحَقَهُ وَرَضِيَ السَّيِّدُ فَهَلْ يَرِثُ] 1006 - 27 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ، وَلَهُ وَلَدٌ فَزَنَى بِالْجَارِيَةِ. وَهِيَ تَزْنِي مَعَ غَيْرِهِ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ وَنَسَبَتْهُ إلَى وَلَدِهِ، فَاسْتَلْحَقَهُ، وَرَضِيَ السَّيِّدُ. فَهَلْ يَرِثُ إذَا مَاتَ مُسْتَلْحِقُهُ؟ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: إنْ كَانَ الْوَلَدُ اسْتَلْحَقَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَقَالَ: هَذَا ابْنِي، لَحِقَهُ النَّسَبُ، وَكَانَ مِنْ أَوْلَادِهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ يُعْرَفُ غَيْرَهُ. وَكَذَلِكَ إنْ عَلِمَ أَنَّ الْجَارِيَةَ كَانَتْ مِلْكًا لِلِابْنِ، فَإِنَّ «الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ؛ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» .

مسألة له والدة ولها جارية فواقعها بغير إذن والدته

[مَسْأَلَةٌ لَهُ وَالِدَةٌ وَلَهَا جَارِيَةٌ فَوَاقَعَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدَتِهِ] وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَمَّنْ لَهُ وَالِدَةٌ؛ وَلَهَا جَارِيَةٌ؛ فَوَاقَعَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدَتِهِ: فَحَمَلَتْ مِنْهُ؛ فَوَلَدَتْ، غُلَامًا، وَمَلَكَهُمَا، وَيُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ وَلَدَهُ مِنْ الزِّنَا؟ فَأَجَابَ: هَذَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ بَلْ قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إعْتَاقٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ؛ وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَا يَرِثُ هَذَا لِهَذَا؛ وَلَا هَذَا لِهَذَا. وَالثَّانِي: لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ يَرِثُ الِابْنُ الَّذِي مِنْ الْجَارِيَةِ مَعَ بِنْتِ زَوْجَتِهِ] 1008 - 29 وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ رَجُلٍ أَعْطَى لِزَوْجَتِهِ مِنْ صَدَاقِهَا جَارِيَةً، فَأَعْتَقَتْهَا، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ وَطِئَ الْجَارِيَةَ، فَوَلَدَتْ ابْنًا، وَوَلَدَتْ زَوْجَتُهُ بِنْتًا، وَتُوُفِّيَ: فَهَلْ يَرِثُ الِابْنُ الَّذِي مِنْ الْجَارِيَةِ مَعَ بِنْتِ زَوْجَتِهِ؟ فَأَجَابَ: إذَا كَانَ قَدْ وَطِئَ الْجَارِيَةَ الْمُعْتَقَةَ بِغَيْرِ نِكَاحٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْوَطْءَ حَرَامٌ فَوَلَدُهُ وَلَدُ زِنَا؛ وَلَا يَرِثُ هَذَا الْوَاطِئَ؛ وَلَا يَرِثُهُ الْوَاطِئُ، فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [أَقَرَّتْ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لِأَوْلَادِهَا الْأَشِقَّاءَ بِدَيْنِ لَهُمْ وَقَصَدَتْ بِذَلِكَ إحْرَامَ وَلَدِهَا وَزَوْجِهَا مِنْ الْإِرْثِ] 1009 - 30 مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَخَلَفَتْ أَوْلَادًا، مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ أَشِقَّاءَ ذَكَرٌ وَاحِدٌ وَثَلَاثُ بَنَاتٍ، وَوَلَدٌ وَاحِدٌ أَخُوهُمْ مِنْ أُمِّهِمْ، الْجُمْلَةُ خَمْسَةٌ وَزَوْجٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، وَأَنَّهَا أَقَرَّتْ فِي مَرَضِهَا الْمُتَّصِلِ بِالْمَوْتِ لِأَوْلَادِهَا الْأَشِقَّاءَ بِأَنَّ لَهُمْ فِي ذِمَّتِهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَقَصَدَتْ بِذَلِكَ إحْرَامَ وَلَدِهَا الذَّكَرِ وَزَوْجِهَا مِنْ الْإِرْثِ. الْجَوَابُ: إذَا كَانَتْ كَاذِبَةً فِي هَذَا الْإِقْرَارِ فَهِيَ عَاصِيَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِاتِّفَاقٍ

الْمُسْلِمِينَ، بَلْ هِيَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الدَّاخِلَةِ فِي الْوَعِيدِ، فَإِنَّ الْجَوْرَ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ «وَمَنْ قَطَعَ مِيرَاثًا قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنْ الْجَنَّةِ» . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13] {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ سِتِّينَ سَنَةً بِطَاعَةِ اللَّهِ ثُمَّ يَجُورُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِسُوءٍ، فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ سِتِّينَ سَنَةً بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرٍ فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ» ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [النساء: 13] . وَمَنْ أَعَانَهَا عَلَى هَذَا الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ فَهُوَ شَرِيكُهَا فِيهِ مِنْ كَاتِبٍ وَمُشِيرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مُتَعَاوِنُونَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. وَمَنْ لَقَّنَهَا الْإِقْرَارَ الْكَذِبَ مِنْ الشُّهُودِ فَهُوَ فَاسِقٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ وَأَمَّا إنْ كَانَتْ صَادِقَةً فَهِيَ مُحْسِنَةٌ فِي ذَلِكَ. مُطِيعَةٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَمَنْ أَعَانَهَا عَلَى ذَلِكَ لِأَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ لَا يَقْبَلُونَ هَذَا الْإِقْرَارَ، كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ فِيهِ ظَاهِرَةٌ؛ وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَتْ بِمَالِ الْمَيِّتِ بِالْمَرَضِ. فَصَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي حَقِّهِمْ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ لِأَحَدِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ، وَمِنْ الْعُلَمَاء مَنْ يَقْبَلُ الْإِقْرَارَ كَالشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ وَأَنَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا يَكْذِبُ، وَلَا يَظْلِمُ، وَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَنَحْوِهَا أَنْ يُعَاوِنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى لَا يُعَاوِنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. وَيَنْبَغِي التَّكَشُّفُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فَإِنْ وَجَدَ شَوَاهِدَ خِلَافَ هَذَا الْإِقْرَارِ عَمِلَ بِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ شَوَاهِدُ لَدَيْهِ أَبْطَلَ، فَشَوَاهِدُ الصِّدْقِ مِثْلَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ كَانَ لِأَبِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ مَالٌ نَحْوُ هَذَا الْمَقْرَبَةِ، وَشَوَاهِدُ الْكَذِبِ بَيِّنَاتٌ يُعْلَمُ مِنْ بَعْضِهَا أَنَّهَا تُرِيدُ حِرْمَانَ

مسألة توفيت وخلفت بنتين وزوجا ووالدة وثلاث إخوة رجال وأختا

ابْنِهَا وَزَوْجِهَا مِنْ الْمِيرَاثِ، فَإِنْ ظَهَرَ شَوَاهِدُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ يُرَجَّحُ ذَلِكَ الْجَانِبُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَتْ وَخَلَفَتْ بِنْتَيْنِ وَزَوْجًا وَوَالِدَةً وَثَلَاثَ إخْوَةٍ رِجَالٍ وَأُخْتًا] 1010 - 31 مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ تُوُفِّيَتْ وَخَلَفَتْ بِنْتَيْنِ وَزَوْجًا وَوَالِدَةً وَثَلَاثَ إخْوَةٍ رِجَالٍ وَأُخْتًا. الْجَوَابُ: تُقَسَّمُ تَرِكَتُهَا عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا، لِلْبِنْتَيْنِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْأُمِّ سَهْمَانِ، وَلَا شَيْءَ لِلْإِخْوَةِ، وَإِذَا وَصَّتْ لِوَارِثٍ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَتْ وَصَّتْ لِغَيْرِ وَارِثٍ بِالثُّلُثِ، فَمَا دُونَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَتْ وَخَلَفَتْ زَوْجًا وَبِنْتًا وَأُمًّا وَأُخْتًا مِنْ أُمٍّ] 1011 - 32 مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ تُوُفِّيَتْ وَخَلَفَتْ زَوْجًا وَبِنْتًا وَأُمًّا وَأُخْتًا مِنْ أُمٍّ؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ الْفَرِيضَةُ تُقَسَّمُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا، لِلْبِنْتِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْأُمِّ سَهْمَانِ، وَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ، فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِالْبِنْتِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ كُلِّهِمْ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالرَّدِّ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَمَنْ لَا يَقُولُ بِالرَّدِّ كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، فَيُقْسَمُ عِنْدَهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا لِلْبِنْتِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ. [مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ وَلَهَا أَبٌ وَأُمٌّ زَوْجٌ وَهِيَ رَشِيدَةٌ] 1012 - 33 مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَلَهَا أَبٌ، وَأُمٌّ، زَوْجٌ، وَهِيَ رَشِيدَةٌ، وَقَدْ أَخَذَ أَبُوهَا الْقُمَاشَ وَلَمْ يُعْطِ الْوَرَثَةَ شَيْئًا. الْجَوَابُ: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ، بَلْ مَا كَانَ فِي يَدِهَا مِنْ الْمَالِ فَهُوَ لَهَا يَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَتِهَا، وَإِنْ كَانَ هُوَ اشْتَرَاهُ وَجَهَّزَهَا بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ فِي الْجِهَازِ فَهُوَ تَمْلِيكٌ لَهَا، فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ مَوْتِهَا.

كتاب الفضائل

[كِتَابُ الْفَضَائِلِ] [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ قَالَ تُرْبَةَ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ أَفْضَلُ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ] 1013 - 1 كِتَابُ الْفَضَائِلِ مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلَيْنِ تَجَادَلَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إنَّ تُرْبَةَ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ أَفْضَلُ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَقَالَ الْآخَرُ: الْكَعْبَةُ أَفْضَلُ، فَمَعَ مَنْ الصَّوَابُ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا نَفْسُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَأَمَّا نَفْسُ التُّرَابِ فَلَيْسَ هُوَ أَفْضَلَ مِنْ الْكَعْبَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، بَلْ الْكَعْبَةُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَلَا يُعْرَفُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَضَّلَ تُرَابَ الْقَبْرِ عَلَى الْكَعْبَةِ إلَّا الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَلَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ إلَيْهِ وَلَا وَافَقَهُ أَحَدٌ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي] 1014 - 2 مَسْأَلَةٌ: فِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: السَّفَرُ يُكْرَهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، أَوْ الْخَمِيسِ، أَوْ السَّبْتِ، أَوْ يُكْرَهُ التَّفْصِيلُ أَوْ الْخِيَاطَةُ أَوْ الْغَزْلُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ؛ أَوْ يُكْرَهُ الْجِمَاعُ فِي لَيْلَةٍ مِنْ اللَّيَالِي وَيَخَافُ عَلَى الْوَلَدِ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، بَلْ الرَّجُلُ إذَا اسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى وَفَعَلَ شَيْئًا مُبَاحًا فَلْيَفْعَلْهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ تَيَسَّرَ. وَلَا يُكْرَهُ التَّفْصِيلُ وَلَا الْخِيَاطَةُ، وَلَا الْغَزْلُ وَلَا نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ فِي يَوْمٍ مِنْ الْأَيَّامِ. وَلَا يُكْرَهُ الْجِمَاعُ فِي لَيْلَةٍ مِنْ اللَّيَالِي، وَلَا يَوْمٍ مِنْ الْأَيَّامِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى عَنْ

مسألة هل يصح عند أهل العلم أن عليا قاتل الجن في البئر

التَّطَيُّرِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مِنَّا قَوْمًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ، قَالَ: فَلَا تَأْتُوهُمْ قُلْت: مِنَّا قَوْمٌ يَتَطَيَّرُونَ. قَالَ: ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ مِنْ نَفْسِهِ فَلَا يَصُدَّنَّكُمْ» . فَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ أَنْ يَصُدَّهُ الطِّيَرَةُ عَمَّا عَزَمَ عَلَيْهِ، فَكَيْف بِالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي. وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَيَوْمَ السَّبْتِ، وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ نَهْيٍ عَنْ سَائِرِ الْأَيَّامِ إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ تَفُوتُهُ بِالسَّفَرِ، فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا الصِّنَاعَاتُ، وَالْجِمَاعُ فَلَا يُكْرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَيَّامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ يَصِحُّ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَلِيًّا قَاتَلَ الْجِنَّ فِي الْبِئْرِ] 1015 - 3 مَسْأَلَةٌ: هَلْ يَصِحُّ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَاتَلَ الْجِنَّ فِي الْبِئْرِ وَمَدَّ يَدَهُ يَوْمَ خَيْبَرَ فَعَبَرَ الْعَسْكَرُ عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ حَمَلَ فِي الْأَحْزَابِ فَافْتَرَقَتْ قُدَّامَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ فِرْقَةً، وَخَلْفَ كُلِّ فِرْقَةٍ رَجُلٌ يَضْرِبُ بِالسَّيْفِ يَقُولُ أَنَا عَلِيٌّ، وَأَنَّهُ كَانَ لَهُ سَيْفٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْفَقَارِ، وَكَانَ يَمْتَدُّ وَيَقْصُرُ، وَأَنَّهُ ضَرَبَ بِهِ مَرْحَبًا وَكَانَ عَلَى رَأْسِهِ جُرْنٌ مِنْ رُخَامٍ فَقَصَمَ لَهُ وَلِفَرَسِهِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ وَنَزَلَتْ الضَّرْبَةُ فِي الْأَرْضِ وَمُنَادٍ يُنَادِي فِي الْهَوَاءِ: لَا سَيْفَ إلَّا ذُو الْفَقَارِ ... وَلَا فَتًى إلَّا عَلِيُّ وَأَنَّهُ رُمِيَ فِي الْمَنْجَنِيقِ إلَى حِصْنِ الْغُرَابِ، وَأَنَّهُ بُعِثَ إلَى كُلِّ نَبِيٍّ سِرًّا، وَبُعِثَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَهْرًا، وَأَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ فِي خَمْسِينَ أَلْفًا وَفِي عِشْرِينَ أَلْفًا وَفِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَمَّا بَرَزَ إلَيْهِ مَرْحَبٌ مِنْ خَيْبَرَ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً فَقَدَّهُ طُولًا وَقَدَّ الْفَرَسَ عَرْضًا، وَنَزَلَ السَّيْفُ فِي الْأَرْضِ ذِرَاعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، وَأَنَّهُ أَمْسَكَ حَلَقَةَ بَابِ خَيْبَرَ وَهَزَّهَا فَاهْتَزَّتْ الْمَدِينَةُ وَوَقَعَ مِنْ عَلَى السُّوَرِ شُرُفَاتٌ، فَهَلْ صَحَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذِهِ الْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ

وَالْإِيمَانِ، لَمْ يُقَاتِلْ عَلِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ الْجِنَّ، وَلَا قَاتَلَ الْجِنَّ أَحَدٌ مِنْ الْإِنْسِ. لَا فِي بِئْرِ ذَاتِ الْعَلَمِ وَلَا غَيْرِهَا. وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي قِتَالِهِ لِلْجِنِّ مَوْضُوعٌ مَكْذُوبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ. وَلَمْ يُقَاتِلْ عَلِيٌّ قَطُّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَسْكَرٍ كَانَ خَمْسِينَ أَلْفًا وَثَلَاثِينَ أَلْفًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ وَحْدَهُ قَدْ حَمَلَ فِيهِمْ. وَمَغَازِيه الَّتِي شَهِدَهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَقَاتَلَ فِيهَا كَانَتْ تِسْعَةً: بَدْرًا، وَأُحُدًا، وَالْخَنْدَقَ، وَخَيْبَرَ، وَفَتْحَ مَكَّةَ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ، وَغَيْرَهَا. وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ الْمُشْرِكُونَ فِي الْأَحْزَابِ وَهِيَ الْخَنْدَقُ، وَكَانُوا مُحَاصِرِينَ لِلْمَدِينَةِ. وَلَمْ يَقْتَتِلُوا هُمْ وَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ. وَإِنَّمَا كَانَ يَقْتَتِلُ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَقَلِيلٌ مِنْ الْكُفَّارِ. وَفِيهَا قَتَلَ عَلِيٌّ عَمْرَو بْنَ عَبْدُودٍ الْعَامِرِيَّ. وَلَمْ يُبَارِزْ عَلِيٌّ وَحْدَهُ قَطُّ إلَّا وَاحِدًا، وَلَمْ يُبَارِزْ اثْنَيْنِ. وَأَمَّا مَرْحَبٌ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ» فَأَعْطَاهَا لِعَلِيٍّ. وَكَانَتْ أَيَّامُ خَيْبَرَ أَيَّامًا مُتَعَدِّدَةً وَحُصُونُهَا فُتِحَ عَلَى يَدِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْضُهَا، وَقَدْ رُوِيَ أَثَرٌ أَنَّهُ قَتَلَ مَرْحَبًا، وَرُوِيَ أَنَّهُ قَتَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَلَعَلَّهُمَا مَرْحَبَانِ. وَقَتَلَهُ الْقَتْلَ الْمُعْتَادَ. وَلَمْ يَقُدَّهُ جَمِيعَهُ وَلَا قَدَّ الْفَرَسَ وَلَا أَنْزَلَ السَّيْفَ إلَى الْأَرْضِ، وَلَا نَزَلَ لِعَلِيٍّ وَلَا لِغَيْرِهِ سَيْفٌ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَا مَدَّ يَدَهُ لِيَعْبُرَ الْجَيْشُ. وَلَا اهْتَزَّ سُوَرُ خَيْبَرَ لِقَلْعِ الْبَابِ وَلَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ شُرُفَاتِهِ، وَأَنَّ خَيْبَرَ لَمْ تَكُنْ مَدِينَةً، وَإِنَّمَا كَانَتْ حُصُونًا مُتَفَرِّقَةً، وَلَهُمْ مَزَارِعُ وَلَكِنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّهُ مَا قَلَعَ بَابَ الْحِصْنِ حَتَّى عَبَرَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلَا رُمِيَ فِي مَنْجَنِيقٍ قَطُّ. وَعَامَّةُ هَذِهِ الْمَغَازِي الَّتِي تُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ قَدْ زَادُوا فِيهَا أَكَاذِيبَ كَثِيرَةً مِثْلَ: مَا يَكْذِبُونَ فِي سِيرَةِ عَنْتَرَةَ وَالْأَبْطَالِ. وَجَمِيعُ الْحُرُوبِ الَّتِي حَضَرَهَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةُ

مسألة فيمن يعمل كل سنة ختمة في ليلة مولد النبي

حُرُوبٍ: الْجَمَلُ، وَصِفِّينُ، وَحَرْبُ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ يَعْمَلُ كُلَّ سَنَةٍ خِتْمَةً فِي لَيْلَةِ مَوْلِدِ النَّبِيِّ] 1016 - 4 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ يَعْمَلُ كُلَّ سَنَةٍ خِتْمَةً فِي لَيْلَةِ مَوْلِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. جَمْعُ النَّاسِ لِلطَّعَامِ فِي الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ سُنَّةٌ، وَهُوَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُسْلِمِينَ وَإِعَانَةُ الْفُقَرَاءِ بِالْإِطْعَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ هُوَ مِنْ سُنَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» وَإِعْطَاءُ فُقَرَاءِ الْقُرَّاءِ مَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى الْقُرْآنِ عَمَلٌ صَالِحٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَمَنْ أَعَانَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَانَ شَرِيكَهُمْ فِي الْأَجْرِ ". وَأَمَّا اتِّخَاذُ مَوْسِمٍ غَيْرِ الْمَوَاسِمِ الشَّرْعِيَّةِ كَبَعْضِ لَيَالِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ الَّتِي يُقَالُ إنَّهَا لَيْلَةُ الْمَوْلِدِ، أَوْ بَعْضُ لَيَالِي رَجَبٍ، أَوْ ثَامِنَ عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ، أَوْ أَوَّلُ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، أَوْ ثَامِنُ شَوَّالٍ الَّذِي يُسَمِّيه الْجُهَّالُ " عِيدُ الْأَبْرَارِ "، فَإِنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَسْتَحِبَّهَا السَّلَفُ وَلَمْ يَفْعَلُوهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ] 1017 - 5 مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» مَا الْمُرَادُ بِهَذِهِ السَّبْعَةِ. وَهَلْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ الْمَنْسُوبَةُ إلَى نَافِعٍ وَعَاصِمٍ وَغَيْرِهِمَا هِيَ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ أَوْ وَاحِدٌ مِنْهَا. وَمَا السَّبَبُ الَّذِي أَوْجَبَ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِيمَا احْتَمَلَهُ خَطُّ الْمُصْحَفِ. وَهَلْ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ أَمْ لَا. وَإِذَا جَازَتْ الْقِرَاءَةُ بِهَا فَهَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِهَا أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. هَذِهِ مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ قَدْ تَكَلَّمَ فِيهَا أَصْنَافُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْكَلَامِ وَشَرْحِ الْغَرِيبِ، وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى صُنِّفَ فِيهَا التَّصْنِيفُ الْمُفْرَدُ، وَمِنْ آخِرِ مَا أُفْرِدَ فِي ذَلِكَ مَا صَنَّفَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الشَّافِعِيُّ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي شَامَةَ صَاحِبُ " شَرْحِ الشَّاطِبِيَّةِ ". فَأَمَّا ذِكْرُ أَقَاوِيلِ النَّاسِ وَأَدِلَّتِهِمْ وَتَقْرِيرُ الْحَقِّ فِيهَا مَبْسُوطًا فَيَحْتَاجُ مِنْ ذِكْرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَذِكْرِ أَلْفَاظِهَا وَسَائِرِ الْأَدِلَّةِ إلَى مَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَكَانُ، وَلَا يَلِيقُ بِمِثْلِ هَذَا الْجَوَابِ، وَلَا نَذْكُرُ النُّكَتَ الْجَامِعَةَ الَّتِي تُنَبِّهُ عَلَى الْمَقْصُودِ بِالْجَوَابِ، فَنَقُولُ: لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ أَنَّ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ الَّتِي ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَيْهَا لَيْسَتْ هِيَ قِرَاءَاتُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورَةُ، بَلْ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ قِرَاءَاتِ هَؤُلَاءِ هُوَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ، وَكَانَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ بِبَغْدَادَ، فَإِنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَجْمَعَ الْمَشْهُورَ مِنْ قِرَاءَاتِ الْحَرَمَيْنِ، وَالْعِرَاقَيْنِ، وَالشَّامِ، إذْ هَذِهِ الْأَمْصَارُ الْخَمْسَةُ هِيَ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا عِلْمُ النُّبُوَّةِ مِنْ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ وَالْحَدِيثِ، وَالْفِقْهِ فِي الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ، فَلَمَّا أَرَادَ ذَلِكَ جَمَعَ قِرَاءَاتِ سَبْعَةِ مَشَاهِيرَ مِنْ أَئِمَّةِ قُرَّاءِ هَذِهِ الْأَمْصَارِ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِعَدَدِ الْحُرُوفِ الَّتِي أُنْزِلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، لَا لِاعْتِقَادِهِ، أَوْ اعْتِقَادِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةَ هِيَ الْحُرُوفُ السَّبْعَةُ، أَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ الْمُعَيَّنِينَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِغَيْرِ قِرَاءَتِهِمْ. وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ: لَوْلَا أَنَّ ابْنَ مُجَاهِدٍ سَبَقَنِي إلَى حَمْزَةَ لَجَعَلْت مَكَانَهُ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيَّ إمَامَ جَامِعِ الْبَصْرَةِ، وَإِمَامَ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ فِي زَمَانِهِ فِي رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ. وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْحُرُوفَ السَّبْعَةَ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا لَا تَتَضَمَّنُ تَنَاقُضَ الْمَعْنَى وَتَضَادَّهُ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مَعْنَاهَا مُتَّفَقًا أَوْ مُتَقَارِبًا كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ أَقْبِلْ، وَهَلُمَّ، وَتَعَالَ. وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَى أَحَدِهَا لَيْسَ هُوَ مَعْنَى الْآخَرِ، لَكِنَّ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ حَقٌّ، وَهَذَا اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ وَتَغَايُرٍ لَا اخْتِلَافُ تَضَادٍّ وَتَنَاقُضٌ، وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثُ:

«أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ: إنْ قُلْت غَفُورًا رَحِيمًا أَوْ قُلْت عَزِيزًا حَكِيمًا، فَاَللَّهُ كَذَلِكَ مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِآيَةِ عَذَابٍ، أَوْ آيَةَ عَذَابٍ بِآيَةِ رَحْمَةٍ» . وَهَذَا كَمَا فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورُ: إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا. وَإِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا، وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ. وَلَتَزُولُ مِنْهُ الْجِبَالُ، وَبَلْ عَجِبْت، وَبَلْ عَجِبْت، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمِنْ الْقِرَاءَاتِ مَا يَكُونُ الْمَعْنَى فِيهَا مُتَّفِقًا مِنْ وَجْهٍ، مُتَبَايِنًا مِنْ وَجْهٍ كَقَوْلِهِ: يَخْدَعُونَ وَيُخَادِعُونَ، وَيَكْذِبُونَ وَيُكَذِّبُونَ، وَلَمَسْتُمْ وَلَامَسْتُمْ، وَحَتَّى يَطْهُرْنَ وَيَطَّهَّرْنَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ الَّتِي يَتَغَايَرُ فِيهَا الْمَعْنَى كُلُّهَا حَقٌّ، وَكُلُّ قِرَاءَةٍ مِنْهَا مَعَ الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ مَعَ الْآيَةِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا كُلِّهَا، وَاتِّبَاعُ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْمَعْنَى عِلْمًا وَعَمَلًا، لَا يَجُوزُ تَرْكُ مُوجِبِ إحْدَاهُمَا لِأَجْلِ الْأُخْرَى، ظَنًّا أَنَّ ذَلِكَ تَعَارُضٌ، بَلْ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ كَفَرٍ بِحَرْفٍ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ. وَأَمَّا مَا اتَّحَدَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا يَتَنَوَّعُ صِفَةُ النُّطْقِ بِهِ كَالْهَمَزَاتِ وَالْمَدَّاتِ وَالْإِمَالَاتِ وَنَقْلِ الْحَرَكَاتِ وَالْإِظْهَارِ وَالْإِدْغَامِ وَالِاخْتِلَاسِ وَتَرْقِيقِ اللَّامَّاتِ وَالرَّاءَاتِ أَوْ تَغْلِيظِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تُسَمَّى الْقِرَاءَاتِ الْأُصُولَ، فَهَذَا أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ فِي أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَنَاقُضٌ وَلَا تَضَادٌّ، مِمَّا تَنَوَّعَ فِيهِ اللَّفْظُ أَوْ الْمَعْنَى، إذْ هَذِهِ الصِّفَاتُ الْمُتَنَوِّعَةُ فِي أَدَاءِ اللَّفْظِ لَا تُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَفْظًا وَاحِدًا، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ فِيمَا اخْتَلَفَ لَفْظُهُ وَاتَّحَدَ مَعْنَاهُ، أَوْ اخْتَلَفَ مَعْنَاهُ مِنْ الْمُتَرَادِفِ وَنَحْوِهِ، وَلِهَذَا كَانَ دُخُولُ هَذَا فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا، مِمَّا يَتَنَوَّعُ فِيهِ اللَّفْظُ أَوْ الْمَعْنَى وَإِنْ وَافَقَ رَسْمَ الْمُصْحَفِ، وَهُوَ مَا يَخْتَلِفُ فِيهِ النَّقْطُ أَوْ الشَّكْلُ. وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَنَازَعْ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ الْمَتْبُوعِينَ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يُقْرَأَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الْمُعَيَّنَةِ فِي جَمِيعِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ شَيْخِ حَمْزَةَ، أَوْ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيِّ، وَنَحْوِهِمَا، كَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فَلَهُ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ الْمَعْدُودِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ، بَلْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا قِرَاءَةَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ. وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَبِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَغَيْرُهُمْ يَخْتَارُونَ قِرَاءَةَ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ، وَشَيْبَةَ بْنِ نَصَّاحٍ الْمَدَنِيَّيْنِ، وَقِرَاءَةَ الْبَصْرِيِّينَ كَشُيُوخِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ، وَغَيْرِهِمْ عَلَى قِرَاءَةِ

حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ ثَبَتَتْ عِنْدَهُمْ قِرَاءَاتُ الْعَشَرَةِ أَوْ الْأَحَدَ عَشَرَ كَثُبُوتِ هَذِهِ السَّبْعَةِ يَجْمَعُونَ ذَلِكَ فِي الْكُتُبِ وَيَقْرَءُونَهُ فِي الصَّلَاةِ، وَخَارِجَ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَمَنْ نَقَلَ مِنْ كَلَامِهِ مِنْ الْإِنْكَارِ عَلَى ابْنِ شَنَبُوذٍ الَّذِي كَانَ يَقْرَأُ بِالشَّوَاذِّ فِي الصَّلَاةِ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ وَجَرَتْ لَهُ قَضِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْمُصْحَفِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ: وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قِرَاءَةَ الْعَشَرَةِ، وَلَكِنْ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا أَوْ لَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ كَمَنْ يَكُونُ فِي بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِالْمَغْرِبِ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ بَعْضُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ إلَّا بِعِلْمِهِ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ سُنَّةٌ يَأْخُذُهَا الْآخِرُ عَنْ الْأَوَّلِ، كَمَا أَنَّ

مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِفْتَاحَاتِ فِي الصَّلَاةِ، وَمِنْ أَنْوَاعِ صِفَةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَصِفَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلُّهُ حَسَنٌ يُشْرَعُ الْعَمَلُ بِهِ لِمَنْ عَلِمَهُ، وَأَمَّا مَنْ عَلِمَ نَوْعًا وَلَمْ يَعْلَمْ غَيْرَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَمَّا عَلِمَهُ إلَى مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى مَنْ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَنْ يُخَالِفَهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا» . وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ الْخَارِجَةُ عَنْ رَسْمِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ مِثْلُ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 2] {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل: 3] . كَمَا قَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَمِثْلُ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ. وَكَقِرَاءَتِهِ: {إنْ كَانَتْ الْأَزْقِيَةُ وَاحِدَةً} . وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ إذَا ثَبَتَتْ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ: هُمَا رِوَايَتَانِ مَشْهُورَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَرِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ: إحْدَاهُمَا: يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَقْرَءُونَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ فِي الصَّلَاةِ. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ لَمْ تَثْبُتْ مُتَوَاتِرَةً عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ ثَبَتَ فَإِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْعَرْضَةِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُعَارِضُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عَارَضَهُ بِهِ مَرَّتَيْنِ» ، وَالْعَرْضَةُ الْأَخِيرَةُ هِيَ قِرَاءَةُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ الَّتِي أَمَرَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ بِكِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَكَتَبَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ فِي صُحُفٍ أَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ بِكِتَابَتِهَا، ثُمَّ أَمَرَ عُثْمَانُ فِي خِلَافَتِهِ بِكِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَإِرْسَالِهَا إلَى الْأَمْصَارِ وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهَا بِاتِّفَاقٍ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ. وَهَذَا النِّزَاعُ لَا بُدَّ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ السَّائِلُ وَهُوَ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ

السَّبْعَةَ هَلْ هِيَ حَرْفٌ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ أَمْ لَا، فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّهَا حَرْفٌ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ، بَلْ يَقُولُونَ إنَّ مُصْحَفَ عُثْمَانَ هُوَ أَحَدُ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلْعَرْضَةِ الْآخِرَةِ الَّتِي عَرَضَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جِبْرِيلَ. وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ الْمَشْهُورَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ إلَى أَنَّ هَذَا الْمُصْحَفَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، وَقَرَّرَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَغَيْرِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَمَةِ أَنْ تُهْمِلَ نَقْلَ شَيْءٍ مِنْ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى نَقْلِ هَذَا الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ الْعُثْمَانِيِّ وَتَرْكِ مَا سِوَاهُ، حَيْثُ أَمَرَ عُثْمَانُ بِنَقْلِ الْقُرْآنِ مِنْ الصُّحُفِ الَّتِي كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَتَبَا الْقُرْآنَ فِيهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ عُثْمَانُ بِمُشَاوَرَةِ الصَّحَابَةِ إلَى كُلِّ مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ. بِمُصْحَفٍ وَأَمَرَ بِتَرْكِ مَا سِوَى ذَلِكَ. قَالَ هَؤُلَاءِ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنْ الْقِرَاءَةِ بِبَعْضِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ. وَمَنْ نَصَرَ قَوْلَ الْأَوَّلِينَ يُجِيبُ تَارَةً بِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى الْأُمَّةِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لَهُمْ، مُرَخَّصًا لَهُمْ فِيهِ، وَقَدْ جُعِلَ إلَيْهِمْ الِاخْتِيَارُ فِي أَيِّ حَرْفٍ اخْتَارُوهُ، كَمَا أَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ مَنْصُوصًا بَلْ مُفَوَّضًا إلَى اجْتِهَادِهِمْ، وَلِهَذَا كَانَ تَرْتِيبُ مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبِ مُصْحَفِ زَيْدٍ، وَكَذَلِكَ مُصْحَفُ غَيْرِهِ. وَأَمَّا تَرْتِيبُ آيَاتِ السُّوَرِ فَهُوَ مُنَزَّلٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُقَدِّمُوا آيَةً عَلَى آيَةٍ فِي الرَّسْمِ، كَمَا قَدَّمُوا سُورَةً عَلَى سُورَةٍ، لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْآيَاتِ مَأْمُورٌ بِهِ نَصًّا، وَأَمَّا تَرْتِيبُ السُّوَرِ فَمُفَوَّضٌ إلَى اجْتِهَادِهِمْ. قَالُوا: فَكَذَلِكَ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ، فَلَمَّا رَأَى الصَّحَابَةُ أَنَّ الْأُمَّةَ تَفْتَرِقُ وَتَخْتَلِفُ وَتَتَقَاتَلُ إذَا لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، اجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ اجْتِمَاعًا سَائِغًا، وَهُمْ مَعْصُومُونَ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلَالَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَرْكٌ لِوَاجِبٍ وَلَا فِعْلٌ لِمَحْظُورٍ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ التَّرْخِيصَ فِي الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِمَا فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا، فَلَمَّا تَذَلَّلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ،

وَكَانَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ يَسِيرًا عَلَيْهِمْ وَهُوَ أَوْفَقُ لَهُمْ، أَجْمَعُوا عَلَى الْحَرْفِ الَّذِي كَانَ فِي الْعَرْضَةِ الْآخِرَةِ، وَيَقُولُونَ إنَّهُ نُسِخَ مَا سِوَى ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ يُوَافِقُ قَوْلُهُمْ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إنَّ حُرُوفَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُخَالِفُ رَسْمَ هَذَا الْمُصْحَفِ مَنْسُوخَةٌ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّهُ يَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِالْمَعْنَى فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: قَدْ نَظَرْتُ إلَى الْقُرَّاءِ فَرَأَيْت قِرَاءَتَهُمْ مُتَقَارِبَةً، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ أَقْبِلْ، وَهَلُمَّ، وَتَعَالَ، فَاقْرَءُوا كَمَا عُلِّمْتُمْ. أَوْ كَمَا قَالَ، فَمَنْ جَوَّزَ الْقِرَاءَةَ بِمَا يَخْرُجُ عَنْ الْمُصْحَفِ مِمَّا ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَةِ قَالَ يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا، وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْهُ فَلَهُ ثَلَاثَةُ مَآخِذَ: تَارَةً يَقُولُ لَيْسَ هُوَ مِنْ الْحُرُوفِ الْمَنْسُوخَةِ، وَتَارَةً يَقُولُ هُوَ مِنْ الْحُرُوفِ الْمَنْسُوخَةِ، وَتَارَةً يَقُولُ هُوَ مِمَّا انْعَقَدَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُ، وَتَارَةً يَقُولُ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا نَقْلًا يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ الْقُرْآنُ. وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ. وَلِهَذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ: قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ جَدِّيّ أَبِي الْبَرَكَاتِ، أَنَّهُ إنْ قَرَأَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فِي الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ وَهِيَ الْفَاتِحَةُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ مِنْ الْقِرَاءَةِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ، وَإِنْ قَرَأَ بِهَا فِيمَا لَا يَجِبُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهُ أَتَى فِي الصَّلَاةِ بِمُبْطِلٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ عَلَيْهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ فَهَلْ يَجِبُ الْقَطْعُ بِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْهَا، فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ، إذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا أُوجِبَ عَلَيْنَا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ قَطْعِيًّا. وَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ بِنَفْيِهِ، حَتَّى قَطَعَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ بِخَطَأِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، مِمَّنْ أَثْبَتَ الْبَسْمَلَةَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ سُورَةِ النَّمْلِ. لِزَعْمِهِمْ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِنَفْيِهِ، وَالصَّوَابُ الْقَطْعُ بِخَطَإِ هَؤُلَاءِ، وَأَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ حَيْثُ كَتَبَهَا الصَّحَابَةُ فِي الْمُصْحَفِ، إذْ لَمْ يَكْتُبُوا فِيهِ إلَّا الْقُرْآنَ، وَجَرَّدُوهُ عَمَّا لَيْسَ مِنْهُ كَالتَّخْمِيسِ وَالتَّعْشِيرِ وَأَسْمَاءِ السُّوَرِ وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ هِيَ مِنْ السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا كَمَا لَيْسَتْ مِنْ

السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، بَلْ هِيَ كَمَا كُتِبَتْ آيَةً أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ السُّورَةِ، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَسَوَاءٌ قِيلَ بِالْقَطْعِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهَا مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَا تَكْفِيرَ وَلَا تَفْسِيقَ فِيهَا لِلنَّافِي وَلَا لِلْمُثْبِتِ، بَلْ قَدْ يُقَالُ مَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ، وَإِنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الَّذِينَ يَفْصِلُونَ بِهَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، وَلَيْسَتْ آيَةً فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الَّذِينَ يَصِلُونَ. لَا يَفْصِلُونَ بِهَا. وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ مَا السَّبَبُ الَّذِي أَوْجَبَ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِيمَا احْتَمَلَهُ خَطُّ الْمُصْحَفِ، فَهَذَا مَرْجِعُهُ إلَى النَّقْلِ وَاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِتَسْوِيغِ الشَّارِعِ لَهُمْ الْقِرَاءَةَ بِذَلِكَ كُلِّهِ إذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ بِرَأْيِهِ الْمُجَرَّدِ، بَلْ الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، وَهُمْ إذَا اتَّفَقُوا عَلَى اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ الْمَكْتُوبِ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِيِّ، وَقَدْ قَرَأَ بَعْضُهُمْ بِالْيَاءِ، وَبَعْضُهُمْ بِالتَّاءِ، لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا خَارِجًا عَنْ الْمُصْحَفِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُتَّفَقُونَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَلَى يَاءٍ أَوْ تَاءٍ، وَيَتَنَوَّعُونَ فِي بَعْضٍ كَمَا اتَّفَقُوا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74] فِي مَوْضِعٍ وَتَنَوَّعُوا فِي مَوْضِعَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْآيَتَيْنِ فَزِيَادَةُ الْقِرَاءَاتِ لِزِيَادَةِ الْآيَاتِ، لَكِنْ إذَا كَانَ الْخَطُّ وَاحِدًا وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلًا كَانَ ذَلِكَ أَخْصَرَ فِي الرَّسْمِ. وَالِاعْتِمَادُ فِي نَقْلِ الْقُرْآنِ عَلَى حِفْظِ الْقُلُوبِ، لَا عَلَى حِفْظِ الْمَصَاحِفِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ رَبِّي قَالَ لِي قُمْ فِي قُرَيْشٍ فَأَنْذِرْهُمْ، فَقُلْت أَيْ رَبِّ إذًا يَثْلُغُوا رَأْسِي أَيْ يَشْدَخُوا فَقَالَ: إنِّي مُبْتَلِيك وَمُبْتَلٍ بِك وَمُنْزِلٌ عَلَيْك كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَأهُ نَائِمًا وَيَقْظَانًا فَابْعَثْ جُنْدًا أَبْعَثْ مِثْلَيْهِمْ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَك مَنْ عَصَاك، وَأَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك» . فَأَخْبَرَ أَنَّ كِتَابَهُ لَا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إلَى صَحِيفَةٍ تُغْسَلُ بِالْمَاءِ، بَلْ يَقْرَؤُهُ فِي كُلِّ حَالٍ كَمَا جَاءَ فِي نَعْتِ أُمَّتِهِ: أَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَا يَحْفَظُونَهُ إلَّا فِي الْكُتُبِ وَلَا يَقْرَءُونَهُ إلَّا نَظَرًا لَا عَنْ ظُهْرِ قَلْبٍ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ جَمَعَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ عَلَى عَهْد النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ كَالْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَكَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمَنْسُوبَةَ إلَى نَافِعٍ وَعَاصِمٍ لَيْسَتْ هِيَ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعَةُ هِيَ مَجْمُوعَ حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ، بَلْ الْقِرَاءَاتُ الثَّابِتَةُ عَنْ أَئِمَّةِ الْقُرْآنِ كَالْأَعْمَشِ، وَيَعْقُوبَ، وَخَلَفٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ يَزِيدَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، وَشَيْبَةَ بْنِ نَصَّاحٍ، وَنَحْوِهِمْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ عَنْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ عِنْدَ مَنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ. وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهِ الْأَئِمَّةُ الْمَتْبُوعُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا تَنَازَعَ النَّاسُ مِنْ الْخَلَفِ فِي الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ الْإِمَامِيِّ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُمْ، هَلْ هُوَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ وَتَمَامِ الْعَشَرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، هَلْ هُوَ حَرْفٌ مِنْ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا، أَوْ هُوَ مَجْمُوعُ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ: وَالْأَوَّلُ: قَوْلُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْقُرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ لَا يُخَالِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا خِلَافًا يَتَضَادُّ فِي الْمَعْنَى وَيَتَنَاقَضُ، بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَمَا تُصَدِّقُ الْآيَاتُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَسَبَبُ تَنَوُّعِ الْقِرَاءَاتِ فِيمَا احْتَمَلَهُ خَطُّ الْمُصْحَفِ هُوَ تَجْوِيزُ الشَّارِعِ وَتَسْوِيغُهُ ذَلِكَ لَهُمْ، إذْ مَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ، لَا إلَى الرَّأْيِ وَالِابْتِدَاعِ. أَمَّا إذَا قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ هِيَ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ فَظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى إذَا قِيلَ إنَّ ذَلِكَ حَرْفٌ مِنْ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ قَدْ سُوِّغَ لَهُمْ أَنْ يَقْرَءُوهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلُّهَا شَافٍ كَافٍ، مَعَ تَنَوُّعِ الْأَحْرُفِ فِي الرَّسْمِ، فَلَأَنْ يُسَوَّغَ ذَلِكَ مَعَ اتِّفَاقِ ذَلِكَ فِي الرَّسْمِ وَتَنَوُّعِهِ فِي اللَّفْظِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ تَرْكِهِمْ الْمَصَاحِفَ أَوَّلَ مَا كُتِبَتْ غَيْرَ مَشْكُولَةٍ وَلَا مَنْقُوطَةٍ لِتَكُونَ صُورَةُ الرَّسْمِ مُحْتَمِلَةً لِلْأَمْرَيْنِ كَالتَّاءِ وَالْيَاءِ، وَالْفَتْحِ وَالضَّمِّ، وَهُمْ يَضْبِطُونَ بِاللَّفْظِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ، وَيَكُونُ دَلَالَةُ الْخَطِّ الْوَاحِدِ عَلَى

كِلَا اللَّفْظَيْنِ الْمَنْقُولَيْنِ الْمَسْمُوعَيْنِ الْمَتْلُوَّيْنِ شَبِيهًا بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ الْمَنْقُولَيْنِ الْمَعْقُولَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ. فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَقَّوْا عَنْهُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِتَبْلِيغِهِ إلَيْهِمْ مِنْ الْقُرْآنِ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ جَمِيعًا كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَهُوَ الَّذِي رَوَى عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» . كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَكَانَ يُقْرِئُ الْقُرْآنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، قَالَ: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَالُوا فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا. وَلِهَذَا دَخَلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» تَعْلِيمُ حُرُوفِهِ وَمَعَانِيه جَمِيعًا، بَلْ تَعَلُّمُ مَعَانِيه هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ بِتَعْلِيمِ حُرُوفِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَزِيدُ الْإِيمَانَ، كَمَا قَالَ جُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا: تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا، وَإِنَّكُمْ تَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ ثُمَّ تَتَعَلَّمُونَ الْإِيمَانَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثَيْنِ، رَأَيْت أَحَدَهُمَا، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ: حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ» ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَلَا تَتَّسِعُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ لِذِكْرِ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا بَلَّغَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى النَّاسِ. وَتَلَقَّاهُ أَصْحَابُهُ عَنْهُ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ، وَذَلِكَ مِمَّا أَوْحَاهُ اللَّهُ إلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] وَتَجُوزُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ

مسألة في قول أهل التقاويم في أن الرابع عشر من هذا الشهر يخسف القمر

وَخَارِجَهَا بِالْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ الْمُوَافِقَةِ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ كَمَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ وَلَيْسَتْ شَاذَّةً حِينَئِذٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي قَوْلِ أَهْلِ التَّقَاوِيمِ فِي أَنَّ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ يُخْسَفُ الْقَمَرُ] 1018 - 6 مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِ أَهْلِ التَّقَاوِيمِ فِي أَنَّ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ يُخْسَفُ الْقَمَرُ، وَفِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ تُكْسَفُ الشَّمْسُ، فَهَلْ يَصْدُقُونَ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا خُسِفَا هَلْ يُصَلِّي لَهُمَا أَمْ يُسَبِّحُ، وَإِذَا صَلَّى كَيْف صِفَةُ الصَّلَاةِ وَيَذْكُرُ لَنَا أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْخُسُوفُ وَالْكُسُوفُ لَهُمَا أَوْقَاتٌ مُقَدَّرَةٌ كَمَا لِطُلُوعِ الْهِلَالِ وَقْتٌ مُقَدَّرٌ، وَذَلِكَ مِمَّا أَجْرَى اللَّهُ عَادَتَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَسَائِرِ مَا يَتْبَعُ جَرَيَانَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] . وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ} [يونس: 5] . وَقَالَ تَعَالَى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36] .

وَقَالَ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37] {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38] {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] . وَكَمَا أَنَّ الْعَادَةَ الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْهِلَالَ لَا يَسْتَهِلُّ إلَّا لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ مِنْ الشَّهْرِ أَوْ لَيْلَةَ إحْدَى وَثَلَاثِينَ، وَأَنَّ الشَّهْرَ لَا يَكُونُ إلَّا ثَلَاثِينَ أَوْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ فَهُوَ غَالِطٌ، فَكَذَلِكَ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ أَنَّ الشَّمْسَ لَا تُكْسَفُ إلَّا وَقْتَ الِاسْتِسْرَارِ. وَأَنَّ الْقَمَرَ لَا يُخْسَفُ إلَّا وَقْتَ الْإِبْدَارِ، وَوَقْتُ إبْدَارِهِ هِيَ اللَّيَالِي الْبِيضُ الَّتِي يُسْتَحَبُّ صِيَامُ أَيَّامِهَا: لَيْلَةُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ، فَالْقَمَرُ لَا يُخْسَفُ إلَّا فِي هَذِهِ اللَّيَالِي، وَالْهِلَالُ يَسْتَسِرُّ آخَرَ الشَّهْرِ إمَّا لَيْلَةً وَإِمَّا لَيْلَتَيْنِ كَمَا يَسْتَسِرُّ لَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ. وَالشَّمْسُ لَا تُكْسَفُ إلَّا وَقْتَ اسْتِسْرَارِهِ. وَلِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيَالٍ مُعْتَادَةٌ، مَنْ عَرَفَهَا عَرَفَ الْكُسُوفَ وَالْخُسُوفَ، كَمَا أَنَّ مَنْ عَلِمَ كَمْ مَضَى مِنْ الشَّهْرِ يَعْلَمُ أَنَّ الْهِلَالَ يَطْلُعُ فِي اللَّيْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ أَوْ الَّتِي قَبْلَهَا، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِالْعَادَةِ فِي الْهِلَالِ، عِلْمٌ عَامٌّ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْعَادَةِ فِي الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ، فَإِنَّمَا يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْرِفُ حِسَابَ جَرَيَانِهِمَا وَلَيْسَ خَبَرُ الْحَاسِبِ بِذَلِكَ مِنْ بَابِ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَلَا مِنْ بَابِ مَا يُخْبَرُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَكُونُ كَذِبُهُ فِيهَا أَعْظَمَ مِنْ صِدْقِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ ثَابِتٍ وَبِنَاءً عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ صَحِيحٍ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ النُّجُومِ فَقَدْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَادَ مَنْ زَادَ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ صَلَاتَهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» .

وَالْكُهَّانُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَهُ مِنْ الْمُنَجِّمِينَ فِي الْأَحْكَامِ، وَمَعَ هَذَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ إتْيَانِهِمْ وَمَسْأَلَتِهِمْ، فَكَيْفَ بِالْمُنَجِّمِ،؟ وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ. وَأَمَّا مَا يُعْلَمُ بِالْحِسَابِ فَهُوَ مِثْلُ الْعِلْمِ بِأَوْقَاتِ الْفُصُولِ: كَأَوَّلِ الرَّبِيعِ، وَالصَّيْفِ، وَالْخَرِيفِ، وَالشِّتَاءِ لِمُحَاذَاةِ الشَّمْسِ أَوَائِلَ الْبُرُوجِ الَّتِي يَقُولُونَ فِيهَا إنَّ الشَّمْسَ نَزَلَتْ فِي بُرْجِ كَذَا؟ أَيْ حَاذَتْهُ. وَمَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ إنَّ الشَّمْسَ تُكْسَفُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الِاسْتِسْرَارِ فَقَدْ غَلِطَ وَقَالَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ. وَمَا يُرْوَى عَنْ الْوَاقِدِيِّ مِنْ ذِكْرِهِ «أَنَّ إبْرَاهِيمَ ابْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ يَوْمَ الْعَاشِرِ مِنْ الشَّهْرِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْكُسُوفِ غَلَطٌ» . وَالْوَاقِدِيُّ لَا يُحْتَجُّ بِمَسَانِيدِهِ، فَكَيْفَ بِمَا أَرْسَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْنِدَهُ إلَى أَحَدٍ، وَهَذَا فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ خَطَأٌ، فَأَمَّا هَذَا فَيُعْلَمُ أَنَّهُ خَطَأٌ وَمَنْ جَوَّزَ هَذَا فَقَدْ قَفَا مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، وَمَنْ حَاجَّ فِي ذَلِكَ فَقَدْ حَاجَّ فِيمَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ اجْتِمَاعِ صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْكُسُوفِ، فَهَذَا ذَكَرُوهُ فِي ضِمْنِ كَلَامِهِمْ فِيمَا إذَا اجْتَمَعَ صَلَاةُ الْكُسُوفِ وَغَيْرُهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ فَقَدْ رَأَوْا اجْتِمَاعَهَا مَعَ الْوِتْرِ وَالظُّهْرِ، وَذَكَرُوا صَلَاةَ الْعِيدِ مَعَ عَدَمِ اسْتِحْضَارِهِمْ هَلْ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ أَوْ لَا يُمْكِنُ، فَلَا يُوجَدُ فِي تَقْدِيرِهِمْ ذَلِكَ الْعِلْمُ بِوُجُودِ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ، لَكِنْ لِيَسْتَفِيدَ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ: عُلِمَ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ، كَمَا يُقَدِّرُونَ مَسَائِلَ يُعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَقَعُ لِتَحْرِيرِ الْقَوَاعِدِ وَتَمْرِينِ الْأَذْهَانِ عَلَى ضَبْطِهَا. وَأَمَّا تَصْدِيقُ الْمُخْبِرِ بِذَلِكَ وَتَكْذِيبُهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَدَّقَ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ صِدْقُهُ، وَلَا يُكَذَّبَ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ كَذِبُهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوهُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوهُمْ» . وَالْعِلْمُ بِوَقْتِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا، لَكِنَّ هَذَا الْمُخْبِرَ الْمُعَيَّنَ قَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِذَلِكَ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَقَدْ يَكُونُ ثِقَةً فِي خَبَرِهِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ. وَخَبَرُ

الْمَجْهُولِ الَّذِي لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِ وَصِدْقِهِ وَلَا يُعْرَفُ كَذِبُهُ مَوْقُوفٌ، وَلَوْ أَخْبَرَ مُخْبِرٌ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَجْهُولٌ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ، وَلَكِنْ إذَا تَوَاطَأَ خَبَرُ أَهْلِ الْحِسَابِ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ. وَمَعَ هَذَا فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى خَبَرِهِمْ عِلْمٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ لَا تُصَلَّى إلَّا إذَا شَاهَدْنَا ذَلِكَ، وَإِذَا جَوَّزَ الْإِنْسَانُ صِدْقَ الْمُخْبِرِ بِذَلِكَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، فَنَوَى أَنْ يُصَلِّيَ الْكُسُوفَ وَالْخُسُوفَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَاسْتَعَدَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ لِرُؤْيَةِ ذَلِكَ، كَانَ هَذَا حَثًّا مِنْ بَابِ الْمُسَارَعَةِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْكُسُوفِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ تَوَاتَرَتْ بِهَا السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَاهَا أَهْلُ الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ، وَالْمَسَانِيدِ، مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. وَاسْتَفَاضَ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ صَلَاةَ الْكُسُوفِ يَوْمَ مَاتَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ، وَكَانَ بَعْضُ النَّاسِ ظَنَّ أَنَّ كُسُوفَهَا كَانَ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ مَاتَ، فَخَطَبَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: «إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ: «وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ» . وَهَذَا بَيَانٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمَا سَبَبٌ لِنُزُولِ عَذَابٍ بِالنَّاسِ، فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا يُخَوِّفُ عِبَادَهُ بِمَا يَخَافُونَهُ إذَا عَصَوْهُ وَعَصَوْا رُسُلَهُ، وَإِنَّمَا يَخَافُ النَّاسُ مِمَّا يَضُرُّهُمْ. فَلَوْلَا إمْكَانُ حُصُولِ الضَّرَرِ بِالنَّاسِ عِنْدَ الْخُسُوفِ مَا كَانَ ذَلِكَ تَخْوِيفًا، قَالَ تَعَالَى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] . وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا يُزِيلُ الْخَوْفَ: أَمَرَ بِالصَّلَاةِ، وَالدُّعَاءِ، وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْعِتْقِ حَتَّى يَكْشِفَ مَا بِالنَّاسِ، وَصَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْكُسُوفِ صَلَاةً طَوِيلَةً. وَقَدْ رُوِيَ فِي صِفَةِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ أَنْوَاعٌ، لَكِنَّ الَّذِي اسْتَفَاضَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ

بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَهُوَ الَّذِي اسْتَحَبَّهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ «أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ، يَقْرَأُ قِرَاءَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ يَرْكَعُ رُكُوعًا طَوِيلًا دُونَ الْقِرَاءَةِ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَقْرَأُ قِرَاءَةً طَوِيلَةً دُونَ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، ثُمَّ يَرْكَعُ رُكُوعًا دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ» وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا. وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ وَقْتَ الْكُسُوفِ إلَى أَنْ يَتَجَلَّى. فَإِنْ فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ التَّجَلِّي ذَكَرَ اللَّهَ وَدَعَاهُ إلَى أَنْ يَتَجَلَّى، وَالْكُسُوفُ يَطُولُ زَمَانُهُ تَارَةً، وَيَقْصُرُ أُخْرَى، بِحَسَبِ مَا يُكْسَفُ مِنْهَا، فَقَدْ يُكْسَفُ كُلَّهَا، وَقَدْ يُكْسَفُ نِصْفَهَا أَوْ ثُلُثَهَا، فَإِذَا عَظُمَ الْكُسُوفُ طَوَّلَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَقْرَأَ بِالْبَقَرَةِ وَنَحْوِهَا فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ، وَبَعْدَ الرُّكُوعِ الثَّانِي يَقْرَأُ بِدُونِ ذَلِكَ. وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا ذَكَرْنَاهُ كُلَّهُ، مِثْلُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: «انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إبْرَاهِيمُ ابْنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ النَّاسُ: انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَإِلَى الصَّلَاةِ» . وَفِي الصَّحِيحِ، عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي يُرْسِلُهَا اللَّهُ لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ» . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: «فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْهَا فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ» .

مسألة رجلين اختلفا في علم وفقه أبو بكر وعمر

وَفِي رِوَايَةٍ لِعَائِشَةَ «فَصَلُّوا حَتَّى يُفَرِّجَ اللَّهُ مَا بِكُمْ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْمَسْجِدِ، فَقَامَ وَكَبَّرَ وَصَفَّ النَّاسَ وَرَاءَهُ، فَاقْتَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِرَاءَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ ثُمَّ قَامَ فَاقْتَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً هِيَ أَدْنَى مِنْ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا هُوَ أَدْنَى مِنْ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى اسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَانْجَلَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ» . وَقَدْ جَاءَ إطَالَتُهُ لِلسُّجُودِ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ، وَكَذَلِكَ الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ، لَكِنْ رُوِيَ فِي الْقِرَاءَةِ الْمُخَافَتَةُ، وَالْجَهْرُ أَصَحُّ، وَأَمَّا تَطْوِيلُ السُّجُودِ فَلَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ الْحَدِيثُ، لَكِنْ فِي كُلِّ حَدِيثٍ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ فِي الْآخَرِ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ لَا تَخْتَلِفُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي عِلْم وَفِقْه أَبُو بكر وعمر] 1019 - 7 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَعْلَمُ وَأَفْقَهُ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَعْلَمُ وَأَفْقَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ أَصْوَبُ. وَهَلْ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ وَهُمَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَقْضَاكُمْ عَلَيَّ» ، وَقَوْلُهُ: «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا» صَحِيحَانِ. وَإِذَا كَانَا صَحِيحَيْنِ هَلْ فِيهِمَا دَلِيلُ أَنَّ عَلِيًّا أَعْلَمُ وَأَفْقَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، وَإِذَا ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْلَمُ وَأَفْقَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - يَكُونُ مُحِقًّا أَوْ مُخْطِئًا. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمُعْتَبَرِينَ إنَّ عَلِيًّا أَعْلَمُ

وَأَفْقَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، بَلْ وَلَا مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَحْدَهُ. وَمُدَّعِي الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَكْذَبِهِمْ، بَلْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أَعْلَمُ مِنْ عَلِيٍّ، مِنْهُمْ الْإِمَامُ مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّار السَّمْعَانِيُّ الْمَرْوَزِيِّ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ السِّتَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ " تَقْوِيمُ الْأَدِلَّةِ " عَلَى الْإِمَامِ إجْمَاعَ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ مِنْ عَلِيٍّ، وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ، وَكَيْفَ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ كَانَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفْتِي، وَيَأْمُرُ، وَيَنْهَى، وَيَقْضِي، وَيَخْطُبُ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا خَرَجَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ يَدْعُو النَّاسَ إلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمَّا هَاجَرَا جَمِيعًا وَيَوْمَ حُنَيْنٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَشَاهِدِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاكِتٌ يُقِرُّهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَرْضَى بِمَا يَقُولُ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ لِغَيْرِهِ. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُشَاوَرَتِهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالرَّأْيِ مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَدِّمُ فِي الشُّورَى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَهُمَا اللَّذَانِ يَتَقَدَّمَانِ فِي الْكَلَامِ وَالْعِلْمِ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ عَلَى سَائِرِ أَصْحَابِهِ، مِثْلُ قِصَّةِ مُشَاوَرَتِهِ فِي أَسْرَى بَدْرٍ. فَأَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَكَذَلِكَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ لَهُمَا: «إذَا اتَّفَقْتُمَا عَلَى أَمْرٍ لَمْ أُخَالِفْكُمَا» وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُمَا حُجَّةً فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ. وَفِي السُّنَنِ: عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» . وَلَمْ يَجْعَلْ هَذَا لِغَيْرِهِمَا، بَلْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ، وَخَصَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا، وَمَرْتَبَةُ الْمُقْتَدَى بِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَفِيمَا سَنَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَوْقَ سُنَّةِ الْمُتَّبَعِ فِيمَا سَنَّهُ فَقَطْ.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا مَعَهُ فِي سَفَرٍ فَقَالَ: إنْ يُطِعْ الْقَوْمُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا» . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِمَا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَفْتَى بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ. وَابْنُ عَبَّاسٍ حَبْرُ الْأُمَّةِ وَأَعْلَمُ الصَّحَابَةِ وَأَفْقَهُهُمْ فِي زَمَانِهِ، وَهُوَ يُفْتِي بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، مُقَدِّمًا لِقَوْلِهِمَا عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» . وَأَيْضًا فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ اخْتِصَاصُهُمَا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوْقَ اخْتِصَاصِ غَيْرِهِمَا، وَأَبُو بَكْرٍ كَانَ أَكْثَرَ اخْتِصَاصًا فَإِنَّهُ كَانَ يَسْمُرُ عِنْدَهُ عَامَّةَ اللَّيْلِ يُحَدِّثُهُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثِنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْمُرُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْأَمْرِ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَا مَعَهُ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ «أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا نَاسًا فُقَرَاءَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ أَوْ بِسَادِسٍ» . وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ، وَانْطَلَقَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَشَرَةِ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صَلَّيْتُ الْعِشَاءَ ثُمَّ رَجَعَ، فَلَبِثَ حَتَّى نَعَسَ رَسُولُ اللَّهِ فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَتْ امْرَأَتُهُ: مَا حَبَسَك عَنْ أَضْيَافِك؟ قَالَ أَوَ عَشَّيْتِهِمْ، قَالَتْ أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ عَرَضُوا عَلَيْهِمْ الْعَشَاءَ فَغَلَبُوهُمْ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ يَتَحَدَّثُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى اللَّيْلِ. وَفِي سَفَرِ الْهِجْرَةِ لَمْ يَصْحَبْ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ، وَيَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ فِي الْعَرِيشِ

غَيْرُهُ، وَقَالَ: «إنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيْنَا فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا» . وَهَذَا مِنْ أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَفِيضَةِ فِي الصِّحَاحِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ «قَالَ: كُنْت جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ فَسَلَّمَ وَقَالَ: إنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْت إلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْت فَسَأَلْته أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ فَأَتَيْتُك، فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَك ثَلَاثًا» . ثُمَّ إنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَمَعَّرُ، وَغَضِبَ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: «أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا» . قَالَ الْبُخَارِيُّ: غَامَرَ: سَبَقَ بِالْخَيْرِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وُضِعَ عُمَرُ عَلَى سَرِيرِهِ فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ يَدْعُونَ وَيُثْنُونَ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ، وَأَنَا فِيهِمْ، فَلَمْ يَرُعْنِي إلَّا رَجُلٌ قَدْ أَخَذَ بِمَنْكِبِي مِنْ وَرَائِي، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ وَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ، وَقَالَ: مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِعَمَلِهِ مِنْك، وَاَيْمُ اللَّهِ إنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَك اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْك، وَذَلِكَ أَنِّي كُنْتُ كَثِيرًا مَا أَسْمَعُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ: جِئْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَخَلْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» ، فَإِنْ كُنْت أَرْجُو أَوْ أَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَك اللَّهُ مَعَهُمَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: «أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ، لَمَّا أُصِيبَ

الْمُسْلِمُونَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ، أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ، أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تُجِيبُوهُ. فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تُجِيبُوهُ. فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ، أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ، أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تُجِيبُوهُ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُمْ. فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ: كَذَبْتَ عَدُوَّ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لَأَحْيَاءٌ، وَقَدْ بَقِيَ لَك مَا يَسُوءُك» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَهَذَا أَمِيرُ الْكُفَّارِ فِي تِلْكَ الْحَالِ إنَّمَا سَأَلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، دُونَ غَيْرِهِمْ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ رُءُوسُ الْمُسْلِمِينَ: النَّبِيُّ وَوَزِيرَاهُ. وَلِهَذَا سَأَلَ الرَّشِيدُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ مَنْزِلَتِهِمَا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ، فَقَالَ: مَنْزِلَتُهُمَا فِي حَيَاتِهِ كَمَنْزِلَتِهِمَا مِنْهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ. وَكَثْرَةُ الِاخْتِصَاصِ وَالصُّحْبَةِ مَعَ كَمَالِ الْمَوَدَّةِ وَالِائْتِلَافِ وَالْمَحَبَّةُ وَالْمُشَارَكَةُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ تَقْتَضِي أَنَّهُمَا أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمَا. وَهَذَا ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لِمَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِأَحْوَالِ الْقَوْمِ. أَمَّا الصِّدِّيقُ فَإِنَّهُ مَعَ قِيَامِهِ بِأُمُورٍ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ عَجَزَ عَنْهَا غَيْرُهُ حَتَّى بَيَّنَهَا لَهُمْ لَمْ يُحْفَظْ لَهُ قَوْلٌ مُخَالِفٌ نَصًّا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْبَرَاعَةِ. وَأَمَّا غَيْرُهُ فَحَفِظَتْ لَهُ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ خَالَفَتْ النَّصَّ، لَكِنَّ تِلْكَ النُّصُوصَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ، وَاَلَّذِي وُجِدَ مِنْ مُوَافَقَةِ عُمَرَ لِلنُّصُوصِ أَكْثَرُ مِنْ مُوَافَقَةِ عَلِيٍّ، وَهَذَا يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَ مَسَائِلَ الْعِلْمِ وَأَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ: نَفَقَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فَإِنَّ قَوْلَ عُمَرَ هُوَ الَّذِي وَافَقَ النَّصَّ، دُونَ الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْحَرَامِ قَوْلُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ فِيهَا هُوَ الْأَشْبَهُ بِالنُّصُوصِ مِنْ الْقَوْلِ الْآخَرِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْت كَأَنِّي أُتِيَتْ بِقَدَحٍ لَبَنٌ فَشَرِبْت حَتَّى إنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ مِنْ أَظْفَارِي، ثُمَّ نَاوَلْتُ فَضْلِي عُمَرَ، فَقَالُوا: مَا أَوَّلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْعِلْمُ» . وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ عُمَرَ» .

وَأَيْضًا فَإِنَّ الصِّدِّيقَ اسْتَخْلَفَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى إقَامَةِ الْمَنَاسِكِ الَّتِي لَيْسَ فِي مَسَائِلِ الْعِبَادَاتِ أَشَكْلُ مِنْهَا، وَأَقَامَ الْمَنَاسِكَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَادَى: «أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» فَأَرْدَفَهُ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، لِيَنْبِذَ الْعَهْدَ إلَى الْمُشْرِكِينَ فَلَمَّا لَحِقَهُ قَالَ: أَمِيرًا أَوْ مَأْمُورًا؟ قَالَ: بَلْ مَأْمُورًا. فَأَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَكَانَ عَلِيٌّ مِمَّنْ أَمَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَسْمَعَ وَيُطِيعَ فِي الْحَجِّ وَأَحْكَامِ الْمُسَافِرِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ هَذَا بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ الَّذِي اسْتَخْلَفَ عَلِيًّا فِيهَا عَلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الرِّجَالِ إلَّا مُنَافِقٌ أَوْ مَعْذُورٌ أَوْ مُذْنِبٌ فَلَحِقَهُ عَلِيٌّ فَقَالَ أَتَخْلُفُنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى» . بَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ اسْتِخْلَافَ عَلِيٍّ عَلَى الْمَدِينَةِ لَا يَقْتَضِي نَقْصَ الْمَرْتَبَةِ، فَإِنَّ مُوسَى قَدْ اسْتَخْلَفَ هَارُونَ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَائِمًا يَسْتَخْلِفُ رِجَالًا، لَكِنْ كَانَ يَكُونُ بِهَا رِجَالٌ. وَعَامَ تَبُوكَ خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْغَزَاةِ لِأَنَّ الْعَدُوَّ كَانَ شَدِيدًا، وَالسَّفَرُ بَعِيدًا، وَفِيهَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ بَرَاءَةٌ. وَكِتَابُ أَبِي بَكْرٍ فِي الصَّدَقَاتِ آخِرُ الْكُتُبِ وَأَوْجَزُهَا، وَلِهَذَا عَمِلَ بِهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ، وَكِتَابُ غَيْرِهِ فِيهِ مَا هُوَ مُتَقَدِّمٌ مَنْسُوخٌ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عُلِمَ بِالسُّنَّةِ النَّاسِخَةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَيْضًا فَالصَّحَابَةُ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ لَمْ يَكُونُوا يَتَنَازَعُونَ فِي مَسْأَلَةٍ إلَّا فَصَّلَهَا بَيْنَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَارْتَفَعَ النِّزَاعُ، فَلَا يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ فِي زَمَانِهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ تَنَازَعُوا فِيهَا إلَّا ارْتَفَعَ النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ بِسَبَبِهِ كَتَنَازُعِهِمْ فِي وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَدْفِنِهِ وَفِي مِيرَاثِهِ، وَفِي تَجْهِيزِ جَيْشِ أُسَامَةَ، وَقِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْكِبَارِ، بَلْ كَانَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ يُعَلِّمُهُمْ وَيُقَوِّمُهُمْ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَا تَزُولُ مَعَهُ الشُّبْهَةُ. فَلَمْ يَكُونُوا مَعَهُ يَخْتَلِفُونَ. وَبَعْدَهُ لَمْ يَبْلُغْ عِلْمُ أَحَدٍ وَكَمَالُهُ عِلْمَ أَبِي بَكْرٍ وَكَمَالَهُ. فَصَارُوا يَتَنَازَعُونَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ كَمَا تَنَازَعُوا فِي الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، وَفِي الْحَرَامِ، وَفِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَعْرُوفَةِ مِمَّا لَمْ يَكُونُوا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ. وَكَانُوا يُخَالِفُونَ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا فِي كَثِيرٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُمْ خَالَفُوا أَبَا بَكْرٍ فِي شَيْءٍ مِمَّا كَانَ يُفْتِي فِيهِ وَيَقْضِي، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْعِلْمِ، وَقَامَ مَقَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقَامَ الْإِسْلَامَ، فَلَمْ يُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنْهُ، بَلْ دَخَلَ النَّاسُ مِنْ الْبَابِ الَّذِي خَرَجُوا مِنْهُ مَعَ كَثْرَةِ الْمُخَالِفِينَ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ وَغَيْرِهِمْ وَكَثْرَةِ الْخَاذِلِينَ، فَكُلُّ بِهِ مِنْ عِلْمِهِمْ وَدِينِهِمْ مَا لَا يُقَاوِمُهُ فِيهِ أَحَدٌ حَتَّى قَامَ الدِّينُ كَمَا كَانَ. وَكَانُوا يُسَمُّونَ أَبَا بَكْرٍ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ بَعْدَ هَذَا سَمَّوْا عُمَرَ وَغَيْرَهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ: ظَهَرَ قَوْلُهُ: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] فِي أَبِي بَكْرٍ فِي اللَّفْظِ كَمَا ظَهَرَ فِي الْمَعْنَى، فَكَانُوا يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ، ثُمَّ انْقَطَعَ هَذَا الِاتِّصَالُ اللَّفْظِيُّ بِمَوْتِهِ، فَلَمْ يَقُولُوا لِمَنْ بَعْدَهُ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ. وَأَيْضًا فَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ تَعَلَّمَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ بَعْضَ السُّنَّةِ، بِخِلَافِ أَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي فِي السُّنَنِ: حَدِيثُ صَلَاةِ التَّوْبَةِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «كُنْتُ إذَا سَمِعْت مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثًا يَنْفَعُنِي اللَّهُ مِنْهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي، فَإِذَا حَدَّثَنِي غَيْرُهُ اسْتَحْلَفْته، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْته، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ» . وَمِمَّا يُبَيِّنُ لَك هَذَا أَنَّ أَئِمَّةَ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ الَّذِينَ صَحِبُوا عُمَرَ وَعَلِيًّا: كَعَلْقَمَةَ، وَالْأَسْوَدِ، وَشُرَيْحٍ الْقَاضِي، وَغَيْرِهِمْ كَانُوا يُرَجِّحُونَ قَوْلَ عُمَرَ عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ.

وَأَمَّا تَابِعُو أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ، فَهَذَا عِنْدَهُمْ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، وَإِنَّمَا الْكُوفَةُ ظَهَرَ فِيهَا فِقْهُ عَلِيٍّ وَعِلْمُهُ بِحَسَبِ مُقَامِهِ فِيهَا مُدَّةَ خِلَافَتِهِ، وَكُلُّ شِيعَةِ عَلِيٍّ الَّذِينَ صَحِبُوهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَدَّمَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، لَا فِي فِقْهٍ وَلَا عِلْمٍ وَلَا غَيْرِهِمَا، بَلْ كُلُّ شِيعَتِهِ الَّذِينَ قَاتَلُوا مَعَهُ عَدُوَّهُ كَانُوا مَعَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ يُقَدِّمُونَ أَبَا بَكْرٍ، إلَّا طَائِفَةٌ غَلَتْ فِيهِ كَاَلَّتِي ادَّعَتْ فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ، وَهَؤُلَاءِ حَرَّقَهُمْ عَلِيٌّ بِالنَّارِ، وَطَائِفَةٌ كَانَتْ تَسُبُّ أَبَا بَكْرٍ، وَكَانَ رَأْسُهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَبَأٍ، فَلَمَّا بَلَغَ عَلِيًّا ذَلِكَ طَلَبَ قَتْلَهُ فَهَرَبَ، وَطَائِفَةٌ كَانَتْ تُفَضِّلُهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، قَالَ: لَا يَبْلُغُنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ أَنَّهُ فَضَّلَنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْتُهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ وَجْهًا وَأَكْثَرَ أَنَّهُ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ: خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، مِنْ رِوَايَةِ رِجَالِ هَمْدَانَ خَاصَّةً الَّتِي يَقُولُ فِيهَا عَلِيٌّ: وَلَوْ كُنْت بَوَّابًا عَلَى بَابِ جَنَّةٍ ... لَقُلْت لِهَمْدَانَ اُدْخُلِي بِسَلَامِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ وَكِلَاهُمَا مِنْ هَمْدَانَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ. قَالَ: ثِنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ثِنَا جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ ثِنَا أَبُو يَعْلَى مُنْذِرٌ الثَّوْرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ قُلْت لِأَبِي: يَا أَبَتِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا بُنَيَّ أَوَمَا تَعْرِفُ؟ فَقُلْت: لَا، فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ، وَهَذَا يَقُولُهُ لِابْنِهِ الَّذِي لَا يَتَّقِيه وَلِخَاصَّتِهِ، وَيَتَقَدَّمُ بِعُقُوبَةِ مَنْ يُفَضِّلُهُ عَلَيْهِمَا. وَالْمُتَوَاضِعُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِعُقُوبَةِ كُلِّ مَنْ قَالَ الْحَقَّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُفْتَرِيًا وَرَأْسُ الْفَضَائِلِ الْعِلْمُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] . وَالدَّلَائِلُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: «أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ» فَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَلَا أَهْلِ الْمَسَانِيدِ الْمَشْهُورَةِ لَا أَحْمَدُ وَلَا غَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ، وَإِنَّمَا يُرْوَى مِنْ طَرِيقِ مَنْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِالْكَذِبِ، وَلَكِنْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أُبَيٌّ أَقْرَؤُنَا، وَعَلِيٌّ أَقْضَانَا وَهَذَا قَالَهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي بَكْرٍ. وَاَلَّذِي فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَعْلَمُ أُمَّتِي بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَعْلَمُهَا بِالْفَرَائِضِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ» وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ عَلِيٍّ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ عَلِيٍّ مَعَ ضَعْفِهِ فِيهِ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَعْلَمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَعْلَمُ بِالْفَرَائِضِ، فَلَوْ قُدِّرَ صِحَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ لَكَانَ الْأَعْلَمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أَوْسَعَ عِلْمًا مِنْ الْأَعْلَمِ بِالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْقَضَاءِ، إنَّمَا هُوَ فَصْلُ الْخُصُومَاتِ فِي الظَّاهِرِ، مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْبَاطِنُ بِخِلَافِهِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» . فَقَدْ أَخْبَرَ سَيِّدُ الْقُضَاةِ أَنَّ قَضَاءَهُ لَا يُحِلُّ الْحَرَامَ، بَلْ يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَ بِقَضَائِهِ مَا قُضِيَ لَهُ بِهِ مِنْ حَقِّ الْغَيْرِ، وَعِلْمُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ يَتَنَاوَلُ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ، فَكَانَ الْأَعْلَمُ بِهِ أَعْلَمَ بِالدِّينِ. وَأَيْضًا فَالْقَضَاءُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الْحُكْمُ عِنْدَ تَجَاحُدِ الْخَصْمَيْنِ مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا أَمْرًا يُكَذِّبُهُ الْآخَرُ فِيهِ، فَيَحْكُمُ فِيهِ بِالْبَيِّنَةِ وَنَحْوِهَا. وَالثَّانِي: مَا لَا يَتَجَاحَدَانِ فِيهِ يَتَصَادَقَانِ، وَلَكِنْ لَا يَعْلَمَانِ مَا يَسْتَحِقُّ كُلٌّ مِنْهُمَا كَتَنَازُعِهِمَا فِي قَسْمِ فَرِيضَةٍ، أَوْ فِيمَا يَجِبُ لِكُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، أَوْ فِيمَا

يَسْتَحِقُّهُ كُلٌّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا الْبَابُ هُوَ مِنْ أَبْوَابِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَإِذَا أَفْتَاهُمَا مَنْ يَرْضَيَانِ بِقَوْلِهِ كَفَاهُمَا ذَلِكَ، وَلَمْ يَحْتَاجَا إلَى مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يَحْتَاجَانِ إلَى حَاكِمٍ عِنْدَ التَّجَاحُدِ، وَذَاكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَغْلَبِ مَعَ الْفُجُورِ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ النِّسْيَانِ، فَأَمَّا الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فَيَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَمَا يَخْتَصُّ بِالْقَضَاءِ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ الْأَبْرَارِ. وَلِهَذَا لَمَّا أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ النَّاسِ مَكَثَ حَوْلًا لَمْ يَتَحَاكَمْ اثْنَانِ فِي شَيْءٍ، وَلَوْ عُدَّ مَجْمُوعُ مَا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَذَا النَّوْعِ لَمْ يَبْلُغْ عَشْرَ حُكُومَاتٍ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ كَلَامِهِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. الَّذِي هُوَ قِوَامُ دِينِ الْإِسْلَامِ. يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ. وَقَوْلُهُ: «أَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» أَقْرَبُ إلَى الصِّحَّةِ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ: «أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ» لَوْ كَانَ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ أَصَحَّ إسْنَادًا وَأَظْهَرَ دَلَالَةً عُلِمَ أَنَّ الْمُحْتَجَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا أَعْلَمُ مِنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ جَاهِلٌ، فَكَيْفَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ اللَّذَيْنِ هُمَا أَعْلَمُ مِنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ مُعَاذٍ وَزَيْدٍ يُضَعِّفُهُ بَعْضُهُمْ وَيُحَسِّنُهُ بَعْضُهُمْ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ «مَدِينَةِ الْعِلْمِ» فَأَضْعَفُ وَأَوْهَى، وَلِهَذَا إنَّمَا يُعَدُّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ الْمَكْذُوبَاتِ، وَإِنْ كَانَ التِّرْمِذِيُّ قَدْ رَوَاهُ، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ "، وَبَيَّنَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ مِنْ سَائِرِ طُرُقِهِ، وَالْكَذِبُ يُعْرَفُ مِنْ نَفْسِ مَتْنِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ فِي إسْنَادِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا كَانَ مَدِينَةَ الْعِلْمَ، لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الْمَدِينَةِ إلَّا بَابٌ وَاحِدٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُبَلِّغُ عَنْهُ وَاحِدًا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُبَلِّغُ عَنْهُ أَهْلُ التَّوَاتُرِ الَّذِينَ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ لِلْغَائِبِ، وَرِوَايَةُ الْوَاحِدِ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ إلَّا مَعَ قَرَائِنَ، وَتِلْكَ الْقَرَائِنُ إمَّا أَنْ تَكُونَ مُنْتَفِيَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ خَفِيَّةً عَنْ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ، فَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ الْعِلْمُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِخِلَافِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ. وَهَذَا الْحَدِيثُ إنَّمَا افْتَرَاهُ زِنْدِيقٌ أَوْ جَاهِلٌ ظَنَّهُ مَدْحًا، وَهُوَ مَطْرَقُ الزَّنَادِقَةِ إلَى الْقَدْحِ فِي عِلْمِ الدِّينِ إذَا لَمْ يُبَلِّغْهُ إلَّا وَاحِدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ.

ثُمَّ إنَّ هَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالتَّوَاتُرِ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ بَلَغَهُمْ الْعِلْمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. أَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ فَالْأَمْرُ فِيهِمْ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا يَرْوُونَ عَنْ عَلِيٍّ إلَّا شَيْئًا قَلِيلًا، وَإِنَّمَا غَالِبُهُ كَانَ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ كَانُوا تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَلَّى عُثْمَانُ فَضْلًا عَنْ خِلَافَةِ عَلِيٍّ، وَكَانَ أَفْقَهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَعْلَمُهُمْ تَعَلَّمُوا الدِّينَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، وَقَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَلَّمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ عَلِيٍّ شَيْئًا إلَّا مَنْ تَعَلَّمَ مِنْهُ لَمَّا كَانَ بِالْيَمَنِ، كَمَا تَعَلَّمُوا حِينَئِذٍ مِنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. وَكَانَ مُقَامُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ وَتَعْلِيمُهُ لَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ مُقَامِ عَلِيٍّ وَتَعْلِيمِهِ. وَلِهَذَا رَوَى أَهْلُ الْيَمَنِ عَنْ مُعَاذٍ أَكْثَرَ مِمَّا رَوَوْهُ عَنْ عَلِيٍّ. وَشُرَيْحٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ إنَّمَا تَفَقَّهُوا عَلَى مُعَاذٍ. وَلَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ الْكُوفَةِ كَانَ شُرَيْحٌ قَاضِيًا فِيهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَعَلِيٌّ وَجَدَ عَلَى الْقَضَاءِ فِي خِلَافَتِهِ شُرَيْحًا وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيَّ وَكِلَاهُمَا تَفَقَّهَ عَلَى غَيْرِهِ. فَإِذَا كَانَ عِلْمُ الْإِسْلَامِ انْتَشَرَ فِي مَدَائِنِ الْإِسْلَامِ بِالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ إلَى الْكُوفَةِ، لَمَا صَارَ إلَى الْكُوفَةِ عَامَّةُ مَا بَلَغَهُ مِنْ الْعِلْمِ بَلَّغَهُ غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَخْتَصَّ عَلِيٌّ بِتَبْلِيغِ شَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا وَقَدْ اخْتَصَّ غَيْرُهُ بِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ، فَالتَّبْلِيغُ الْعَامُّ الْحَاصِلُ بِالْوِلَايَةِ حَصَلَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ مِنْهُ أَكْثَرُ مِمَّا حَصَلَ لِعَلِيٍّ. وَأَمَّا الْخَاصُّ فَابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ أَكْثَرَ فُتْيَا مِنْهُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَكْثَرُ رِوَايَةً مِنْهُ، وَعَلِيٌّ أَعْلَمَ مِنْهُمَا كَمَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ أَعْلَمُ مِنْهُمَا أَيْضًا، فَإِنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ قَامُوا مِنْ تَبْلِيغِ الْعِلْمِ الْعَامِّ بِمَا كَانَ النَّاسُ أَحْوَجَ إلَيْهِ مِمَّا بَلَغَهُ مَنْ بَلَغَ بَعْضُ الْعِلْمِ الْخَاصِّ. وَأَمَّا مَا يَرْوِيه أَهْلُ الْكَذِبِ وَالْجَهْلِ مِنْ اخْتِصَاصِ عَلِيٍّ بِعِلْمٍ انْفَرَدَ بِهِ عَنْ الصَّحَابَةِ فَكُلُّهُ بَاطِلٌ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ؟ فَقَالَ: لَا وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إلَّا فَهْمًا يُؤْتِيه اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَكَانَ فِيهَا عُقُولُ الدِّيَاتِ، أَيْ أَسْنَانُ الْإِبِلِ الَّتِي تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ، وَفِيهَا فِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَفِيهَا لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ.

مسألة خير القرون القرن الذي رأوا رسول الله ثم الذين يلونهم

وَفِي لَفْظٍ: هَلْ عَهِدَ إلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إلَى النَّاسِ فَنَفَى ذَلِكَ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ عَنْهُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ ادَّعَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَصَّهُ بِعِلْمٍ فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ. وَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ أَنَّهُ شَرِبَ مِنْ غُسْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَوْرَثَهُ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، مِنْ أَقْبَحِ الْكَذِبِ الْبَارِدِ، فَإِنَّ شُرْبِ غُسْلِ الْمَيِّتِ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ وَلَا شَرِبَ عَلِيٌّ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ هَذَا يُوجِبُ الْعِلْمَ لَشَرِكَهُ فِي ذَلِكَ كُلُّ مَنْ حَضَرَ، وَلَمْ يَرْوِ هَذَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَكَذَلِكَ مَا يُذْكَرُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بَاطِنٌ امْتَازَ بِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا، فَهَذَا مِنْ مَقَالَاتِ الْمَلَاحِدَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ هُمْ أَكْفَرُ مِنْهُمْ، بَلْ فِيهِمْ مِنْ الْكُفْرِ مَا لَيْسَ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، كَاَلَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ إلَهِيَّتَهُ وَنُبُوَّتَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ كَانَ مُعَلِّمًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبَاطِنِ، وَنَحْوُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي إنَّمَا يَقُولُهَا الْغُلَاةُ فِي الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ خَيْرَ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ] 1019 - 8 مَسْأَلَةٌ: عَنْ قَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ فِي آخِرِ عَقِيدَتِهِ: وَأَنَّ خَيْرَ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآمَنُوا بِهِ. ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. وَأَفْضَلُ الصَّحَابَةِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ. فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى تَفْضِيلِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عُمَرَ، وَتَفْضِيلِ عُمَرَ عَلَى عُثْمَانَ، وَعُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ. فَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَهَلْ تَجِبُ عُقُوبَةُ مَنْ يُفَضِّلُ الْمَفْضُولَ عَلَى الْفَاضِلِ أَمْ لَا. بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ بَيَانًا مَبْسُوطًا مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَمَّا تَفْضِيلُ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرَ عَلَى عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ فَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْإِمَامَةِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَهْلِ مِصْرَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَهْلِ الشَّامِ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ

وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ لَهُمْ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ. وَحَكَى مَالِكٌ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: مَا أَدْرَكْتُ أَحَدًا مِمَّنْ اُقْتُدِيَ بِهِ يَشُكُّ فِي تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: يَا أَبَتِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ أَوَمَا تَعْرِفُ؟ قُلْت: لَا قَالَ: أَبُو بَكْرٍ، قُلْت: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ عُمَرُ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ وَجْهًا، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ، بَلْ قَالَ: لَا أُوتَى بِأَحَدٍ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْتُهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي. فَمَنْ فَضَّلَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ جُلِدَ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَمَانِينَ سَوْطًا. وَكَانَ سُفْيَانُ يَقُولُ مَنْ فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ، وَمَا أَرَى أَنَّهُ يَصْعَدُ لَهُ إلَى اللَّهِ عَمَلٌ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ رُوِيَ هَذَا التَّفْضِيلُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ قَالَ: «يَا عَلِيُّ هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ إلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ» . وَقَدْ اسْتَفَاضَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرِهِمْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ يَعْنِي بِنَفْسِهِ» . وَفِي الصَّحِيحِ: «أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: إنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّ

صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ أَلَا لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا سُدَّتْ إلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ» . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْمُخَالَّةَ لَوْ كَانَتْ مُمْكِنَةً مِنْ الْمَخْلُوقِينَ إلَّا أَبَا بَكْرٍ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَلَا أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلَيْك؟ قَالَ عَائِشَةُ قَالَ: فَمِنْ الرِّجَالِ؟ قَالَ: أَبُوهَا» . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّهُ قَالَ «لِعَائِشَةَ اُدْعِي لِي أَبَاك وَأَخَاك حَتَّى أَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي ثُمَّ قَالَ يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إلَّا أَبَا بَكْرٍ» . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ جِئْتُ فَلَمْ أَجِدْك، كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْتَ، قَالَ فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ» . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ: «أَنَّهُ قَالَ اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ «أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ فَقَالَ إنْ يُطِعْ الْقَوْمُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا» . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ: قَالَ «رَأَيْت كَأَنِّي وُضِعْت فِي كِفَّةٍ وَالْأُمَّةُ فِي كِفَّةٍ فَرَجَحْتُ بِالْأُمَّةِ ثُمَّ وُضِعَ أَبُو بَكْرٍ فِي كِفَّةٍ وَالْأُمَّةُ فِي كِفَّةٍ فَرَجَحَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ وُضِعَ عُمَرُ فِي كِفَّةٍ وَالْأُمَّةُ فِي كِفَّةٍ فَرَجَحَ عُمَرُ» . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ: «كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَلَامٌ، فَطَلَبَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ عُمَرَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ اجْلِسْ يَا أَبَا بَكْرٍ يَغْفِرُ اللَّهُ لَك وَنَدِمَ عُمَرُ فَجَاءَ إلَى مَنْزِلِ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ

فَغَضِبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي جِئْت إلَيْكُمْ فَقُلْت إنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَقُلْتُمْ كَذَبْت، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي» فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا. فَقَدْ تَوَاتَرَ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا مَرِضَ قَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى قَالَ: إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ» . فَهَذَا التَّخْصِيصُ وَالتَّكْرِيرُ وَالتَّوْكِيدُ فِي تَقْدِيمِهِ فِي الْإِمَامَةِ عَلَى سَائِرِ الصَّحَابَةِ مَعَ حُضُورِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا بَيَّنَ لِلْأُمَّةِ تَقَدُّمَهُ عِنْدَهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ جِنَازَةَ عُمَرَ لَمَّا وُضِعَتْ جَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَتَخَلَّلُ الصُّفُوفَ ثُمَّ قَالَ: لَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَك اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْك فَإِنِّي كَثِيرًا مَا كُنْت أَسْمَعُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " دَخَلْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَذَهَبْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ " -: فَهَذَا يُبَيِّنُ مُلَازَمَتَهُمَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ وَذَهَابِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ لِلرَّشِيدِ لَمَّا قَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ مَنْزِلَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْزِلَتُهُمَا مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ كَمَنْزِلَتِهِمَا مِنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَقَالَ شَفَيْتنِي يَا مَالِكُ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ لَهُمَا مِنْ اخْتِصَاصِهِمَا بِصُحْبَتِهِ وَمُؤَازَرَتِهِمَا لَهُ عَلَى أَمْرِهِ وَمُبَاطَنَتِهِمَا مِمَّا يَعْلَمُهُ بِالِاضْطِرَارِ كُلُّ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِأَحْوَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَسِيرَتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَتَنَازَعْ فِي هَذَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسِيرَتِهِ وَسُنَّتِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَإِنَّمَا يَنْفِي هَذَا أَوْ يَقِفُ فِيهِ مَنْ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ أُمُورِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ كَلَامٍ أَوْ فِقْهٍ أَوْ حِسَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ مَنْ يَكُونُ قَدْ سَمِعَ أَحَادِيثَ مَكْذُوبَةً تُنَاقِضُ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَعْلُومَةَ بِالِاضْطِرَارِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَتَوَقَّفَ فِي الْأَمْرِ أَوْ رَجَّحَ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ. وَهَذَا كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْمَعْلُومَةِ بِالِاضْطِرَارِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ يَشُكُّ فِيهَا أَوْ يَنْفِيهَا كَالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ عِنْدَهُمْ فِي شَفَاعَتِهِ وَحَوْضِهِ، وَخُرُوجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ، وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ عِنْدَهُمْ فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْعُلُوِّ وَالرُّؤْيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِسُنَّتِهِ لَمَّا تَوَاتَرَتْ عِنْدَهُمْ

عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ، كَمَا تَوَاتَرَتْ عِنْدَ الْخَاصَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْهُ الْحُكْمُ بِالشُّفْعَةِ وَتَحْلِيفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَرَجْمُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَاعْتِبَارُ النِّصَابِ فِي السَّرِقَةِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُنَازِعُهُمْ فِيهَا بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ. وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مُتَّفِقِينَ عَلَى تَبْدِيعِ مَنْ خَالَفَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُصُولِ بِخِلَافِ مَنْ نَازَعَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ هَذَا الْمَبْلَغَ فِي تَوَاتُرِ السُّنَنِ عَنْهُ، كَالتَّنَازُعِ بَيْنَهُمْ فِي الْحُكْمِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَفِي الْقَسَامَةِ وَالْقُرْعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ هَذَا الْمَبْلَغَ. وَأَمَّا عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، فَهَذِهِ دُونَ تِلْكَ، فَإِنَّ هَذِهِ كَانَ قَدْ حَصَلَ فِيهَا نِزَاعٌ، فَإِنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَطَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ رَجَّحُوا عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ سُفْيَانُ وَغَيْرُهُ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَوَقَّفَ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَهِيَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى عَنْهُ تَقْدِيمُ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ سَائِرِ الْأَئِمَّةِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ حَتَّى إنَّ هَؤُلَاءِ تَنَازَعُوا فِيمَنْ يُقَدِّمُ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ هَلْ يُعَدُّ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ، عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَدْ قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَالدَّارَقُطْنِيّ: مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَأَيُّوبُ هَذَا إمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَإِمَامُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ، وَكَانَ لَا يَرْوِي عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرِّوَايَةِ عَنْهُ فَقَالَ مَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ أَحَدٍ إلَّا وَأَيُّوبُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْته مُقْعَدًا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا ذَكَرْته إلَّا اقْشَعَرَّ جِسْمِي. وَالْحُجَّةُ لِهَذَا مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: عَنْ «ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نُفَاضِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنَّا نَقُولُ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ» وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ: يَبْلُغُ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُنْكِرُهُ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَغَيْرِ الْبُخَارِيِّ، أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا جَعَلَ الْخِلَافَةَ شُورَى فِي سِتَّةِ أَنْفُسٍ: عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَسَعْدٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَلَمْ يُدْخِلْ مَعَهُمْ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ،

وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَكَانَ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ قَبِيلَةِ عُمَرَ، وَقَالَ عَنْ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: يَحْضُرُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ وَلَيْسَ لَهُ فِي الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَوَصَّى أَنْ يُصَلِّيَ صُهَيْبٌ بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى يَتَّفِقُوا عَلَى وَاحِدٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ عُمَرُ وَاجْتَمَعُوا عِنْدَ الْمِنْبَرِ قَالَ طَلْحَةُ: وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَهُوَ لِعُثْمَانَ وَقَالَ الزُّبَيْرُ: مَا كَانَ لِي مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَهُوَ لِعَلِيٍّ، وَقَالَ سَعْدٌ: مَا كَانَ لِي مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَهُوَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَخَرَجَ ثَلَاثَةٌ وَبَقِيَ ثَلَاثَةٌ، فَاجْتَمَعُوا فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَنَا أَخْرُجُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: عَلَيْهِ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ أَنْ يُوَلِّيَ أَفْضَلَهُمَا ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا يُشَاوِرُ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَيُشَاوِرُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُشَاوِرُ أُمَرَاءَ الْأَمْصَارِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ حَجُّوا مَعَ عُمَرَ، وَشَهِدُوا مَوْتَهُ، حَتَّى قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إنَّ لِي ثَلَاثًا مَا اغْتَمَضْت بِنَوْمٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ لِعُثْمَانَ: عَلَيْك عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ إنْ وَلَّيْتُكَ لَتَعْدِلَنَّ، وَلَئِنْ وَلَّيْت عَلِيًّا لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ، قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ لِعَلِيٍّ: عَلَيْك عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ إنْ وَلَّيْتُك لَتَعْدِلَنَّ وَلَئِنْ وَلَّيْت عُثْمَانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ، قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: إنِّي رَأَيْت النَّاسَ لَا يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ. فَبَايَعَهُ عَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَسَائِرُ الْمُسْلِمِينَ بَيْعَةَ رِضًى وَاخْتِيَارٍ مِنْ غَيْرِ رَغْبَةٍ أَعْطَاهُمْ إيَّاهَا وَلَا رَهْبَةٍ خَوَّفَهُمْ بِهَا. وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ، فَلِهَذَا قَالَ أَيُّوبُ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَالدَّارَقُطْنِيّ: مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ وَقَدْ قَدَّمُوهُ كَانُوا جَاهِلِينَ بِفَضْلِهِ، وَإِمَّا ظَالِمِينَ بِتَقْدِيمِ الْمَفْضُولِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ دِينِيٍّ، وَمَنْ نَسَبَهُمْ إلَى الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ فَقَدْ أَزْرَى بِهِمْ. وَلَوْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّهُمْ قَدَّمُوا عُثْمَانَ لِضِغْنٍ كَانَ فِي نَفْسِ بَعْضِهِمْ عَلَى عَلِيٍّ وَأَنَّ أَهْلَ الضِّغْنِ كَانُوا ذَوِي شَوْكَةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُهُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ، فَقَدْ نَسَبَهُمْ إلَى الْعَجْزِ عَنْ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ، وَظُهُورُ أَهْلِ الْبَاطِلِ مِنْهُمْ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ هَذَا وَهْمٌ فِي أَعَزِّ مَا كَانُوا وَأَقْوَى مَا كَانُوا، فَإِنَّهُ حِينَ مَاتَ عُمَرُ كَانَ الْإِسْلَامُ مِنْ الْقُوَّةِ وَالْعِزِّ وَالظُّهُورِ وَالِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِلَافِ فِيمَا لَمْ يَصِيرُوا فِي مِثْلِهِ قَطُّ. وَكَانَ عُمَرُ أَعَزَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَأَذَلَّ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ إلَى حَدٍّ بَلَغَ فِي الْقُوَّةِ وَالظُّهُورِ مَبْلَغًا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِالْأُمُورِ. فَمَنْ جَعَلَهُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ جَاهِلِينَ أَوْ ظَالِمِينَ أَوْ عَاجِزِينَ عَنْ

الْحَقِّ فَقَدْ أَزْرَى بِهِمْ وَجَعَلَ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ عَلَى خِلَافِ مَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ لَهُمْ. وَهَذَا هُوَ أَصْلُ مَذْهَبِ الرَّافِضَةِ، فَإِنَّ الَّذِي ابْتَدَعَ الرَّفْضَ كَانَ يَهُودِيًّا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ نِفَاقًا وَدَسَّ إلَى الْجِهَادِ دَسَائِسَ يَقْدَحُ بِهَا فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا كَانَ الرَّفْضُ أَعْظَمَ أَبْوَابِ النِّفَاقِ وَالزَّنْدَقَةِ. فَإِنَّهُ يَكُونُ الرَّجُلُ وَاقِفًا ثُمَّ يَصِيرُ مُفَضِّلًا ثُمَّ يَصِيرُ سَبَّابًا ثُمَّ يَصِيرُ غَالِيًا ثُمَّ يَصِيرُ جَاحِدًا مُعَطِّلًا، وَلِهَذَا انْضَمَّتْ إلَى الرَّافِضَةِ أَئِمَّةُ الزَّنَادِقَةِ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة، وَالنُّصَيْرِيَّةِ، وَأَنْوَاعِهِمْ مِنْ الْقَرَامِطَةِ، وَالْبَاطِنِيَّةِ، وَالدُّرْزِيَّةِ، وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ طَوَائِفِ الزَّنْدَقَةِ، وَالنِّفَاقِ، فَإِنَّ الْقَدْحَ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ الَّذِينَ صَحِبُوا الرَّسُولَ قَدْحٌ فِي الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ: هَؤُلَاءِ طَعَنُوا فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا طَعَنُوا فِي أَصْحَابِهِ لِيَقُولَ الْقَائِلُ رَجُلُ سُوءٍ كَانَ لَهُ أَصْحَابُ سُوءٍ، وَلَوْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا لَكَانَ أَصْحَابُهُ صَالِحِينَ. وَأَيْضًا فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَقَلُوا الْقُرْآنَ وَالْإِسْلَامَ وَشَرَائِعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ الَّذِينَ نَقَلُوا فَضَائِلَ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ. فَالْقَدْحُ فِيهِمْ يُوجِبُ أَنْ لَا يُوثَقَ بِمَا نَقَلُوهُ مِنْ الدِّينِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا تَثْبُتُ فَضِيلَةٌ لَا لِعَلِيٍّ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَالرَّافِضَةُ جُهَّالٌ لَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ وَلَا دِينٌ وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ، فَإِنَّهُ لَوْ طَلَبَ مِنْهُمْ النَّاصِبِيُّ الَّذِي يُبْغِضُ عَلِيًّا وَيَعْتَقِدُ فِسْقَهُ أَوْ كُفْرَهُ كَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يُثْبِتُوا إيمَانَ عَلِيٍّ وَفَضْلَهُ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ، بَلْ تَغْلِبُهُمْ الْخَوَارِجُ فَإِنَّ فَضَائِلَ عَلِيٍّ إنَّمَا نَقَلَهَا الصَّحَابَةُ الَّذِينَ تَقْدَحُ فِيهِمْ الرَّافِضَةُ، فَلَا يَتَيَقَّنُ لَهُ فَضِيلَةٌ مَعْلُومَةٌ عَلَى أَصْلِهِمْ، فَإِذَا طَعَنُوا فِي بَعْضِ الْخُلَفَاءِ بِمَا يَفْتَرُونَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ طَلَبُوا الرِّيَاسَةَ وَقَاتَلُوا عَلَى ذَلِكَ، كَانَ طَعْنُ الْخَوَارِجِ فِي عَلِيٍّ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَأَضْعَافِهِ أَقْرَبَ مِنْ دَعْوَى ذَلِكَ عَلَى مَنْ أُطِيعَ بِلَا قِتَالٍ، وَلَكِنَّ الرَّافِضَةَ جُهَّالٌ مُتَّبِعُونَ الزَّنَادِقَةَ. الْقُرْآنُ قَدْ أَثْنَى عَلَى الصَّحَابَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] . وقَوْله تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] .

مسألة الروح المؤمنة الملائكة تتلقاها وتصعد بها من سماء إلى السماء التي فيها الله

وَقَالَ تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] . وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ: أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُسْتَفِيضَةٌ بَلْ مُتَوَاتِرَةٌ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَتَفْضِيلِ قَرْنِهِمْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ، فَالْقَدْحُ فِيهِمْ قَدْحٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَلِهَذَا تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي تَكْفِيرِ الرَّافِضَةِ بِمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الرُّوحِ الْمُؤْمِنَةِ الْمَلَائِكَةَ تَتَلَقَّاهَا وَتَصْعَدُ بِهَا مِنْ سَمَاءٍ إلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ] 1020 - 9 مَسْأَلَةٌ: عَنْ الرُّوحِ الْمُؤْمِنَةِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَلَقَّاهَا وَتَصْعَدُ بِهَا مِنْ سَمَاءٍ

إلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ. وَعَنْ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْمَشَايِخِ. وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَئِمَّةِ فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: أَمَّا تَرْجِيحُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ وَالْمَشَايِخِ عَلَى بَعْضٍ، مِثْلَ مَنْ يُرَجِّحُ إمَامَهُ الَّذِي تَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِهِ، أَوْ يُرَجِّحُ شَيْخَهُ الَّذِي اقْتَدَى بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَنْ يُرَجِّحُ الشَّيْخَ عَبْدَ الْقَادِرِ، أَوْ الشَّيْخَ أَبَا مَدْيَنَ، أَوْ أَحْمَدَ، أَوْ غَيْرَهُمْ، فَهَذَا الْبَابُ أَكْثَرُ النَّاسِ يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ بِالظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ مَرَاتِبِ الْأَئِمَّةِ وَالْمَشَايِخِ، وَلَا يَقْصِدُونَ اتِّبَاعَ الْحَقِّ الْمُطْلَقِ، بَلْ كُلُّ إنْسَانٍ تَهْوَى نَفْسُهُ أَنْ يُرَجِّحَ مَتْبُوعَهُ، فَيُرَجِّحَهُ بِظَنٍّ يَظُنُّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بُرْهَانٌ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى تَحَاجِّهِمْ وَتَقَاتُلِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ. وَهَذَا مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105] {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ. فَمَا دَخَلَ فِي هَذَا الْبَابِ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ مِنْ التَّعَصُّبِ وَالتَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ التَّكَلُّمُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ. وَأَمَّا مَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ فَضْلُ إمَامٍ عَلَى إمَامٍ، أَوْ شَيْخٍ عَلَى شَيْخٍ، بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ، كَمَا تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ أَيُّمَا أَفْضَلُ التَّرْجِيعُ فِي الْأَذَانِ أَوْ تَرْكُهُ، وَإِفْرَادُ الْإِقَامَةِ أَوْ

إثْنَاؤُهَا وَصَلَاةُ الْفَجْرِ بِغَلَسٍ أَوْ الْإِسْفَارُ بِهَا، وَالْقُنُوتُ فِي الْفَجْرِ أَوْ تَرْكُهُ، وَالْجَهْرُ بِالتَّسْمِيَةِ أَوْ الْمُخَافَتَةُ بِهَا، أَوْ تَرْكُ قِرَاءَتِهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذِهِ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ أَقَرَّ الْآخَرَ عَلَى اجْتِهَادِهِ مَنْ كَانَ فِيهَا أَصَابَ الْحَقَّ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمَنْ كَانَ قَدْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ، فَمَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ مَالِكٍ، وَمَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ أَحْمَدَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَلَا أَحَدَ فِي الْإِسْلَامِ يُجِيبُ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ بِجَوَابٍ عَامٍّ أَنَّ فُلَانًا أَفْضَلُ مِنْ فُلَانٍ فَيُقْبَلُ مِنْهُ هَذَا الْجَوَابُ، لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُرَجِّحُ مَتْبُوعَهَا، فَلَا تَقْبَلُ جَوَابَ مَنْ يُجِيبُ بِمَا يُخَالِفُهَا فِيهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ يُرَجِّحُ قَوْلًا أَوْ عَمَلًا لَا يَقْبَلُ قَوْلَ مَنْ يُفْتِي بِخِلَافِ ذَلِكَ، لَكِنْ إنْ كَانَ الرَّجُلُ مُقَلِّدًا لِمَنْ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ. وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا اجْتَهَدَ وَاتَّبَعَ مَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] . لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَّبِعَ هَوَاهُ وَلَا يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ عِلْمٍ. قَالَ تَعَالَى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66] . وَقَالَ تَعَالَى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6] . وَمَا مِنْ إمَامٍ إلَّا لَهُ مَسَائِلُ يَتَرَجَّحُ فِيهَا قَوْلُهُ عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ. وَلَا يَعْرِفُ هَذَا التَّفَاضُلَ إلَّا مَنْ خَاضَ فِي تَفَاصِيلِ الْعِلْمِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي قَبْضِ رُوحِ الْمُؤْمِنِ وَأَنَّهُ يُصْعَدُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ، فَهَذَا حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ. وَقَوْلُهُ " فِيهَا اللَّهُ " بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ - أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16 - 17]

مسألة أيما أفضل يوم عرفة أو الجمعة أو الفطر أو النحر

وَبِمَنْزِلَةِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِجَارِيَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ: أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» : وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ السَّمَاءَ تَحْصُرُ الرَّبَّ وَتَحْوِيهِ كَمَا تَحْوِي الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَغَيْرَهُمَا، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا يَعْتَقِدُهُ عَاقِلٌ فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255] وَالسَّمَوَاتُ فِي الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ. وَالْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ، وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ، وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] وَقَالَ: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة: 2] . وَقَالَ: {يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 26] وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ فِي جَوْفِ النَّخْلِ، وَجَوْفِ الْأَرْضِ، بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَعَلَيْهَا بَائِنٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَقَالَ: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] . وَقَالَ تَعَالَى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] . وَقَالَ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَجَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. [مَسْأَلَةٌ أَيُّمَا أَفْضَلُ يَوْمٍ عَرَفَةَ أَوْ الْجُمُعَةِ أَوْ الْفِطْرِ أَوْ النَّحْرِ]

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَأَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ فِي السُّنَنِ: عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْفِطْرِ» . لِأَنَّهُ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: يَوْمُ النَّحْرِ هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ» وَفِيهِ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا لَا يُعْمَلُ فِي غَيْرِهِ: كَالْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَحْدَهَا، وَالنَّحْرِ، وَالْحَلْقِ وَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ، فَإِنَّ فِعْلَ هَذِهِ فِيهِ أَفْضَلُ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الملاهي

[كِتَابُ الْمَلَاهِي] [مَسْأَلَةٌ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ] 1022 - 1 كِتَابُ الْمَلَاهِي مَسْأَلَةٌ: عَنْ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ، أَحَرَامٌ هُوَ أَمْ مَكْرُوهٌ أَمْ مُبَاحٌ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ حَرَامٌ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَإِنْ قُلْتُمْ مَكْرُوهٌ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى كَرَاهَتِهِ، أَوْ يُبَاحُ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَتِهِ؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، اللَّعِبُ بِهَا مِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ مُتَّفَقٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمَكْرُوهٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَلَيْسَ مِنْ اللَّعِبِ بِهَا مَا هُوَ مُبَاحٌ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ اشْتَمَلَ اللَّعِبُ بِهَا عَلَى الْعِوَضِ كَانَ حَرَامًا بِالِاتِّفَاقِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إمَامُ الْمَغْرِبِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّعِبَ بِهَا عَلَى الْعِوَضِ قِمَارٌ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَمَلَ اللَّعِبُ بِهَا عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ، أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ مِثْلَ أَنْ يَتَضَمَّنَ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ تَرْكَ مَا يَجِبُ فِيهَا مِنْ أَعْمَالِهَا الْوَاجِبَةِ بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا، فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ حَرَامًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا صَارَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ، فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا» . فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الصَّلَاةَ صَلَاةَ الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ صَلَاتَهُمْ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 142] .

وَقَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] . وَقَدْ فَسَّرَ السَّلَفُ السَّهْوَ عَنْهَا بِتَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَبِتَرْكِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ فِيهِ، كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ صَلَاةَ الْمُنَافِقِ تَشْتَمِلُ عَلَى التَّأْخِيرِ وَالتَّطْفِيفِ. قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: إنَّ الصَّلَاةَ مِكْيَالٌ، فَمَنْ وَفَى وُفِّيَ لَهُ، وَمَنْ طَفَّفَ فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا قَالَ اللَّهُ فِي الْمُطَفِّفِينَ. وَكَذَلِكَ فَسَرُّوا قَوْلَهُ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم: 59] . قَالَ: إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا وَإِضَاعَةُ حُقُوقِهَا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إنَّ الْعَبْدَ إذَا أَكْمَلَ الصَّلَاةَ بِطُهُورِهَا وَقِرَاءَتِهَا وَخُشُوعِهَا صَعِدَتْ وَلَهَا بُرْهَانٌ كَبُرْهَانِ الشَّمْسِ، وَتَقُولُ: حَفِظَك اللَّهُ كَمَا حَفِظْتنِي، وَإِذَا لَمْ يُكْمِلْ طُهُورَهَا وَقِرَاءَتَهَا وَخُشُوعَهَا فَإِنَّهَا تُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ، وَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا وَتَقُولُ: ضَيَّعَك اللَّهُ كَمَا ضَيَّعْتنِي» . وَالْعَبْدُ وَإِنْ أَقَامَ صُورَةَ الصَّلَاةِ الظَّاهِرَةَ فَلَا ثَوَابَ إلَّا عَلَى قَدْرِ مَا حَضَرَ قَلْبُهُ فِيهِ مِنْهَا، كَمَا جَاءَ فِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد، وَغَيْرِهِ: عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا، إلَّا ثُلُثُهَا، إلَّا رُبْعُهَا، إلَّا خُمُسُهَا، إلَّا سُدُسُهَا، إلَّا سُبُعُهَا، إلَّا ثُمُنُهَا، إلَّا تُسْعُهَا، إلَّا عُشْرُهَا» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْتَ مِنْهَا. وَإِذَا غَلَبَ عَلَيْهَا الْوَسْوَاسُ فَفِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْهَا وَوُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ، وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمَا ".

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الشِّطْرَنْجَ مَتَى شَغَلَ عَمَّا يَجِبُ بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَشَغْلُهُ عَنْ إكْمَالِ الْوَاجِبَاتِ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى بَسْطٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَغَلَ عَنْ وَاجِبٍ مِنْ غَيْرِ الصَّلَاةِ مِنْ مَصْلَحَةِ النَّفْسِ أَوْ الْأَهْلِ، أَوْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، أَوْ صِلَةِ الرَّحِمِ أَوْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ، أَوْ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ مِنْ نَظَرٍ فِي وِلَايَةٍ أَوْ إمَامَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ، وَقَلَّ عَبْدٌ اشْتَغَلَ بِهَا إلَّا شَغَلَتْهُ عَنْ وَاجِبٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ التَّحْرِيمَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مُحَرَّمٍ أَوْ اسْتَلْزَمَتْ مُحَرَّمًا. فَإِنَّهَا تَحْرُمُ بِالِاتِّفَاقِ، مِثْلَ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْكَذِبِ وَالْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ، أَوْ الْخِيَانَةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمُغَاضَاةَ أَوْ عَلَى الظُّلْمِ، أَوْ الْإِعَانَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ فِي الشِّطْرَنْجِ، وَالنَّرْدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ أَنَّهَا مُسْتَلْزِمَةٌ فَسَادًا غَيْرَ ذَلِكَ مِثْلَ اجْتِمَاعٍ عَلَى مُقَدِّمَاتِ الْفَوَاحِشِ، أَوْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْعُدْوَانِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ مِثْلَ أَنْ يُفْضِيَ اللَّعِبُ بِهَا إلَى الْكَثْرَةِ وَالظُّهُورِ الَّذِي يُشْتَمَلُ مَعَهُ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ فَهَذِهِ الصُّوَرُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا يَتَّفِقُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِهَا فِيهَا. وَإِذَا قُدِّرَ خُلُوُّهَا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَالْمَنْقُولُ عَنْ الصَّحَابَةِ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ، وَصَحَّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ فَقَالَ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟ شَبَّهَهُمْ بِالْعَاكِفِينَ عَلَى الْأَصْنَامِ، كَمَا فِي الْمُسْنَدِ عَنْ «النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ» . وَالْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ قَرِينَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْهَا مَعْرُوفٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ، وَأَحْمَدَ، وَأَصْحَابِهِ تَحْرِيمُهَا. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ اللَّعِبَ بِهَا لِلْخَبَرِ، وَاللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالْحَمَامِ بِغَيْرِ قِمَارٍ وَإِنْ كَرِهْنَاهُ أَخَفُّ حَالًا مِنْ النَّرْدِ، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْهُ غَيْرُ هَذَا اللَّفْظِ مِمَّا مَضْمُونُهُ

أَنَّهُ يَكْرَهُهَا وَيَرَاهَا دُونَ النَّرْدِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ كَرَاهَتَهُ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ فَإِنَّهُ قَالَ لِلْخَبَرِ. وَلَفْظُ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ هُوَ عَنْ مَالِكٍ «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . فَإِذًا كَرِهَ الشِّطْرَنْجَ وَإِنْ كَانَتْ أَخَفَّ مِنْ النَّرْدِ وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي التَّحْرِيمِ وَقَالَ لَا يَتَبَيَّنُ لِي أَنَّهَا حَرَامٌ، وَمَا بَلَغَنَا أَنَّ أَحَدًا نَقَلَ عَنْهُ لَفْظًا يَقْتَضِي نَفْيَ التَّحْرِيمِ. وَالْأَئِمَّةُ الَّذِينَ لَمْ تَخْتَلِفْ أَصْحَابُهُمْ فِي تَحْرِيمِهَا أَكْثَرُ أَلْفَاظِهِمْ الْكَرَاهَةُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ، وَلَا بِالشِّطْرَنْجِ، وَقَالُوا: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُدْمِنِ الْمُوَاظِبِ عَلَى لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ. وَقَالَ يَحْيَى: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: لَا خَيْرَ فِي الشِّطْرَنْجِ وَغَيْرِهَا، وَسَمِعْته يَكْرَهُ اللَّعِبَ بِهَا وَبِغَيْرِهَا مِنْ الْبَاطِلِ، وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْرَهُ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ، فَالْأَرْبَعَةُ تُحَرِّمُ كُلَّ اللَّهْوِ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْجُمْهُورُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: هَلْ يُسَلَّمُ عَلَى اللَّاعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ، فَمَنْصُوصُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ وَالْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ، وَغَيْرِهِمْ: أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ: أَنَّهُ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ، وَمَعَ هَذَا أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ أَنَّ الشِّطْرَنْجَ شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ. وَمَذْهَبَ أَحْمَدَ: أَنَّ النَّرْدَ شَرٌّ مِنْ الشِّطْرَنْجِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ. وَالتَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا إذَا اشْتَمَلَا عَلَى عِوَضٍ، أَوْ خَلَوَا عَنْ عِوَضٍ فَالشِّطْرَنْجُ شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ النَّرْدِ فِيهَا وَزِيَادَةً مِثْلَ صَدِّ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَعَنْ الصَّلَاةِ،

وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا يُقَالُ: إنَّ الشِّطْرَنْجَ عَلَى مَذْهَبِ الْقَدَرِ وَالنَّرْدَ عَلَى مَذْهَبِ الْجَبْرِ، وَاشْتِغَالُ الْقَلْبِ بِالتَّفَكُّرِ فِي الشِّطْرَنْجِ أَكْثَرُ. وَأَمَّا إذَا اشْتَمَلَ النَّرْدُ عَلَى عِوَضٍ فَالنَّرْدُ شَرٌّ وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي كَوْنِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا جَعَلُوا النَّرْدَ شَرًّا لِاسْتِشْعَارِهِمْ أَنَّ الْعِوَضَ يَكُونُ فِي النَّرْدِ دُونَ الشِّطْرَنْجِ. وَمِنْ هُنَا تَبِينُ الشُّبْهَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْمَيْسِرَ فِي كِتَابِهِ، وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُغَالَبَاتِ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْقِمَارِ مِنْ الْمَيْسِرِ، سَوَاءٌ كَانَ بِالشِّطْرَنْجِ، أَوْ بِالنَّرْدِ، أَوْ بِالْجَوْزِ، أَوْ بِالْكِعَابِ، أَوْ الْبَيْضِ، قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ التَّابِعِينَ كَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْقِمَارِ فَهُوَ مِنْ الْمَيْسِرِ حَتَّى لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِالْجَوْزِ. فَاَلَّذِينَ لَمْ يُحَرِّمُوا الشِّطْرَنْجَ كَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ اعْتَقَدُوا أَنَّ لَفْظَ الْمَيْسِرِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا مَا كَانَ قِمَارًا، فَيَحْرُمُ لِمَا فِيهِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، كَمَا يَحْرُمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمُسَابَقَةِ. وَالْمُنَاضَلَةِ لَوْ أَخْرَجَ كُلٌّ مِنْهُمَا السَّبَقَ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلٌ حَرَّمُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ قِمَارٌ. وَفِي السُّنَنِ: عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ آمِنٌ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ» . وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ بُيُوعَ الْغَرَرِ، لِأَنَّهَا مِنْ نَوْعِ الْقِمَارِ، مِثْلَ: أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ الْآبِقَ، وَالْبَعِيرَ الشَّارِدَ، فَإِنْ وَجَدَهُ كَانَ قَدْ قَمَرَ الْبَائِعَ وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ قَمَرَهُ. فَلَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ هَذِهِ الْمُغَالَبَاتِ إنَّمَا حَرُمَتْ لِمَا فِيهَا مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ لَمْ يُحَرِّمُوهَا إذَا خَلَتْ عَنْ الْعِوَضِ، وَلِهَذَا طَرَدَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي النَّرْدِ فَلَمْ يُحَرِّمُوهَا إلَّا مَعَ الْعِوَضِ، لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرَ مَذْهَبِهِ تَحْرِيمُ النَّرْدِ مُطْلَقًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عِوَضٌ، وَلِهَذَا قَالَ: أَكْرَهُهَا لِلْخَبَرِ، فَبَيَّنَ أَنَّ مُسْتَنِدَهُ فِي ذَلِكَ الْخَبَرُ لَا الْقِيَاسُ عِنْدَهُ. وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إذَا حَرُمَ النَّرْدُ وَلَا عِوَضَ عَلَيْهِ فِيهَا، فَالشِّطْرَنْجُ

إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهَا فَلَيْسَ دُونَهَا، وَهَذَا يَعْرِفُهُ مَنْ خَبَرَ حَقِيقَةَ اللَّعِبِ بِهَا، فَإِنَّ مَا فِي النَّرْدِ مِنْ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَعَنْ إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ هُوَ فِي الشِّطْرَنْجِ أَكْثَرُ بِلَا رَيْبٍ، وَهِيَ تَفْعَلُ فِي النُّفُوسِ فِعْلَ حُمَيَّا الْكُؤُوسِ. فَتَصُدُّ عُقُولَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بِهِمْ كَثِيرٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْخُمُورِ وَالْحَشِيشَةِ، وَقَلِيلُهَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهَا فَتَحْرِيمُ النَّرْدِ الْخَالِيَةِ عَنْ عِوَضٍ مَعَ إبَاحَةِ الشِّطْرَنْجِ، مِثْلُ تَحْرِيمِ الْفِطْرَةِ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ وَإِبَاحَةِ الْغَرْفَةِ مِنْ نَبِيذِ الْحِنْطَةِ. وَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ فِي غَايَةِ التَّنَاقُضِ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِبَارِ، وَالْقِيَاسِ، وَالْعَدْلِ، فَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ. وَتَحْرِيمُ النَّرْدِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ، وَرِوَايَتُهُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ بَلَغَهَا أَنَّ أَهْلَ بَيْتٍ فِي دَارِهَا كَانُوا سُكَّانًا لَهَا عِنْدَهُمْ نَرْدٌ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِمْ إنْ لَمْ تُخْرِجُوهَا لَأُخْرِجُكُمْ مِنْ دَارِي، وَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَمَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا وَجَدَ مِنْ أَهْلِهِ مَنْ يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ ضَرَبَهُ وَكَسَرَهَا. وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ: عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذُكِرَتْ عِنْدَهُ فَقَالَ: عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَنْ ضَرَبَ بِكِعَابِهَا يَلْعَبُ بِهَا» فَعَلَّقَ الْمَعْصِيَةَ بِمُجَرَّدِ اللَّعِبِ بِهَا وَلَمْ يَشْتَرِطْ عِوَضًا بَلْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ الضَّرْبُ بِكِعَابِهَا. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ» . وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «فَلْيُشَقِّصْ الْخَنَازِيرَ» فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ اللَّاعِبَ بِهَا كَالْغَامِسِ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ، وَاَلَّذِي يُشَقِّصُ الْخَنَازِيرَ، يُقَصِّبُهَا وَيُقَطِّعُ لَحْمَهَا كَمَا يَصْنَعُ الْقَصَّابُ، وَهَذَا التَّشْبِيهُ مُتَنَاوِلٌ اللَّعِبَ بِهَا بِالْيَدِ، سَوَاءٌ وُجِدَ أَكْلٌ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، كَمَا أَنَّ غَمْسَ الْيَدِ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ وَتَشْقِيصِ لَحْمِهِ مُتَنَاوِلٌ

لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ أَكْلٌ بِالْفَمِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ يُنْهَى عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَهَذَا يَتَقَرَّرُ بِوُجُوهٍ يَتَبَيَّنُ بِهَا تَحْرِيمُ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ وَنَحْوِهِمَا: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: النَّهْيُ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِصُورَةِ الْمُقَامَرَةِ فَقَطْ، فَإِنَّهُ لَوْ بَذَلَ الْعِوَضَ أَحَدُ الْمُتَلَاعِبَيْنِ أَوْ أَجْنَبِيٌّ لَكَانَ مِنْ صُوَرِ الْجَعَالَةِ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ إلَّا فِيمَا يَنْفَعُ: كَالْمُسَابَقَةِ، وَالْمُنَاضَلَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْأَسْبَقِ: «إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ» لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ فِي الدِّينِ، وَلَا فِي الدُّنْيَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِمَارًا، وَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ حَرَامٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَهَذِهِ الْمَلَاعِبُ مِنْ الْبَاطِلِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ، أَوْ تَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، أَوْ مُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ» . قَوْلُهُ: " مِنْ الْبَاطِلِ " أَيْ مِمَّا لَا يَنْفَعُ، فَإِنَّ الْبَاطِلَ ضِدُّ الْحَقِّ: وَالْحَقُّ يُرَادُ بِهِ الْحَقُّ الْمَوْجُودُ اعْتِقَادُهُ وَالْخَبَرُ عَنْهُ، وَيُرَادُ بِهِ الْحَقُّ الْمَقْصُودُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقْصَدَ، وَهُوَ الْأَمْرُ النَّافِعُ، فَمَا لَيْسَ مِنْ هَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ لَيْسَ بِنَافِعٍ. وَقَدْ يُرَخَّصُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَضَرَّةٌ رَاجِحَةٌ لَكِنْ لَا يُؤْكَلُ بِهِ الْمَالُ، وَلِهَذَا جَازَ السِّبَاقُ بِالْأَقْدَامِ، وَالْمُصَارَعَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنْ نُهِيَ عَنْ أَكْلِ الْمَالِ بِهِ. وَكَذَلِكَ رُخِّصَ فِي الضَّرْبِ بِالدُّفِّ فِي الْأَفْرَاحِ، وَإِنْ نُهِيَ عَنْ أَكْلِ الْمَالِ بِهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِالْمُقَامَرَةِ، فَلَا يَجُوزُ قَصْرُ النَّهْيِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ النَّرْدِ وَنَحْوِهِ لِمُجَرَّدِ الْمُقَامَرَةِ لَكَانَ النَّرْدُ مِثْلَ سِبَاقِ الْخَيْلِ، وَمِثْلَ الرَّمْيِ بِالنُّشَّابِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُقَامَرَةَ إذَا دَخَلَتْ فِي هَذَا حَرَّمُوهُ، مَعَ أَنَّهُ عَمَلٌ صَالِحٌ، وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ارْمُوا

وَارْكَبُوا، وَإِنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا» . «وَمَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ نَسِيَهُ فَلَيْسَ مِنَّا» . وَكَانَ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ يُسَابِقُونَ بَيْنَ الْخَيْلِ، وَقَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: «أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» . فَكَيْفَ يُشْبِهُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ، بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ الْمُوجِبُ لِلتَّحْرِيمِ إلَّا مُجَرَّدَ الْمُقَامَرَةِ كَانَ النَّرْدُ، وَالشِّطْرَنْجُ، كَالْمُنَاضَلَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ هَبْ أَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ فِي الْأَصْلِ هِيَ الْمُقَامَرَةُ، لَكِنَّ الشَّارِعَ قَرَنَ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِي التَّحْرِيمِ فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] . فَوَصَفَ الْأَرْبَعَةَ بِأَنَّهَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَأَمَرَ بِاجْتِنَابِهَا، ثُمَّ خَصَّ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ بِأَنَّهُ {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة: 91] . وَيُهَدِّدُ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] كَمَا عَلَّقَ الْفَلَاحَ بِالِاجْتِنَابِ فِي قَوْلِهِ: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] . وَلِهَذَا يُقَالُ إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْرَ لَمَّا أَمَرَ بِاجْتِنَابِهَا حَرُمَ مُقَارَبَتُهَا بِوَجْهٍ، فَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهَا وَلَا شُرْبُ قَلِيلِهَا، بَلْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا، وَشَقِّ ظُرُوفِهَا، وَكَسْرِ دِنَانِهَا، وَنَهَى عَنْ

تَخْلِيلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ لِيَتَامَى مَعَ أَنَّهَا اُشْتُرِيَتْ لَهُمْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ الَّذِي هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَمْرِ شَيْءٌ مُحْتَرَمٌ، لَا خَمْرَةُ الْخِلَالِ وَلَا غَيْرُهَا، وَأَنَّهُ مِنْ اتَّخَذَ خَلًّا فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْسِدَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَخَمَّرَ بِأَنْ يَصُبَّ فِي الْعَصِيرِ خَلًّا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ تَخْمِيرَهُ، بَلْ كَانَ «النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْخَلِيطَيْنِ» لِئَلَّا يَقْوَى أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَيُفْضِي إلَى أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ الْمُسْكِرَ مَنْ لَا يَدْرِي، وَنَهَى عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ الَّتِي يَدِبُّ السَّكَرُ فِيهَا وَلَا يُدْرَى مَا بِهِ: كَالدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالظَّرْفِ الْمُزَفَّتِ وَالْمَنْقُورِ مِنْ الْخَشَبِ وَأَمَرَ بِالِانْتِبَاذِ فِي السِّقَاءِ الْمُوكَئِ لِأَنَّ السَّكَرَ يُنْظَرُ. إذَا كَانَ فِي الشَّرَابِ انْشَقَّ الظَّرْفُ، وَإِنْ كَانَ فِي نَسْخِ ذَلِكَ أَوْ بَعْضِهِ نِزَاعٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ. فَالْمَقْصُودُ سَدُّ الذَّرَائِعِ الْمُفْضِيَةِ إلَى ذَلِكَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ ثَلَاثًا، وَبَعْدَ الثَّلَاثِ يَسْقِيهِ أَوْ يُرِيقُهُ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ مَظِنَّةُ سُكْرِهِ، بَلْ كَانَ أَمَرَ بِقَتْلِ الشَّارِبِ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ فَهَذَا كُلُّهُ. لِأَنَّ النُّفُوسَ لَمَّا كَانَتْ تَشْتَهِي ذَلِكَ وَفِي اقْتِنَائِهَا وَلَوْ لِلتَّخْلِيلِ مَا قَدْ يُفْضِي إلَى شُرْبِهَا، كَمَا أَنَّ شُرْبَ قَلِيلِهَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهَا فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ. فَهَذَا الْمَيْسِرُ الْمَقْرُونُ بِالْخَمْرِ إذَا قُدِّرَ أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِهِ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حُصُولِ الْمَفْسَدَةِ وَتَرْكِ الْمَنْفَعَةِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذِهِ الْمَلَاعِبَ تَشْتَهِيهَا النُّفُوسُ، وَإِذَا قَوِيَتْ الرَّغْبَةُ فِيهَا أَوْ دَخَلَ فِيهَا الْعِوَضُ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَكَانَ مِنْ حُكْمِ الشَّارِعِ أَنْ يَنْهَى عَمَّا يَدْعُو إلَى ذَلِكَ، لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُغَالَبَاتِ الَّتِي قَدْ تَنْفَعُ مِثْلَ: الْمُسَابَقَةِ وَالْمُصَارَعَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ تِلْكَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ رَاجِحَةٌ لِتَقْوِيَةِ الْأَبْدَانِ، فَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ وَلَمْ تَجْرِ عَادَةُ النُّفُوسِ بِالِاكْتِسَابِ بِهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ» فَإِنَّ الْغَامِسَ يَدَهُ فِي ذَلِكَ يَدْعُوهُ إلَى أَكْلِ الْخِنْزِيرِ، وَذَلِكَ مُقَدِّمَةُ

أَكْلِهِ وَسَبَبُهُ وَدَاعِيَتُهُ فَإِذَا حَرُمَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ اللَّعِبُ الَّذِي هُوَ مُقَدِّمَةُ أَكْلٍ بِالْبَاطِلِ وَسَبَبُهُ وَدَاعِيَتُهُ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ مَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَنَّ الْمُغَالَبَاتِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ. فَمَا كَانَ مُعِينًا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] جَازَ بِجُعْلٍ وَبِغَيْرِ جُعْلٍ، وَمَا كَانَ مُفْضِيًا إلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ: كَالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ بِجُعْلٍ وَبِغَيْرِ جُعْلٍ، وَمَا قَدْ يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ بِلَا مَضَرَّةٍ رَاجِحَةٍ كَالْمُسَابَقَةِ وَالْمُصَارَعَةِ جَازَ بِلَا جُعْلٍ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ الْمَيْسِرَ إنَّمَا حَرُمَ لِمُجَرَّدِ الْمُقَامَرَةِ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ: يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهَا. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة: 91] فَنَبَّهَ عَلَى عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَهِيَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ حُصُولِ الْمَفْسَدَةِ، وَزَوَالِ الْمَصْلَحَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ، فَإِنَّ وُقُوعَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ. وَصُدُودُ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ اللَّذَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا يَحْصُلُ فِي اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ وَنَحْوِهِمَا، وَإِنْ يَكُنْ فِيهِ عِوَضٌ، وَهُوَ فِي الشِّطْرَنْجِ أَقْوَى، فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَسْتَغْرِقُ قَلْبَهُ وَعَقْلَهُ وَفِكْرَهُ فِيمَا فَعَلَ خَصْمُهُ، وَفِيمَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ هُوَ، وَفِي لَوَازِمِ ذَلِكَ وَلَوَازِمِ لَوَازِمِهِ حَتَّى لَا يُحِسَّ بِجُوعِهِ وَلَا عَطَشِهِ، وَلَا بِمَنْ يَحْضُرُ عِنْدَهُ، وَلَا بِمَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَلَا بِحَالِ أَهْلِهِ وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَضْلًا أَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ أَوْ الصَّلَاةَ. وَهَذَا كَمَا يُجْعَلُ لِشَارِبِ الْخَمْرِ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّابِ يَكُونُ عَقْلُهُ أَصْحَى مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ، وَاللَّاعِبُ بِهَا لَا تَنْقَضِي نَهْمَتَهُ مِنْهَا إلَّا بِدَسْتٍ بَعْدَ دَسْتُ، كَمَا لَا تَنْقَضِي نَهْمَةُ شَارِبِ الْخَمْرِ إلَّا بِقَدَحٍ بَعْدَ قَدَحٍ، وَتَبْقَى آثَارُهَا فِي النَّفْسِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا أَكْثَرَ مِنْ آثَارِ شَارِبِ الْخَمْرِ، حَتَّى تَعْرِضَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ وَالْمَرَضِ وَعِنْدَ رُكُوبِ الدَّابَّةِ، بَلْ وَعِنْدَ الْمَوْتِ

وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يَطْلُبُ فِيهَا ذِكْرَهُ لِرَبِّهِ وَتَوَجُّهَهُ إلَيْهِ، تَعْرِضُ لَهُ تَمَاثِيلُهَا وَذِكْرُ الشَّاةِ وَالرُّخِّ وَالْفِرْزَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَصَدُّهَا لِلْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ صَدِّ الْخَمْرِ؛ وَهِيَ إلَى الشِّرْكِ أَقْرَبُ كَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلَاعِبِهَا: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] ، وَقَلَبَ الرُّقْعَةَ. وَكَذَلِكَ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ بِسَبَبِ غَلَبَةِ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ لِلْآخَرِ، وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ التَّظَالُمِ وَالتَّكَاذُبِ وَالْخِيَانَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَمَا يَكَادُ لَاعِبُهَا يَسْلَمُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَالْفِعْلُ إذَا اشْتَمَلَ كَثِيرًا عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَتْ الطِّبَاعُ تَقْتَضِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ، جَرَّمَهُ الشَّارِعُ قَطْعًا، فَكَيْفَ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى ذَلِكَ غَالِبًا. وَهَذَا أَصْلٌ مُسْتَمِرٌّ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي قَاعِدَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ وَغَيْرِهَا، وَبَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ أَفْضَى إلَى الْمُحَرَّمِ كَثِيرًا كَانَ سَبَبًا لِلشَّرِّ وَالْفَسَادِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَكَانَتْ مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةً، نُهِيَ عَنْهُ، بَلْ كُلُّ سَبَبٍ يُفْضِي إلَى الْفَسَادِ نُهِيَ عَنْهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ، فَكَيْفَ بِمَا كَثُرَ إفْضَاؤُهُ إلَى الْفَسَادِ، وَلِهَذَا نُهِيَ عَنْ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَأَمَّا النَّظَرُ لَهَا كَانَتْ الْحَاجَةُ تَدْعُو إلَى بَعْضِهِ وَخُصَّ مِنْهُ فِيمَا تَدْعُو لَهُ الْحَاجَةُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ سَبَبُ الْإِبَاحَةِ، كَمَا أَنَّ الْفَسَادَ وَالضَّرَرَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا رَجَحَ أَعْلَاهُمَا، كَمَا رَجَحَ عِنْدَ الضَّرَرِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، لِأَنَّ مَفْسَدَةَ الْمَوْتِ شَرٌّ مِنْ مَفْسَدَةِ الِاغْتِذَاءِ بِالْخَبِيثِ. وَالنَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ وَنَحْوُهُمَا مِنْ الْمُغَالَبَاتِ فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا لَا يُحْصَى، وَلَيْسَ فِيهَا مَصْلَحَةٌ مُعْتَبَرَةٌ، فَضْلًا عَنْ مَصْلَحَةِ مُقَاوَمَةٍ غَايَتُهُ أَنْ يُلْهِيَ وَيُرِيحَهَا عَمَّا يَقْصِدُ شَارِبُ الْخَمْرِ ذَلِكَ. وَفِي إرَاحَةِ النَّفْسِ بِالْمُبَاحِ الَّذِي لَا يَصُدُّ عَنْ الْمَصَالِحِ، وَلَا يَجْتَلِبُ الْمَقَاصِدَ غُنْيَةً، وَالْمُؤْمِنُ قَدْ أَغْنَاهُ اللَّهُ بِحَلَالِهِ عَنْ حَرَامِهِ، وَبِفَضْلِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] .

وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ: عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا أَبَا ذَرٍّ، لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَمِلُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لَوَسِعَتْهُمْ» . وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُتَّقِيَ يَدْفَعُ عَنْهُ الْمَضَرَّةَ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا مِمَّا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ، وَيَجْلِبَ لَهُ الْمَنْفَعَةَ وَيَرْزُقُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ. وَكُلُّ مَا يَتَغَذَّى بِهِ الْحَيُّ مِمَّا تَسْتَرِيحُ بِهِ النُّفُوسُ، وَتَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي طِيبِهَا وَانْشِرَاحِهَا فَهُوَ مِنْ الرِّزْقِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَرْزُقُ ذَلِكَ لِمَنْ اتَّقَاهُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ، وَمَنْ طَلَبَ ذَلِكَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ، وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْمَيْسِرِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَلَبَ ذَلِكَ بِالْخَمْرِ، وَصَاحِبُ الْخَمْرِ يَطْلُبُ الرَّاحَةَ وَلَا يَزِيدُهُ إلَّا تَعَبًا وَغَمًّا. وَإِنْ كَانَتْ تُفِيدُهُ مِقْدَارًا مِنْ السُّرُورِ فَمَا يَعْقُبُهُ مِنْ الْمَضَارِّ، وَيَفُوتُهُ مِنْ الْمَسَار أَضْعَافُ ذَلِكَ كَمَا جَرَّبَ ذَلِكَ مَنْ جَرَّبَهُ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَيْسِرَ لَمْ يُحَرَّمْ لِمُجَرَّدِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَإِنْ كَانَ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمًا، وَلَوْ تَجَرَّدَ عَنْ الْمَيْسِرِ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ فِي الْمَيْسِرِ، بَلْ فِي الْمَيْسِرِ عِلَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، كَمَا فِي الْخَمْرِ أَنَّ اللَّهَ قَرَنَ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَجَعَلَ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ هَذَا هِيَ الْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ هَذَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْرَ لَمْ تُحَرَّمْ لِمُجَرَّدِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَإِنْ كَانَ أَكْلُ ثَمَنِهَا مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، فَكَذَلِكَ الْمَيْسِرُ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ أَوَّلُ مَا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] وَالْمَنَافِعُ الَّتِي كَانَتْ قِيلَ: هِيَ الْمَالُ. وَقِيلَ هِيَ اللَّذَّةُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْرَ كَانَ فِيهَا كِلَا هَذَيْنِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِثَمَنِهَا وَالتِّجَارَةِ، فِيهَا كَمَا كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِاللَّذَّةِ الَّتِي فِي شُرْبِهَا، ثُمَّ إنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَكَذَلِكَ الْمَيْسِرُ كَانَتْ النُّفُوسُ تَنْتَفِعُ بِمَا تُحَصِّلُهُ بِهِ مِنْ الْمَالِ، وَمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ لَذَّةِ اللَّعِبِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] . لِأَنَّ الْخَسَارَةَ فِي الْمُقَامَرَةِ أَكْثَرُ، وَالْأَلَمَ وَالْمَضَرَّةَ فِي الْمُلَاعَبَةِ أَكْثَرُ. وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ لِأَكْثَرِ النَّاسِ بِالْمَيْسِرِ، إنَّمَا هُوَ الِانْشِرَاحُ بِالْمُلَاعَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ، كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ لِأَكْثَرِ النَّاسِ بِالْخَمْرِ إنَّمَا هُوَ مَا فِيهَا مِنْ لَذَّةِ الشُّرْبِ، وَإِنَّمَا حَرُمَ الْعِوَضُ فِيهَا لِأَنَّهُ أَخْذُ مَالٍ بِلَا مَنْفَعَةٍ فِيهِ، فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، كَمَا حَرُمَ ثَمَنُ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ، وَالْأَصْنَامِ، فَكَيْفَ تُجْعَلُ الْمَفْسَدَةُ الْمَالِيَّةُ هِيَ حِكْمَةُ النَّهْيِ، فَقَطْ وَهِيَ تَابِعَةٌ، وَتُتْرَكُ الْمَفْسَدَةُ الْأَصْلِيَّةُ الَّتِي هِيَ فَسَادُ الْعَقْلِ وَالْقَلْبِ، وَالْمَالُ مَادَّةُ الْبَدَنِ. وَالْبَدَنُ تَابِعُ الْقَلْبِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ بِهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ بِهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» . وَالْقَلْبُ هُوَ مَحَلُّ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِيقَةُ الصَّلَاةِ. فَأَعْظَمُ الْفَسَادِ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إفْسَادُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مِلْكُ الْبَدَنِ أَنْ يُصَدَّ عَمَّا خُلِقَ لَهُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ، وَيَدْخُلُ فِيمَا يُفْسِدُ مِنْ التَّعَادِي وَالتَّبَاغُضِ وَالصَّلَاةُ حَقُّ الْحَقِّ، وَالتَّحَابُّ وَالْمُوَالَاةُ حَقُّ الْخَلْقِ، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ أَكْلِ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَصْلَحَةَ الْبَدَنِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ الْمَالِ، وَمَصْلَحَةُ الْقَلْبِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ الْبَدَنِ، وَإِنَّمَا حُرْمَةُ الْمَالِ لِأَنَّهُ مَادَّةُ الْبَدَنِ، وَلِهَذَا قَدَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ رَبْعَ الْعِبَادَاتِ عَلَى رَبْعِ الْمُعَامَلَاتِ، وَبِهِمَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ، ثُمَّ ذَكَرُوا رَبْعَ الْمُنَاكَحَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةُ الشَّخْصِ، وَهَذَا مَصْلَحَةُ النَّوْعِ الَّذِي يَبْقَى بِالنِّكَاحِ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرُوا الْمَصَالِحَ ذَكَرُوا مَا يَدْفَعُ الْمَفَاسِدَ فِي رَبْعِ الْجِنَايَاتِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وَعِبَادَةُ اللَّهِ تَتَضَمَّنُ مَعْرِفَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَالْخُضُوعَ لَهُ، بَلْ تَتَضَمَّنُ كُلَّ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَأَصْلُ ذَلِكَ وَأَجَلُّهُ مَا فِي الْقُلُوبِ: الْإِيمَانُ، وَالْمَعْرِفَةُ، وَالْمَحَبَّةُ لِلَّهِ، وَالْخَشْيَةُ لَهُ، وَالْإِنَابَةُ إلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، وَالرِّضَى بِحُكْمِهِ، مِمَّا تَضَمَّنَهُ

الصَّلَاةُ، وَالذِّكْرُ، وَالدُّعَاءُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى ذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا الصَّلَاةُ وَذِكْرُ اللَّهِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] . وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: 7] . كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] . فَجَعَلَ السَّعْيَ إلَى الصَّلَاةِ سَعْيًا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ. وَلَمَّا كَانَتْ الصَّلَاةُ مُتَضَمِّنَةً لِذِكْرِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ الشَّرِّ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبٌ لِغَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] أَيْ ذِكْرُ اللَّهِ خَارِجَ الَّذِي فِي الصَّلَاةِ أَكْبَرُ مِنْ كَوْنِهَا عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ وَمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ هُوَ مَقْصُودُ الصَّلَاةِ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مَا دُمْتَ تَذْكُرُ اللَّهَ فَأَنْتَ فِي صَلَاةٍ وَلَوْ كُنْتَ فِي السُّوقِ. وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ قَالُوا: إنَّ مَجَالِسَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ ذِكْرُ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ هِيَ مَجَالِسُ الذِّكْرِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنْ يَعْرِفَ مَرَاتِبَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا لَا يَبْغُضُهُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ كَانَ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا، وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي يَبْغُضُهَا وَيَسْخَطُهَا، وَمَا نَهَى عَنْهُ كَانَ لِتَضَمُّنِهِ مَا يَبْغُضُهُ، وَيَسْخَطُهُ، وَمَنَعَهُ مِمَّا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقْصُرُ نَظَرُهُ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ مَصَالِحِ الْقُلُوبِ

وَالنُّفُوسِ وَمَفَاسِدِهَا، وَمَا يَنْفَعُهَا مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَمَا يَضُرُّهَا مِنْ الْغَفْلَةِ وَالشَّهْوَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم: 29] {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 30] . فَتَجِدُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لَا يَرَى مِنْ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ إلَّا مَا عَادَ لِمَصْلَحَةِ الْمَالِ وَالْبَدَنِ. وَغَايَةُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ إذَا تَعَدَّى ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى سِيَاسَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ بِمَبْلَغِهِمْ مِنْ الْعِلْمِ كَمَا يَذْكُرُ مِثْلَ ذَلِكَ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْقَرَامِطَةُ مِثْلَ أَصْحَابِ رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا وَأَمْثَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي سِيَاسَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ بِمَبْلَغِهِمْ مِنْ عِلْمِ الْفَلْسَفَةِ، وَمَا ضَمُّوا إلَيْهِ مِمَّا ظَنُّوهُ مِنْ الشَّرِيعَةِ، وَهُمْ فِي غَايَةِ مَا يَنْتَهُونَ إلَيْهِ دُونَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِكَثِيرٍ كَمَا بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْمٌ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَتَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ إذَا تَكَلَّمُوا فِي الْمُنَاسَبَةِ، وَأَنَّ تَرْتِيبَ الشَّارِعِ لِلْأَحْكَامِ عَلَى الْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ يَتَضَمَّنُ تَحْصِيلَ مَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَدَفْعَ مَضَارِّهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ نَوْعَانِ: أُخْرَوِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ، جَعَلُوا الْأُخْرَوِيَّةَ مَا فِي سِيَاسَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ مِنْ الْحُكْمِ. وَجَعَلُوا الدُّنْيَوِيَّةَ مَا تَضَمَّنَ حِفْظَ الدِّمَاءِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالْفُرُوجِ، وَالْعُقُولِ، وَالدَّيْنِ الظَّاهِرِ، وَأَعْرَضُوا عَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَأَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالِهَا كَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالرَّجَاءِ لِرَحْمَتِهِ وَدُعَائِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَكَذَلِكَ فِيمَا شَرَعَهُ الشَّارِعُ مِنْ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَحُقُوقِ الْمَمَالِيكِ وَالْجِيرَانِ وَحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ حِفْظًا لِلْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ. وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ مَا

جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ الْمَصَالِحِ. فَهَكَذَا مَنْ جَعَلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ لِمُجَرَّدِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَالنَّفْعُ الَّذِي كَانَ فِيهِمَا بِمُجَرَّدِ أَخْذِ الْمَالِ يُشْبِهُ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْمُغَالَبَاتِ تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا عَمَلًا لَا مِنْ جِهَةِ أَخْذِ الْمَالِ بِهَا لَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَلَا عَنْ الصَّلَاةِ إلَّا كَمَا يَصُدُّ سَائِرُ أَنْوَاعِ أَخْذِ الْمَالِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْوَالَ الَّتِي يُكْتَسَبُ بِهَا الْمَالُ لَا يُنْهَى عَنْهَا مُطْلَقًا لِكَوْنِهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، بَلْ يُنْهَى مِنْهَا عَمَّا يَصُدُّ عَنْ الْوَاجِبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9] . وَقَالَ تَعَالَى: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور: 37] . فَمَا كَانَ مُلْهِيًا وَشَاغِلًا عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ ذِكْرِهِ وَالصَّلَاةِ لَهُ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إنْ لَمْ يَكُنْ جِنْسُهُ مُحَرَّمًا كَالْبَيْعِ وَالْعَمَلِ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَلَوْ كَانَ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ، وَنَحْوِهِمَا فِي جِنْسِهِ مُبَاحًا، وَإِنَّمَا حَرُمَ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، كَانَ تَحْرِيمُهُ مِنْ جِنْسِ تَحْرِيمِ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ الْمُبَايَعَاتِ وَالْمُؤَاجَرَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ: كَبُيُوعِ الْغَرَرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ لَا يُعَلَّلُ النَّهْيُ عَنْهَا بِأَنَّهَا تَصُدُّ عَمَّا يَجِبُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ

الصَّحِيحَ مِنْهُ مَا كَانَ يَصُدُّ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تِلْكَ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ لَا يُعَلَّلُ تَحْرِيمُهَا بِأَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَأَنَّ الْمُعَامَلَاتِ الصَّحِيحَةَ يُنْهَى مِنْهَا عَمَّا يَصُدُّ عَنْ الْوَاجِبِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْسِرِ لَيْسَ لِكَوْنِهِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ وَأَنَّ نَفْسَ الْعَمَلِ بِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِأَجْلِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ، كَمَا حَرُمَ شُرْبُ الْخَمْرِ وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ الرِّبَا لِمَا فِيهِ مِنْ الظُّلْمِ وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، قَرَنَ بِذَلِكَ ذِكْرُ الْبَيْعِ الَّذِي هُوَ عَدْلٌ، وَقَدَّمَ عَلَيْهِ ذِكْرَ الصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ إحْسَانٌ، فَذَكَرَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ حُكْمَ الْأَمْوَالِ الْمُحْسِنِ وَالْعَادِلِ وَالظَّالِمِ. ذَكَرَ الصَّدَقَةَ، وَالْبَيْعَ، وَالرِّبَا وَالظُّلْمَ فِي الرِّبَا، وَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ بِهِ أَبْيَنُ مِنْهُ فِي الْمَيْسِرِ، فَإِنَّ الْمُرَابِيَ يَأْخُذُ فَضْلًا مُحَقَّقًا مِنْ الْمُحْتَاجِ، وَلِهَذَا عَاقَبَهُ اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَقَالَ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] . وَأَمَّا الْمُقَامِرُ فَإِنَّهُ قَدْ يَغْلِبُ فَيَظْلِمُ، وَقَدْ يُغْلَبُ فَيُظْلَمُ، فَقَدْ يَكُونُ الْمَظْلُومُ هُوَ الْغَنِيُّ وَقَدْ يَكُونُ هُوَ الْفَقِيرُ، وَظُلْمُ الْفَقِيرِ الْمُحْتَاجِ أَشَدُّ مِنْ ظُلْمِ الْغَنِيِّ، وَظُلْمٌ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الظَّالِمُ الْقَادِرُ أَعْظَمُ مِنْ ظُلْمٍ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الظَّالِمُ، فَإِنَّ ظُلْمَ الْقَادِرِ الْغَنِيِّ لِلْعَاجِزِ الضَّعِيفِ أَقْبَحُ مِنْ تَظَالُمِ قَادِرَيْنِ غَنِيَّيْنِ لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا هُوَ الَّذِي يَظْلِمُ، فَالرِّبَا فِي ظُلْمِ الْأَمْوَالِ أَعْظَمُ مِنْ الْقِمَارِ، وَمَعَ هَذَا فَتَأَخَّرَ تَحْرِيمُهُ وَكَانَ آخِرَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَيْسِرِ إلَّا مُجَرَّدُ الْقِمَارِ لَكَانَ أَخَفَّ مِنْ الرِّبَا لِتَأَخُّرِ تَحْرِيمِهِ، وَقَدْ أَبَاحَ الشَّارِعُ أَنْوَاعًا مِنْ الْغَرَرِ لِلْحَاجَةِ، كَمَا أَبَاحَ اشْتِرَاطَ ثَمَرِ النَّخْلِ بَعْدَ التَّأْبِيرِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ، وَجَوَّزَ بَيْعَ الْمُجَازَفَةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَأَمَّا الرِّبَا فَلَمْ يُبِحْ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَكِنْ أَبَاحَ الْعُدُولَ عَنْ التَّقْدِيرِ بِالْكَيْلِ إلَى التَّقْدِيرِ بِالْخَرْصِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، كَمَا أَبَاحَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ لِلْحَاجَةِ إذْ الْخَرْصُ تَقْدِيرٌ بِظَنٍّ، وَالْكَيْلُ تَقْدِيرٌ بِعِلْمٍ، وَالْعُدُولُ عَنْ الْعِلْمِ إلَى الظَّنِّ عِنْدَ الْحَاجَةِ جَائِزٌ.

فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرِّبَا أَعْظَمُ مِنْ الْقِمَارِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، لَكِنَّ الْمَيْسِرَ تُطْلَبُ بِهِ الْمُلَاعَبَةُ وَالْمُغَالَبَةُ نُهِيَ عَنْهُ فِي الْإِنْسَانِ مَعَ فَسَادِ مَالِهِ لَا لِفَسَادِ مَالِهِ، مِثْلَ مَا فِيهِ مِنْ الصُّدُودِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَكُلٌّ مِنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِيهِ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَفِيهِ الصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ أَعْظَمُ مِنْ الرَّبَّا وَغَيْره مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ. تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَيْسِرَ اشْتَمَلَ عَلَى مَفْسَدَتَيْنِ: مَفْسَدَةٌ فِي الْمَالِ، وَهِيَ أَكْلُهُ بِالْبَاطِلِ. وَمَفْسَدَةٌ فِي الْعَمَلِ؛ وَهِيَ مَا فِيهِ مِنْ مَفْسَدَةِ الْمَالِ وَفَسَادِ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ، وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ. وَكُلٌّ مِنْ الْمَفْسَدَتَيْنِ مُسْتَقِلَّةٌ بِالنَّهْيِ، فَيُنْهَى عَنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ مَيْسِرٍ كَالرِّبَا، وَيُنْهَى عَمَّا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَيُوقِعُ بِالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ. وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ أَكْلِ مَالٍ، فَإِذَا اجْتَمَعَا عَظُمَ التَّحْرِيمُ، فَيَكُونُ الْمَيْسِرُ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهِمَا أَعْظَمَ مِنْ الرِّبَا، وَلِهَذَا حَرُمَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ حَرَّمَهَا وَلَوْ كَانَ الشَّارِبُ يَتَدَاوَى بِهَا، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَحَرَّمَ بَيْعَهَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ أَكْلُ ثَمَنِهَا لَا يَسُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَلَا يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ، كُلُّ ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي الِاجْتِنَابِ، فَهَكَذَا الْمَيْسِرُ مَنْهِيٌّ عَنْ هَذَا وَعَنْ هَذَا، وَالْمُعِينُ عَلَى الْمَيْسِرِ كَالْمُعِينِ عَلَى الْخَمْرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. وَكَمَا أَنَّ الْخَمْرَ تَحْرُمُ الْإِعَانَةُ عَلَيْهَا بِبَيْعٍ، أَوْ عَصْرٍ، أَوْ سَقْيٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْإِعَانَةُ عَلَى الْمَيْسِرِ، كَبَائِعِ آلَاتِهِ، وَالْمُؤَجِّرِ لَهَا، وَالْمُذَبْذَبِ الَّذِي يُعِينُ أَحَدَهُمَا، بَلْ مُجَرَّدُ الْحُضُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيْسِرِ كَالْحُضُورِ عِنْدَ أَهْلِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ» . وَقَدْ رُفِعَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْمٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَأَمَرَ

بِضَرْبِهِمْ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّ فِيهِمْ صَائِمًا، فَقَالَ: ابْدَءُوا بِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْله تَعَالَى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140] . فَاسْتَدَلَّ عُمَرُ بِالْآيَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ حَاضِرَ الْمُنْكَرِ مِثْلَ فَاعِلِهِ، بَلْ إذَا كَانَ مَنْ دَعَا إلَى دَعْوَةٍ مُبَاحَةٍ كَدَعْوَةِ الْعُرْسِ لَا تُجَابُ دَعْوَتُهُ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مُنْكَرٍ حَتَّى يَدَعَهُ، مَعَ أَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ حَقٌّ، فَكَيْفَ بِشُهُودِ الْمُنْكَرِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ يَقْتَضِي ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ هَذَا مِنْ الْمَيْسِرِ، فَكَيْفَ اسْتَجَازَهُ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ. قِيلَ لَهُ: الْمُسْتَجِيزُ لِلشِّطْرَنْجِ مِنْ السَّلَفِ بِلَا عِوَضٍ: كَالْمُسْتَجِيزِ لِلنَّرْدِ بِلَا عِوَضٍ مِنْ السَّلَفِ، وَكِلَاهُمَا مَأْثُورٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، بَلْ فِي الشِّطْرَنْجِ قَدْ تَبَيَّنَ عُذْرُ بَعْضِهِمْ كَمَا كَانَ الشَّعْبِيُّ يَلْعَبُ بِهِ لَمَّا طَلَبَهُ الْحَجَّاجُ لِتَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ، رَأَى أَنْ يَلْعَبَ بِهِ لِيُفَسِّقَ نَفْسَهُ، وَلَا يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ لِلْحَجَّاجِ، وَرَأَى أَنْ يَحْتَمِلَ مِثْلَ هَذَا لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ إعَانَةَ مِثْلِ الْحَجَّاجِ عَلَى مَظَالِمِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ هَذَا أَعْظَمَ مَحْذُورًا عِنْدَهُ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِاعْتِذَارُ إلَّا بِمِثْلِ ذَلِكَ. ثُمَّ يُقَالُ: مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا النَّبِيذَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ مِنْ السَّلَفِ، وَاَلَّذِينَ اسْتَحَلُّوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ مِنْ السَّلَفِ أَكْثَرُ وَأَجْمَلُ قَدْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَغَيْرَهُمَا رَخَّصُوا فِي الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَكَانُوا مُتَأَوِّلِينَ أَنَّ الرِّبَا لَا يَحْرُمُ إلَّا فِي النِّسَاءِ لَا فِي الْيَدِ بِالْيَدِ وَكَذَلِكَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ إلَّا الْمُسْكِرَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ، فَهَؤُلَاءِ فَهِمُوا مِنْ الْخَمْرِ نَوْعًا مِنْهُ دُونَ نَوْعٍ، وَظَنُّوا أَنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ بِهِ، وَشُمُولُ الْمَيْسِرِ لِأَنْوَاعِهِ كَشُمُولِ الْخَمْرِ وَالرِّبَا لِأَنْوَاعِهِمَا. وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْبَعَ زَلَّاتِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ إلَّا بِمَا هُمْ لَهُ أَهْلٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا لِلْمُؤْمِنِينَ عَمَّا أَخْطَئُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قَالَ اللَّهُ قَدْ فَعَلْت، وَأَمَرَنَا أَنْ نَتْبَعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا وَلَا نَتْبَعُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءً، وَأَمَرَنَا أَنْ لَا نُطِيعَ مَخْلُوقًا فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ

مسألة رجل لعب بالشطرنج وقال هو خير من النرد

وَنَسْتَغْفِرُ لِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ، فَنَقُولُ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] الْآيَةَ - وَهَذَا أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَا كَانَ يُشْبِهُ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ، وَتُعَظِّمُ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَرْعَى حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ لَا سِيَّمَا أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْهُمْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَمَنْ عَدَلَ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ، فَقَدْ عَدَلَ عَنْ اتِّبَاعِ الْحُجَّةِ إلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي التَّقْلِيدِ، وَأَذَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَهُوَ مِنْ الظَّالِمِينَ، وَمَنْ عَظَّمَ حُرُمَاتِ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ إلَى عِبَادِ اللَّهِ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ لَعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ وَقَالَ هُوَ خَيْرٌ مِنْ النَّرْد] 1023 - 2 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ، وَقَالَ: هُوَ خَيْرٌ مِنْ النَّرْدِ، فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ، وَهَلْ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ بِعِوَضٍ أَوْ غَيْرِ عِوَضٍ حَرَامٌ، وَمَا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ حَرَامٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا كَالنَّرْدِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ» . وَقَالَ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . وَثَبَتَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ، وَرُوِيَ أَنَّهُ قَلَبَ الرُّقْعَةَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: الشِّطْرَنْجُ مِنْ الْمَيْسِرِ، وَهُوَ كَمَا قَالُوا، فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْسِرَ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ حَرَامٌ إذَا كَانَ بِعِوَضٍ، وَهُوَ مِنْ الْقِمَارِ وَالْمَيْسِرِ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَالنَّرْدُ حَرَامٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ سَوَاءٌ كَانَ بِعِوَضٍ أَوْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَلَكِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ جَوَّزَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ

لَا يَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ الْمَيْسِرِ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ فَيُحَرِّمُونَ ذَلِكَ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ. وَكَذَلِكَ الشِّطْرَنْجُ صَرَّحَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ بِتَحْرِيمِهَا مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَغَيْرُهُمْ، وَتَنَازَعُوا أَيُّهُمَا أَشَدُّ فَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: الشِّطْرَنْجُ شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ: الشِّطْرَنْجُ أَخَفُّ مِنْ النَّرْدِ. وَلِهَذَا تَوَقَّفَ الشَّافِعِيُّ فِي النَّرْدِ إذَا خَلَا عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ، إذْ سَبَبُ الشُّبْهَةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَكْبَرَ مَنْ يَلْعَبُ فِيهَا بِعِوَضٍ بِخِلَافِ الشِّطْرَنْجِ، فَإِنَّهَا تُلْعَبُ بِغَيْرِ عِوَضٍ غَالِبًا، وَأَيْضًا فَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ يُعِينُ عَلَى الْقِتَالِ لِمَا فِيهَا مِنْ صَفِّ الطَّائِفَتَيْنِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ النَّرْدَ وَالشِّطْرَنْجَ إذَا لُعِبَ بِهِمَا بِعِوَضٍ فَالشِّطْرَنْجُ شَرٌّ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الشِّطْرَنْجَ حِينَئِذٍ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ بِالْإِجْمَاعِ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى حَرَامٍ مِنْ كَذِبٍ وَيَمِينٍ فَاجِرَةٍ، أَوْ ظُلْمٍ أَوْ جِنَايَةٍ، أَوْ حَدِيثٍ غَيْرِ وَاجِبٍ وَنَحْوِهَا، وَهِيَ حَرَامٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِنْ خَلَتْ عَنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَتُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ أَعْظَمَ مِنْ النَّرْدِ إذَا كَانَ بِعِوَضٍ، وَإِذَا كَانَا بِعِوَضٍ فَالشِّطْرَنْجُ شَرٌّ فِي الْحَالَيْنِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْعِوَضُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَفِيهِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مَا لَيْسَ فِي الْآخَرِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَرَنَ الْمَيْسِرَ بِالْخَمْرِ وَالْأَنْصَابِ، وَالْأَزْلَامِ، لِمَا فِيهَا مِنْ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَهُوَ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، فَإِنَّ الشِّطْرَنْجَ إذَا اُسْتُكْثِرَ مِنْهَا تَسْتُرُ الْقَلْبَ وَتَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ تَسَتُّرِ الْخَمْرِ، وَقَدْ شَبَّهَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَاعِبِيهَا بِعُبَّادِ الْأَصْنَامِ، حَيْثُ قَالَ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟ كَمَا شَبَّهَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَارِبَ الْخَمْرِ بِعَابِدِ الْوَثَنِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ» . وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِنْ اللَّعِبِ بِهَا، فَقَدْ بَيَّنَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ طَلَبَهُ لِلْقَضَاءِ، فَلَعِبَ بِهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ قَادِحًا فِيهِ فَلَا يُوَلَّى الْقَضَاءَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى وِلَايَةَ الْحَجَّاجِ أَشَدَّ ضَرَرًا عَلَيْهِ فِي دِينِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَقَدْ يُبَاحُ مَا هُوَ أَعْظَمُ

مسألة قوله صلى الله عليه وسلم لا غيبة لفاسق

تَحْرِيمًا مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ، كَمَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ عَلَى لَاعِبِ الشِّطْرَنْجِ، لِأَنَّهُ مُظْهِرٌ لِلْمَعْصِيَةِ. وَقَالَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ: يُسَلَّمُ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَةٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا غِيبَةَ لِفَاسِقٍ] 1024 - 3 مَسْأَلَةٌ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا غِيبَةَ لِفَاسِقٍ» وَمَا حَدُّ الْفِسْقِ؟ وَرَجُلٌ شَاجَرَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا شَارِبُ خَمْرٍ، أَوْ جَلِيسٌ فِي الشُّرْبِ أَوْ آكِلُ حَرَامٍ، أَوْ حَاضِرُ الرَّقْصِ أَوْ السَّمَاعِ لِلدُّفِّ أَوْ الشَّبَّابَةِ، فَهَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ إثْمٌ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّهُ مَأْثُورٌ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ أَتَرْغَبُونَ عَنْ ذَلِكَ الْفَاجِرِ؟ اُذْكُرُوهُ بِمَا فِيهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ لَهُ» وَهَذَانِ النَّوْعَانِ يَجُوزُ فِيهِمَا الْغِيبَةُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُظْهِرًا لِلْفُجُورِ مِثْلَ: الظُّلْمِ، وَالْفَوَاحِشِ، وَالْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ السُّنَّةَ، فَإِذَا أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِيع فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي الْمُسْنَدِ، وَالسُّنَنِ: عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَتَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ وَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ، فَمَنْ أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ، وَأَنْ يُهْجَرَ وَيُذَمَّ عَلَى ذَلِكَ»

فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ " مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ لَهُ "، بِخِلَافِ مَنْ كَانَ مُسْتَتِرًا بِذَنْبِهِ مُسْتَخْفِيًا، فَإِنَّ هَذَا يُسْتَرُ عَلَيْهِ لَكِنْ يُنْصَحُ سِرًّا وَيَهْجُرُهُ مَنْ عَرَفَ حَتَّى يَتُوبَ وَيَذْكُرَ. وَأَمْرَهُ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ. النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يُسْتَشَارَ الرَّجُلُ فِي مُنَاكَحَتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ أَوْ اسْتِشْهَادِهِ وَيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَيَنْصَحُهُ مُسْتَشِيرُهُ بِبَيَانِ حَالِهِ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ لَهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ أُبَيٍّ: قَدْ خَطَبَنِي أَبُو جَهْمٍ وَمُعَاوِيَةُ، فَقَالَ لَهَا: أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ» فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَالَ الْخَاطِبَيْنِ لِلْمَرْأَةِ فَهَذَا حُجَّةٌ لِقَوْلِ الْحَسَنِ: " أَتَرْغَبُونَ عَنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ اُذْكُرُوهُ بِمَا فِيهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ " فَإِنَّ النُّصْحَ فِي الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ النُّصْحِ فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَحَ الْمَرْأَةَ فِي دُنْيَاهَا فَالنَّصِيحَةُ فِي الدِّينِ أَعْظَمُ، وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَتْرُكُ الصَّلَوَاتِ وَيَرْتَكِبُ الْمُنْكَرَاتِ وَقَدْ عَاشَرَهُ مَنْ يَخَافُ أَنْ يَفْسُدَ دِينُهُ بَيَّنَ أَمْرَهُ لَهُ لِتُتَّقَى مُعَاشَرَتُهُ. إذَا كَانَ مُبْتَدِعًا يَدْعُو إلَى عَقَائِدَ تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَوْ يَسْلُكُ طَرِيقًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَيَخَافُ أَنْ يُضِلَّ الرَّجُلُ النَّاسَ بِذَلِكَ بَيَّنَ أَمْرَهُ لِلنَّاسِ لِيَتَّقُوا ضَلَالَهُ وَيَعْلَمُوا، وَهَذَا كُلُّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ النُّصْحِ وَابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِهَوَى الشَّخْصِ مَعَ الْإِنْسَانِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ تَحَاسُدٌ أَوْ تَبَاغُضٌ أَوْ تَنَازُعٌ عَلَى الرِّئَاسَةِ فَيَتَكَلَّمَ بِمَسَاوِئِهِ مُظْهِرًا لِلنُّصْحِ وَقَصْدُهُ فِي الْبَاطِنِ الْبُغْضُ فِي الشَّخْصِ وَاسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ فَهَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، بَلْ يَكُونُ النَّاصِحُ قَصْدُهُ أَنَّ اللَّهَ يُصْلِحُ ذَلِكَ الشَّخْصَ وَأَنْ يَكْفِيَ الْمُسْلِمِينَ ضَرَرَهُ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَيَسْلُكُ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ أَيْسَرَ الطُّرُقِ الَّتِي تُمَكِّنُهُ. وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْضُرَ مَجَالِسَ الْمُنْكَرِ بِاخْتِيَارِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ» . وَرُفِعَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَوْمٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَأَمَرَ بِجَلْدِهِمْ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّ فِيهِمْ صَائِمًا فَقَالَ: ابْدَءُوا بِهِ، أَمَا سَمِعْتُمْ اللَّهَ يَقُولُ: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140] . بَيَّنَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ حَاضِرَ الْمُنْكَرِ كَفَاعِلِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إذَا دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ فِيهَا مُنْكَرٌ كَالْخَمْرِ وَالزَّمْرِ لَمْ يَجُزْ حُضُورُهَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَمَنْ حَضَرَ الْمُنْكَرَ بِاخْتِيَارِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، بِتَرْكِ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ بُغْضِ إنْكَارِهِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي يَحْضُرُ مَجَالِسَ الْخَمْرِ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا يُنْكِرُ الْمُنْكَرَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ هُوَ شَرِيكُ الْفُسَّاقِ فِي فِسْقِهِمْ فَيَلْحَقُ بِهِمْ.

مسائل منثورة

[مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ] [مَسْأَلَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَك فَأَجِرْهُ] ٌ مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] ، فَسَمَّاهُ هُنَا كَلَامَ اللَّهِ. وَقَالَ فِي مَكَان آخَرَ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] فَمَا مَعْنَى ذَلِكَ؟ فَإِنَّ طَائِفَةً مِمَّنْ يَقُولُ بِالْعِبَارَةِ يَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا حُجَّةٌ لَهُمْ، ثُمَّ يَقُولُونَ: أَنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَتَقُولُونَ إنَّ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَتَسْمَعُونَهُ مِنْ وَسَائِطَ بِأَصْوَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ، وَتَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمَةٌ. فَإِنْ قُلْتُمْ إنَّ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ، وَأَنْتُمْ تُكَفِّرُونَ الْحُلُولِيَّةَ، وَإِنْ قُلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُمْ بِمَقَالَتِنَا، وَنَحْنُ نَطْلُبُ مِنْكُمْ جَوَابًا نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذِهِ الْآيَةُ حَقٌّ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ، وَلَيْسَتْ إحْدَى الْآيَتَيْنِ مُعَارِضَةٌ لِلْأُخْرَى بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَلَا فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُجَّةٌ لِقَوْلٍ بَاطِلٍ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْآيَتَيْنِ قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ لِقَوْلٍ بَاطِلٍ. وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] ، فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ التَّالِي الْمُبَلِّغِ، وَأَنَّ مَا يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، كَمَا فِي

حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي فِي السُّنَنِ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَيَّ فِي الْمَوْقِفِ، وَيَقُولُ: أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي» . وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ: {الم} [الروم: 1] {غُلِبَتِ الرُّومُ - فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} [الروم: 2 - 3] ، قَالُوا: هَذَا كَلَامُكَ أَمْ كَلَامُ صَاحِبِكَ؟ فَقَالَ: " لَيْسَ بِكَلَامِي وَلَا بِكَلَامِ صَاحِبِي، وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ ". وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا - وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا - وَبَنِينَ شُهُودًا - وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا - ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ - كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا - سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا - إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} [المدثر: 11 - 18] {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر: 19] {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر: 20] {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21] {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر: 22] {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} [المدثر: 23] {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر: 24] {إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 25] . فَمَنْ قَالَ إنَّ هَذَا قَوْلُ الْبَشَرِ كَانَ قَوْلُهُ مُضَاهِيًا لِقَوْلِ الْوَحِيدِ الَّذِي أَصْلَاهُ اللَّهُ صَقَرَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ لِعَامَّةِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ مَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ كَالْمُبَلِّغِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . إذَا سَمِعَهُ النَّاسُ مِنْ الْمُبَلِّغِ قَالُوا هَذَا حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَوْ قَالَ الْمُبَلِّغُ هَذَا كَلَامِي وَقَوْلِي لَكَذَّبَهُ النَّاسُ. لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْكَلَامَ كَلَامٌ لِمَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا مُنْشِئًا لَا لِمَنْ أَدَّاهُ رَاوِيًا مُبَلِّغًا، فَإِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا مَعْلُومًا فِي تَبْلِيغِ كَلَامِ الْمَخْلُوقِ فَكَلَامُ الْخَالِقِ أَوْلَى أَنْ لَا يُجْعَلَ كَلَامًا لِغَيْرِ الْخَالِقِ. وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْهُ، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 114] . وَقَالَ: {حم - تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1 - 2] .

{حم - تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية: 1 - 2] . فَجِبْرِيلُ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ جَاءَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ، وَكِلَاهُمَا مُبَلِّغٌ لَهُ، كَمَا قَالَ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] . وَقَالَ: {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا - لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} [الجن: 27 - 28] وَهُوَ مَعَ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ لِجِبْرِيلَ وَلَا لِمُحَمَّدٍ فِيهِ إلَّا التَّبْلِيغُ وَالْأَدَاءُ، كَمَا أَنَّ الْمُعَلِّمِينَ لَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَالتَّالِينَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَ الصَّلَاةِ لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ إلَّا ذَلِكَ لَمْ يُحْدِثُوا شَيْئًا مِنْ حُرُوفِهِ وَلَا مَعَانِيهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] إلَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ - قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 101 - 102] {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] . وَكَانَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ يَزْعُمُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعَلَّمَهُ مِنْ بَعْضِ الْأَعَاجِمِ الَّذِينَ بِمَكَّةَ إمَّا عَبْدٍ الْحَضْرَمِيِّ وَإِمَّا غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ، فَقَالَ تَعَالَى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} [النحل: 103] يُضِيفُونَ إلَيْهِ التَّعْلِيمَ، لِسَانٌ أَعْجَمِيٌّ، وَهَذَا الْكَلَامُ عَرَبِيٌّ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّك بِالْحَقِّ. فَهَذَا بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ الَّذِي تَعَلَّمَهُ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُحْدِثُ لِحُرُوفِهِ وَنَظْمِهِ، إذْ يُمْكِنُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ تَلَقَّى مِنْ الْأَعْجَمِيِّ مَعَانِيَهُ، وَأَلَّفَ حُرُوفَهُ، وَبَيَانُ أَنَّ هَذَا الَّذِي تَعَلَّمَهُ مِنْ غَيْرِهِ نَزَلَ بِهِ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّك بِالْحَقِّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لَمْ يُنَزِّلْ مَعْنَاهُ دُونَ حُرُوفِهِ.

وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ كَمَنْ بَلَّغَ كَلَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ، أَوْ أَنْشَدَ شِعْرَ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ أَنْشَدَ مُنْشِدٌ قَوْلَ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ أَوْ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ حَيْثُ قَالَ: شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ... وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافَ ... وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا وَقَوْلَهُ: وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ ... إذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنْ الْفَجْرِ سَاطِعُ يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ ... إذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا ... بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ وَهَذَا الشِّعْرُ قَالَهُ مُنْشِئُهُ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ، وَهُوَ كَلَامُهُ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ، وَمَعْنَاهُ الْقَائِمِ بِقَلْبِهِ، ثُمَّ إذَا أَنْشَدَهُ الْمُنْشِدُ وَبَلَّغَهُ عُلِمَ أَنَّهُ شِعْرُ ذَلِكَ الْمُنْشِئِ وَكَلَامُهُ وَنَظْمُهُ وَقَوْلُهُ، مَعَ أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ أَنْشَدَهُ بِحَرَكَةِ نَفْسِهِ، وَقَامَ بِقَلْبِهِ مِنْ الْمَعْنَى نَظِيرُ مَا قَامَ بِقَلْبِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ مِنْ الْمُنْشِدِ، هُوَ الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ مِنْ الْمُنْشِئِ، وَالشِّعْرُ شِعْرُهُ لَا شِعْرُ الْمُنْشِدِ. وَالْمُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَوَى قَوْلَهُ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» بَلَّغَهُ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكَلَّمَ بِهِ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ، وَلَيْسَ صَوْتُ الْمُبَلِّغِ صَوْتَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا حَرَكَتُهُ كَحَرَكَتِهِ، وَالْكَلَامُ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا كَلَامُ الْمُبَلِّغِ لَهُ عَنْهُ. فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْلُومًا مَعْقُولًا، فَكَيْفَ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَارِئُ إذَا قَرَأَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] أَنْ يُقَالَ هَذَا الْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِئِ، وَإِنْ كَانَ الصَّوْتُ صَوْتَ الْقَارِئِ. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْقُرَّاءِ صَوْتُ اللَّهِ فَهُوَ ضَالٌّ مُفْتَرٍ، مُخَالِفٌ

لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ، قَائِلٌ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ قَدْ أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَبَدَّعُوهُ كَمَا جَهَّمُوا مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ. وَقَالُوا: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَيْفَ تَصَرَّفَ، فَمَنْ قَالَ لَفْظِي بِهِ قَدِيمٌ أَوْ صَوْتِي بِهِ قَدِيمٌ، فَابْتِدَاعٌ هَذَا وَضَلَالُهُ وَاضِحٌ. فَمَنْ قَالَ إنَّ لَفْظَهُ بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ صَوْتَهُ أَوْ فِعْلَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] ، وَيَقُولُونَ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَهَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَنَحْنُ لَا نَسْمَعُ إلَّا صَوْتَ الْقَارِئِ، وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ. فَإِنَّ سَمَاعَ كَلَامِ اللَّهِ بَلْ وَسَمَاعَ كُلِّ كَلَامٍ يَكُونُ تَارَةً مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ بِلَا وَاسِطَةِ الرَّسُولِ الْمُبَلِّغِ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] ، وَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ كَلَّمَنَا بِالْقُرْآنِ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، أَوْ إنَّا نَسْمَعُ كَلَامَهُ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ، فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ جَهْلًا وَضَلَالًا. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّا نَسْمَعُ كَلَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا سَمِعَهُ الصَّحَابَةُ مِنْهُ لَكَانَ ضَلَالًا وَاضِحًا، فَكَيْفَ مَنْ يَقُولُ: إنَّا نَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى؛ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا بِصَوْتٍ سَمِعَهُ مُوسَى، فَلَيْسَ صَوْتُ الْمَخْلُوقِينَ صَوْتًا لِلْخَالِقِ. وَكَذَلِكَ مُنَادَاتُهُ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ، وَتَكَلَّمَهُ بِالْوَحْيِ حَتَّى يَسْمَعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ صَوْتَهُ كَجَرِّ السَّلْسَلَةِ عَلَى الصَّفَا، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ وَالْآثَارُ كُلُّهَا، لَيْسَ فِيهَا أَنَّ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ هِيَ صِفَةُ الْخَالِقِ، بَلْ وَلَا مِثْلُهَا بَلْ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ صِفَةِ الْخَالِقِ وَبَيْنَ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ، فَلَيْسَ كَلَامُهُ مِثْلَ كَلَامِهِ وَلَا مَعْنَاهُ مِثْلَ مَعْنَاهُ، وَلَا حَرْفُهُ مِثْلَ حَرْفِهِ، وَلَا صَوْتُهُ مِثْلَ صَوْتِهِ، كَمَا أَنَّ لَيْسَ عِلْمُهُ مِثْلَ عِلْمِهِ، وَلَا قُدْرَتُهُ مِثْلَ قُدْرَتِهِ، وَلَا سَمْعُهُ مِثْلَ سَمْعِهِ، وَلَا بَصَرُهُ مِثْلَ بَصَرِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي فَطْرِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ الْفَرْقُ بَيْنَ سَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ ابْتِدَاءً وَبَيْن سَمَاعِهِ مِنْ

فصل في قوله تعالى إنه لقول رسول كريم

الْمُبَلِّغِ عَنْهُ، كَانَ ظُهُورُ هَذَا الْفَرْقِ فِي سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ أَوْضَحَ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْإِطْنَابِ. وَقَدْ بَيَّنَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ فِي كِتَابِهِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ صَوْتِ اللَّهِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ؛ وَصَوْتِ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مَا لَا يُخَالِفُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَهْلِ الْعُقُولِ وَالدِّينِ. [فَصْلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ] فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] . فَهَذَا قَدْ ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ. فَقَالَ فِي الْحَاقَّةِ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 41] {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 42] . فَالرَّسُولُ هُنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ فِي التَّكْوِيرِ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19] {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 21] {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ - وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 22 - 23] . فَالرَّسُولُ هُنَا جِبْرِيلُ فَأَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ مِنْ الْبَشَرِ تَارَةً، وَإِلَى الرَّسُولِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ تَارَةً، بِاسْمِ الرَّسُولِ، وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُ لَقَوْلُ مَلَكٍ، وَلَا نَبِيٍّ، لِأَنَّ لَفْظَ الرَّسُولِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْ غَيْرِهِ، لَيْسَ مِنْ عِنْدِهِ: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] ، فَكَانَ قَوْلُهُ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ} [الحاقة: 40] بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: لَتَبْلِيغُ رَسُولٍ، أَوْ مُبَلَّغٌ مِنْ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَنْشَأَهُ أَوْ أَحْدَثَهُ أَوْ أَنْشَأَ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ أَحْدَثَهُ رَسُولٌ كَرِيمٌ، إذْ لَوْ كَانَ مُنْشِئًا لَمْ يَكُنْ رَسُولًا فِيمَا أَنْشَأَهُ وَابْتَدَأَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى الْقُرْآنِ مُطْلَقًا. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ أَحَدُ الرَّسُولَيْنِ أَنْشَأَ حُرُوفَهُ وَنَظَمَهُ؛ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ الْآخَرُ هُوَ الْمُنْشِئُ الْمُؤَلِّفُ لَهَا؛ فَبَطَلَ أَنْ تَكُونَ إضَافَتُهُ إلَى الرَّسُولِ هُنَا لِأَجْلِ إحْدَاثِ لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ. وَلَوْ جَازَ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ هُنَا لِأَجْلِ إحْدَاثِ الرَّسُولِ لَهُ أَوْ لِشَيْءٍ مِنْهُ لَجَازَ أَنْ نَقُولَ إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ، وَهَذَا قَوْلُ الْوَحِيدِ الَّذِي أَصْلَاهُ اللَّهُ سَقَرَ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَالْوَحِيدُ جَعَلَ الْجَمِيعَ قَوْلَ الْبَشَرِ، وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ قَوْلُ الْبَشَرِ؛ وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا نِصْفُ قَوْلِ الْوَحِيدِ - ثُمَّ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ مَعَانِيَ هَذَا النَّظْمِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ، وَأَنْتُمْ تَجْعَلُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَعْنًى وَاحِدًا هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِخْبَارُ، وَتَجْعَلُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى إذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا، وَإِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً، وَإِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ كَانَ إنْجِيلًا، وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ، فَإِنَّ التَّوْرَاةَ إذَا عَرَّبْنَاهَا لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهَا مَعْنَى الْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنَ إذَا تَرْجَمْنَاهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ لَمْ يَكُنْ تَوْرَاةً. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ، لَيْسَ هُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ، وَإِنَّمَا يَشْتَرِكَانِ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ، وَمُسَمَّى كَلَامِ اللَّهِ كَمَا يَشْتَرِكُ الْأَعْيَانُ فِي مُسَمَّى النَّوْعِ. فَهَذَا الْكَلَامُ وَهَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ يَشْتَرِكُ فِي أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ اشْتِرَاكَ الْأَشْخَاصِ فِي أَنْوَاعِهَا، كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ وَهَذَا الْإِنْسَانَ يَشْتَرِكُونَ فِي مُسَمَّى الْإِنْسَانِ، وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَخْصٌ بِعَيْنِهِ هُوَ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا - وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ كَلَامٌ وَاحِدٌ هُوَ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَهُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ. وَمَنْ خَالَفَ هَذَا كَانَ فِي مُخَالَفَتِهِ لِصَرِيحِ الْعُقُولِ مِنْ جِنْسِ مَنْ قَالَ: إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَأَفْعَالَهُمْ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ؛ فَاضْرِبْ بِكَلَامِ الْبِدْعَتَيْنِ رَأْسَ قَائِلِهِمَا؛ وَالْزَمْ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَبِسَبَبِ هَاتَيْنِ الْبِدْعَتَيْنِ الْحَمْقَاوَيْنِ ثَارَتْ الْفِتَنُ، وَعَظُمَتْ الْأَحْزَابُ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْقَوْلَيْنِ قَدْ يُقَرِّرُونَهُمَا بِمَا قَدْ يَلْبَسُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، كَمَا قَرَّرَ مَنْ قَالَ إنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ بَعْضَهُ قَدِيمٌ وَأَنَّ الْقَدِيمَ ظَهَرَ فِي الْمُحْدَثِ مِنْ غَيْرِ حُلُولٍ فِيهِ. وَأَمَّا أَفْعَالُ الْعِبَادِ فَرَأَيْتُ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُ إنَّهَا قَدِيمَةٌ، خَيْرُهَا وَشَرُّهَا، وَفَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّ الشَّرْعَ قَدِيمٌ، وَالْقَدِيمَ قَدِيمٌ وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، وَالْمَشْرُوعِ الَّذِي هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَلَمْ يُفَرِّقْ

بَيْنَ الْقَدَرِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ، وَبَيْنَ الْقَدَرِ الَّذِي هُوَ مَخْلُوقَاتُهُ. وَالْعُقَلَاءُ كُلُّهُمْ يَعْلَمُونَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالْخَبَرَ نَوْعَانِ لِلْكَلَامِ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، لَيْسَ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ صِفَاتٌ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ. فَمَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ صِفَاتٍ لِلْكَلَامِ لَا أَنْوَاعًا لَهُ فَقَدْ خَالَفَ الضَّرُورَةَ، إذْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ، وَالْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ، فَإِنَّ انْقِسَامَ الْمَوْجُودِ إلَى الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ، وَالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ، وَالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، وَالْقَائِمِ بِنَفْسِهِ، وَالْقَائِمِ بِغَيْرِهِ، كَانْقِسَامِ الْكَلَامِ إلَى الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ، أَوْ إلَى الْإِنْشَاءِ وَالْإِخْبَارِ، أَوْ إلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ. فَمَنْ قَالَ: الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ، فَهُوَ كَمَنْ قَالَ الْمَوْجُودُ وَاحِدٌ، هُوَ الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ، أَوْ الْوَاجِبُ وَالْمُمْكِنُ، وَكَمَا أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا تَؤَوَّلُ إلَى تَعْطِيلِ الْخَالِقِ، فَحَقِيقَةُ هَذَا تَؤَوَّلُ إلَى تَعْطِيلِ كَلَامِهِ وَتَكْلِيمِهِ. وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ الَّذِي أَنْكَرَ الْخَالِقَ وَتَكْلِيمَهُ لِمُوسَى، وَلِهَذَا آلَ الْأَمْرُ بِمُحَقِّقِ هَؤُلَاءِ إلَى تَعْظِيمِ فِرْعَوْنَ وَتَوَلِّيهِ وَتَصْدِيقِهِ فِي قَوْلِهِ: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] بَلْ إلَى تَعْظِيمِهِ عَلَى مُوسَى، وَإِلَى الِاسْتِحْقَارِ بِتَكْلِيمِ اللَّهِ لِمُوسَى، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَيْضًا: فَيُقَالُ مَا يَقُولُ فِي كَلَامِ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ إذَا نَقَلَهُ عَنْهُ غَيْرُهُ، كَمَا قَدْ يُنْقَلُ كَلَامُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَيُسْمَعُ مِنْ الرُّوَاةِ أَوْ الْمُبَلِّغِينَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْمُبَلِّغِ بِصَوْتِ الْمُبَلِّغِ، هُوَ كَلَامُ الْمُبَلِّغِ أَوْ كَلَامُ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ؟ فَإِنْ قَالَ كَلَامُ الْمُبَلِّغِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ كَلَامًا لِكُلِّ مَنْ سُمِعَ مِنْهُ، فَيَكُونُ الْقُرْآنُ الْمَسْمُوعُ كَلَامَ أَلْفِ أَلْفِ قَارِئٍ، لَا كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . كَلَامَ كُلِّ مَنْ رَوَاهُ لَا كَلَامَ الرَّسُولِ، وَحِينَئِذٍ لَا فَضِيلَةَ لِلْقُرْآنِ فِي: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ قَوْلُ كُلِّ مُنَافِقٍ قَرَأَهُ، وَالْقُرْآنُ يَقْرَؤُهُ

الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا. وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ، وَلَا رِيحَ لَهَا» . عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يَكُونُ الْقُرْآنُ قَوْلَ بَشَرٍ وَاحِدٍ، بَلْ قَوْلَ أَلْفِ أَلْفِ بَشَرٍ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَفَسَادُ هَذَا فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَاضِحٌ، وَإِنْ قَالَ كَلَامَ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ الْمُبَلِّغَ الْقُرْآنُ لَيْسَ كَلَامَهُ، وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الرَّسُولُ قَدْ يُقَالُ إنَّهُ شَيْطَانٌ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ تَبْلِيغُ مَلَكٍ كَرِيمٍ، لَا تَبْلِيغُ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19] {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] ، إلَى قَوْلِهِ {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير: 25] وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الرَّسُولَ الْبَشَرِيَّ الَّذِي صَحِبْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ مِنْهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ مُتَّهَمٍ. ذَكَرَهُ بِاسْمِ الصَّاحِبِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ النِّعْمَةِ بِهِ عَلَيْنَا إذْ كَمَا لَا نُطِيقُ أَنْ نَتَلَقَّى إلَّا عَمَّنْ صَحِبْنَاهُ، وَكَانَ مِنْ جِنْسِنَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] . وَقَالَ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2] ، وَبَيَّنَ أَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي مِنْ أَنْفُسِنَا وَالرَّسُولَ الْمَلَكِيَّ أَنَّهُمَا مُبَلِّغَانِ، فَكَانَ هَذَا فِي تَحْقِيقِ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. فَلَمَّا كَانَ الرَّسُولُ الْبَشَرِيُّ يُقَالُ إنَّهُ مَجْنُونٌ أَوْ مُفْتَرٍ، نَزَّهَهُ عَنْ هَذَا وَهَذَا وَكَذَلِكَ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى، قَالَ:

{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 41] {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ - تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 42 - 43] . وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ، لَا لِأَنَّهُ أَحْدَثَهُ وَأَنْشَأَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ - نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 192 - 193] ، فَجَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] . وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 192] ، وَالضَّمِيرَانِ عَائِدَانِ إلَى وَاحِدٍ، فَلَوْ كَانَ الرَّسُولُ أَحْدَثَهُ وَأَنْشَأَهُ لَمْ يَكُنْ تَنْزِيلًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بَلْ كَانَ يَكُونُ تَنْزِيلًا مِنْ الرَّسُولِ. وَمَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ عَائِدًا فِي هَذَا إلَى غَيْرِ مَا يَعُودُ إلَيْهِ الضَّمِيرُ الْآخَرُ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الضَّمِيرَيْنِ وَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ، فَقُلْ لَهُ: هَذَا الَّذِي نَقْرَؤُهُ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِبَارَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الرَّسُولُ الْمَلَكُ، أَوْ الْبَشَرُ عَلَى زَعْمِك، أَمْ هُوَ نَفْسُ تِلْكَ الْعِبَارَةِ. فَإِنْ جَعَلْتَ هَذَا عِبَارَةً عَنْ تِلْكَ الْعِبَارَةِ جَازَ أَنْ تَكُونَ عِبَارَةُ جِبْرِيلَ أَوْ الرَّسُولِ عِبَارَةً عَنْ عِبَارَةِ اللَّهِ، وَحِينَئِذٍ فَيَبْقَى النِّزَاعُ لَفْظِيًّا، فَإِنَّهُ مَتَى قَالَ إنَّ مُحَمَّدًا سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ جَمِيعَهُ وَجِبْرِيلُ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ جَمِيعَهُ، وَالْمُسْلِمُونَ سَمِعُوهُ مِنْ الرَّسُولِ جَمِيعًا فَقَدْ قَالَ الْحَقَّ، وَبَعْدَ هَذَا فَقَوْلُهُ عِبَارَةٌ لِأَجْلِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ التَّبْلِيغِ وَالْمُبَلِّغِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَإِنْ قُلْت: لَيْسَ هَذَا عِبَارَةً عَنْ تِلْكَ الْعِبَارَةِ، بَلْ هُوَ نَفْسُ تِلْكَ الْعِبَارَةِ. فَقَدْ جَعَلْتَ مَا يُسْمَعُ مِنْ الْمُبَلِّغِ هُوَ بِعَيْنِهِ كَمَا يُسْمَعُ مِنْ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ. إذْ جَعَلْتَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ هِيَ بِعَيْنِهَا عِبَارَةَ جِبْرِيلَ. فَحِينَئِذٍ هَذَا يُبْطِلُ أَصْلَ قَوْلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْقَوْلِ بِالْعِبَارَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِلَابٍ هُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ فِي الْإِسْلَامِ إنَّ مَعْنَى الْقُرْآنِ كَلَامُ اللَّهِ. وَحُرُوفَهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ. فَأَخَذَ بِنِصْفِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنِصْفِ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَكَانَ قَدْ ذَهَبَ إلَى إثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلَةَ. وَأَثْبَتَ الْعُلُوَّ لِلَّهِ عَلَى الْعَرْشِ وَمُبَايَنَتَهُ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَرَّرَ ذَلِكَ تَقْرِيرًا

هُوَ أَكْمَلُ مِنْ تَقْرِيرِ أَتْبَاعِهِ بَعْدُ. وَكَانَ النَّاسُ قَدْ تَكَلَّمُوا فِيمَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ. هَلْ يُقَالُ لَهُ حِكَايَةٌ عَنْهُ أَمْ لَا. وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا هُوَ حِكَايَةٌ عَنْهُ. فَقَالَ ابْنُ كِلَابٍ: الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ. لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ. فَجَاءَ بَعْدَهُ أَبُو الْحَسَنِ فَسَلَكَ مَسْلَكَهُ فِي إثْبَاتِ أَكْثَرِ الصِّفَاتِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ أَيْضًا. وَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: إنَّ هَذَا حِكَايَةٌ، وَقَالَ: الْحِكَايَةُ إنَّمَا تَكُونُ مِثْلَ الْمَحْكِيِّ؛ فَهَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ قَوْلَنَا أَنْ نَقُولَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْعِبَارَةِ. فَأَنْكَرَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةُ عَلَيْهِمْ عِدَّةَ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُمْ إنَّ الْمَعْنَى كَلَامُ اللَّهِ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ، وَكَانَتْ الْمُعْتَزِلَةُ تَقُولُ، هُوَ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ. فَقَالَ هَؤُلَاءِ هُوَ مَخْلُوقٌ وَلَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ، لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الصِّفَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحَلٍّ عَادَ حُكْمُهَا عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ، فَإِذَا قَامَ الْكَلَامُ بِمَحَلٍّ كَانَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ، كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ إذَا قَامَا بِمَحَلٍّ، كَانَ هُوَ الْعَالِمُ الْقَادِرُ، وَكَذَلِكَ الْحَرَكَةُ، وَهَذَا مِمَّا احْتَجُّوا بِهِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ. قَالُوا لَهُمْ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْكَلَامُ كَلَامَ ذَلِكَ الْجِسْمِ الَّذِي خَلَقَهُ فِيهِ، فَكَانَتْ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةُ إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ أَئِمَّةُ الْكِلَابِيَّةِ: إنْ كَانَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ مَخْلُوقًا فَلَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ " فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ، بَلْ نَقُولُ الْكَلَامُ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَعْنَى الْمُجَرَّدِ، وَبَيْنَ الْحُرُوفِ الْمَنْظُومَةِ، فَقَالَ لَهُمْ الْمُحَقِّقُونَ، فَهَذَا يُبْطِلُ أَصْلَ حُجَّتِكُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّكُمْ لَمَّا سَلَّمْتُمْ أَنَّ مَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً لَا يُمْكِنُ قِيَامُهُ بِغَيْرِهِ، أَمْكَنَ لِلْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ كَلَامُهُ إلَّا مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ. الثَّانِي: قَوْلُهُمْ: إنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ، وَهُوَ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ: هَذَا الَّذِي قَالُوهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ مَا نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ، وَمَا بَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ لِأُمَّتِهِ مِنْ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ؛ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ. وَمَسْأَلَةُ الْقُرْآنِ لَهَا طَرَفَانِ: أَحَدُهُمَا: تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ أَعْظَمُ الطَّرَفَيْنِ.

فصل قول القائل أنتم تعتقدون أن موسى سمع كلام الله منه حقيقة من غير واسطة

وَالثَّانِي: تَنْزِيلُهُ إلَى خَلْقِهِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَبَيَّنَّا مَقَالَاتِ أَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ. وَمَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ، وَمَأْخَذَ كُلِّ طَائِفَةٍ. وَمَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهِ إبْطَالَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُمْ بِذَاتِهِ كَلَامٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ: كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنٍ مِنْهُ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ؛ هَلْ يَتَعَلَّقُ الْكَلَامُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَمْ لَا؛ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ، وَإِنَّ قَوْلَ السَّلَفِ: مِنْهُ بَدَأَ لَمْ يُرِيدُوا أَنَّهُ فَارَقَ ذَاتَه وَحَلَّ فِي غَيْرِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَ ذَاتَ اللَّهِ كَلَامُهُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ صِفَاتِهِ، بَلْ قَالُوا مِنْهُ بَدَأَ أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ، رَدًّا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ قَالُوا: بَدَأَ مِنْ الْمَخْلُوقِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ. وَقَوْلُهُمْ " إلَيْهِ يَعُودُ " أَيْ عِلْمُهُ، فَلَا يَبْقَى فِي الْمَصَاحِفِ مِنْهُ حَرْفٌ؛ وَلَا فِي الصُّدُورِ مِنْهُ آيَةٌ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا جَوَابُ مَسَائِلِ السَّائِلِ. [فَصْلٌ قَوْلُ الْقَائِلِ أَنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُوسَى سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ] فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: أَنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُوسَى سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ. وَتَقُولُونَ إنَّ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَتَسْمَعُونَهُ مِنْ وَسَائِطَ بِأَصْوَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ. فَيُقَالُ لَهُ: بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ الْفَرْقِ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الْقِدَمِ وَالْفَرْقِ فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يُمَيِّزُ بَيْنَ سَمَاعِ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ كَسَمَاعِ الصَّحَابَةِ مِنْهُ، وَبَيْنَ سَمَاعِهِ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ كَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقِيقَةً، وَكَذَلِكَ مَنْ سَمِعَ شِعْرَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الشُّعَرَاءِ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَمَنْ سَمِعَهُ مِنْ الرُّوَاةِ عَنْهُ؛ يَعْلَمُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، وَهُوَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ شِعْرُ حَسَّانَ لَا شِعْرُ غَيْرِهِ، وَالْإِنْسَانُ إذَا تَعَلَّمَ شِعْرَ غَيْرِهِ، فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّاعِرَ أَنْشَأَ مَعَانِيَهُ وَنَظَمَ حُرُوفَهُ بِالْأَصْوَاتِ الْمُقَطَّعَةِ يَرْوِيهِ بِحَرَكَةِ نَفْسِهِ وَأَصْوَاتِ نَفْسِهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْفَرْقُ مَعْقُولًا فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ، بَيْنَ

سَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ ابْتِدَاءً، وَسَمَاعِهِ بِوَاسِطَةِ الرَّاوِي عَنْهُ أَوْ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ. فَكَيْفَ لَا يُعْقَلُ ذَلِكَ فِي سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْقُرَّاءِ هُوَ صَوْتُ الرَّبِّ، فَهُوَ إلَى تَأْدِيبِ الْمَجَانِين أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى خِطَابِ الْعُقَلَاءِ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الصَّوْتَ قَدِيمٌ، وَأَنَّ الْمُرَادَ قَدِيمٌ، فَهَذَا لَا يَقُولُهُ ذُو حِسٍّ سَلِيمٍ، بَلْ مَا بُيِّنَ لِوَحْيِ الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ، وَكَلَامُ اللَّهِ ثَابِتٌ فِي مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ، لَا كَلَامُ غَيْرِهِ، فَمَنْ قَالَ إنَّ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ بَلْ كَلَامَ غَيْرِهِ فَهُوَ مُلْحِدٌ مَارِقٌ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ فَارَقَ ذَاتَه، وَانْتَقَلَ إلَى غَيْرِهِ، كَمَا كُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ، فَهُوَ أَيْضًا مَارِقٌ، بَلْ كَلَامُ الْمَخْلُوقِينَ يُكْتَبُ فِي الْأَوْرَاقِ وَهُوَ لَمْ يُفَارِقْ ذَوَاتَهمْ. فَكَيْفَ لَا يُعْقَلُ مِثْلُ هَذَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالشُّبْهَةُ تَنْشَأُ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ مِنْ الْكَلَامِ وَالْمُقَيَّدِ. مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ رَأَيْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْهِلَالَ إذَا رَآهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ الْمُطْلَقَةُ؛ وَقَدْ يَرَاهُ فِي مَاءٍ أَوْ مِرْآةٍ؛ فَهَذِهِ رُؤْيَةٌ مُقَيَّدَةٌ؛ فَإِذَا أَطْلَقَ قَوْلَهُ رَأَيْته، أَوْ مَا رَأَيْته، حُمِلَ عَلَى مَفْهُومِ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ، وَإِذَا قَالَ لَقَدْ رَأَيْت الشَّمْسَ فِي الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ، فَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ مَعَ التَّقْيِيدِ، وَاللَّفْظُ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، فَإِذَا وَصَلَ بِالْكَلَامِ مَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهُ كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ التَّخْصِيصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ، كَقَوْلِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا، كَانَ هَذَا الْمَجْمُوعُ دَالًّا عَلَى تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً بِطُرُقِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ النَّاسِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا مَجَازٌ فَقَدْ غَلِطَ؛ فَإِنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ؛ وَمَا يُقْرَنُ بِاللَّفْظِ مِنْ الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ الْمَوْضُوعَةِ هِيَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ. وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ الْكَلَامُ مَعَهَا مَعْنَيَيْنِ. وَلَا يَجُوزُ نَفْيُ مَفْهُومِهِمَا، بِخِلَافِ اسْتِعْمَالِ نَفْيِ الْأَسَدِ فِي الرَّجُلِ الشُّجَاعِ مَعَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ هَذَا اللَّفْظُ حَقِيقَةٌ. وَهَذَا مَجَازٌ. نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ. وَهُوَ مُسْتَنَدُ مَنْ أَنْكَرَ الْمَجَازَ فِي اللُّغَةِ وَفِي الْقُرْآنِ. وَلَمْ يَنْطِقْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ. وَلَمْ يُعْرَفْ لَفْظُ الْمَجَازِ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَّا فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. فَإِنَّ فِيمَا كَتَبَهُ مِنْ الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ هَذَا مِنْ مَجَازِ الْقُرْآنِ. وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُطْلَقًا أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي مَجَازِ الْقُرْآنِ.

ثُمَّ إنَّ هَذَا كَانَ مَعْنَاهُ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ مِمَّا يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ وَيَسُوغُ فَهُوَ مُشْتَقٌّ عِنْدَهُمْ مِنْ الْجَوَازِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ " عَقْدٌ لَازِمٌ " وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ جَعَلَهُ مِنْ الْجَوَازِ الَّذِي هُوَ الْعُبُورُ مِنْ مَعْنَى الْمَجَازِ. ثُمَّ إنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ الْمَجَازَ قَدْ يَشِيعُ وَيَشْتَهِرُ حَتَّى يَصِيرَ الْمَقْصُودَ، فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ: رَأَيْت الشَّمْسَ أَوْ الْقَمَرَ أَوْ الْهِلَالَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فِي الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ، فَالْعُقَلَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ، وَبَيْنَ رُؤْيَةِ ذَلِكَ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: مَا رَأَى ذَلِكَ بَلْ رَأَى مِثَالَهُ أَوْ خَيَالَهُ أَوْ الشُّعَاعَ الْمُنْعَكِسَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ هَذَا مَانِعًا لِمَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ وَيَقُولُونَهُ مِنْ أَنَّهُ رَآهُ فِي الْمَاءِ أَوْ الْمِرْآةِ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ فِي الْمَاءِ أَوْ الْمِرْآةِ حَقِيقَةٌ مُقَيَّدَةٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي حَقًّا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي» . هُوَ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ حَقًّا، فَمَنْ قَالَ رَآهُ فِي الْمَنَامِ حَقًّا فَقَدْ أَخْطَأَ، وَمَنْ قَالَ إنَّ رُؤْيَتَهُ فِي الْيَقِظَةِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَالرُّؤْيَةِ الْمُقَيَّدَةِ فِي النَّوْمِ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَلِهَذَا يَكُونُ لِهَذِهِ تَأْوِيلٌ وَتَعْبِيرٌ دُونَ تِلْكَ. وَكَذَلِكَ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْمَنَامِ هُوَ سَمَاعٌ مِنْهُ فِي الْمَنَامِ. وَلَيْسَ هَذَا كَالسَّمَاعِ مِنْهُ فِي الْيَقِظَةِ، وَقَدْ يَرَى الرَّائِي الْمَنَامَ أَشْخَاصًا وَيُخَاطِبُونَهُ، وَالْمَرْئِيُّونَ لَا شُعُورَ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا رَأَى أَمْثَالَهُمْ، وَلَكِنْ يُقَالُ رَآهُمْ فِي الْمَنَامِ حَقِيقَةً، فَيَحْتَرِزُ بِذَلِكَ عَنْ الرُّؤْيَا الَّتِي هِيَ حَدِيثُ النَّفْسِ، فَإِنَّ الرُّؤْيَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: رُؤْيَا بُشْرَى مِنْ اللَّهِ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٍ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ فِي الْيَقِظَةِ فَيَرَاهُ فِي الْمَنَامِ. وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا التَّقْسِيمُ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَتِلْكَ الرُّؤْيَا يَظْهَرُ لِكُلٍّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْيَقِظَةِ مَا لَا يَظْهَرُ فِي غَيْرِهَا، فَكَمَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ تَكُونُ مُطْلَقَةً، وَتَكُونُ بِوَاسِطَةِ الْمِرْآةِ وَالْمَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى أَنَّ الْمَرْئِيَّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمِرْآةِ، فَإِذَا كَانَتْ كَبِيرَةً مُسْتَدِيرَةً رَأَى كَذَلِكَ، فَذَلِكَ فِي السَّمَاعِ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَنْ سَمِعَ كَلَامَ غَيْرِهِ مِنْهُ، وَمَنْ سَمِعَهُ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ، فَفِي الْمَوْضِعَيْنِ

الْمَقْصُودُ سَمَاعُ كَلَامِهِ، كَمَا أَنَّ هُنَاكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَقْصِدُونَهُ، لَكِنْ إذَا كَانَ بِوَاسِطَةٍ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْوَاسِطَةِ، فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَصْوَاتِ الْمُبَلِّغِينَ كَمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَرَايَا. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] ، فَجَعَلَ التَّكْلِيمَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ الْوَحْيُ الْمُجَرَّدُ، وَالتَّكْلِيمُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كُلِّمَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالتَّكْلِيمُ بِوَاسِطَةِ إرْسَالِ الرَّسُولِ، كَمَا كُلِّمَ الرُّسُلُ بِإِرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ، وَكَمَا نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْمُنَافِقِينَ بِإِرْسَالِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ، وَنَهَاهُمْ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ فَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَإِخْبَارُهُ بِوَاسِطَةٍ الرَّسُولِ، فَهَذَا الْمَعْنَى أَوْجَبَ الشُّبْهَةَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ، وَيُخْبِرُ عَنْ رَبِّهِ، وَيَحْكِي عَنْ رَبِّهِ، فَهَذَا يَذْكُرُ مَا يَذْكُرُهُ عَنْ رَبِّهِ مِنْ كَلَامِهِ الَّذِي قَالَهُ رَاوِيًا حَاكِيًا عَنْهُ. فَلَوْ قَالَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ حِكَايَةٌ إنَّ مُحَمَّدًا حَكَاهُ عَنْ اللَّهِ كَمَا يُقَالُ بَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ وَأَدَّاهُ عَنْ اللَّهِ لَكَانَ قَدْ قَصَدَ مَعْنًى صَحِيحًا، لَكِنْ يَقْصِدُونَ مَا يَقْصِدُهُ الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ: فُلَانٌ يَحْكِي فُلَانًا أَيْ يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِ، وَهُوَ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِمِثْلِ كَلَامِ اللَّهِ، فَهَذَا بَاطِلٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] . وَنُكْتَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَقْصُودَةِ لَا بِالْوَسَائِلِ الْمَطْلُوبَةِ لِغَيْرِهَا، فَلَمَّا كَانَ مَقْصُودُ الرَّائِي أَنْ يَرَى الْوَجْهَ مَثَلًا فَرَآهُ بِالْمِرْآةِ حَصَلَ مَقْصُودُهُ، وَقَالَ رَأَيْت الْوَجْهَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ انْعِكَاسِ الشُّعَاعِ فِي الْمِرْآةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَسْمَعَ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ غَيْرُهُ أَلَّفَ أَلْفَاظَهُ وَقَصَدَ مَعَانِيَهُ، فَإِذَا سَمِعَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَ سَمَاعُهُ مِنْ غَيْرِهِ هُوَ بِوَاسِطَةِ صَوْتِ ذَلِكَ الْغَيْرِ بِاخْتِلَافِ الصَّائِتَيْنِ وَالْقُلُوبِ، وَإِنَّمَا أُشِيرَ إلَى الْمَقْصُودِ لَا إلَى مَا ظَهَرَ بِهِ الْمَقْصُودُ، كَمَا فِي الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى، فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ: جَاءَ زَيْدٌ وَذَهَبَ عَمْرٌو لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ الْإِخْبَارَ بِالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانُ هُوَ لَفْظُ زَيْدٍ وَلَفْظُ عَمْرٍو وَإِلَّا كَانَ مُبْطِلًا، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْقَائِلُ هَذَا

كَلَامُ اللَّهِ، وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَالْمَقْصُودُ بِوَاسِطَةِ حَرَكَةِ التَّالِي وَصَوْتِهِ، فَمَنْ ظَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُوَ صَوْتُ الْقَارِئِ وَحَرَكَتُهُ كَانَ مُبْطِلًا. وَلِهَذَا لَمَّا قَرَأَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، وَسَأَلَهُ هَلْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَهَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ؟ فَأَجَابَهُ: كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو طَالِبٍ خَطَأً مِنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَاسْتَدْعَاهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَقَالَ: أَنَا قُلْت لَك لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ قَرَأْت عَلَيْك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَقُلْت لَك هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَقُلْت: نَعَمْ. قَالَ: فَلِمَ تَحْكِي عَنِّي مَا لَمْ أَقُلْ؟ لَا تَقُلْ هَذَا. فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ عَالِمٌ. وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ حَكَاهَا عَبْدُ اللَّهِ، وَصَالِحٌ، وَحَنْبَلٌ، وَالْمَرْوَزِيُّ، وَثَوْبَانُ. وَبَسَطَهَا الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ، وَصَنَّفَ الْمَرْوَزِيِّ فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ مُصَنَّفًا ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَ الْأَئِمَّةِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَدُ مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ وَأَدَقِّهِ فَإِنَّ الْإِشَارَةَ إذَا أُطْلِقَتْ انْصَرَفَتْ إلَى الْمَقْصُودِ. وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ. لَا مَا وَصَلَ بِهِ إلَيْنَا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ. فَإِذَا قِيلَ لَفْظِي جَعَلَ نَفْسَ الْوَسَائِطِ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ. وَهَذَا بَاطِلٌ كَمَا أَنْ رَأَى رَاءٍ فِي مِرْآةٍ فَقَالَ أَكْرَمَ اللَّهُ هَذَا الْوَجْهَ وَحَيَّاهُ أَوْ قَبَّحَهُ كَانَ دُعَاؤُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَوْجُودِ فِي الْحَقِيقَةِ الَّذِي رَأَى بِوَاسِطَةِ الْمِرْآةِ لَا عَلَى الشُّعَاعِ الْمُنْعَكِسِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ إذَا رَأَى الْقَمَرَ فِي الْمَاءِ فَقَالَ قَدْ أَبْدَرَ، فَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ الْقَمَرُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ لَا خَيَالُهُ وَكَذَلِكَ مَنْ سَمِعَهُ يَذْكُرُ رَجُلًا فَقَالَ هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ أَوْ رَجُلٌ فَاسِقٌ، عُلِمَ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُوَ الشَّخْصُ الْمُسَمَّى بِالِاسْمِ، لَا نَفْسُ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ النَّاطِقِ، فَلَوْ قَالَ: هَذَا الصَّوْتُ أَوْ صَوْتُ فُلَانٍ صَالِحٌ أَوْ فَاسِقٌ فَسَدَ الْمَعْنَى. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، كَرَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا وَعَلَيْهِ فَرْوَةٌ فَأَوْجَعَهُ بِالضَّرْبِ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَضْرِبْنِي، فَقَالَ: أَنَا مَا أَضْرِبُك وَإِنَّمَا أَضْرِبُ الْفَرْوَةَ، فَقَالَ: إنَّمَا الضَّرْبُ يَقَعُ عَلَيَّ، فَقَالَ: هَكَذَا إذَا قُلْت لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، فَالْخَلْقُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْقُرْآنِ. يَقُولُ: كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالضَّرْبِ بَدَنُك. وَاللِّبَاسَ وَاسِطَةٌ. فَهَكَذَا الْمَقْصُودُ

بِالتِّلَاوَةِ كَلَامُ اللَّهِ. وَصَوْتُك وَاسِطَةٌ، فَإِذَا قُلْت " مَخْلُوقٌ " وَقَعَ ذَلِكَ عَلَى الْمَقْصُودِ. كَمَا إذَا سَمِعْت قَائِلًا يَذْكُرُ رَجُلًا فَقُلْت أَنَا أُحِبُّ هَذَا، وَأَنَا أَبْغَضُ هَذَا، انْصَرَفَ الْكَلَامُ إلَى الْمُسَمَّى الْمَقْصُودِ بِالِاسْمِ، لَا إلَى الصَّوْتِ الذَّاكِرِ، وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. كَيْفَمَا تَصَرَّفَ، خِلَافُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ. فَإِنَّهُ مَنْ نَفَى عَنْهَا الْخَلْقَ كَانَ مُبْتَدِعًا ضَالًّا. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: يَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ صِفَتُهُ. وَإِنَّ صِفَاتِ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. فَإِنْ قُلْتُمْ إنَّ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ، فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ. وَأَنْتُمْ تُكَفِّرُونَ الْحُلُولِيَّةَ وَالِاتِّحَادِيَّةَ. وَإِنْ قُلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُمْ بِمَقَالَتِنَا. فَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ سَهُلَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ. فَإِنَّ مَنْشَأَ الشُّبْهَةِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ، يَجْعَلُ أَحْكَامَهُ وَاحِدَةً سَوَاءٌ كَانَ كَلَامُهُ مَسْمُوعًا مِنْهُ أَوْ كَلَامُهُ مُبَلَّغًا عَنْهُ، وَمِنْ هُنَا ضَلَّتْ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ. طَائِفَةٌ قَالَتْ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ، وَهَذَا حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مَخْلُوقَةٌ، وَكَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، وَطَائِفَةٌ قَالَتْ هَذَا مَخْلُوقٌ، وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَهَذَا لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ، وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ، وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَهَذَا أَلْفَاظُنَا وَتِلَاوَتُنَا، فَأَلْفَاظُنَا وَتِلَاوَتُنَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. وَمَنْشَأُ ضَلَالِ الْجَمِيعِ مِنْ عَدَمِ الْفَرْقِ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي هَذَا، وَأَنْتَ تَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ تَسْمَعُهُ مِنْ قَائِلِهِ فَتَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ صِدْقٌ وَحَقٌّ وَصَوَابٌ وَكَلَامٌ حَكِيمٌ، وَكَذَلِكَ إذَا سَمِعْتَهُ مِنْ نَاقِلِهِ تَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ صِدْقٌ وَحَقٌّ وَصَوَابٌ، وَهُوَ كَلَامٌ حَكِيمٌ، فَالْمُشَارُ إلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ، وَتَقُولُ أَيْضًا: إنَّ هَذَا صَوْتٌ حَسَنٌ، وَهَذَا كَلَامٌ مِنْ وَسَطِ الْقَلْبِ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ هُنَا لَيْسَ هُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ هُنَاكَ: بَلْ أَشَارَ إلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا مِنْ صَوْتِهِ وَقَلْبِهِ. وَإِذَا كُتِبَ الْكَلَامُ صَفْحَتَيْنِ كَالْمُصْحَفَيْنِ تَقُولُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا هَذَا قُرْآنٌ كَرِيمٌ، وَهَذَا كِتَابٌ مَجِيدٌ، وَهَذَا كَلَامٌ، فَالْمُشَارُ إلَيْهِ وَاحِدٌ، ثُمَّ تَقُولُ: هَذَا خَطٌّ حَسَنٌ، وَهَذَا قَلَمُ النَّسْخِ أَوْ الثُّلُثُ، وَهَذَا الْخَطُّ أَحْمَرُ أَوْ أَصْفَرُ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ هُنَا مَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلٌّ مِنْ الْمُصْحَفَيْنِ عَنْ الْآخَرِ، فَإِذَا مَيَّزَ الْإِنْسَانُ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ بِهَذَا وَهَذَا، تَبَيَّنَ الْمُتَّفِقُ

وَالْمُفْتَرِقِ، وَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا بِهِ وَصَلَ إلَيْنَا مِنْ حَرَكَاتِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ. وَمَنْ قَالَ: هَذَا مَخْلُوقٌ، وَأَشَارَ بِهِ إلَى مُجَرَّدِ صَوْتِ الْعَبْدِ وَحَرَكَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي هَذَا حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ الَّذِي تَعَلَّمَ هَذَا الْقَارِئُ مِنْ غَيْرِهِ وَبَلَغَهُ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ مَخْلُوقٌ مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ وَضَلَّ. وَيُقَالُ لِهَذَا: هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي أَشَرْت إلَيْهِ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ هَذَا الْقَارِئُ فَهَبْ أَنَّ الْقَارِئَ لَمْ يُخْلَقْ، وَلَا وُجِدَتْ لَا أَفْعَالُهُ وَلَا أَصْوَاتُهُ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ أَنَّ الْكَلَامَ نَفْسَهُ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَهُ يَعْدَمُ بِعَدَمِهِ، وَيَحْدُثُ بِحُدُوثِهِ، فَإِشَارَتُهُ بِالْخَلْقِ إنْ كَانَ إلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا الْقَارِئُ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَصْوَاتِهِ، فَالْقُرْآنُ غَنِيٌّ عَنْ هَذَا الْقَارِئِ، وَمَوْجُودٌ قَبْلَهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ هَذَا عَدَمُهُ: وَإِنْ كَانَتْ إلَى الْكَلَامِ الَّذِي يَتَعَلَّمُهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُنَزَّلُ مِنْ اللَّهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ إلَى مُحَمَّدٍ وَبَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ لِأُمَّتِهِ، وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ، وَذَلِكَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكَانَ كَلَامًا لِمَحَلِّهِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ كَلَامًا لِلَّهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سُبْحَانَهُ إذَا خَلَقَ كَلَامًا كَانَ كَلَامُهُ كَانَ مَا نَطَقَ بِهِ كُلُّ نَاطِقٍ كَلَامَهُ، مِثْلُ تَسْبِيحِ الْجِبَالِ وَشَهَادَةِ الْجُلُودِ، بَلْ كُلَّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحُلُولِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ ... سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثُرْهُ وَنِظَامُهُ وَمَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إمَّا أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهُ غَيْرَ مُتَكَلِّمٍ بِشَيْءٍ أَصْلًا، فَيَجْعَلُ الْعِبَادَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَكْمَلَ مِنْهُ، وَشَبَّهَهُ بِالْأَصْنَامِ وَالْجَامِدَاتِ وَالْمَوَاتِ، كَالْعِجْلِ الَّذِي لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يُهْدِيهِمْ سَبِيلًا، فَيَكُونُ قَدْ فَرَّ عَنْ إثْبَاتِ صِفَاتٍ وَشَبَّهَهُ بِالْجَامِدِ وَالْمَوَاتِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ، وَعَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ، وَهَذَا الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ هُوَ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ، وَنَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ، هَذِهِ مَفْهُومُهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي نَظَرِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ كَلَامُهُ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نُقْصَانَ، فَإِنَّ مَنْ يَنْقُلُ كَلَامَ غَيْرِهِ وَيَكْتُبُهُ فِي كِتَابٍ قَدْ يَزِيدُ فِيهِ وَيَنْقُصُ، كَمَا جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ

فِي كَثِيرٍ مِنْ مُكَاتَبَاتِ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهَا، فَإِذَا جَاءَ كِتَابُ السُّلْطَانِ فَقِيلَ هَذَا الَّذِي فِيهِ كَلَامُ السُّلْطَانِ بِعَيْنِهِ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، يَعْنِي لَمْ يَزِدْ فِيهِ الْكَاتِبُ وَلَا نَقَصَ، وَكَذَلِكَ مَنْ نَقَلَ كَلَامَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ تَصْنِيفِهِ، قِيلَ هَذَا الْكَلَامُ كَلَامُ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ، يَعْنِي لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَضَرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ» . فَقَوْلُهُ: فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ، لَمْ يُرِدْ أَنْ يُبَلِّغَهُ بِحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ الَّتِي سَمِعَهُ بِهَا، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَأْتِي بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ، لَا يَزِيدُ فِيهِ وَلَا يَنْقُصُ، فَيَكُونُ قَدْ بَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ، فَالْمُسْتَمِعُ لَهُ مِنْ الْمُبَلِّغِ يَسْمَعُهُ كَمَا قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَكُونُ قَدْ سَمِعَ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَهُ. وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: " وَهَذَا كَلَامُهُ بِعَيْنِهِ ". وَهَذَا نَفْسُ كَلَامِهِ؛ لَا يُرِيدُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ أَصْوَاتُهُ وَحَرَكَاتُهُ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَلَا يَخْطِرُ بِبَالِ عَاقِلٍ ابْتِدَاءً، وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ يُلْجِئُ أَصْحَابَهُ إلَى الْقَرْمَطَةِ فِي السَّمْعِيَّاتِ وَالسَّفْسَطِيَّةِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ. وَلَوْ تُرِكَ النَّاسُ عَلَى فِطْرَتِهِمْ لَكَانَتْ صَحِيحَةً سَلِيمَةً، فَإِنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ سُمِعَ مِنْهُ وَنُقِلَ عَنْهُ أَوْ كَتَبَهُ فِي كِتَابٍ، لَا يَقُولُ الْعَاقِلُ إنَّ مَا قَامَ بِالْمُتَكَلِّمِ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي فِي قَلْبِهِ وَالْأَلْفَاظِ الْقَائِمَةِ بِلِسَانِهِ، فَارَقَتْهُ وَانْتَقَلَتْ إلَى الْمُسْتَمِعِ وَالْمُبَلَّغِ عَنْهُ، وَلَا فَارَقَتْهُ وَحَلَّتْ فِي الْوَرَقِ، بَلْ وَلَا يَقُولُ إنَّ نَفْسَ مَا قَامَ مِنْ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ هُوَ نَفْسُ الْمُرَادِ الَّذِي فِي الْوَرَقِ، بَلْ وَلَا يَقُولُ إنَّ نَفْسَ أَلْفَاظِهِ الَّتِي هِيَ أَصْوَاتُهُ هِيَ أَصْوَاتُ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ، فَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا ظَاهِرَةٌ لَا يَقُولُهَا عَاقِلٌ فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِ إذَا سَمِعَ وَبَلَّغَ وَتُكْتَبُ فِي كِتَابٍ، فَكَيْفَ يُقَالُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي سُمِعَ مِنْهُ وَبُلِّغَ عَنْهُ، أَوْ كَتَبَهُ سُبْحَانَهُ كَمَا كُتِبَ فِي التَّوْرَاةِ لِمُوسَى، وَكَمَا كُتِبَ الْقُرْآنُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، يَكُونُ كَمَا كُتِبَ فِي مَصَاحِفِهِمْ. وَإِذَا كَانَ مَنْ سَمِعَ كَلَامَ مَخْلُوقٍ فَبَلَّغَهُ عَنْهُ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، بَلْ شِعْرَ مَخْلُوقٍ، كَمَا

يُبَلَّغُ شِعْرُ حَسَّانَ وَابْنِ رَوَاحَةَ وَلَبِيدً وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الشُّعَرَاءِ، وَيَقُولُ النَّاسُ: هَذَا شِعْرُ حَسَّانَ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا هُوَ شِعْرُ حَسَّانَ. وَهَذَا شِعْرُ لَبِيدٍ بِعَيْنِهِ كَقَوْلِهِ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ وَمَعَ هَذَا فَيَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ رُوَاةَ الشِّعْرِ وَمُنْشِدِيهِ لَمْ يَسْلُبُوا الشُّعَرَاءَ نَفْسَ صِفَاتِهِمْ حِينَ حَلَّتْ، بَلْ وَلَا عَيْنَ مَا قَامَ بِأُولَئِكَ مِنْ صِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ كَأَصْوَاتِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ حَلَّتْ بِالرُّوَاةِ وَالْمُنْشِدِينَ، فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ صِفَاتِ الْبَارِي: كَلَامَهُ أَوْ غَيْرَ كَلَامِهِ فَارَقَ ذَاتَه، وَحَلَّ فِي مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَنَّ مَا قَامَ بِالْمَخْلُوقِ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ كَحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ هِيَ صِفَاتُ الْبَارِي حَلَّتْ فِيهِ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَخْلُوقِ. بَلْ يُمَثِّلُونَ الْعِلْمَ بِنُورِ السِّرَاجِ يُقْتَبَسُ مِنْ الْمُتَعَلِّمِ، وَلَا يَنْقُصُ مَا عِنْدَ الْعَالِمِ كَمَا يَقْتَبِسُ الْمُقْتَبِسُ ضَوْءَ السِّرَاجِ. فَيُحْدِثُ اللَّهُ لَهُ ضَوْءًا، كَمَا يَقُولُ إنَّ الْهَوَى يَنْقَلِبُ نَارًا بِمُجَاوَرَةِ الْفَتِيلَةِ لِلْمِصْبَاحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَغَيَّرَ تِلْكَ النَّارُ الَّتِي فِي الْمِصْبَاحِ. وَالْمُقْرِئُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُ الْعِلْمَ وَلَمْ يُنْقِصْ مِمَّا عِنْدَهُ شَيْءٌ. بَلْ يَصِيرُ عِنْدَ الْمُتَعَلِّمِ مِثْلَ مَا عِنْدَهُ. وَلِهَذَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَنْقُلُ عِلْمَ فُلَانٍ وَيَنْقُلُ كَلَامَهُ، وَيُقَالُ الْعِلْمُ الَّذِي كَانَ عِنْدَ فُلَانٍ صَارَ إلَى فُلَانٍ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. كَمَا يُقَالُ نَقَلْت مَا فِي الْكِتَابِ، وَنَسَخْت مَا فِي الْكِتَابِ، أَوْ نَقَلْت الْكِتَابَ وَنَسَخْته. وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ إلَّا نَفْسَ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ عَدِمَتْ مِنْهُ وَحَلَّتْ فِي الثَّانِي. بَلْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ مِنْ الْكُتُبِ وَنَقْلِهَا مِنْ جِنْسِ نَقْلِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَنْ يَجْعَلَ فِي الثَّانِي مِثْلَ مَا فِي الْأَوَّلِ، فَيَبْقَى الْمَقْصُودُ بِالْأَوَّلِ مَنْقُولًا مَنْسُوخًا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْأَوَّلُ. بِخِلَافِ نَقْلِ الْأَجْسَامِ وَتَوَابِعِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ إذَا نُقِلَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ زَالَ عَنْ الْأَوَّلِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ لَهَا وُجُودٌ فِي أَنْفُسِهَا، وَهُوَ وُجُودُهَا الْعَيْنِيُّ. أَوَّلُهَا ثُبُوتُهَا فِي الْعِلْمِ ثُمَّ فِي اللَّفْظِ الْمُطَابِقِ لِلْعِلْمِ، ثُمَّ فِي الْخَطِّ. وَهَذَا الَّذِي يُقَالُ وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ. وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ. وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ. وَوُجُودٌ فِي الْبَيَانِ، وَوُجُودٌ عَيْنِيٌّ. وَوُجُودٌ عِلْمِيٌّ. وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ. وَلِهَذَا افْتَتَحَ اللَّهُ كِتَابَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2] {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق: 3] {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 4] {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]

، فَذَكَرَ الْخَلْقَ عُمُومًا وَخُصُوصًا. وَذَكَرَ التَّعْلِيمَ عُمُومًا وَخُصُوصًا. فَالْخَطُّ يُطَابِقُ اللَّفْظَ. وَاللَّفْظُ يُطَابِقُ الْعِلْمَ. وَالْعِلْمُ يُطَابِقُ الْمَعْلُومَ. وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ غَلِطَ فَظَنَّ أَنَّ الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ كَالْأَعْيَانِ فِي الْوَرَقِ فَظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] ، كَقَوْلِهِ {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] فَجَعَلَ إثْبَاتَ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ فِي الْمَصَاحِفِ. كَإِثْبَاتِ الرَّسُولِ فِي الْمَصَاحِفِ وَهَذَا غَلَطٌ وَكَإِثْبَاتِ اسْمِ الرَّسُولِ، هَذَا كَلَامٌ. وَهَذَا كَلَامٌ. وَأَمَّا إثْبَاتُ اسْمِ الرَّسُولِ فَهَذَا كَإِثْبَاتِ الْأَعْمَالِ أَوْ كَإِثْبَاتِ الْقُرْآنِ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. قَالَ تَعَالَى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] . فَثُبُوتُ الْأَعْمَالِ فِي الزُّبُرِ. وَثُبُوتُ الْقُرْآنِ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. هُوَ مِثْلُ كَوْنِ الرَّسُولِ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَلِهَذَا مَثَّلَ سُبْحَانَهُ بِلَفْظِ الزُّبُرِ، وَالْكُتُبُ زُبُرٌ، يُقَالُ زَبَرْت الْكِتَابَ إذَا كَتَبْته وَالزَّبُورُ بِمَعْنَى الْمَزْبُورِ أَيْ: الْمَكْتُوبِ، فَالْقُرْآنُ نَفْسُهُ لَيْسَ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَكِنْ ذِكْرُهُ، كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ عِنْدَهُمْ، وَلَكِنْ ذِكْرُهُ، فَثُبُوتُ الرَّسُولِ فِي كُتُبِهِمْ كَثُبُوتِ الْقُرْآنِ فِي كُتُبِهِمْ، بِخِلَافِ ثُبُوتِ الْقُرْآنِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَفِي الْمَصَاحِفِ، فَإِنَّ نَفْسَ الْقُرْآنِ أَثْبَتُ فِيهَا، فَمَنْ جَعَلَ هَذَا مِثْلَ هَذَا كَانَ ضَلَالُهُ بَيِّنًا، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ نَفْسَ الْمَوْجُودَاتِ وَصِفَاتِهَا إذَا انْتَقَلَتْ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ حَلَّتْ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ الثَّانِي، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِهَا وَالْخَبَرُ عَنْهَا فَيَأْخُذُهُ الثَّانِي عَنْ الْأَوَّلِ، مَعَ بَقَائِهِ فِي الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي عِنْدَ الثَّانِي هُوَ نَظِيرُ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْعِلْمَيْنِ وَاحِدٌ فِي نَفْسِهِ صَارَتْ وِحْدَةُ الْمَقْصُودِ تُوجِبُ وِحْدَةَ التَّابِعِ لَهُ، وَالدَّلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ غَرَضٌ فِي تَعَدُّدِ التَّابِعِ كَمَا فِي الِاسْمِ مَعَ الْمُسَمَّى، فَإِنَّ اسْمَ الشَّخْصِ وَإِنْ ذَكَرَهُ

أُنَاسٌ مُتَعَدِّدُونَ، وَدَعَا بِهِ أُنَاسٌ مُتَعَدِّدُونَ، فَالنَّاسُ يَقُولُونَ إنَّهُ اسْمٌ وَاحِدٌ لِمُسَمًّى، فَإِذَا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَقَالَ ذَلِكَ هَذَا الْمُؤَذِّنُ، وَهَذَا الْمُؤَذِّنُ، وَقَالَهُ غَيْرُ الْمُؤَذِّنِ، فَالنَّاسُ يَقُولُونَ إنَّ هَذَا الْمَكْتُوبَ هُوَ اسْمُ اللَّهِ وَاسْمُ رَسُولِهِ، كَمَا أَنَّ الْمُسَمَّى هُوَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَإِذَا قَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ، وَقَالَ: {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ} [هود: 41] وَقَالَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] . وَقَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ) فَفِي الْجَمِيعِ الْمَذْكُورُ هُوَ اسْمُ اللَّهِ وَإِنْ تَعَدَّدَ الذِّكْرُ وَالذَّاكِرُ، فَالْخَبَرُ الْوَاحِدُ مِنْ الْمُخْبِرِ الْوَاحِدِ مِنْ مُخْبِرِهِ، وَالْأَمْرُ الْوَاحِدُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْأَمْرِ الْوَاحِدِ، بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْوَاحِدِ لِمُسَمَّاهُ، هَذَا فِي الْمُؤَلَّفِ نَظِيرُ هَذَا فِي الْمُفْرَدِ، وَهَذَا هُوَ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ، وَبِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ وَإِنْ تَعَدَّدَ مَنْ يَذْكُرُ ذَلِكَ الِاسْمَ وَالْخَبَرَ، وَتَعَدَّدَتْ حَرَكَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُهُمْ وَسَائِرُ صِفَاتِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنْ قُلْتُمْ إنَّ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ، وَأَنْتُمْ تُكَفِّرُونَ الْحُلُولِيَّةَ وَالِاتِّحَادِيَّةَ. فَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ، مِثَالُ رَجُلٍ ادَّعَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحِلُّ بِذَاتِهِ فِي بَدَنِ الَّذِي يَقْرَأُ حَدِيثَهُ فَأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَقَالُوا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَحِلُّ فِي بَدَنِ غَيْرِهِ فَقَالَ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ إنَّ الْمُحَدِّثَ يَقْرَأُ كَلَامَهُ، وَإِنَّ مَا يَقْرَؤُهُ هُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا قُلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ كَلَامَ زَيْدٍ فِي هَذَا الْكَلَامِ، وَهَذَا الَّذِي سَمِعْنَاهُ كَلَامُ زَيْدٍ، وَلَا يَسْتَجِيزُ الْعَاقِلُ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ فِي هَذَا الْمُتَكَلَّمِ أَوْ فِي هَذَا الْوَرَقِ. وَقَدْ نَطَقَتْ النُّصُوصُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ فِي الصُّدُورِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهْوُ أَشَدُّ تَعَلُّقًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ فِي عَقْلِهَا» . وَقَوْلِهِ: «الْجَوْفُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ» وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ عَاقِلٍ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ فِي صُدُورِنَا وَأَجْوَافِنَا، وَلِهَذَا لَمَّا ابْتَدَعَ شَخْصٌ يُقَالُ لَهُ الصُّورِيُّ بِأَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ فِي صُدُورِنَا، فَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ النَّصَارَى، فَقِيلَ لِأَحْمَدَ:

قَدْ جَاءَتْ جَهْمِيَّةٌ رَابِعَةٌ إلَى جَهْمِيَّةِ الْخَلْقِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ وَالْوَاقِفِيَّةِ وَهَذِهِ الْوَاقِفَةُ، اشْتَدَّ نَكِيرُهُ لِذَلِكَ وَقَالَ: هَذَا أَعْظَمُ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ. وَهُوَ كَمَا قَالَ: فَإِنَّ الْجَهْمِيَّةَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُنْكِرُ أَنْ يُقَالَ: الْقُرْآنُ فِي الصُّدُورِ، وَلَا يُشَبِّهُ هَذَا بِقَوْلِ النَّصَارَى بِالْحُلُولِ إلَّا مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ، فَإِنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ الْأَبُ وَالِابْنُ وَرُوحُ الْقُدُسِ إلَهٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ اللَّاهُوتُ تَدَرَّعَتْ النَّاسُوتَ وَهُوَ عِنْدَهُمْ إلَهٌ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ، وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَيَقُولُونَ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَلِهَذَا كَانُوا مُتَنَاقِضِينَ، فَإِنَّ الَّذِي تَدَرَّعَ الْمَسِيحَ كَانَ هُوَ الْإِلَهُ الْجَامِعُ لِلْأَقَانِيمِ، فَهُوَ الْأَبُ نَفْسُهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ، فَالصِّفَةُ لَا تَخْلُقُ وَلَا تَرْزُقُ، وَلَيْسَتْ إلَهًا، وَالْمَسِيحُ عِنْدَهُمْ إلَهٌ. وَلَوْ قَالَ النَّصَارَى: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي صَدْرِ الْمَسِيحِ. كَمَا هُوَ فِي صُدُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِمْ مَا يُنْكَرُ. فَالْحُلُولِيَّةُ الْمَشْهُورُونَ بِهَذَا الِاسْمِ مَنْ يَقُولُ بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ كَمَا قَالَتْ النَّصَارَى وَالْغَالِبَةُ مِنْ الرَّافِضَةِ. وَغُلَاةُ أَتْبَاعِ الْمَشَايِخِ يَقُولُونَ بِحُلُولِهِ فِي شَيْءٍ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّةُ إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَان. وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ. وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ بِاتِّحَادِهِ بِالْمَسِيحِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ قَالَ بِاتِّحَادِهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا. أَوْ قَالَ وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. فَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي قُلُوبِ أَنْبِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْ كَلَامَ اللَّهِ وَاَلَّذِي بَلَّغَتْهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ. وَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّحِيفَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا لَا يُسَمَّى حُلُولًا. وَمَنْ سَمَّاهُ حُلُولًا لَمْ يَكُنْ بِتَسْمِيَتِهِ لِذَلِكَ مُبْطِلًا لِلْحَقِيقَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي مُفَارَقَةَ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ لَهُ وَانْتِقَالَهَا إلَى غَيْرِهِ، فَكَيْفَ صِفَةُ الْخَالِقِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهِ شُبْهَةُ الْحُلُولِ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي إثْبَاتِ لَفْظِ الْحُلُولِ وَنَفْيِهِ عَنْهُ. هَلْ يُقَالُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَالٌّ فِي الْمُصْحَفِ. أَوْ حَالٌّ فِي الصُّدُورِ. وَهَلْ يُقَالُ كَلَامُ النَّاسِ الْمَكْتُوبُ حَالٌّ فِي الْمُصْحَفِ أَوْ حَالٌّ فِي قُلُوبِ حَافِظِيهِ. فَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ نَفَتْ الْحُلُولَ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَمْثَالِهِ وَقَالُوا ظَهَرَ كَلَامُ اللَّهِ فِي هَذَا. وَلَا نَقُولُ حَلَّ. لِأَنَّ حُلُولَ صِفَةِ الْخَالِقِ فِي الْمَخْلُوقِ أَوْ حُلُولَ الْقَدِيمِ فِي الْمُحْدَثِ مُمْتَنِعٌ. وَطَائِفَةٌ أَطْلَقَتْ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَالٌّ فِي الْمُصْحَفِ كَأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ الْهَرَوِيِّ الْمُلَقَّبِ بِشَيْخِ الْإِسْلَامِ

وَقَالُوا لَيْسَ هَذَا هُوَ الْحُلُولُ الْمَحْذُورُ الَّذِي نَفَيْنَاهُ، بَلْ نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّحِيفَةِ. وَلَا يُقَالُ بِأَنَّ اللَّهَ فِي الصَّحِيفَةِ أَوْ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ، كَذَلِكَ نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَهُ حَالٌّ فِي ذَلِكَ دُونَ حُلُولِ ذَاتِهِ، وَطَائِفَةٌ قَالَتْ كَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ قَالُوا لَا نُطْلِقُ الْحُلُولَ نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا. لِأَنَّ إثْبَاتَ ذَلِكَ يُوهِمُ انْتِقَالَ صِفَةِ الرَّبِّ إلَى الْمَخْلُوقَاتِ. وَنَفْيَ ذَلِكَ يُوهِمُ نَفْيَ نُزُولِ الْقُرْآنِ إلَى الْخَلْقِ. فَنُطْلِقُ مَا أَطْلَقَتْهُ النُّصُوصُ. وَنُمْسِكُ عَمَّا فِي إطْلَاقِهِ مَحْذُورٌ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِجْمَالِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ قُلْتُمْ بِمَقَالَتِنَا. فَجَوَابُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقَالَةَ الْمُنْكَرَةَ هُنَا تَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ فَإِذَا زَالَتْ لَمْ يَبْقَ مُنْكَرًا. أَحَدُهَا: مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ. وَإِنَّمَا أَحْدَثَهُ غَيْرُ اللَّهِ كَجِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ. وَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ. الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا. هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ، وَإِنَّ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ لَا بِاخْتِلَافِ الْمَعَانِي. فَيُجْعَلُ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاحِدًا. وَكَذَلِكَ مَعْنَى آيَةِ الدِّينِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ. كَمَنْ يَقُولُ إنَّ مَعَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى مَعْنًى وَاحِدٌ فَمَعْنَى الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالرَّحِيمِ وَالْحَلِيمِ مَعْنًى وَاحِدٌ. فَهَذَا اتِّحَادٌ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَآيَاتِهِ. الثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ مَا بَلَّغَهُ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ مِنْ الْمَعْنَى وَالْأَلْفَاظِ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ. بَلْ كَلَامُ التَّالِينَ لَا كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ بَاطِلَةٌ بِأَيِّ عِبَارَةٍ عَبَّرَ عَنْهَا. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ. نَقَلَهُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّهُ تَارَةً يُسْمَعُ مِنْ اللَّهِ. وَتَارَةً مِنْ رُسُلِهِ. وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ تَصَرَّفَ وَكَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ يُتَكَلَّمُ. لَمْ يَخْلُقْهُ فِي غَيْرِهِ. وَلَا يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقًا وَلَوْ قَرَأَهُ النَّاسُ وَكَتَبُوهُ وَسَمِعُوهُ، وَمَنْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتَهُمْ وَسَائِرَ صِفَاتِهِمْ مَخْلُوقَةٌ، فَهَذَا لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَإِذَا نَفَى الْحُلُولَ وَأَرَادَ بِهِ أَنَّ صِفَةَ الْمَوْصُوفِ لَا تُفَارِقُهُ وَتَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ فَقَدْ أَصَابَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، لَكِنَّ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُؤْمِنَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ هُوَ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ كَلَامًا لِغَيْرِهِ، وَلَكِنْ بَلَّغَتْهُ عَنْهُ رُسُلُهُ، وَإِذَا كَانَ كَلَامُ الْمَخْلُوقِ يُبَلَّغُ عَنْهُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ

مسألة في رجل قال إن الله لم يكلم موسى تكليما وإنما خلق الكلام والصوت في الشجرة

كَلَامَهُ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ وَمَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ لَمْ تُفَارِقْ ذَاتَه فَالْعِلْمُ بِمِثْلِ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْلَى وَأَظْهَرُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ قَالَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا وَإِنَّمَا خَلَقَ الْكَلَامَ وَالصَّوْتَ فِي الشَّجَرَةِ] 1026 - 2 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسًى تَكْلِيمًا. وَإِنَّمَا خَلَقَ الْكَلَامَ وَالصَّوْتَ فِي الشَّجَرَةِ، وَمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَمِعَ مِنْ الشَّجَرَةِ، لَا مِنْ اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُكَلِّمْ جِبْرِيلُ بِالْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَهَلْ هُوَ عَلَى الصَّوَابِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَيْسَ هَذَا الصَّوَابَ، بَلْ هُوَ ضَالٌّ مُفْتَرٍ كَاذِبٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا. بَلْ هُوَ كَافِرٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَإِذَا قَالَ: لَا أُكَذِّبُ بِلَفْظِ الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] بَلْ أُقِرُّ بِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ حَقٌّ، لَكِنْ أَنْفِي مَعْنَاهُ وَحَقِيقَتَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الْجَهْمِيَّةُ الَّذِينَ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ شَرِّ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، حَتَّى أَخْرَجَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَنْ الِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً. وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ يُقَالُ لَهُ: جَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ، فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ يَوْمَ أَضْحَى، فَإِنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: ضَحُّوا أَيُّهَا النَّاسُ يَقْبَلْ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ، فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمُ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ، فَشَكَرُوا ذَلِكَ. وَأَخَذَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَنْهُ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَقَتَلَهُ بِخُرَاسَانَ سَلَمَةُ بْنُ أَحْوَزَ، وَإِلَيْهِ نُسِبَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ الَّتِي تُسَمَّى مَقَالَةَ الْجَهْمِيَّةِ، وَهِيَ نَفْيُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يُكَلِّمُ عِبَادَهُ وَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ، وَلَا حَيَاةٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ وَيَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. وَوَافَقَ الْجَهْمَ عَلَى ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ أَصْحَابُ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَضَمُّوا إلَيْهَا أُخْرَى فِي الْقَدَرِ وَغَيْرِهِ لَكِنْ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى حَقِيقَةً، وَتَكَلَّمَ حَقِيقَةً،

لَكِنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ: إمَّا فِي شَجَرَةٍ وَإِمَّا فِي هَوَاءٍ وَإِمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِذَاتِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ كَلَامٌ، وَلَا عِلْمٌ، وَلَا قُدْرَةٌ، وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا مَشِيئَةٌ وَلَا حَيَاةٌ. وَلَا شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ. وَالْجَهْمِيَّةُ تَارَةً يَبُوحُونَ بِحَقِيقَةِ الْقَوْلِ فَتَقُولُ إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَتَارَةً لَا يُظْهِرُونَ هَذَا اللَّفْظَ، لِمَا فِيهِ مِنْ الشَّنَاعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَيُقِرُّونَ بِاللَّفْظِ، وَلَكِنْ يَقُولُونَ بِأَنَّهُ خَلَقَ فِي غَيْرِهِ كَلَامًا، وَأَئِمَّةُ الدِّينِ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا؛ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ وَنُصُوصُ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ، حَتَّى إنَّ أَبَا الْقَاسِمِ الطَّبَرِيَّ الْحَافِظَ لَمَّا ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ فِي شَرْحِ أُصُولِ السُّنَّةِ مَقَالَاتِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي الْأُصُولِ، ذَكَرَ مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَقَالَ هَؤُلَاءِ، خَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ نَفْسًا أَوْ أَكْثَرُ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَرَضِيِّينَ سِوَى الصَّحَابَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَمُضِيِّ السِّنِينَ وَالْأَعْوَامِ، وَفِيهِمْ نَحْوٌ مِنْ مِائَةِ إمَامٍ مِمَّنْ أَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِهِمْ، وَتَذَهَّبُوا بِمَذَاهِبِهِمْ، وَلَوْ اشْتَغَلْت بِنَقْلِ قَوْلِ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَبَلَغَتْ أَسْمَاؤُهُمْ أُلُوفًا، لَكِنِّي اخْتَصَرْت فَنَقَلْت عَنْ هَؤُلَاءِ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ. لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ، وَمَنْ أَنْكَرَ قَوْلَهُمْ اسْتَتَابُوهُ أَوْ أَمَرُوا بِقَتْلِهِ أَوْ نَفْيِهِ أَوْ حَبْسِهِ، قَالَ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ: جَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ فِي سَنَةِ نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ ثُمَّ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ، فَأَمَّا جَعْدٌ فَقَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ، وَأَمَّا جَهْمٌ فَقُتِلَ بِمَرْوَ فِي خِلَافَةِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ وَجْهَيْنِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ يَوْمَ صِفِّينَ حَكَّمْت رَجُلَيْنِ، فَقَالَ: مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا. مَا حَكَّمْت إلَّا الْقُرْآنَ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جِنَازَةٍ، فَلَمَّا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي لَحْدِهِ قَامَ رَجُلٌ وَقَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ الْقُرْآنِ اغْفِرْ لِي، فَوَثَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: مَهْ الْقُرْآنُ مِنْهُ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ، وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ سَمِعْت عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ يَقُولُ: أَدْرَكْت مَشَايِخَنَا وَالنَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَفِي لَفْظٍ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ

كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَقَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ يَعْنِي ابْنَ رَاهْوَيْهِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: أَدْرَكْت النَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً، أَدْرَكْت أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنْ دُونَهُمْ يَقُولُونَ: اللَّهُ الْخَالِقُ، وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ، إلَّا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ، مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَهَذَا قَدْ رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ إِسْحَاقَ، وَإِسْحَاقَ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ. وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ الْقُرْآنِ أَخَالِقٌ هُوَ أَمْ مَخْلُوقٌ فَقَالَ: لَيْسَ بِخَالِقٍ وَلَا مَخْلُوقٍ، وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ وَخَلْقٍ مِنْ التَّابِعِينَ. وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَكَلَامُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَأَتْبَاعِهِمْ فِي كَثِيرٍ مَشْهُورٌ، بَلْ اشْتَهَرَ عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ تَكْفِيرُ مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، وَأَنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، كَمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِحَفْصٍ الْفَرْدِ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو مِمَّنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، فَلَمَّا نَاظَرَ الشَّافِعِيَّ وَقَالَ لَهُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، قَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ كَفَرْت بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ، ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، قَالَ: كَانَ فِي كِتَابٍ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ حَضَرْت الشَّافِعِيَّ أَوْ حَدَّثَنِي أَبُو شُعَيْبٍ إلَّا أَنِّي أَعْلَمُ حَضَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَيُوسُفُ بْنُ عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ، فَسَأَلَ حَفْصٌ: عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهُ، فَسَأَلَ، يُوسُفَ بْنَ عَمْرٍو فَلَمْ يُجِبْهُ، وَكِلَاهُمَا أَشَارَ إلَى الشَّافِعِيِّ فَسَأَلَ الشَّافِعِيَّ، فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ وَطَالَتْ فِيهِ الْمُنَاظَرَةُ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِالْحُجَّةِ، بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَكَفَّرَ حَفْصًا الْفَرْدَ، قَالَ الرَّبِيعُ: فَلَقِيت حَفْصًا فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ هَذَا فَقَالَ: أَرَادَ الشَّافِعِيُّ قَتْلِي. وَأَمَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَنُقِلَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، وَاسْتَتَابَهُ، وَهَذَا الْمَشْهُورُ عَنْهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ فِي الِاعْتِقَادِ الَّذِي قَالَ فِي

أَوَّلِهِ " ذِكْرُ بَيَانِ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ " عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ أَبِي حَنِيفَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ فِيهِ: وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَأَ بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا، وَأَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ وَحْيًا، وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا، وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ، لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلَامِ الْبَرِّيَّةِ، فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلَامُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ، وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَعَابَهُ وَأَوْعَدَهُ عَذَابَهُ، وَتَوَاعَدَهُ حَيْثُ قَالَ: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، فَلَمَّا أَوْعَدَ اللَّهُ سَقَرَ لِمَنْ قَالَ {إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 25] عَلِمْنَا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ الْبَشَرِ وَلَا يُشْبِهُ قَوْلَ الْبَشَرِ. وَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَكَلَامُهُ فِي مِثْلِ هَذَا مَشْهُورٌ مُتَوَاتِرٌ، وَهُوَ الَّذِي اشْتَهَرَ بِمِحْنَةِ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْقَوْلَ بِإِنْكَارِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَائِقِ أَسْمَائِهِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ تَعْطِيلَ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَدَعَوْا النَّاسَ إلَى ذَلِكَ، وَعَاقَبُوا لِمَنْ لَمْ يُجِبْهُمْ إمَّا بِالْقَتْلِ، وَإِمَّا بِقَطْعِ الرِّزْقِ، وَإِمَّا بِالْعَزْلِ عَنْ الْوِلَايَةِ، وَإِمَّا بِالْحَبْسِ أَوْ الضَّرْبِ، وَكَفَّرُوا مَنْ خَالَفَهُمْ، فَثَبَّتَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِمَامَ أَحْمَدَ حَتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ بِهِ بَاطِلَهُمْ، وَنَصَرَ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ عَلَيْهِمْ، وَأَذَلَّهُمْ بَعْدَ الْعِزِّ، وَأَخْمَلَهُمْ بَعْدَ الشُّهْرَةِ، وَاشْتَهَرَ عِنْدَ خَوَاصِّ الْأُمَّةِ وَعَوَامِّهَا أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ. وَأَمَّا إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى، فَهَذِهِ مُنَاقِضَةٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَهَذَا بِلَا رَيْبٍ يُسْتَتَابُ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ فَإِنَّهُ أَنْكَرَ نَصَّ الْقُرْآنِ؛ وَبِذَلِكَ أَفْتَى الْأَئِمَّةُ وَالسَّلَفُ فِي مِثْلِهِ؛ وَاَلَّذِي يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ؛ هُوَ فِي الْمَعْنَى مُوَافِقٌ لَهُ فَلِذَلِكَ كَفَّرَهُ السَّلَفُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " خَلْقِ الْأَفْعَالِ " قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ قَالَ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ مَنْ قَالَ {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا} [طه: 14] مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَلَا يَنْبَغِي لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَا تَقُولُ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّةُ إنَّهُ فِي الْأَرْضِ هَاهُنَا بَلْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ قَالَ: فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. وَقَالَ:

مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ. وَإِنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّةِ قَالَ: وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ: أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ لِلَّهِ وَلَدًا أَكْفَرُ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَكَانَ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي إدْرِيسَ يُسَمِّيهِمْ زَنَادِقَةُ الْعِرَاقِ، وَقِيلَ لَهُ: سَمِعْت أَحَدًا يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةُ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ: سَمِعْت يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. فَقَالَ: كَيْفَ يَصْنَعُونَ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ؟ كَيْفَ يَصْنَعُونَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا} [طه: 14] قَالَ: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: نَظَرْت فِي كَلَامِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس، فَمَا رَأَيْت قَوْمًا أَضَلَّ فِي كُفْرِهِمْ مِنْهُمْ، وَإِنِّي لَأَسْتَجْهِلُ مَنْ لَا يُكَفِّرُهُمْ، إلَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ كُفْرَهُمْ. قَالَ: وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْهَاشِمِيُّ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا كَمَا زَعَمُوا فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى بِأَنْ يَخْلُدَ فِي النَّارِ إذْ قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا مَخْلُوقٌ، وَاَلَّذِي قَالَ: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14] هَذَا أَيْضًا قَدْ ادَّعَى مَا ادَّعَى فِرْعَوْنُ فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى أَنْ يَخْلُدَ فِي النَّارِ مِنْ هَذَا، وَكِلَاهُمَا عِنْدَهُ مَخْلُوقٌ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ فَاسْتَحْسَنَهُ وَأَعْجَبَهُ. وَمَعْنَى كَلَامِ هَؤُلَاءِ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، خَلَقَهُ فِي الشَّجَرَةِ أَوْ غَيْرِهَا كَمَا قَالَ هَذَا الْجَهْمِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ الْمَسْئُولُ عَنْهُ كَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِ: إنَّ الشَّجَرَةَ هِيَ الَّتِي قَالَتْ لِمُوسَى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14] وَمَنْ قَالَ: إنَّ مَخْلُوقًا قَالَ ذَلِكَ، فَهَذَا الْمَخْلُوقُ عِنْدَهُ كَفِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] كِلَاهُمَا مَخْلُوقٌ وَكِلَاهُمَا قَالَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ كُفْرًا فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ أَيْضًا كُفْرٌ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ يَئُولُ إلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ

وَإِنْ كَانُوا لَا يَفْهَمُونَ ذَلِكَ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ كَذَّبَ مُوسَى فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّ رَبَّهُ هُوَ الْأَعْلَى، وَأَنَّهُ كَلَّمَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ - أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37] وَهُوَ قَدْ كَذَّبَ مُوسَى فِي أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إذَا خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ صَارَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ. وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْطَقَ الْأَشْيَاءَ نُطْقًا مُعْتَادًا وَنُطْقًا خَارِجًا عَنْ الْمُعْتَادِ، قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65] وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت: 20] {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص: 18] ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْحَصَى كَانَ يُسَبِّحُ فِي يَدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ الْحَجَرَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ إنْطَاقِ الْجَمَادَاتِ. فَلَوْ كَانَ إذَا خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ كَانَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ قَدْ كَلَّمَ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ، كَمَا كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، فَكُلُّ نَاطِقٍ فَاَللَّهُ خَالِقٌ نُطْقَهُ وَكَلَامَهُ، فَلَوْ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِمَا خَلْفَهُ مِنْ الْكَلَامِ لَكَانَ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامَهُ، حَتَّى كَلَامِ إبْلِيسَ وَالْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا يَقُولُهُ غُلَاةُ الْجَهْمِيَّةِ كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ يَقُولُونَ: وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ ... سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَهَكَذَا أَشْبَاهُ هَؤُلَاءِ مِنْ غُلَاةِ الْمُشَبِّهَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ يَجْعَلُونَ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ الْخَالِقِ، فَأُولَئِكَ يَجْعَلُونَ الْجَمِيعَ مَخْلُوقًا، وَأَنَّ الْجَمِيعَ كَلَامُ اللَّهِ،

وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْجَمِيعَ كَلَامَ اللَّهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَلِهَذَا كَانَ قَدْ حَصَلَ اتِّصَالٌ بَيْنَ شَيْخِ الْجَهْمِيَّةِ الْحُلُولِيَّةِ، وَشَيْخِ الْمُشَبِّهَةِ الْحُلُولِيَّةِ، وَبِسَبَبِ هَذِهِ الْبِدَعِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ النَّكِرَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ، سَلَّطَ اللَّهُ أَعْدَاءَ الدِّينِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41] . وَأَيُّ مَعْرُوفٍ أَعْظَمُ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ؟ وَأَيُّ مُنْكَرٍ أَعْظَمُ مِنْ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ؟ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ لِهَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ: مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ، فَإِنَّمَا يَعُودُ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ، لَا عَلَى غَيْرِهِ، فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ حَرَكَةً أَوْ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رِيحًا، كَانَ ذَلِكَ الْجِسْمُ هُوَ الْمُتَحَرِّكُ الْمُتَلَوِّنُ الْمُتَرَوِّحُ الْمَطْعُومُ، وَإِذَا خَلَقَ بِمَحَلٍّ حَيَاةً أَوْ عِلْمًا أَوْ قُدْرَةً أَوْ إرَادَةً أَوْ كَلَامًا، كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْحَيُّ الْعَالِمُ الْقَادِرُ الْمُرِيدُ الْمُتَكَلِّمُ، فَإِذَا خَلَقَ كَلَامًا فِي الشَّجَرَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْأَجْسَامِ؛ كَانَ ذَلِكَ الْجِسْمُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ الْكَلَامِ، كَمَا لَوْ خَلَقَ فِيهِ إرَادَةً وَحَيَاةً أَوْ عِلْمًا، وَلَا يَكُونُ اللَّهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ؛ كَمَا أَنَّهُ إذَا خَلَقَ فِيهِ حَيَاةً أَوْ قُدْرَةً أَوْ سَمْعًا أَوْ بَصَرًا فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَحَلَّ هُوَ الْحَيُّ بِهِ وَالْقَادِرُ بِهِ وَالسَّمِيعُ بِهِ؛ وَالْبَصِيرُ بِهِ؛ فَكَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِمَا خَلَقَهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْحَيَاةِ وَغَيْرِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْحَيَاةِ، فَلَا يَكُونُ هُوَ الْمُتَحَرِّكُ بِمَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْحَرَكَاتِ وَلَا الْمُصَوِّتُ بِمَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَصْوَاتِ، وَلَا سَمْعُهُ وَلَا بَصَرُهُ وَقُدْرَتُهُ مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقُدْرَةِ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ كَلَامُهُ مَا خَلَقَهُ مَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ، وَلَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِذَلِكَ الْكَلَامِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَقَّ مِنْ مَعْنًى لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَإِنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ وَاسْمَ الْمَفْعُولِ وَالصِّفَةَ الْمُشَبَّهَةَ وَأَفْعَالَ التَّفْضِيلِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ مَعْنَاهَا دُونَ ثُبُوتِ مَعْنَى الْمَصْدَرِ الَّتِي هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْهُ، وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَحَرِّكٌ وَلَا مُتَكَلِّمٌ إلَّا بِحَرَكَةٍ وَكَلَامٍ، فَلَا يَكُونُ مُرِيدٌ إلَّا بِإِرَادَةٍ. وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ عَالِمٌ إلَّا بِعِلْمٍ، وَلَا قَادِرٌ إلَّا بِقُدْرَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمُشْتَقَّةُ مِنْ الْمَصْدَرِ إنَّمَا

يُسَمَّى بِهَا مَنْ قَامَ بِهِ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى بِالْحَيِّ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ، وَبِالْمُتَحَرِّكِ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَرَكَةُ، وَبِالْعَالِمِ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ، وَبِالْقَادِرِ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ. فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُسَمَّى بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَنَحْوِهِ مِنْ الصِّفَاتِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاعْتِبَارِ فِي جَمِيعِ النَّظَائِرِ، وَذَلِكَ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ وَنَحْوَهُ مِنْ الْمُشْتَقَّاتِ هُوَ مُرَكَّبٌ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَعَلَى الصِّفَةِ، وَالْمُرَكَّبُ يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ بِدُونِ تَحَقُّقِ مُفْرَدَاتِهِ. وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ، مِثْلُ تَكَلَّمَ وَكَلَّمَ وَيَتَكَلَّمُ وَيُكَلِّمُ، وَعَلِمَ وَيَعْلَمُ، وَسَمِعَ وَيَسْمَعُ، وَرَأَى وَيَرَى، وَنَحْوِ ذَلِكَ سَوَاءٌ قِيلَ إنَّ الْفِعْلَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمَصْدَرِ أَوْ الْمَصْدَرَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْفِعْلِ، لَا نِزَاعَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ فَاعِلَ الْفِعْلِ هُوَ فَاعِلُ الْمَصْدَرِ، فَإِذَا قِيلَ كَلَّمَ وَعَلِمَ أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ تَعَلَّمَ، فَفَاعِلُ التَّكْلِيمِ وَالتَّعْلِيمِ هُوَ الْمُكَلِّمُ وَالْمُعَلِّمُ، وَكَذَلِكَ التَّعَلُّمُ وَالتَّكَلُّمُ، وَالْفَاعِلُ هُوَ الَّذِي قَامَ بِهِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ التَّكْلِيمُ وَالتَّعْلِيمُ، وَالتَّكَلُّمُ وَالتَّعَلُّمُ، فَإِذَا قِيلَ تَكَلَّمَ فُلَانٌ، أَوْ كَلَّمَ فُلَانٌ فُلَانًا فَفُلَانٌ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ وَالْمُكَلِّمُ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] ، وَقَوْلُهُ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253] وَقَوْلُهُ: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُكَلِّمُ، فَكَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ، يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ كَلَّمَ بِكَلَامٍ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَلْزَمُ الْجَهْمِيَّةَ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ خَلَقَهُ اللَّهُ كَلَامًا لَهُ، إذْ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللَّهِ إلَّا كَوْنُهُ خَلَقَهُ، وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ كَلَامًا وَلَوْ فِي غَيْرِهِ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِهِ عِنْدَهُمْ، وَلَيْسَ لِلْكَلَامِ عِنْدَهُمْ مَدْلُولٌ يَقُومُ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى لَوْ كَانَ مَدْلُولٌ قَائِمٌ يَدُلُّ لِكَوْنِهِ خَلَقَ صَوْتًا فِي مَحَلٍّ، وَالدَّلِيلُ يَجِبُ طَرْدُهُ. فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ صَوْتٍ بِخَلْقِهِ لَهُ لِذَلِكَ، وَهُمْ يُجَوِّزُونَ أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ الْمَخْلُوقُ عَلَى جَمِيعِ

الصِّفَاتِ، فَلَا يَبْقَى فَرْقٌ بَيْنَ الصَّوْتِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَالصَّوْتُ الَّذِي لَيْسَ هُوَ بِكَلَامٍ. الثَّانِي: أَنَّ الصِّفَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحَلِّ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَالْحَرَكَةِ عَادَ حُكْمُهُ إلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَلَا يَعُودُ حُكْمُهُ إلَى غَيْرِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ مُشْتَقَّ الْمَصْدَرِ مِنْهُ اسْمُ الْفَاعِلِ وَالصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَا يُشْتَقُّ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ، وَهُوَ مَا يُبَيِّنُ قَوْلَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ إنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ، لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ التَّكَلُّمِ عَائِدًا إلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا إلَى اللَّهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ وَكَّدَ تَكْلِيمَ مُوسَى بِالْمَصْدَرِ فَقَالَ: (تَكْلِيمًا) قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ: التَّوْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ يَنْفِي الْمَجَازَ. لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ أَرْسَلَ غَيْرَهُ، مِمَّنْ لَمْ يُكَلِّمْهُ، وَقَالَ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا} [الشورى: 51] الْآيَةَ فَكَانَ تَكْلِيمُ مُوسَى مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَقَالَ: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: 144] وَقَالَ: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] إلَى قَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] ، وَالْوَحْيُ هُوَ مَا نَزَّلَهُ عَلَى قُلُوبِ الْأَنْبِيَاءِ بِلَا وَاسِطَةٍ، فَلَوْ كَانَ تَكْلِيمُهُ لِمُوسَى إنَّمَا هُوَ صَوْتٌ خَلَقَهُ فِي الْهَوَاءِ لَكَانَ وَحْيُ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلَ مِنْهُ، لِأَنَّ أُولَئِكَ عَرَفُوا الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَمُوسَى إنَّمَا عَرَفَهُ بِوَاسِطَةٍ، وَلِهَذَا كَانَ غُلَاةُ الْجَهْمِيَّةِ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ يَدَّعُونَ أَنَّ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الْإِلْهَامِ أَفْضَلُ مِمَّا حَصَلَ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَمَّا فَهِمَ السَّلَفُ حَقِيقَةَ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي تَعْطِيلَ الرِّسَالَةِ، فَإِنَّ الرُّسُلَ إنَّمَا بُعِثُوا لِيُبَلِّغُوا كَلَامَ اللَّهِ، بَلْ يَقْتَضِي تَعْطِيلَ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَقُومُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا حَيَاةٌ هُوَ كَالْمَوَاتِ، بَلْ مَنْ لَا يَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ فَهُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ، إذْ ذَاتٌ لَا صِفَةَ لَهَا إنَّمَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهَا فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ كَتَقْدِيرِ وُجُودٍ مُطْلَقٍ

لَا يَتَعَيَّنُ وَلَا يَتَخَصَّصُ. فَكَانَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ مُضَاهِيًا لِقَوْلِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الدَّهْرِيَّةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ وُجُودَ الرَّبِّ وُجُودًا مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا صِفَةَ لَهُ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي الذِّهْنِ. وَهَؤُلَاءِ الدَّهْرِيَّةُ يُنْكِرُونَ أَيْضًا حَقِيقَةَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى، وَيَقُولُونَ إنَّمَا هُوَ فَيْضٌ فَاضَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ. وَهَكَذَا يَقُولُونَ فِي الْوَحْيِ إلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ. وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقُرْآنَ قَوْلُ الْبَشَرِ، لَكِنَّهُ صَدَرَ عَنْ نَفْسٍ صَافِيَةٍ شَرِيفَةٍ، وَإِذَا كَانَ الْمُعْتَزِلَةُ خَيْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ، وَقَدْ كَفَّرَ السَّلَفُ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ، فَكَيْفَ هَؤُلَاءِ؟ وَكَلَامُ السَّلَفِ وَالْأُمَّةِ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ لَا يُحْصَى، قَالَ حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلُ الْكَرْمَانِيُّ: سَمِعْت إِسْحَاقَ بْنَ رَاهْوَيْهِ يَقُولُ: لَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ اخْتِلَافٌ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ. وَكَيْفَ يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ الرَّبِّ عَزَّ ذِكْرُهُ مَخْلُوقًا. وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا عِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ مَخْلُوقَةٌ. فَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا كَانَ اللَّهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ وَلَا عِلْمَ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا مَشِيئَةَ. وَهُوَ الْكُفْرُ الْمَحْضُ الْوَاضِحُ. لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا لَهُ الْمَشِيئَةُ وَالْقُدْرَةُ فِي خَلْقِهِ. وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ شَيْئًا مِنْ اللَّهِ مَخْلُوقٌ. فَقِيلَ لَهُ مِنْ أَيْنَ قُلْت هَذَا؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13] وَلَا يَكُونُ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ. لَيْسَ بِبَائِنٍ مِنْهُ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَأَ وَمِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّكُمْ لَنْ تَرْجِعُوا إلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ» . يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَصْحَابِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ لَمَّا سَمِعَ قُرْآنَ

مُسَيْلِمَةَ: " وَيْحَكُمْ أَيْنَ يَذْهَبُ بِعُقُولِكُمْ، إنَّ هَذَا كَلَامٌ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ آنٍ "، أَيْ مِنْ رَبٍّ. وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ إنَّهُ مِنْهُ خَرَجَ وَمِنْهُ بَدَأَ: أَنَّهُ فَارَقَ ذَاتَه وَحَلَّ بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ إذَا تَكَلَّمَ بِهِ لَا يُفَارِقُ ذَاتَه وَيَحِلُّ بِغَيْرِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ كَلَامَ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا} [الكهف: 5] فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْكَلِمَةَ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ تُفَارِقْ ذَاتَهمْ. وَأَيْضًا فَالصِّفَةُ لَا تُفَارِقُ الْمَوْصُوفَ وَتَحِلُّ بِغَيْرِهِ، لَا صِفَةُ الْخَالِقِ وَلَا صِفَةُ الْمَخْلُوقِ، وَالنَّاسُ إذَا سَمِعُوا كَلَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ بَلَّغُوهُ عَنْهُ، كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي بَلَّغُوهُ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ بَلَّغُوهُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ، فَالْقُرْآنُ أَوْلَى بِذَلِكَ فَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي، وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» . وَلَكِنَّ مَقْصُودَ السَّلَفِ الرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ فَيَكُونُ قَدْ ابْتَدَأَ وَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ الَّذِي خَلَقَ فِيهِ لَا مِنْ اللَّهِ، كَمَا يَقُولُونَ كَلَامُهُ لِمُوسَى خَرَجَ مِنْ الشَّجَرَةِ، فَبَيَّنَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ اللَّهِ بَدَأَ وَخَرَجَ، وَذَكَرُوا قَوْلَهُ: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13] . فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَوْلَ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ، " وَمِنْ " هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمَجْرُورُ بِهَا عَيْنًا يَقُومُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ صِفَةً لِلَّهِ كَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] ، وَقَوْلُهُ فِي الْمَسِيحِ رُوحٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا يَقُومُ بِالْأَعْيَانِ كَقَوْلِهِ: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] .

وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَجْرُورُ بِهَا صِفَةً وَلَمْ يُذْكَرْ لَهَا مَحَلٌّ كَانَ صِفَةً لِلَّهِ كَقَوْلِهِ: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13] ، وَلِذَلِكَ قَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ نَزَلَ مِنْهُ، وَأَنَّهُ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْهُ، رَدَّ عَلَى هَذَا الْمُبْتَدِعِ الْمُفْتَرِي وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 114] . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102] . وَرُوحُ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ - عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 193 - 194] وَقَالَ: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 97] ، وَقَالَ هُنَا: {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل: 102] ، فَبَيَّنَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَّلَهُ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ هَوَاهُ وَلَا مِنْ لَوْحٍ وَلَا مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ آيَاتِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1] . وَقَوْلِهِ: {حم - تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر: 1 - 2] ، وَقَوْلِهِ: {حم - تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1 - 2] ، وَقَوْلِهِ: {الم - تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة: 1 - 2] وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] . فَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ، فَمَنْ قَالَ إنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ بَعْضِ

الْمَخْلُوقَاتِ كَاللَّوْحِ أَوْ الْهَوَاءِ فَهُوَ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ، مُكَذِّبٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، مُتَّبِعٌ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ فَرَّقَ بَيْنَ مَا نَزَّلَهُ مِنْهُ، وَمَا نَزَّلَهُ مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْمَطَرِ بِأَنَّهُ قَالَ: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الرعد: 17] ، فَذَكَرَ الْمَطَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ نَزَّلَهُ مِنْ السَّمَاءِ، وَالْقُرْآنُ أَخْبَرَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْهُ، وَأَخْبَرَ بِتَنْزِيلٍ مُطْلَقٍ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25] لِأَنَّ الْحَدِيدَ يَنْزِلُ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ لَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ، وَكَذَلِكَ أَنْزَلَ الْحَيَوَانَ، فَإِنَّ الذَّكَرَ يُنْزِلُ الْمَاءَ فِي الْإِنَاثِ، فَلَمْ يَقُلْ فِيهِ مِنْ السَّمَاءِ. وَلَوْ كَانَ جِبْرِيلُ أَخَذَ الْقُرْآنَ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَكَانَ الْيَهُودُ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ لِمُوسَى التَّوْرَاةَ وَأَنْزَلَهَا مَكْتُوبَةً، فَيَكُونُ بَنُو إسْرَائِيلَ قَدْ قَرَءُوا الْأَلْوَاحَ الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوهُ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدٌ أَخَذَهُ عَنْ جِبْرِيلَ عَنْ اللَّوْحِ،، فَيَكُونُ بَنُو إسْرَائِيلَ بِمَنْزِلَةِ جِبْرِيلَ، وَتَكُونُ مَنْزِلَةُ بَنِي إسْرَائِيلَ أَرْفَعَ مِنْ مَنْزِلَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ مِنْ فَضَائِلِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، وَأَنَّهُ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ تِلَاوَةً لَا كِتَابَةً، وَفَرَّقَهُ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَقَالَ: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا} [الإسراء: 106] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا} [الفرقان: 32] . ثُمَّ إنْ كَانَ جِبْرِيلُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ اللَّهِ، وَإِنَّمَا وَجَدَهُ مَكْتُوبًا، كَانَتْ الْعِبَارَةُ عِبَارَةَ جِبْرِيلَ، وَكَانَ الْقُرْآنُ كَلَامَ جِبْرِيلَ، تَرْجَمَ بِهِ عَنْ اللَّهِ، كَمَا يُتَرْجَمُ عَنْ الْأَخْرَسِ الَّذِي كَتَبَ كَلَامًا وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، وَهَذَا خِلَافُ دِينِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19] {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] قِيلَ لَهُ: فَقَدْ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:

{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 41] {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 42] ، فَالرَّسُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جِبْرِيلُ، وَالرَّسُولُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مُحَمَّدٌ. فَلَوْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ الرَّسُولَ أَحْدَثَ عِبَارَتَهُ لَتَنَاقَضَ الْخَبَرَانِ. فَعُلِمَ أَنَّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِ إضَافَةَ تَبْلِيغٍ لَا إضَافَةَ إحْدَاثٍ، وَلِهَذَا قَالَ: {لَقَوْلُ رَسُولٍ} [الحاقة: 40] ، وَلَمْ يَقُلْ مَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَهُ، كَمَا قَالَ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ وَيَقُولُ: «أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي. فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي» . وَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {الم} [الروم: 1] {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ. فَقَالُوا: هَذَا كَلَامُك أَمْ كَلَامُ صَاحِبِك؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِكَلَامِي وَلَا كَلَامِ صَاحِبِي. وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. وَإِنْ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] ، قِيلَ لَهُ: هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْك. فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] عُلِمَ أَنَّ الذِّكْرَ مِنْهُ مُحْدَثٌ. وَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِمُحْدَثٍ؛ لِأَنَّ النَّكِرَةَ إذَا وُصِفَتْ مَيَّزَتْهَا بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَغَيْرِهِ. كَمَا لَوْ قَالَ: مَا يَأْتِينِي مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ إلَّا أَكْرَمْته. وَمَا آكُلُ إلَّا طَعَامًا حَلَالًا وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُحْدَثَ فِي الْآيَةِ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقُ الَّذِي يَقُولُهُ الْجَهْمِيُّ. وَلَكِنَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ جَدِيدًا. فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ يُنَزِّلُ الْقُرْآنَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. فَالْمُنَزَّلُ أَوَّلًا هُوَ قَدِيمٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُنَزَّلِ آخِرًا. وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ قَدِيمٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ. كَمَا قَالَ: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] وَقَالَ:

مسألة فيمن قال إن الله لم يكلم موسى تكليما فقال له آخر بل كلمه تكليما

{تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95] . وَقَالَ: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11] . وَقَالَ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} [الشعراء: 75] {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} [الشعراء: 76] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] لَمْ يَقُلْ (جَعَلْنَاهُ) فَقَطْ حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ بِمَعْنَى خَلَقْنَاهُ وَلَكِنْ قَالَ: {جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] ، أَيْ صَيَّرْنَاهُ عَرَبِيًّا، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُنَزِّلَهُ عَجَمِيًّا وَيُنَزِّلَهُ عَرَبِيًّا، فَلَمَّا أَنْزَلَهُ عَرَبِيًّا، كَانَ قَدْ جَعَلَهُ عَرَبِيًّا دُونَ عَجَمِيٍّ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي فَارَقُوا بِهَا الْجَهْمِيَّةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا فَقَالَ لَهُ آخَرُ بَلْ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا] 1027 - 3 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسًى تَكْلِيمًا، فَقَالَ لَهُ آخَرُ: بَلْ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا، فَقَالَ: إنْ قُلْت كَلَّمَهُ، فَالْكَلَامُ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ، وَالْحَرْفُ وَالصَّوْتُ مُحْدَثٌ، وَمَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ فَهُوَ كَافِرٌ كَمَا قَالَ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، فَهَذَا إنْ كَانَ لَمْ يَسْمَعْ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يُعَرَّفُ أَنَّ هَذَا نَصُّ الْقُرْآنِ، فَإِنْ أَنْكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ اُسْتُتِيبَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إنْ كَانَ كَلَامُهُ بَعْدَ أَنْ يَجْحَدَ نَصَّ الْقُرْآنِ. بَلْ لَوْ قَالَ: إنَّ مَعْنَى كَلَامِي أَنَّهُ خَلَقَ صَوْتًا فِي الْهَوَاءِ فَأَسْمَعَهُ مُوسَى، كَانَ كَلَامُهُ أَيْضًا كُفْرًا، وَهُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ كَفَّرَهُمْ السَّلَفُ وَقَالُوا يُسْتَتَابُونَ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا، لَكِنَّ مَنْ كَانَ مُوقِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَبْلُغْهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا يُبَيِّنُ لَهُ الصَّوَابَ، فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا كَفَرَ، إذْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُخْطِئُ فِيمَا يَتَأَوَّلُهُ مِنْ الْقُرْآنِ، وَيَجْهَلُ كَثِيرًا مِمَّا يَرِدُ مِنْ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ،

وَالْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ مَرْفُوعٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالْكُفْرُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْبَيَانِ. وَالْأَئِمَّةُ الَّذِينَ أَمَرُوا بِقَتْلِ مِثْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَيَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، قِيلَ إنَّهُمْ أَمَرُوا بِقَتْلِهِمْ لِكُفْرِهِمْ، وَقِيلَ لِأَنَّهُمْ إذَا دَعَوْا النَّاسَ إلَى بِدْعَتِهِمْ أَضَلُّوا النَّاسَ، فَقُتِلُوا لِأَجْلِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَحِفْظًا لِدِينِ النَّاسِ أَنْ يُضِلُّوهُمْ. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ مِنْ شَرِّ طَوَائِفِ أَهْلِ الْبِدَعِ، حَتَّى أَخْرَجَهُمْ كَثِيرٌ عَنْ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَمِنْ الْجَهْمِيَّةِ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، وَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا كَلَّمَ مُوسَى بِكَلَامٍ مَخْلُوقٍ خَلَقَهُ فِي الْهَوَاءِ، وَإِنَّهُ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مُبَايِنًا لِخَلْقِهِ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ تَعْطِيلَ الْخَالِقِ، وَتَكْذِيبَ رُسُلِهِ، وَإِبْطَالَ دِينِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ: إنْ قُلْت: كَلَّمَهُ، فَالْكَلَامُ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ، وَالْحَرْفُ وَالصَّوْتُ مُحْدَثٌ، وَمَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ فَهُوَ كَافِرٌ. فَيُقَالُ لِهَذَا الْمُلْحِدِ: أَنْتَ تَقُولُ إنَّهُ كَلَّمَهُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ لَكِنْ تَقُولُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ خَلَقَهُ فِي الْهَوَاءِ، وَتَقُولُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُومَ بِهِ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ، لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ إلَّا بِمُتَحَيِّزٍ، وَالْبَارِي لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مُتَحَيِّزٌ فَقَدْ كَفَرَ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ جَحَدَ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَانَ أَوْلَى بِالْكُفْرِ مِمَّنْ أَقَرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَإِنْ قَالَ الْجَاحِدُ لِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: إنَّ الْعَقْلَ مَعَهُ، قَالَ لَهُ الْمُوَافِقُ لِلنُّصُوصِ: بَلْ الْعَقْلُ مَعِي، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَهَذَا يَقُولُ إنَّ مَعَهُ السَّمْعُ وَالْعَقْلُ، وَقَالَ إنَّمَا يُحْتَجُّ لِقَوْلِهِ بِمَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْعَقْلِ الَّذِي يُبَيِّنُ مُنَازَعَةَ فَسَادِهِ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْعَقْلَ مَعَهُ، وَالْكُفْرُ هُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ خَالَفَ شَيْئًا عُلِمَ بِنَظَرِ الْعَقْلِ يَكُونُ كَافِرًا، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ جَحَدَ بَعْضَ صَرَائِحِ الْعُقُولِ لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ، حَتَّى يَكُونَ قَوْلُهُ كُفْرًا فِي الشَّرِيعَةِ، وَأَمَّا مَنْ خَالَفَ مَا عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ جَاءَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِلَا نِزَاعٍ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا فِي قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا

الْإِخْبَارُ عَنْ اللَّهِ بِأَنَّهُ مُتَحَيِّزٌ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ، وَلَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ هَذَا أَوْ هَذَا يَكْفُرُ، وَهَذَا اللَّفْظُ مُبْتَدَعٌ، وَالْكُفْرُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمُجَرَّدِ أَسْمَاءٍ مُبْتَدَعَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَلْ يُسْتَفْسَرُ هَذَا الْقَائِلُ إذَا قَالَ إنَّ اللَّهَ مُتَحَيِّزٌ أَوْ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ، فَإِنْ قَالَ أَعْنِي بِقَوْلِي إنَّهُ مُتَحَيِّزٌ أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، قَدْ حَازَتْهُ وَأَحَاطَتْ بِهِ، فَهَذَا بَاطِلٌ، وَإِنْ قَالَ أَعْنِي بِهِ أَنَّهُ مُنْحَازٌ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ مُبَايِنٌ لَهَا فَهَذَا حَقٌّ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَحُوزُ الْخَالِقَ فَقَدْ أَصَابَ، وَإِنْ قَالَ إنَّ الْخَالِقَ لَا يُبَايِنُ الْمَخْلُوقَ وَيَنْفَصِلُ عَنْهُ، فَقَدْ أَخْطَأَ. وَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ، فَالنَّاسُ فِي الْجَوَابِ عَنْ حُجَّتِهِ الدَّاحِضَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ لَوْ قُلْت إنَّهُ كَلَّمَهُ فَالْكَلَامُ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ، وَالْحَرْفُ وَالصَّوْتُ مُحْدَثٌ. ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ مَنَعُوهُ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى. وَصِنْفٌ مَنَعُوهُ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ. وَصِنْفٌ لَمْ يَمْنَعُوهُ الْمُقَدِّمَتَيْنِ. بَلْ اسْتَفْسَرُوهُ وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا. فَالصِّنْفُ الْأَوَّلُ: أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ وَأَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ اتَّبَعَهُمَا قَالُوا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ. بَلْ الْكَلَامَ مَعْنَى قَائِمٌ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ. وَالْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ عِبَارَةٌ عَنْهُ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِكُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ، وَالْخَبَرَ عَنْ كُلِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ. وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ كَانَ إنْجِيلًا. وَقَالُوا: إنَّ اسْمَ الْكَلَامِ حَقِيقَةٌ فَيَكُونُ اسْمُ الْكَلَامِ مُشْتَرَكًا أَوْ مَجَازًا فِي كَلَامِ الْخَالِقِ وَحَقِيقَةً فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِ. وَالصِّنْفُ الثَّانِي: سَلَّمُوا لَهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ. وَمَنَعُوهُمْ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ أَنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ لَا يَكُونُ إلَّا مُحْدَثًا. وَصِنْفٌ قَالُوا إنَّ الْمُحْدَثَ كَالْحَادِثِ سَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ بِكَلَامٍ لَا يَكُونُ إلَّا قَدِيمًا. وَهُوَ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ قَدِيمٌ وَهُوَ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ كَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ وَأَتْبَاعِهِ السَّالِمِيَّةِ وَطَوَائِفَ مِمَّنْ اتَّبَعَهُ. وَقَالَ هُوَ لَا فِي الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ. نَظِيرُ مَا قَالَهُ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ فِي الْمَعَانِي. وَقَالُوا كَلَامٌ لَا بِحَرْفٍ وَلَا بِصَوْتٍ لَا يُعْقَلُ. وَمَعْنَى أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا مُمْتَنِعٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ. وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاحِدٌ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَاتُ

الدَّالَّةُ عَلَيْهِ، فَقَوْلٌ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ عَقْلًا وَشَرْعًا. وَإِخْرَاجُ الْحُرُوفِ عَنْ مُسَمَّى الْكَلَامِ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ جَمِيعِ اللُّغَاتِ. وَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ الْمَخْلُوقَةَ فِي غَيْرِ كَلَامِ اللَّهِ حَقِيقَةٌ، أَمْكَنَ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ كَلَّمَ مُوسَى بِكَلَامٍ مَخْلُوقٍ فِي غَيْرِهِ، قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ الْأَوَّلِينَ: إذَا قُلْتُمْ إنَّ الْكَلَامَ هُوَ مُجَرَّدُ الْمَعْنَى وَقَدْ خُلِقَ عِبَارَةً. فَإِنْ قُلْتُمْ إنَّ تِلْكَ الْعِبَارَةَ كَلَامٌ حَقِيقَةً. بَطَلَتْ حُجَّتُكُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ. فَإِنَّ أَعْظَمَ حُجَّتِكُمْ عَلَيْهِمْ قَوْلُكُمْ: إنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْلَمَ بِعِلْمٍ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ. وَأَنْ يَقْدِرَ بِقُدْرَةٍ قَائِمَةٍ بِغَيْرِهِ. وَأَنْ يُرِيدَ بِإِرَادَةٍ قَائِمَةٍ بِغَيْرِهِ. وَإِنْ قُلْتُمْ: هِيَ كَلَامٌ مَجَازًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَى. مَجَازًا فِي اللَّفْظِ. وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ جَمِيعِ اللُّغَاتِ. وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: الَّذِينَ لَمْ يَمْنَعُوا الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَلَكِنْ اسْتَفْسَرُوهُمْ وَبَيَّنُوا أَنَّ هَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ قَوْلِكُمْ، بَلْ قَالُوا إنْ قُلْتُمْ إنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ مُحْدَثٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مِنْهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِكُمْ وَتَنَاقُضِهِ، وَهَذَا قَوْلٌ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ قُلْتُمْ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَدِيمًا. فَهَذَا مُسَلَّمٌ لَكُمْ، لَكِنَّ تَسْمِيَتَهُ هَذَا مُحْدَثٌ. وَهَؤُلَاءِ صِنْفَانِ: صِنْفٌ قَالَ: إنَّ الْمُحْدَثَ هُوَ الْمَخْلُوقُ الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ، فَإِذَا قُلْنَا الْحَرْفُ وَالصَّوْتُ لَا يَكُونُ إلَّا مُحْدَثًا. كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِنَا لَا يَكُونُ إلَّا مَخْلُوقًا. وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ هَذَا الْمُعْتَزِلِيُّ أَبْطَلَ قَوْلَهُ بِقَوْلِهِ، حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ مَخْلُوقٍ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ لَا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ مَخْلُوقٍ فِيهِ تَلْبِيسٌ. وَنَحْنُ لَا نَقُولُ كَلَّمَ مُوسَى بِكَلَامٍ قَدِيمٍ وَلَا بِكَلَامٍ مَخْلُوقٍ، بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ، وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَأْتِي فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةِ، كَمَا قَالَ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] . وَقَالَ:

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ كَثِيرٌ، مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إذَا شَاءَ فَعَلَ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ تَكْلِيمِهِ وَأَفْعَالِهِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ، وَمَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ هُوَ كَلَامُهُ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ، وَالْمَخْلُوقُ لَا يَكُونُ قَائِمًا بِالْخَالِقِ، وَلَا يَكُونُ الرَّبُّ مَحَلًّا لِلْمَخْلُوقَاتِ، بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَقُومُ بِهِ مَا شَاءَ مِنْ كَلِمَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ مَخْلُوقًا، إنَّمَا الْمَخْلُوقُ مَا كَانَ بَائِنًا عَنْهُ، وَكَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنٍ مِنْهُ. وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، فَقَالُوا: مِنْهُ بَدَأَ، أَيْ: هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَا أَنَّهُ خَلَقَهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ. وَهَذَا الْجَوَابُ هُوَ جَوَابُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْفِقْهِ، وَطَوَائِفَ مِنْ الْكَلَامِ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ مِنْ الْهِشَامِيَّةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. مِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ جَوَابَ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ، وَهُمْ الَّذِينَ يَرْتَضُونَ قَوْلَ ابْنِ كِلَابٍ فِي الْقُرْآنِ، وَهُمْ طَوَائِفُ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ جَوَابَ الصِّنْفِ الثَّانِي، وَهُمْ الطَّوَائِفُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ قَوْلَ ابْنِ كِلَابٍ، وَيَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ كَالسَّالِمِيَّةِ. وَطَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ جَوَابَ الطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ، وَهُمْ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ قَوْلَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ الْكِلَابِيَّةِ وَالسَّالِمِيَّةِ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ الْكَرَّامِيَّةِ، وَالْكَرَّامِيَّةُ مُنْتَسِبُونَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَخْتَارُ قَوْلَ الْكَرَّامِيَّةِ أَيْضًا لِمَا فِيهِ مِنْ تَنَاقُضٍ آخَرَ، بَلْ يَقُولُ بِقَوْلِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، كَالْبُخَارِيِّ، وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدَّارِمِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ السَّلَفِ: كَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَمَا نُقِلَ مِنْ

مسألة في القلب وأنه خلق ليعلم به الحق وليستعمل فيما خلق له

ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ السُّنَنِ وَالْآثَارُ تَضِيقُ عَنْهَا هَذِهِ الْوَرَقَةُ. وَبَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ مُنَازَعَاتٌ وَدَقَائِقُ تَضِيقُ عَنْهَا هَذِهِ الْوَرَقَةُ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعَ، وَبَيَّنَّا حَقِيقَةَ كُلِّ قَوْلٍ، وَمَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّوَابُ فِي صَرِيحِ الْعُقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ: لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفَ كُلَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَضْلِيلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ. وَالْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. [مَسْأَلَةٌ فِي الْقَلْبِ وَأَنَّهُ خُلِقَ لِيُعْلَمَ بِهِ الْحَقُّ وَلْيُسْتَعْمَلْ فِيمَا خُلِقَ لَهُ] 1028 - 4 مَسْأَلَةٌ: فِي الْقَلْبِ، وَأَنَّهُ خُلِقَ لِيُعْلَمَ بِهِ الْحَقُّ، وَلْيُسْتَعْمَلْ فِيمَا خُلِقَ لَهُ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ الْحَرَّانِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْقَلْبَ لِلْإِنْسَانِ يَعْلَمُ بِهِ الْأَشْيَاءَ، كَمَا خَلَقَ الْعَيْنَ يَرَى بِهَا الْأَشْيَاءَ، وَالْأُذُنَ يَسْمَعُ بِهَا الْأَشْيَاءَ، وَكَمَا خَلَقَ سُبْحَانَهُ كُلَّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ لِأَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ، وَعَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ، فَالْيَدُ لِلْبَطْشِ، وَالرِّجْلُ لِلسَّعْيِ، وَاللِّسَانُ لِلنُّطْقِ، وَالْفَمُ لِلذَّوْقِ، وَالْأَنْفُ لِلشَّمِّ، وَالْجِلْدُ لِلْمَسِّ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، فَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْعُضْوَ فِيمَا خُلِقَ لَهُ وَأُعِدَّ مِنْ أَجْلِهِ، فَذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ الْقَائِمُ، وَالْعَدْلُ الَّذِي قَامَتْ بِهِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا وَصَلَاحًا لِذَلِكَ الْعُضْوِ وَلِرَبِّهِ وَلِلشَّيْءِ الَّذِي اُسْتُعْمِلَ فِيهِ، وَذَلِكَ الْإِنْسَانُ هُوَ الصَّالِحُ الَّذِي اسْتَقَامَ حَالُهُ وَأُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ. وَإِذَا لَمْ يَسْتَعْمِلْ الْعُضْوَ فِي حَقِّهِ، بَلْ تَرَكَ بَطَّالًا، فَذَلِكَ خُسْرَانٌ، وَصَاحِبُهُ مَغْبُونٌ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَ فِي خِلَافِ مَا خُلِقَ لَهُ فَهُوَ الضَّلَالُ وَالْهَلَاكُ، وَصَاحِبُهُ مِنْ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا.

ثُمَّ إنَّ سَيِّدَ الْأَعْضَاءِ وَرَأْسَهَا هُوَ الْقَلْبُ كَمَا سُمِّيَ قَلْبًا، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ إلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ: أَلَا إنَّ التَّقْوَى هَاهُنَا، أَلَا إنَّ التَّقْوَى هَاهُنَا» . وَإِذْ قَدْ خُلِقَ لِيُعْلَمَ بِهِ فَتَوَجُّهُهُ نَحْوَ الْأَشْيَاءِ ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ بِهَا هُوَ الْفِكْرُ وَالنَّظَرُ، كَمَا أَنَّ إقْبَالَ الْأُذُنِ عَلَى الْكَلَامِ ابْتِغَاءَ سَمْعِهِ هُوَ الْإِصْغَاءُ وَالِاسْتِمَاعُ، وَانْصِرَافُ الطَّرَفِ إلَى الْأَشْيَاءِ طَلَبًا لِرُؤْيَتِهَا هُوَ النَّظَرُ، فَالْفِكْرُ لِلْقَلْبِ كَالْإِصْغَاءِ لِلْأُذُنِ إذَا سَمِعَتْ مَا أَصْغَتْ إلَيْهِ، وَمِثْلُهُ نَظَرُ الْعَيْنَيْنِ فِي شَيْءٍ، وَإِذَا عُلِمَ مَا نَظَرَ فِيهِ فَذَاكَ مَطْلُوبُهُ، كَمَا أَنَّ الْأُذُنَ إذَا سَمِعَتْ مَا أَصْغَتْ إلَيْهِ، أَوْ الْعَيْنَ إذَا أَبْصَرَتْ مَا نَظَرَتْ إلَيْهِ. وَكَمْ مِنْ نَاظِرٍ مُفَكِّرٍ لَمْ يُحِبَّ الْعِلْمَ وَلَمْ يَنَلْهُ، كَمَا أَنَّهُ كَمْ مِنْ نَاظِرٍ إلَى الْهِلَالِ لَا يُبْصِرُهُ، وَمُسْتَمِعٍ إلَى صَوْتٍ لَا يَسْمَعُهُ، وَعَكْسُهُ مَنْ يُؤْتَى عِلْمًا بِشَيْءٍ لَمْ يَنْظُرْ فِيهِ، وَلَمْ تَسْبِقْ مِنْهُ سَابِقَةُ فِكْرٍ كَمَنْ فَاجَأَتْهُ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهِ، أَوْ سَمِعَ قَوْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصْغِيَ إلَيْهِ. وَذَلِكَ كُلُّهُ لِأَنَّ الْقَلْبَ بِنَفْسِهِ يَقْبَلُ الْعِلْمَ؛ وَإِنَّمَا الْأَمْرُ مَوْقُوفٌ عَلَى شَرَائِطَ وَاسْتِعْدَادٍ قَدْ يَكُونُ فِعْلًا مِنْ الْإِنْسَانِ فَيَكُونُ مَطْلُوبًا. وَقَدْ يَأْتِي فَضْلًا مِنْ اللَّهِ فَيَكُونُ مَوْهُوبًا فَصَلَاحُ الْقَلْبِ وَحَقُّهُ. وَاَلَّذِي خُلِقَ مِنْ أَجْلِهِ، هُوَ أَنْ يَعْقِلَ الْأَشْيَاءَ، لَا أَقُولُ أَنْ يَعْلَمَهَا، فَقَدْ يَعْلَمُ الشَّيْءَ مَنْ لَا يَكُونُ عَاقِلًا لَهُ. بَلْ غَافِلًا عَنْهُ، مُلْغِيًا لَهُ، وَاَلَّذِي يَعْقِلُ الشَّيْءَ هُوَ الَّذِي يُقَيِّدُهُ وَيَضْبِطُهُ وَيَعِيهِ وَيُثْبِتُهُ فِي قَلْبِهِ، فَيَكُونُ وَقْتَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ غَنِيًّا، فَيُطَابِقُ عَمَلُهُ قَوْلَهُ، وَبَاطِنُهُ ظَاهِرَهُ. وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي أُوتِيَ الْحِكْمَةَ: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] . وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُؤْتَى عِلْمًا، وَلَا يُؤْتَى حُكْمًا، وَإِنَّ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ مِمَّنْ أُوتِيَ عِلْمًا وَحُكْمًا.

هَذَا مَعَ أَنَّ النَّاسَ مُتَبَايِنُونَ فِي نَفْسِ أَنْ يَعْقِلُوا الْأَشْيَاءَ مِنْ بَيْنِ كَامِلٍ وَنَاقِصٍ، وَفِيمَا يَعْقِلُونَهُ مِنْ بَيْنِ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَجَلِيلٍ وَدَقِيقٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ الثَّلَاثَةُ هِيَ أُمَّهَاتُ مَا يُنَالُ بِهِ الْعِلْمُ. يُدْرِكُ، أَعْنِي الْعِلْمَ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ الْبَشَرُ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، دُونَ مَا يُشَارِكُهُ فِيهِ، مِنْ الشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَاللَّمْسِ، وَهُنَا يُدْرِكُ بِهِ مَا يُحِبُّ وَيَكْرَهُ، وَمَا يُمَيِّزُ بِهِ مَنْ يُحْسِنُ إلَيْهَا وَيُسِيءُ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] وَقَالَ: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [السجدة: 9] وَقَالَ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36] . وَقَالَ: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف: 26] . وَقَالَ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] . وَقَالَ فِيمَا لِكُلِّ عُضْوٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ مِنْ الْعَمَلِ وَالْقُوَّةِ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] . ثُمَّ إنَّ الْعَيْنَ تَقْصُرُ عَنْ الْقَلْبِ وَالْأُذُنِ وَتُفَارِقُهُمَا فِي شَيْءٍ، وَهُوَ أَنَّهَا إنَّمَا تُرَى بِهَا الْأَشْيَاءُ الْحَاضِرَةُ وَالْأُمُورُ الْجِسْمَانِيَّةُ مِثْلُ الصُّوَرِ وَالْأَشْخَاصِ، فَأَمَّا الْقَلْبُ وَالْأُذُنُ فَيُعْلَمُ بِهِمَا مَا غَابَ عَنْ الْإِنْسَانِ، وَمَا لَا مَجَالَ لِلْبَصَرِ فِيهِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْمَعَالِمِ الْمَعْنَوِيَّةِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَفْتَرِقَانِ، فَالْقَلْبُ يَعْقِلُ الْأَشْيَاءَ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ الْعِلْمُ بِهَا هُوَ غِذَاؤُهُ وَخَاصِّيَّتُهُ: أَمَّا الْأُذُنُ فَإِنَّهَا تَحْمِلُ الْكَلَامَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْعِلْمِ إلَى الْقَلْبِ، فَهِيَ بِنَفْسِهَا إنَّمَا تَنَالُ الْقَوْلَ وَالْكَلَامَ، فَإِذَا وَصَلَ ذَلِكَ إلَى الْقَلْبِ أَخَذَ مِنْهُ مَا فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ، فَصَاحِبُ الْعِلْمِ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ هُوَ الْقَلْبُ. وَإِنَّمَا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ حَجَبَتُهُ تُوَصِّلُ إلَيْهِ مِنْ

الْأَخْبَارِ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَأْخُذَهُ بِنَفْسِهِ، حَتَّى إنَّ مَنْ فَقَدْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَإِنَّهُ يَفْقِدُ بِفَقْدِهِ مِنْ الْعِلْمِ مَا كَانَ هُوَ الْوَاسِطَةُ فِيهِ. فَالْأَصَمُّ لَا يَعْلَمُ مَا فِي الْكَلَامِ مِنْ الْعِلْمِ. وَالضَّرِيرُ لَا يَدْرِي مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ الْأَشْخَاصُ مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ. وَكَذَلِكَ مَنْ نَظَرَ إلَى الْأَشْيَاءِ بِغَيْرِ قَلْبٍ، أَوْ اسْتَمَعَ إلَى كَلِمَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِغَيْرِ قَلْبٍ. فَإِنَّهُ لَا يَعْقِلُ شَيْئًا. فَمَدَارُ الْأَمْرِ عَلَى الْقَلْبِ. وَعِنْدَ هَذَا تَسْتَبِينُ الْحِكْمَةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46] . حَتَّى لَمْ يَذْكُرْ هُنَا الْعَيْنَ كَمَا فِي الْآيَاتِ السَّوَابِقِ. فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ هُنَا فِي أُمُورٍ غَائِبَةٍ. وَحِكْمَةٍ مَعْقُولَةٍ مِنْ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ. لَا مَجَالَ لِنَظَرِ الْعَيْنِ فِيهَا. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} [الفرقان: 44] ، وَتَتَبَيَّنُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] . فَإِنَّ مَنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةَ وَيَنْتَفِعُ بِالْعِلْمِ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ. إمَّا رَجُلٌ رَأَى الْحَقَّ بِنَفْسِهِ فَقَبِلَهُ وَاتَّبَعَهُ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى مَنْ يَدْعُوهُ إلَيْهِ. فَذَلِكَ صَاحِبُ الْقَلْبِ. أَوْ رَجُلٌ لَمْ يَعْقِلْهُ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى مَنْ يُعَلِّمُهُ وَيُبَيِّنُ لَهُ وَيَعِظُهُ وَيُؤَدِّبُهُ. فَهَذَا أَصْغَى فَأَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ. أَيْ حَاضِرُ الْقَلْبِ لَيْسَ بِغَائِبِهِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ أَوُتَى الْعِلْمَ وَكَانَ لَهُ ذِكْرَى. وَيُتَبَيَّنُ قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} [يونس: 42] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} [يونس: 43] . وَقَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام: 25] . ثُمَّ إذَا كَانَ حَقُّ الْقَلْبِ أَنْ يَعْلَمَ الْحَقَّ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ:

{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] . إذَا كَانَ كُلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ لَمْحَةُ نَاظِرٍ. وَيُحَوَّلُ فِي لَفْتَةِ خَاطِرٍ. فَاَللَّهُ رَبُّهُ وَمُنْشَئِهِ وَفَاطِرُهُ وَمُبْدِئُهُ؛ لَا يُحِيطُ عِلْمًا إلَّا بِمَا هُوَ مِنْ آيَاتِهِ الْبَيِّنَةِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ. وَأَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا لَبِيدٌ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ مَا مِنْ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ إذَا نَظَرْت إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَجَدْتَهُ إلَى الْعَدَمِ مَا هُوَ فَقِيرٌ إلَى الْحَيِّ الْقَيُّومِ. فَإِذَا نَظَرْت إلَيْهِ وَقَدْ تَوَلَّتْهُ يَدُ الْعِنَايَةِ بِتَقْدِيرِ مَنْ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى. رَأَيْته حِينَئِذٍ مَوْجُودًا مَكْسُوًّا حُلَلَ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ. فَقَدْ اسْتَبَانَ الْقَلْبُ إنَّمَا خُلِقَ لِذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: أَظُنُّهُ سُلَيْمَانُ الْخَوَّاصُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الذِّكْرُ لِلْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ لِلْجَسَدِ، فَكَمَا لَا يَجِدُ الْجَسَدُ لَذَّةَ الطَّعَامِ مَعَ السَّقَمِ، فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ لَا يَجِدُ حَلَاوَةَ الذِّكْرِ مَعَ حُبِّ الدُّنْيَا، أَوْ كَمَا قَالَ: فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ مَشْغُولًا بِاَللَّهِ عَاقِلًا لِلْحَقِّ، مُفَكِّرًا فِي الْعِلْمِ، فَقَدْ وُضِعَ مَوْضِعَهُ، كَمَا أَنَّ الْعَيْنَ إذَا صُرِفَتْ إلَى النَّظَرِ فِي الْأَشْيَاءِ فَقَدْ وُضِعَتْ فِي مَوْضِعِهَا. أَمَّا إذَا لَمْ يُصْرَفْ إلَى الْعِلْمِ، وَلَمْ يُرْعَ فِيهِ الْحَقَّ، فَنَسِيَ رَبَّهُ، فَلَمْ يُوضَعْ فِي مَوْضِعٍ، بَلْ هُوَ ضَائِعٌ، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يُقَالَ: قَدْ وُضِعَ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ مَوْضِعِهِ، بَلْ لَمْ يُوضَعْ أَصْلًا، فَإِنَّ مَوْضِعَهُ هُوَ الْحَقُّ، وَمَا سِوَى الْحَقِّ بَاطِلٌ. فَإِذَا لَمْ يُوضَعْ فِي الْحَقِّ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْبَاطِلُ، وَالْبَاطِلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَصْلًا، وَمَا لَيْسَ بِشَيْءٍ أَحْرَى إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعًا. وَالْقَلْبُ هُوَ بِنَفْسِهِ لَا يَقْبَلُ إلَّا الْحَقَّ، فَإِذَا لَمْ يُوضَعْ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ غَيْرَ مَا خُلِقَ لَهُ: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الفتح: 23] وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَتْرُوكٍ مُخْلًى، فَإِنَّ مَنْ لَا يَزَالُ مِنْ أَوْدِيَةِ الْأَفْكَارِ وَأَقْطَارِ الْأَمَانِي، لَا يَكُونُ عَلَى الْحَالِ الَّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ مِنْ الْفَرَاغِ وَالتَّخَلِّي، فَقَدْ وُضِعَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، لَا مُطْلَقٍ وَلَا مُعَلَّقٍ، مَوْضُوعٌ لَا مَوْضِعَ لَهُ، وَهَذَا مِنْ الْعَجَبِ، فَسُبْحَانَ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.

وَإِنَّمَا تَنْكَشِفُ لَهُ هَذِهِ الْحَالُ عِنْدَ رُجُوعِهِ إلَى الْحَقِّ: إمَّا فِي الدُّنْيَا عِنْدَ الْإِنَابَةِ أَوْ عِنْدَ الْمُنْقَلَبِ إلَى الْآخِرَةِ، فَيَرَى سُوءَ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَكَيْفَ كَانَ قَلْبُهُ ضَالًّا عَنْ الْحَقِّ، هَذَا إذَا صُرِفَ إلَيَّ الْبَاطِلِ. فَأَمَّا لَوْ تُرِكَ وَحَالَتُهُ الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا فَارِغًا عَنْ كُلِّ ذِكْرٍ. وَخَالِيًا مِنْ كُلِّ فِكْرٍ، لَقَدْ كَانَ يَقْبَلُ الْعِلْمَ الَّذِي لَا جَهْلَ فِيهِ، وَيَرَى الْحَقَّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ. فَيُؤْمِنُ بِرَبِّهِ وَيُنِيبُ إلَيْهِ. فَإِنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ. كَمَا تَنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ لَا تَحُسُّ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] . وَإِنَّمَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِّ فِي غَالِبِ الْحَالِ، شُغْلُهُ بِغَيْرِهِ مِنْ فِتَنِ الدُّنْيَا، وَمَطَالِبِ الْجَسَدِ، وَشَهَوَاتِ النَّفْسِ، فَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَالْعَيْنِ النَّاظِرَةِ إلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَرَى مَعَ ذَلِكَ الْهِلَالَ، أَوْ هُوَ يَمِيلُ إلَيْهِ فَيَصُدُّهُ عَنْ اتِّبَاعِ الْحَقِّ. فَيَكُونُ كَالْعَيْنِ الَّتِي فِيهَا قَذًى لَا يُمَكِّنُهَا رُؤْيَةُ الْأَشْيَاءِ. ثُمَّ الْهَوَى قَدْ يَعْرِضُ لَهُ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَيَصُدُّهُ عَنْ النَّظَرِ فِيهِ. فَلَا يَتَبَيَّنُ لَهُ الْحَقُّ كَمَا قِيلَ: «حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ» فَيَبْقَى فِي ظُلْمَةِ الْأَفْكَارِ. وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ ذَلِكَ كِبْرًا يَمْنَعُهُ عَنْ أَنْ يَطْلُبَ الْحَقَّ: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 22] . وَقَدْ يَعْرِضُ الْهَوَى بَعْدَ أَنْ عَرَفَ الْحَقَّ فَيَجْحَدُهُ وَيُعْرِضُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِيهِمْ:

{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا} [الأعراف: 146] . ثُمَّ الْقَلْبُ لِلْعِلْمِ كَالْإِنَاءِ لِلْمَاءِ، وَالْوِعَاءِ لِلْغُسْلِ وَالْوَادِي لِلسَّيْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] الْآيَةَ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ فِيهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَسَقَى النَّاسُ وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً. وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً. فَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا أُرْسِلْت بِهِ، وَمِثْلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْت بِهِ» . وَفِي حَدِيثِ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: " الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا ". وَبَلَغَنَا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ قَالَ: الْقُلُوبُ آنِيَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ فَأَحَبُّهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرَقُّهَا وَأَصْفَاهَا. وَهَذَا مَثَلٌ حَسَنٌ فَإِنَّ الْقَلْبَ إذَا كَانَ رَقِيقًا لَيِّنًا كَانَ قَبُولُهُ لِلْعِلْمِ سَهْلًا يَسِيرًا، وَرَسَخَ فِيهِ وَأَثَّرَ، وَإِنْ يَكُنْ قَاسِيًا غَلِيظًا يَكُنْ قَبُولُهُ لِلْعِلْمِ صَعْبًا عَسِيرًا. وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ زَكِيًّا صَافِيًا سَلِيمًا حَتَّى يَزْكُوَ فِيهِ الْعِلْمُ، وَيُثْمِرَ ثَمَرًا طَيِّبًا وَإِلَّا فَلَوْ قَبِلَ الْعِلْمَ وَكَانَ فِيهِ كَدَرٌ وَخَبَثٌ أَفْسَدَ ذَلِكَ الْعِلْمَ، وَكَانَ كَالدَّغَلِ فِي الْمُزْدَرَعِ، إنْ لَمْ يَمْنَعْ الْحَبَّ مِنْ أَنْ يُنْبِتَ، مَنَعَهُ مِنْ أَنْ يَزْكُوَ وَيَطِيبَ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِأُولِي الْأَبْصَارِ. وَتَلْخِيصُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْحَقِّ فَلَهُ وَجْهَانِ: وَجْهٌ مُقْبِلٌ عَلَى الْحَقِّ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ لَهُ وِعَاءٌ وَإِنَاءٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ مَا يُوعَى فِيهِ وَيُوضَعُ فِيهِ، وَهَذِهِ الصِّبْغَةُ وُجُودُ ثُبُوتٍ، وَوَجْهٌ مُعْرِضٌ عَنْ الْبَاطِلِ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ لَهُ زَكِيٌّ وَسَلِيمٌ وَطَاهِرٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ وَالدَّغَلِ وَهَذِهِ

الصِّبْغَةُ عَدَمٌ وَنَفْيٌ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ إذَا صُرِفَ إلَى الْبَاطِلِ فَلَهُ وَجْهَانِ: وَجْهُ الْوُجُودِ أَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إلَى الْبَاطِلِ مَشْغُولٌ بِهِ، وَوَجْهُ الْعَدَمِ أَنَّهُ مُعْرِضٌ عَنْ الْحَقِّ غَيْرُ قَابِلٍ لَهُ. وَهَذَا يُبَيِّنُ مِنْ الْبَيَانِ وَالْحُسْنِ وَالصِّدْقِ مَا فِي قَوْلِهِ: إذَا مَا وَضَعْت الْقَلْبَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ... بِغَيْرِ إنَاءٍ فَهُوَ قَلْبٌ مُضَيَّعٌ فَإِنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ حَالَ مَنْ ضَيَّعَ قَلْبَهُ فَظَلَمَ نَفْسَهُ بِأَنْ اشْتَغَلَ بِالْبَاطِلِ، وَمَلَأَ بِهِ قَلْبَهُ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ مُتَّسَعٌ لِلْحَقِّ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْوُلُوجِ فِيهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ مِنْهُ فَوَصَفَ حَالَ هَذَا الْقَلْبِ بِوَجْهَيْهِ، وَنَعَتَهُ بِمَذْهَبَيْهِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا وَصْفَ الْوُجُودِ مِنْهُ، فَقَالَ: إذَا مَا وَضَعْت الْقَلْبَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ، يَقُولُ إذَا شَغَلَتْهُ بِمَا لَمْ يُخْلَقْ لَهُ فَصَرَفْته إلَى الْبَاطِلِ حَتَّى صَارَ مَوْضُوعًا فِيهِ. ثُمَّ الْبَاطِلُ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: تَشْغَلُ عَنْ الْحَقِّ وَلَا تُعَانِدُهُ، مِثْلُ الْأَفْكَارِ وَالْهُمُومِ الَّتِي مِنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِ النَّفْسِ. وَالثَّانِيَةُ: تُعَانِدُ الْحَقَّ وَتَصُدُّ عَنْهُ، مِثْلُ الْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُرْدِيَةِ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالْبِدَعِ، وَشِبْهِ ذَلِكَ، بَلْ الْقَلْبُ لَمْ يُخْلَقْ إلَّا لِذِكْرِ اللَّهِ فَمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَيْسَ مَوْضِعًا لَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ ثَانِيًا وَوَصَفَ الْعَدَمَ مِنْهُ فَقَالَ: " بِغَيْرِ إنَاءٍ "، يَقُولُ: إذَا وَضَعْته بِغَيْرِ إنَاءٍ فَوَضَعْته وَلَا إنَاءَ مَعَك، كَمَا تَقُولُ حَضَرْت الْمَجْلِسَ بِلَا مِحْبَرَةٍ. فَالْكَلِمَةُ حَالٌ مِنْ الْوَاضِعِ، لَا مِنْ الْمَوْضُوعِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ إذَا مَا وَضَعْت قَلْبَك فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَاشْتَغَلَ بِالْبَاطِلِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَك إنَاءٌ يُوضَعُ فِيهِ الْحَقُّ، وَيَتَنَزَّلُ إلَيْهِ الذِّكْرُ وَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْقَلْبِ، فَقَلْبُك إذًا مُضَيَّعٌ، ضَيَّعْته مِنْ وَجْهَيْ التَّضْيِيعِ، وَإِنْ كَانَا مُتَّحِدَيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّك وَضَعْته فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا إنَاءَ مَعَك يَكُونُ وِعَاءً لِحَقِّهِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْطَاهُ، كَمَا لَوْ قِيلَ، لِمَلِكٍ قَدْ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهْوِ: إذَا اشْتَغَلْت بِغَيْرِ الْمُمَاسَكَةِ وَلَيْسَ فِي الْمِلْكِ مَنْ يُدَبِّرُهُ فَهُوَ مِلْكٌ ضَائِعٌ، لَكِنْ هُنَا الْإِنَاءُ هُوَ الْقَلْبُ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلْبَ لَا يَنُوبُ عَنْهُ غَيْرُهُ فِيمَا يَجِبُ أَنْ يَصْنَعَهُ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] .

وَإِنَّمَا خَرَجَ الْكَلَامُ فِي صُورَةِ اثْنَيْنِ بِذِكْرِ نَعْتَيْنِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ كَمَا جَاءَ نَحْوُهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ - مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 3 - 4] . قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ: هُوَ الْقُرْآنُ، فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ إذَا كَانَ لَهُ وَصْفَانِ كَبِيرَانِ فَهُوَ مَعَ وَصْفٍ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مَعَ الْوَصْفَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الِاثْنَيْنِ، حَتَّى لَوْ كَثُرَتْ صِفَاتُهُ لِتَنْزِلَ مَنْزِلَةَ أَشْخَاصٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي يُحْسِنُ الْحِسَابَ وَالطِّبَّ بِمَنْزِلَةِ حَاسِبٍ وَطَبِيبٍ، وَالرَّجُلَ الَّذِي يُحْسِنُ النِّجَارَةَ وَالْبِنَاءَ بِمَنْزِلَةِ نَجَّارٍ وَبَنَّاءٍ، وَالْقَلْبُ لَمَّا كَانَ يَقْبَلُ الذِّكْرَ وَالْعِلْمَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِنَاءِ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ الْمَاءُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَيْتِ الْإِنَاءَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَسْمَاءِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ رَقِيقًا وَصَافِيًا، وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْمُسْتَطْعِمُ الْمُسْتَعْطِي فِي مَنْزِلَةِ الْبَائِسِ الْفَقِيرِ، وَلَمَّا كَانَ يَنْصَرِفُ عَنْ الْبَاطِلِ فَهُوَ زَكِيٌّ وَسَلِيمٌ، فَكَأَنَّهُ اثْنَانِ وَلْيُتَبَيَّنْ فِي الصُّورَةِ أَنَّ الْإِنَاءَ غَيْرُ الْقَلْبِ فَهُوَ يَقُولُ: " إذَا مَا وَضَعْت قَلْبَك فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ "، وَهُوَ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ الذِّكْرُ وَالْعِلْمُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَك إنَاءٌ يُوضَعُ فِيهِ الْمَطْلُوبُ فَمِثْلُك مِثْلُ رَجُلٍ بَلَغَهُ أَنَّهُ يُفَرَّقُ عَلَى النَّاسِ طَعَامًا، وَكَانَ لَهُ زُبْدِيَّةٌ أَوْ سُكْرُجَةٌ، فَتَرَكَهَا ثُمَّ أَقْبَلَ يَطْلُبُ طَعَامًا، فَقِيلَ لَهُ هَاتِ إنَاءً نُعْطِك طَعَامًا، فَأَمَّا إذَا أَتَيْت وَقَدْ وَضَعْت زُبْدِيَّتَك مَثَلًا فِي الْبَيْتِ، وَلَيْسَ مَعَك إنَاءٌ نُعْطِيك فِيهِ شَيْئًا، رَجَعْت بِخُفَّيْ حُنَيْنٍ. وَإِذَا تَأَمَّلَ مَنْ لَهُ بَصَرٌ بِأَسَالِيبِ الْبَيَانِ وَتَصَارِيفِ اللِّسَانِ، وَجَدَ مَوْقِعَ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ كِلَيْهِمَا مَوْقِعًا حَسَنًا بَلِيغًا، فَإِنَّ نَقِيضَ هَذِهِ الْحَالِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ مُقْبِلًا عَلَى الْحَقِّ وَالْعِلْمِ وَالذِّكْرِ، مُعْرِضًا عَنْ ذِكْرِ غَيْرِ ذَلِكَ وَتِلْكَ هِيَ الْحَنِيفِيَّةُ دِينُ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّ الْحَنَفَ هُوَ الْمَيْلُ عَنْ الشَّيْءِ بِالْإِقْبَالِ عَلَى آخَرَ، فَالدِّينُ الْحَنِيفُ هُوَ الْإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهُ، وَهُوَ الْإِخْلَاصُ الَّذِي تَرْجَمَته كَلِمَةُ الْحَقِّ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. هَذَا آخِرُ مَا

مسألة هل قال النبي زدني فيك تحيرا

حَضَرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ الْكَرِيمِ التَّوَّابِ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. [مَسْأَلَةٌ هَلْ قَالَ النَّبِيُّ زِدْنِي فِيك تَحَيُّرًا] 1029 - 5 مَسْأَلَة: هَلْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " زِدْنِي فِيك تَحَيُّرًا "، وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: أَوَّلُ الْمَعْرِفَةِ الْحِيرَةُ، وَآخِرُهَا الْحِيرَةُ. قِيلَ: مِنْ أَيْنَ تَقَعُ الْحِيرَةُ؟ قِيلَ: مِنْ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَثْرَةُ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ عَلَيْهِ. وَالْآخَرُ: شِدَّةُ الشَّرِّ وَحَذَرُ الْإِيَاسِ. وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ: نَازِلَةٌ تَنْزِلُ بِقُلُوبِ الْعَارِفِينَ بَيْنَ الْإِيَاسِ وَالطَّمَعِ، لَا تُطْمِعُهُمْ فِي الْوَصْلِ فَيَسْتَرِيحُونَ، وَلَا تُؤَيِّسُهُمْ عَنْ الطَّلَبِ فَيَسْتَرِيحُونَ. وَقَالَ بَعْضٌ: مَتَى أَصِلُ إلَى طَرِيقِ الرَّاجِينَ وَأَنَا مُقِيمٌ فِي حِيرَةِ الْمُتَحَيِّرِينَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: الْعَارِفُ كُلَّمَا انْتَقَلَ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ اسْتَقْبَلَتْهُ الدَّهْشَةُ وَالْحِيرَةُ. وَقَالَ: أَعْرَفُ النَّاسِ بِاَللَّهِ أَشَدُّهُمْ فِيهِ تَحَيُّرًا، وَقَالَ الْجُنَيْدُ: انْتَهَى عَقْلُ الْعُقَلَاءِ إلَى الْحِيرَةِ. وَقَالَ ذُو النُّونِ: غَايَةُ الْعَارِفِينَ التَّحَيُّرُ، وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: قَدْ تَحَيَّرْت فِيك خُذْ بِيَدِي ... يَا دَلِيلًا لِمَنْ تَحَيَّرَ فِيهِ فَبَيِّنُوا لَنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ بَيَانًا شَافِيًا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذَا الْكَلَامُ الْمَذْكُورُ: " زِدْنِي فِيك تَحَيُّرًا "، مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ. وَإِنَّمَا يَرْوِيهِ جَاهِلٌ أَوْ مُلْحِدٌ، فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ حَائِرًا، وَأَنَّهُ سَأَلَ الزِّيَادَةَ فِي الْحِيرَةِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ اللَّهَ هَدَاهُ بِمَا أَوْحَاهُ إلَيْهِ وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، وَأَمَرَهُ بِسُؤَالِ الزِّيَادَةِ مِنْ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا، وَأَنَّهُ أُمِرَ بِطَلَبِ الْمَزِيدِ مِنْ الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ أُمِرَ هُوَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِطَلَبِ

الْهِدَايَةِ فِي قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] . فَمَنْ يَهْدِي الْخَلْقَ كَيْفَ يَكُونُ حَائِرًا. وَاَللَّهُ قَدْ ذَمَّ الْحِيرَةَ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [الأنعام: 71] . وَفِي الْجُمْلَةِ، فَالْحِيرَةُ مِنْ جِنْسِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْمَلُ الْخَلْقِ عِلْمًا بِاَللَّهِ وَبِأَمْرِهِ، وَأَكْمَلُ الْخَلْقِ اهْتِدَاءً فِي نَفْسِهِ، وَأَهْدَى لِغَيْرِهِ، وَأَبْعَدُ الْخَلْقِ عَنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2] {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] . وَقَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] إلَى قَوْلِهِ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] ، فَإِنَّهُ قَدْ هَدَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28] . فَقَدْ كَفَلَ اللَّهُ لِمَنْ آمَنَ بِهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] وَقَالَ تَعَالَى:

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ. وَلَمْ يَمْدَحْ الْحِيرَةَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَلَكِنْ مَدَحَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ، كَصَاحِبِ الْفُصُوصِ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ هُمْ حَيَارَى، فَمَدَحُوا الْحِيرَةَ وَجَعَلُوهَا أَفْضَلَ مِنْ الِاسْتِقَامَةِ، وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَكْمَلُ الْخَلْقِ، وَأَنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ مِنْهُمْ يَكُونُ أَفْضَلَ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَسْتَفِيدُونَ الْعِلْمَ بِاَللَّهِ مِنْهُمْ، وَكَانُوا فِي ذَلِكَ كَمَا يُقَالُ فِيمَنْ قَالَ: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] لَا عَقْلَ وَلَا قُرْآنَ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَقْدَمُ فَكَيْفَ يَسْتَفِيدُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ، وَهُمْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ؟ فَخَرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهَؤُلَاءِ قَدْ بَسَطْنَا الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَهُمْ فِي وَحْدَةِ الْوُجُودِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ كَلَامٌ مِنْ شَرِّ كَلَامِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ. وَأَمَّا غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ الشُّيُوخِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الْحِيرَةَ، فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُخْبِرُ عَنْ حِيرَتِهِ، فَهَذَا لَا يَقْتَضِي مَدْحَ الْحِيرَةِ، بَلْ الْحَائِرُ مَأْمُورٌ بِطَلَبِ الْهُدَى، كَمَا نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ عَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَدْعُوَ يَقُولُ: يَا دَلِيلَ الْحَائِرِينَ دُلَّنِي عَلَى طَرِيقِ الصَّادِقِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ عِبَادِك الصَّالِحِينَ. فَأَمَّا الَّذِي قَالَ: أَوَّلُ الْمَعْرِفَةِ الْحِيرَةُ وَآخِرُهَا الْحِيرَةُ، فَقَدْ يُرِيدُ ذَلِكَ مَعْنًى صَحِيحًا مِثْلَ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الطَّالِبَ السَّالِكَ يَكُونُ حَائِرًا قَبْلَ حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ وَالْهُدَى، فَإِنَّ كُلَّ طَالِبٍ لِلْعِلْمِ وَالْهُدَى، هُوَ قَبْلَ حُصُولِ مَطْلُوبِهِ فِي نَوْعٍ مِنْ الْحِيرَةِ، وَقَوْلُهُ: " آخِرُهَا الْحِيرَةُ ". وَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَزَالُ طَالِبَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يَصِلُ إلَيْهِ حَائِرٌ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَدْحُ الْحِيرَةِ، وَلَكِنْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْتَرِيَ الْإِنْسَانَ نَوْعٌ مِنْ الْحِيرَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ مَعَهَا إلَى الْعِلْمِ وَالْهُدَى. وَقَوْلُهُ: " وَالْحِيرَةُ مِنْ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا كَثْرَةُ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَالْآخَرُ شِدَّةُ الشَّرِّ وَحَذَرُ الْإِيَاسِ "، إخْبَارٌ عَنْ سُلُوكٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ سَالِكٍ يَعْتَرِيهِ هَذَا، وَلَكِنْ مِنْ

السَّالِكِينَ مَنْ تَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الْأَحْوَالُ حَتَّى لَا يَدْرِيَ مَا يَقْبَلُ وَمَا يَرُدُّ، وَمَا يَفْعَلُ وَمَا يَتْرُكُ، وَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ كَذَلِكَ دَوَامُ الدُّعَاءِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالتَّضَرُّعُ إلَيْهِ وَالِاسْتِهْدَاءُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ بِشِدَّةِ الشَّرِّ وَحَذَرِ الْإِيَاسِ، فَإِنَّ فِي السَّالِكِينَ مَنْ يُبْتَلَى بِأُمُورٍ مِنْ الْمُخَالَفَاتِ يَخَافُ مَعَهَا أَنْ يَصِيرَ إلَى الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لِقُوَّةِ خَوْفِهِ، وَكَثْرَةِ الْمُخَالَفَةِ عِنْدَ نَفْسِهِ، وَمِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ سَعَةَ رَحْمَةِ اللَّهِ وَقَبُولَ التَّوْبَةِ مِنْ عِبَادِهِ وَفَرَحَهُ بِذَلِكَ. وَقَوْلُ الْآخَرِ: " نَازِلَةٌ تَنْزِلُ بِقُلُوبِ الْعَارِفِينَ بَيْنَ الْيَأْسِ وَالطَّمَعِ فَلَا تُطَمِّعُهُمْ فِي الْوُصُولِ فَيَسْتَرِيحُونَ وَلَا تُؤَيِّسُهُمْ عَنْ الطَّلَبِ فَيَسْتَرِيحُونَ ". فَيُقَالُ: هَذَا أَيْضًا حَالٌ عَارِضٌ لِبَعْضِ السَّالِكِينَ، لَيْسَ هَذَا أَمْرًا لَازِمًا لِكُلِّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ اللَّهِ، وَلَا هُوَ أَيْضًا غَايَةً مَحْمُودَةً، وَلَكِنَّ بَعْضَ السَّالِكِينَ يَعْرِضُ لَهُ هَذَا كَمَا يُذْكَرُ عَنْ الشِّبْلِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَنْشُدُ فِي هَذَا الْمَعْنَى: أَظَلَّتْ عَلَيْنَا مِنْك يَوْمًا سَحَابَةٌ ... أَضَاءَتْ لَنَا بَرْقًا وَأَبْطَأَ رَشَاشُهَا فَلَا غَيْمُهَا يَجْلُو فَيَيْأَسَ طَامِعٌ ... وَلَا غَيْثُهَا يَأْتِي فَيَرْوِي عِطَاشَهَا وَصَاحِبُ هَذَا الْكَلَامِ إلَى أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَغْفِرَ لَهُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى أَنْ يُمْدَحَ عَلَيْهِ أَوْ يُقْتَدَى بِهِ فِيهِ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ، قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، لَمَّا تَكَلَّمْنَا عَلَى مَا يَعْرِضُ لِطَائِفَةٍ مِنْ كَلَامٍ فِيهِ مُعَاتَبَةٌ لِجَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ وَإِقَامَةِ حُجَّةٍ عَلَيْهِ بِالْمَجْنُونِ الْمُتَحَيِّرِ، وَإِقَامَةِ عُذْرِ الْمُحِبِّ، وَأُمُورٍ تُشْبِهُ هَذَا قَدْ تَحَيَّزَ مَنْ قَالَ بِمُوجِبِهَا إلَى الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ. إذْ الْوَاجِبُ الْإِقْرَارُ لِلَّهِ بِفَضْلِهِ وَجَوْدِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَلِلنَّفْسِ بِالتَّقْصِيرِ وَالذَّنْبِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُك، وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت، أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت، أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، مَنْ قَالَهَا إذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قَالَهَا إذَا أَمْسَى مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ

أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَقُولُ اللَّهُ مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت مِنْهُ بَاعَا؛ وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِ أَتَيْته هَرْوَلَةً» . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إذَا ذَكَرَنِي» . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ، وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ، وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ مَا يُبْهِرُ الْعُقُولَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَتَعَلَّقُ بِأُصُولٍ كِبَارٍ مِنْ مَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْأَمْرِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ هَؤُلَاءِ الشُّيُوخِ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: " لَا تُطَمِّعُهُمْ فِي الْوُصُولِ فَيَسْتَرِيحُونَ؛ وَلَا تُؤَيِّسُهُمْ عَنْ الطَّلَبِ فَيَسْتَرِيحُونَ " هِيَ حَالٌ عَارِضٌ لِشَخْصٍ قَدْ تَعَلَّقَتْ هِمَّتُهُ بِمَطْلُوبٍ مُعَيَّنٍ. وَهُوَ يَتَرَدَّدُ فِيهِ بَيْنَ الْيَأْسِ وَالطَّمَعِ، وَهَذَا حَالٌ مَذْمُومٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْتَرِحَ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا مُعَيَّنًا، بَلْ تَكُونُ هِمَّتُهُ فِعْلُ الْمَأْمُورِ، وَتَرْكُ الْمَحْظُورِ، وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَقْدُورِ، فَمَتَى أُعِينَ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْمَطَالِبِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَلَوْ تَعَلَّقَتْ هِمَّتُهُ بِمَطْلُوبٍ فَدَعَا اللَّهَ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِيهِ إحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثَ: إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ. وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ مِثْلَهَا، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ الشَّرّ مِثْلَهَا.

وَلَفْظُ الْوُصُولِ لَفْظٌ مُجْمَلٌ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ سَالِكٍ إلَّا وَلَهُ غَايَةٌ يَصِلُ إلَيْهَا. وَإِذَا قِيلَ: وَصَلَ إلَى اللَّهِ أَوْ إلَى تَوْحِيدِهِ أَوْ مَعْرِفَتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَفِي ذَلِكَ مِنْ الْأَنْوَاعِ الْمُتَنَوِّعَةِ وَالدَّرَجَاتِ الْمُتَبَايِنَةِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَيَأْسُ الْإِنْسَانِ أَنْ يَصِلَ إلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ كَبِيرَةٌ مِنْ الْكَبَائِرِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجُوَ ذَلِكَ وَيَطْمَعَ فِيهِ، لَكِنْ مَنْ رَجَا شَيْئًا يَطْلُبُهُ، وَمَنْ خَافَ مِنْ شَيْءٍ هَرَبَ مِنْهُ، وَإِذَا اجْتَهَدَ وَاسْتَعَانَ بِاَللَّهِ تَعَالَى. وَلَازَمَ الِاسْتِغْفَارَ وَالِاجْتِهَادَ. فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ مَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالٍ. وَإِذَا رَأَى أَنَّهُ لَا يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ. وَلَا يَحْصُلُ لَهُ حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ وَنُورُ الْهِدَايَةِ. فَلْيُكْثِرْ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ. وَلْيُلَازِمْ الِاجْتِهَادَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] ، وَعَلَيْهِ بِإِقَامَةِ الْفَرَائِضِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَلُزُومُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ مُتَبَرِّئًا مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا بِهِ. فَفِي الْجُمْلَةِ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَيْأَسَ. بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجُوَ رَحْمَةَ اللَّهِ. كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ لَا يَيْأَسَ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَخَافَ عَذَابَهُ. قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] . قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ عَبَدَ اللَّهُ بِالْحُبِّ وَحْدَهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ. وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْخَوْفِ وَحْدَهُ فَهُوَ حَرُورِيٌّ. وَمَنْ عَبَدَهُ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ فَهُوَ مُرْجِئٌ، وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْحُبِّ وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُوَحِّدٌ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ " مَتَى أَصِلُ إلَى طَرِيقِ الرَّاجِينَ وَأَنَا مُقِيمٌ فِي حِيرَةِ الْمُتَحَيِّرِينَ " فَهَذَا إخْبَارٌ مِنْهُ عَنْ حَالٍ مَذْمُومٍ هُوَ فِيهَا، كَمَا يُخْبِرُ الرَّجُلُ عَنْ نَقْصِ إيمَانِهِ وَضَعْفِ عِرْفَانِهِ، وَرَيْبٍ فِي يَقِينِهِ، وَلَيْسَ مِثْلُ هَذَا مِمَّا يُطْلَبُ، بَلْ هُوَ مِمَّا يُسْتَعَاذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ إنَّهُ قَالَ: الْعَارِفُ كُلَّمَا انْتَقَلَ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ اسْتَقْبَلَتْهُ الدَّهْشَةُ وَالْحِيرَةُ، فَهَذَا قَدْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كُلَّمَا انْتَقَلَ إلَى مَقَامٍ مِنْ الْمَعْرِفَةِ

وَالْيَقِينِ، حَصَلَ لَهُ تَشَوُّقٌ إلَى مَقَامٍ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ فَهُوَ حَائِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ دُونَ مَا وَصَلَ إلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: أَعْرَفُ النَّاسِ بِاَللَّهِ أَشَدُّهُمْ فِيهِ تَحَيُّرًا أَيْ أَطْلَبُهُمْ لِزِيَادَةِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ تُوجِبُ لَهُ الشُّعُورَ بِأُمُورٍ لَمْ يَعْرِفْهَا بَعْدُ، بَلْ هُوَ حَائِرٌ فِيهَا طَالِبٌ لِمَعْرِفَتِهَا وَالْعِلْمِ بِهَا. وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَعْلَمَ الْخَلْقِ بِاَللَّهِ قَدْ قَالَ: " لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك " وَالْخَلْقُ مَا أُوتُوا مِنْ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا، وَمَا نُقِلَ عَنْ الْجُنَيْدِ أَنَّهُ قَالَ: انْتَهَى عَقْلُ الْعُقَلَاءِ إلَى الْحِيرَةِ، فَهَذَا مَا أَعْرِفُهُ مِنْ كَلَامِ الْجُنَيْدِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، هَلْ قَالَهُ؟ وَلَعَلَّ الْأَشْبَهَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِ الْمَعْهُودِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ هَذَا فَأَرَادَ عَدَمَ الْعِلْمِ بِمَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ، لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ يَقِينٌ وَمَعْرِفَةٌ وَهُدًى وَعِلْمٌ، فَإِنَّ الْجُنَيْدَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُرِيدَ هَذَا، وَهَذَا الْكَلَامُ مَرْدُودٌ عَلَى مَنْ قَالَهُ. لَكِنْ إذَا قِيلَ: إنَّ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ مَهْمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ وَالْهُدَى فَهُنَاكَ أُمُورٌ لَمْ يَصِلُوا إلَيْهَا، فَهَذَا صَحِيحٌ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، وَأَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مِنْ خَلْقِك، أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي، فَإِنَّ مَنْ قَالَ هَذَا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا» . فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ لِلَّهِ أَسْمَاءً اسْتَأْثَرَ بِهَا فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ وَهَذِهِ لَا يَعْلَمُهَا مَلَكٌ وَلَا بَشَرٌ. فَإِذَا أَرَادَ الْمُرِيدُ أَنَّ عُقُولَ الْعُقَلَاءِ لَمْ تَصِلْ إلَى مَعْرِفَةِ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَهَذَا صَحِيحٌ، وَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنَّ الْعُقَلَاءَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ وَلَا يَقِينٌ، بَلْ حِيرَةٌ وَرَيْبٌ فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا. وَمَا ذُكِرَ عَنْ ذِي النُّونِ فِي هَذَا الْبَابِ، مَعَ أَنَّ ذَا النُّونِ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ كَلَامٌ أُنْكِرَ عَلَيْهِ وَعَزَّرَهُ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، وَطَلَبُهُ الْمُتَوَكِّلُ إلَى بَغْدَادَ، وَاتُّهِمَ بِالزَّنْدَقَةِ، وَجَعَلَهُ النَّاسُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ، فَمَا أَدْرِي هَلْ قَالَ هَذَا أَمْ لَا، بِخِلَافِ الْجُنَيْدِ فَإِنَّ الِاسْتِقَامَةَ

مسألة قوله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر

وَالْمُتَابَعَةَ غَالِبَةٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا ثَمَّ مَعْصُومٌ مِنْ الْخَطَإِ غَيْرُ الرَّسُولِ، لَكِنَّ الشُّيُوخَ الَّذِينَ عُرِفَ صِحَّةُ طَرِيقَتِهِمْ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَهَذَا قَدْرُ مَا احْتَمَلَتْهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ] 1030 - 6 مَسْأَلَةٌ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» فَهَلْ هَذَا مُوَافِقٌ لِمَا يَقُولُهُ الِاتِّحَادِيَّةُ؟ بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَوْلُهُ: «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» مَرْوِيٌّ بِأَلْفَاظٍ أُخَرَ. كَقَوْلِهِ: «يَقُولُ اللَّهُ يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» . وَفِي لَفْظٍ: «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ يُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» . وَفِي لَفْظٍ: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ وَأَنَا الدَّهْرُ» . فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ الزَّمَانُ، فَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَالزَّمَانُ هُوَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، فَدَلَّ نَفْسُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ يُقَلِّبُ الزَّمَانَ وَيُصَرِّفُهُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ

قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور: 43] {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} [النور: 44] . وَإِزْجَاءُ السَّحَابِ سَوْقُهُ، وَالْوَدْقُ: الْمَطَرُ، فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ لِلْمَطَرِ وَإِنْزَالَهُ عَلَى الْأَرْضِ فَإِنَّهُ سَبَبُ الْحَيَاةِ فِي الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ. ثُمَّ قَالَ: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [النور: 44] إذْ تَقْلِيبُهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ تَحْوِيلُ أَحْوَالِ الْعَالَمِ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ خَلْقِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْمَعْدِنِ، وَذَلِكَ سَبَبُ تَحْوِيلِ النَّاسِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ الْمُتَضَمِّنُ رَفْعَ قَوْمٍ وَخَفْضَ آخَرِينَ. وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِخَلْقِهِ الزَّمَانَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] . وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] . وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62] . وَقَوْلِهِ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّهُ خَالِقُ الزَّمَانِ. وَلَا يَتَوَهَّمُ عَاقِلٌ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الزَّمَانُ، فَإِنَّ الزَّمَانَ مِقْدَارُ الْحَرَكَةِ، وَالْحَرَكَةُ مِقْدَارُهَا مِنْ بَابِ الْأَعْرَاضِ وَالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِغَيْرِهَا كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ هُوَ مِنْ بَابِ الْأَعْرَاضِ وَالصِّفَاتِ الْمُفْتَقِرَةِ إلَى الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْيَانِ فَإِنَّ الْأَعْرَاضَ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا، بَلْ هِيَ مُفْتَقِرَةٌ إلَى مَحَلٍّ تَقُومُ بِهِ، وَالْمُفْتَقِرُ

إلَى مَا يُغَايِرُهُ لَا يُوجَدُ بِنَفْسِهِ، بَلْ بِذَلِكَ الْغَيْرِ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى مَا بِهِ وُجُودُهُ فَلَيْسَ هُوَ غَنِيًّا فِي نَفْسِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَرَاتِبَ ثَلَاثٌ. ثُمَّ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِنَفْسِهِ، وَأَنْ يَحْتَاجَ إلَيْهِ مَا سِوَاهُ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ. وَأَهْلُ الْإِلْحَادِ الْقَائِلُونَ بِالْوَحْدَةِ أَوْ الْحُلُولِ أَوْ الِاتِّحَادِ لَا يَقُولُونَ إنَّهُ هُوَ الزَّمَانُ، وَلَا إنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَعْرَاضِ وَالصِّفَاتِ، بَلْ يَقُولُونَ هُوَ مَجْمُوعُ الْعَالَمِ، أَوْ حَالٌّ فِي مَجْمُوعِ الْعَالَمِ، فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ شُبْهَةٌ لَهُمْ، لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُقَلِّبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَكَيْفَ وَفِي نَفْسِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ بِيَدِهِ الْأَمْرُ يُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَلِلنَّاسِ فِي الْحَدِيثِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ خَرَجَ الْكَلَامُ فِيهِ لِرَدِّ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ، فَإِنَّهُمْ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ أَوْ مُنِعُوا أَغْرَاضَهُمْ، أَخَذُوا يَسُبُّونَ الدَّهْرَ وَالزَّمَانَ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ: قَبَّحَ اللَّهُ الدَّهْرَ الَّذِي شَتَّتْ شَمْلَنَا، وَلَعَنَ اللَّهُ الزَّمَانَ الَّذِي جَرَى فِيهِ كَذَا وَكَذَا. وَكَثِيرًا مَا جَرَى مِنْ كَلَامِ الشُّعَرَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ نَحْوُ هَذَا، كَقَوْلِهِمْ: يَا دَهْرُ فَعَلْت كَذَا، وَهُمْ يَقْصِدُونَ سَبَّ مَنْ فَعَلَ تِلْكَ الْأُمُورَ، وَيُضِيفُونَهَا إلَى الدَّهْرِ، فَيَقَعُ السَّبُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ تِلْكَ الْأُمُورَ وَأَحْدَثَهَا، وَالدَّهْرُ مَخْلُوقٌ لَهُ، هُوَ الَّذِي يُقَلِّبُهُ وَيَصْرِفُهُ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ ابْنَ آدَمَ يَسُبُّ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ، وَأَنَا فَعَلْتهَا، فَإِذَا سَبَّ الدَّهْرَ فَمَقْصُودُهُ سَبُّ الْفَاعِلِ، وَإِنْ أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى الدَّهْرِ، وَالدَّهْرُ لَا فِعْلَ لَهُ، وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ. وَهَذَا كَرَجُلٍ قَضَى عَلَيْهِ قَاضٍ بِحَقٍّ، أَوْ أَفْتَاهُ مُفْتٍ بِحَقٍّ، فَجَعَلَ يَقُولُ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ قَضَى بِهَذَا أَوْ أَفْتَى بِهَذَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَضَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفُتْيَاهُ، فَيَقَعُ السَّبُّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ السَّابُّ لِجَهْلِهِ أَضَافَ الْأَمْرَ إلَى الْمُبَلِّغِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالْمُبَلِّغُ فِعْلٌ مِنْ التَّبْلِيغِ، بِخِلَافِ الزَّمَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يُقَلِّبُهُ وَيَصْرِفُهُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ وَطَائِفَةٍ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ: إنَّ الدَّهْرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ، وَرَوَوْا فِي بَعْضِ الْأَدْعِيَةِ: " يَا دَهْرُ يَا دَيْهُورُ يَا دَيْهَارُ ". وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْأَوَّلُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَهُوَ الْآخِرُ لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، فَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ، إنَّمَا النِّزَاعُ فِي كَوْنِهِ يُسَمَّى دَهْرًا. بِكُلِّ حَالٍ فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ مِمَّا عُلِمَ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ، أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ هُوَ الدَّهْرَ الَّذِي هُوَ الزَّمَانُ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الزَّمَانِ، فَإِنَّ النَّاسَ مُتَّفِقُونَ عَلَى الزَّمَانِ الَّذِي هُوَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَكَذَلِكَ مَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] . قَالُوا: عَلَى مِقْدَارِ الْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمَ الْمَزِيدِ، وَالْجَنَّةُ لَيْسَ فِيهَا شَمْسٌ وَلَا زَمْهَرِيرٌ، وَلَكِنْ تُعْرَفُ الْأَوْقَاتُ بِأَنْوَارٍ أُخَرَ، قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ تَظْهَرُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، فَالزَّمَانُ هُنَالِكَ مِقْدَارُ الْحَرَكَةِ الَّتِي بِهَا تَظْهَرُ بِهَا تِلْكَ الْأَنْوَارُ. وَهَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ سَيَّالٌ هُوَ الدَّهْرُ؟ هَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ، فَأَثْبَتَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَفْلَاطُونَ، كَمَا أَثْبَتُوا الْكُلِّيَّاتِ الْمُجَرَّدَةَ فِي الْخَارِجِ الَّتِي تُسَمَّى الْمُثُلَ الْأَفْلَاطُونِيَّة وَالْمُثُلَ الْمُطْلَقَةَ، وَأَثْبَتُوا الْهَيْوُلَى الَّتِي هِيَ مَادَّةٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ الصُّوَرِ، وَأَثْبَتُوا الْخَلَاءَ جَوْهَرًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ، وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ يُقَدِّرُهَا الذِّهْنُ وَيَفْرِضُهَا؛ فَيَظُنُّ الْغَالِطُونَ أَنَّ هَذَا الثَّابِتَ فِي الْأَذْهَانِ، هُوَ بِعَيْنِهِ ثَابِتٌ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْأَذْهَانِ، كَمَا ظَنُّوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ، مَعَ أَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وُجُودُهُ فِي الذِّهْنِ، وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا شَيْءٌ مُعَيَّنٌ وَهِيَ الْأَعْيَانُ وَمَا يَقُومُ بِهَا مِنْ الصِّفَاتِ، فَلَا مَكَانَ إلَّا الْجِسْمَ أَوْ مَا يَقُومُ بِهِ، وَلَا زَمَانَ إلَّا مِقْدَارَ الْحَرَكَةِ، وَلَا مَادَّةَ مُجَرَّدَةً عَنْ الصُّوَرِ، بَلْ وَلَا مَادَّةَ مُقْتَرِنَةً بِهَا غَيْرُ الْجِسْمِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ، وَلَا صُورَةَ إلَّا مَا هُوَ عَرَضٌ قَائِمٌ بِالْجِسْمِ، أَوْ مَا هُوَ جِسْمٌ يَقُومُ بِهِ الْعَرَضُ.

مسألة في الغنم والبقر إذا أصابه الموت وأتاه الإنسان هل يذكي شيئا منه

وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ إذَا أَصَابَهُ الْمَوْتُ وَأَتَاهُ الْإِنْسَانُ هَلْ يُذَكِّي شَيْئًا مِنْهُ] 1031 - 7 مَسْأَلَةٌ: فِي الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا أَصَابَهُ الْمَوْتُ وَأَتَاهُ الْإِنْسَانُ: هَلْ يُذَكِّي شَيْئًا مِنْهُ، وَهُوَ مُتَيَقِّنٌ حَيَاتَهُ حِينَ ذَبَحَهُ، وَإِنَّ بَعْضَ الدَّوَابِّ لَمْ يَتَحَرَّكْ مِنْهُ جَارِحَةٌ حِينَ ذَكَاتِهِ، فَهَلْ الْحَرَكَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْحَيَاةِ، وَعَدَمُهَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحَيَاةِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ غَالِبَ النَّاسِ يَتَحَقَّقُ حَيَاةَ الدَّابَّةِ عِنْدَ ذَبْحِهَا، وَإِرَاقَةِ دَمِهَا، وَلَمْ تَتَحَرَّكْ فَيَقُولُ: إنَّهَا مَيِّتَةٌ فَيَرْمِيهَا، وَهَلْ الدَّمُ الْأَحْمَرُ الرَّقِيقُ الْجَارِي حِينَ الذَّبْحِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهَا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً؟ وَالدَّمُ الْأَسْوَدُ الْجَامِدُ الْقَلِيلُ دَمُ الْمَوْتِ أَمْ لَا؟ وَمَا أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا» وَهَلْ يَجُوزُ ذَكَاةُ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ وَغَيْرِ الْحَائِضِ مِنْ الْمُسْلِمَاتِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ إذَا ذَبَحَ الْمُسْلِمُ شَيْئًا مِنْ الْأَنْعَامِ، وَنَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ حَتَّى ذَبَحَهُ حَلَالٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] وقَوْله تَعَالَى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] عَائِدٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ، وَأَكِيلَةِ السَّبُعِ، عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِمْ، فَمَا أَصَابَ الْمَوْتُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ أُبِيحَ، لَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يُذَكَّى مِنْ ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا تُيُقِّنَ مَوْتُهُ لَا يُذَكَّى كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا يَعِيشُ مُعْظَمَ الْيَوْمِ ذُكِّيَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا كَانَتْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ ذَكِّيٌّ، كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ.

فصل ذكاة المرأة والرجل

ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: الْحَيَاةُ الْمُسْتَقِرَّةُ مَا يَزِيدُ عَلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا يُمْكِنُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى حَيَاةِ الْمَذْبُوحِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا كَانَ حَيًّا فَذُكِّيَ حَلَّ أَكْلُهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ حَرَكَةُ مَذْبُوحٍ، فَإِنَّ حَرَكَاتِ الْمَذْبُوحِ لَا تَنْضَبِطُ بَلْ فِيهَا مَا يَطُولُ زَمَانُهُ، وَتَعْظُمُ حَرَكَتُهُ، وَفِيهَا مَا يَقِلُّ زَمَانُهُ، وَتَضْعُفُ حَرَكَتُهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا» . فَمَتَى جَرَى الدَّمُ الَّذِي يَجْرِي مِنْ الْمَذْبُوحِ الَّذِي ذُبِحَ وَهُوَ حَيٌّ حَلَّ أَكْلُهُ. وَالنَّاسُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ دَمِ مَا كَانَ حَيًّا، وَدَمِ مَا كَانَ مَيِّتًا، فَإِنَّ الْمَيِّتَ يَجْمُدُ دَمُهُ وَيَسْوَدُّ، وَلِهَذَا حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ لِاحْتِقَانِ الرُّطُوبَاتِ فِيهَا، فَإِذَا جَرَى مِنْهُ الدَّمُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ الْمَذْبُوحِ الَّذِي ذُبِحَ وَهُوَ حَيٌّ حَلَّ أَكْلُهُ، وَإِنْ تُيُقِّنَ أَنَّهُ يَمُوتُ، فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ ذُبِحَ، وَمَا فِيهِ حَيَاةٌ فَهُوَ حَيٌّ، وَإِنْ تُيُقِّنَ أَنَّهُ يَمُوتُ بَعْدَ سَاعَةٍ. فَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَيَقَّنَ أَنَّهُ يَمُوتُ، وَكَانَ حَيًّا جَازَتْ وَصِيَّتُهُ وَصَلَاتُهُ وَعُهُودُهُ، وَقَدْ أَفْتَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِأَنَّهَا إذَا مَصَعَتْ بِذَنَبِهَا، أَوْ طَرَفَتْ بِعَيْنِهَا، أَوْ رَكَضَتْ بِرِجْلِهَا بَعْدَ الذَّبْحِ حَلَّتْ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا أَنْ تَكُونَ حَرَكَتُهَا قَبْلَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، وَهَذَا قَالَهُ الصَّحَابَةُ، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ دَلِيلٌ عَلَى الْحَيَاةِ، وَالدَّلِيلُ لَا يَنْعَكِسُ فَلَا يَلْزَمُ إذَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا مِنْهَا أَنْ تَكُونَ مَيْتَةً، بَلْ قَدْ تَكُونُ حَيَّةً وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا مِثْلُ ذَلِكَ، وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَكُونُ نَائِمًا فَيُذْبَحُ وَهُوَ نَائِمٌ وَلَا يَضْطَرِبُ، وَكَذَلِكَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ يُذْبَحُ وَلَا يَضْطَرِبُ، وَكَذَلِكَ الدَّابَّةُ قَدْ تَكُونُ حَيَّةً فَتُذْبَحُ وَلَا تَضْطَرِبُ لِضَعْفِهَا عَنْ الْحَرَكَةِ وَإِنْ كَانَتْ حَيَّةً، وَلَكِنَّ خُرُوجَ الدَّمِ الَّذِي لَا يَخْرُجُ إلَّا مِنْ مَذْبُوحٍ، وَلَيْسَ هُوَ دَمُ الْمَيِّتِ دَلِيلٌ عَلَى الْحَيَاةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْل ذَكَاةُ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ] فَصْل وَتَجُوزُ ذَكَاةُ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ، وَتَذْبَحُ الْمَرْأَةُ وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا، فَإِنَّ حَيْضَتَهَا لَيْسَتْ فِي يَدِهَا، وَذَكَاةُ الْمَرْأَةِ جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ «ذَبَحَتْ امْرَأَةٌ شَاةً فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَكْلِهَا» . [فَصْلٌ التَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبِيحَةِ] فَصْلٌ وَالتَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبِيحَةِ مَشْرُوعَةٌ، لَكِنْ قِيلَ: هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَقِيلَ: وَاجِبَةٌ مَعَ الْعَمْدِ، وَتَسْقُطُ مَعَ السَّهْوِ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ

فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَقِيلَ: تَجِبُ مُطْلَقًا فَلَا تُؤْكَلُ الذَّبِيحَةُ بِدُونِهَا، سَوَاءٌ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا كَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ، اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ قَدْ عَلَّقَ الْحِلَّ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، كَقَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] ، وَقَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118] . {وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 119] {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا» . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِعَدِيٍّ: «إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ فَقَتَلَ فَكُلْ، وَإِنْ خَالَطَ كَلْبَك كِلَابٌ أُخَرُ، فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ» . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ الْجِنَّ سَأَلُوهُ الزَّادَ لَهُمْ وَلِدَوَابِّهِمْ، فَقَالَ: لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَوْفَرُ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ» . فَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُبِحْ لِلْجِنِّ الْمُؤْمِنِينَ إلَّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ بِالْإِنْسِ، وَلَكِنْ إذَا وَجَدَ الْإِنْسَانُ لَحْمًا قَدْ ذَبَحَهُ غَيْرُهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَيَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، لِحَمْلِ أَمْرِ النَّاسِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ «قَوْمًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ

مسألة في قصة إبليس وإخباره النبي وهو في المسجد مع جماعة من أصحابه

نَاسًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ يَأْتُونَا بِاللَّحْمِ وَلَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَمْ يَذْكُرُوا، فَقَالَ: سَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا» . [مَسْأَلَةٌ فِي قِصَّةِ إبْلِيسَ وَإِخْبَارِهِ النَّبِيَّ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ] 1032 - 8 مَسْأَلَةٌ: فِي قِصَّةِ إبْلِيسَ وَإِخْبَارِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَسُؤَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ عَنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَى صُورَتِهِ عِيَانًا، وَيَسْمَعُونَ كَلَامَهُ جَهْرًا، فَهَلْ ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَمْ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ؟ وَهَلْ جَاءَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ الصِّحَاحِ، وَالْمَسَانِيدِ، وَالسُّنَنِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْوِيَ ذَلِكَ؟ وَمَاذَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يَرَى ذَلِكَ وَيُحَدِّثُهُ لِلنَّاسِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ صَحِيحٌ شَرْعِيٌّ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ هَذَا حَدِيثٌ مَكْذُوبٌ مُخْتَلَقٌ، لَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الْمُعْتَمَدَةِ، لَا الصِّحَاحِ وَلَا السُّنَنِ وَلَا الْمَسَانِيدِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ صَحِيحٌ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِحَالِهِ، فَإِنْ أَصَرَّ عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ. وَلَكِنْ فِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ قَدْ جَمَعَ أَحَادِيثَ نَبَوِيَّةً، فَاَلَّذِي كَذَبَهُ وَاخْتَلَقَهُ جَمَعَهُ مِنْ أَحَادِيثَ بَعْضُهَا كَذِبٌ، وَبَعْضُهَا صِدْقٌ، فَلِهَذَا يُوجَدُ فِيهِ كَلِمَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ صَحِيحَةٌ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مَجِيءُ إبْلِيسَ عِيَانًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَضْرَةِ أَصْحَابِهِ وَسُؤَالُهُ لَهُ كَذِبًا مُخْتَلَقًا، لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لَوْ كُنْتَ فَعَلْتَ كَذَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْك شَيْءٌ] 1033 - 9 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَوْ كُنْتَ فَعَلْتَ كَذَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْك شَيْءٌ مِنْ هَذَا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ آخَرُ سَمِعَهُ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ قَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا، وَهِيَ كَلِمَةٌ تُؤَدِّي قَائِلَهَا إلَى الْكُفْرِ، فَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ: «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى وَدِدْنَا لَوْ كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا» وَاسْتَدَلَّ الْآخَرُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ

إلَى أَنْ قَالَ فَإِنَّ كَلِمَةَ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» فَهَلْ هَذَا نَاسِخٌ لِهَذَا أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، جَمِيعُ مَا قَالَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَقٌّ، " وَلَوْ " تُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى وَجْهِ الْحُزْنِ عَلَى الْمَاضِي وَالْجَزَعِ مِنْ الْمَقْدُورِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 156] . وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ: «وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ - اللَّوْ - تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» أَيْ تَفْتَحُ عَلَيْك الْحُزْنَ وَالْجَزَعَ، وَذَلِكَ يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ بَلْ اعْلَمْ أَنَّ مَا أَصَابَك لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَك، وَمَا أَخْطَأَك لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَك، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] ، قَالُوا: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ " لَوْ " لِبَيَانِ عِلْمٍ نَافِعٍ، كَقَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] . وَلِبَيَانِ مَحَبَّةِ الْخَيْرِ وَإِرَادَتِهِ، كَقَوْلِهِ: " لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانٍ لَعَمِلْت مِثْلَ مَا يَعْمَلُ " وَنَحْوُهُ جَائِزٌ. وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَدِدْت لَوْ أَنَّ مُوسَى صَبَرَ لِيَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا» هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، كَقَوْلِهِ: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] فَإِنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَبَّ أَنْ يَقُصَّ اللَّهُ خَبَرَهُمَا، فَذَكَرَهَا لِبَيَانِ مَحَبَّتِهِ لِلصَّبْرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ، فَعَرَّفَهُ مَا يَكُونُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ جَزَعٌ وَلَا حُزْنٌ وَلَا تَرْكٌ لِمَا يَجِبُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورِ.

مسألة في قوله تعالى وقالت اليهود عزير ابن الله

وَقَوْلِهِ: «وَدِدْت لَوْ أَنَّ مُوسَى صَبَرَ» قَالَ النُّحَاةُ: تَقْدِيرُهُ وَدِدْت أَنَّ مُوسَى صَبَرَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] تَقْدِيرُهُ وَدُّوا أَنْ تُدْهِنَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ هِيَ لَوْ شَرْطِيَّةٌ وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ مَعْلُومٌ وَهِيَ مَحَبَّةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَإِرَادَتُهُ، وَمَحَبَّةُ الْخَيْرِ وَإِرَادَتُهُ مَحْمُودٌ، وَالْحُزْنُ وَالْجَزَعُ وَتَرْكُ الصَّبْرِ مَذْمُومٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ] 1034 - 10 مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] ، كُلُّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ، أَمْ بَعْضُهُمْ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُؤْتَى بِالْيَهُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: الْعُزَيْرَ» الْحَدِيثَ، هَلْ الْخِطَابُ عَامٌّ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُرَادُ بِالْيَهُودِ جِنْسُ الْيَهُودِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] لَمْ يَقُلْ جَمِيعَ النَّاسِ، وَلَا قَالُوا إنَّ جَمِيعَ النَّاسِ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ الطَّائِفَةُ الْفُلَانِيَّةُ تَفْعَلُ كَذَا، وَأَهْلُ الْفُلَانِيِّ يَفْعَلُونَ كَذَا، وَإِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ فَسَكَتَ الْبَاقُونَ وَلَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ، فَيَشْتَرِكُونَ فِي إثْمِ الْقَوْلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي الَّذِينَ غَالِبُ أَمْوَالِهِمْ حَرَامٌ مِثْلُ الْمَكَّاسِينَ] 1035 - 11 مَسْأَلَةٌ: فِي الَّذِينَ غَالِبُ أَمْوَالِهِمْ حَرَامٌ مِثْلُ: الْمَكَّاسِينَ، وَأَكْلَةِ الرِّبَا، وَأَشْبَاهِهِمْ، وَمِثْلُ أَصْحَابِ الْحِرَفِ الْمُحَرَّمَةِ: كَمُصَوِّرِي الصُّوَرِ، وَالْمُنَجِّمِينَ، وَمِثْلُ أَعْوَانِ الْوُلَاةِ، فَهَلْ يَحِلُّ أَخْذُ طَعَامِهِمْ بِالْمُعَامَلَةِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إذَا كَانَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَلَالٌ وَحَرَامٌ فَفِي مُعَامَلَتِهِمْ شُبْهَةٌ لَا يُحْكَمُ بِالتَّحْرِيمِ إلَّا إذَا عُرِفَ أَنَّهُ يُعْطِيهِ مَا يَحْرُمُ إعْطَاؤُهُ، وَلَا يُحْكَمُ بِالْخَلَاصِ إلَّا إذَا

مسألة في المصحف العتيق إذا تمزق ما يصنع به

عُرِفَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ مِنْ الْحَلَالِ، فَإِنْ كَانَ الْحَلَالُ هُوَ الْأَغْلَبُ لَمْ يُحْكَمْ بِتَحْرِيمِ الْمُعَامَلَةِ. وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَغْلَبُ قِيلَ بِحِلِّ الْمُعَامَلَةِ وَقِيلَ بَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ. فَأَمَّا الْمُعَامِلُ بِالرِّبَا فَالْغَالِبُ عَلَى مَالِهِ الْحَلَالُ إلَّا أَنْ يُعْرَفَ الْكُرْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا بَاعَ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ فَالزِّيَادَةُ هِيَ الْمُحَرَّمَةُ فَقَطْ. وَإِذَا كَانَ فِي مَالِهِ حَلَالٌ وَحَرَامٌ وَاخْتَلَطَ لَمْ يَحْرُمْ الْحَلَالُ، بَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ الْحَلَالِ كَمَا لَوْ كَانَ الْمَالُ لِشَرِيكَيْنِ فَاخْتَلَطَ مَالُ أَحَدِهِمَا بِمَالِ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ يَقْسِمُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ، وَكَذَلِكَ مَنْ اخْتَلَطَ بِمَالِهِ الْحَلَالِ الْحَرَامُ أَخْرَجَ قَدْرَ الْحَرَامِ وَالْبَاقِي حَلَالٌ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي الْمُصْحَفِ الْعَتِيقِ إذَا تَمَزَّقَ مَا يَصْنَعُ بِهِ] 1036 - 12 مَسْأَلَةٌ: فِي الْمُصْحَفِ الْعَتِيقِ إذَا تَمَزَّقَ مَا يَصْنَعُ بِهِ، وَمَنْ كَتَبَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ مَحَاهُ بِمَاءٍ أَوْ حَرَّقَهُ فَهَلْ لَهُ حُرْمَةٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَمَّا الْمُصْحَفُ الْعَتِيقُ وَاَلَّذِي تَخَرَّقَ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِالْقِرَاءَةِ فِيهِ، فَإِنَّهُ يُدْفَنُ فِي مَكَان يُصَانُ فِيهِ، كَمَا أَنَّ كَرَامَةَ بَدَنِ الْمُؤْمِنِ دَفْنُهُ فِي مَوْضِعٍ يُصَانُ فِيهِ، وَإِذَا كُتِبَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ الذِّكْرِ فِي إنَاءٍ أَوْ لَوْحٍ وَمُحِيَ بِالْمَاءِ وَغَيْرِهِ وَشُرِبَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَنَقَلُوا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ كَلِمَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَيَأْمُرُ بِأَنْ تُسْقَى لِمَنْ بِهِ دَاءٌ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ لِذَلِكَ بَرَكَةً. وَالْمَاءُ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أَيْضًا مَاءٌ مُبَارَكٌ صُبَّ مِنْهُ عَلَى جَابِرٍ وَهُوَ مَرِيضٌ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَتَبَرَّكُونَ بِهِ، وَمَعَ هَذَا فَكَانَ يَتَوَضَّأُ عَلَى التُّرَابِ وَغَيْرِهِ فَمَا بَلَغَنِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَاءِ يُنْهَى عَنْ صَبِّهِ فِي التُّرَابِ وَنَحْوِهِ وَلَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ نَهْيًا فَإِنَّ أَثَرَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ الْمَحْوِ كِتَابَةً. وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ مَسُّهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ كَحُرْمَتِهِ مَا دَامَ الْقُرْآنُ وَالذِّكْرُ مَكْتُوبًا بِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ صِيغَ فِضَّةٌ أَوْ ذَهَبٌ أَوْ نُحَاسٌ عَلَى صُورَةِ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ أَوْ نُقِشَ حَجَرٌ عَلَى ذَلِكَ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ ثُمَّ غُيِّرَتْ تِلْكَ الصِّيَاغَةُ وَتَغَيَّرَ الْحَجَرُ لَمْ يَجِبْ لِتِلْكَ الْمَادَّةِ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا كَانَ لَهَا حِينَ الْكِتَابَةِ. وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُولُ فِي مَاءِ زَمْزَمَ لَا أُحِلُّهُ لِمُغْتَسِلٍ وَلَكِنْ

مسألة في رجل يحب رجلا عالما فإذا التقيا ثم افترقا حصل لذلك الرجل شبه الغشي من أجل الافتراق

لِشَارِبٍ حَلَّ وَبَلَّ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِشَارِبٍ وَمُتَوَضِّئٍ. وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُكْرَهُ الْغُسْلُ وَالْوُضُوءُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وَذَكَرُوا فِيهِ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَالشَّافِعِيُّ احْتَجَّ بِحَدِيثِ الْعَبَّاسِ، وَالْمُرَخِّصُ احْتَجَّ بِحَدِيثٍ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَوَضَّأَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ» ، وَالصَّحَابَةَ تَوَضَّئُوا مِنْ الْمَاءِ الَّذِي نَبَعَ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ مَعَ بَرَكَتِهِ، لَكِنْ هَذَا وَقْتُ حَاجَةٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّهْيَ مِنْ الْعَبَّاسِ إنَّمَا جَاءَ عَنْ الْغُسْلِ فَقَطْ لَا عَنْ الْوُضُوءِ. وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ هُوَ لِهَذَا الْوَجْهِ، فَإِنَّ الْغُسْلَ يُشْبِهُ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ، وَلِهَذَا يَجِبُ أَنْ يُغْسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ مَا يَجِبُ أَنْ يُغْسَلَ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَحِينَئِذٍ فَصَوْنُ هَذِهِ الْمِيَاهِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ النَّجَاسَاتِ مُتَوَجِّهٌ بِخِلَافِ صَوْنِهَا مِنْ التُّرَابِ وَنَحْوِهِ مِنْ الطَّاهِرَاتِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ يُحِبُّ رَجُلًا عَالِمًا فَإِذَا الْتَقَيَا ثُمَّ افْتَرَقَا حَصَلَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ شِبْهُ الْغَشْيِ مِنْ أَجْلِ الِافْتِرَاقِ] 1037 - 13 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ يُحِبُّ رَجُلًا عَالِمًا، فَإِذَا الْتَقَيَا ثُمَّ افْتَرَقَا حَصَلَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ شِبْهُ الْغَشْيِ مِنْ أَجْلِ الِافْتِرَاقِ. وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الْعَالِمُ مَشْغُولًا بِحَيْثُ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الْحَالُ فَهَلْ هَذَا مِنْ الرَّجُل الْمُحِبِّ أَمْ هُوَ مِنْ تَأْثِيرِ الرَّجُلِ الْعَالِمِ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، سَبَبُهُ مِنْ هَذَا وَمِنْ هَذَا، مِثْلُ الْمَاءِ إذَا شَرِبَهُ الْعَطْشَانُ حَصَلَتْ لَهُ لَذَّةٌ وَطِيبَةٌ وَسَبَبُهَا عَطَشُهُ وَبَرْدُ الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ النَّارُ إذَا وَقَعَتْ فِي الْقُطْنِ سَبَبُهُ مِنْهَا وَمِنْ الْقُطْنِ، وَالْعَالِمُ الْمُقْبِلُ عَلَى الطَّالِبِ يَحْصُلُ لَهُ لَذَّةٌ وَطِيبٌ وَسُرُورٌ بِسَبَبِ إقْبَالِهِ هَذَا وَتَوَجُّهِهِ، وَهَذَا حَالُ الْمُحِبِّ مَعَ الْمَحْبُوبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ لَعَنَ الْيَهُودِيَّ وَلَعَنَ دِينَهُ وَسَبَّ التَّوْرَاةَ] 1038 - 14 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَعَنَ الْيَهُودِيَّ وَلَعَنَ دِينَهُ وَسَبَّ التَّوْرَاةَ، فَهَلْ يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَسُبَّ كِتَابَهُمْ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَلْعَنَ التَّوْرَاةَ، بَلْ مَنْ أَطْلَقَ لَعْنَ التَّوْرَاةِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْرِفُ أَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا، فَهَذَا يُقْتَلُ بِشَتْمِهِ لَهَا.

مسألة معنى قوله من أتى إلى طعام لم يدع إليه فقد دخل سارقا وخرج مغيرا

وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا لَعْنُ دِينِ الْيَهُودِ الَّذِينَ هُمْ عَلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَلَا بَأْسَ بِهِ فِي ذَلِكَ، إنَّهُمْ مَلْعُونُونَ هُمْ وَدِينُهُمْ، وَكَذَلِكَ إنْ سَبَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي عِنْدَهُمْ بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّ قَصْدَهُ ذِكْرُ تَحْرِيفِهَا، مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: نُسَخُ هَذِهِ التَّوْرَاةِ مُبَدَّلَةٌ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِمَا فِيهَا، مِنْ عَمَلِ الْيَوْمِ بِشَرَائِعِهَا الْمُبَدَّلَةِ وَالْمَنْسُوخَةَ فَهُوَ كَافِرٌ، فَهَذَا الْكَلَامُ وَنَحْوُهُ حَقٌّ لَا شَيْءَ عَلَى قَائِلِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْلِهِ مَنْ أَتَى إلَى طَعَامٍ لَمْ يُدْعَ إلَيْهِ فَقَدْ دَخَلَ سَارِقًا وَخَرَجَ مُغِيرًا] 1039 - 15 مَسْأَلَةٌ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «مَنْ أَتَى إلَى طَعَامٍ لَمْ يُدْعَ إلَيْهِ فَقَدْ دَخَلَ سَارِقًا وَخَرَجَ مُغِيرًا» ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَعْنَاهُ الَّذِي يَدْخُلُ إلَى دَعْوَةٍ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ مُخْتَفِيًا كَالسَّارِقِ، وَيَأْكُلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ فَيَسْتَحْيُونَ مِنْ نَهْيِهِ، فَيَخْرُجُ كَالْمُغِيرِ الَّذِي يَأْخُذُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْقَهْرِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَعْنَى إجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ] 1040 - 16 مَسْأَلَةٌ: مَا مَعْنَى إجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ؟ وَهَلْ يَسُوغُ لِلْمُجْتَهِدِ خِلَافُهُمْ؟ وَمَا مَعْنَاهُ؟ وَهَلْ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ؟ وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَوْ مُرْسَلٌ، أَوْ غَرِيبٌ، وَجَمْعِ التِّرْمِذِيِّ بَيْنَ الْغَرِيبِ وَالصَّحِيحِ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ؟ وَهَلْ فِي الْحَدِيثِ مُتَوَاتِرٌ لَفْظًا وَمَعْنًى؟ وَهَلْ جُمْهُورُ أَحَادِيثِ الصَّحِيحِ تُفِيدُ الْيَقِينَ وَالظَّنَّ؟ وَمَا هُوَ شَرْطُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، فَإِنَّهُمْ قَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فَقَالُوا: عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ ثُمَّ مُسْلِمٍ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَعْنَى الْإِجْمَاعِ أَنْ تَجْتَمِعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَإِذَا ثَبَتَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ إجْمَاعِهِمْ، فَإِنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَسَائِلِ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ فِيهَا إجْمَاعًا، وَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ يَكُونُ الْقَوْلُ الْآخَرُ أَرْجَحَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَأَمَّا أَقْوَالُ بَعْضِ الْأُمَّةِ كَالْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ فَلَيْسَ حُجَّةً لَازِمَةً وَلَا إجْمَاعًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ نَهَوْا النَّاسَ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ، وَأَمَرُوا إذَا رَأَوْا قَوْلًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَقْوَى مِنْ قَوْلِهِمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَيَدَعُوا أَقْوَالَهُمْ، وَلِهَذَا كَانَ الْأَكَابِرُ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَا يَزَالُونَ إذَا ظَهَرَ لَهُمْ دَلَالَةُ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ عَلَى مَا يُخَالِفُ قَوْلَ مَتْبُوعِهِمْ، اتَّبَعُوا ذَلِكَ، مِثْلَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَإِنَّ تَحْدِيدَهَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا لَمَّا كَانَ قَوْلًا ضَعِيفًا، كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ تَرَى قَصْرَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ الَّذِي هُوَ دُونَ ذَلِكَ، كَالسَّفَرِ مِنْ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَصَرُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِنًى وَعَرَفَةَ. وَكَذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ قَالُوا: إنَّ جَمْعَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مُحَرَّمٌ بِدْعَةٌ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ عِنْدَهُمْ إنَّمَا يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ وَخَالَفُوا أَئِمَّتَهُمْ. وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَأَوْا غَسْلَ الدُّهْنِ النَّجِسِ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رَأَوْا تَحْلِيفَ النَّاسِ بِالطَّلَاقِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. بَلْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى خِلَافِهِ. وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا مَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ يَمِينَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ حَلَفَ بِالْعَتَاقِ. وَكَذَلِكَ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالُوا إنَّ مَنْ قَالَ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ، وَمَنْ حَلَفَ بِذَلِكَ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ، وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسِهِ. وَطَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالُوا إنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ، وَلَا تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَأَكَابِرِ التَّابِعِينَ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ، بَلْ تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَأَقْوَالُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ بِخِلَافِهِ فَالْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَلِهَذَا كَانَ مَنْ هُوَ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ يَقُولُ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَيَجْعَلُهُ يَمِينًا فِيهِ الْكَفَّارَةُ. وَهَذَا بِخِلَافِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَقَعَ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ كَفَّارَةٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، بَلْ لَا كَفَّارَةَ فِي الْإِيقَاعِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا الْكَفَّارَةُ خَاصَّةٌ

فِي الْحَلِفِ، فَإِذَا تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي مَسْأَلَةٍ وَجَبَ رَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، فَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، كَقَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ النَّذْرِ وَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ، وَبَيْنَ الْيَمِينِ بِذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسُ، فَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ حُكْمَ الطَّلَاقِ فِي قَوْله تَعَالَى {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] ، وَذَكَرَ حُكْمَ الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» . فَمَنْ جَعَلَ الْيَمِينَ بِهَا لَهَا حُكْمٌ. وَالنَّذْرُ وَالْإِعْتَاقُ وَالتَّطْلِيقُ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ كَانَ قَوْلُهُ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَمَنْ جَعَلَ هَذَا وَهَذَا سَوَاءً فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. وَمَنْ ظَنَّ فِي هَذَا إجْمَاعًا كَانَ ظَنُّهُ بِحَسَبِ عِلْمِهِ حَيْثُ لَمْ يَعْلَمْ فِيهِ نِزَاعًا، وَكَيْفَ تَجْتَمِعُ الْأُمَّةُ عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ مَرْجُوحٍ لَيْسَ عَلَيْهِ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ، بَلْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ يُخَالِفُهُ. وَالصِّيَغُ ثَلَاثَةٌ: صِيغَةُ إيقَاعٍ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، فَهَذِهِ لَيْسَتْ يَمِينًا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ، وَصِيغَةُ قَسَمٍ كَقَوْلِهِ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، فَهَذِهِ صِيغَةُ يَمِينٍ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ. وَصِيغَةُ تَعْلِيقٍ، كَقَوْلِهِ: إنْ زَنَيْت فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَهَذَا إنْ قَصَدَ بِهِ الْإِيقَاعَ عِنْدَ وُجُودِ الصِّفَةِ بِأَنْ يَكُونَ يُرِيدُ إذَا زَنَتْ، إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَلَا يُقِيمُ مَعَ زَانِيَةٍ، فَهَذَا إيقَاعٌ وَلَيْسَ بِيَمِينٍ، وَإِنْ قَصَدَ مَنْعَهَا وَزَجْرَهَا وَلَا يُرِيدُ طَلَاقَهَا إذَا زَنَتْ، فَهَذَا يَمِينٌ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ.

فصل في حجية أقوال الصحابة

[فَصْلٌ فِي حجية أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ] فَصْلٌ وَأَمَّا أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ فَإِنْ انْتَشَرَتْ وَلَمْ تُنْكَرْ فِي زَمَانِهِمْ فَهِيَ حُجَّةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ. وَإِنْ تَنَازَعُوا رُدَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً مَعَ مُخَالَفَةِ بَعْضِهِمْ لَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ قَوْلًا وَلَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ بِخِلَافِهِ، وَلَمْ يَنْتَشِرْ، فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَحْتَجُّونَ بِهِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَفِي كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ الِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَلَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ. [فَصْلٌ الْمُرْسَلُ مِنْ الْحَدِيثِ] فَصْلٌ وَالْمُرْسَلُ مِنْ الْحَدِيثِ أَنْ يَرْوِيَهُ مَنْ دُونَ الصَّحَابَةِ، وَلَا يَذْكُرُ عَمَّنْ أَخَذَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِهِمْ. ثُمَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُسَمِّي مُرْسَلًا إلَّا مَا أَرْسَلَهُ التَّابِعِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعُدُّ مَا أَرْسَلَهُ غَيْرُ التَّابِعِيِّ مُرْسَلًا. وَكَذَلِكَ مَا يَسْقُطُ مِنْ إسْنَادِهِ رَجُلٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَخُصُّهُ بِاسْمِ الْمُنْقَطِعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُدْرِجُهُ فِي اسْمِ الْمُرْسَلِ، كَمَا أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُسَمِّي كُلَّ مُرْسَلٍ مُنْقَطِعًا، وَهَذَا كُلُّهُ سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ. وَأَمَّا الْغَرِيبُ: فَهُوَ الَّذِي لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا كَحَدِيثِ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . وَنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِهِ. وَحَدِيثِ أَنَّهُ «دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ» ، فَهَذِهِ صِحَاحٌ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَهِيَ غَرِيبَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ.

فَالْأَوَّلُ: إنَّمَا ثَبَتَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَالثَّانِي: إنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَالثَّالِثُ: إنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْغَرَائِبِ ضَعِيفَةٌ. وَأَمَّا الْحَسَنُ فِي اصْطِلَاحِ التِّرْمِذِيِّ فَهُوَ مَا رُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ مَنْ هُوَ مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ، وَلَا هُوَ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، فَهَذِهِ الشُّرُوطُ هِيَ الَّتِي شَرَطَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي الْحَسَنِ، لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ قَدْ يُسَمَّى حَسَنًا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ مِثْلُ حَدِيثٍ يَقُولُ فِيهِ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرْوَ إلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَقَدْ سَمَّاهُ حَسَنًا، وَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ غَرِيبًا لَمْ يُرْوَ إلَّا عَنْ تَابِعِيٍّ وَاحِدٍ، لَكِنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ فَصَارَ حَسَنًا لِتَعَدُّدِ طُرُقِهِ عَنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ، وَهُوَ فِي أَصْلِهِ غَرِيبٌ. وَكَذَلِكَ الصَّحِيحُ الْحَسَنُ الْغَرِيبُ، قَدْ يَكُونُ لِأَنَّهُ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ غَرِيبٍ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْ الرَّاوِي الْأَصْلِيِّ بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ وَطَرِيقٍ آخَرَ، فَيَصِيرُ بِذَلِكَ حَسَنًا مَعَ أَنَّهُ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، لِأَنَّ الْحَسَنَ مَا تَعَدَّدَ طُرُقُهُ، وَلَيْسَ فِيهَا مُتَّهَمٌ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مِنْ الطَّرِيقَيْنِ فَهَذَا صَحِيحٌ مَحْضٌ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الطَّرِيقِينَ لَمْ تُعْلَمْ صِحَّتُهُ فَهَذَا حَسَنٌ. وَقَدْ يَكُونُ غَرِيبَ الْإِسْنَادِ فَلَا يُعْرَفُ بِذَلِكَ الْإِسْنَادِ إلَّا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَهُوَ حَسَنُ الْمَتْنِ، لِأَنَّ الْمَتْنَ رُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَلِهَذَا يَقُولُ: وَفِي الْبَابِ عَنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، فَيَكُونُ لِمَعْنَاهُ شَوَاهِدُ تَبَيَّنَ أَنَّ مَتْنَهُ حَسَنٌ وَإِنْ كَانَ إسْنَادُهُ غَرِيبًا. وَإِذَا قَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّهُ صَحِيحٌ حَسَنٌ، فَيَكُونُ قَدْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ، وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ حَسَنٍ، فَاجْتَمَعَ فِيهِ الصِّحَّةُ وَالْحُسْنُ. وَقَدْ يَكُونُ غَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ لَا يُعْرَفُ بِذَلِكَ الْإِسْنَادِ إلَّا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ. وَإِنْ كَانَ هُوَ صَحِيحًا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ فَقَدْ يَكُونُ صَحِيحًا غَرِيبًا، وَهَذَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ فِي اجْتِمَاعِ الْحَسَنِ وَالْغَرِيبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ غَرِيبًا حَسَنًا ثُمَّ صَارَ حَسَنًا، وَقَدْ يَكُونُ حَسَنًا غَرِيبًا كَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ.

فصل شرط البخاري ومسلم

وَأَمَّا الْمُتَوَاتِرُ: فَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ لَيْسَ لَهُ عَدَدٌ مَحْصُورٌ، بَلْ إذَا حَصَلَ الْعِلْمُ عَنْ إخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ كَانَ الْخَبَرُ مُتَوَاتِرًا، وَكَذَلِكَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْعِلْمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُخْبِرِينَ بِهِ. فَرُبَّ عَدَدٍ قَلِيلٍ أَفَادَ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ بِمَا يُوجِبُ صِدْقَهُمْ، وَأَضْعَافِهِمْ لَا يُفِيدُ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ قَدْ يُفِيدُ الْعِلْمَ إذَا احْتَفَتْ بِهِ قَرَائِنُ تُفِيدُ الْعِلْمَ. وَعَلَى هَذَا فَكَثِيرٌ مِنْ مُتُونِ الصَّحِيحَيْنِ مُتَوَاتِرُ اللَّفْظِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ غَيْرُهُمْ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ، وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ مُتُونِ الصَّحِيحَيْنِ مِمَّا يَعْلَمُ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ عِلْمًا قَطْعِيًّا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ: تَارَةً لِتَوَاتُرِهِ عِنْدَهُمْ، وَتَارَةً لِتَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ. وَخَبَرُ الْوَاحِدِ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ يُوجِبُ الْعِلْمَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ كَالإسْفَرايِينِيّ وَابْنِ فُورَكٍ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ، لَكِنْ لَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى تَلَقِّيه بِالتَّصْدِيقِ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ إجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْفِقْهِ عَلَى حُكْمٍ، مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إلَى ظَاهِرٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ خَبَرِ وَاحِدٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ يَصِيرُ قَطْعِيًّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِنْ كَانَ بِدُونِ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مَعْصُومٌ، فَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يُجْمِعُونَ عَلَى تَحْلِيلِ حَرَامٍ، وَلَا تَحْرِيمِ حَلَالٍ، كَذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ لَا يُجْمِعُونَ عَلَى التَّصْدِيقِ بِكَذِبٍ، وَلَا التَّكْذِيبِ بِصِدْقٍ، وَتَارَةً يَكُونُ عِلْمُ أَحَدِهِمْ لِقَرَائِنَ تَحْتَفِي بِالْأَخْبَارِ تُوجِبُ لَهُمْ الْعِلْمَ، وَمَنْ عَلِمَ مَا عَلِمُوهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا حَصَلَ لَهُمْ. [فَصْلٌ شَرْطُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ] فَصْلٌ وَأَمَّا شَرْطُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، فَلِهَذَا رِجَالٌ يَرْوِي عَنْهُمْ يَخْتَصُّ بِهِمْ، وَلِهَذَا رِجَالٌ يَرْوِي عَنْهُمْ يَخْتَصُّ بِهِمْ، وَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي رِجَالٍ آخَرِينَ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّفَقَا عَلَيْهِمْ مَدَارُ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. وَقَدْ يَرْوِي أَحَدُهُمْ عَنْ رَجُلٍ فِي الْمُتَابَعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ دُونَ الْأَصْلِ، وَقَدْ يَرْوِي عَنْهُ مَا عُرِفَ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهِ وَلَا يَرْوِي مَا انْفَرَدَ بِهِ، وَقَدْ يَتْرُكُ مِنْ حَدِيثِ الثِّقَةِ مَا عَلِمَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِيهِ، فَيَظُنُّ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ أَنَّ كُلَّ مَا رَوَاهُ ذَلِكَ الشَّخْصُ يَحْتَجُّ بِهِ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ عِلَلِ الْحَدِيثِ عِلْمٌ شَرِيفٌ

مسألة أهل الجنة هل يتناسلون

يَعْرِفُهُ أَئِمَّةُ الْفَنِّ، كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذِهِ عُلُومٌ يَعْرِفُهَا أَصْحَابُهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أَهْلِ الْجَنَّةِ هَلْ يَتَنَاسَلُونَ] 1041 - 17 مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، هَلْ يَتَنَاسَلُونَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ الْوِلْدَانُ أَوْلَادُ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ وَمَا حُكْمُ الْأَوْلَادِ؟ وَعَنْ أَرْوَاحِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالنَّارِ، إذَا خَرَجَتْ مِنْ الْجَسَدِ، هَلْ تَكُونُ فِي الْجَنَّةِ تُنَعَّمُ وَاَلَّتِي فِي النَّارِ تُعَذَّبُ؟ أَوْ تَكُونُ فِي مَكَان مَخْصُوصٍ إلَى حَيْثُ يُبْعَثُ الْجَسَدُ؟ وَمَا حُكْمُ وَلَدِ الزِّنَا إذَا مَاتَ، هَلْ يَكُونُ مَعَ أَهْلِ الْأَعْرَافِ أَوْ فِي الْجَنَّةِ؟ وَمَا الصَّحِيحُ فِي أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ، هَلْ هُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَهَلْ تُسَمَّى الْأَيَّامُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا تُسَمَّى فِي الدُّنْيَا مِثْلُ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ؟ وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» ؟ وَعَنْ «فَاطِمَةَ أَنَّهَا أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ عَلِيًّا يَقُومُ اللَّيَالِيَ كُلَّهَا إلَّا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي الْوِتْرَ ثُمَّ يَنَامُ إلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ رُوحَ عَلِيٍّ كُلَّ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ، تَسْبَحُ فِي السَّمَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» ، فَهَلْ ذَلِكَ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ قَالَ: اسْأَلُونِي عَنْ طُرُقِ السَّمَاءِ فَإِنِّي أَعْرَفُ بِهَا مِنْ طُرُقِ الْأَرْضِ؟ . أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، الْوِلْدَانُ الَّذِينَ يَطُوفُونَ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، هُمْ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ الْجَنَّةِ، لَيْسُوا أَبْنَاءَ أَهْلِ الدُّنْيَا، بَلْ أَبْنَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا إذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ، يُكَمَّلُ خَلْقُهُمْ كَأَهْلِ الْجَنَّةِ. عَلَى صُورَةِ آدَمَ أَبْنَاءِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فِي طُولِ سِتِّينَ ذِرَاعًا، وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا أَنَّ الْعَرْضَ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ. وَأَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَأَرْوَاحُ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ، إلَى أَنْ تُعَادَ إلَى الْأَبْدَانِ. وَوَلَدُ الزِّنَا إنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَإِلَّا جُوزِيَ بِعَمَلِهِ كَمَا يُجَازَى غَيْرُهُ، وَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ لَا عَلَى النَّسَبِ. وَإِنَّمَا يُذَمُّ وَلَدُ

الزِّنَا، لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا خَبِيثًا كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا كَمَا تُحْمَدُ الْأَنْسَابِ الْفَاضِلَةِ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ عَمَلِ الْخَيْرِ، فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ الْعَمَلُ فَالْجَزَاءُ عَلَيْهِ، وَأَكْرَمُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ. وَأَمَّا أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ: فَأَصَحُّ الْأَوْجُهِ فِيهِمْ، جَوَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» الْحَدِيثَ، «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت مَنْ يَمُوتُ مِنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ صَغِيرٌ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» فَلَا يُحْكَمُ عَلَى مُعَيَّنٍ مِنْهُمْ لَا بِجَنَّةٍ وَلَا نَارٍ ". وَيُرْوَى أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُمْتَحَنُونَ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ حِينَئِذٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَى دَخَلَ النَّارَ، وَدَلَّتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، أَنَّ بَعْضَهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَبَعْضَهُمْ فِي النَّارِ. وَالْجَنَّةُ: لَيْسَ فِيهَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ، وَلَا لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، وَلَكِنْ تُعْرَفُ الْبُكْرَةُ وَالْعَشِيَّةُ بِنُورٍ يَظْهَرُ مِنْ قِبَلِ الْعَرْشِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ، لَكِنْ اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يُغَلِّسُ بِالْفَجْرِ» ، حَتَّى كَانَتْ تَنْصَرِفُ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْغَلَسِ، فَلِهَذَا أُوِّلَ الْحَدِيثُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ الْإِسْفَارَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا، أَيْ أَطِيلُوا الْقِرَاءَةَ حَتَّى تَخْرُجُوا مِنْهَا مُسْفِرِينَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِيهَا بِالسِّتِّينَ آيَةً إلَى الْمِائَةِ نَحْوَ نِصْفِ جُزْءٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتَبَيَّنَ الْفَجْرَ وَيَظْهَرَ فَلَا يُصَلِّي مَعَ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِطُلُوعِهِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ عَنْ عَلِيٍّ: فَكَذِبٌ، مَا رَوَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.

مسألة جندي له إقطاع ونسخ بيده صحيح مسلم والبخاري والقرآن وهو ناو كتابة الحديث والقرآن العظيم

وَأَمَّا قَوْلُهُ: اسْأَلُونِي عَنْ طُرُقِ السَّمَاءِ فَإِنَّهُ قَالَهُ وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ طَرِيقًا لِلْهُدَى، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ جُنْدِيٍّ لَهُ إقْطَاعٌ وَنَسَخَ بِيَدِهِ صَحِيحَ مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ وَالْقُرْآنَ وَهُوَ نَاوٍ كِتَابَةَ الْحَدِيثِ وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ] 1042 - 18 مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ جُنْدِيٍّ لَهُ إقْطَاعٌ وَنَسَخَ بِيَدِهِ صَحِيحَ مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ وَالْقُرْآنَ وَهُوَ نَاوٍ كِتَابَةَ الْحَدِيثِ وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَإِنْ سَمِعَ بِوَرَقٍ أَوْ أَقْلَامٍ اشْتَرَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ أَنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَكْتُبُ فِي جَمِيعِ هَذَا الْوَرَقِ أَحَادِيثَ الرَّسُولِ وَالْقُرْآنَ وَيُؤَمِّلُ آمَالًا بَعِيدَةً، فَهَلْ يَأْثَمُ أَمْ لَا؟ وَأَيُّ التَّفَاسِيرِ أَقْرَبُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: الزَّمَخْشَرِيُّ، أَمْ الْقُرْطُبِيِّ، أَمْ الْبَغَوِيّ، أَوْ غَيْرُ هَؤُلَاءِ. وَإِذَا نَسَخَ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِلْبَيْعِ يَكُونُ لَهُ أَجْرٌ وَثَوَابٌ مِثْلَ إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ وَقُوتِ الْقُلُوبِ وَمِثْلَ كِتَابِ الْمَنْطِقِ أَفْتُونَا. الْجَوَابُ: لَيْسَ عَلَيْهِ إثْمٌ فِيمَا يَنْوِيهِ وَيَفْعَلُهُ مِنْ كِتَابَةِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّ كِتَابَةَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالتَّفَاسِيرِ الْمَوْجُودَةِ الثَّابِتَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ وَالطَّاعَاتِ. وَأَمَّا التَّفَاسِيرُ الَّتِي فِي أَيْدِي النَّاسِ فَأَصَحُّهَا تَفْسِيرُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ مَقَالَاتِ السَّلَفِ بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ وَلَيْسَ فِيهِ بِدْعَةٌ وَلَا يَنْقُلُ عَنْ الْمُتَّهَمَيْنِ مُقَاتِلِ بْنِ بُكَيْر وَالْكَلْبِيِّ. وَالتَّفَاسِيرُ الْمَأْثُورَةُ بِالْأَسَانِيدِ كَثِيرَةٌ، كَتَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَوَكِيعِ بْنِ أَبِي قُتَيْبَةَ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ. وَأَمَّا التَّفَاسِيرُ الثَّلَاثَةُ الْمَسْئُولُ عَنْهَا فَأَسْلَمُهَا مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ الْبَغَوِيّ، لَكِنَّهُ مُخْتَصَرٌ فِي تَفْسِيرِ الثَّعْلَبِيِّ وَحَذَفَ مِنْهُ الْأَحَادِيثَ الْمَوْضُوعَةَ وَالْبِدَعَ الَّتِي فِيهِ وَحَذَفَ أَشْيَاءَ غَيْرَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْوَاحِدِيُّ فَإِنَّهُ تِلْمِيذُ الثَّعْلَبِيِّ، وَهُوَ أَخَبَرُ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ، لَكِنَّ الثَّعْلَبِيَّ فِيهِ

سَلَامَةٌ مِنْ الْبِدَعِ وَإِنْ ذَكَرَهَا تَقْلِيدًا لِغَيْرِهِ، وَتَفْسِيرُهُ وَتَفْسِيرُ الْوَاحِدِيِّ الْبَسِيطِ وَالْوَسِيطِ وَالْوَجِيزِ فِيهَا فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ، وَفِيهَا غَثٌّ كَثِيرٌ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ الْبَاطِلَةِ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا الزَّمَخْشَرِيُّ فَتَفْسِيرُهُ مَحْشُوٌّ بِالْبِدْعَةِ، وَعَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ، مِنْ إنْكَارِ الصِّفَاتِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَأَنْكَرَ أَنَّ اللَّهَ مُرِيدٌ لِلْكَائِنَاتِ وَخَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَأُصُولُهُمْ خَمْسَةٌ يُسَمُّونَهَا التَّوْحِيدُ وَالْعَدْلُ وَالْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَإِنْفَاذُ الْوَعِيدِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، لَكِنَّ مَعْنَى التَّوْحِيدِ عِنْدَهُمْ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الصِّفَاتِ وَلِهَذَا سَمَّى ابْنُ التومرت أَصْحَابَهُ الْمُوَحِّدِينَ، وَهَذَا إنَّمَا هُوَ إلْحَادٌ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، وَمَعْنَى الْعَدْلِ عِنْدَهُمْ يَتَضَمَّنُ التَّكْذِيبَ بِالْقَدَرِ، وَهُوَ خَلْقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَإِرَادَةُ الْكَائِنَاتِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى شَيْءٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ مُقَدَّمَ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ لَكِنَّ هَذَا قَوْلُ أَئِمَّتِهِمْ وَهَؤُلَاءِ مَنْصِبُ الزَّمَخْشَرِيِّ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ مَذْهَبُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَأَتْبَاعِهِمْ وَمَذْهَبُ أَبِي الْحُسَيْنِ. وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ عَلَى طَرِيقَتِهِ نَوْعَانِ مُسَايِخِيَّةٌ وَخَشَبِيَّةٌ، وَأَمَّا الْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ فَهِيَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ كَمَا لَا يُسَمَّى كَافِرًا فَنَزَّلُوهُ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ وَإِنْفَاذُ الْوَعِيدِ عِنْدَهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّ فُسَّاقَ الْمِلَّةِ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِشَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ يَتَضَمَّنُ عِنْدَهُمْ جَوَازَ الْخُرُوجِ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَقِتَالِهِمْ بِالسَّيْفِ - وَهَذِهِ الْأُصُولُ حَشَا كِتَابَهُ بِعِبَارَةٍ لَا يَهْتَدِي أَكْثَرُ النَّاسِ إلَيْهَا وَلَا لِمَقَاصِدِهِ فِيهَا، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ وَمِنْ قِلَّةِ النَّقْلِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَتَفْسِيرُ الْقُرْطُبِيِّ خَيْرٌ مِنْهُ بِكَثِيرٍ وَأَقْرَبُ إلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَبْعَدُ عَنْ الْبِدَعِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ مَنْ كَتَبَ هَذِهِ الْكُتُبَ لَا بُدَّ أَنْ تَشْتَمِلَ عَلَى مَا يُنْقَدُ لَكِنْ يَجِبُ الْعَدْلُ بَيْنَهَا وَإِعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. وَتَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ خَيْرٌ مِنْ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَأَصَحُّ نَقْلًا وَبَحْثًا وَأَبْعَدُ عَنْ الْبِدَعِ وَإِنْ اشْتَمَلَ عَلَى بَعْضِهَا بَلْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ بِكَثِيرٍ بَلْ لَعَلَّهُ أَرْجَحُ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ لَكِنَّ تَفْسِيرَ ابْنِ جَرِيرٍ أَصَحُّ مِنْ هَذِهِ كُلِّهَا.

وَثَمَّ تَفَاسِيرُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ جِدًّا كَتَفْسِيرِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَالْمَاوَرْدِيِّ. وَأَمَّا كِتَابُ قُوتِ الْقُلُوبِ، وَكِتَابُ الْإِحْيَاءِ تَبَعٌ لَهُ فِيمَا يَذْكُرُهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، مِثْلُ الصَّبْرِ، وَالشُّكْرِ، وَالْحُبِّ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالتَّوْحِيدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَبُو طَالِبٍ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ وَكَلَامِ أَهْلِ عُلُومِ الْقُلُوبِ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَكَلَامُهُ أَشَدُّ وَأَجْوَدُ تَحْقِيقًا وَأَبْعَدُ عَنْ الْبِدْعَةِ مَعَ أَنَّ فِي قُوتِ الْقُلُوبِ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ وَمَوْضُوعَةٌ وَأَشْيَاءُ مَرْدُودَةٌ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا مَا فِي الْإِحْيَاءِ مِنْ الْمُهْلِكَاتِ مِثْلِ الْكَلَامِ عَلَى الْكِبْرِ، وَالْعُجْبِ، وَالرِّيَاءِ، وَالْحَسَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَغَالِبُهُ مَنْقُولٌ مِنْ كَلَامِ الْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ فِي " الرِّعَايَةِ " - وَمِنْهُ مَا هُوَ مَقْبُولٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مَرْدُودٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَنَازَعٌ فِيهِ، وَالْإِحْيَاءُ فِيهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ، لَكِنَّ فِيهِ مَوَادَّ مَذْمُومَةً، فَإِنَّ فِيهِ مَوَادَّ فَاسِدَةً مِنْ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ تَتَعَلَّقُ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ - فَإِذَا ذُكِرَتْ مَعَارِفُ الصُّوفِيَّةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ عَدُوًّا لِلْمُسْلِمِينَ أَلْبَسَهُ ثِيَابَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ أَنْكَرَ أَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى أَبِي حَامِدٍ هَذَا فِي كُتُبِهِ وَقَالُوا: أَمْرَضَهُ الشِّفَاءُ يَعْنِي شِفَاءَ ابْنِ سِينَا فِي الْفَلْسَفَةِ - وَفِيهِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ ضَعِيفَةٌ، بَلْ مَوْضُوعَةٌ كَثِيرَةٌ وَفِيهِ أَشْيَاءُ مِنْ أَغَالِيطِ الصُّوفِيَّةِ وَتُرَّهَاتِهِمْ، وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْمَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ الْعَارِفِينَ الْمُسْتَقِيمِينَ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْأَدَبِ مَا هُوَ مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا يَرِدُ مِنْهُ فَلِهَذَا اخْتَلَفَ فِيهِ اجْتِهَادُ النَّاسِ وَتَنَازَعُوا فِيهِ. وَأَمَّا كُتُبُ الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفَةُ مِثْلُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فَلَيْسَ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ كِتَابٌ أَصَحُّ مِنْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ وَبَعْدَهُمَا مَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا، مِثْلُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ لِلْحُمَيْدِيِّ، وَلِعَبْدِ الْحَقِّ الْإِشْبِيلِيِّ، وَبَعْدَ ذَلِكَ كُتُبُ السُّنَنِ كَسُنَنِ أَبِي دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ، وَالْمَسَانِيدُ كَمُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ، وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَمُوَطَّإِ مَالِكٍ فِيهِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْكُتُبِ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ أَصَحُّ مِنْ مُوَطَّإِ مَالِكٍ يَعْنِي بِذَلِكَ مَا صُنِّفَ عَلَى طَرِيقَتِهِ، فَإِنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانُوا يَجْمَعُونَ فِي الْبَابِ بَيْنَ الْمَأْثُورِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَمْ تَكُنْ وُضِعَتْ كُتُبُ الرَّأْيِ الَّتِي تُسَمَّى كُتُبُ الْفِقْهِ. وَبَعْدَ هَذَا جَمْعُ الْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ فِي جَمْعِ الصَّحِيحِ لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَالْكُتُبِ

مسألة ما روي عن النبي عن الله قال ما وسعني لا سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن

الَّتِي تُحَبُّ وَيُؤْجَرُ الْإِنْسَانُ عَلَى كِتَابَتِهَا سَوَاءٌ كَتَبَهَا لِنَفْسِهِ أَوْ كَتَبَهَا لِبَيْعِهَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةً الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ، وَالرَّامِيَ بِهِ، وَالْمُمِدَّ بِهِ» فَالْكِتَابَةُ كَذَلِكَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ أَوْ لِيَنْتَفِعَ بِهِ غَيْرُهُ كِلَاهُمَا يُثَابُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا كُتُبُ الْمَنْطِقِ فَتِلْكَ لَا تَشْتَمِلُ عَلَى عِلْمٍ يُؤْمَرُ بِهِ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّى اجْتِهَادُ بَعْضِ النَّاسِ إلَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ إنَّ الْعُلُومَ لَا تَقُومُ إلَّا بِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ فَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ عَقْلًا وَشَرْعًا - أَمَّا عَقْلًا فَإِنَّ جَمِيعَ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعِلْمِ حَرَزُوا عُلُومَهُمْ بِدُونِ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ - وَأَمَّا شَرْعًا فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبْ تَعَلُّمَ هَذَا الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ - وَأَمَّا هُوَ فِي نَفْسِهِ فَبَعْضُهُ حَقٌّ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ وَالْحَقُّ الَّذِي فِيهِ كَثِيرٌ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرُهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَالْقَدْرُ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْهُ فَأَكْثَرُ الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ تَسْتَقِلُّ بِهِ وَالْبَلِيدُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَالذَّكِيُّ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَمَضَرَّتُهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ خَبِيرًا بِعُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ فَإِنَّ فِيهِ مِنْ الْقَوَاعِدِ السَّلْبِيَّةِ الْفَاسِدَةِ مَا رَاجَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ وَكَانَتْ سَبَبَ نِفَاقِهِمْ وَفَسَادِ عُلُومِهِمْ - قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ كُلُّهُ حَقٌّ كَلَامٌ بَاطِلٌ بَلْ فِي كَلَامِهِ فِي الْحَدِّ وَالصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ وَأَقْسَامِ الْقِيَاسِ وَالْبُرْهَانِ وَمَوَارِدِهِ مِنْ الْفَسَادِ مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَنْ اللَّهِ قَالَ مَا وَسِعَنِي لَا سَمَائِي وَلَا أَرْضِي وَلَكِنْ وَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ] 1043 - 19 مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَمَّا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: «مَا وَسِعَنِي لَا سَمَائِي وَلَا أَرْضِي وَلَكِنْ وَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ» . أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذَا مَا ذَكَرُوهُ فِي الْإسْرَائِيلِيّات ت لَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ مَعْرُوفٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَعْنَاهُ وَضَعَ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّتِي وَمَعْرِفَتِي.

وَمَا يُرْوَى: «الْقَلْبُ بَيْتُ الرَّبِّ» ، هَذَا مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ بَيْتُ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ. وَمَا يَرْوُونَهُ: «كُنْت كَنْزًا لَا أُعْرَفُ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُعْرَفَ فَخَلَقْتُ خَلْقًا فَعَرَّفْتهمْ بِي فَبِي عَرَفُونِي» . هَذَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَعْرِفُ لَهُ إسْنَادًا صَحِيحًا وَلَا ضَعِيفًا. وَمَا يَرْوُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَقْلَ، فَقَالَ لَهُ: أَقْبِلْ، فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ، فَأَدْبَرَ، فَقَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا خَلَقْت خَلْقًا أَشْرَفَ مِنْك، فَبِك آخُذُ وَبِك أُعْطِي» . هَذَا الْحَدِيثُ بَاطِلٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ. وَمَا يَرْوُونَهُ: «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» هَذَا مَعْرُوفٌ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ

وَأَمَّا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ مَعْرُوفٌ. وَمَا يَرْوُونَهُ: «الدُّنْيَا خُطْوَةُ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ» ، هَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا غَيْرِهِ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّتِهَا. وَمَا يَرْوُونَهُ: «مَنْ بُورِكَ لَهُ فِي شَيْءٍ فَلْيَلْزَمْهُ» ، «وَمَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ شَيْئًا لَزِمَهُ» . الْأَوَّلُ: يُؤْثَرُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَالثَّانِي: بَاطِلٌ فَإِنَّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ شَيْئًا قَدْ يَلْزَمُهُ وَقَدْ لَا يَلْزَمُهُ بِحَسَبِ مَا يَأْمُرُ بِهِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَمَا يَرْوُونَهُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتَّخِذُوا مَعَ الْفُقَرَاءِ أَيَادِيَ فَإِنَّ لَهُمْ فِي غَدٍ دَوْلَةً وَأَيَّ دَوْلَةٍ» ، «الْفَقْرُ فَخْرِي وَبِهِ أَفْتَخِرُ» ، كِلَاهُمَا كَذِبٌ لَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الْمَعْرُوفَةِ. وَمَا يَرْوُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا» . هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، بَلْ مَوْضُوعٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَلَكِنْ قَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَوَقَعَ هَذَا وَهُوَ كَذِبٌ. وَمَا يَرْوُونَهُ: " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُقْعِدُ الْفُقَرَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا زَوَيْت الدُّنْيَا عَنْكُمْ لِهَوَانِكُمْ عَلَيَّ وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَرْفَعَ قَدْرَكُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ انْطَلَقُوا

إلَى الْمَوْقِفِ فَمَنْ أَحْسَنَ إلَيْكُمْ بِكِسْرَةٍ أَوْ سَقَاكُمْ شَرْبَةَ مَاءٍ أَوْ كَسَاكُمْ خِرْقَةً انْطَلَقُوا بِهِ إلَى الْجَنَّةِ» ، قَالَ الشَّيْخُ: الثَّانِي كَذِبٌ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَهُوَ بَاطِلٌ خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَمَا يَرْوُونَهُ، عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَدِمَ إلَى الْمَدِينَةِ خَرَجْنَ بَنَاتُ النَّجَّارِ بِالدُّفُوفِ وَهُنَّ يَقُلْنَ: طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ إلَى آخِرِ الشِّعْرِ فَقَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُزُّوا غَرَابِيلَكُمْ بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ» . حَدِيثُ النِّسْوَةِ وَضَرْبِ الدُّفِّ فِي الْأَفْرَاحِ صَحِيحٌ فَقَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا قَوْلُهُ: «هُزُّوا غَرَابِيلَكُمْ» هَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْهُ. وَمَا يَرْوُونَهُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ إنَّك أَخْرَجَتْنِي مِنْ أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيَّ فَأَسْكِنِّي فِي أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيْك» . هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ كَذَلِكَ، وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، بَلْ إنَّهُ قَالَ لِمَكَّةَ: «إنَّك أَحَبُّ بِلَادِ اللَّهِ إلَيَّ» ، وَقَالَ: «إنَّك لَأَحَبُّ الْبِلَادِ إلَى اللَّهِ» . وَمَا يَرْوُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي إبْرَاهِيمَ فِي عَامٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ» . هَذَا كَذِبٌ مَوْضُوعٌ وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ. وَمَا يَرْوُونَهُ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ أَعْرَابِيًّا صَلَّى وَنَقَرَ صَلَاتَهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: " لَا تَنْقُرْ صَلَاتَك "، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: يَا عَلِيُّ لَوْ نَقَرَهَا أَبُوك مَا دَخَلَ النَّارَ. هَذَا كَذِبٌ. وَمَا يَرْوُونَهُ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ، هَذَا كَذِبٌ فَإِنَّ أَبَاهُ مَاتَ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَا يَرْوُونَهُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ. وَكُنْت وَآدَمُ لَا مَاءَ وَلَا طِينَ» هَذَا اللَّفْظُ كَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَمَا يَرْوُونَهُ: «الْعَازِبُ فِرَاشُهُ مِنْ نَارٍ، مِسْكِينٌ رَجُلٌ بِلَا امْرَأَةٍ، وَمِسْكِينَةٌ امْرَأَةٌ بِلَا رَجُلٍ» . هَذَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا بَنَى الْبَيْتَ صَلَّى فِي كُلِّ رُكْنٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ: «يَا إبْرَاهِيمُ مَا هَذَا سَدُّ جَوْعَةٍ أَوْ سِتْرُ عَوْرَةٍ» . هَذَا كَذِبٌ ظَاهِرٌ لَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَا يَرْوُونَهُ: «لَا تَكْرَهُوا الْفِتْنَةَ فَإِنَّ فِيهَا حَصَادَ الْمُنَافِقِينَ» ، هَذَا لَيْسَ مَعْرُوفًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَا يَرْوُونَهُ: «مَنْ عَلَّمَ أَخَاهُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَلَكَ رِقَّهُ» ، هَذَا كَذِبٌ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَمَا يَرْوُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اطَّلَعَتْ عَلَى ذُنُوبِ أُمَّتِي فَلَمْ أَجِدْ أَعْظَمَ ذَنْبًا مِمَّنْ تَعَلَّمَ آيَةً ثُمَّ نَسِيَهَا» وَإِذَا صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ فَهَذَا عَنَى بِالنِّسْيَانِ التِّلَاوَةَ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ: «يُوجَدُ مِنْ سَيِّئَاتِ أُمَّتِي الرَّجُلُ يُؤْتِيهِ اللَّهُ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ فَيَنَامُ عَنْهَا حَتَّى يَنْسَاهَا» وَالنِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْإِعْرَاضِ عَنْ الْقُرْآنِ وَتَرْكِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَأَمَّا إهْمَالُ دَرْسِهِ حَتَّى يُنْسَى فَهُوَ مِنْ الذُّنُوبِ وَمَا يَرْوُونَهُ: «إنَّ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ خَيْرٌ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَلَا يُشَبَّهُ بِغَيْرِهِ» ، اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ غَيْرُ مَأْثُورٍ. وَمَا يَرْوُونَهُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَلِمَ عِلْمًا نَافِعًا وَأَخْفَاهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» ، وَهَذَا مَعْنَاهُ مَعْرُوفٌ فِي السُّنَنِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» . وَمَا يَرْوُونَهُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا وَصَلْتُمْ إلَى مَا شَجَرَ بَيْنَ أَصْحَابِي فَامْسِكُوا، وَإِذَا وَصَلْتُمْ إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فَأَمْسِكُوا» ، هَذَا مَأْثُورٌ بِأَسَانِيدَ مُنْقَطِعَةٍ. وَمَا يَرْوُونَهُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَهُوَ يَأْكُلُ الْعِنَبَ: دو دو» ، يَعْنِي عِنَبَتَيْنِ عِنَبَتَيْنِ، هَذَا لَيْسَ كَلَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ بَاطِلٌ.

مسألة من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بغير دليل أو تقليد أو عذر آخر

وَمَا يَرْوُونَهُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَجَاءَتْ مِنْهُ بِبِنْتٍ فَلِلزَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَ بِابْنَتِهِ مِنْ الزِّنَا» ، وَهَذَا يَقُولُهُ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضُهُمْ يَنْقُلُهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَقَالَ: إنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِتَحْلِيلِ ذَلِكَ وَلَكِنْ صَرَّحَ بِحِلِّ ذَلِكَ مِنْ الرَّضَاعَةِ إذَا رَضَعَ مِنْ لَبَنِ الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا، وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ كَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا مُتَّفِقُونَ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَمَا يَرْوُونَهُ: «أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أُجْرَةً كِتَابُ اللَّهِ» ، نَعَمْ ثَبَتَ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: «أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أُجْرَةً كِتَابُ اللَّهِ» ، لَكِنَّهُ فِي حَدِيثِ الرُّقْيَةِ، وَكَانَ الْجُعْلُ عَلَى عَافِيَةِ مَرِيضِ الْقَوْمِ لَا عَلَى التِّلَاوَةِ. وَهَلْ يَحْرُمُ اتِّخَاذُ أَبْرَاجِ الْحَمَامِ إذَا طَارَتْ مِنْ الْأَبْرَاجِ تَحُطُّ عَلَى زِرَاعَاتِ النَّاسِ وَتَأْكُلُ الْحَبَّ فَهَلْ يَحْرُمُ اتِّخَاذُ أَبْرَاجِ الْحَمَامِ فِي الْقُرَى وَالْبُلْدَانِ لِهَذَا السَّبَبِ؟ نَعَمْ إذَا كَانَ يَضُرُّ بِالنَّاسِ مُنِعَ مِنْهُ. وَمَا يَرْوُونَهُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ ظَلَمَ ذِمِّيًّا كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ كُنْتُ خَصْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، هَذَا ضَعِيفٌ، لَكِنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يُرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» . وَمَا يَرْوُونَهُ، عَنْهُ: «مَنْ أَسْرَجَ سِرَاجًا فِي مَسْجِدٍ لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ تَسْتَغْفِرُ لَهُ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ ضَوْءُ ذَلِكَ السِّرَاجِ» . هَذَا لَا أَعْرِفُ لَهُ إسْنَادًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مَسْأَلَةٌ مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا أُنْكِرَ عَلَيْهِ مُخَالَفَتُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ أَوْ تَقْلِيدٍ أَوْ عُذْرٍ آخَرَ] 1044 - 20 مَسْأَلَةٌ: وَرَدَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَصْبَهَانَ عَلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَالِمِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ تَقِيِّ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ تَيْمِيَّةَ، وَسُئِلَ أَنْ يَشْرَحَ مَا ذَكَرَهُ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ حَمْدَانَ فِي آخِرِ كِتَابِ الرِّعَايَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: " مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا أُنْكِرَ عَلَيْهِ مُخَالَفَتُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ أَوْ تَقْلِيدٍ أَوْ عُذْرٍ آخَرَ ". وَيُبَيِّنَ لَنَا مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا مِنْ كَوْنِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ يُذْكَرُ فِيهَا فِي الْكَافِي وَالْمُحَرَّرِ وَالْمُقْنِعِ وَالرِّعَايَةِ وَالْخُلَاصَةِ وَالْهِدَايَةِ رِوَايَتَانِ أَوْ وَجْهَانِ وَلَمْ يُذْكَرْ الْأَصَحُّ وَالْأَرْجَحُ،

فَلَا نَدْرِي بِأَيِّهِمَا نَأْخُذُ، وَإِنْ سَأَلُونَا عَنْهُ أَشْكَلَ عَلَيْنَا؟ . أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا هَذِهِ الْكُتُبُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا رِوَايَتَانِ أَوْ وَجْهَانِ وَلَا يُذْكَرُ فِيهَا الصَّحِيحُ فَطَالِبُ الْعِلْمِ يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ مِنْ كُتُبٍ أُخْرَى، مِثْلُ: كِتَابِ التَّعْلِيقِ لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَالِانْتِصَارِ لِأَبِي الْخَطَّابِ، وَعُمْدَةِ الْأَدِلَّةِ لِابْنِ عَقِيلٍ؛ وَتَعْلِيقِ الْقَاضِي يَعْقُوبَ الْبَرْزِينِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ الزَّاغُونِيِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ الْكِبَارِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا مَسَائِلُ الْخِلَافِ وَيُذْكَرُ فِيهَا الرَّاجِحُ. وَقَدْ اُخْتُصِرَتْ رُءُوسُ مَسَائِلِ هَذِهِ الْكُتُبِ فِي كُتُبٍ مُخْتَصَرَةٍ مِثْلِ: رُءُوسِ الْمَسَائِلِ لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَرُءُوسِ الْمَسَائِلِ لِلشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَرُءُوسِ الْمَسَائِلِ لِأَبِي الْخَطَّابِ، وَرُءُوسِ الْمَسَائِلِ لِلْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْبَرَكَاتِ صَاحِبِ الْمُحَرَّرِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِمَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّهُ مَا رَجَّحَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي رُءُوسِ مَسَائِلِهِ. وَمِمَّا يُعْرَفُ مِنْهُ ذَلِكَ: كِتَابُ الْمُغْنِي لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَكِتَابُ شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِجَدِّنَا أَبِي الْبَرَكَاتِ. وَقَدْ شَرَحَ الْهِدَايَةَ غَيْرُ وَاحِدٍ كَأَبِي حَلِيمٍ النِّهْرَوَانِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ تَيْمِيَّةَ صَاحِبِ التَّفْسِيرِ الْخَطِيبِ عَمِّ أَبِي الْبَرَكَاتِ وَأَبِي الْمَعَالِي بْنِ الْمُنَجَّا، وَأَبِي الْبَقَاءِ النَّحْوِيِّ، لَكِنْ لَمْ يُكْمِلْ ذَلِكَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِيمَا يُصَحِّحُونَهُ فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَحِّحُ رِوَايَةً وَيُصَحِّحُ آخَرُونَ رِوَايَةً فَمَنْ عَرَفَ ذَلِكَ نَقَلَهُ وَمَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ قَوْلٌ وَاحِدٌ عَلَى قَوْلِ آخَرَ اتَّبَعَ الْقَوْلَ الرَّاجِحَ، وَمَنْ كَانَ مَقْصُودُهُ نَقْلَ مَذْهَبِ أَحْمَدَ نَقَلَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ وَالْوُجُوهِ وَالطُّرُقِ. كَمَا يَنْقُلُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّهُ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ مِنْ اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ عَنْ الْأَئِمَّةِ وَاخْتِلَافِ أَصْحَابِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ مَذْهَبِهِمْ وَمَعْرِفَةِ الرَّاجِحِ شَرْعًا مَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَمَنْ كَانَ خَبِيرًا بِأُصُولِ أَحْمَدَ وَنُصُوصِهِ عَرَفَ الرَّاجِحَ فِي مَذْهَبِهِ فِي عَامَّةِ الْمَسَائِلِ وَإِنْ كَانَ لَهُ بَصَرٌ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ عَرَفَ الرَّاجِحَ فِي الشَّرْعِ وَأَحْمَدُ كَانَ أَعْلَمَ مِنْ غَيْرِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَلِهَذَا لَا يَكَادُ يُوجَدُ لَهُ قَوْلٌ يُخَالِفُ نَصًّا كَمَا وُجِدَ لِغَيْرِهِ، وَلَا يُوجَدُ لَهُ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي الْغَالِبِ إلَّا وَفِي

فصل من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بغير دليل أو تقليد أو عذر آخر فهذا يراد به شيئان

مَذْهَبِهِ قَوْلٌ يُوَافِقُ الْقَوْلَ الْأَقْوَى وَأَكْثَرُ مَفَارِيدِهِ الَّتِي لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهَا مَذْهَبُهُ يَكُونُ قَوْلُهُ فِيهَا رَاجِحًا كَقَوْلِهِ بِجَوَازِ فَسْخِ الْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ إلَى التَّمَتُّعِ، وَقَبُولِهِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَالْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ، وَقَوْلِهِ بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ حَتَّى تَتُوبَ، وَقَوْلِهِ بِجَوَازِ شَهَادَةِ الْعَبْدِ وَقَوْلِهِ بِأَنَّ السُّنَّةَ لِلْمُتَيَمِّمِ أَنْ يَمْسَحَ الْكُوعَيْنِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَوْلِهِ: فِي الْمُسْتَحَاضَةِ بِأَنَّهَا تَارَةً تَرْجِعُ إلَى الْعَادَةِ وَتَارَةً تَرْجِعُ إلَى التَّمْيِيزِ وَتَارَةً تَرْجِعُ إلَى غَالِبِ عَادَاتِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا ثَلَاثُ سُنَنٍ عَمِلَ بِالثَّلَاثَةِ أَحْمَدُ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَوْلِهِ: بِجَوَازِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ عَلَى الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ وَاَلَّتِي فِيهَا شَجَرٌ وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا وَجَوَازِ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْمُشَارَكَةِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ وَلَا هُوَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَنَظِيرُ هَذَا كَثِيرٌ. وَأَمَّا مَا يُسَمِّيهِ بَعْضُ النَّاسِ مُفْرَدَةً لِكَوْنِهِ انْفَرَدَ بِهَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ مَعَ أَنَّ قَوْلَ مَالِكٍ فِيهَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أَحْمَدَ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ وَهِيَ الَّتِي صَنَّفَ لَهَا الْهِرَّاسِيُّ رَدًّا عَلَيْهَا وَانْتَصَرَ لَهَا جَمَاعَةٌ، كَابْنِ عَقِيلٍ، وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى الصَّغِيرِ، وَأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ، وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، فَهَذِهِ غَالِبُهَا يَكُونُ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ أَرْجَحُ مِنْ الْقَوْلِ الْآخَرِ وَمَا يَتَرَجَّحُ فِيهَا الْقَوْلُ الْآخَرُ يَكُونُ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ أَحْمَدَ وَهَذَا كَإِبْطَالِ الْحِيَلِ الْمُسْقِطَةِ لِلزَّكَاةِ وَالشُّفْعَةِ. وَنَحْوُ ذَلِكَ الْحِيَلُ الْمُبِيحَةُ لِلرِّبَا وَالْفَوَاحِشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَاعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ فِي الْعُقُودِ وَالرُّجُوعِ فِي الْأَيْمَانِ إلَى سَبَبِ الْيَمِينِ وَمَا هَيَّجَهَا مَعَ نِيَّةِ الْحَالِفِ وَكَإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى أَهْلِ الْجِنَايَاتِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ يُقِيمُونَهَا كَمَا كَانُوا يُقِيمُونَ الْحَدَّ عَلَى الشَّارِبِ بِرَائِحَةٍ وَالْقَيْءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَاعْتِبَارِ الْعُرْفِ فِي الشُّرُوطِ وَجَعْلِ الشَّرْطِ الْعُرْفِيِّ كَالشَّرْطِ اللَّفْظِيِّ وَالِاكْتِفَاءِ فِي الْعُقُودِ الْمُطْلَقَةِ بِمَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ وَأَنَّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ وَمَا عَدُّوهُ إجَارَةً فَهُوَ إجَارَةٌ وَمَا عَدُّوهُ هِبَةً فَهُوَ هِبَةٌ وَمَا عَدُّوهُ وَقْفًا فَهُوَ وَقْفٌ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ لَفْظٌ مُعَيَّنٌ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. [فَصْلٌ مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا أُنْكِرَ عَلَيْهِ مُخَالَفَتُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ أَوْ تَقْلِيدٍ أَوْ عُذْرٍ آخَرَ فَهَذَا يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ] فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ بْنِ حَمْدَانَ: مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا أُنْكِرَ عَلَيْهِ مُخَالَفَتُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ أَوْ تَقْلِيدٍ أَوْ عُذْرٍ آخَرَ فَهَذَا يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا ثُمَّ فَعَلَ خِلَافَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ لِعَالِمٍ آخَرَ أَفْتَاهُ

وَلَا اسْتِدْلَالٍ بِدَلِيلٍ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ، وَمِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ يُبِيحُ لَهُ فِعْلَهُ. فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ وَعَامِلًا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا تَقْلِيدٍ فَاعِلًا لِلتَّحْرِيمِ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ وَهَذَا مُنْكَرٌ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَرَادَ الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ. وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَقِدَ الشَّيْءَ وَاجِبًا أَوْ حَرَامًا ثُمَّ يَعْتَقِدُهُ غَيْرَ وَاجِبٍ أَوْ مُحَرَّمٍ بِمُجَرَّدِ هَوَاهُ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لِشُفْعَةِ الْجِوَارِ فَيَعْتَقِدُهَا أَنَّهَا حَقٌّ لَهُ ثُمَّ إذَا طُلِبَتْ مِنْهُ شُفْعَةُ الْجِوَارِ اعْتَقَدَهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً، أَوْ مِثْلُ مِنْ يَعْتَقِدَ إذَا كَانَ أَخًا مَعَ جَدٍّ أَنَّ الْإِخْوَةَ تُقَاسِمُ الْجَدَّ فَإِذَا صَارَ جَدًّا مَعَ أَخٍ اعْتَقَدَ أَنَّ الْجَدَّ لَا يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ، أَوْ إذَا كَانَ لَهُ عَدُوٌّ يَفْعَلُ بَعْضَ الْأُمُورِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، كَشُرْبِ النَّبِيذِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَلَعِبِ الشِّطْرَنْجِ، وَحُضُورِ السَّمَاعِ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُهْجَرَ وَيُنْكَرَ عَلَيْهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ صَدِيقُهُ اعْتَقَدَ ذَلِكَ أَنْ هَذَا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَا تُنْكَرُ فَمِثْلُ هَذَا مِمَّنْ يَكُونُ فِي اعْتِقَادِهِ حِلُّ الشَّيْءِ وَحُرْمَتُهُ وَوُجُوبُهُ وَسُقُوطُهُ بِسَبَبِ هَوَاهُ هُوَ مَذْمُومٌ مَجْرُوحٌ خَارِجٌ عَنْ الْعَدَالَةِ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ لَهُ مَا يُوجِبُ رُجْحَانَ قَوْلٍ عَلَى قَوْلِ إمَّا بِالْأَدِلَّةِ الْمُفَصَّلَةِ إنْ كَانَ يَعْرِفُهَا وَيَفْهَمُهَا وَإِمَّا بِأَنْ تَرَى أَحَدَ رَجُلَيْنِ أَعْلَمَ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْآخَرِ أَوْ هُوَ أَتْقَى لِلَّهِ فِيمَا يَقُولُ فَيَرْجِعُ عَنْ قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ لِمِثْلِ هَذَا فَهَذَا يَجُوزُ بَلْ يَجِبُ. وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَمْدَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ. وَلِهَذَا قَالَ مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا أُنْكِرَ عَلَيْهِ مُخَالَفَتُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ أَوْ تَقْلِيدٍ يَسُوغُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي خِلَافِهِ أَوْ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ أَبَاحَ الْمَحْظُورَ الَّذِي يُبَاحُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْعُذْرُ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ. وَهُنَا مَسْأَلَةٌ ثَانِيَةٌ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ أَرَادَهَا وَلَمْ يُرِدْهَا لَكِنَّا نَتَكَلَّمُ عَلَى تَقْدِيرِ إرَادَتِهَا وَهُوَ أَنَّ مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُ، قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَكَذَلِكَ غَيْرُ هَذَا مَا يَذْكُرُهُ ابْنُ حَمْدَانَ وَغَيْرُهُ يَكُونُ مِمَّا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ كَثِيرٌ مِنْهُ يَكُونُ مِمَّا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِمْ وَلَيْسَ مَنْصُوصًا عَنْهُمْ، بَلْ قَدْ يَكُونُ خِلَافَ ذَلِكَ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْعَامِّيَّ هَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا يَأْخُذُ بِعَزَائِمِهِ وَرُخَصِهِ.

فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْجُمْهُورُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَا يُوجِبُونَ ذَلِكَ، وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوهُ يَقُولُونَ إذَا الْتَزَمَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ مَا دَامَ مُلْتَزِمًا لَهُ أَوْ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِالِالْتِزَامِ مِنْهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْتِزَامَ الْمَذَاهِبِ وَالْخُرُوجَ عَنْهَا إنْ كَانَ لِغَيْرِ أَمْرٍ دِينِيٍّ مِثْلِ أَنْ يَلْتَزِمَ مَذْهَبًا لِحُصُولِ غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا لَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ بَلْ يُذَمُّ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَوْ كَانَ مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ خَيْرًا مِمَّا انْتَقَلَ عَنْهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُسْلِمُ لَا يُسْلِمُ إلَّا لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ أَوْ يُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ لِامْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا أَوْ دُنْيَا يُصِيبُهَا. وَقَدْ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ هَاجَرَ إلَى امْرَأَةٍ يُقَال لَهَا أُمُّ قَيْسٍ فَكَانَ يُقَالُ لَهُ مُهَاجِرُ أُمِّ قَيْسٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» . وَأَمَّا إنْ كَانَ انْتِقَالُهُ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ لِأَمْرٍ دِينِيٍّ، مِثْلِ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ رُجْحَانُ قَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ فَرَجَعَ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ أَنْ لَا يَعْدِلَ وَلَا يَتْبَعَ أَحَدًا فِي مُخَالَفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ فَرَضَ طَاعَةَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] .

وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ كِتَابًا فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. فَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَحْلِيلُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَإِيجَابُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ رَجَعَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ إلَى مَنْ يُعَلِّمُهُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا قَالَ الرَّسُولُ وَأَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. فَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ وَسَائِلُ وَطُرُقٌ وَأَدِلَّةٌ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ الرَّسُولِ يُبَلِّغُونَهُمْ مَا قَالَهُ وَيُفَهِّمُونَهُمْ مُرَادَهُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ وَاسْتِطَاعَتِهِمْ وَقَدْ يَخُصُّ اللَّهُ هَذَا الْعَالِمَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ. وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى مِنْ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ هَذَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] . فَهَذَانِ نَبِيَّانِ كَرِيمَانِ حَكَمَا فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ فَخَصَّ اللَّهُ أَحَدَهُمَا بِالْفَهْمِ وَأَثْنَى عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا «وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» وَاجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَحْكَامِ كَاجْتِهَادِ الْمُسْتَدِلِّينَ عَلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ، فَإِذَا كَانَ أَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ يُصَلِّي كُلُّ وَاحِدٍ بِطَائِفَةٍ إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْكَعْبَةَ هُنَاكَ، فَإِنَّ صَلَاةَ الْأَرْبَعَةِ صَحِيحَةٌ، وَاَلَّذِي صَلَّى إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُصِيبُ الَّذِي لَهُ أَجْرَانِ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» . وَأَكْثَرُ النَّاسِ إنَّمَا الْتَزَمُوا الْمَذَاهِبَ بَلْ الْأَدْيَانَ بِحُكْمِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَنْشَأُ عَلَى دِينِ أَبِيهِ أَوْ سَيِّدِهِ أَوْ أَهْلِ بَلَدِهِ كَمَا يَتْبَعُ الطِّفْلَ فِي الدِّينِ أَبَوَيْهِ وَسَادَتَهُ وَأَهْلَ بَلَدِهِ، ثُمَّ إذَا بَلَغَ الرَّجُلُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، حَيْثُ كَانَتْ وَلَا يَكُونُ مِمَّنْ إذَا قِيلَ لَهُمْ: اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، قَالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، فَكُلُّ مَنْ عَدَلَ عَنْ

فصل العنب الذي يصير زبيبا فإذا أخرج عنه زبيبا بقدر عشره

اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى عَادَتِهِ وَعَادَةِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الْمُسْتَحَقِّينَ لِلْوَعِيدِ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ الْحَقُّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ثُمَّ عَدَلَ عَنْهُ إلَى عَادَتِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ مَعْرِفَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَقَدْ اتَّبَعَ فِيهَا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ قَوْلَ غَيْرِهِ أَرْجَحُ مِنْ قَوْلِهِ فَهُوَ مَحْمُودٌ مُثَابٌ، لَا يُذَمُّ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُعَاقَبُ. وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ وَمَعْرِفَةِ مَا هُوَ الرَّاجِحُ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إلَى التَّقْلِيدِ، فَهَذَا قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَمَذْهَبُ أَحْمَدَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ أَنَّ هَذَا آثِمٌ أَيْضًا، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ قِيلَ مُطْلَقًا وَقِيلَ: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْأَعْلَمِ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ هَذَا عَنْ أَحْمَدَ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي اللُّمَعِ وَهَذَا غَلَطٌ عَلَى أَحْمَدَ، فَإِنَّ أَحْمَدَ إنَّمَا يَقُولُ هَذَا فِي الصَّحَابَةِ فَقَطْ عَلَى اخْتِلَافٍ عَنْهُ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا مِثْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَسُفْيَانَ، وَمِثْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَأَبِي عُبَيْدٍ فَقَدْ نَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَالِمِ الْقَادِرِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ أَنْ يُقَلِّدَهُمْ وَقَالَ: لَا تُقَلِّدُونِي وَلَا تُقَلِّدُوا مَالِكًا وَلَا الشَّافِعِيَّ وَلَا الثَّوْرِيَّ وَكَانَ يُحِبُّ الشَّافِعِيَّ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُحِبُّ إِسْحَاقَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُثْنِي عَلَى مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَيَأْمُرُ الْعَامِّيَّ بِأَنْ يَسْتَفْتِيَ إِسْحَاقَ وَأَبَا عُبَيْدٍ وَأَبَا ثَوْرٍ وَأَبَا مُصْعَبٍ، وَيَنْهَى الْعُلَمَاءَ مِنْ أَصْحَابِهِ، كَأَبِي دَاوُد، وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ، وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ، وَأَبِي زُرْعَةَ، وَأَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ أَنْ لَا يُقَلِّدُوا أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَيَقُولُ عَلَيْكُمْ بِالْأَصْلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. [فَصْلٌ الْعِنَبُ الَّذِي يَصِيرُ زَبِيبًا فَإِذَا أَخْرَجَ عَنْهُ زَبِيبًا بِقَدْرِ عُشْرِهِ] فَصْلٌ وَأَمَّا الْعِنَبُ الَّذِي يَصِيرُ زَبِيبًا، فَإِذَا أَخْرَجَ عَنْهُ زَبِيبًا بِقَدْرِ عُشْرِهِ لَوْ كَانَ يَصِيرُ زَبِيبًا جَازَ، وَهُوَ أَفْضَلُ وَأَجْزَأَهُ ذَلِكَ بِلَا رَيْبٍ. وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ الْإِخْرَاجُ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ، لَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَلَا غَيْرِهَا، بَلْ مَنْ كَانَ مَعَهُ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ أَوْ عَرَضُ تِجَارَةٍ، أَوْ لَهُ حَبٌّ، أَوْ ثَمَرٌ يَجِبُ فِيهِ

الْعُشْرُ، أَوْ مَاشِيَةٌ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَأَخْرَجَ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ الْمَنْصُوصِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَالِ أَجْزَأَهُ فَكَيْفَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ. وَإِنْ أَخْرَجَ الْعُشْرَ عِنَبًا فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ. وَالثَّانِي: يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَظْهَرُ. وَأَمَّا الْعِنَبُ الَّذِي يَصِيرُ زَبِيبًا لَكِنَّهُ قَطَعَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ زَبِيبًا فَهُنَا يَخْرُجُ زَبِيبًا بِلَا رَيْبٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبْعَثُ سُعَاتَهُ فَيَخْرُصُونَ النَّخْلَ وَالْكَرْمَ، وَيُطَالِبُ أَهْلَهُ بِمِقْدَارِ الزَّكَاةِ يَابِسًا وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الثِّمَارِ يَأْكُلُونَ كَثِيرًا مِنْهَا رُطَبًا، وَيَأْمُرُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَارِصِينَ أَنْ يَدَعُوا لِأَهْلِ الْأَمْوَالِ الثُّلُثَ أَوْ الرُّبْعَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرٌ وَيَقُولُ: «إذَا خَرَصْتُمْ فَدَعُوا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبْعَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ وَالرَّطْبَةَ وَالسَّائِلَةَ» . يَعْنِي أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يَنْتَزِعُ بِمَا يُعَرِّيهِ مِنْ النَّخْلِ لِمَنْ يَأْكُلُهُ، وَعَلَيْهِ ضَيْفٌ يَطَئُونَ حَدِيقَتَهُ يُطْعِمُهُمْ وَيُطْعِمُ السَّائِلَةَ وَهُمْ أَبْنَاءُ السَّبِيلِ، وَهَذَا الْإِسْقَاطُ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ فِي الْأُولَى. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَمَا عَلِمْت فِيهَا نِزَاعًا فَإِنَّ حَقَّ أَهْلِ السَّهْمَيْنِ لَا يَسْقُطُ بِاخْتِيَارِ قَطْعِهِ رُطَبًا إذَا كَانَ يَيْبَسُ، نَعَمْ لَوْ بَاعَ عِنَبَهُ أَوْ رُطَبَهُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، فَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُهُ إخْرَاجُ عُشْرِ الثَّمَنِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجِ عِنَبٍ أَوْ زَبِيبٍ فَإِنَّ فِي إخْرَاجِ الْقِيمَةِ نِزَاعًا فِي مَذْهَبِهِ وَنُصُوصُهُ الْكَثِيرَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ، وَلَا يَجُوزُ بِدُونِ الْحَاجَةِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَخَرَجَتْ عَنْهُ رِوَايَةٌ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا، وَنُصُوصُهُ الصَّرِيحَةُ إنَّمَا هِيَ بِالْفَرْقِ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ، قَدْ يَنُصُّ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ مُتَشَابِهَتَيْنِ بِجَوَابَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَيُخْرِجُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ إلَى الْأُخْرَى، وَيَكُونُ الصَّحِيحُ إقْرَارَ نُصُوصِهِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ

فصل المزارعة فإذا كان البذر من العامل أو من رب الأرض

الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ تَجُوزُ بَعْدَ الْجَرْحِ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّ الْمُدَبَّرَ إذَا قَتَلَ سَيِّدَهُ بَطَلَ التَّدْبِيرُ. فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ خَرَّجَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ رِوَايَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ إذَا قَتَلَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، كَمَا يَمْنَعُ قَتْلُ الْوَارِثِ لِمُوَرِّثِهِ أَنْ يَرِثَهُ، وَأَمَّا إذَا أَوْصَى لَهُ بَعْدَ الْجَرْحِ فَهُنَا الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةٌ، فَإِنَّهُ وَصَّى بِهَا بَعْدَ جَرْحِهِ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ. [فَصْلٌ الْمُزَارَعَةُ فَإِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ أَوْ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ] فَصْلٌ وَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ، فَإِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ، أَوْ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، أَوْ كَانَ مِنْ شَخْصٍ أَرْضٌ، وَمِنْ آخَرَ بَذْرٌ، وَمِنْ ثَالِثٍ الْعَمَلُ، فَفِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. وَالصَّوَابُ أَنَّهَا تَصِحُّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ فَهُوَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِمَّا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقِصَّةُ أَهْلِ خَيْبَرَ هِيَ الْأَصْلُ فِي جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَبْذُرُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِيهِمْ بَذْرًا مِنْ عِنْدِهِ، وَهَكَذَا خُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ مِثْلُ: عُمَرَ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُزَارِعُونَ بِبَذْرٍ مِنْ الْعَامِلِ. وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَامَّةِ أَصْحَابِهِ فِي أَجْوِبَةٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا عَلَى أَنَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَ الْأَرْضَ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِقِصَّةِ أَهْلِ خَيْبَرَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَلَهُمْ عَلَيْهَا بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهَا، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى إجَارَتِهَا بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهَا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ، فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ هُوَ الَّذِي يَبْذُرُ الْأَرْضَ. وَفِي الصُّورَتَيْنِ لِلْمَالِكِ بَعْضُ الزَّرْعِ وَلِهَذَا قَالَ مِنْ حَقِّ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ أَصْحَابِهِ، كَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ: إنَّ هَذَا مُزَارَعَةٌ عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ الْعَامِلِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، كَالْقَاضِي وَغَيْرِهِ: بَلْ يَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ وَلَا يَجُوزُ بِلَفْظِ الْمُزَارَعَةِ، لِأَنَّهُ نَصَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُ فِيهَا الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ: بَلْ يَجُوزُ هَذَا مُزَارَعَةً، وَلَا يَجُوزُ مُؤَاجَرَةً، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَلِأَنَّ هَذَا يُشْبِهُ قَفِيزَ الطَّحَّانِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ» ، وَهُوَ أَنْ يُسْتَأْجَرَ لِيَطْحَنَ الْحَبَّ بِجُزْءٍ مِنْ الدَّقِيقِ. وَالصَّوَابُ: هُوَ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ بِالْمَعَانِي وَالْمَقَاصِدِ، لَا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ هَذَا أَصْلُ أَحْمَدَ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَلَكِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ أَحْمَدَ قَدْ يَجْعَلُونَ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِتَغَايُرِ اللَّفْظِ، كَمَا قَدْ يَذْكُرُ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَهَذَا كَالسَّلَمِ الْحَالِّ فِي لَفْظِ الْبَيْعِ، وَالْخُلْعِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، وَالْإِجَارَةِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ الْمُزَارَعَةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ، فَلَيْسَ مَعَهُمْ بِذَلِكَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَلَا أَثَرٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَكِنَّهُمْ قَاسُوا ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ. قَالُوا: كَمَا أَنَّهُ فِي الْمُضَارَبَةِ يَكُونُ الْعَمَلُ مِنْ شَخْصٍ وَالْمَالُ مِنْ شَخْصٍ فَكَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ يَكُونُ الْعَمَلُ مِنْ وَاحِدٍ وَالْمَالُ مِنْ وَاحِدٍ، وَالْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ. وَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْمَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِهِ وَيَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ فَنَظِيرُهُ الْأَرْضُ أَوْ الشَّجَرُ يَعُودُ إلَى صَاحِبِهِ وَيَقْتَسِمَانِ الثَّمَرَ وَالزَّرْعَ. وَأَمَّا الْبَذْرُ فَإِنَّهُمْ لَا يُعِيدُونَهُ إلَى صَاحِبِهِ بَلْ يَذْهَبُ بِلَا بَدَلٍ، كَمَا يَذْهَبُ عَمَلُ الْعَامِلِ وَعَمَلُ بَقَرَةٍ بِلَا بَدَلٍ فَكَانَ مِنْ جِنْسِ النَّفْعِ لَا مِنْ جِنْسِ الْمَالِ، وَكَانَ اشْتِرَاطُ كَوْنِهِ مِنْ الْعَامِلِ أَقْرَبَ فِي الْقِيَاسِ مَعَ مُوَافَقَةِ هَذَا الْمَنْقُولَ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُزَارِعُ وَالْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ، وَكَانَ عُمَرُ يُزَارِعُ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ، فَلَهُ كَذَا وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَامِلِ، فَلَهُ كَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. فَجَوَّزَ عُمَرُ هَذَا وَهَذَا مِنْ الصَّوَابِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إجَارَةً لِنَهْيِهِ عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ، فَيُقَالُ: هَذَا الْحَدِيثُ بَاطِلٌ، لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَلَا رَوَاهُ إمَامٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالْمَدِينَةُ النَّبَوِيَّةُ لَمْ يَكُنْ بِهَا طَحَّانٌ يَطْحَنُ بِالْأُجْرَةِ، وَلَا خَبَّازٌ يَخْبِزُ بِالْأُجْرَةِ، وَأَيْضًا فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِكْيَالٌ يُسَمَّى الْقَفِيزَ، وَإِنَّمَا حَدَثَ هَذَا الْمِكْيَالُ لَمَّا فُتِحَتْ الْعِرَاقُ وَضُرِبَ عَلَيْهِمْ الْخَرَاجُ، فَالْعِرَاقُ لَمْ يُفْتَحْ

عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْعِرَاقِيِّينَ الَّذِينَ لَا يُسَوِّغُونَ مِثْلَ هَذَا قَوْلًا بِاجْتِهَادِهِمْ. وَالْحَدِيثُ لَيْسَ فِيهِ نَهْيُهُ عَنْ اشْتِرَاطِ جُزْءٍ مَشَاعٍ مِنْ الدَّقِيقِ بَلْ عَنْ شَيْءٍ مُسَمًّى، وَهُوَ الْقَفِيزُ، وَهُوَ مِنْ الْمُزَارَعَةِ لَوْ شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا زَرْعَةَ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ شَيْئًا مُقَدَّرًا كَانَتْ الْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةً. وَهَذَا هُوَ الْمُزَارَعَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، فِي حَدِيثِهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ لِرَبِّ الْأَرْضِ زَرْعَ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا، فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، قَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ أَحَلُّ مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْجَمِيعِ، فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ مَبْنَاهَا عَلَى الْعَدْلِ إنْ حَصَلَ شَيْءٌ فَهُوَ لَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ اشْتَرَكَا فِي الْحِرْمَانِ - وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَالْمُؤَجِّرُ يَقْبِضُ الْأُجْرَةَ وَالْمُسْتَأْجِرُ عَلَى خَطَرٍ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُهُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ فَكَانَتْ الْمُزَارَعَةُ أَبْعَدَ عَنْ الْمُخَاطَرَةِ مِنْ الْإِجَارَةِ وَلَيْسَتْ الْمُزَارَعَةُ مُؤَاجَرَةً عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهَا الْعَمَلُ بِالْأُجْرَةِ بَلْ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَةِ، كَالْمُضَارَبَةِ وَنَحْوِهَا وَأَحْمَدُ عِنْدَهُ هَذَا الْبَابُ هُوَ الْقِيَاسُ. وَيَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ وَالْجِمَالَ إلَى مَنْ يُكَارِي عَلَيْهَا، وَالْكِرَاءُ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْعَامِلِ، وَقَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ. وَيَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَا يَصْطَادُ بِهِ الصَّقْرَ وَالشِّبَاكَ وَالْبَهَائِمَ وَغَيْرَهَا إلَى مَنْ يَصْطَادُ بِهَا وَمَا حَصَلَ بَيْنَهُمَا. وَيَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْحِنْطَةَ إلَى مَنْ يَطْحَنُهَا وَلَهُ الثُّلُثُ أَوْ الرُّبْعُ وَكَذَلِكَ الدَّقِيقُ إلَى مَنْ يَعْجِنُهُ وَالْغَزْلُ إلَى مَنْ يَنْسِجُهُ وَالثِّيَابُ إلَى مَنْ يَخِيطُهَا بِجُزْءٍ فِي الْجَمِيعِ مِنْ النَّمَاءِ. وَكَذَلِكَ الْجُلُودُ إلَى مَنْ يَحْذُوهَا نِعَالًا وَإِنْ حُكِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ عِنْدَهُ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَاشِيَةَ إلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا بِجُزْءٍ، مِنْ دَرِّهَا وَنَسْلِهَا وَيَدْفَعَ دُودَ الْقَزِّ، وَالْوَرَقِ إلَى مَنْ يُطْعِمُهُ وَيَخْدُمُهُ وَلَهُ جُزْءٌ مِنْ الْقَزِّ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُزَارَعَةِ وَالْإِجَارَةِ بِأَنَّ: الْإِجَارَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ - فَيُقَالُ لَهُ هَذَا مَمْنُوعٌ بَلْ إذَا زَارَعَهُ حَوْلًا بِعَيْنِهِ فَالْمُزَارَعَةُ عَقْدٌ لَازِمٌ كَمَا تَلْزَمُ

فصل إجارة الأرض بجنس الطعام الخارج منها

إذَا كَانَتْ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ. وَالْإِجَارَةُ قَدْ لَا تَكُونُ لَازِمَةً، كَمَا إذَا قَالَ: آجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمَيْنِ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَكُلَّمَا دَخَلَ شَهْرٌ فَلَهُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ - وَالْجَعَالَةُ فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ وَلَيْسَتْ عَقْدًا لَازِمًا - فَالْعَقْدُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَا وَقْتَ لَهُ لَا يَكُونُ لَازِمًا وَأَمَّا الْمُوَقَّتُ فَقَدْ يَكُونُ لَازِمًا. [فَصْلٌ إجَارَةُ الْأَرْضِ بِجِنْسِ الطَّعَامِ الْخَارِجِ مِنْهَا] فَصْلٌ وَأَمَّا إجَارَةُ الْأَرْضِ بِجِنْسِ الطَّعَامِ الْخَارِجِ مِنْهَا: كَإِجَارَةِ الْأَرْضِ لِمَنْ يَزْرَعُهَا حِنْطَةً، أَوْ شَعِيرًا، بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، فَهُوَ أَيْضًا جَائِزٌ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَفِي الْأُخْرَى يُنْهَى عَنْهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ - قَالُوا: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِجَارَةِ هُوَ الطَّعَامُ فَهُوَ فِي مَعْنَى بَيْعِهِ بِجِنْسِهِ، وَقَالُوا: هُوَ مِنْ الْمُخَابَرَةِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي مَعْنَى الْمُزَابَنَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيْعُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ جُزَافًا. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ هُوَ الِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ وَلِهَذَا إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الزَّرْعِ وَلَمْ يَزْرَعْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَالطَّعَامُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ وَبَذْرِهِ، وَبَذْرُهُ لَمْ يُعْطِهِ إيَّاهُ الْمُؤَجِّرُ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ الرِّبَا فِي شَيْءٍ - وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَسْتَأْجِرَ قَوْمًا لِيُسْتَخْرَجُوا لَهُ مَعْدِنَ ذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ رِكَازًا مِنْ الْأَرْضِ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، فَلَيْسَ هَذَا كَبَيْعِ الدَّرَاهِمِ بِدَرَاهِمَ. وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَشُقُّ الْأَرْضَ وَيَبْذُرُ فِيهَا وَيَسْقِيهَا بِطَعَامٍ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى أَنْ يَبْذُرَ لَهُ طَعَامًا فَهَذَا مِثْلُ ذَلِكَ. وَالْمُخَابَرَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ فَسَّرَهَا رَافِعٌ رَاوِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهَا الْمُزَارَعَةُ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا لِرَبِّ الْأَرْضِ زَرْعُ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا. وَلَكِنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَ الْمُزَارَعَةَ كُلَّهَا مِنْ الْمُخَابَرَةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُزَارَعَةُ عَلَى الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ مِنْ الْمُخَابَرَةِ كَالشَّافِعِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُزَارَعَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ مِنْ الْمُخَابَرَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كِرَاءُ الْأَرْضِ بِجِنْسِ الْخَارِجِ مِنْهَا مِنْ الْمُخَابَرَةِ كَمَالِكٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُخَابَرَةَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا كَمَا فَسَّرَهَا بِهِ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ إذَا نَظَرَ فِيهِ ذُو الْبَصِيرَةِ بِالْحَلَالِ

فصل العشر فهو عند جمهور العلماء على من نبت الزرع على ملكه

وَالْحَرَامِ عَلِمَ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ. وَهَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَغَيْرِهِمْ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ أَشْيَاءَ دَاخِلَةً فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ فِي كِتَابِهِ الرِّبَا وَالْمَيْسِرَ، وَحَرَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْعَ الْغَرَرِ فَإِنَّهُ مِنْ نَوْعِ الْمَيْسِرِ. وَكَذَلِكَ بَيْعُ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا. وَبَيْعُ حَبْلِ الْحَبَلَةِ، وَحَرَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْعَ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي الرِّبَا - فَصَارَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَظُنُّونَ أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْعَامِّ أَوْ عِلَّتِهِ الْعَامَّةِ أَشْيَاءُ، وَهِيَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي ذَلِكَ كَمَا أَدْخَلَ بَعْضُهُمْ ضَمَانَ الْبَسَاتِينِ حَوْلًا كَامِلًا أَوْ أَحْوَالًا لِمَنْ يَسْقِيهَا وَيَخْدُمُهَا حَتَّى تُثْمِرَ فَظَنُّوا أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَحَرَّمُوهُ وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ كَإِجَارَةِ الْأَرْضِ فَلَمَّا نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَجَوَّزَ إجَارَةَ الْأَرْضِ لِمَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا حَتَّى تَنْبُتَ. وَكَذَلِكَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَلَمْ يَنْهَ أَنْ تُضْمَنَ لِمَنْ يَخْدُمُهَا حَتَّى تُثْمِرَ، وَيَحْصُلَ الثَّمَرُ بِخِدْمَتِهِ عَلَى مِلْكِهِ، وَبَائِعُ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ عَلَيْهِ سَقْيُهُ إلَى كَمَالِ صَلَاحِهِ خِلَافَ الْمُؤَجِّرِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ يَسْقِي مَا لِلْمُسْتَأْجِرِ مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ بَلْ سَقْيُ ذَلِكَ عَلَى الضَّامِنِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ضَمِنَ حَدِيقَةَ أُسَيْدَ بْنِ الْحُضَيْرِ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَتَسَلَّفَ كِرَاءَهَا فَوَفَّى بِهِ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ. وَنَظَائِرُ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ. [فَصْلٌ الْعُشْرُ فَهُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَنْ نَبَتَ الزَّرْعُ عَلَى مِلْكِهِ] فَصْلٌ وَأَمَّا الْعُشْرُ فَهُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى مَنْ نَبَتَ الزَّرْعُ عَلَى مِلْكِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] . فَالْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ زَكَاةَ التِّجَارَةِ - وَالثَّانِي يَتَضَمَّنُ زَكَاةَ مَا أَخْرَجَ اللَّهُ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ، فَمَنْ أَخْرَجَ اللَّهُ لَهُ الْحَبَّ فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ فَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ كُلِّهِمْ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْعُشْرُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ. وَإِذَا زَرَعَ أَرْضًا عَلَى النِّصْفِ فَمَا حَصَلَ لِلْمَالِكِ فَعَلَيْهِ عُشْرُهُ، وَمَا حَصَلَ لِلْعَامِلِ

فصل أدى فرضه إماما أو مأموما أو منفردا فهل يجوز أن يؤم في تلك الصلاة لمن يؤدي فرضه

فَعَلَيْهِ عُشْرُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُشْرُ مَا أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ أُعِيرَ أَرْضًا، أَوْ أُقْطِعَهَا، أَوْ كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى عَيْنِهِ، فَازْدَرَعَ فِيهَا زَرْعًا فَعَلَيْهِ عُشْرُهُ، وَإِنْ آجَرَهَا فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنْ زَارَعَهَا فَالْعُشْرُ بَيْنَهُمَا. وَأَصْلُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْعُشْرَ حَقُّ الزَّرْعِ، وَلِهَذَا كَانَ عِنْدَهُمْ يَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ حَقُّ الزَّرْعِ وَمُسْتَحِقُّهُ أَهْلُ الزَّكَاةِ. وَالْخَرَاجَ حَقُّ الزَّرْعِ، وَمُسْتَحِقُّهُ أَهْلُ الْفَيْءِ، فَهُمَا حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَاجْتَمَعَا، كَمَا لَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ لِأَهْلِهِ وَالْكَفَّارَةُ حَقًّا لِلَّهِ، وَكَمَا لَوْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ لِمَالِكِهِ وَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ حَقًّا لِلَّهِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْعُشْرُ حَقُّ الْأَرْضِ، فَلَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا حَقَّانِ. وَمَا احْتَجَّ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يُمْكِنُ، أَنْ تُزْرَعَ سَوَاءٌ زُرِعَتْ، أَوْ لَمْ تُزْرَعْ، وَأَمَّا الْعُشْرُ فَلَا يَجِبُ إلَّا فِي الزَّرْعِ وَالْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ، «لَا يَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ» كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. [فَصْلٌ أَدَّى فَرْضَهُ إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ لِمَنْ يُؤَدِّي فَرْضَهُ] فَصْلٌ وَأَمَّا مَنْ أَدَّى فَرْضَهُ إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ لِمَنْ يُؤَدِّي فَرْضَهُ مِثْلُ أَنْ يُؤَدِّيَ الْإِمَامُ مَرَّتَيْنِ، هَذِهِ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ. وَفِيهَا ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَدَ: إحْدَاهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهِيَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ. الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَهِيَ اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِهِ. كَالشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيَّ. وَهِيَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّالِثَةُ: يَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَصَلَاةِ الْخَوْفِ. قَالَ الشَّيْخُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ جَدِّنَا أَبِي الْبَرَكَاتِ «لِأَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى بِأَصْحَابِهِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ صَلَاةَ الْخَوْفِ مَرَّتَيْنِ، وَصَلَّى بِطَائِفَةٍ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى بِطَائِفَةٍ أُخْرَى وَسَلَّمَ» . وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ مُطْلَقًا احْتَجَّ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ الْمَعْرُوفِ، «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ ثُمَّ يَنْطَلِقُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ» .

وَفِي رِوَايَةٍ فَكَانَتْ الْأُولَى فَرْضًا لَهُ، وَالثَّانِيَةُ نَفْلًا، وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا ذَلِكَ لَيْسَ لَهُمْ حُجَّةٌ مُسْتَقِيمَةٌ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِلَفْظٍ لَا يَدُلُّ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ. كَقَوْلِهِ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» . وَبِأَنَّ «الْإِمَامَ ضَامِنٌ» فَلَا تَكُونُ صَلَاتُهُ أَنْقَصَ مِنْ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَلَيْسَ فِي هَذَيْنِ مَا يَدْفَعُ تِلْكَ الْحُجَجَ. وَالِاخْتِلَافُ الْمُرَادُ بِهِ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَفْعَالِ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا، وَإِلَّا فَيَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ فَيَكُونُ مُتَنَفِّلًا خَلْفَ مُفْتَرِضٍ كَمَا هُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يُصَلُّونَ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، ثُمَّ اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً» . وَأَيْضًا: «فَإِنَّهُ صَلَّى بِمَسْجِدِ الْخَيْفِ، فَرَأَى رَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا، فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا قَالَا: صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا. فَقَالَ: إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ» . وَفِي السُّنَنِ: «أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا وَحْدَهُ فَقَالَ: أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّي مَعَهُ» . فَهَذَا قَدْ ثَبَّتَ صَلَاةَ الْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ، وَثَبَّتَ أَيْضًا بِالْعَكْسِ، فَعُلِمَ أَنَّ مُوَافَقَةَ الْإِمَامِ فِي نِيَّةِ الْفَرْضِ أَوْ النَّفْلِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ «وَالْإِمَامَ ضَامِنٌ» وَإِنْ كَانَ مُتَنَفِّلًا. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ صَلَاةُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي قِيَامَ رَمَضَانَ، يُصَلِّي خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُتِمُّ رَكْعَتَيْنِ، فَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ جَوَازُ هَذَا كُلِّهِ. لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ

بِغَيْرِهِمْ ثَانِيًا إلَّا لِحَاجَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ، مِثْلُ: أَنْ يَكُونَ لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ غَيْرُهُ، أَوْ هُوَ أَحَقُّ الْحَاضِرِينَ بِالْإِمَامَةِ، لِكَوْنِهِ أَعْلَمَهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، أَوْ كَانُوا مُسْتَوِينَ فِي الْعِلْمِ، وَهُوَ أَسْبَقُهُمْ إلَى هِجْرَةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ أَقْدَمُهُمْ سِنًّا. فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ «أَنَّهُ قَالَ: يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا» . فَقَدَّمَ النَّبِيُّ. بِالْفَضِيلَةِ فِي الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْعِلْمِ، قُدِّمَ بِالسَّبْقِ إلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَقُدِّمَ السَّابِقُ بِاخْتِيَارِهِ وَهُوَ الْمُهَاجِرُ عَلَى مَنْ سَبَقَ بِخَلْقِ اللَّهِ لَهُ وَهُوَ الْكَبِيرُ السِّنُّ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ «أَنَّهُ قَالَ: الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» . فَمَنْ سَبَقَ إلَى هِجْرَةِ السَّيِّئَاتِ بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا، فَهُوَ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَيُقَدَّمُ فِي الْإِمَامَةِ، فَإِذَا حَضَرَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ. وَكَانَ قَدْ صَلَّى فَرْضَهُ فَإِنَّهُ يَؤُمُّهُمْ كَمَا أَمَّ النَّبِيُّ لِطَائِفَةٍ بَعْدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مَرَّتَيْنِ، وَكَمَا كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي ثُمَّ يَؤُمُّ قَوْمَهُ أَهْلَ قُبَاءَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَحَقَّهُمْ بِالْإِمَامَةِ، وَقَدْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ حَدِيثَ مُعَاذٍ مَنْسُوخٌ، وَلَمْ يَأْتُوا عَلَى ذَلِكَ بِحُجَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَمَا ثَبَتَ مِنْ الْأَحْكَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا يَجُوزُ دَعْوَى نَسْخِهِ بِأُمُورٍ مُحْتَمَلَةٍ لِلنَّسْخِ وَعَدَمِ النَّسْخِ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ، إذَا صَلَّى عَلَيْهَا الرَّجُلُ إمَامًا ثُمَّ قَدِمَ آخَرُونَ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ إذَا كَانَ أَحَقَّهُمْ بِالْإِمَامَةِ، وَلَهُ

مسألة في حكم البناء في طريق المسلمين الواسع

إذَا صَلَّى غَيْرُهُ عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّةً ثَانِيَةً أَنْ يُعِيدَهَا مَعَهُمْ تَبَعًا كَمَا يُعِيدُ الْفَرِيضَةَ تَبَعًا، مِثْلُ: أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ يَأْتِيَ مَسْجِدًا فِيهِ إمَامٌ رَاتِبٌ فَيُصَلِّي مَعَهُمْ، فَإِنَّ هَذَا مَشْرُوعٌ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِلَا نِزَاعٍ، وَكَذَلِكَ مَذْهَبُهُ فِيمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى الْجِنَازَةِ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا بَعْدَ غَيْرِهِ، وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْقَبْرِ إذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ، هَذَا مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ قَاطِبَةً كَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَغَيْرِهِمْ، وَمَالِكٌ لَا يَرَى الْإِعَادَةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَاهَا إلَّا لِلْوَلِيِّ. وَأَمَّا إذَا صَلَّى هُوَ عَلَى الْجِنَازَةِ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا غَيْرُهُ فَهَلْ لَهُ أَنْ يُعِيدَهَا مَعَ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ، فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ: قِيلَ: لَا يُعِيدُهَا، قَالُوا: لِأَنَّ الثَّانِيَةَ نَفْلٌ وَصَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا يُتَنَفَّلُ بِهَا. وَقِيلَ: بَلْ لَهُ أَنْ يُعِيدَهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ النَّبِيَّ لَمَّا صَلَّى عَلَى قَبْرٍ مَدْفُونٍ صَلَّى مَعَهُ مَنْ كَانَ صَلَّى عَلَيْهَا أَوَّلًا، وَإِعَادَةُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ مِنْ جِنْسِ إعَادَةِ الْفَرِيضَةِ، فَتُشْرَعُ حَيْثُ شَرَعَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَعَلَى هَذَا فَهَلْ يَؤُمُّ عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّتَيْنِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي حُكْمِ الْبِنَاءِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ الْوَاسِعِ] إذَا كَانَ الْبِنَاءُ لَا يَضُرُّ فِي الْمَارَّةِ وَذَلِكَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبْنِيَ لِنَفْسِهِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ، بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْتُهُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ حَدَثَتْ فِي أَيَّامِهِ، وَاخْتَلَفَ فِيهَا جَوَابُ الْمُفْتِينَ فَذَكَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ حَادِثَةً فِي الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ، هَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ فِي حِيَازَةِ بَعْضِهِ؟ بَيَّنَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ أَفْتَى بِالْجَوَازِ، وَأَفْتَى بَعْضُهُمْ بِالْمَنْعِ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي، وَذَكَرَ أَنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إذَا كَانَ الطَّرِيقُ قَدْ سَلَكَهُ النَّاسُ وَصُيِّرَ طَرِيقًا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، قِيلَ لَهُ: وَإِنْ كَانَ وَاسِعًا مِثْلَ الشَّوَارِعِ، قَالَ: وَإِنْ كَانَ وَاسِعًا

قَالَ: هُوَ أَشَدُّ مِمَّنْ أَخَذَ حَدًّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا يَأْخُذُ مِنْ وَاحِدٍ، وَهَذَا يَأْخُذُ مِنْ جَمَاعَةٍ الْمُسْلِمِينَ. قُلْت: وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ مُصَنَّفًا فِيمَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ آثَارًا عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ مِنْهُمْ: الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ. قَالَ فِي " الْمُغْنِي ": وَمَا كَانَ مِنْ الشَّوَارِعِ، وَالطُّرُقَاتِ، وَالرَّحْبَاتِ بَيْنَ الْعُمْرَانِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ إحْيَاؤُهُ، سَوَاءٌ كَانَ وَاسِعًا أَوْ ضَيِّقًا، وَسَوَاءٌ ضَيَّقَ عَلَى النَّاسِ بِذَلِكَ، أَوْ لَمْ يُضَيِّقْ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، وَتَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَتُهُمْ، فَأَشْبَهَ مَسَاجِدَهُمْ، وَيَجُوزُ الِارْتِفَاقُ بِالْعُقُودِ فِي الْوَاسِعِ؛ مِنْ ذَلِكَ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُضَيِّقُ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ، لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ، عَلَى إقْرَارِ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ، وَلِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ بِمُبَاحٍ مِنْ غَيْرِ أَضْرَارٍ، فَلَمْ يُمْنَعْ كَالِاحْتِيَازِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي السَّابِقِ إلَى دَكَاكِينِ السُّوقِ غَدْوَةً فَهُوَ لَهُ إلَى اللَّيْلِ، وَكَانَ هَذَا فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ فِيمَا مَضَى، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ «مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ» وَلَهُ أَنْ يُظَلِّلَ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ مِنْ بَارِيَّةٍ وَتَابُوتٍ وَكِسَاءٍ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ الْبِنَاءُ لَا دَكَّةً وَلَا غَيْرَهَا، لِأَنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ وَتَعْثُرُ بِهِ الْمَارَّةُ بِاللَّيْلِ، وَالضَّرِيرُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ فَرُبَّمَا ادَّعَى مِلْكَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَالسَّابِقُ أَحَقُّ بِهِ مَا دَامَ فِيهِ. قُلْت: هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إذَا بَنَى الدِّكَّةَ لِنَفْسِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْكَلَامِ وَآخِرُهُ وَلِهَذَا عَلَّلَ بِأَنَّهُ قَدْ يَدَّعِي مِلْكَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ تَعْلِيلَهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَكُونُ فِي مَظِنَّةِ الضَّرَرِ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْبِنَاءَ يُحَاذِي مَا عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَلَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ أَصْلًا فَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةٌ فِيهِ وَمُوجِبُ هَذَا التَّعْلِيلِ الْجَوَازُ إذَا انْتَفَتْ الْعِلَّةُ كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي.

وَفِي الْجُمْلَةِ: فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ الْمُخْتَصِّ بِالْبَانِي الَّذِي لَا ضَرَرَ فِيهِ أَصْلًا بِإِذْنِ الْإِمَامِ قَوْلَانِ، وَنَظِيرُ هَذَا إذَا أَخْرَجَ رَوْشَنًا أَوْ مِيزَابًا إلَى الطَّرِيقِ النَّافِذِ وَلَا مَضَرَّةَ فِيهِ، فَهَلْ يَجُوزُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، وَأَبُو الْبَرَكَاتِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ كَمَا اخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ تَحْرِيمًا أَوْ تَنْزِيهًا، وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ فِي كِتَابِ " الْوَرَعِ " آثَارًا فِي ذَلِكَ - مِنْهَا مَا نَقَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ سَقَّفَ لَهُ دَارًا وَجَعَلَ مِيزَابَهَا إلَى الطَّرِيقِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: اُدْعُ لِي النَّجَّارَ حَتَّى يُحَوِّلَ الْمَاءَ إلَى الدَّارِ. فَدَعَوْتُهُ لَهُ فَحَوَّلَهُ وَقَالَ: إنَّ يَحْيَى الْقَطَّانَ كَانَتْ مِيَاهُهُ فِي الطَّرِيقِ، فَعَزَمَ عَلَيْهَا وَصَيَّرَهَا إلَى الدَّارِ. وَذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ ذَكَرَ وَرَعَ شُعَيْبِ بْنِ حَرْبٍ، وَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لَك أَنْ تُطَيِّنَ الْحَائِطَ لِئَلَّا يَخْرُجَ إلَى الطَّرِيقِ. وَسَأَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ الرَّجُلِ يَحْتَفِرُ فِي فِنَائِهِ الْبِئْرَ أَوْ الْمُحَرِّمُ لِلْعُلُوِّ؟ قَالَ: لَا، هَذَا طَرِيقُ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْتُ: إنَّمَا هُوَ بِئْرٌ يُحْفَرُ وَيُسَدُّ رَأْسُهَا. قَالَ: أَلَيْسَ هِيَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ. وَسَأَلَهُ ابْنُ الْحَكَمِ عَنْ الرَّجُلِ يُخْرِجُ إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ الْكَنِيفَ أَوْ الْأُسْطُوَانَةَ، هَلْ يَكُونُ عَدْلًا؟ قَالَ: لَا يَكُونُ عَدْلًا وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ. وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالْمَثَاعِبِ. وَالْكُنُفِ تُقْطَعُ عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ. وَعَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو الْمُزَنِيّ قَالَ: لَأَنْ يُصَبَّ طِينِي فِي حَجْلَتِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يُصَبَّ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: وَبَلَغَنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُخْرِجْ مِنْ دَارِهِ إلَى الطَّرِيقِ مَاءَ السَّمَاءِ، وَقَالَ: فَرُئِيَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. قِيلَ لَهُ: بِمَ ذَلِكَ؟ قَالَ: بِكَفِّ أَذَاهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ احْتَجَّ بِحَدِيثِ مِيزَابِ الْعَبَّاسِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَبْنِيَ، فِي الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ مَا لَا يَضُرُّ الْمَارَّةَ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، مِثْلَ بِنَاءِ مَسْجِدٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ، أَوْ تَوْسِيعِ مَسْجِدٍ ضَيِّقٍ بِإِدْخَالِ بَعْضِ الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ فِيهِ، أَوْ أَخْذِ بَعْضِ الطَّرِيقِ لِمَصْلَحَةِ الْمَسْجِدِ، مِثْلِ: حَانُوتٍ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَسْجِدُ فَهَذَا النَّوْعُ يَجُوزُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفِ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَكِنْ هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ وَلِيِّ الْأَمْرِ، عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَمِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ مَنْ لَمْ يَحْكِ نِزَاعًا فِي جَوَازِ هَذَا النَّوْعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ رِوَايَةً ثَالِثَةً بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا، وَالْمَسْأَلَةُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ، مِنْ زَمَنِ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ أَصْحَابِهِ إلَى زَمَنِ مُتَأَخِّرِي الْمُصَنَّفِينَ مِنْهُمْ، كَأَبِي الْبَرَكَاتِ، وَابْنِ تَمِيمٍ، وَابْنِ حَمْدَانَ وَغَيْرِهِمْ. وَأَلْفَاظُ أَحْمَدَ فِي " جَامِعِ الْخَلَّالِ "، " وَالشَّافِي " لِأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ " وَزَادِ الْمُسَافِرِ " " وَالْمُتَرْجَمِ " لِأَبِي إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيَّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيُّ: سَأَلَتْ أَحْمَدَ عَنْ طَرِيقٍ وَاسِعٍ وَلِلْمُسْلِمِينَ عَنْهُ غِنًى وَبِهِمْ إلَى أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا حَاجَةٌ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُبْنَى هُنَاكَ مَسْجِدٌ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالطَّرِيقِ. وَمَسَائِلُ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ هَذَا مِنْ أَجَلِّ مَسَائِلِ أَحْمَدَ، وَقَدْ شَرَحَهَا أَبُو إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْمُتَرْجَمِ "، وَكَانَ خَطِيبًا بِجَامِعِ دِمَشْقَ هُنَا، وَلَهُ عَنْ أَحْمَدَ مَسَائِلُ، وَكَانَ يُقْرَأُ كُتُبُ أَحْمَدَ إلَيْهِ عَلَى مِنْبَرِ جَامِعِ دِمَشْقَ، فَأَحْمَدُ أَجَازَ الْبِنَاءَ هُنَا مُطْلَقًا، وَلَمْ يَشْتَرِطْ إذْنَ الْإِمَامِ، وَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ: تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ الطَّرِيقِ؟ فَقَالَ: أَكْرَهُ الصَّلَاةَ فِيهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ. فَهُنَا اشْتَرَطَ فِي الْجَوَازِ إذْنَ الْإِمَامِ. وَمَسَائِلُ إسْمَاعِيلَ عَنْ أَحْمَدَ بَعْدَ مَسَائِلِ ابْنِ الْحَكَمِ، فَإِنَّ ابْنَ الْحَكَمِ صَحِبَ أَحْمَدَ قَدِيمًا، وَمَاتَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِنَحْوِ عِشْرِينَ سَنَةً، وَأَمَّا إسْمَاعِيلُ فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الرَّأْيِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَسَأَلَ أَحْمَدُ مُتَأَخِّرًا، وَسَأَلَ مَعَهُ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد الْهَاشِمِيَّ، وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَسُلَيْمَانُ كَانَ يُقْرَنُ بِأَحْمَدَ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا رَأَيْت بِبَغْدَادَ أَعْقَلَ مِنْ رَجُلَيْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْهَاشِمِيِّ. وَأَمَّا الَّذِينَ جَعَلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَةً ثَالِثَةً، فَأَخَذُوهَا مِنْ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ

الْمَرُّوذِيُّ، حُكْمُ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي قَدْ بُنِيَتْ فِي الطَّرِيقِ أَنْ تُهْدَمَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يَزِيدُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: لَا يُصَلَّى فِيهِ. وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ رِوَايَةً ثَالِثَةً فَإِنَّهُ يَقُولُ هَذَا إشَارَةً مِنْ أَحْمَدَ إلَى مَسَاجِدَ ضَيَّقَتْ الطَّرِيقَ وَأَضَرَّتْ بِالْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ لَا يَجُوزُ بِنَاؤُهَا بِلَا رَيْبٍ. فَإِنَّ فِي هَذَا جَمْعًا بَيْنَ نُصُوصِهِ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ التَّنَاقُضِ بَيْنَهَا، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ أَحْمَدَ يُجَوِّزُ إبْدَالَ الْمَسْجِدِ بِغَيْرِهِ، لِلْمَصْلَحَةِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ. قَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ: قُلْت لِأَبِي: الْمَسْجِدُ يَخْرُبُ وَيَذْهَبُ أَهْلُهُ تَرَى أَنْ يُحَوَّلَ إلَى مَكَان آخَرَ؟ قَالَ إذَا كَانَ يُرِيدُ مَنْفَعَةَ النَّاسِ فَنَعَمْ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ: وَابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ حَوَّلَ الْجَامِعَ الْمَسْجِدَ مِنْ التَّمَارِينِ، فَإِذَا كَانَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فَلَا بَأْسَ، وَإِلَّا فَلَا، وَقَدْ سَأَلْتُ أَبِي: عَنْ رَجُلٍ بَنَى مَسْجِدًا، ثُمَّ أَرَادَ تَحْوِيلَهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، قَالَ: إنْ كَانَ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِدَ يُرِيدُ أَنْ يُحَوِّلَهُ خَوْفًا مِنْ لُصُوصٍ، أَوْ يَكُونُ مَوْضِعُهُ مَوْضِعًا قَذِرًا فَلَا بَأْسَ. قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، ثنا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ الْقَاسِمِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إلَى بَيْتِ الْمَالِ، كَانَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ قَدْ بَنَى الْقَصْرَ، وَاِتَّخَذَ مَسْجِدًا عِنْدَ أَصْحَابِ النَّمِرِ، قَالَ فَنُقِبَ بَيْتُ الْمَالِ فَأَخَذَ الرَّجُلَ الَّذِي نَقَبَهُ، فَكَتَبَ فِيهِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكَتَبَ عُمَرُ: أَنْ اقْطَعْ الرَّجُلَ، وَانْقُلْ الْمَسْجِدَ، وَاجْعَلْ بَيْتَ الْمَالِ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ فِي الْمَسْجِدِ مُصَلٍّ. فَنَقَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ فَخَطَّ لَهُ هَذِهِ الْخُطَّةَ. قَالَ صَالِحٌ: قَالَ أَبِيٌّ: يُقَالُ إنَّ بَيْتَ الْمَالِ نُقِبَ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ فَحَوَّلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْمَسْجِدَ مَوْضِعَ التَّأْذِينِ الْيَوْمَ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ؛ يَعْنِي أَحْمَدُ أَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي بَنَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ كَانَ مَوْضِعَ التَّأْذِينِ فِي زَمَانِ أَحْمَدَ، وَهَذَا الْمَسْجِدُ هُوَ الْمَسْجِدُ الْعَتِيقُ، ثُمَّ غُيِّرَ مَسْجِدُ الْكُوفَةِ مَرَّةً ثَالِثَةً. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يُحَوَّلُ الْمَسْجِدُ؟ قَالَ: إذَا كَانَ ضَيِّقًا لَا يَسَعُ أَهْلَهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُحَوَّلَ إلَى مَوْضِعٍ أَوْسَعَ مِنْهُ. وَجَوَّزَ أَحْمَدُ أَنْ يُرْفَعَ الْمَسْجِدُ الَّذِي

فصل والأمور المتعلقة بالإمام متعلقة بنوابه

عَلَى الْأَرْضِ، وَيُبْنَى تَحْتَهُ سِقَايَةٌ لِلْمَصْلَحَةِ. وَإِنْ تَنَازَعَ الْجِيرَانُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَحْنُ شُيُوخٌ لَا نَصْعَدُ فِي الدَّرَجِ، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ بِنَاءَهُ. فَقَالَ أَحْمَدُ: يُنْظَرُ إلَى مَا يَخْتَارُ الْأَكْثَرُ. وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ هَذَا عَلَى أَنَّهُ ابْتَدَأَ الْبِنَاءَ، وَمُحَقِّقُو أَصْحَابِهِ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ خَطَأٌ، لِأَنَّ نُصُوصَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ صَرِيحَةٌ بِتَحْوِيلِ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا كَانَ أَحْمَدُ قَدْ أَفْتَى بِمَا فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ، حَيْثُ جَعَلُوا الْمَسْجِدَ غَيْرَ الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ مَعَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَسْجِدِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ سَائِرِ الْبِقَاعِ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَأَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا» فَإِذَا جَازَ جَعْلُ الْبُقْعَةِ الْمُحْتَرَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، بُقْعَةً غَيْرَ مُحْتَرَمَةٍ لِلْمَصْلَحَةِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ جَعْلُ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مُحْتَرَمَةً: كَالطَّرِيقِ الْوَاسِعِ. بُقْعَةً مُحْتَرَمَةً وَتَابِعَةً لِلْبُقْعَةِ الْمُحْتَرَمَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَسَاجِدِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الطُّرُقَاتِ. وَكِلَاهُمَا مَنْفَعَةٌ مُشْتَرَكَةٌ. [فَصْلٌ وَالْأُمُورُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْإِمَامِ مُتَعَلِّقَةٌ بِنُوَّابِهِ] ِ فَمَا كَانَ إلَى الْحُكَّامِ، فَأَمْرُ الْحَاكِمِ الَّذِي هُوَ نَائِبُ الْإِمَامِ فِيهِ، كَأَمْرِ الْإِمَامِ مِثْلُ: تَزْوِيجِ الْأَيَامَى، وَالنَّظَرِ فِي الْوُقُوفِ وَإِجْرَائِهَا عَلَى شُرُوطِ وَاقِفِيهَا، وَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَوُقُوفِهَا حَيْثُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ فِعْلُ ذَلِكَ فَمَا جَازَ لِلْإِمَامِ التَّصَرُّفُ فِيهِ جَازَ لِنَائِبِهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَإِذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي شَاعَ فِيهَا النِّزَاعُ، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَلَى نَائِبِهِ مِنْ حَاكِمٍ وَغَيْرِهِ، وَلَا يَنْقُضَ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ وَنُوَّابُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْبِنَاءُ فِي الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِالطَّرِيقِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَكَذَلِكَ فِنَاءُ الدَّارِ. وَلَكَ هَلْ الْفِنَاءُ مِلْكٌ لِصَاحِبِ الدَّارِ، أَوْ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهَا فِيهِ؟ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، حَتَّى قَالَ مَالِكٌ فِي الْأَفْنِيَةِ الَّتِي فِي الطَّرِيقِ، يُكْرِيهَا أَهْلُهَا، فَقَالَ: إنْ كَانَتْ ضَيِّقَةً تَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ،

وَصُنِعَ شَيْءٌ فِيهَا: مُنِعُوا وَلَمْ يُمَكَّنُوا. وَأَمَّا كُلُّ فِنَاءٍ إذَا انْتَفَعَ بِهِ أَهْلُهُ لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَمَرِّهِمْ فَلَا أَرَى بِهِ بَأْسًا. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْأَفْنِيَةَ مَمْلُوكَةً لِأَهْلِهَا، إذْ أَجَازَ إجَارَتَهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَفْسُدَ الْبَيْعُ بِشَرْطِهَا - قَالَ: وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ إنْ كَانَ فِيهِ صَلَاحٌ لِلدَّارِ فَهُوَ مِلْكٌ لِصَاحِبِهَا، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَهُ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَفْنِيَةَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ كَسَائِرِ الطَّرِيقِ. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَابْنُ عَقِيلٍ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، هُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي، وَهُوَ: أَنَّ الْأَرْضَ تُمْلَكُ دُونَ الطَّرِيقِ، إلَّا أَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ أَحَقُّ بِالْمَرَافِقِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ هُوَ أَحَقُّ بِفِنَاءِ الدَّارِ مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ فِي الْكَلَإِ النَّابِتِ فِي مِلْكِهِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فَإِذَا كَانَ الْبِنَاءُ فِي فِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَالدَّارِ، فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِالْجَوَازِ مِنْهُ فِي جَادَّةِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - اتَّخَذَ مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ. وَهَذَا كَالْبَطْحَاءِ الَّتِي كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَهَا خَارِجَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ. لِمَنْ يَتَحَدَّثُ وَيَفْعَلُ مَا يُصَانُ عَنْهُ الْمَسْجِدُ، فَلَمْ يَكُنْ مَسْجِدًا وَلَمْ يَكُنْ كَالطَّرِيقِ بَلْ اخْتِصَاصٌ بِالْمَسْجِدِ، فَمِثْلُ هَذِهِ يَجُوزُ الْبِنَاءُ فِيهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَالْبِنَاءُ كَالدِّخْلَاتِ الَّتِي تَكُونُ مُنْحَرِفَةً عَنْ جَادَّةِ الطَّرِيقِ، مُتَّصِلَةً بِالدَّارِ وَالْمَسْجِدِ وَمُتَّصِلَةً بِالطَّرِيقِ، وَأَهْلُ الطَّرِيقِ لَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا إلَّا إذَا قَدَّرَ رَحْبَةً خَارِجَةً عَنْ الْعَادَةِ وَهِيَ تُشْبِهُ الطَّرِيقَ الَّذِي يُنْفِذُ الْمُتَّصِلَ بِالطَّرِيقِ النَّافِذِ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَوْ أَرَادُوا أَنْ يَبْنُوا فِيهِ وَيَجْعَلُوا عَلَيْهِ بَابًا جَازَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لِمَا تَقَدَّمَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ غَيْرِهِمْ مِنْ الدُّخُولِ إلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ،

مسألة أن الله تعالى بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله

وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ حَقُّهُمْ فِيهِ، إنَّمَا هُوَ جَوَازُ الِانْتِفَاعِ، إذَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ. كَمَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالصَّحْرَاءِ الْمَمْلُوكَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِأَصْحَابِهَا: كَالصَّلَاةِ فِيهَا، وَالْمَقِيلِ فِيهَا، وَنُزُولِ الْمُسَافِرِ فِيهَا، فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ فِيهَا وَفِي أَفْنِيَةِ الدُّورِ بِدُونِ إذْنِ الْمَالِكِ، عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ. وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فِي الِانْتِفَاعِ بِالْفِنَاءِ بِدُونِ إذْنِ الْمَالِكِ، قَوْلَيْنِ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ فِي الصَّحْرَاءِ وَجْهًا بِالْمَنْعِ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَهُوَ بَعِيدٌ عَلَى نُصُوصِ أَحْمَدَ وَأُصُولِهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَكْلُ الثَّمَرَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، فَكَيْفَ بِالْمَنَافِعِ الَّتِي لَا تَضُرُّهُ، وَيَجُوزُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَنْهُ، رَعْيُ الْكَلَإِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ فَيَدْخُلُهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا لِأَجْلِ الْكَلَإِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الِانْتِفَاعُ الَّذِي لَا يَضُرُّ بِوَجْهٍ، فَهُوَ كَالِاسْتِظْلَالِ بِظِلِّهِ، وَالِاسْتِضَاءَةِ بِنَارِهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنٍ، فَإِذَا حَجَرَ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا صَارَتْ مَمْنُوعَةً وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الثِّمَارِ الَّتِي لَيْسَ عَلَيْهَا حَائِطٌ وَلَا نَاطُورٌ، فَيَجُوزُ فِيهَا مِنْ الْأَكْلِ بِلَا عِوَضٍ. مَا لَا يَجُوزُ فِي الْمَمْنُوعَةِ، عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ: إمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا لِلْمُحْتَاجِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْحَمْلُ. وَإِذَا جَازَ الْبِنَاءُ فِي فِنَاءِ الْمِلْكِ لِصَاحِبِهِ، فَفِي فِنَاءِ الْمَسْجِدِ لِلْمَسْجِدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَفِنَاءُ الدَّارِ وَالْمَسْجِدِ لَا يَخْتَصُّ بِنَاحِيَةِ الْبَابِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ. قَالَ الْقَاضِي، وَابْنُ عَقِيلٍ، وَغَيْرُهُمَا: إذَا كَانَ الْمُحْيَا أَرْضًا كَانَ أَحَقَّ بِفِنَائِهَا، فَلَوْ أَرَادَ غَيْرُهُ أَنْ يَحْفِرَ فِي أَصْلِ حَائِطِهِ بِئْرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ] 1046 - 22 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ رُوحَهُ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَأَكْمَلَ لِأُمَّتِهِ الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةَ، وَجَعَلَهُ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَّبِعَهَا وَلَا يَتَّبِعَ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَجَعَلَ كِتَابَهُ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ

الْكُتُبِ، وَمُصَدِّقًا لَهَا، وَجَعَلَ لَهُ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَشَرَعَ لِأُمَّتِهِ سُنَنَ الْهُدَى؛ وَلَنْ يَقُومَ الدِّينُ إلَّا بِالْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ وَالْحَدِيدِ. كِتَابٌ يُهْدَى بِهِ، وَحَدِيدٌ يَنْصُرُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] فَالْكِتَابُ بِهِ يَقُومُ الْعِلْمُ وَالدِّينُ. وَالْمِيزَانُ بِهِ تَقُومُ الْحُقُوقُ فِي الْعُقُودِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْقُبُوضِ. وَالْحَدِيدُ بِهِ تَقُومُ الْحُدُودُ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَلِهَذَا كَانَ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ الْكِتَابُ لِلْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ. وَالْمِيزَانُ لِلْوُزَرَاءِ وَالْكُتَّابِ، وَأَهْلِ الدِّيوَانِ. وَالْحَدِيدُ لِلْأُمَرَاءِ وَالْأَجْنَادِ. وَالْكِتَابُ لَهُ الصَّلَاةُ؛ وَالْحَدِيدُ لَهُ الْجِهَادُ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ: «اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَك يَشْهَدُ لَك صَلَاةً؛ وَيَنْكَأُ لَك عَدُوًّا» . وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَلِهَذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات: 15] . وَالصَّلَاةُ أَوَّلُ أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ؛ وَأَصْلُ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ؛ وَلِهَذَا سَمَّاهَا إيمَانًا فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أَيْ صَلَاتَكُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. هَكَذَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 19]

وَقَالَ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: 54] فَوَصَفَهُمْ بِالْمَحَبَّةِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29] فَوَصَفَهُمْ بِالشِّدَّةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَالضُّلَّالِ. وَفِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إيمَانٌ بِاَللَّهِ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ فَقِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ» . مَعَ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: لَمَّا سَأَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: «أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ الصَّلَاةُ فِي وَقْتِهَا قَالَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . فَإِنَّ قَوْلَهُ " إيمَانٌ بِاَللَّهِ " دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَوَّلِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ؛ إذْ لَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ وَالِدَانِ. فَالْأَوَّلُ مُطْلَقٌ وَالثَّانِي مُقَيَّدٌ بِمَنْ لَهُ وَلَدَانِ. وَلِهَذَا كَانَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَائِرِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ - فِي الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ - أَنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ إمَامًا فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ جَمِيعًا: الصَّلَاةِ، وَالْجِهَادِ. فَاَلَّذِي يَؤُمُّهُمْ فِي الصَّلَاةِ يَؤُمُّهُمْ فِي الْجِهَادِ، وَأَمْرُ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ وَاحِدٌ فِي الْمُقَامِ وَالسَّفَرِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى بَلَدٍ: مِثْلِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ عَلَى الطَّائِفِ، وَغَيْرِهِمَا: كَانَ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِهِمْ، وَيُقِيمُ الْحُدُودَ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ غَزْوَةٍ؛ كَاسْتِعْمَالِهِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَابْنَهُ أُسَامَةَ؛ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَغَيْرَهُمْ: كَانَ أَمِيرُ الْحَرْبِ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ؛ وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ الْمُسْلِمُونَ بِتَقْدِيمِهِ أَبَا بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّهُ قَدَّمَهُ فِي الْإِمَامَةِ الْعَامَّةِ. وَكَذَلِكَ كَانَ أُمَرَاءُ " الصِّدِّيقِ " - كَيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَشُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ. وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَغَيْرِهِمْ - أَمِيرُ الْحَرْبِ هُوَ إمَامُ الصَّلَاةِ.

فصل وكانت مواضع الأئمة ومجامع الأمة هي المساجد

وَكَانَ نُوَّابُ " عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ " كَاسْتِعْمَالِهِ عَلَى الْكُوفَةِ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ عَلَى الْحَرْبِ وَالصَّلَاةِ، وَابْنَ مَسْعُودٍ عَلَى الْقَضَاءِ وَبَيْتِ الْمَالِ، وَعُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَى الْخَرَاجِ. وَمِنْ هُنَا أَخَذَ النَّاسُ وِلَايَةَ الْحَرْبِ، وَوِلَايَةَ الْخَرَاجِ، وَوِلَايَةَ الْقَضَاءِ، فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا انْتَشَرَ الْمُؤْمِنُونَ وَغَلَبُوا الْكَافِرِينَ عَلَى الْبِلَادِ، وَفَتَحُوهَا، وَاحْتَاجُوا إلَى زِيَادَةٍ فِي التَّرْتِيبِ: وَضَعَ لَهُمْ " الدِّيوَانَ " دِيوَانَ الْخَرَاجِ لِلْمَالِ الْمُسْتَخْرَجِ، وَدِيوَانَ الْعَطَاءِ وَالنَّفَقَاتِ لِلْمَالِ الْمَصْرُوفِ، وَمَصَّرَ لَهُمْ الْأَمْصَارَ: فَمَصَّرَ الْكُوفَةَ وَالْبَصْرَةَ، وَمَصَّرَ الْفُسْطَاطَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْثِرْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ نَهْرٌ عَظِيمٌ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَالنِّيلِ؛ فَجَعَلَ هَذِهِ الْأَمْصَارَ مِمَّا يَلِيهِ. [فَصْلٌ وَكَانَتْ مَوَاضِعُ الْأَئِمَّةِ وَمَجَامِعُ الْأُمَّةِ هِيَ الْمَسَاجِدُ] ُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسَّسَ مَسْجِدَهُ الْمُبَارَكَ عَلَى التَّقْوَى: فَفِيهِ الصَّلَاةُ، وَالْقِرَاءَةُ، وَالذِّكْرُ؛ وَتَعْلِيمُ الْعِلْمِ، وَالْخُطَبُ، وَفِيهِ السِّيَاسَةُ، وَعَقْدُ الْأَلْوِيَةِ وَالرَّايَاتِ، وَتَأْمِيرُ الْأُمَرَاءِ، وَتَعْرِيفُ الْعُرَفَاءِ، وَفِيهِ يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَهُ لِمَا أَهَمَّهُمْ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَكَذَلِكَ عُمَّالُهُ فِي: مِثْلِ مَكَّةَ، وَالطَّائِفِ، وَبِلَادِ الْيَمَنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، وَكَذَلِكَ عُمَّالُهُ عَلَى الْبَوَادِي؛ فَإِنَّ لَهُمْ مَجْمَعًا فِيهِ يُصَلُّونَ، وَفِيهِ يُسَاسُونَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ؛ كُلَّمَا ذَهَبَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ لَكُمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» . وَكَانَ " الْخُلَفَاءُ وَالْأُمَرَاءُ " يَسْكُنُونَ فِي بُيُوتِهِمْ، كَمَا يَسْكُنُ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ فِي بُيُوتِهِمْ؛ لَكِنَّ مَجْلِسَ الْإِمَامِ الْجَامِعِ هُوَ الْمَسْجِدُ الْجَامِعُ. وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قَدْ بَنَى لَهُ بِالْكُوفَةِ قَصْرًا، وَقَالَ: أَقْطَعُ عَنِّي النَّاسَ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُحَرِّقَهُ، فَاشْتَرَى مِنْ نَبَطِيٍّ حُزْمَةَ حَطَبٍ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ حَمْلَهَا إلَى قَصْرِهِ، فَحَرَّقَهُ؛ فَإِنَّ عُمَرَ كَرِهَ لِلْوَالِي الِاحْتِجَابَ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ وَلَكِنْ بُنِيَتْ قُصُورُ الْأُمَرَاءِ.

فصل طال الأمد وتفرقت الأمة وتمسك كل قوم بشعبة من الدين

فَلَمَّا كَانَتْ إمَارَةُ مُعَاوِيَةَ احْتَجَبَ لَمَّا خَافَ أَنْ يُغْتَالَ كَمَا اُغْتِيلَ عَلِيٌّ، وَاِتَّخَذَ الْمَقَاصِيرَ فِي الْمَسَاجِدِ لِيُصَلِّيَ فِيهَا ذُو السُّلْطَانِ وَحَاشِيَتُهُ، وَاِتَّخَذَ الْمَرَاكِبَ؛ فَاسْتَنَّ بِهِ الْخُلَفَاءُ الْمُلُوكُ بِذَلِكَ، فَصَارُوا مَعَ كَوْنِهِمْ يَتَوَلَّوْنَ الْحَرْبَ وَالصَّلَاةَ بِالنَّاسِ، وَيُبَاشِرُونَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَالْجِهَادَ، وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ: لَهُمْ قُصُورٌ يَسْكُنُونَ فِيهَا، وَيَغْشَاهُمْ رُءُوسُ النَّاسِ فِيهَا، كَمَا كَانَتْ " الْخَضْرَاءُ " لِبَنِي أُمَيَّةَ قِبْلِيِّ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَالْمَسَاجِدُ يُجْتَمَعُ فِيهَا لِلْعِبَادَاتِ، وَالْعِلْمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. [فَصْلٌ طَالَ الْأَمَدُ وَتَفَرَّقَتْ الْأُمَّةُ وَتَمَسَّكَ كُلُّ قَوْمٍ بِشُعْبَةٍ مِنْ الدِّينِ] ِ بِزِيَادَاتٍ زَادُوهَا فَأَعْرَضُوا عَنْ شُعْبَةٍ مِنْهُ أُخْرَى. أَحْدَثَتْ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ " الْقِلَاعَ وَالْحُصُونَ " وَإِنَّمَا كَانَتْ تُبْنَى الْحُصُونُ وَالْمَعَاقِلُ قَدِيمًا فِي الثُّغُورِ، خَشْيَةَ أَنْ يَدْهَمَهَا الْعَدُوُّ؛ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مَنْ يَدْفَعُهُ عَنْهَا، وَكَانُوا يُسَمُّونَ الثُّغُورَ الشَّامِيَّةَ " الْعَوَاصِمَ " وَهِيَ قِنِّسْرِينُ، وَحَلَبُ. وَأُحْدِثَتْ " الْمَدَارِسُ " لِأَهْلِ الْعِلْمِ. وَأُحْدِثَتْ " الرُّبُطَ، وَالْخَوَانِقَ " لِأَهْلِ التَّعَبُّدِ. وَأَظُنُّ مَبْدَأَ انْتِشَارِ " لِأَهْلِ الْعِلْمِ ذَلِكَ فِي " دَوْلَةِ السَّلَاجِقَةِ ". فَأَوَّلُ مَا بُنِيَتْ الْمَدَارِسُ وَالرِّبَاطَاتُ لِلْمَسَاكِينِ، وَوُقِفَتْ عَلَيْهَا وُقُوفٌ تَجْرِي عَلَى أَهْلِهَا فِي وَزَارَةِ " نِظَامِ الْمُلْكِ ". وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ ذِكْرُ الْمَدَارِسِ، وَذِكْرُ الرُّبُطِ؛ لَكِنْ مَا أَظُنُّ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَيْهَا لِأَهْلِهَا؛ وَإِنَّمَا كَانَتْ مَسَاكِنَ مُخْتَصَّةً، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ مَعْمَرُ بْنُ زِيَادٍ مِنْ أَصْحَابِ الْوَاحِدِيِّ فِي " أَخْبَارِ الصُّوفِيَّةِ " أَنَّ أَوَّلَ دُوَيْرَةٍ بُنِيَتْ لَهُمْ فِي الْبَصْرَةِ. وَأَمَّا " الْمَدَارِسُ " فَقَدْ رَأَيْتُ لَهَا ذِكْرًا قَبْلَ دَوْلَةِ السَّلَاجِقَةِ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ، وَدَوْلَتُهُمْ إنَّمَا كَانَتْ فِي الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ، وَكَذَلِكَ هَذِهِ " الْقِلَاعُ، وَالْحُصُونُ " الَّتِي بِالشَّامِ عَامَّتُهَا مُحْدَثٌ، كَمَا بَنَى الْمَلِكُ الْعَادِلُ قَلْعَةَ دِمَشْقَ، وَبُصَرَى وَحَرَّانَ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا كَثِيرِي الْغَزْوِ إلَيْهِمْ. وَكَانَ النَّاسُ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ قَدْ ضَعُفُوا عَنْ دِفَاعِ النَّصَارَى عَنْ السَّوَاحِلِ، حَتَّى اسْتَعْلُوا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ ثُغُورِ الشَّامِ السَّاحِلِيَّةِ. - [فَصْلٌ فِي الْخِلَافَةِ وَالسُّلْطَانِ وَكَيْفِيَّةِ كَوْنِهِ ظِلَّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ] ِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] . وَقَوْلُهُ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] يَعُمُّ آدَمَ وَبَنِيهِ؛ لَكِنَّ الِاسْمَ مُتَنَاوِلٌ لِآدَمَ عَيْنًا، كَقَوْلِهِ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] وَقَوْلِهِ: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14] {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 15] وَقَوْلِهِ: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: 7] {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 8] {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13] إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا كَانَ بَيْنَ " دَاوُد، وَآدَمَ " مِنْ الْمُنَاسَبَةِ مَا أَحَبَّ بِهِ دَاوُد حِينَ أَرَاهُ ذُرِّيَّتَهُ، وَسَأَلَ عَنْ عُمْرِهِ؟ فَقِيلَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً. فَوَهَبَهُ مِنْ عُمْرِهِ الَّذِي هُوَ أَلْفُ سَنَةٍ سِتِّينَ سَنَةً. وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحَهُ؛ وَلِهَذَا كِلَاهُمَا اُبْتُلِيَ بِمَا ابْتَلَاهُ بِهِ مِنْ الْخَطِيئَةِ، كَمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُنَاسِبَةٌ لِلْأُخْرَى. إذْ جِنْسُ الشَّهْوَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَرَفَعَ دَرَجَتَهُ بِالتَّوْبَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي نَالَ بِهَا مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُ وَفَرَحِهِ بِهِ مَا نَالَ، وَيُذْكَرُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الْبُكَاءِ وَالنَّدَمِ وَالْحُزْنِ مَا يُنَاسِبُ بَعْضُهُ بَعْضًا. " وَالْخَلِيفَةُ " هُوَ مَنْ كَانَ خَلَفًا عَنْ غَيْرِهِ. فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ، «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَافَرَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا» وَقَالَ: «أَوَكُلَّمَا

خَرَجْنَا فِي الْغَزْوِ خَلَفَ أَحَدُهُمْ وَلَهُ نَبِيبٌ كَنَبِيبِ التَّيْسِ يَمْنَحُ إحْدَاهُنَّ اللَّبِنَةَ مِنْ اللَّبَنِ، لَئِنْ أَظْفَرَنِّي اللَّهُ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ لَأَجْعَلَنَّهُ نَكَالًا» . وَفِي الْقُرْآنِ: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ} [الفتح: 11] وَقَوْلُهُ: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 81] . وَالْمُرَادُ " بِالْخَلِيفَةِ " أَنَّهُ خَلَفَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الْخَلْقِ. وَالْخَلْفُ فِيهِ مُنَاسَبَةٌ، كَمَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ خَلَفَهُ عَلَى أُمَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَافَرَ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَزْوَةٍ يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْمَدِينَةِ مَنْ يَكُونُ خَلِيفَةً لَهُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً، فَيَسْتَخْلِفُ تَارَةً ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَتَارَةً غَيْرَهُ، وَاسْتَخْلَفَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَتُسَمَّى الْأَمْكِنَةُ الَّتِي يُسْتَخْلَفُ فِيهَا الْإِمَامُ " مَخَالِيفُ " مِثْلُ: مَخَالِيفِ الْيَمَنِ، وَمَخَالِيفِ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «حَيْثُ خَرَجَ مِنْ مِخْلَافٍ إلَى مِخْلَافٍ» . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165] وقَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [يونس: 13] إلَى قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} [يونس: 14] قَوْله تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور: 55] الْآيَةَ. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْقَائِلِينَ الْغَالِطِينَ - كَابْنِ عَرَبِيٍّ - أَنَّ " الْخَلِيفَةَ " هُوَ الْخَلِيفَةُ عَنْ اللَّهِ، مِثْلُ نَائِبِ اللَّهِ؛ وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُسْتَخْلَفًا، وَرُبَّمَا فَسَّرُوا " تَعْلِيمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا " الَّتِي جَمَعَ مَعَانِيهَا الْإِنْسَانُ. وَيُفَسِّرُونَ " خَلْقَ آدَمَ عَلَى

صُورَتِهِ " بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَقَدْ أَخَذُوا مِنْ الْفَلَاسِفَةِ قَوْلَهُمْ: الْإِنْسَانُ هُوَ الْعَالِمُ الصَّغِيرُ، وَهَذَا قَرِيبٌ، وَضَمُّوا إلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَالِمُ الْكَبِيرُ؛ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ الْكُفْرِيِّ فِي وَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ. فَالْإِنْسَانُ مِنْ بَيْنِ الْمَظَاهِرِ هُوَ الْخَلِيفَةُ، الْجَامِعُ لِلْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا مَا يَصِيرُونَ إلَيْهِ مِنْ دَعْوَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ الْمُخْرِجَةِ لَهُمْ إلَى الْفِرْعَوْنِيَّةِ، وَالْقَرْمَطِيَّةِ، وَالْبَاطِنِيَّةِ. وَرُبَّمَا جَعَلُوا " الرِّسَالَةَ " مَرْتَبَةً مِنْ الْمَرَاتِبِ، وَأَنَّهُمْ أَعْظَمُ مِنْهَا فَيُقِرُّونَ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ؛ وَبِالرِّسَالَةِ، وَيَصِيرُونَ فِي الْفِرْعَوْنِيَّةِ. هَذَا إيمَانُهُمْ. أَوْ يَخْرُجُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ أَنْ يَصِيرُوا (سُدًى) لَا أَمْرَ عَلَيْهِمْ وَلَا نَهْيَ؛ وَلَا إيجَابَ وَلَا تَحْرِيمَ. وَاَللَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ خَلِيفَةٌ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ: يَا خَلِيفَةَ اللَّهِ، قَالَ: لَسْت بِخَلِيفَةِ اللَّهِ وَلَكِنِّي خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسْبِي ذَلِكَ. بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَكُونُ خَلِيفَةً لِغَيْرِهِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا، وَاخْلُفْنَا فِي أَهْلِنَا» وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ حَيٌّ، شَهِيدٌ، مُهَيْمِنٌ، قَيُّومٌ، رَقِيبٌ، حَفِيظٌ، غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ، لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ، وَلَا ظَهِيرٌ، وَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ. وَالْخَلِيفَةُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُسْتَخْلَفِ بِمَوْتٍ أَوْ غَيْبَةٍ، وَيَكُونُ لِحَاجَةِ الْمُسْتَخْلِفِ، إلَى الِاسْتِخْلَافِ، وَسُمِّيَ " خَلِيفَةً " لِأَنَّهُ خَلَفَ عَنْ الْغَزْوِ، وَهُوَ قَائِمٌ خَلْفَهُ وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي مُنْتَفِيَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهَا؛ فَإِنَّهُ حَيٌّ قَيُّومٌ شَهِيدٌ، لَا يَمُوتُ وَلَا يَغِيبُ، وَهُوَ غَنِيٌّ يَرْزُقُ وَلَا يُرْزَقُ، يَرْزُقُ عِبَادَهُ، وَيَنْصُرُهُمْ، وَيَهْدِيهِمْ، وَيُعَافِيهِمْ: بِمَا خَلَقَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَلْقِهِ، وَاَلَّتِي هِيَ مُفْتَقِرَةٌ إلَيْهِ كَافْتِقَارِ الْمُسَبَّبَاتِ إلَى أَسْبَابِهَا. فَاَللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ خَلَفًا مِنْهُ، وَلَا

مسألة في رجل تفقه في مذهب من المذاهب الأربعة وتبصر فيه واشتغل بعده بالحديث

يَقُومَ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا سَمِيَّ لَهُ، وَلَا كُفْءَ لَهُ. فَمَنْ جَعَلَ لَهُ خَلِيفَةً فَهُوَ مُشْرِكٌ بِهِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ «السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، يَأْوِي إلَيْهِ كُلُّ ضَعِيفٍ وَمَلْهُوفٍ» وَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّ الظِّلَّ مُفْتَقِرٌ إلَى آوٍ، وَهُوَ رَفِيقٌ لَهُ مُطَابِقٌ لَهُ نَوْعًا مِنْ الْمُطَابَقَةِ، وَالْآوِي إلَى الظِّلِّ الْمُكْتَنِفُ بِالْمُظِلِّ صَاحِبِ الظِّلِّ، فَالسُّلْطَانُ عَبْدُ اللَّهِ، مَخْلُوقٌ، مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ، لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ؛ وَفِيهِ مِنْ الْقُدْرَةِ، وَالسُّلْطَانِ، وَالْحِفْظِ، وَالنُّصْرَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي السُّؤْدُدِ وَالصَّمَدِيَّةِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْخَلْقِ مَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ظِلَّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يُصْلِحُ أُمُورَ خَلْقِهِ وَعِبَادِهِ فَإِذَا صَلَحَ ذُو السُّلْطَانِ صَلَحَتْ أُمُورُ النَّاسِ، وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَتْ بِحَسَبِ فَسَادِهِ؛ وَلَا تَفْسُدُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَصَالِحَ؛ إذْ هُوَ ظِلُّ اللَّهِ؛ لَكِنَّ الظِّلَّ تَارَةً يَكُونُ كَامِلًا مَانِعًا مِنْ جَمِيعِ الْأَذَى، وَتَارَةً لَا يَمْنَعُ إلَّا بَعْضَ الْأَذَى، وَأَمَّا إذَا عُدِمَ الظِّلُّ فَسَدَ الْأَمْرُ، كَعَدَمِ سِرِّ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي بِهَا قِيَامُ الْأُمَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ تَفَقَّهَ فِي مَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَتَبَصَّرَ فِيهِ وَاشْتَغَلَ بَعْدَهُ بِالْحَدِيثِ] 1047 - 23 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَفَقَّهَ فِي مَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَتَبَصَّرَ فِيهِ، وَاشْتَغَلَ بَعْدَهُ بِالْحَدِيثِ، فَرَأَى أَحَادِيثَ صَحِيحَةً لَا يَعْلَمُ لَهَا نَاسِخًا وَلَا خَصْمًا وَلَا مُعَارِضًا وَذَلِكَ الْمَذْهَبُ مُخَالِفٌ لَهَا، هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْمَذْهَبِ، أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إلَى الْعَمَلِ بِالْأَحَادِيثِ وَمُخَالَفَةِ مَذْهَبِهِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَرَضَ عَلَى الْخَلْقِ طَاعَتَهُ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ، وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ طَاعَةَ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ، إلَّا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَانَ صِدِّيقُ الْأُمَّةِ وَأَفْضَلُهَا بَعْدَ نَبِيِّهَا يَقُولُ: أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ، فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ. وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مَعْصُومًا فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ إلَّا رَسُولُ

اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَلِهَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ: كُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ، إلَّا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، قَدْ نَهَوْا النَّاسَ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَقُولُونَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هَذَا رَأْيِي فَمَنْ جَاءَ بِرَأْيٍ خَيْرٍ مِنْهُ قَبِلْنَاهُ، وَلِهَذَا لَمَّا احْتَجَّ أَفْضَلُ أَصْحَابِهِ أَبُو يُوسُفَ، أَتَى مَالِكًا فَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةِ الصَّاعِ وَصَدَقَةِ الْخَضْرَاوَاتِ، وَمَسْأَلَةِ الْأَجْنَاسِ. فَأَخْبَرَهُ مَالِكٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: رَجَعْت إلَى قَوْلِك يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَلَوْ رَأَى صَاحِبِي مَا رَأَيْت لَرَجَعَ كَمَا رَجَعْت إلَى قَوْلِك يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. وَمَالِكٌ كَانَ يَقُولُ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُصِيبُ وَأُخْطِئُ، فَاعْرِضُوا قَوْلِي عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ. وَالشَّافِعِيُّ كَانَ يَقُولُ: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ، وَإِذَا رَأَيْتَ الْحُجَّةَ مَوْضُوعَةً عَلَى الطَّرِيقِ فَهِيَ قَوْلِي. وَفِي " مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ " لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ اخْتَصَرَهُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ مَذْهَبِهِ قَالَ: مَعَ إعْلَامِيَّةِ نَهْيِهِ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ: وَالْإِمَامُ أَحْمَدَ كَانَ يَقُولُ: لَا تُقَلِّدْنِي وَلَا تُقَلِّدْ مَالِكًا، وَلَا الشَّافِعِيَّ، وَلَا الثَّوْرِيَّ، وَتَعَلَّمْ كَمَا تَعَلَّمْنَا فَكَانَ يَقُولُ لِمَنْ قَلَّدَهُ: حَرَامٌ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُقَلِّدَ فِي دِينِهِ الرِّجَالَ، وَقَالَ: لَا تُقَلِّدْ فِي دِينِكَ الرِّجَالَ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَسْلَمُوا مِنْ أَنْ يَغْلَطُوا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» وَلَازِمُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُفَقِّهْهُ اللَّهُ فِي الدِّينِ لَمْ يُرِدْ بِهِ خَيْرًا فَيَكُونُ التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ فَرْضًا. وَالْفِقْهُ فِي الدِّينِ مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِأَدِلَّتِهَا السَّمْعِيَّةِ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَفَقِّهًا فِي الدِّينِ، لَكِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا يَعْجِزُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، لَا كُلُّ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ التَّفَقُّهِ وَيَلْزَمُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْقَادِرُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ فَقِيلَ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّقْلِيدُ

مُطْلَقًا، وَقِيلَ: يَجُوزُ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: يَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، كَمَا إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْدَلُ. وَالِاجْتِهَادُ لَيْسَ هُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ لَا يَقْبَلُ التَّجْزِيءَ وَالِانْقِسَامَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُجْتَهِدًا فِي فَنٍّ، أَوْ بَابٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ دُونَ فَنٍّ، وَبَابٍ، وَمَسْأَلَةٍ، وَكُلُّ أَحَدٍ فَاجْتِهَادُهُ بِحَسَبِ وُسْعِهِ. فَمَنْ نَظَرَ فِي مَسْأَلَةٍ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا وَرَأَى مَعَ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ نُصُوصًا لَمْ يَعْلَمْ لَهَا مُعَارِضًا بَعْدَ نَظَرِ مِثْلِهِ، فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَتَّبِعَ قَوْلَ الْقَائِلِ الْآخَرِ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ الْإِمَامَ الَّذِي اشْتَغَلَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ، بَلْ مُجَرَّدُ عَادَةٍ يُعَارِضُهَا عَادَةُ غَيْرِهِ اشْتِغَالَهُ عَلَى مَذْهَبِ إمَامٍ آخَرَ، وَإِمَّا أَنْ يَتَّبِعَ الْقَوْلَ الَّذِي تَرَجَّحَ فِي نَظَرِهِ بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ. وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ مُوَافَقَتُهُ لِإِمَامٍ يُقَاوِمُ ذَلِكَ الْإِمَامَ وَتَبْقَى النُّصُوصُ سَالِمَةً فِي حَقِّهِ عَنْ الْمُعَارِضِ بِالْعَمَلِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَصْلُحُ. وَإِنَّمَا تَنَزَّلْنَا هَذَا التَّنَزُّلَ لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إنَّ نَظَرَ هَذَا قَاصِرٌ وَلَيْسَ اجْتِهَادُهُ قَائِمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِضَعْفِ آلَةٍ الِاجْتِهَادِ فِي حَقِّهِ. أَمَّا إذَا قَدَرَ عَلَى الِاجْتِهَادِ التَّامِّ الَّذِي يَعْتَقِدُ مَعَهُ أَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ لَيْسَ مَعَهُ مَا يَدْفَعُ بِهِ النَّصَّ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ النُّصُوصِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ مُتَّبِعًا لِلظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ، وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ الْعُصَاةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ بِخِلَافِ مَنْ قَدْ يَقُولُ: قَدْ يَكُونُ لِلْقَوْلِ الْآخَرِ حُجَّةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى هَذَا النَّصِّ وَأَنَا لَا أَعْلَمُهَا، فَهَذَا يُقَالُ لَهُ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وَقَالَ النَّبِيُّ: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَاَلَّذِي تَسْتَطِيعُهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدْ دَلَّكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الرَّاجِحُ فَعَلَيْكَ أَنْ تَتَّبِعَ ذَلِكَ، ثُمَّ إنْ تَبَيَّنَ لَك فِيمَا بَعْدُ أَنَّ لِلنَّصِّ مُعَارِضًا رَاجِحًا كَانَ حُكْمُكَ فِي ذَلِكَ حُكْمَ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ، إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ وَانْتِقَالُ الْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ لِأَجْلِ مَا تَبَيَّنَ مِنْ الْحَقِّ هُوَ مَحْمُودٌ فِيهِ، بِخِلَافِ إصْرَارِهِ عَلَى قَوْلٍ لَا حُجَّةَ مَعَهُ عَلَيْهِ، وَتَرْكُ الْقَوْلِ الَّذِي تَوَضَّحَتْ حُجَّتُهُ، أَوْ الِانْتِقَالُ عَنْ قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ لِمُجَرَّدِ عَادَةٍ وَاتِّبَاعِ هَوًى، فَهَذَا مَذْمُومٌ. وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ الْمُقَلَّدُ قَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَرَكَهُ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ قَدْ رَوَاهُ أَيْضًا

فَمِثْلُ هَذَا وَحْدَهُ لَا يَكُونُ عُذْرًا فِي تَرْكِ النَّصِّ، فَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي " رَفْعِ الْمَلَامِ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ " نَحْوَ عِشْرِينَ عُذْرًا لِلْأَئِمَّةِ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ لِبَعْضِ الْحَدِيثِ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُمْ يُعْذَرُونَ فِي التَّرْكِ لِتِلْكَ الْأَعْذَارِ، وَأَمَّا نَحْنُ فَمَعْذُورُونَ فِي تَرْكِنَا لِهَذَا الْقَوْلِ. فَمَنْ تَرَكَ الْحَدِيثَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يُخَالِفُهُ وَأَنَّ نَصَّ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مُقَدَّمٌ عَلَى الظَّوَاهِرِ، وَمُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَالْعَمَلِ، لَمْ يَكُنْ عُذْرُ ذَلِكَ الرَّجُلِ عُذْرًا فِي حَقِّهِ، فَإِنَّ ظُهُورَ الْمَدَارِكِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْأَذْهَانِ وَخَفَاءَهَا عَنْهَا أَمْرٌ لَا يَنْضَبِطُ طَرَفَاهُ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ التَّارِكُ لِلْحَدِيثِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَغَيْرِهَا، الَّذِينَ يُقَالُ إنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْحَدِيثَ إلَّا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ أَوْ مُعَارَضٌ بِرَاجِحٍ، وَقَدْ بَلَغَ مَنْ بَعْدَهُ أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ لَمْ يَتْرُكُوهُ، بَلْ عَمِلَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، أَوْ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْدَحُ فِي هَذَا الْمُعَارِضِ لِلنَّصِّ. وَإِذَا قِيلَ لِهَذَا الْمُسْتَهْدِي الْمُسْتَرْشِدِ: أَنْتَ أَعْلَمُ أَمْ الْإِمَامُ الْفُلَانِيُّ، كَانَتْ هَذِهِ مُعَارَضَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ الْفُلَانِيَّ قَدْ خَالَفَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَنْ هُوَ نَظِيرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَى نِسْبَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ، وَمُعَاذٍ، وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ، فَكَمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءُ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ، وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ يَكُونُ أَعْلَمُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، فَكَذَلِكَ مَوَارِدُ النِّزَاعِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ وَقَدْ تَرَكَ النَّاسُ قَوْلَ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ فِي مَسْأَلَةِ تَيَمُّمِ الْجُنُبِ، وَأَخَذُوا بِقَوْلِ مَنْ هُوَ دُونَهُمَا: كَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَغَيْرِهِ، لَمَّا احْتَجَّ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَرَكُوا قَوْلَ عُمَرَ فِي دِيَةِ الْأَصَابِعِ، وَأَخَذُوا بِقَوْلِ مُعَاوِيَةَ لِمَا كَانَ مَعَهُ السُّنَّةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ» . وَقَدْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يُنَاظِرُ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي الْمُتْعَةِ فَقَالَ لَهُ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ، أَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: وَتَقُولُونَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، ؟ وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ لَمَّا سَأَلُوهُ عَنْهَا فَأَمَرَ بِهَا فَعَارَضُوا بِقَوْلِ عُمَرَ، فَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يُرِدْ مَا يَقُولُونَهُ، فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ: أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعُوا أَمْ

مسألة في قوله صلى الله عليه وسلم إذا هم العبد بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة

أَمْرُ عُمَرُ؟ مَعَ عِلْمِ النَّاسِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَعْلَمُهُمْ مِنْ فَوْقِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَوَجَبَ أَنْ يَعْرِضَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيَبْقَى كُلُّ إمَامٍ فِي أَتْبَاعِهِ بِمَنْزِلَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُمَّتِهِ، وَهَذَا تَبْدِيلٌ لِلدِّينِ يُشْبِهُ مَا عَابَ اللَّهُ بِهِ النَّصَارَى فِي قَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] . [مَسْأَلَةٌ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِالْحَسَنَةِ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ] 1048 - 24 مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِالْحَسَنَةِ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» الْحَدِيثَ. فَإِذَا كَانَ الْهَمُّ سِرًّا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَكَيْفَ تَطَّلِعُ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ قَدْ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، قَالَ: إنَّهُ إذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ شَمَّ الْمَلَكُ رَائِحَةً طَيِّبَةً، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ شَمَّ رَائِحَةً خَبِيثَةً، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يُعْلِمَ الْمَلَائِكَةَ بِمَا فِي نَفْسِ الْعَبْدِ كَيْفَ شَاءَ، كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُطْلِعَ بَعْضَ الْبَشَرِ عَلَى مَا فِي الْإِنْسَانِ فَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ قَدْ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْكَشْفِ مَا يَعْلَمُ بِهِ أَحْيَانَا مَا فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ، فَالْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالْعَبْدِ أَوْلَى بِأَنْ يُعَرِّفَهُ اللَّهُ ذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، وَاَللَّهُ قَدْ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ تُلْقِي فِي نَفْسِ الْعَبْدِ الْخَوَاطِرَ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنْ لِلْمَلَكِ لَمَّةً فَلَمَّةُ الْمَلَكِ تَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ وَوَعْدٌ بِالْخَيْرِ، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ تَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ وَإِبْعَادٌ بِالشَّرِّ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَقَرِينُهُ مِنْ الْجِنِّ قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَأَنَا، إلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَلَا يَأْمُرُنِي إلَّا بِخَيْرٍ» .

مسألة في رجلين تنازعا في سب أبي بكر

فَالسَّيِّئَةُ الَّتِي يَهُمُّ بِهَا الْعَبْدُ إذَا كَانَتْ مِنْ إلْقَاءِ الشَّيْطَانِ عَلِمَ بِهَا الشَّيْطَانُ، وَالْحَسَنَةُ الَّتِي يَهُمُّ بِهَا الْعَبْدُ إذَا كَانَتْ مِنْ إلْقَاءِ الْمَلَكِ عَلِمَ بِهَا الْمَلَكُ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِذَا عَلِمَ بِهَا هَذَا الْمَلَكُ أَمْكَنَ عِلْمُ الْمَلَائِكَةِ الْحَفَظَةِ لِأَعْمَالِ بَنِي آدَمَ [مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي سَبِّ أَبِي بَكْرٍ] . 1049 - 25 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي سَبِّ أَبِي بَكْرٍ أَحَدُهُمَا يَقُولُ: يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْآخَرُ لَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ ؟ الْجَوَابُ: الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] فَقَدْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَغْفِرُ لِلتَّائِبِ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلِهَذَا أَطْلَقَ وَعَمَّمَ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فَهَذَا فِي غَيْرِ التَّائِبِ، وَلِهَذَا قُيِّدَ وَخُصِّصَ، وَلَيْسَ سَبُّ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِأَعْظَمَ مِنْ سَبِّ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ يَسُبُّونَ نَبِيَّنَا سِرًّا بَيْنَهُمْ إذَا تَابُوا وَأَسْلَمُوا، قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى: «سَبُّ صَحَابَتِي ذَنْبٌ لَا يُغْفَرُ» كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ. وَالشِّرْكُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ يَغْفِرُهُ لِمَنْ تَابَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا يُقَالُ إنَّ فِي ذَلِكَ حَقًّا لِآدَمِيٍّ، يُجَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَ بِتَوْبَةِ السَّارِقِ، وَالْمُلَقِّبِ، وَنَحْوِهِمَا مِنْ الذُّنُوبِ مَتَى تَعَلَّقَ بِهَا حُقُوقُ الْعِبَادِ كَقَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] . {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39] وَقَالَ: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] وَمِنْ تَوْبَةِ مِثْلِ هَذَا أَنْ يُعَوِّضَ

مسألة ما معنى قول من يقول حب الدنيا رأس كل خطيئة

الْمَظْلُومَ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَيْهِ بِقَدْرِ إسَاءَتِهِ إلَيْهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَؤُلَاءِ مُتَأَوِّلُونَ فَإِذَا تَابَ الرَّافِضِيُّ مِنْ ذَلِكَ وَاعْتَقَدَ فَضْلَ الصَّحَابَةِ وَأَحَبَّهُمْ وَدَعَا لَهُمْ فَقَدْ بَدَّلَ اللَّهُ السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُذْنِبِينَ. [مَسْأَلَةٌ مَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ] 1050 - 26 مَسْأَلَةٌ: مَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ " حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ " فَهَلْ هِيَ مِنْ جِهَةِ الْمَعَاصِي، أَوْ مِنْ جِهَةِ جَمْعِ الْمَالِ؟ ؟ . الْجَوَابُ: لَيْسَ هَذَا مَحْفُوظًا عَنْ النَّبِيِّ وَلَكِنْ هُوَ مَعْرُوفٌ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَيُذْكَرُ عَنْ الْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَكْثَرُ مَا يَغْلُوا فِي اللَّفْظِ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِنْ الصُّوفِيَّةِ عَلَى أَصْلِهِنَّ فِي تَعَلُّقِ النَّفْسِ إلَى أُمُورٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا. وَأَمَّا حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ فَاَلَّذِي يُعَاقَبُ الرَّجُلُ عَلَيْهِ الْحُبُّ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ الْمَعَاصِيَ، فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الظُّلْمَ وَالْكَذِبَ وَالْفَوَاحِشَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحِرْصَ عَلَى الْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ يُوجِبُ هَذَا؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ قَالَ: «إيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا» . وَعَنْ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ «أَنَّهُ قَالَ: مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. فَحِرْصُ الرَّجُلِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ يُوجِبُ فَسَادَ الدِّينِ، فَأَمَّا مُجَرَّدُ الْحُبِّ الَّذِي فِي الْقَلْبِ إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَفْعَلُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وَيَتْرُكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَيَخَافُ مَقَامَ رَبِّهِ، وَيَنْهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعَاقِبُهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَمَلٌ وَجَمْعُ الْمَالِ إذَا قَامَ بِالْوَاجِبَاتِ فِيهِ، وَلَمْ يَكْتَسِبْهُ مِنْ الْحَرَامِ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، لَكِنَّ إخْرَاجَ فُضُولِ الْمَالِ وَالِاقْتِصَارَ عَلَى الْكِفَايَةِ أَفْضَلُ وَأَسْلَمُ، وَأَفْرَغُ لِلْقَلْبِ، وَأَجْمَعُ لِلْهَمِّ، وَأَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

مسألة في الذنوب الكبائر المذكورة في القرآن والحديث هل لها حد تعرف به

وَقَالَ النَّبِيُّ: «مَنْ أَصْبَحَ وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ: شَتَّتَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ أَصْبَحَ وَالْآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ: جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» . [مَسْأَلَةٌ فِي الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ هَلْ لَهَا حَدٌّ تُعْرَفُ بِهِ] 1051 - 27 مَسْأَلَةٌ: فِي الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ هَلْ لَهَا حَدٌّ تُعْرَفُ بِهِ؟ وَهَلْ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهَا سَبْعٌ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ صَحِيحٌ؟ أَوْ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهَا مَا اتَّفَقَتْ فِيهَا الشَّرَائِعُ - أَعْنِي عَلَى تَحْرِيمِهَا - أَوْ إنَّهَا مَا تَسُدُّ بَابَ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ، أَوْ إنَّهَا تُذْهِبُ الْأَمْوَالَ وَالْأَبْدَانَ، أَوْ إنَّهَا إنَّمَا سُمِّيَتْ كَبَائِرَ بِالنِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ إلَى مَا دُونَهَا، أَوْ إنَّهَا لَا تُعْلَمُ أَصْلًا وَأُبْهِمَتْ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ، أَوْ مَا يَحْكِي بَعْضُهُمْ أَنَّهَا إلَى التِّسْعِينَ أَقْرَبُ، أَوْ كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ كَبِيرٌ. أَوْ إنَّهَا مَا رَتَّبَ عَلَيْهَا حَدًّا وَمَا تَوَعَّدَ عَلَيْهَا بِالنَّارِ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمْثَلُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ أَنَّ الصَّغِيرَةَ مَا دُونَ الْحَدَّيْنِ: حَدِّ الدُّنْيَا وَحَدِّ الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مَا لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ كُلُّ ذَنْبٍ خُتِمَ بِلَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ نَارٍ فَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ. وَمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا وَلَا وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ وَعِيدٌ خَاصٌّ كَالْوَعِيدِ بِالنَّارِ وَالْغَضَبِ وَاللَّعْنَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَعِيدَ الْخَاصَّ فِي الْآخِرَةِ كَالْعُقُوبَةِ الْخَاصَّةِ فِي الدُّنْيَا، فَكَمَا أَنَّهُ يُفَرَّقُ فِي الْعُقُوبَاتِ الْمَشْرُوعَةِ لِلنَّاسِ بَيْنَ الْعُقُوبَاتِ الْمُقَدَّرَةِ بِالْقَطْعِ وَالْقَتْلِ، وَجَلْدِ مِائَةٍ أَوْ ثَمَانِينَ، وَبَيْنَ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُقَدَّرَةٍ وَهِيَ التَّعْزِيرُ، فَكَذَلِكَ يُفَرَّقُ فِي الْعُقُوبَاتِ الَّتِي يُعِزُّ اللَّهُ بِهَا الْعِبَادَ فِي غَيْرِ أَمْرِ الْعِبَادِ بِهَا بَيْنَ الْعُقُوبَاتِ الْمُقَدَّرَةِ كَالْغَضَبِ، وَاللَّعْنَةِ، وَالنَّارِ، وَبَيْنَ الْعُقُوبَاتِ الْمُطْلَقَةِ. وَهَذَا الضَّابِطُ يَسْلَمُ مِنْ الْقَوَادِحِ الْوَارِدَةِ عَلَى غَيْرِهِ؛ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ كُلُّ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ: كَالشِّرْكِ، وَالْقَتْلِ، وَالزِّنَا، وَالسِّحْرِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي فِيهَا عُقُوبَاتٌ مُقَدَّرَةٌ مَشْرُوعَةٌ، وَكَالْفِرَارِ مِنْ

الزَّحْفِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلِ الرِّبَا، وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ، فَإِنَّ هَذِهِ الذُّنُوبَ وَأَمْثَالَهَا فِيهَا وَعِيدٌ خَاصٌّ كَمَا قَالَ فِي الْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] . وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] وَقَالَ: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25] وَقَالَ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] . وَكَذَلِكَ كُلُّ ذَنْبٍ تَوَعَّدَ صَاحِبَهُ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَلَا يَشُمُّ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ فِيهِ: مَنْ فَعَلَهُ فَلَيْسَ مِنَّا، وَأَنَّ صَاحِبَهُ آثِمٌ، فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ كَقَوْلِهِ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ» وَقَوْلِهِ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» . وَقَوْلِهِ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَقَوْلِهِ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا»

وَقَوْلِهِ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَنْهَبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ وَهُوَ حِينَ يَنْهَبُهَا مُؤْمِنٌ» . وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ وَكَوْنَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ خِيَارِنَا، فَإِنَّهُ لَوْ تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مِنْ خِيَارِهِمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَقُولُهُ الْخَوَارِجُ إنَّهُ صَارَ كَافِرًا، وَلَا مَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ، بَلْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا. فَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ بَاطِلَةٌ قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُطْلَقَ فِي بَابِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ بِلَا عِقَابٍ، هُوَ الْمُؤَدِّي لِلْفَرَائِضِ الْمُجْتَنِبِ الْمَحَارِمَ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَمَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْكَبَائِرَ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، إذْ هُوَ مُتَعَرِّضٌ لِلْعُقُوبَةِ عَلَى تِلْكَ الْكَبِيرَةِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: أَرَادَ بِهِ نَفْيَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ، أَوْ نَفْيَ كَمَالِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا نَفْيَ الْكَمَالِ الْمُسْتَحَبِّ، فَإِنَّ تَرْكَ الْكَمَالِ الْمُسْتَحَبِّ لَا يُوجِبُ الذَّمَّ وَالْوَعِيدَ، وَالْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ: الْغُسْلُ يَنْقَسِمُ إلَى: كَامِلٍ وَمُجَزَّإٍ، ثُمَّ مَنْ عَدَلَ عَنْ الْغُسْلِ الْكَامِلِ إلَى الْمُجَزَّإِ لَمْ يَكُنْ مَذْمُومًا، فَمَنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ نَفْيَ كَمَالِ الْإِيمَانِ أَنَّهُ نَفَى الْكَمَالَ الْمُسْتَحَبَّ فَقَدْ غَلِطَ، وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ، وَلَكِنْ يَقْتَضِي نَفْيَ الْكَمَالِ الْوَاجِبِ وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي سَائِرِ مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، مِثْلُ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] إلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 4] . وَمِثْلُ الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ: «لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ

لَهُ» وَمِثْلُ قَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ» وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي مُسَمَّى الِاسْمِ إلَّا لِانْتِفَاءِ بَعْضِ مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ، لَا لِانْتِفَاءِ بَعْضِ مُسْتَحَبَّاتِهِ، فَيُفِيدُ هَذَا الْكَلَامُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ الَّذِي لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ بَعْضُ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَتَبَعَّضُ وَيَتَفَاضَلُ كَمَا قَالَ: «يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ ذَرَّةٌ مِنْ الْإِيمَانِ» وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ أَوْ الْجَنَّةِ أَوْ كَوْنِهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ كَبِيرَةٍ، فَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَلَا تَنْفِي هَذَا الِاسْمَ وَالْحُكْمَ عَنْ صَاحِبِهَا بِمُجَرَّدِهَا فَيُعْرَفُ أَنَّ هَذَا النَّفْيَ لَا يَكُونُ لِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ، وَلَا لِفِعْلِ صَغِيرَةٍ بَلْ لِفِعْلِ كَبِيرَةٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ هَذَا الضَّابِطَ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ تِلْكَ الضَّوَابِطِ الْمَذْكُورَةِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ، بِخِلَافِ تِلْكَ الضَّوَابِطِ فَإِنَّهَا لَا تُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ، وَإِنَّمَا قَالَهَا بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَلَامِ أَوْ التَّصَوُّفِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ إنَّهَا إلَى التِّسْعِينَ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى السَّبْعِ، فَهَذَا لَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَاحِدًا وَاحِدًا. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ قَالَ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا} [النساء: 31] فَقَدْ وَعَدَ بِتَجَنُّبِ الْكَبَائِرِ بِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَاسْتِحْقَاقِ الْوَعْدِ الْكَرِيمِ، وَكُلُّ مَنْ وُعِدَ بِغَضَبِ اللَّهِ، أَوْ لَعْنِهِ، أَوْ نَارٍ، أَوْ حِرْمَانِ جَنَّةٍ، أَوْ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ هَذَا الْوَعْدِ فَلَا يَكُونُ مِنْ مُجْتَنِبِي الْكَبَائِرِ، وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَحَقَّ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَمْ تَكُنْ سَيِّئَاتُهُ مُكَفَّرَةً عَنْهُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَيْهِ، وَالْمُسْتَحِقُّ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَهُ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الضَّابِطَ مَرْجِعُهُ إلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي الذُّنُوبِ فَهُوَ حَدٌّ يُتَلَقَّى مِنْ خِطَابِ الشَّارِعِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ لَيْسَ مُتَلَقًّى مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ هُوَ قَوْلُ

رَأْيِ الْقَائِلِ وَدُونَهُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَالرَّأْيُ الذَّوْقِيُّ بِدُونِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَا يَجُوزُ. الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الضَّابِطَ يُمْكِنُ الْفَرْقُ بِهِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، وَأَمَّا تِلْكَ الْأُمُورُ فَلَا يُمْكِنُ الْفَرْقُ بِهَا بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا اتَّفَقَتْ فِيهِ الشَّرَائِعُ وَاخْتَلَفَتْ لَا يُعْلَمُ إنْ لَمْ يَكُنْ وُجُودُ عَالِمٍ بِتِلْكَ الشَّرَائِعِ عَلَى وَجْهِهَا، وَهَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا، وَكَذَلِكَ مَا فُسِّرَ بِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ هِيَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ فَقَدْ يَسُدُّ بَابَ الْمَعْرِفَةِ عَنْ زَيْدٍ مَا لَا يَسُدُّ عَنْ عَمْرٍو، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مَحْدُودٌ. الْخَامِسُ: أَنَّ تِلْكَ الْأَقْوَالَ فَاسِدَةٌ، فَتَقُولُ مَنْ قَالَ إنَّهَا مَا اتَّفَقَتْ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ دُونَ مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْحَسَنَةُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، وَمِنْ السَّرِقَةِ، وَالْخِيَانَةِ، وَالْكَذْبَةِ الْوَاحِدَةِ وَبَعْضِ الْإِحْسَانَاتِ الْخَفِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَبِيرَةً وَأَنْ يَكُونَ الْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ لَيْسَ مِنْ الْكَبَائِرِ، إذْ الْجِهَادُ لَمْ يَجِبْ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ، وَكَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّزَوُّجُ بِالْمُحَرَّمَاتِ بِالرَّضَاعَةِ وَالصِّهْرِ، وَغَيْرِهِمَا لَيْسَ مِنْ الْكَبَائِرِ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَمْ تَتَّفِقْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ. وَكَذَلِكَ إمْسَاكُ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَوَطْؤُهَا بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ اعْتِقَادِ التَّحْرِيمِ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: إنَّهَا مَا تَسُدُّ بَابَ الْمَعْرِفَةِ، أَوْ ذَهَابُ النُّفُوسِ، أَوْ الْأَمْوَالِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَلِيلُ مِنْ الْغَضَبِ وَالْخِيَانَةِ كَبِيرَةً، وَأَنْ يَكُونَ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَمَنْ قَالَ إنَّهَا سُمِّيَتْ كَبَائِرَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا دُونَهَا، وَإِنَّ مَا عَصَى بِهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَنْ لَا تَكُونَ الذُّنُوبُ فِي نَفْسِهَا تَنْقَسِمُ إلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، وَهَذَا خِلَافُ الْقُرْآنِ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ} [النجم: 32] وَقَالَ: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] وَقَالَ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]

مسألة من أوقع العقود المحرمة ثم تاب

وَقَالَ: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] وَقَالَ: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر: 53] . وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ، وَمَنْ قَالَ هِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ، وَمَنْ قَالَ إنَّهَا مُبْهَمَةٌ وَغَيْرُ مَعْلُومَةٍ فَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهَا، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مَا تُوُعِّدَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ قَدْ يُقَالُ إنَّ فِيهِ تَقْصِيرًا إذْ الْوَعِيدُ قَدْ يَكُونُ بِالنَّارِ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهَا، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ كُلَّ وَعِيدٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَلْزِمَ الْوَعِيدَ بِالنَّارِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهَا كُلُّ ذَنْبٍ فِيهِ وَعِيدٌ فَهَذَا يَنْدَرِجُ فِيمَا ذَكَرَهُ السَّلَفُ، فَإِنَّ كُلَّ ذَنْبٍ فِيهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا فَفِيهِ وَعِيدٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، فَإِنَّ الزِّنَا، وَالسَّرِقَةَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ، وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فِيهَا وَعِيدٌ، كَمَنْ قَالَ إنَّ الْكَبِيرَةَ مَا فِيهَا وَعِيدٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ مَنْ أَوْقَعَ الْعُقُودَ الْمُحَرَّمَةَ ثُمَّ تَابَ] 1052 - 28 سُئِلَ الشَّيْخُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ: مَنْ أَوْقَعَ الْعُقُودَ الْمُحَرَّمَةَ ثُمَّ تَابَ مَا الْحُكْمُ فِيهِ؟ فَأَجَابَ، بِقَوْلِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الرِّبَا: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي مَوْضِعِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْخُلْعَ وَالطَّلَاقَ فَقَالَ فِي الْخُلْعِ: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] إلَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231] .

وَقَالَ تَعَالَى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا - فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 1 - 2] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] . فَالطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ كَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ، وَفِي طُهْرٍ قَدْ أَصَابَهَا فِيهِ حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَكَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ وَفَاعِلُهُ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ إذَا تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] فَهُوَ إذَا اسْتَغْفَرَهُ غَفَرَ لَهُ وَرَحِمَهُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مِنْ الْمُتَّقِينَ فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] . وَاَلَّذِينَ أَلْزَمَهُمْ عُمَرُ وَمَنْ وَافَقَهُ بِالطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ كَانُوا عَالِمِينَ بِالتَّحْرِيمِ وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُتَّقِينَ، فَهُمْ ظَالِمُونَ لِتَعَدِّيهِمْ مُسْتَحَقُّونَ لِلْعُقُوبَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِبَعْضِ الْمُسْتَفْتِينَ: إنَّ عَمَّك لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَلَوْ اتَّقَى اللَّهَ لَجَعَلَ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَهَذَا إنَّمَا يُقَالُ لِمَنْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَفَعَلَهُ، فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالتَّحْرِيمِ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، وَلَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا إذَا عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَتَابَ مِنْ عَوْدِهِ إلَيْهِ وَالْتَزَمَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ. وَاَلَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ يَجْعَلُ ثَلَاثَتَهُمْ وَاحِدَةً فِي حَيَاتِهِ كَانُوا يَتُوبُونَ فَيَصِيرُونَ مُتَّقِينَ، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَهُوَ الظَّالِمُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] فَحَصَرَ الظُّلْمَ فِيمَنْ لَمْ يَتُبْ، فَمَنْ تَابَ

لَيْسَ بِظَالِمٍ فَلَا يُجْعَلُ مُتَعَدِّيًا لِحُدُودِ اللَّهِ بَلْ وُجُودُ قَوْلِهِ كَعَدَمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَهُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ. فَعُمَرُ عَاقَبَهُمْ بِالْإِلْزَامِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَحْلِيلٌ فَكَانُوا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ النِّسَاءَ يَحْرُمْنَ عَلَيْهِمْ لَا يَقَعُونَ بِالطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ، فَانْكَفُّوا بِذَلِكَ عَنْ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ. فَإِذَا صَارُوا يُوقِعُونَ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ ثُمَّ يَرُدُّونَ النِّسَاءَ بِالتَّحْلِيلِ الْمُحَرَّمِ صَارُوا يَفْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ مَرَّتَيْنِ وَيَتَعَدَّوْنَ حُدُودَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ، بَلْ ثَلَاثًا بَلْ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْأَوَّلَ كَانَ تَعَدِّيًا لِحُدُودِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ لَهَا وَوَطْؤُهُ لَهَا قَدْ صَارَ بِذَلِكَ مَلْعُونًا هُوَ وَالزَّوْجُ الْأَوَّلُ، فَقَدْ تَعَدَّيَا لِحُدُودِ اللَّهِ، هَذَا مَرَّةً أُخْرَى وَذَاكَ مَرَّةً، وَالْمَرْأَةُ وَوَلِيُّهَا لَمَّا عَلِمَا بِذَلِكَ وَفَعَلَاهُ كَانَا مُتَعَدِّيَيْنِ لِحُدُودِ اللَّهِ، فَلَمْ يَحْصُلْ بِالِالْتِزَامِ فِي هَذِهِ الْحَالِ انْكِفَافٌ عَنْ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ بَلْ زَادَ التَّعَدِّي لِحُدُودِ اللَّهِ، فَتَرْكُ إلْزَامِهِمَا بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَا ظَالِمَيْنِ غَيْرَ تَائِبَيْنِ خَيْرٌ مِنْ إلْزَامِهِمْ فَذَلِكَ الزِّنَا يَعُودُ إلَى تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَاَلَّذِي اسْتَفْتَى ابْنَ عَبَّاسٍ وَنَحْوَهُ، لَوْ قِيلَ لَهُ تُبْ لَتَابَ وَلِذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُفْتِي أَحْيَانَا بِتَرْكِ اللُّزُومِ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ عِكْرِمَةَ وَغَيْرُهُ، وَعُمَرُ مَا كَانَ يَجْعَلُ الْخَلِيَّةَ وَالْبَرِيَّةَ إلَّا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً، وَلَمَّا قَالَ عُمَرُ {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] وَإِذَا كَانَ الْإِلْزَامُ عَامًّا ظَاهِرًا كَانَ تَخْصِيصُ الْبَعْضِ بِالْإِعَانَةِ نَقْضًا لِذَلِكَ وَلَمْ يَوْثُقْ بِتَوْبَةٍ. فَالْمَرَاتِبُ أَرْبَعَةٌ: أَمَّا إذَا كَانُوا يَتَّقُونَ اللَّهَ وَيَتُوبُونَ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ تَرْكَ الْإِلْزَامِ كَمَا كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَنْتَهُونَ إلَّا بِالْإِلْزَامِ فَيَنْتَهُونَ حِينَئِذٍ، وَلَا يُوقِعُونَ الْمُحَرَّمَ، وَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى تَحْلِيلٍ، فَهَذَا هُوَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي فَعَلَهَا فِيهِمْ عُمَرُ، وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَحْتَاجُوا إلَى التَّحْلِيلِ الْمُحَرَّمِ فَهُنَا تَرْكُ الْإِلْزَامِ خَيْرٌ، وَالرَّابِعَةُ أَنَّهُمْ لَا يَنْتَهُونَ بَلْ يُوقِعُونَ الْمُحَرَّمَ وَيَلْزَمُونَهُ بِلَا تَحْلِيلٍ، فَهُنَا لَيْسَ فِي إلْزَامِهِمْ بِهِ فَائِدَةٌ إلَّا إصْرٌ وَإِغْلَالٌ لَمْ يُوجَبْ لَهُمْ تَقْوَى اللَّهِ وَحِفْظُ حُدُودِهِ، بَلْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ نِسَاؤُهُمْ وَخَرِبَتْ دِيَارُهُمْ فَقَطْ، وَالشَّارِعُ لَمْ يُشَرِّعْ مَا يُوجِبُ حُرْمَةَ النِّسَاءِ، وَتَخْرِيبَ الدِّيَارِ، بَلْ تَرْكُ إلْزَامِهِمْ بِذَلِكَ أَقَلُّ فَسَادًا وَإِنْ كَانُوا أَذْنَبُوا فَهُمْ مُذْنِبُونَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، لَكِنَّ تَخْرِيبَ الدِّيَارِ أَكْثَرُ فَسَادًا، وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَأَمَّا تَرْكُ الْإِلْزَامِ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ ذَنْبٌ

بِقَوْلِهِ فَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ، وَهَذَا أَقَلُّ فَسَادًا مِنْ الْفَسَادِ الَّذِي قَصَدَ الشَّارِعُ دَفْعَهُ وَمَنْعَهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فَسَادُهُ رَاجِحٌ عَلَى صَلَاحِهِ، فَلَا يُشَرِّعُ الْتِزَامَ الْفَسَادِ مَنْ يُشَرِّعُ دَفْعَهُ وَمَنْعَهُ. وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَحَرَّمَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَأَبَاحَهُ فِي حَالٍ أُخْرَى، فَإِنَّ الْحَرَامَ لَا يَكُونُ صَحِيحًا نَافِذًا كَالْحَلَالِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ كَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَلَالِ، وَيَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ كَمَا يَحْصُلُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ النَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورِهِمْ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ يُخَالِفُ فِي هَذَا لَمَّا ظَنَّ أَنَّ بَعْضَ مَا نَهَى عَنْهُ لَيْسَ بِفَاسِدٍ: كَالطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ، وَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالُوا: لَوْ كَانَ النَّهْيُ مُوجِبًا لِلْفَسَادِ لَزِمَ انْتِقَاضُ هَذِهِ الْعِلَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ حَصَلَ بِسَبَبٍ آخَرَ غَيْرِ مُطْلَقِ النَّهْيِ. وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ الْعَارِفِينَ بِتَفْصِيلِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، فَقِيلَ لَهُمْ: بِأَيِّ شَيْءٍ يُعْرَفُ أَنَّ الْعِبَادَةَ فَاسِدَةٌ وَالْعَقْدَ فَاسِدٌ؟ قَالُوا: بِأَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ هَذَا صَحِيحٌ وَهَذَا فَسَادٌ، وَأَمَّا هَذَا فَشَرْطُهُ فِي صِحَّتِهِ كَذَا وَكَذَا فَإِذَا وُجِدَ الْمَانِعُ انْتَفَتْ الصِّحَّةُ. وَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْوَاقِعَةِ، وَهِيَ الْأَدِلَّةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَدِلَّةً عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، بَلْ يَتَكَلَّمُونَ فِي أُمُورٍ يُقَدِّرُونَهَا فِي أَذْهَانِهِمْ أَنَّهَا إذَا وَقَعَتْ هَلْ يُسْتَدَلُّ بِهَا أَمْ لَا يُسْتَدَلُّ، وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلِهَذَا لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِمَا يُقَدِّرُونَهُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ الْمُفَضَّلَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا نَفْسَ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ الْوَاقِعَةِ بَلْ قَدَّرُوا أَشْيَاءَ قَدْ لَا تَقَعُ وَأَشْيَاءَ ظَنُّوا أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ كَلَامِ شَارِعٍ، وَهَذَا مِنْ هَذَا الْبَابِ. فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَدُلَّ النَّاسَ قَطُّ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي ذَكَرُوهَا، وَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ شُرُوطُ الْبَيْعِ، أَوْ النِّكَاحِ، كَذَا، وَكَذَا، وَلَا هَذِهِ الْعِبَادَةُ، أَوْ الْعَقْدُ صَحِيحٌ؛ أَوْ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلُوهُ دَلِيلًا عَلَى الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، بَلْ هَذِهِ كُلُّهَا عِبَارَاتٌ أَحْدَثَهَا مَنْ أَحْدَثَهَا مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْكَلَامِ.

وَإِنَّمَا الشَّارِعُ دَلَّ النَّاسَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، بِقَوْلِهِ فِي عُقُودٍ هَذَا لَا يَصْلُحُ فَيُقَالُ الصَّلَاحُ الْمُضَادُّ لِلْفَسَادِ، فَإِذَا قَالَ لَا يَصْلُحُ عُلِمَ أَنَّهُ فَاسِدٌ، كَمَا قَالَ فِي بَيْعِ مُدَّيْنِ بِمُدٍّ تَمْرًا لَا يَصْلُحُ. وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَحْتَجُّونَ عَلَى فَسَادِ الْعُقُودِ بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ، كَمَا احْتَجُّوا عَلَى فَسَادِ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِالنَّهْيِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ، وَكَذَلِكَ عَلَى فَسَادِ عَقْدِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ التَّحْرِيمَ فِيهَا تَعَارَضَ فِيهَا نَصَّانِ فَتَوَقَّفَ، وَقِيلَ: إنَّ بَعْضَهُمْ أَبَاحَ الْجَمْعَ، وَكَذَا نِكَاحُ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا اسْتَدَلُّوا عَلَى فَسَادٍ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ اسْتَدَلُّوا عَلَى فَسَادِ نِكَاحِ الشِّغَارِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ عُقُودُ الرِّبَا وَغَيْرِهَا. وَأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ مِنْ الْفَسَادِ لَيْسَ مِنْ الصَّلَاحِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَيُحِبُّ الصَّلَاحَ، فَلَا يَنْهَى عَمَّا يُحِبُّهُ وَإِنَّمَا يَنْهَى عَمَّا لَا يُحِبُّهُ، فَعَلِمُوا أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فَاسِدٌ لَيْسَ بِصَلَاحٍ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ فَمَصْلَحَةٌ مَرْجُوحَةٌ بِمَفْسَدَتِهِ. وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَقْصُودَ الشَّرْعِ رَفْعُ الْفَسَادِ وَمَنْعُهُ لَا إيقَاعُهُ وَالْإِلْزَامُ بِهِ، فَلَوْ أَلْزَمُوا بِمُوجِبِ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ لَكَانُوا مُفْسِدِينَ غَيْرَ مُصْلِحِينَ وَاَللَّهُ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ، وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} [البقرة: 11] . أَيْ لَا تَعْمَلُوا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَكُلُّ مَنْ عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ مُفْسِدٌ وَالْمُحَرَّمَاتُ مَعْصِيَةُ اللَّهِ فَالشَّارِعُ يَنْهَى عَنْهَا لِيَمْنَعَ الْفَسَادَ وَيَدْفَعَهُ. وَلَا يُوجَدُ قَطُّ فِي شَيْءٍ مِنْ صُوَرِ النَّهْيِ صُورَةٌ ثَبَتَتْ فِيهَا الصِّحَّةُ بِنَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ، فَالطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ، وَالصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ فِيهَا نِزَاعٌ، وَلَيْسَ عَلَى الصِّحَّةِ نَصٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَ الْمُحْتَجِّ بِهِمَا حُجَّةٌ. لَكِنْ مِنْ الْبُيُوعِ مَا نُهِيَ عَنْهَا لِمَا فِيهَا مِنْ ظُلْمِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ: كَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ، وَالْمَعِيبِ، وَتَلَقِّي السِّلَعِ، وَالنَّجْشِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْبُيُوعَ لَمْ يَجْعَلْهَا الشَّارِعُ لَازِمَةً كَالْبُيُوعِ الْحَلَالِ، بَلْ جَعَلَهَا غَيْرَ لَازِمَةٍ وَالْخِيرَةُ فِيهَا إلَى الْمَظْلُومِ إنْ شَاءَ أَبْطَلَهَا وَإِنْ

شَاءَ أَجَازَهَا فَإِنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ لَهُ، وَالشَّارِعُ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا لِحَقٍّ مُخْتَصٍّ بِاَللَّهِ كَمَا نَهَى عَنْ الْفَوَاحِشِ، بَلْ هَذِهِ إذَا عَلِمَ الْمَظْلُومُ بِالْحَالِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ مِثْلُ أَنْ يَعْلَمَ بِالْعَيْبِ وَالتَّدْلِيسِ وَالتَّصْرِيَةِ، وَيَعْلَمَ السِّعْرَ إذَا كَانَ قَادِمًا بِالسِّلْعَةِ وَيَرْضَى بِأَنْ يَغْبِنَهُ الْمُتَلَقِّي جَازَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ بَعْدَ الْعَقْدِ إنْ رَضِيَ أَجَازَ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ كَانَ لَهُ الْفَسْخُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ غَيْرَ لَازِمٍ بَلْ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ، إنْ شَاءَ أَجَازَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ بَيْعِ الْمَعِيبِ مِمَّا فِيهِ الرِّضَا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ مِنْ الْعَيْبِ فَإِذَا فُقِدَ الشَّرْطُ بَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ، فَهُوَ لَازِمٌ إنْ كَانَ عَلَى صِفَةٍ، وَغَيْرُ لَازِمٍ إنْ كَانَ عَلَى صِفَةٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ مُطْلَقًا بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى رِضَا الْمُجِيزِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ بِوَقْفِ الْعُقُودِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِمَا، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ نُصُوصِ أَحْمَدَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُدَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِهِ: كَالْخِرَقِيِّ، وَغَيْرِهِ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ يَحْسِبُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا نُهِيَ عَنْهُ، ثُمَّ تَقُولُ طَائِفَةٌ: وَلَيْسَ بِفَاسِدٍ فَالنَّهْيُ لَا يَجِبُ أَنْ يَقْتَضِيَ الْفَسَادَ، وَتَقُولُ طَائِفَةٌ: بَلْ هَذَا فَاسِدٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَفْسَدَ بَيْعَ النَّجْشِ إذَا نَجَشَ الْبَائِعُ أَوْ وَاطَأَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَفْسَدَ نِكَاحَ الْخَاطِبِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَبَيْعَهُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَفْسَدَ بَيْعَ الْمَعِيبِ الْمُدَلَّسِ فَلَمَّا عُورِضَ بِالْمُصَرَّاةِ تَوَقَّفَ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَ نِكَاحَ الْخَاطِبِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ مُطْلَقًا، وَبَيْعَ النَّجْشِ بِلَا خِيَارٍ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ لَمْ يَكُنْ النَّهْيُ فِيهِ لِحَقِّ اللَّهِ كَنِكَاحِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَبَيْعِ الرِّبَا، بَلْ لِحَقِّ الْإِنْسَانِ، بِحَيْثُ لَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ صَاحِبَ السِّلْعَةِ يَنْجُشُ وَرَضِيَ بِذَلِكَ جَازَ، وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ يَنْجُشُ، وَكَذَلِكَ الْمَخْطُوبَةُ مَتَى أَذِنَ الْخَاطِبُ الْأَوَّلُ فِيهَا جَازَ. وَلَمَّا كَانَ النَّهْيُ هُنَا لِحَقِّ الْآدَمِيِّ لَمْ يَجْعَلْهُ الشَّارِعُ صَحِيحًا لَازِمًا كَالْحَلَالِ، بَلْ أَثْبَتَ حَقَّ الْمَظْلُومِ وَسَلَّطَهُ عَلَى الْخِيَارِ، فَإِنْ شَاءَ أَمْضَى وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ، فَالْمُشْتَرِي مَعَ النَّجْشِ إنْ شَاءَ رَدَّ الْمَبِيعَ، فَحَصَلَ بِهَذَا مَقْصُودُهُ، وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ إذَا عَلِمَ بِالنَّجَشِ. فَأَمَّا كَوْنُهُ فَاسِدًا مَرْدُودًا، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ فَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ، وَكَذَلِكَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ، وَالْمُدَلِّسِ، وَالْمُصَرَّاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمَخْطُوبَةُ إنْ شَاءَ الْخَاطِبُ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَ

هَذَا الْمُتَعَدِّي عَلَيْهِ وَيَتَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَ نِكَاحَهُ فَلَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ إذَا اخْتَارَ فَسْخَ نِكَاحِهِ عَادَ الْأَمْرُ إلَى مَا كَانَ فَإِنْ شَاءَتْ نَكَحَتْهُ، وَإِنْ شَاءَتْ لَمْ تَنْكِحْهُ، إذْ مَقْصُودُهُ حَصَلَ بِفَسْخِ نِكَاحِ الْخَاطِبِ، وَإِذَا قَالَ: هُوَ غَيَّرَ قَلْبَ الْمَرْأَةِ عَلَيَّ، قِيلَ: إنْ شِئْت عَاقَبْنَاهُ عَلَى هَذَا بِأَنْ نَمْنَعَهُ مِنْ نِكَاحِهَا فَيَكُونُ هَذَا قِصَاصًا لِظُلْمِهِ إيَّاكَ، وَإِنْ شِئْتَ عَفَوْتَ عَنْهُ فَأَنْفَذْنَا نِكَاحَهُ. وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالذَّبْحُ بِآلَةٍ مَغْصُوبَةٍ، وَطَبْخُ الطَّعَامِ بِحَطَبٍ مَغْصُوبٍ، وَتَسْخِينُ الْمَاءِ بِحَطَبٍ مَغْصُوبٍ، كُلُّ هَذَا إنَّمَا حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ ظُلْمِ الْإِنْسَانِ. وَذَلِكَ يَزُولُ بِإِعْطَاءِ الْمَظْلُومِ حَقَّهُ فَإِذَا أَعْطَاهُ بَدَلَ مَا أَخَذَهُ مِنْ مَنْفَعَةِ مَالِهِ أَوْ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ فَأَعْطَاهُ كِرَاءَ الدَّارِ وَثَمَنَ الْحَطَبِ وَتَابَ هُوَ إلَى اللَّهِ مِنْ فِعْلِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ وَصَارَتْ صَلَاتُهُ كَالصَّلَاةِ فِي مَكَان مُبَاحٍ، وَالطَّعَامِ بِوُقُودٍ مُبَاحٍ، وَالذَّبْحِ بِسِكِّينٍ مُبَاحَةٍ. وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ لِصَاحِبِ السِّكِّينِ أُجْرَةُ ذَبْحِهِ وَلَا تَحْرُمُ الشَّاةُ كُلُّهَا، وَكَانَ لِصَاحِبِ الدَّارِ أُجْرَةُ دَارِهِ لَا تُحْبَطُ صَلَاتُهُ كُلُّهَا لِأَجْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَهَذَا إذَا أَكَلَ الطَّعَامَ وَلَمْ يُوَفِّهِ ثَمَنَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ طَعَامًا لِغَيْرِهِ فِيهِ شَرِكَةٌ لَيْسَ فِعْلُهُ حَرَامًا، وَلَا هُوَ حَلَالًا مَحْضًا فَإِنَّ نَضْجَ الطَّعَامِ لِصَاحِبِ الْوُقُودِ فِيهِ شَرِكَةٌ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ يَبْقَى عَلَيْهِ اسْمُ الظُّلْمِ يَنْقُصُ مِنْ صَلَاتِهِ بِقَدْرِهِ فَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ كَبَرَاءَةِ مَنْ صَلَّى صَلَاةً تَامَّةً وَلَا يُعَاقَبُ كَعُقُوبَةِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ بَلْ يُعَاقَبُ عَلَى قَدْرِ ذَنْبِهِ، وَكَذَلِكَ آكِلُ الطَّعَامِ يُعَاقَبُ عَلَى قَدْرِ ذَنْبِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] . وَإِنَّمَا قِيلَ فِي الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ، وَبِالْمَكَانِ كَذَلِكَ: بِالْإِعَادَةِ بِخِلَافِ هَذَا لِأَنَّهُ هُنَاكَ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ إلَّا بِالْإِعَادَةِ، وَهُنَا يُمْكِنُهُ ذَاكَ بِإِرْضَائِهِ الْمَظْلُومَ وَلَكِنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ الْحَرِيرِ هِيَ مِنْ ذَلِكَ الْقِسْمِ، الْحَقُّ فِيهَا لِلَّهِ، لَكِنْ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ فَقَطْ، فَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي مِثْلِ هَذَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: النَّهْيُ هُنَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي

الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ، وَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ، وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، فَإِنَّهُ إنْ عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ نَفْسَ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنًى يُوجِبُ النَّهْيَ فَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ نَفْسَ الْبَيْعِ اشْتَمَلَ عَلَى تَعْطِيلِ الصَّلَاةِ وَنَفْسَ الصَّلَاةِ اشْتَمَلَتْ عَلَى الظُّلْمِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَوْجَبَ النَّهْيَ، كَمَا اشْتَمَلَتْ الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ عَلَى مُلَابَسَةِ الْخَبِيثِ، وَإِنْ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ، بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، فَهَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّ الْبَيْعَ وَقْتَ النِّدَاءِ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ إلَّا لِكَوْنِهِ شَاغِلًا عَنْ الصَّلَاةِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ الْبَيْعِ لَا يَخْتَصُّ بِالْبَيْعِ، لَكِنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يَجِيءُ فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَعْنًى مُشْتَرَكٌ، وَهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِإِطَالَةِ الْعِدَّةِ، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ الطَّلَاقِ، فَيُقَالُ: وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ كَذَلِكَ إنَّمَا نُهِيَ عَنْهَا لِإِفْضَائِهِ إلَى فَسَادٍ خَارِجٍ عَنْهَا، فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نُهِيَ عَنْهُ لِإِفْضَائِهِ إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَالْقَطِيعَةُ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ النِّكَاحِ، وَالْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ حُرِّمَا وَجُعِلَا رِجْسًا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْضِي إلَى الصَّدِّ عَنْ الصَّلَاةِ وَإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَهُوَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ الْخَمْرِ، وَالرِّبَا وَالْمَيْسِرُ حُرِّمَا لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ نَفْسِ عَقْدِ الرِّبَا وَالْمَيْسِرِ. فَكُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَعْنًى فِيهِ يُوجِبُ النَّهْيَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْهَى عَنْ شَيْءٍ لَا لِمَعْنًى فِيهِ أَصْلًا بَلْ لِمَعْنًى أَجْنَبِيٍّ عَنْهُ فَإِنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ عُقُوبَةِ الْإِنْسَانِ بِذَنْبِ غَيْرِهِ وَالشَّرْعُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فَكَمَا لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى فِي الْعُمَّالِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ، لَكِنَّ فِي الْأَشْيَاءِ مَا يُنْهَى عَنْهُ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ فَهُوَ مُجَرَّدٌ عَنْ الذَّرِيعَةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ اشْتَمَلَ عَلَى مَفْسَدَةِ الْإِفْضَاءِ إلَى التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ وَهَذَا مَعْنًى فِيهِ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ النَّهْيَ قَدْ يَكُونُ لِمَعْنًى فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَقَدْ يَكُونُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِوَصْفٍ فِي الْفِعْلِ لَا فِي أَصْلِهِ فَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ كَالنَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ. قَالُوا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِوَصْفِ الْعِيدَيْنِ لَا لِجِنْسِ الصَّوْمِ، فَإِذَا صَامَ صَحَّ لِأَنَّهُ سَمَّاهُ صَوْمًا فَيُقَالُ لَهُمْ: وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ. وَكَذَلِكَ

الصَّلَاةُ بِلَا طَهَارَةٍ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ جِنْسُهُ مَشْرُوعٌ. وَإِنَّمَا النَّهْيُ لِوَصْفٍ خَاصٍّ وَهُوَ الْحَيْضُ وَالْحَدَثُ وَاسْتِقْبَالُ غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَلَا يُعْرَفُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَرْقٌ مَعْقُولٌ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الشَّرْعِ. فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ: الْحَيْضُ وَالْحَدَثُ صِفَةٌ فِي الْحَائِضِ وَالْمُحْدِثِ، وَذَلِكَ صِفَةٌ فِي الزَّمَانِ. قِيلَ: وَالصِّفَةُ فِي مَحَلِّ الْفِعْلِ زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ كَالصِّفَةِ فِي فَاعِلِهِ فَإِنَّهُ لَوْ وَقَفَ فِي عَرَفَةَ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا أَوْ فِي غَيْرِ عَرَفَةَ لَمْ يَصِحَّ وَهُوَ صِفَةٌ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى الْجِمَارَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ مِنًى أَوْ فِي غَيْرِ مِنًى وَهُوَ صِفَةٌ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَاسْتِقْبَالُ غَيْرِ الْقِبْلَةِ هُوَ الصِّفَةُ فِي الْجِهَةِ لَا فِيهِ وَلَا يَجُوزُ. وَلَوْ صَامَ بِاللَّيْلِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ كَانَ هَذَا زَمَانًا، فَإِذَا قِيلَ: اللَّيْلُ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِلصَّوْمِ شَرْعًا. قِيلَ: وَيَوْمُ الْعِيدِ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّوْمِ شَرْعًا كَمَا أَنَّ زَمَانَ الْحَيْضِ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّوْمِ شَرْعًا، فَالْفَرْقُ بَيْنَ فِعْلَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَرْقًا شَرْعِيًّا فَيَكُونُ مَعْقُولًا. وَيَكُونُ الشَّارِعُ قَدْ جَعَلَهُ مُؤَثِّرًا فِي الْحُكْمِ. فَحَيْثُ عُلِّقَ بِهِ الْحِلُّ أَوْ الْحُرْمَةُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الْفِعْلَيْنِ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَتَكَلَّمُ بِفُرُوقٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَلِهَذَا يَقُولُونَ فِي الْقِيَاسِ: إنَّهُ قَدْ يُمْنَعُ فِي الْوَصْفِ لَا فِي الْأَصْلِ أَوْ الشَّرْعِ أَوْ يُمْنَعُ تَأْثِيرُهُ فِي الْأَصْلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَذْكُرُ وَصْفًا يَجْمَعُ بِهِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْوَصْفُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، بَلْ قَدْ يَكُونُ مَنْفِيًّا عَنْهُمَا أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَكَذَلِكَ الْفَرْقُ قَدْ يُفَرِّقُ بِوَصْفٍ يَدَّعِي انْتِقَاضَهُ بِإِحْدَى الصُّورَتَيْنِ لَيْسَ هُوَ مُخْتَصًّا بِهَا بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأُخْرَى كَقَوْلِهِمْ النَّهْيُ لِمَعْنًى فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَذَلِكَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ أَوْ ذَاكَ لِمَعْنًى فِي وَصْفِهِ دُونَ أَصْلِهِ. وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ النَّهْيُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِالْعِبَادَةِ وَالْعَقْدِ. وَقَدْ يَكُونُ لِمَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا كَمَا يُنْهَى الْمُحْرِمُ عَمَّا يَخْتَصُّ بِالْإِحْرَامِ مِثْلُ حَلْقِ الرَّأْسِ، وَلُبْسِ الْعِمَامَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الثِّيَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَيُنْهَى عَنْ نِكَاحِ امْرَأَتِهِ، وَيُنْهَى عَنْ صَيْدِ الْبَرِّ، وَيُنْهَى مَعَ ذَلِكَ عَنْ الزِّنَا، وَعَنْ ظُلْمِ النَّاسِ فِيمَا مَلَكُوهُ مِنْ الصَّيْدِ. وَحِينَئِذٍ فَالنَّهْيُ لِمَعْنًى مُشْتَرَكٍ أَعْظَمُ وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا مَمْلُوكًا وَجَبَ

عَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِحَقِّ اللَّهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ لِحَقِّ الْمَالِكِ، وَلَوْ زَنَى لَأَفْسَدَ إحْرَامَهُ كَمَا يُفْسِدُهُ بِنِكَاحِ امْرَأَتِهِ وَلَاسْتَحَقَّ حَدَّ الزِّنَا مَعَ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا فَمَنْ لَبِسَ فِي الصَّلَاةِ مَا يَحْرُمُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا كَالثِّيَابِ الَّتِي فِيهَا خُيَلَاءُ، وَفَخْرٌ: كَالْمُسْبَلَةِ، وَالْحَرِيرِ، كَانَ أَحَقَّ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ مِنْ الثَّوْبِ النَّجِسِ، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ: «إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ صَلَاةَ مُسْبِلٍ» وَالثَّوْبُ النَّجِسُ فِيهِ نِزَاعٌ. وَفِي قَدْرِ النَّجَاسَةِ نِزَاعٌ، وَالصَّلَاةُ فِي الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بَعْدَ النِّدَاءِ إذَا كَانَ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ وَغَيْرُهُ مُشْغِلُ عَنْ الْجُمُعَةِ كَانَ ذَلِكَ أَوْكَدَ فِي النَّهْيِ، وَكُلُّ مُشْتَغِلٍ عَنْهَا فَهُوَ شَرٌّ وَفَسَادٌ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَالْمِلْكُ الْحَاصِلُ بِذَلِكَ كَالْمِلْكِ الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ إلَّا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ وَمُخَالَفَتِهِ: كَاَلَّذِي لَا يَحْصُلُ إلَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي، مِثْلُ: الْكُفْرِ، وَالسِّحْرِ، وَالْكِهَانَةِ، وَالْفَاحِشَةِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ: «حُلْوَانُ الْكَاهِنِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغْيِ خَبِيثٌ» فَإِذَا كُنْت لَا أَمْلِكُ السِّلْعَةَ إنْ لَمْ أَتْرُكْ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ كَانَ حُصُولُ الْمِلْكِ سَبَبَ تَرْكِ الصَّلَاةِ، كَمَا أَنَّ حُصُولَ الْحُلْوَانِ وَالْمَهْرِ بِالْكِهَانَةِ وَالْبِغَاءِ، وَكَمَا لَوْ قِيلَ لَهُ: إنْ تَرَكْت الصَّلَاةَ الْيَوْمَ أَعْطَيْنَاك عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَإِنَّ مَا يَأْخُذُهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ خَبِيثٌ. كَذَلِكَ مَا يَمْلِكُهُ بِالْمُعَاوَضَةِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ خَبِيثٌ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ كَانَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلًا وَكَانَ مَا يَأْخُذُهُ عَنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ بِمِقْدَارِ الصَّلَاةِ خَبِيثٌ مَعَ أَنَّ جِنْسَ الْعَمَلِ بِالْأُجْرَةِ جَائِزٌ. كَذَلِكَ جِنْسُ الْمُعَاوَضَةِ جَائِزٌ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَعَدَّى عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ، وَإِذَا حَصَلَ الْبَيْعُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَتَعَذَّرَ الرَّدُّ فَلَهُ نَظِيرُ ثَمَنِهِ الَّذِي أَدَّاهُ وَيَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ وَالْبَائِعُ لَهُ نَظِيرُ سِلْعَتِهِ، وَيَتَصَدَّقُ بِرِبْحٍ إنْ كَانَ رَبِحَ، وَلَوْ تَرَاضَيَا بِذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَاةِ لَمْ يَنْفَعْ. فَإِنَّ النَّهْيَ هُنَا لِحَقِّ اللَّهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَرَاضَيَا بِمَهْرِ الْبَغْيِ. وَهُنَاكَ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لَا يُعْطَى لِلزَّانِي، وَكَذَلِكَ فِي الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَخَذَ صَاحِبُهُ مَنْفَعَةَ مُحَرَّمَةً فَلَا يُجْمَعُ لَهُ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ بَيْعِهِ فَإِذَا كَانَ لَا يَحِلُّ

فصل في أحاديث يحتج بها بعض الفقهاء على أشياء وهي باطلة

لَهُ أَنْ يُبَاعَ الْخَمْرُ بِالثَّمَنِ، فَكَيْفَ إذَا أُعْطِيَ الْخَمْرَ وَأُعْطِيَ الثَّمَنَ، وَإِذَا كَانَ لَا يَحِلُّ لِلزَّانِي أَنْ يَزْنِيَ وَإِنْ أُعْطِيَ، فَكَيْفَ إذَا أُعْطِيَ الْمَالَ وَالزِّنَا جَمِيعًا، بَلْ يَجِبُ إخْرَاجُ هَذَا الْمَالِ كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا كَانَ قَدْ بَاعَ السِّلْعَةَ وَقْتَ النِّدَاءِ بِرِبْحٍ وَاحِدٍ وَأَخَذَ سِلْعَتَهُ، فَإِنْ فَاتَتْ تَصَدَّقَ بِالرِّبْحِ وَلَمْ يُعْطِهِ لِلْمُشْتَرِي فَيَكُونُ إعَانَةً لَهُ عَلَى الشِّرَاءِ، وَالْمُشْتَرِي يَأْخُذُ الثَّمَنَ وَيُعِيدُ السِّلْعَةَ، فَإِنْ بَاعَهَا بِرِبْحٍ تَصَدَّقَ بِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ لِلْبَائِعِ، فَيَكُونُ قَدْ جُمِعَ لَهُ بَيْنَ رِبْحَيْنِ، وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَقْبُوضِ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ هَلْ يُمْلَكُ أَوْ لَا يُمْلَكُ، أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَفُوتَ أَوْ لَا يَفُوتَ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. [فَصْلٌ فِي أَحَادِيثَ يَحْتَجُّ بِهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَشْيَاءَ وَهِيَ بَاطِلَةٌ] ٌ: مِنْهَا: قَوْلُهُمْ: " إنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ " فَإِنَّ هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا يُرْوَى فِي حِكَايَاتٍ مُنْقَطِعَةٍ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ «نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ» وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ. وَمِنْهَا: حَدِيثُ مُحَلِّلِ السِّبَاقِ «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ» فَإِنَّ هَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِنْ قَوْلِهِ، هَكَذَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ، وَغَلِطَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ فَرَوَاهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ يَعْرِفُونَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ حُسَيْنٍ هَذَا يَغْلَطُ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَأَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِمَا يَنْفَرِدُ بِهِ، وَمُحَلِّلُ السِّبَاقِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ أُمَّتَهُ بِمُحَلِّلِ السِّبَاقِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَسَابَقُونَ بِجُعْلٍ وَلَا يَجْعَلُونَ بَيْنَهُمْ مُحَلِّلًا. وَاَلَّذِينَ قَالُوا هَذَا مِنْ الْفُقَهَاءِ ظَنُّوا أَنَّهُ يَكُونُ قِمَارًا، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْمُحَلِّلِ يَخْرُجُ عَنْ شِبْهِ الْقِمَارِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوهُ، بَلْ الْمُحَلِّلُ مُؤَدٍّ إلَى الْمُخَاطَرَةِ،

مسألة في قول النبي إنكم تأتون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء

وَفِي الْمُحَلِّلِ ظُلْمٌ لِأَنَّهُ إذَا سَبَقَ أَخَذَ وَإِذَا سُبِقَ لَمْ يُعْطَ وَغَيْرُهُ إذَا سَبَقَ أُعْطِيَ، فَدُخُولُ الْمُحَلَّلِ ظُلْمٌ لَا تَأْتِي بِهِ الشَّرِيعَةُ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ إنَّكُمْ تَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ] 1053 - 29 مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِ النَّبِيِّ: «إنَّكُمْ تَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ» وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُصَلِّينَ، فَبِمَ يُعْرَفُ غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ التَّارِكِينَ وَالصِّبْيَانِ. وَهَلْ الْأَفْضَلُ الْمُجَاوَرَةُ بِمَكَّةَ أَوْ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ أَوْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَوْ بِثَغْرٍ مِنْ الثُّغُورِ لِأَجْلِ الْغَزْوِ، وَفِيمَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ «مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي، وَمَنْ زَارَ الْبَيْتَ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي» وَهَلْ زِيَارَةُ النَّبِيِّ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ. وَالْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُعْرَفُ مَنْ كَانَ أَغَرَّ مُحْجَلًا، وَهُمْ الَّذِينَ يَتَوَضَّئُونَ لِلصَّلَاةِ، وَأَمَّا الْأَطْفَالُ فَهُمْ تَبَعٌ لِلرِّجَالِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ قَطُّ وَلَمْ يُصَلِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْمُرَابَطَةُ بِالثُّغُورِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ عَامَّةً، بَلْ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْمُجَاوَرَةِ، فَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَاسْتَحَبَّهَا مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا، وَلَكِنَّ الْمُرَابَطَةَ عِنْدَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ السَّلَفِ، حَتَّى قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَأَنْ أُرَابِطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ. وَذَلِكَ أَنَّ الرِّبَاطَ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ، وَجِنْسَ الْجِهَادِ مُقَدَّمٌ عَلَى جِنْسِ الْحَجِّ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ «أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَيُّ

الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ» وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 19 - 20] إلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 22] . وَأَمَّا قَوْلُهُ «مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي» فَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِيمَا قِيلَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ. وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا مِنْ كُتُبِ الصِّحَاحِ، وَالسُّنَنِ، وَالْمَسَانِيدِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ: قَوْلُهُ «مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي» فَهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، بَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَمَعْنَاهُ مُخَالِفٌ الْإِجْمَاعَ فَإِنَّ جَفَاءَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْكَبَائِرِ، بَلْ هُوَ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْنَا مِنْ أَهْلِينَا وَأَمْوَالِنَا كَمَا قَالَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ، وَوَلَدِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» . وَأَمَّا زِيَارَتُهُ فَلَيْسَتْ وَاجِبَةً بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ لَيْسَ فِيهَا أَمْرٌ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ الْمَوْجُودُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيمُ فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. وَأَكْثَرُ مَا اعْتَمَدَهُ الْعُلَمَاءُ فِي الزِّيَارَةِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» وَقَدْ كَرِهَ

مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنْ يُقَالَ: زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ. وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ: كَابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ، وَغَيْرِهِمَا، يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ، كَمَا فِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ، السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتِ. وَشَدُّ الرَّحْلِ إلَى مَسْجِدِهِ مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» فَإِذَا أَتَى مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَ. وَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ بِالسَّفَرِ زِيَارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ دُونَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ، فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَلَا مَأْمُورٍ بِهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا السَّفَرِ إذَا نَذَرَهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، بِخِلَافِ السَّفَرِ إلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَا لِلصَّلَاةِ فِيهَا وَالِاعْتِكَافِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ وُجُوبَ ذَلِكَ فِي بَعْضِهَا (فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) وَتَنَازَعُوا فِي الْمَسْجِدَيْنِ الْآخَرَيْنِ، فَالْجُمْهُورُ يُوجِبُونَ الْوَفَاءَ بِهِ فِي الْمَسْجِدَيْنِ الْآخَرَيْنِ: كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، لِكَوْنِ السَّفَرِ إلَى الْفَاضِلِ لَا يُغْنِي عَنْ السَّفَرِ إلَى الْمَفْضُولِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ إنَّمَا يُوجِبُ السَّفَرَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ. وَالْجُمْهُورُ يُوجِبُونَ الْوَفَاءَ بِكُلِّ مَا هُوَ طَاعَةٌ لِمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: عَنْ عَائِشَةَ

فصل الذبيحة في الأضحية وغيرها

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ» بَلْ قَدْ صَرَّحَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: كَابْنِ عَقِيلٍ، وَغَيْرِهِ، بِأَنَّ الْمُسَافِرَ لِزِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَغَيْرِهَا لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي هَذَا لِلسَّفَرِ، لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ لِكَوْنِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ طَاعَةٌ، وَلَيْسَ بِطَاعَةٍ، وَالتَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا لَيْسَ بِطَاعَةٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ، وَلِأَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. وَرَخَّصَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي السَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ كَمَا ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ فِي " الْإِحْيَاءِ " وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدُوسٍ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ، وَقَدْ رَوَى حَدِيثًا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَنْ جَاءَنِي زَائِرًا لَا تَنْزِعُهُ إلَّا زِيَارَتِي، كَانَ حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أَكُونَ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» لَكِنَّهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ: وَهُوَ مُضَعَّفٌ وَلِهَذَا لَمْ يَحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ، وَبِمِثْلِهِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [فَصْلٌ الذَّبِيحَةُ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَغَيْرِهَا] . 1054 - 30 فَصْلٌ الذَّبِيحَةُ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَغَيْرِهَا تُضْجَعُ عَلَى شِقِّهَا الْأَيْسَرِ، وَيَضَعُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى عَلَى عُنُقِهَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ. وَيُسَمِّي اللَّهَ وَيُكَبِّرُ، فَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَ مِنْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلَك. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِهَا الْقِبْلَةَ، وَإِنْ ضَحَّى بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَجْزَأَ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ ضَحَّى بِشَاتَيْنِ، وَقَالَ فِي إحْدَاهُمَا: اللَّهُمَّ عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَقَالَ فِي الْأُخْرَى: اللَّهُمَّ هَذِهِ عَمَّنْ شَهِدَ لِي بِالْبَلَاغِ وَشَهِدْت لَهُ بِالتَّصْدِيقِ» .

فصل أضحية الهتماء التي سقط بعض أسنانها

[فَصْلٌ أُضْحِيَّة الْهَتْمَاءُ الَّتِي سَقَطَ بَعْضُ أَسْنَانِهَا] فَصْلٌ: وَالْهَتْمَاءُ الَّتِي سَقَطَ بَعْضُ أَسْنَانِهَا فِيهَا قَوْلَانِ، هُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهَا تُجْزِئُ، وَأَمَّا الَّتِي لَيْسَ لَهَا أَسْنَانُ فِي أَعْلَاهَا فَهَذِهِ تُجْزِئُ بِاتِّفَاقٍ، وَالْعَفْرَاءُ أَفْضَلُ مِنْ السَّوْدَاءِ، وَإِذَا كَانَ السَّوَادُ حَوْلَ عَيْنَيْهَا وَفَمِهَا وَفِي رِجْلِهَا أَشْبَهَتْ أُضْحِيَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [فَصْلٌ التَّضْحِيَةُ عَنْ الْمَيِّتِ] 1056 - 32 فَصْلٌ: وَتَجُوزُ التَّضْحِيَةُ عَنْ الْمَيِّتِ كَمَا يَجُوزُ الْحَجُّ عَنْهُ وَالصَّدَقَةُ عَنْهُ. [مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ لَهُ حَقٌّ فِي بَيْتِ الْمَالِ] 1057 - 33 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ لَهُ حَقٌّ فِي بَيْتِ الْمَالِ إمَّا لِمَنْفَعَةٍ فِي الْجِهَادِ، أَوْ وِلَايَتِهِ فَأُحِيلَ بِبَعْضِ حَقِّهِ عَلَى بَعْضِ الْمَظَالِمِ، فَقُلْت لَهُ لَا تَسْتَخْرِجْ أَنْتَ هَذَا وَلَا تُعِنْ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ لَكِنْ اُطْلُبْ حَقَّك مِنْ الْمَالِ الْمُحَصَّلِ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ كَانَ مَجْمُوعًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ مَا اجْتَمَعَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلَمْ يُرَدَّ إلَى أَصْحَابِهِ فَصَرْفُهُ فِي مَصَالِحِ أَصْحَابِهِ وَالْمُسْلِمِينَ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ أَصْحَابَهُ أَوْ فِيمَا يَضُرُّهُ، وَقَدْ كَتَبْتُ نَظِيرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُخْتَلَطًا فَلَا يَبْقَى مَحْكُومًا بِتَحْرِيمِهِ بِعَيْنِهِ، مَعَ كَوْنِ الصَّرْفِ إلَى مِثْلِ هَذَا وَاجِبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْوُلَاةَ يَظْلِمُونَ تَارَةً فِي اسْتِخْرَاجِ الْأَمْوَالِ، وَتَارَةً فِي صَرْفِهَا، فَلَا يَحِلُّ إعَانَتُهُمْ عَلَى الظُّلْمِ فِي الِاسْتِخْرَاجِ، وَلَا أَخْذُ الْإِنْسَانِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَأَمَّا مَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ مِنْ الِاسْتِخْرَاجِ وَالصَّرْفِ فَلْيُسَائِلْ الِاجْتِهَادُ. وَأَمَّا مَا لَا يَسُوغُ فِيهِ اجْتِهَادٌ مِنْ الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ فَلَا يُعَاوِنُونَ لَكِنْ إذَا كَانَ الْمَصْرُوفُ إلَيْهِ مُسْتَحِقًّا بِمِقْدَارِ الْمَأْخَذِ جَازَ أَخْذُهُ مِنْ كُلِّ مَالٍ يَجُوزُ صَرْفُهُ: كَالْمَالِ

مسألة في قوم أرسلوا قوما في مصالح لهم ويعطونهم نفقة

الْمَجْهُولِ مَالِكُهُ إذَا وَجَبَ صَرْفُهُ فَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ إعَادَتِهِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ فَهَلْ الْأَوْلَى إقْرَارُهُ بِأَيْدِي الظَّلَمَةِ أَوْ السَّعْيُ فِي صَرْفِهِ فِي مَصَالِحِ أَصْحَابِهِ وَالْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ السَّاعِي فِي ذَلِكَ مِمَّنْ يَكْرَهُ أَصْلَ أَخْذِهِ، وَلَمْ يُعِنْ عَلَى أَخْذِهِ، بَلْ سَعَى فِي مَنْعِ أَخْذِهِ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ حَسَنَةٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهَا، وَإِلَّا دَخَلَ الْإِنْسَانُ فِي فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ، أَوْ فِي تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، فَإِنَّ الْإِعَانَةَ عَلَى الظُّلْمِ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَإِذَا لَمْ تُمْكِنْ الْوَاجِبَاتُ إلَّا بِالصَّرْفِ الْمَذْكُورِ كَانَ تَرْكُهُ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إلَّا إقْرَارُهُ بِيَدِ الظَّالِمِ، أَوْ صَرْفُهُ فِي الْمَصَالِحِ كَانَ النَّهْيُ، عَنْ صَرْفِهِ فِي الْمَصَالِحِ إعَانَةً عَلَى زِيَادَةِ الظُّلْمِ الَّتِي هِيَ إقْرَارُهُ بِيَدِ الظَّالِمِ، فَكَمَا يَجِبُ إزَالَةُ الظُّلْمِ يَجِبُ تَقْلِيلُهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ إزَالَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَصْلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الشُّبُهَاتِ يَنْبَغِي صَرْفُهَا فِي الْأَبْعَدِ عَنْ الْمَنْفَعَةِ، فَالْأَبْعَدِ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ فِي كَسْبِ الْحِجَامِ بِأَنْ يُطْعِمَهُ الرَّقِيقَ وَالنَّاضِجَ فَالْأَقْرَبُ مَا دَخَلَ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ مَا وَلِيَ الظَّاهِرُ مِنْ اللِّبَاسِ مَا سَتَرَ مَعَ الِانْفِصَالِ مِنْ الْبِنَاءِ، ثُمَّ مَا عَرَضَ مِنْ الرُّكُوبِ وَنَحْوِهِ فَهَكَذَا تَرْتِيبُ الِانْتِفَاعِ فِي الرِّزْقِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُنَا يَفْعَلُونَ. [مَسْأَلَةٌ فِي قَوْمٍ أَرْسَلُوا قَوْمًا فِي مَصَالِحَ لَهُمْ وَيُعْطُونَهُمْ نَفَقَةً] 1058 - 34 مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْمٍ أَرْسَلُوا قَوْمًا فِي مَصَالِحَ لَهُمْ وَيُعْطُونَهُمْ نَفَقَةً، فَهَلْ يَحِلُّ لَهُمْ أَكْلُ ذَلِكَ وَاسْتِدَانَةُ تَمَامِ نَفَقَتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ. الْجَوَابُ: إذَا أَعْطَاهُمْ الَّذِينَ بَعَثُوهُمْ مَا يُنْفِقُوا مِنْهُ جَازَ ذَلِكَ وَعَلَيْهِمْ تَمَامُ نَفَقَتِهِمْ مَا دَامُوا فِي حَوَائِجِهِمْ، وَيَجُوزُ مُخَالَطَتُهُمْ. [مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ مُتَوَلَّى وِلَايَاتٌ وَمُقْطَعٌ إقْطَاعَاتٌ] 1059 - 35 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ مُتَوَلَّى وِلَايَاتٌ، وَمُقْطَعٌ إقْطَاعَاتٌ، وَعَلَيْهَا مِنْ الْكُلَفِ السُّلْطَانِيَّةِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَهُوَ يَخْتَارُ أَنْ يُسْقِطَ الظُّلْمَ كُلَّهُ، وَيَجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إنْ تَرَكَ ذَلِكَ وَأَقْطَعَهَا غَيْرَهُ وَوَلَّى غَيْرَهُ، فَإِنَّ الظُّلْمَ لَا يَتْرُكُ مِنْهُ شَيْئًا، بَلْ رُبَّمَا يَزْدَادُ، وَهُوَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُخَفِّفَ تِلْكَ الْمُكُوسَ الَّتِي فِي

إقْطَاعِهِ، فَيُسْقِطُ النِّصْفَ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ جِهَةُ مَصَارِفَ لَا يُمْكِنُهُ إسْقَاطُهُ، فَإِنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ لِتِلْكَ الْمَصَارِفِ عِوَضَهَا، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّهَا، فَهَلْ يَجُوزُ لِمِثْلِ هَذَا بَقَاؤُهُ عَلَى وِلَايَتِهِ وَإِقْطَاعِهِ، قَدْ عَرَفْت نِيَّتَهُ وَاجْتِهَادَهُ، وَمَا رَفَعَهُ مِنْ الظُّلْمِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ، أَمْ عَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ عَنْ هَذِهِ الْوِلَايَةِ وَالْإِقْطَاعِ، وَهُوَ إذَا رَفَعَ يَدَهُ لَا يَزُولُ الظُّلْمُ، بَلْ يَبْقَى وَيَزْدَادُ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الْبَقَاءُ عَلَى الْوِلَايَةِ وَالْإِقْطَاعِ كَمَا ذُكِرَ؟ وَهَلْ عَلَيْهِ إثْمٌ فِي هَذَا الْفِعْلِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ فَهَلْ يُطَالَبُ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ خَيْرٌ لَهُ: أَنْ يَسْتَمِرَّ مَعَ اجْتِهَادِهِ فِي رَفْعِ الظُّلْمِ وَتَقْلِيلِهِ، أَمْ رَفْعُ يَدِهِ مَعَ بَقَاءِ الظُّلْمِ وَزِيَادَةٍ؟ وَإِذَا كَانَتْ الرَّعِيَّةُ تَخْتَارُ بَقَاءَ يَدِهِ لِمَا لَهَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ بِهِ، وَرَفْعِ مَا رَفَعَهُ مِنْ الظُّلْمِ، فَهَلْ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُوَافِقَ الرَّعِيَّةَ أَمْ يَرْفَعَ يَدَهُ، وَالرَّعِيَّةُ تَكْرَهُ ذَلِكَ لِعِلْمِهَا أَنَّ الظُّلْمَ يَبْقَى وَيَزْدَادُ بِرَفْعِ يَدِهِ؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَعَمْ إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْعَدْلِ وَرَفْعِ الظُّلْمِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ، وَوِلَايَتُهُ خَيْرٌ وَأَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ وِلَايَةِ غَيْرِهِ، وَاسْتِيلَاؤُهُ عَلَى الْإِقْطَاعِ خَيْرٌ مِنْ اسْتِيلَاءِ غَيْرِهِ، كَمَا قَدْ ذَكَرَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْبَقَاءُ عَلَى الْوِلَايَةِ وَالْإِقْطَاعِ، وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، بَلْ بَقَاؤُهُ عَلَى ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ إذَا لَمْ يَشْتَغِلْ إذَا تَرَكَهُ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَاجِبًا إذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ قَادِرًا عَلَيْهِ، فَنَشْرُ الْعَدْلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَرَفْعُ الظُّلْمِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، يَقُومُ كُلُّ إنْسَانٍ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ مَقَامَهُ، وَلَا يُطَالَبُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ رَفْعِ الظُّلْمِ. وَمَا يُقَرِّرُهُ الْمُلُوكُ مِنْ الْوَظَائِفِ الَّتِي لَا يُمْكِنُهُ رَفْعُهَا لَا يُطْلَبُ بِهَا، وَإِذَا كَانُوا هُمْ وَنُوَّابُهُمْ يَطْلُبُونَ أَمْوَالًا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا إلَّا بِإِقْرَارِ بَعْضِ تِلْكَ الْوَظَائِفِ، وَإِذَا لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِمْ أُعْطُوا تِلْكَ الْإِقْطَاعَاتِ وَالْوِلَايَةَ لِمَنْ يُقَرِّرُ الظُّلْمَ أَوْ يَزِيدُهُ وَلَا يُخَفِّفُهُ. كَانَ أَخْذُ تِلْكَ الْوَظَائِفِ وَدَفْعُهَا إلَيْهِمْ خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ إقْرَارِهَا كُلِّهَا. وَمَنْ صَرَفَ مِنْ هَذِهِ إلَى الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ فَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَنْ تَنَاوَلَهُ مِنْ هَذَا شَيْءٌ أَبْعَدُ عَنْ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ غَيْرِهِ وَالْمُقْطَعُ الَّذِي يَفْعَلُ هَذَا الْخَيْرَ يَرْفَعُ عَنْ

الْمُسْلِمِينَ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ الظُّلْمِ، وَيَدْفَعُ شَرَّ الشِّرِّيرِ بِأَخْذِ بَعْضِ مَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ، فَمَا لَا يُمْكِنُهُ رَفْعُهُ هُوَ مُحْسِنٌ إلَى الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ يُثَابُ، وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا يَأْخُذُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا أَخَذَهُ، وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَهَذَا كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ، وَنَاظِرِ الْوَقْفِ، وَالْعَامِلِ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَالشَّرِيكِ، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يَتَصَرَّفُ لِغَيْرِهِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ أَوْ الْوَكَالَةِ إذَا كَانَ لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ مَصْلَحَتِهِمْ إلَّا بِأَدَاءِ بَعْضِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِلْقَادِرِ الظَّالِمِ، فَإِنَّهُ مُحْسِنٌ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مُسِيءٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا يُعْطِي هَؤُلَاءِ الْمَكَّاسِينَ وَغَيْرَهُمْ فِي الطُّرُقَاتِ، وَالْأَشْوَالِ، وَالْأَمْوَالِ، الَّتِي اُؤْتُمِنُوا، كَمَا يُعْطُونَهُ مِنْ الْوَظَائِفِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى الْعَقَارِ وَالْوَظَائِفِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى مَا يُبَاعُ وَيُشْتَرَى، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ تَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ أَوْ لِنَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ وَنَحْوِهَا، فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤَدِّيَ هَذِهِ الْوَظَائِفَ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ فَسَادُ الْعِبَادِ وَفَوَاتُ مَصَالِحِهِمْ. وَاَلَّذِي يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَقَعَ ظُلْمٌ قَلِيلٌ لَوْ قَبِلَ النَّاسُ مِنْهُ تَضَاعَفَ الظُّلْمُ وَالْفَسَادُ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانُوا فِي طَرِيقٍ وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، فَإِنْ لَمْ يُرْضُوهُمْ بِبَعْضِ الْمَالِ أَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ وَقَتَلُوهُمْ، فَمَنْ قَالَ لِتِلْكَ الْقَافِلَةِ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تُعْطُوا لِهَؤُلَاءِ شَيْئًا مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي مَعَكُمْ لِلنَّاسِ، فَإِنَّهُ يَقْصِدُ بِهَذَا حِفْظَ ذَلِكَ الْقَلِيلِ الَّذِي يُنْهَى عَنْ دَفْعِهِ، وَلَكِنْ لَوْ عَمِلُوا بِمَا قَالَ لَهُمْ ذَهَبَ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَسُلِبُوا مَعَ ذَلِكَ، فَهَذَا مِمَّا لَا يُشِيرُ بِهِ عَاقِلٌ فَضْلًا أَنْ تَأْتِيَ بِهِ الشَّرَائِعُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ الرُّسُلَ لِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. فَهَذَا الْمُتَوَلَّى الْمُقْطَعُ الَّذِي يَدْفَعُ بِمَا يُوجِدُ مِنْ الْوَظَائِفِ وَيَصْرِفُ إلَى مَنْ نَسَبُهُ مُسْتَقِرًّا عَلَى وِلَايَتِهِ وَإِقْطَاعِهِ ظُلْمًا وَشَرًّا كَثِيرًا عَنْ الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ إلَّا بِذَلِكَ، إذَا رَفَعَ يَدَهُ تَوَلَّى مَنْ يُقِرُّهُ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْئًا هُوَ مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَلَا ضَمَانَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ وَصِيِّ الْيَتِيمِ، وَنَاظِرِ الْوَقْفِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ مَصْلَحَتِهِمْ إلَّا بِدَفْعِ مَا يُوصَلُ مِنْ الْمَظَالِمِ السُّلْطَانِيَّةِ، إذَا رَفَعَ يَدَهُ تَوَلَّى مَنْ يَجُورُ وَيُرِيدُ الظُّلْمَ، فَوِلَايَتُهُ جَائِزَةٌ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا يَدْفَعُهُ، بَلْ قَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ.

مسألة قوله عز وجل يا أيها الناس اعبدوا ربكم

وَكَذَلِكَ الْجُنْدِيُّ الْمُقْطَعُ الَّذِي يُخَفِّفُ الْوَظَائِفَ عَنْ بِلَادِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا كُلُّهَا لِأَنَّهُ يُطْلَبُ مِنْهُ خَيْلٌ وَسِلَاحٌ وَنَفَقَةٌ لَا يُمْكِنُهُ إقَامَتُهَا إلَّا بِأَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ تِلْكَ الْوَظَائِفِ، وَهَذَا مَعَ هَذَا يَنْفَعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجِهَادِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ هَذَا، بَلْ ارْفَعْ يَدَك عَنْ هَذَا الْإِقْطَاعِ فَتَرَكَهُ وَأَخَذَهُ مَنْ يُرِيدُ الظُّلْمَ وَلَا يَنْفَعُ الْمُسْلِمِينَ، كَانَ هَذَا الْقَائِلُ مُخْطِئًا جَاهِلًا بِحَقَائِقِ الدِّينِ، بَلْ بَقَاءُ الْخَيْلِ مِنْ التُّرْكِ وَالْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ وَأَنْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَقْرَبُ لِلْعَدْلِ عَلَى إقْطَاعِهِمْ مَعَ تَخْفِيفِ الظُّلْمِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ تِلْكَ الْإِقْطَاعَاتِ مَنْ هُوَ أَقَلُّ نَفْعًا وَأَكْثَرُ ظُلْمًا، وَالْمُجْتَهِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُقْطَعِينَ كُلِّهِمْ فِي الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ يَجْزِيهِ اللَّهُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ الْخَيْرِ، وَلَا يُعَاقِبُهُ عَلَى مَا عَجَزَ عَنْهُ، وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِمَا يَأْخُذُ وَيَصْرِفُ إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا ذَلِكَ كَانَ تَرْكُ ذَلِكَ يُوجِبُ شَرًّا أَعْظَمَ مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ] 1060 - 36 وَسُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] فَمَا الْعِبَادَةُ وَفُرُوعُهَا؟ وَهَلْ مَجْمُوعُ الدِّينِ دَاخِلٌ فِيهَا أَمْ لَا؟ وَمَا حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ؟ وَهَلْ هِيَ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَمْ فَوْقَهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَقَامَاتِ؟ وَلْيَبْسُطُوا لَنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ. فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: " الْعِبَادَةُ " هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ: مِنْ الْأَقْوَالِ، وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ؛ فَالصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالْحَجُّ، وَصِدْقُ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ، وَالْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَالْجِهَادُ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَالْإِحْسَانُ إلَى الْجَارِ، وَالْيَتِيمِ، وَالْمِسْكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالْمَمْلُوكِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ، وَالدُّعَاءُ، وَالذِّكْرُ، وَالْقِرَاءَةُ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَةِ. وَكَذَلِكَ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَالْإِنَابَةُ إلَيْهِ، وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ، وَالصَّبْرُ لِحُكْمِهِ، وَالشُّكْرُ لِنِعَمِهِ، وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، وَالرَّجَاءُ لِرَحْمَتِهِ، وَالْخَوْفُ

لِعَذَابِهِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ هِيَ مِنْ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ هِيَ الْغَايَةُ الْمَحْبُوبَةُ لَهُ، وَالْمَرَضِيَّةُ لَهُ، الَّتِي خَلَقَ الْخَلْقَ لَهَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وَبِهَا أَرْسَلَ جَمِيعَ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون: 23] . وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ، وَغَيْرُهُمْ لِقَوْمِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل: 36] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] . وَجَعَلَ ذَلِكَ لَازِمًا لِرَسُولِهِ إلَى الْمَوْتِ كَمَا قَالَ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] . وَبِذَلِكَ وَصَفَ مَلَائِكَتَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] وَذَمَّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] .

وَنَعَتَ صَفْوَةَ خَلْقِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] . وَقَالَ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] الْآيَاتِ. وَلَمَّا قَالَ الشَّيْطَانُ: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] . وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ بِذَلِكَ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] إلَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [مريم: 88] {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} [مريم: 89] {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90] {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 91] {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا - لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم: 93 - 94] {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95] . وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمَسِيحِ - الَّذِي اُدُّعِيَتْ فِيهِ الْأُلُوهِيَّةُ وَالنُّبُوَّةُ - {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59] . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» . وَقَدْ نَعَتَهُ اللَّهُ " بِالْعُبُودِيَّةِ " فِي أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ فَقَالَ فِي الْإِسْرَاءِ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا} [الإسراء: 1] وَقَالَ فِي الْإِيحَاءِ: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] وَقَالَ

فِي الدَّعْوَةِ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19] وَقَالَ فِي التَّحَدِّي: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] فَالدِّينُ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَسَأَلَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ قَالَ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إنْ اسْتَطَعْت إلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ: فَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَالَ: فَمَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك» ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» فَجَعَلَ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الدِّينِ. " وَالدِّينُ " يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ. يُقَالُ: دِنْته فَدَانَ، أَيْ: ذَلَلْتُهُ فَذَلَّ، وَيُقَالُ يَدِينُ اللَّهَ؛ وَيَدِينُ لِلَّهِ أَيْ: يَعْبُدُ اللَّهَ وَيُطِيعُهُ وَيَخْضَعُ لَهُ، فَدِينُ اللَّهِ عِبَادَتُهُ وَطَاعَتُهُ وَالْخُضُوعُ لَهُ. " وَالْعِبَادَةُ " أَصْلُ مَعْنَاهَا الذُّلُّ، أَيْضًا، يُقَالُ: طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ إذَا كَانَ مُذَلَّلًا، قَدْ وَطِئَتْهُ الْأَقْدَامُ. لَكِنَّ الْعِبَادَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الذُّلَّ وَمَعْنَى الْحُبِّ، فَهِيَ تَتَضَمَّنُ غَايَةَ الذُّلِّ لِلَّهِ بِغَايَةِ الْمَحَبَّةِ لَهُ، فَإِنَّ آخِرَ مَرَاتِبِ الْحُبِّ هُوَ التَّتَيُّمُ، وَأَوَّلُهُ " الْعَلَاقَةُ " لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ، ثُمَّ " الصَّبَابَةُ " لِانْصِبَابِ الْقَلْبِ إلَيْهِ، ثُمَّ " الْغَرَامُ " وَهُوَ الْحُبُّ اللَّازِمُ لِلْقَلْبِ ثُمَّ " الْعِشْقُ " وَآخِرُهَا التَّتَيُّمُ " يُقَالُ: تَيْمُ اللَّهَ أَيْ: عَبْدُ اللَّهَ. فَالْمُتَيَّمُ الْمُعَبَّدُ لِمَحْبُوبِهِ.

وَمَنْ خَضَعَ لِإِنْسَانٍ مَعَ بُغْضِهِ لَهُ لَا يَكُونُ عَابِدًا لَهُ، وَلَوْ أَحَبَّ شَيْئًا وَلَمْ يَخْضَعْ لَهُ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا لَهُ، كَمَا قَدْ يُحِبُّ وَلَدَهُ وَصَدِيقَهُ، وَلِهَذَا لَا يَكْفِي أَحَدُهُمَا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَحَبَّ إلَى الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَعْظَمَ عِنْدَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، بَلْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَحَبَّةَ وَالذُّلَّ التَّامَّ إلَّا اللَّهُ. وَكُلُّ مَا أُحِبَّ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَحَبَّتُهُ فَاسِدَةٌ، وَمَا عُظِّمَ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ كَانَ تَعْظِيمُهُ بَاطِلًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] . فَجِنْسُ الْمَحَبَّةِ تَكُونُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، كَالطَّاعَةِ؛ فَإِنَّ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْإِرْضَاءَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وَالْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 59] . وَأَمَّا " الْعِبَادَةُ " وَمَا يُنَاسِبُهَا مِنْ التَّوَكُّلِ؛ وَالْخَوْفِ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64] إلَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] فَالْإِيتَاءُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ كَقَوْلِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . وَأَمَّا الْحَسْبُ وَهُوَ الْكَافِي فَهُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] . وَقَالَ

تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] أَيْ حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك اللَّهُ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَعْنَى حَسْبُك اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَهُ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا، كَمَا قَدْ بَسَطْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] . " وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ " أَنَّ الْعَبْدَ يُرَادُ بِهِ " الْمُعَبَّدُ " الَّذِي عَبَّدَهُ اللَّهُ فَذَلَّلَهُ وَدَبَّرَهُ وَصَرَّفَهُ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ: الْمَخْلُوقُونَ كُلُّهُمْ عِبَادُ اللَّهِ مِنْ الْأَبْرَارِ، وَالْفُجَّارِ، وَالْمُؤْمِنِينَ، وَالْكُفَّارِ، وَأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَهْلِ النَّارِ، إذْ هُوَ رَبُّهُمْ كُلِّهِمْ وَمَلِيكُهُمْ، لَا يَخْرُجُونَ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ؛ فَمَا شَاءَ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَاءُوا. وَمَا شَاءُوا إنْ لَمْ يَشَأْهُ لَمْ يَكُنْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] . فَهُوَ سُبْحَانَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَخَالِقُهُمْ، وَرَازِقُهُمْ، وَمُحْيِيهمْ، وَمُمِيتُهُمْ، وَمُقَلِّبُ قُلُوبِهِمْ، وَمُصَرِّفُ أُمُورِهِمْ، لَا رَبَّ لَهُمْ غَيْرُهُ، وَلَا مَالِكَ لَهُمْ سِوَاهُ، وَلَا خَالِقَ إلَّا هُوَ، سَوَاءٌ اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ أَوْ نَكِرُوهُ، وَسَوَاءٌ عَلِمُوا ذَلِكَ أَوْ جَهِلُوهُ؛ لَكِنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ عَرَفُوا ذَلِكَ وَاعْتَرَفُوا بِهِ، بِخِلَافِ مَنْ كَانَ جَاهِلًا بِذَلِكَ؛ أَوْ جَاحِدًا لَهُ مُسْتَكْبِرًا عَلَى رَبِّهِ، لَا يُقِرُّ وَلَا يَخْضَعُ لَهُ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ. فَالْمَعْرِفَةُ بِالْحَقِّ إذَا كَانَتْ مَعَ الِاسْتِكْبَارِ عَنْ قَبُولِهِ، وَالْجَحْدِ لَهُ كَانَ عَذَابًا عَلَى صَاحِبِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14] وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] .

فَإِنْ اعْتَرَفَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ وَأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ، مُحْتَاجٌ إلَيْهِ عَرَفَ الْعُبُودِيَّةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ، وَهَذَا الْعَبْدُ يَسْأَلُ رَبَّهُ فَيَتَضَرَّعُ إلَيْهِ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، لَكِنْ قَدْ يُطِيعُ أَمْرَهُ، وَقَدْ يَعْصِيهِ، وَقَدْ يَعْبُدُهُ مَعَ ذَلِكَ؛ وَقَدْ يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ وَالْأَصْنَامَ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَلَا يَصِيرُ بِهَا الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 84] {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 85] إلَى قَوْلِهِ: {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89] . وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْحَقِيقَةِ وَيَشْهَدُهَا يَشْهَدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ وَهِيَ " الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ " الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا وَفِي شُهُودِهَا وَمَعْرِفَتِهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَإِبْلِيسُ مُعْتَرِفٌ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ؛ وَأَهْلُ النَّارِ. قَالَ إبْلِيسُ: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر: 36] وَقَالَ: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] وَقَالَ: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] وَقَالَ: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء: 62] وَأَمْثَالُ هَذَا مِنْ الْخِطَابِ الَّذِي يُقِرُّ فِيهِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ وَخَالِقُ غَيْرِهِ؛ وَكَذَلِكَ أَهْلُ النَّارِ قَالُوا: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون: 106] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} [الأنعام: 30] .

فَمَنْ وَقَفَ عِنْدَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَعِنْدَ شُهُودِهَا، وَلَمْ يَقُمْ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي هِيَ عِبَادَتُهُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِإِلَهِيَّتِهِ وَطَاعَةِ أَمْرِهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ كَانَ مِنْ جِنْسِ إبْلِيسَ وَأَهْلِ النَّارِ؛ وَإِنْ ظَنَّ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ الَّذِينَ يَسْقُطُ عَنْهُمْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الشَّرْعِيَّانِ، كَانَ مِنْ أَشَرِّ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْخَضِرَ وَغَيْرَهُ سَقَطَ عَنْهُمْ الْأَمْرُ لِمُشَاهَدَةِ الْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ هَذَا مِنْ شَرِّ أَقْوَالِ الْكَافِرِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، حَتَّى يَدْخُلَ فِي النَّوْعِ الثَّانِي " مِنْ مَعْنَى الْعَبْدِ وَهُوَ الْعَبْدُ بِمَعْنَى الْعَابِدِ، فَيَكُونُ عَابِدًا لِلَّهِ لَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ؛ فَيُطِيعُ أَمْرَهُ وَأَمْرَ رُسُلِهِ، وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ؛ وَيُعَادِي أَعْدَاءَهُ، وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِإِلَهِيَّتِهِ، وَلِهَذَا كَانَ عُنْوَانُ التَّوْحِيدِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " بِخِلَافِ مَنْ يُقِرُّ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَلَا يَعْبُدُهُ، أَوْ يَعْبُدُ مَعَهُ إلَهًا آخَرَ، فَالْإِلَهُ الَّذِي يَأْلَهُهُ الْقَلْبُ بِكَمَالِ الْحُبِّ، وَالتَّعْظِيمِ، وَالْإِجْلَالِ، وَالْإِكْرَامِ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ هِيَ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا، وَبِهَا وَصَفَ الْمُصْطَفِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَبِهَا بَعَثَ رُسُلَهُ. وَأَمَّا " الْعَبْدُ " بِمَعْنَى الْعَبْدِ سَوَاءٌ أَقَرَّ بِذَلِكَ أَوْ أَنْكَرَهُ؛ فَتِلْكَ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ. وَبِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ يُعْرَفُ الْفَرْقُ بَيْنَ " الْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ " الدَّاخِلَةِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَدِينِهِ وَأَمْرِهِ الشَّرْعِيِّ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا، وَيُوَالِي أَهْلَهَا وَيُكْرِمُهُمْ بِجَنَّتِهِ، وَبَيْنَ " الْحَقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ " الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ، وَالْفَاجِرُ الَّتِي مَنْ اكْتَفَى بِهَا، وَلَمْ يَتَّبِعْ الْحَقَائِقَ الدِّينِيَّةَ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِ إبْلِيسَ اللَّعِينِ، وَالْكَافِرِينَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَنْ اكْتَفَى بِهَا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ فِي مَقَامٍ، أَوْ حَالٍ، نَقَصَ مِنْ إيمَانِهِ وَوِلَايَتِهِ لِلَّهِ بِحَسَبِ مَا نَصَّ مِنْ الْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ. وَهَذَا مَقَامٌ عَظِيمٌ فِيهِ غَلِطَ الْغَالِطُونَ؛ وَكَثُرَ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ عَلَى السَّالِكِينَ، حَتَّى زَلَقَ فِيهِ مِنْ أَكَابِرِ الشُّيُوخِ الْمُدَّعِينَ التَّحْقِيقَ وَالتَّوْحِيدَ وَالْعِرْفَانَ مَا لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَالْإِعْلَانَ؛ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ، فَبَيَّنَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الرِّجَالِ إذَا وَصَلُوا إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَمْسَكُوا، إلَّا أَنَا فَإِنِّي

انْفَتَحَتْ لِي فِيهِ رَوْزَنَةٌ فَنَازَعْت أَقْدَارَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ؛ وَالرَّجُلُ مَنْ يَكُونُ مُنَازِعًا لِلْقَدَرِ لَا مَنْ يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْقَدَرِ. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ لَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ الرِّجَالِ غَلِطُوا، فَإِنَّهُمْ قَدْ يَشْهَدُونَ مَا يُقَدَّرُ عَلَى أَحَدِهِمْ مِنْ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ؛ أَوْ مَا يُقَدَّرُ عَلَى النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ مِنْ الْكُفْرِ؛ وَيَشْهَدُونَ أَنَّ هَذَا جَارٍ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَمُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ، فَيَظُنُّونَ الِاسْتِسْلَامَ لِذَلِكَ وَمُوَافَقَتَهُ وَالرِّضَا بِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، دِينًا وَطَرِيقًا وَعِبَادَةً؛ فَيُضَاهُونَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] وَقَالُوا: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47] وَقَالُوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] . وَلَوْ هُدُوا لَعَلِمُوا أَنَّ الْقَدَرَ أَمَرَنَا أَنْ نَرْضَى بِهِ وَنَصْبِرَ عَلَى مُوجِبِهِ فِي الْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُنَا: كَالْفَقْرِ، وَالْمَرَضِ، وَالْخَوْفِ، قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ. وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «احْتَجَّ آدَم وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَم الَّذِي خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَك أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، فَلِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ آدَم: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي

اصْطَفَاك اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ، فَهَلْ وَجَدْت ذَلِكَ مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَحَجَّ آدَم مُوسَى» . وَآدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَحْتَجَّ عَلَى مُوسَى بِالْقَدَرِ ظَنًّا أَنَّ الْمُذْنِبَ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ، وَلَوْ كَانَ هَذَا عُذْرًا لَكَانَ عُذْرًا لَإِبْلِيسَ، وَقَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَكُلِّ كَافِرٍ، وَلَا مُوسَى لَامَ آدَمَ أَيْضًا لِأَجْلِ الذَّنْبِ. فَإِنَّ آدَمَ قَدْ تَابَ إلَى رَبِّهِ فَاجْتَبَاهُ وَهَدَى، وَلَكِنْ لَامَهُ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ بِالْخَطِيئَةِ. وَلِهَذَا قَالَ: فَلِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَأَجَابَهُ آدَم أَنَّ هَذَا كَانَ مَكْتُوبًا قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ، فَكَانَ الْعَمَلُ وَالْمُصِيبَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهِ مُقَدَّرًا، وَمَا قُدِّرَ مِنْ الْمَصَائِبِ يَجِبُ الِاسْتِسْلَامُ لَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الرِّضَا بِاَللَّهِ رَبًّا. وَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُذْنِبَ، وَإِذَا أَذْنَبَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ، فَيَتُوبُ مِنْ الْمَعَائِبِ وَيَصْبِرُ عَلَى الْمَصَائِبِ. قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] وَقَالَ: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186] وَقَالَ يُوسُفُ: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] . وَكَذَلِكَ ذُنُوبُ الْعِبَادِ، يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ فِيهَا أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ - بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ - وَيُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَيُوَالِيَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُعَادِيَ أَعْدَاءَ اللَّهِ وَيُحِبَّ فِي اللَّهِ وَيُبْغِضَ فِي اللَّهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] إلَى قَوْلِهِ:

{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] . وَقَالَ تَعَالَى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] إلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] . وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35] وَقَالَ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ - وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ - وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر: 19 - 21] {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [فاطر: 22] وَقَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا} [الزمر: 29] . وَقَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] إلَى قَوْلِهِ: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ - وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75 - 76] إلَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76] . وَقَالَ تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20]

وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِمَّا يُفَرِّقُ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَأَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَهْلِ الْبِرِّ، وَأَهْلِ الْفُجُورِ، وَأَهْلِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَأَهْلِ الْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَأَهْلِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ. فَمَنْ شَهِدَ " الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ " دُونَ " الدِّينِيَّةِ " سَوَّى بَيْنَ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهَا غَايَةَ التَّفْرِيقِ حَتَّى يَئُولَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يُسَوِّيَ اللَّهَ بِالْأَصْنَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الشعراء: 97] {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 98] بَلْ قَدْ آلَ الْأَمْرُ بِهَؤُلَاءِ إلَى أَنْ سَوَّوْا اللَّهَ بِكُلِّ مَوْجُودٍ، وَجَعَلُوا مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ حَقًّا لِكُلِّ مَوْجُودٍ إذْ جَعَلُوهُ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ بِرَبِّ الْعِبَادِ. وَهَؤُلَاءِ يَصِلُ بِهِمْ الْكُفْرُ إلَى أَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ عِبَادٌ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مُعْبِدُونَ، وَلَا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ عَابِدُونَ: إذْ يَشْهَدُونَ أَنَّ أَنْفُسَهُمْ هِيَ الْحَقُّ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ طَوَاغِيتُهُمْ: كَابْنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ " الْفُصُوصِ "، وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُلْحِدِينَ الْمُفْتَرِينَ: كَابْنِ سَبْعِينَ، وَأَمْثَالِهِ، وَيَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودُونَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشُهُودٍ لِحَقِيقَةٍ؛ لَا كَوْنِيَّةٍ وَلَا دِينِيَّةٍ؛ بَلْ هُوَ ضَلَالٌ، وَعَمًى عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، حَيْثُ جَعَلُوا وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ، وَجَعَلُوا كُلَّ وَصْفٍ مَذْمُومٍ وَمَمْدُوحٍ نَعْتًا لِلْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، إذْ وُجُودُ هَذَا هُوَ وُجُودُ هَذَا عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، عَوَامُّهُمْ وَخَوَاصُّهُمْ، الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ، وَخَاصَّتُهُ» . فَهَؤُلَاءِ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، وَخَالِقُهُ، وَأَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ، لَيْسَ هُوَ حَالًّا فِيهِ وَلَا مُتَّحِدًا بِهِ، وَلَا وُجُودُهُ وُجُودَهُ. وَالنَّصَارَى كَفَّرَهُمْ اللَّهُ بِأَنْ قَالُوا بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ بِالْمَسِيحِ خَاصَّةً، فَكَيْفَ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ عَامًّا فِي كُلِّ مَخْلُوقٍ؟ ،

وَيَعْلَمُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَمَعْصِيَةِ رَسُولِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَأَنَّ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يَعْبُدُوهُ فَيُطِيعُوا أَمْرَهُ، وَيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . وَمِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ - بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ - وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ. فَيَجْتَهِدُونَ فِي إقَامَةِ دِينِهِ، مُسْتَعِينِينَ بِهِ، دَافِعِينَ مُزِيلِينَ بِذَلِكَ مَا قُدِّرَ مِنْ السَّيِّئَاتِ، دَافِعِينَ بِذَلِكَ مَا قَدْ يُخَافُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا يُزِيلُ الْإِنْسَانُ الْجُوعَ الْحَاضِرَ بِالْأَكْلِ، وَيَدْفَعُ بِهِ الْجُوعَ الْمُسْتَقْبَلَ، وَكَذَلِكَ إذَا آنَ أَوَانُ الْبَرْدِ دَفَعَهُ بِاللِّبَاسِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَطْلُوبٍ يُدْفَعُ بِهِ مَكْرُوهٌ، كَمَا «قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْت أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا، وَرُقًى نَسْتَرْقِي بِهَا، وَتُقَاةً نَتَّقِي بِهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ» . وَفِي الْحَدِيثِ «إنَّ الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ لَيَلْتَقِيَانِ فَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» فَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَةِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ " الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ " وَهِيَ رُبُوبِيَّتُهُ تَعَالَى لِكُلِّ شَيْءٍ، وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ عَلَى مَرَاتِبَ فِي الضَّلَالِ. فَغُلَاتُهُمْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مُطْلَقًا عَامًّا، فَيَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ فِي كُلِّ مَا يُخَالِفُونَ فِيهِ الشَّرِيعَةَ. وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] وَقَالُوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] . وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ تَنَاقُضًا: بَلْ كُلُّ مَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ فَإِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقِرَّ كُلَّ آدَمِيٍّ عَلَى مَا فَعَلَ؛ فَلَا بُدَّ إذَا ظَلَمَهُ ظَالِمٌ أَوْ ظَلَمَ النَّاسَ ظَالِمٌ

وَسَعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَأَخَذَ يَسْفِكُ دِمَاءَ النَّاسِ وَيَسْتَحِلُّ الْفُرُوجَ وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ الَّتِي لَا قِوَامَ لِلنَّاسِ بِهَا أَنْ يَدْفَعَ هَذَا الْقَدَرَ؛ وَأَنْ يُعَاقِبَ الظَّالِمَ بِمَا يَكُفُّ عُدْوَانَ أَمْثَالِهِ. فَيُقَالُ لَهُ: إنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً فَدَعْ كُلَّ أَحَدٍ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ بِك وَبِغَيْرِك، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً بَطَلَ أَصْلُ قَوْلِك: حُجَّةٌ. وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ [الَّذِينَ] يَحْتَجُّونَ بِالْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ لَا يَطْرُدُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَلَا يَلْتَزِمُونَهُ، وَإِنَّمَا هُمْ بِحَسَبِ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ؛ كَمَا قَالَ فِيهِمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِي، وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِي؛ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْتَ بِهِ. وَمِنْهُمْ " صِنْفٌ " يَدَّعُونَ التَّحْقِيقَ وَالْمَعْرِفَةَ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَازِمٌ لِمَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ فِعْلًا وَأَثْبَتَ لَهُ صُنْعًا؛ أَمَّا مَنْ شَهِدَ أَنَّ أَفْعَالَهُ مَخْلُوقَةٌ؛ أَوْ أَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَى ذَلِكَ؛ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ. كَمَا تُحَرَّكُ سَائِرُ الْمُتَحَرِّكَاتِ، فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ. وَقَدْ يَقُولُونَ: مَنْ شَهِدَ " الْإِرَادَةَ " سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ، وَيَزْعُمُ أَحَدُهُمْ أَنَّ الْخَضِرَ سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ لِشُهُودِهِ الْإِرَادَةَ، فَهَؤُلَاءِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ الَّذِينَ شَهِدُوا الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ، فَشَهِدُوا أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ أَفْعَالَ الْعِبَادِ، وَأَنَّهُ يُدَبِّرُ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ، وَقَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ عِلْمًا وَبَيْنَ مَنْ يَرَاهُ شُهُودًا، فَلَا يُسْقِطُونَ التَّكْلِيفَ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِذَلِكَ وَيَعْلَمُهُ فَقَطْ، وَلَكِنْ عَمَّنْ يَشْهَدُهُ، فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ فِعْلًا أَصْلًا، وَهَؤُلَاءِ لَا يَجْعَلُونَ الْجَبْرَ وَإِثْبَاتَ الْقَدَرِ مَانِعًا مِنْ التَّكْلِيفِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا طَوَائِفُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالتَّوْحِيدِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ ضَاقَ نِطَاقُهُمْ عَنْ كَوْنِ الْعَبْدِ يُؤْمَرُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ خِلَافُهُ، كَمَا ضَاقَ نِطَاقُ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ الْمُعْتَزِلَةُ أَثْبَتَتْ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ الشَّرْعِيَّيْنِ دُونَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ الَّذِي هُوَ إرَادَةُ اللَّهِ الْعَامَّةُ وَخَلْقُهُ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ وَنَفَوْا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِي حَقِّ مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ، إذْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ نَفْيُ ذَلِكَ مُطْلَقًا. وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّلَفِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَحَدٌ، وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لِلْمَحْجُوبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ

الْكَوْنِيَّةَ، وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ مَنْ وَصَلَ إلَى شُهُودِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَصَارَ مِنْ الْخَاصَّةِ. وَرُبَّمَا تَأَوَّلُوا عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] وَجَعَلُوا الْيَقِينَ هُوَ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ كُفْرٌ صَرِيحٌ، وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كُفْرٌ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَازِمٌ لِكُلِّ عَبْدٍ مَا دَامَ عَقْلُهُ حَاضِرًا إلَى أَنْ يَمُوتَ، لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا بِشُهُودِهِ الْقَدَرَ، وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ عُرِّفَهُ، وَبُيِّنَ لَهُ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى اعْتِقَادِ سُقُوطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، وَقَدْ كَثُرَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ فِي الْمُسْتَأْخِرِينَ. وَأَمَّا الْمُسْتَقْدِمُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتُ مَعْرُوفَةً فِيهِمْ. وَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ هِيَ مُحَادَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمُعَادَاةٌ لَهُ، وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَمُشَاقَّةٌ لَهُ، وَتَكْذِيبٌ لِرُسُلِهِ؛ وَمُضَادَّةٌ لَهُ فِي حُكْمِهِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ قَدْ يَجْهَلُ ذَلِكَ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ هُوَ طَرِيقُ الرَّسُولِ، وَطَرِيقُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُحَقِّقِينَ؛ فَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهَا بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ، أَوْ أَنَّ الْخَمْرَ حَلَالٌ لَهُ لِكَوْنِهِ مِنْ الْخَوَاصِّ الَّذِينَ لَا يَضُرُّهُمْ شُرْبُ الْخَمْرِ؛ أَوْ أَنَّ الْفَاحِشَةَ حَلَالٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْبَحْرِ لَا تُكَدِّرُهُ الذُّنُوبُ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ يَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ الْبِدْعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرْعِ اللَّهِ؛ وَبَيْنَ الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ؛ فَهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ فِيهِمْ شَبَهٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، إمَّا أَنْ يَبْتَدِعُوا، وَإِمَّا أَنْ يَحْتَجُّوا بِالْقَدَرِ، وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُشْرِكِينَ: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] وَكَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] .

وَقَدْ ذَكَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الدِّينِ الَّذِي فِيهِ تَحْلِيلُ الْحَرَامِ، وَالْعِبَادَةُ الَّتِي لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ بِمِثْلٍ قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ} [الأنعام: 138] إلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27] إلَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28] إلَى قَوْلِهِ: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29] إلَى قَوْلِهِ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] إلَى قَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] . وَهَؤُلَاءِ قَدْ يُسَمُّونَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ " حَقِيقَةً "، كَمَا يُسَمُّونَ مَا يَشْهَدُونَ مِنْ الْقَدَرِ " حَقِيقَةً ". وَطَرِيقُ الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ هُوَ السُّلُوكُ الَّذِي لَا يَتَقَيَّدُ صَاحِبُهُ بِأَمْرِ الشَّارِعِ وَنَهْيِهِ، وَلَكِنْ بِمَا يَرَاهُ وَيَذُوقُهُ وَيَجِدُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ لَا يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ مُطْلَقًا، بَلْ عُمْدَتُهُمْ اتِّبَاعُ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَجَعْلُهُمْ لِمَا يَرَوْنَهُ وَيَهْوُونَهُ حَقِيقَةً، وَأَمْرُهُمْ بِاتِّبَاعِهَا دُونَ اتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، نَظِيرُ بِدَعِ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَقَائِقَ عَقْلِيَّةً يَجِبُ اعْتِقَادُهَا. دُونَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السَّمْعِيَّاتُ، ثُمَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إمَّا أَنْ يُحَرِّفُوهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَإِمَّا أَنْ يُعْرِضُوا عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا يَتَدَبَّرُونَهُ وَلَا يَعْقِلُونَهُ، بَلْ يَقُولُونَ: نُفَوِّضُ مَعْنَاهُ إلَى اللَّهِ، مَعَ اعْتِقَادِهِمْ نَقِيضَ مَدْلُولِهِ. وَإِذَا حُقِّقَ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَدْتَ جَهْلِيَّاتٍ وَاعْتِقَادَاتٍ فَاسِدَةً. وَكَذَلِكَ أُولَئِكَ إذَا حُقِّقَ عَلَيْهِمْ مَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ حَقَائِقِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَدْتَ مِنْ الْأَهْوَاءِ الَّتِي يَتَّبِعُهَا أَعْدَاءُ اللَّهِ لَا أَوْلِيَاؤُهُ. وَأَصْلُ ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ هُوَ بِتَقْدِيمِ قِيَاسِهِ عَلَى النَّصِّ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ،

وَاخْتِيَارِهِ الْهَوَى عَلَى اتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ الذَّوْقَ وَالْوَجْدَ وَنَحْوَ ذَلِكَ هُوَ بِحَسَبِ مَا يُحِبُّهُ الْعَبْدُ، فَكُلُّ مُحِبٍّ لَهُ ذَوْقٌ وَوَجْدٌ بِحَسَبِ مَحَبَّتِهِ، فَأَهْلُ الْإِيمَانِ لَهُمْ مِنْ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ مِثْلُ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا» . وَأَمَّا أَهْلُ الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ وَالشَّهَوَاتِ فَكُلٌّ بِحَسْبِهِ، قِيلَ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: مَا بَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لَهُمْ مَحَبَّةٌ شَدِيدَةٌ لِأَهْوَائِهِمْ؟ ، فَقَالَ: أَنَسِيتَ قَوْله تَعَالَى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93] أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ؟ ، فَعُبَّادُ الْأَصْنَامِ يُحِبُّونَ آلِهَتَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] وَقَالَ: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] . وَقَالَ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] وَلِهَذَا يَمِيلُ هَؤُلَاءِ إلَى سَمَاعِ الشِّعْرِ وَالْأَصْوَاتِ الَّتِي تُهَيِّجُ الْمَحَبَّةَ الْمُطَلَّقَةَ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ، بَلْ يَشْتَرِكُ فِيهَا مُحِبُّ الرَّحْمَنِ، وَمُحِبُّ الْأَوْثَانِ، وَمُحِبُّ الصُّلْبَانِ وَمُحِبُّ الْأَوْطَانِ، وَمُحِبُّ الْإِخْوَانِ، وَمُحِبُّ الْمُرْدَانِ، وَمُحِبُّ النِّسْوَانِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتْبَعُونَ أَذْوَاقَهُمْ وَمَوَاجِيدَهُمْ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ لِذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ. فَالْمُخَالِفُ لِمَا بُعِثَ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ لَا يَكُونُ مُتَّبِعًا

لِدِينٍ شَرَعَهُ اللَّهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية: 19] إلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19] . بَلْ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] وَهُمْ فِي ذَلِكَ تَارَةً يَكُونُونَ عَلَى بِدْعَةٍ يُسَمُّونَهَا حَقِيقَةً يُقَدِّمُونَهَا عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ، وَتَارَةً يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ الْكَوْنِيِّ عَلَى الشَّرِيعَةِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ هُمْ أَعْلَاهُمْ قَدْرًا وَهُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِالدِّينِ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ الْمَشْهُورَةِ، وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَشْهُورَةِ، لَكِنْ يَغْلَطُونَ فِي تَرْكِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ، ظَانِّينَ أَنَّ الْعَارِفَ إذَا شَهِدَ " الْقَدَرَ " أُعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ. مِثْلُ مَنْ يَجْعَلُ التَّوَكُّلَ مِنْهُمْ، أَوْ الدُّعَاءَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ عَلِمَ أَنَّ مَا قُدِّرَ سَيَكُونُ، فَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ، وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ. فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْأَشْيَاءَ بِأَسْبَابِهَا كَمَا قَدَّرَ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ بِأَسْبَابِهَا. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا خَلَقَهَا لَهُمْ وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ» . وَكَمَا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْمَقَادِيرَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ؟ فَقَالَ: لَا. اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ» . فَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ فَهُوَ عِبَادَةٌ وَالتَّوَكُّلُ مَقْرُونٌ بِالْعِبَادَةِ كَمَا فِي

قَوْله تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] وَفِي قَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30] . وَقَوْلِ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ قَدْ تَتْرُكُ الْمُسْتَحَبَّاتِ مِنْ الْأَعْمَالِ دُونَ الْوَاجِبَاتِ، فَتُنْقَصُ بِقَدْرِ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ يَغْتَرُّونَ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ خَرْقِ عَادَةٍ مِثْلِ مُكَاشَفَةٍ، أَوْ اسْتِجَابَةِ دَعْوَةٍ مُخَالِفَةٍ لِلْعَادَةِ الْعَامَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيَشْتَغِلُ أَحَدُهُمْ عَمَّا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالشُّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ الْأُمُورُ وَنَحْوُهَا كَثِيرًا مَا تَعْرِضُ لِأَهْلِ السُّلُوكِ وَالتَّوَجُّهِ؛ وَإِنَّمَا يَنْجُو الْعَبْدُ مِنْهَا بِمُلَازَمَةِ أَمْرِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ. كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا يَقُولُونَ: الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ. وَذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ - كَمَا قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثْلُ سَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ. وَالْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ وَالِاسْتِقَامَةُ وَلُزُومُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَقْصُودُهَا وَاحِدٌ وَلَهَا أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَلَا يُعْبَدَ إلَّا اللَّهُ. " وَالثَّانِي ": أَنْ يُعْبَدَ بِمَا أَمَرَ وَشَرَعَ، لَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ. قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] وَقَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} [النساء: 125] . فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الْإِحْسَانُ، وَهُوَ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ، " وَالْحَسَنَاتُ " هِيَ مَا أَحَبَّهُ

اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَهُوَ مَا أُمِرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ، فَمَا كَانَ مِنْ الْبِدَعِ فِي الدِّينِ الَّتِي لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهَا وَلَا رَسُولُهُ، فَلَا تَكُونُ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَلَا مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، كَمَا أَنَّ مَنْ يَعْمَلُ مَا لَا يَجُوزُ كَالْفَوَاحِشِ، وَالظُّلْمِ لَيْسَ مِنْ الْحَسَنَاتِ، وَلَا مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] وَقَوْلُهُ: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112] فَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا، وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2] قَالَ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ. قَالُوا: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ قَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ، حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا، وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ جَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ دَاخِلًا فِي اسْمِ الْعِبَادَةِ فَلِمَاذَا عَطَفَ عَلَيْهَا غَيْرَهَا؛ كَقَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وَقَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] وَقَوْلِ نُوحٍ: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح: 3] وَكَذَلِكَ قَوْلُ غَيْرِهِ مِنْ الرُّسُلِ، قِيلَ هَذَا لَهُ نَظَائِرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] وَالْفَحْشَاءُ مِنْ الْمُنْكَرِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] وَإِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى هُوَ مِنْ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، كَمَا أَنَّ الْفَحْشَاءَ وَالْبَغْيَ مِنْ الْمُنْكَرِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:

{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [الأعراف: 170] وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ مِنْ أَعْظَمِ التَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] وَدُعَاؤُهُمْ رَغَبًا وَرَهَبًا مِنْ الْخَيْرَاتِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَهَذَا الْبَابُ يَكُونُ تَارَةً مَعَ كَوْنِ أَحَدِهِمَا بَعْضَ الْآخَرِ، فَيُعْطَفُ عَلَيْهِ تَخْصِيصًا لَهُ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِ مَطْلُوبًا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ، وَالْمَعْنَى الْخَاصِّ، وَتَارَةً تَكُونُ دَلَالَةُ الِاسْمِ تَتَنَوَّعُ بِحَالِ الِانْفِرَادِ وَالِاقْتِرَانِ، فَإِذَا أَفْرَدَ عَمَّ، وَإِذَا قَرَنَ بِغَيْرِهِ خَصَّ، كَاسْمِ " الْفَقِيرِ " " وَالْمِسْكِينِ " لَمَّا أَفْرَدَ أَحَدَهُمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 273] وَقَوْلِهِ: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] دَخَلَ فِيهِ الْآخَرُ، وَلَمَّا قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] صَارَا نَوْعَيْنِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْخَاصَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْعَامِّ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَامِّ حَالَ الِاقْتِرَانِ؛ بَلْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ لَازِمًا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] . وَذِكْرُ الْخَاصِّ مَعَ الْعَامِّ يَكُونُ لِأَسْبَابٍ مُتَنَوِّعَةٍ: تَارَةً لِكَوْنِهِ لَهُ خَاصِّيَّةٌ لَيْسَتْ لِسَائِرِ أَفْرَادِ الْعَامِّ؛ كَمَا فِي نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى. وَتَارَةً لِكَوْنِ الْعَامِّ فِيهِ إطْلَاقٌ قَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْعُمُومُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة: 3 - 4] فَقَوْلُهُ: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] يَتَنَاوَلُ الْغَيْبَ الَّذِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ؛ لَكِنْ فِيهِ إجْمَالٌ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مِنْ الْغَيْبِ مَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك. وَقَدْ

يَكُونُ الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْمُخْبَرِ بِهِ وَهُوَ الْغَيْبُ، وَبِالْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ، وَهُوَ مَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ} [العنكبوت: 45] وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [الأعراف: 170] " وَتِلَاوَةُ الْكِتَابِ " هِيَ اتِّبَاعُهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة: 121] قَالَ: يُحَلِّلُونَ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ، وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ وَيَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ، فَاتِّبَاعُ الْكِتَابِ يَتَنَاوَلُ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا، لَكِنْ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِمَزِيَّتِهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُوسَى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ لِذِكْرِهِ مِنْ أَجَلِّ عِبَادَتِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] وَقَوْلُهُ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] وَقَوْلُهُ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ هِيَ أَيْضًا مِنْ تَمَامِ تَقْوَى اللَّهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] فَإِنَّ التَّوَكُّلَ وَالِاسْتِعَانَةَ هِيَ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ؛ لَكِنْ خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِيَقْصِدَهَا الْمُتَعَبِّدُ بِخُصُوصِهَا؛ فَإِنَّهَا هِيَ الْعَوْنُ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ إذْ هُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُعْبَدُ إلَّا بِمَعُونَتِهِ. إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَكَمَالُ الْمَخْلُوقِ فِي تَحْقِيقِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تَحْقِيقًا لِلْعُبُودِيَّةِ ازْدَادَ كَمَالُهُ وَعَلَتْ دَرَجَتُهُ، وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَخْرُجُ عَنْ الْعُبُودِيَّةِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، أَوْ أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْهَا أَكْمَلُ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ وَأَضَلِّهِمْ. قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] إلَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28] وَقَالَ

تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [مريم: 88] {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} [مريم: 89] إلَى قَوْلِهِ: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا - لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم: 93 - 94] {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95] . وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمَسِيحِ: {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] وَقَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 172] إلَى قَوْلِهِ: {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 173] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] إلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] . وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا فِيهِ وَصْفُ أَكَابِرِ الْمَخْلُوقَاتِ بِالْعِبَادَةِ وَذَمُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ مُتَعَدِّدٌ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَرْسَلَ جَمِيعَ الرُّسُلِ بِذَلِكَ. فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وَقَالَ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وَقَالَ تَعَالَى لِبَنِي

إسْرَائِيلَ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56] {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] وَقَالَ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 11] {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر: 12] {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الزمر: 13] {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: 14] {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15] . وَكُلُّ رَسُولٍ مِنْ الرُّسُلِ افْتَتَحَ دَعْوَتَهُ بِالدُّعَاءِ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ كَقَوْلِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون: 23] . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصِّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي» . وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ عِبَادَهُ هُمْ الَّذِينَ يَنْجُونَ مِنْ السَّيِّئَاتِ قَالَ الشَّيْطَانُ: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40] قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] وَقَالَ: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83] وَقَالَ فِي حَقِّ يُوسُفَ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] وَقَالَ: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ - إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 159 - 160] وَقَالَ: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99 - 100]

وَبِهَا نَعَتَ كُلَّ مَنْ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ كَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص: 45] {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46] {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} [ص: 47] وَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17] وَقَالَ عَنْ سُلَيْمَانَ: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] وَعَنْ أَيُّوبَ: {نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص: 30] وَقَالَ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [ص: 41] وَقَالَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3] وَقَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1] وَقَالَ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19] وَقَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] وَقَالَ: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] وَقَالَ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] وَقَالَ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ مُتَعَدِّدٌ فِي الْقُرْآنِ. فَصْلٌ إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ: فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْبَابَ يَتَفَاضَلُونَ فِيهِ تَفَاضُلًا عَظِيمًا. وَهُوَ تَفَاضُلُهُمْ فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ، وَهُمْ يَنْقَسِمُونَ فِيهِ إلَى: عَامٍّ، وَخَاصٍّ، وَلِهَذَا كَانَتْ

رُبُوبِيَّةُ الرَّبِّ لَهُمْ فِيهَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ» فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدَ الدِّينَارِ، وَعَبْدَ الْقَطِيفَةِ، وَعَبْدَ الْخَمِيصَةِ. وَذِكْرُ مَا فِيهِ دُعَاءٌ وَخَبَرٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ» وَالنَّقْشُ: إخْرَاجُ الشَّوْكَةِ مِنْ الرِّجْلِ، وَالْمِنْقَاشُ: مَا يُخْرَجُ بِهِ الشَّوْكَةُ، وَهَذِهِ حَالُ مَنْ إذَا أَصَابَهُ شَرٌّ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ، وَلَمْ يَفْلَحْ لِكَوْنِهِ تَعِسَ وَانْتَكَسَ. فَلَا نَالَ الْمَطْلُوبَ وَلَا خَلَصَ مِنْ الْمَكْرُوهِ، وَهَذِهِ حَالُ مَنْ عَبَدَ الْمَالَ، وَقَدْ وَصَفَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ «إذَا أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِذَا مُنِعَ سَخِطَ» كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] فَرِضَاهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَسُخْطُهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَهَكَذَا حَالُ مَنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِرِئَاسَةٍ أَوْ بِصُورَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَهْوَاءِ نَفْسِهِ إنْ حَصَلَ لَهُ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ سَخِطَ، فَهَذَا عَبْدُ مَا يَهْوَاهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ رَقِيقٌ لَهُ، إذْ الرِّقُّ وَالْعُبُودِيَّةُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ رِقُّ الْقَلْبِ وَعُبُودِيَّتُهُ، فَمَا اسْتَرَقَّ الْقَلْبَ وَاسْتَعْبَدَهُ فَهُوَ عَبْدُهُ. وَلِهَذَا يُقَالُ: الْعَبْدُ حُرٌّ مَا قَنَعَ ... وَالْحُرُّ عَبْدٌ مَا طَمَعَ وَقَالَ الْقَائِلُ: أَطَعْتُ مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتْنِي ... وَلَوْ أَنِّي قَنَعْت لَكُنْت حُرًّا وَيُقَالُ: الطَّمَعُ غُلٌّ فِي الْعُنُقِ قَيْدٌ فِي الرِّجْلِ، فَإِذَا زَالَ الْغُلُّ مِنْ الْعُنُقِ زَالَ الْقَيْدُ مِنْ الرِّجْلِ. وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الطَّمَعُ فَقْرٌ، وَالْيَأْسُ غِنًى، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا يَئِسَ مِنْ شَيْءٍ اسْتَغْنَى عَنْهُ. وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ الَّذِي يَيْأَسُ مِنْهُ لَا يَطْلُبُهُ وَلَا يَطْمَعُ بِهِ، وَلَا يَبْقَى قَلْبُهُ فَقِيرًا إلَيْهِ، وَلَا إلَى مَنْ يَفْعَلُهُ، وَأَمَّا إذَا طَمِعَ فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ وَرَجَاهُ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهِ، فَصَارَ فَقِيرًا إلَى حُصُولِهِ؛

وَإِلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ سَبَبٌ فِي حُصُولِهِ، وَهَذَا فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالصُّوَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ الْخَلِيلُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17] . فَالْعَبْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِزْقٍ، مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ، فَإِذَا طَلَبَ رِزْقَهُ مِنْ اللَّهِ صَارَ عَبْدًا لِلَّهِ، فَقِيرًا إلَيْهِ، وَإِنْ طَلَبَهُ مِنْ مَخْلُوقٍ صَارَ عَبْدًا لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ فَقِيرًا إلَيْهِ. وَلِهَذَا كَانَتْ " مَسْأَلَةُ الْمَخْلُوقِ " مُحَرَّمَةً فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ، وَفِي النَّهْيِ عَنْهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصِّحَاحِ، وَالسُّنَنِ، وَالْمَسَانِيدِ: كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ» وَقَوْلِهِ: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا أَوْ خُمُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ» وَقَوْلِهِ: «لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ دَمٍ مُوجِعٍ، أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ» هَذَا الْمَعْنَى فِي الصَّحِيحِ، وَفِيهِ أَيْضًا: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَذْهَبَ فَيَحْتَطِبَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» وَقَالَ: «مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَك» فَكُرِهَ أَخْذُهُ مِنْ سُؤَالِ اللِّسَانِ وَاسْتِشْرَافِ الْقَلْبِ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ؛ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ؛ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ»

وَأَوْصَى خَوَّاصٌ أَصْحَابِهِ أَنْ لَا يَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا. وَفِي الْمُسْنَدِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَسْقُطُ السَّوْطُ مِنْ يَدِهِ فَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ نَاوِلْنِي إيَّاهُ؛ وَيَقُولُ: خَلِيلِي أَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا ". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِ: عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّبِيَّ بَايَعَهُ فِي طَائِفَةٍ وَأَسَرَّ إلَيْهِمْ كَلِمَةً خَفِيَّةً: أَنْ لَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا، فَكَانَ بَعْضُ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ السَّوْطُ مِنْ يَدِ أَحَدِهِمْ، وَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ نَاوِلْنِي إيَّاهُ» وَقَدْ دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى الْأَمْرِ بِمَسْأَلَةِ الْخَالِقِ، وَالنَّهْيِ عَنْ مَسْأَلَةِ الْمَخْلُوقِ؛ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ عَبَّاسٍ: «إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ؛ وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ» وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَلِيلِ: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17] وَلَمْ يَقُلْ فَابْتَغُوا الرِّزْقَ عِنْدَ اللَّهِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الظَّرْفِ يُشْعِرُ بِالِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ؛ كَأَنَّهُ قَالَ لَا تَبْتَغُوا الرِّزْقَ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] وَالْإِنْسَانُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حُصُولِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الرِّزْقِ وَنَحْوِهِ؛ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ؛ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ شُرِعَ لَهُ أَنْ يَكُونَ دُعَاؤُهُ لِلَّهِ؛ فَلَهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ وَإِلَيْهِ يَشْتَكِي؛ كَمَا قَالَ يَعْقُوبُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] . وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ " الْهَجْرَ الْجَمِيلَ " " وَالصَّفْحَ الْجَمِيلَ " " وَالصَّبْرَ الْجَمِيلَ "

وَقَدْ قِيلَ: إنَّ " الْهَجْرَ الْجَمِيلَ " هُوَ هَجْرٌ بِلَا أَذًى، وَالصَّفْحَ الْجَمِيلَ صَفْحٌ بِلَا مُعَاتَبَةٍ. وَالصَّبْرَ الْجَمِيلَ صَبْرٌ بِغَيْرِ شَكْوَى إلَى الْمَخْلُوقِ؛ وَلِهَذَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي مَرَضِهِ أَنَّ طَاوُسًا كَانَ يَكْرَهُ أَنِينَ الْمَرِيضِ وَيَقُولُ: إنَّهُ شَكْوَى فَمَا أَنَّ أَحْمَدُ حَتَّى مَاتَ. وَأَمَّا الشَّكْوَى إلَى الْخَالِقِ فَلَا تَنَافِي الصَّبْرَ الْجَمِيلَ؛ فَإِنَّ يَعْقُوبَ قَالَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] وَقَالَ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِسُورَةِ (يُونُسَ) ، (وَيُوسُفَ) ، (وَالنَّحْلِ) فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي قِرَاءَتِهِ فَبَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ مِنْ آخِرِ الصُّفُوفِ. وَمِنْ دُعَاءِ مُوسَى: " اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ، وَإِلَيْك الْمُشْتَكَى، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ، وَبِكَ الْمُسْتَغَاثُ، وَعَلَيْك التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك ". وَفِي الدُّعَاءِ الَّذِي دَعَا بِهِ النَّبِيُّ لَمَّا فَعَلَ بِهِ أَهْلُ الطَّائِفِ مَا فَعَلُوا: «اللَّهُمَّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي؛ وَقِلَّةَ حِيلَتِي؛ وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ؛ أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي. اللَّهُمَّ إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْته أَمْرِي؛ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي؛ غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَك أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الَّذِي أَشْرَقَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ؛ وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُك؛ أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُك؛ لَك الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى؛ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك» - وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ - «وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك» . وَكُلَّمَا قَوِيَ طَمَعُ الْعَبْدِ فِي فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَرَجَائِهِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ وَدَفْعِ ضَرُورَتِهِ قَوِيَتْ عُبُودِيَّتُهُ لَهُ وَحُرِّيَّتُهُ مِمَّا سِوَاهُ؛ فَكَمَا أَنَّ طَمَعَهُ فِي الْمَخْلُوقِ يُوجِبُ عُبُودِيَّتَهُ لَهُ فَيَأْسُهُ مِنْهُ يُوجِبُ غِنَى قَلْبِهِ عَنْهُ. كَمَا قِيلَ: اسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْت تَكُنْ نَظِيرَهُ، وَافْضُلْ عَلَى مَنْ شِئْت تَكُنْ أَمِيرَهُ؛ وَاحْتَجْ إلَى مَنْ شِئْت تَكُنْ أَسِيرَهُ. فَكَذَلِكَ طَمَعُ الْعَبْدِ فِي رَبِّهِ وَرَجَاؤُهُ لَهُ يُوجِبُ عُبُودِيَّتَهُ لَهُ: وَإِعْرَاضُ قَلْبِهِ عَنْ

الطَّلَبِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ وَالرَّجَاءِ لَهُ يُوجِبُ انْصِرَافَ قَلْبِهِ عَنْ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ؛ لَا سِيَّمَا مَنْ كَانَ يَرْجُو الْمَخْلُوقَ وَلَا يَرْجُو الْخَالِقَ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ قَلْبُهُ مُعْتَمِدًا إمَّا عَلَى رِئَاسَتِهِ وَجُنُودِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَمَمَالِيكِهِ؛ وَإِمَّا عَلَى أَهْلِهِ وَأَصْدِقَائِهِ؛ وَإِمَّا عَلَى أَمْوَالِهِ وَذَخَائِرِهِ؛ وَإِمَّا عَلَى سَادَاتِهِ وَكُبَرَائِهِ؛ كَمَالِكِهِ وَمِلْكِهِ؛ وَشَيْخِهِ وَمَخْدُومِهِ وَغَيْرِهِمْ؛ مِمَّنْ هُوَ قَدْ مَاتَ أَوْ يَمُوتُ قَالَ تَعَالَى {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58] . وَكُلُّ مَنْ عَلَّقَ قَلْبَهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ أَنْ يَنْصُرُوهُ، أَوْ يَرْزُقُوهُ، أَوْ أَنْ يُهْدُوهُ خَضَعَ قَلْبُهُ لَهُمْ؛ وَصَارَ فِيهِ مِنْ الْعُبُودِيَّةِ لَهُمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ؛ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ أَمِيرًا لَهُمْ مُدَبِّرًا لَهُمْ مُتَصَرِّفًا بِهِمْ؛ فَالْعَاقِلُ يَنْظُرُ إلَى الْحَقَائِقِ لَا إلَى الظَّوَاهِرِ؛ فَالرَّجُلُ إذَا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِامْرَأَةٍ وَلَوْ كَانَتْ مُبَاحَةً لَهُ يَبْقَى قَلْبُهُ أَسِيرًا لَهَا تَحْكُمُ فِيهِ وَتَتَصَرَّفُ بِمَا تُرِيدُ؛ وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ سَيِّدُهَا لِأَنَّهُ زَوْجُهَا. وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ أَسِيرُهَا وَمَمْلُوكُهَا لَا سِيَّمَا إذَا دَرَتْ بِفَقْرِهِ إلَيْهَا، وَعِشْقِهِ لَهَا؛ وَأَنَّهُ لَا يَعْتَاضُ عَنْهَا بِغَيْرِهَا؛ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَحْكُمُ فِيهِ بِحُكْمِ السَّيِّدِ الْقَاهِرِ الظَّالِمِ فِي عَبْدِهِ الْمَقْهُورِ؛ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْخَلَاصَ مِنْهُ بَلْ أَعْظَمُ. فَإِنَّ أَسْرَ الْقَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ أَسْرِ الْبَدَنِ، وَاسْتِعْبَادَ الْقَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ اسْتِعْبَادِ الْبَدَنِ، فَإِنَّ مَنْ اسْتَعْبَدَ بَدَنَهُ وَاسْتَرَقَّ لَا يُبَالِي إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُسْتَرِيحًا مِنْ ذَلِكَ مُطْمَئِنًّا، بَلْ يُمْكِنُهُ الِاحْتِيَالُ فِي الْخَلَاصِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَلْبُ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ رَقِيقًا مُسْتَعْبَدًا مُتَيَّمًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَهَذَا هُوَ الذُّلُّ وَالْأَسْرُ الْمَحْضُ، وَالْعُبُودِيَّةُ لِمَا اسْتَعْبَدَ الْقَلْبُ. وَعُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ وَأَسْرُهُ هِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ أَسَرَهُ كَافِرٌ؛ أَوْ اسْتَرَقَّهُ فَاجِرٌ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ قَائِمًا بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ، وَمَنْ اسْتَعْبَدَ بِحَقٍّ إذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ لَهُ أَجْرَانِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِالْكُفْرِ فَتَكَلَّمَ بِهِ وَقَلْبُهُ مُطَمْئِنٌ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ وَأَمَّا مَنْ اسْتَعْبَدَ قَلْبَهُ فَصَارَ عَبْدًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَهَذَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مَلِكَ النَّاسِ. فَالْحُرِّيَّةُ حُرِّيَّةُ الْقَلْبِ، وَالْعُبُودِيَّةُ عُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ، كَمَا أَنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَإِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» .

وَهَذَا لَعَمْرِي إذَا كَانَ قَدْ اسْتَعْبَدَ قَلْبَهُ صُورَةٌ مُبَاحَةٌ، فَأَمَّا مَنْ اسْتَعْبَدَ قَلْبَهُ صُورَةٌ مُحَرَّمَةٌ: امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ، فَهَذَا هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي لَا يُدَانُ فِيهِ. وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ عَذَابًا وَأَقَلِّهِمْ ثَوَابًا، فَإِنَّ الْعَاشِقَ لِصُورَةٍ إذَا بَقِيَ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِهَا، مُسْتَعْبَدًا لَهُ اجْتَمَعَ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ مَا لَا يُحْصِهِ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ، وَلَوْ سَلِمَ مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى، فَدَوَامُ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِهَا بِلَا فِعْلِ الْفَاحِشَةِ أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَيْهِ، مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَنْبًا ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ وَيَزُولُ أَثَرُهُ مِنْ قَلْبِهِ، وَهَؤُلَاءِ يُشَبَّهُونَ بِالسُّكَارَى وَالْمَجَانِينِ. كَمَا قِيلَ: سَكْرَانِ: سُكْرُ هَوًى، وَسُكْرُ مُدَامَةٍ وَمَتَى إفَاقَةُ مَنْ بِهِ سَكْرَانِ، وَقِيلَ: قَالُوا جُنِنْت بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْت لَهُمْ ... الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ ... وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ هَذَا الْبَلَاءِ إعْرَاضُ الْقَلْبِ عَنْ اللَّهِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إذَا ذَاقَ طَعْمَ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ قَطُّ أَحْلَى مِنْ ذَلِكَ، وَلَا أَلَذُّ وَلَا أَطْيَبُ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَتْرُكُ مَحْبُوبًا إلَّا بِمَحْبُوبٍ آخَرَ يَكُونُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْهُ، أَوْ خَوْفًا مِنْ مَكْرُوهٍ، فَالْحُبُّ الْفَاسِدُ إنَّمَا يَنْصَرِفُ الْقَلْبُ عَنْهُ بِالْحُبِّ الصَّالِحِ؛ أَوْ بِالْخَوْفِ مِنْ الضَّرَرِ. قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يُوسُفَ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] ، فَاَللَّهُ يَصْرِفُ عَنْ عَبْدِهِ مَا يَسُوءُهُ مِنْ الْمَيْلِ إلَى الصُّوَرِ وَالتَّعَلُّقِ بِهَا، وَيَصْرِفُ عَنْهُ الْفَحْشَاءَ بِإِخْلَاصِهِ لِلَّهِ. وَلِهَذَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَذُوقَ حَلَاوَةَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَالْإِخْلَاصَ لَهُ تَغْلِبُهُ نَفْسُهُ عَلَى اتِّبَاعِ هَوَاهَا، فَإِذَا ذَاقَ طَعْمَ الْإِخْلَاصِ، وَقَوِيَ فِي قَلْبِهِ انْقَهَرَ لَهُ هَوَاهُ بِلَا عِلَاجٍ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] . فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا دَفْعٌ لِلْمَكْرُوهِ، وَهُوَ الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ، وَفِيهَا تَحْصِيلُ الْمَحْبُوبِ، وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ، وَحُصُولُ هَذَا الْمَحْبُوبِ أَكْبَرُ مِنْ دَفْعِ الْمَكْرُوهِ، فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ عِبَادَةٌ لِلَّهِ، وَعِبَادَةُ الْقَلْبِ لِلَّهِ

مَقْصُودَةٌ لِذَاتِهَا. وَأَمَّا انْدِفَاعُ الشَّرِّ عَنْهُ فَهُوَ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ وَالْقَلْبُ خَلْقٌ يُحِبُّ الْحَقَّ وَيُرِيدُهُ وَيَطْلُبُهُ. فَلَمَّا عَرَضَتْ لَهُ إرَادَةُ الشَّرِّ طَلَبَ دَفْعَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَفْسُدُ الْقَلْبُ كَمَا يَفْسُدُ الزَّرْعُ بِمَا يَنْبُتُ فِيهِ مِنْ الدَّغَلِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10] . وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] . وَقَالَ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: 21] فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ غَضَّ الْبَصَرِ، وَحِفْظَ الْفَرْجِ هُوَ أَزْكَى لِلنَّفْسِ. وَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَ الْفَوَاحِشِ مِنْ زَكَاةِ النُّفُوسِ، وَزَكَاةُ النُّفُوسِ تَتَضَمَّنُ زَوَالَ جَمِيعِ الشُّرُورِ مِنْ الْفَوَاحِشِ، وَالظُّلْمِ، وَالشِّرْكِ، وَالْكَذِبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ طَالِبُ الرِّئَاسَةِ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ قَلْبُهُ رَقِيقٌ لِمَنْ يُعِينُهُ عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُقَدَّمَهُمْ وَالْمُطَاعَ فِيهِمْ. فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ يَرْجُوهُمْ وَيَخَافُهُمْ، فَيَبْذُلُ لَهُمْ الْأَمْوَالَ وَالْوِلَايَاتِ، وَيَعْفُو عَنْهُمْ لِيُطِيعُوهُ، وَيُعِينُوهُ، فَهُوَ فِي الظَّاهِرِ رَئِيسٌ مُطَاعٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ عَبْدٌ مُطِيعٌ لَهُمْ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كِلَيْهِمَا فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِلْآخَرِ، وَكِلَاهُمَا تَارِكٌ لِحَقِيقَةِ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَإِذَا كَانَ تَعَاوُنُهُمَا عَلَى الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ كَانَا بِمَنْزِلَةِ الْمُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْفَاحِشَةِ أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّخْصَيْنِ لِهَوَاهُ الَّذِي اسْتَعْبَدَهُ وَاسْتَرَقَّهُ يَسْتَعْبِدُهُ الْآخَرُ. وَهَكَذَا أَيْضًا طَالِبُ الْمَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَعْبِدُهُ وَيَسْتَرِقُّهُ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ نَوْعَانِ: مِنْهَا: مَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَيْهِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ طَعَامِهِ، وَشَرَابِهِ، وَمَسْكَنِهِ، وَمُنْكَحِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَهَذَا يَطْلُبُهُ مِنْ اللَّهِ وَيَرْغَبُ إلَيْهِ فِيهِ، فَيَكُونُ الْمَالُ عِنْدَهُ يَسْتَعْمِلُهُ فِي حَاجَتِهِ بِمَنْزِلَةِ حِمَارِهِ الَّذِي يَرْكَبُهُ، وَبِسَاطِهِ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ؛ بَلْ بِمَنْزِلَةِ الْكَنِيفِ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ حَاجَتَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَعْبِدَهُ، فَيَكُونَ هَلُوعًا إنْ مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا؛ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا.

وَمِنْهَا: مَا لَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَيْهِ، فَهَذِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَلِّقَ قَلْبَهُ بِهَا؛ فَإِذَا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهَا صَارَ مُسْتَعْبَدًا لَهَا؛ وَرُبَّمَا صَارَ مُعْتَمِدًا عَلَى غَيْرِ اللَّهِ، فَلَا يَبْقَى مَعَهُ حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَلَا حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ؛ بَلْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَشُعْبَةٌ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ أَحَقِّ النَّاسِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ» وَهَذَا هُوَ عَبْدُ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَلَوْ طَلَبَهَا مِنْ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ إذَا أَعْطَاهُ إيَّاهَا رَضِيَ؛ وَإِذَا مَنَعَهُ إيَّاهَا سَخِطَ، وَإِنَّمَا عَبْدُ اللَّهِ مَنْ يُرْضِيهِ مَا يُرْضِي اللَّهَ؛ وَيُسْخِطُهُ مَا يُسْخِطُ اللَّهَ؛ وَيُحِبُّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيَبْغُضُ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُعَادِي أَعْدَاءَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ: فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ» وَقَالَ: «أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ: الْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ» . وَفِي الصَّحِيحِ: عَنْهُ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» ، فَهَذَا وَافَقَ رَبَّهُ فِيمَا يُحِبُّهُ، وَمَا يَكْرَهُهُ فَكَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَحَبُّ الْمَخْلُوقِ لِلَّهِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ، فَكَانَ هَذَا مِنْ تَمَامِ حُبِّهِ لِلَّهِ، فَإِنَّ مَحَبَّةَ مَحْبُوبِ الْمَحْبُوبِ مِنْ تَمَامِ مَحَبَّةِ الْمَحْبُوبِ؛ فَإِذَا أَحَبَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وَأَوْلِيَاءَ اللَّهِ لِأَجْلِ قِيَامِهِمْ بِمَحْبُوبَاتِ الْحَقِّ لَا لِشَيْءٍ آخَرَ، فَقَدْ أَحَبَّهُمْ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] .

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فَإِنَّ الرَّسُولَ يَأْمُرُ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ وَيَنْهَى عَمَّا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيَفْعَلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيُخْبِرُ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ التَّصْدِيقَ بِهِ؛ فَمَنْ كَانَ مُحِبًّا لِلَّهِ لَزِمَ أَنْ يَتْبَعَ الرَّسُولَ فَيُصَدِّقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَيُطِيعُهُ فِيمَا أَمَرَ وَيَتَأَسَّى بِهِ فِيمَا فَعَلَ، وَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ فَعَلَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ؛ فَيُحِبُّهُ اللَّهُ؛ فَجَعَلَ اللَّهُ لِأَهْلِ مَحَبَّتِهِ عَلَامَتَيْنِ: اتِّبَاعَ الرَّسُولِ؛ وَالْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِهَادَ حَقِيقَتُهُ الِاجْتِهَادُ فِي حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ وَمِنْ دَفْعِ مَا يَبْغُضُهُ اللَّهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} [التوبة: 24] إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] فَتَوَعَّدَ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ بِهَذَا الْوَعِيدِ. بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّهُ قَالَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» . وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ «عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاَللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي: فَقَالَ: لَا يَا عُمَرُ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْك مِنْ نَفْسِك فَقَالَ: فَوَاَللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ: الْآنَ يَا عُمَرُ» . فَحَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِمُوَالَاةِ الْمَحْبُوبِ، وَهُوَ مُوَافَقَتُهُ فِي حُبِّ مَا يُحِبُّ، وَبُغْضِ مَا يَبْغُضُ، وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى، وَيَبْغُضُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحُبَّ يُحَرِّكُ إرَادَةَ الْقَلْبِ، فَكُلَّمَا قَوِيَتْ الْمَحَبَّةُ فِي الْقَلْبِ طَلَب الْقَلْبُ فِعْلَ الْمَحْبُوبَاتِ، فَإِذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ تَامَّةً اسْتَلْزَمَتْ إرَادَةً جَازِمَةً فِي حُصُولِ الْمَحْبُوبَاتِ، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَادِرًا عَلَيْهَا حَصَّلَهَا، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهَا فَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ الْفَاعِلِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ

الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا؛ وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا» . وَقَالَ: «إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ. قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ» . " وَالْجِهَادُ " هُوَ بَذْلُ الْوُسْعِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ فِي حُصُولِ مَحْبُوبِ الْحَقِّ وَدَفْعِ مَا يَكْرَهُهُ الْحَقُّ، فَإِذَا تَرَكَ الْعَبْدُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْجِهَادِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى ضَعْفِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي قَلْبِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَحْبُوبَاتِ لَا تُنَالُ غَالِبًا إلَّا بِاحْتِمَالِ الْمَكْرُوهَاتِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَحَبَّةً صَالِحَةً أَوْ فَاسِدَةً، فَالْمُحِبُّونَ لِلْمَالِ وَالرِّئَاسَةِ وَالصُّوَرِ لَا يَنَالُونَ مَطَالِبَهُمْ إلَّا بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُمْ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ الضَّرَرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَالْمُحِبُّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ مَا يَرَى ذُو الرَّأْيِ مِنْ الْمُحِبِّينَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِمَّا يَحْتَمِلُونَ فِي حُصُولِ مَحْبُوبِهِمْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ إذَا كَانَ مَا يَسْلُكُهُ أُولَئِكَ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يُشِيرُ بِهِ الْعَقْلُ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] . نَعَمْ، قَدْ يَسْلُكُ الْمُحِبُّ لِضَعْفِ عَقْلِهِ وَفَسَادِ تَصَوُّرِهِ طَرِيقًا لَا يَحْصُلُ بِهَا الْمَطْلُوبُ، فَمِثْلُ هَذِهِ الطَّرِيقِ لَا تُحْمَدُ إذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ صَالِحَةً مَحْمُودَةً، فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ فَاسِدَةً وَالطَّرِيقُ غَيْرَ مُوَصِّلٍ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَهَوِّرُونَ فِي طَلَبِ الْمَالِ، وَالرِّئَاسَةِ وَالصُّوَرِ فِي حُبِّ أُمُورٍ تُوجِبُ لَهُمْ ضَرَرًا، وَلَا تُحَصِّلُ لَهُمْ مَطْلُوبًا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الطُّرُقُ الَّتِي يَسْلُكُهَا الْعَقْلُ لِحُصُولِ مَطْلُوبِهِ. وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْقَلْبُ حُبًّا لِلَّهِ ازْدَادَ لَهُ عُبُودِيَّةً، وَكُلَّمَا ازْدَادَ لَهُ عُبُودِيَّةً ازْدَادَ لَهُ حُبًّا وَحُرِّيَّةً عَمَّا سِوَاهُ، وَالْقَلْبُ فَقِيرٌ بِالذَّاتِ إلَى اللَّهِ مِنْ " وَجْهَيْنِ ": مِنْ جِهَةِ الْعِبَادَةِ وَهِيَ الْعِلَّةُ الْغَائِبَةُ وَمِنْ جِهَةِ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ، وَهِيَ الْعِلَّةُ الْفَاعِلِيَّةُ. فَالْقَلْبُ لَا يَصْلُحُ وَلَا يَفْلَحُ، وَلَا يَلْتَذُّ، وَلَا يُسَرُّ، وَلَا يَطِيبُ، وَلَا يَسْكُنُ، وَلَا يَطْمَئِنُّ إلَّا

بِعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَحُبِّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ، وَلَوْ حَصَلَ لَهُ كُلُّ مَا يَلْتَذُّ بِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ يَطْمَئِنَّ، وَلَمْ يَسْكُنْ، إذْ فِيهِ فَقْرٌ ذَاتِيٌّ إلَى رَبِّهِ، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْبُودُهُ، وَمَحْبُوبُهُ، وَمَطْلُوبُهُ وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ الْفَرَحُ، وَالسُّرُورُ، وَاللَّذَّةُ، وَالنِّعْمَةُ، وَالسُّكُونُ، وَالطُّمَأْنِينَةُ. وَهَذَا لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُ، لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ لَهُ إلَّا اللَّهُ، فَهُوَ دَائِمًا مُفْتَقِرٌ إلَى حَقِيقَةِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فَإِنَّهُ لَوْ أُعِينَ عَلَى حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ وَيَطْلُبُهُ وَيَشْتَهِيهِ يُرِيدُهُ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ عِبَادَتُهُ لِلَّهِ بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ غَايَةَ مُرَادِهِ وَنِهَايَةَ مَقْصُودِهِ وَهُوَ الْمَحْبُوبُ لَهُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ إنَّمَا يُحِبُّهُ لِأَجْلِهِ لَا يُحِبُّ شَيْئًا لِذَاتِهِ إلَّا اللَّهَ، فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ حَقَّقَ حَقِيقَةَ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَلَا حَقَّقَ التَّوْحِيدَ، وَالْعُبُودِيَّةَ، وَالْمَحَبَّةَ، وَكَانَ فِيهِ مِنْ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ، بَلْ مِنْ الْأَلَمِ، وَالْحَسْرَةِ، وَالْعَذَابِ، بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَلَوْ سَعَى فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ، مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ، مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِي حُصُولِهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ، فَإِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى اللَّهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْمَطْلُوبُ الْمَحْبُوبُ الْمُرَادُ الْمَعْبُودُ. وَمِنْ حَيْثُ هُوَ الْمَسْئُولُ الْمُسْتَعَانُ بِهِ الْمُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، فَهُوَ إلَهُهُ لَا إلَهَ لَهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ رَبُّهُ لَا رَبَّ لَهُ سِوَاهُ. وَلَا تَتِمُّ عُبُودِيَّتُهُ لِلَّهِ إلَّا بِهَذَيْنِ " فَمَتَى كَانَ يُحِبُّ غَيْرَ اللَّهِ لِذَاتِهِ أَوْ يَلْتَفِتُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ أَنَّهُ يُعِينُهُ كَانَ عَبْدًا لِمَا أَحَبَّهُ، وَعَبْدًا لِمَا رَجَاهُ بِحَسَبِ حُبِّهِ لَهُ وَرَجَائِهِ إيَّاهُ. وَإِذَا لَمْ يُحِبَّ لِذَاتِهِ إلَّا اللَّهَ، وَكُلَّمَا أَحَبَّ سِوَاهُ فَإِنَّمَا أَحَبَّهُ لَهُ، وَلَمْ يَرْجُ قَطُّ شَيْئًا إلَّا اللَّهَ وَإِذَا فَعَلَ مَا فَعَلَ مِنْ الْأَسْبَابِ، أَوْ حَصَّلَ مَا حَصَّلَ مِنْهَا كَانَ مُشَاهِدًا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَهَا وَقَدَّرَهَا وَأَنَّ كُلَّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَاَللَّهُ رَبُّهُ، وَمَلِيكُهُ، وَخَالِقُهُ، وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ، كَانَ قَدْ حَصَلَ لَهُ مِنْ تَمَامِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ بِحَسَبِ مَا قُسِمَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَالنَّاسُ فِي هَذَا عَلَى دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ لَا يُحْصِي طَرَفَيْهَا إلَّا اللَّهُ. فَأَكْمَلُ الْخَلْقِ، وَأَفْضَلُهُمْ، وَأَعْلَاهُمْ، وَأَقْرَبُهُمْ إلَى اللَّهِ، وَأَقْوَاهُمْ، وَأَهْدَاهُمْ: أَتَمُّهُمْ عُبُودِيَّةً لِلَّهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، وَهُوَ أَنْ

يَسْتَسْلِمَ الْعَبْدُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، فَالْمُسْتَسْلِمُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مُشْرِكٌ، وَالْمُمْتَنِعُ عَنْ الِاسْتِسْلَامِ لَهُ مُسْتَكْبِرٌ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ كَمَا أَنَّ النَّارَ لَا يَدْخُلُهَا مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ» فَجَعَلَ الْكِبْرَ مُقَابِلًا لِلْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْكِبْرَ يُنَافِي حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ: الْعَظَمَةُ إزَارِي وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْته» فَالْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْكِبْرِيَاءُ أَعْلَى مِنْ الْعَظَمَةِ؛ وَلِهَذَا جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الرِّدَاءِ، كَمَا جَعَلَ الْعَظَمَةَ بِمَنْزِلَةِ الْإِزَارِ. وَلِهَذَا كَانَ شِعَارُ الصَّلَوَاتِ، وَالْأَذَانِ، وَالْأَعْيَادِ هُوَ: التَّكْبِيرُ، وَكَانَ مُسْتَحَبًّا فِي الْأَمْكِنَةِ الْعَالِيَةِ كَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِذَا عَلَا الْإِنْسَانُ شُرَفًا أَوْ رَكِبَ دَابَّةً وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَبِهِ يُطْفَأُ الْحَرِيقُ وَإِنْ عَظُمَ، وَعِنْدَ الْأَذَانِ يَهْرُبُ الشَّيْطَانُ. قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] . وَكُلُّ مَنْ اسْتَكْبَرَ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ لَا بُدَّ أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَهُ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ حَسَّاسٌ يَتَحَرَّكُ بِالْإِرَادَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ» فَالْحَارِثُ الْكَاسِبُ الْفَاعِلُ، وَالْهَمَّامُ فَعَّالٌ مِنْ الْهَمِّ، وَالْهَمُّ أَوَّلُ الْإِرَادَةِ، فَالْإِنْسَانُ لَهُ إرَادَةٌ دَائِمًا، وَكُلُّ إرَادَةٍ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُرَادٍ تَنْتَهِي إلَيْهِ، فَلَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ مُرَادٍ مَحْبُوبٍ هُوَ مُنْتَهَى حُبِّهِ وَإِرَادَتِهِ. فَمَنْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ مَعْبُودَهُ وَمُنْتَهَى حُبِّهِ وَإِرَادَتِهِ بَلْ اسْتَكْبَرَ عَنْ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُرَادٌ مَحْبُوبٌ يَسْتَعْبِدُهُ غَيْرُ اللَّهِ، فَيَكُونُ عَبْدًا لِذَلِكَ الْمُرَادِ الْمَحْبُوبِ: إمَّا الْمَالُ، وَإِمَّا الْجَاهُ، وَإِمَّا الصُّوَرُ، وَإِمَّا مَا يَتَّخِذُهُ إلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ: كَالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالْكَوَاكِبِ، وَالْأَوْثَانِ، وَقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالصَّالِحِينَ، أَوْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ، الَّذِينَ يَتَّخِذُهُمْ أَرْبَابًا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عَبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَإِذَا كَانَ عَبْدًا لِغَيْرِ اللَّهِ يَكُونُ مُشْرِكًا، وَكُلُّ مُسْتَكْبِرٍ فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَلِهَذَا كَانَ

فِرْعَوْنُ مِنْ أَعْظَمِ الْخَلْقِ اسْتِكْبَارًا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَكَانَ مُشْرِكًا. قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ - إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر: 23 - 24] إلَى قَوْلِهِ: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر: 27] إلَى قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} [العنكبوت: 39] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4] وَقَالَ: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14] ، وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَقَدْ وُصِفَ فِرْعَوْنُ بِالشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127] . بَلْ الِاسْتِقْرَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَعْظَمَ اسْتِكْبَارًا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ كَانَ أَعْظَمَ إشْرَاكًا بِاَللَّهِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ ازْدَادَ فَقْرُهُ وَحَاجَتُهُ إلَى الْمُرَادِ الْمَحْبُوبِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ: مَقْصُودُ الْقَلْبِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ مُشْرِكًا بِمَا اسْتَعْبَدَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَنْ يَسْتَغْنِيَ الْقَلْبُ عَنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ مَوْلَاهُ الَّذِي لَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَسْتَعِينُ إلَّا بِهِ، وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ، وَلَا يَفْرَحُ إلَّا بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَلَا يَكْرَهُ إلَّا مَا يَبْغُضُهُ الرَّبُّ وَيَكْرَهُهُ، وَلَا يُوَالِي إلَّا مَنْ وَالَاهُ اللَّهُ، وَلَا يُعَادِي إلَّا مَنْ عَادَاهُ اللَّهُ، وَلَا يُحِبُّ إلَّا لِلَّهِ، وَلَا يَبْغُضُ شَيْئًا إلَّا لِلَّهِ، وَلَا يُعْطِي إلَّا لِلَّهِ، وَلَا يَمْنَعُ إلَّا لِلَّهِ، فَكُلَّمَا قَوِيَ إخْلَاصُ دِينِهِ لِلَّهِ كَمُلَتْ عُبُودِيَّتُهُ وَاسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ، وَبِكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ يُبْرِئُهُ مِنْ الْكِبْرِ وَالشِّرْكِ،

وَالشِّرْكُ غَالِبٌ عَلَى النَّصَارَى، وَالْكِبْرُ غَالِبٌ عَلَى الْيَهُودِ. قَالَ تَعَالَى فِي النَّصَارَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] وَقَالَ فِي الْيَهُودِ: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87] . وَقَالَ تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا} [الأعراف: 146] . وَلَمَّا كَانَ الْكِبْرُ مُسْتَلْزِمًا لِلشِّرْكِ، وَالشِّرْكُ ضِدُّ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الذَّنْبُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ - قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] وَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا} [النساء: 116]- كَانَ الْأَنْبِيَاءُ جَمِيعُهُمْ مَبْعُوثِينَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ الدِّينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ غَيْرَهُ، لَا مِنْ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنْ الْآخِرِينَ. قَالَ نُوحٌ: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72] وَقَالَ فِي حَقِّ إبْرَاهِيمَ: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130] {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131] إلَى قَوْلِهِ: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] . وَقَالَ يُوسُفُ: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] وَقَالَ مُوسَى: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ - فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [يونس: 84 - 85] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44]

وَقَالَتْ بِلْقِيسُ {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] وَقَالَ: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] وَقَالَ {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران: 19] وَقَالَ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] . وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] فَذَكَرَ إسْلَامَ الْكَائِنَاتِ طَوْعًا وَكَرْهًا، لِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ جَمِيعَهَا مُتَعَبِّدَةٌ لَهُ التَّعَبُّدَ الْعَامَّ، سَوَاءٌ أَقَرَّ الْمُقِرُّ بِذَلِكَ أَوْ أَنْكَرَهُ، وَهُمْ مَدِينُونَ مُدَبَّرُونَ، فَهُمْ مُسْلِمُونَ لَهُ طَوْعًا وَكَرْهًا. لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ خُرُوجٌ عَمَّا شَاءَهُ وَقَدَّرَهُ وَقَضَاهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ، وَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَمَلِيكُهُمْ يُصَرِّفُهُمْ كَيْفَ يَشَاءُ، وَهُوَ خَالِقُهُمْ كُلِّهِمْ وَبَارِئُهُمْ وَمُصَوِّرُهُمْ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مَرْبُوبٌ، مَصْنُوعٌ، مَفْطُورٌ، فَقِيرٌ، مُحْتَاجٌ، مُعَبَّدٌ، مَقْهُورٌ، وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَلَقَ مَا خَلَقَ بِأَسْبَابٍ، فَهُوَ خَالِقُ السَّبَبِ وَالْمُقَدِّرُ لَهُ، وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ كَافْتِقَارِ هَذَا، وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ بِفِعْلٍ وَلَا دَفْعِ ضَرَرٍ بَلْ كُلُّ مَا هُوَ سَبَبٌ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى سَبَبٍ آخَرَ يُعَاوِنُهُ وَإِلَى مَا يَدْفَعُ عَنْهُ الضِّدَّ الَّذِي يُعَارِضُهُ وَيُمَانِعُهُ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ يُعَاوِنُهُ وَلَا ضِدٌّ يُنَاوِئُهُ وَيُعَارِضُهُ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38]

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17] وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْخَلِيلِ: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78] {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} [الأنعام: 79 - 80] إلَى قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّنَا لَمْ يُلْبِسْ إيمَانَهُ بِظُلْمٍ، فَقَالَ: إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] » . وَإِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ إمَامُ الْحُنَفَاءِ الْمُخْلَصِينَ حَيْثُ بُعِثَ وَقَدْ طَبَّقَ الْأَرْضَ دِينُ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] فَبَيَّنَ أَنَّ عَهْدَهُ بِالْإِمَامَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الظَّالِمَ، فَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ الظَّالِمُ إمَامًا، وَأَعْظَمُ الظُّلْمِ الشِّرْكُ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120] . " وَالْأُمَّةُ " هُوَ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ، كَمَا أَنَّ " الْقُدْوَةَ " الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، وَإِنَّمَا بَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَهُ بِمِلَّتِهِ قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123]

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] . وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [البقرة: 135 - 136]- إلَى قَوْلِهِ - {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ إبْرَاهِيمَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» فَهُوَ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ النَّبِيِّ وَهُوَ خَلِيلُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا» وَقَالَ: «لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ» - يَعْنِي نَفْسَهُ - وَقَالَ «لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا سُدَّتْ إلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ» . وَقَالَ: «إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» وَكُلُّ هَذَا فِي الصَّحِيحِ. وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ: ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَيَّامٍ، وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ رِسَالَتِهِ. فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَحْقِيقَ تَمَامِ مُخَالَلَتِهِ لِلَّهِ الَّتِي أَصْلُهَا مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ، وَمَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ خِلَافًا لِلْجَهْمِيَّةِ. وَفِي ذَلِكَ تَحْقِيقُ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَأَنْ لَا يَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ، وَرَدٌّ عَلَى أَشْبَاهِ الْمُشْرِكِينَ. وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يَبْخَسُونَ الصِّدِّيقَ حَقَّهُ، وَهُمْ أَعْظَمُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْقِبْلَةِ إشْرَاكًا بِالْبَشَرِ.

" وَالْخُلَّةُ " هِيَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ مِنْ الْعَبْدِ كَمَالَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، وَمِنْ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ كَمَالَ الرُّبُوبِيَّةِ لِعِبَادِهِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، وَلَفْظُ الْعُبُودِيَّةِ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الذُّلِّ، وَكَمَالَ الْحُبِّ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: قَلْبٌ مُتَيَّمٌ إذَا كَانَ مُتَعَبِّدًا لِلْمَحْبُوبِ، وَالْمُتَيَّمُ الْمُتَعَبِّدُ، وَتَيَّمَ اللَّهُ عَبَدَهُ، وَهَذَا عَلَى الْكَمَالِ حَصَلَ لِإِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلٌ؛ إذْ الْخُلَّةُ لَا تَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ فَإِنَّهُ كَمَا قِيلَ فِي الْمَعْنَى. قَدْ تَخَلَّلَتْ مَسْلَكُ الرُّوحِ مِنِّي وَبِذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا بِخِلَافِ أَصْلِ الْحُبِّ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «فِي الْحَسَنِ وَأُسَامَةَ: اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا» «وَسَأَلَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلَيْك؟ قَالَ: عَائِشَةُ قَالَ: فَمِنْ الرِّجَالِ؟ قَالَ: أَبُوهَا وَقَالَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، وَيُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَيُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، وَيُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ، وَقَالَ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] فَقَدْ أَخْبَرَ بِمَحَبَّتِهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ، حَتَّى قَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] ، وَأَمَّا الْخُلَّةُ فَخَاصَّةٌ. وَقَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ: إنَّ مُحَمَّدًا حَبِيبُ اللَّهِ. وَإِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ، وَظَنُّهُ أَنَّ الْمَحَبَّةَ فَوْقَ الْخُلَّةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا أَيْضًا خَلِيلُ اللَّهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ. وَمَا يُرْوَى " أَنَّ الْعَبَّاسَ يُحْشَرُ بَيْنَ حَبِيبٍ وَخَلِيلٍ " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، فَأَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ لَا تَصْلُحُ أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى مَحَبَّةَ مَا أَحَبَّ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ

النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْحَلَاوَةِ بِالشَّيْءِ يَتْبَعُ الْمَحَبَّةَ لَهُ، فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَوْ اشْتَهَاهُ إذَا حَصَلَ لَهُ مُرَادُهُ، فَإِنَّهُ يَجِدُ الْحَلَاوَةَ وَاللَّذَّةَ وَالسُّرُورَ بِذَلِكَ، وَاللَّذَّةُ أَمْرٌ يَحْصُلُ عَقِيبَ إدْرَاكِ الْمُلَائِمِ الَّذِي هُوَ الْمَحْبُوبُ أَوْ الْمُشْتَهِي. وَمَنْ قَالَ إنَّ اللَّذَّةَ إدْرَاكُ الْمُلَائِمِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْأَطِبَّاءِ، فَقَدْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ غَلَطًا مُبِينًا؛ فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ يَتَوَسَّطُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَاللَّذَّةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَثَلًا يَشْتَهِي الطَّعَامَ فَإِذَا أَكَلَهُ حَصَلَ لَهُ عَقِيبَ ذَلِكَ اللَّذَّةُ، فَاللَّذَّةُ تَتْبَعُ النَّظَرَ إلَى الشَّيْءِ، فَإِذَا نَظَرَ إلَيْهِ الْتَذَّ، فَاللَّذَّةُ تَتْبَعُ النَّظَرَ لَيْسَ نَفْسَ النَّظَرِ، وَلَيْسَتْ هِيَ رُؤْيَةَ الشَّيْءِ؛ بَلْ تَحْصُلُ عَقِيبَ رُؤْيَتِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] وَهَكَذَا جَمِيعُ مَا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ مِنْ اللَّذَّاتِ، وَالْآلَامِ مِنْ فَرَحٍ وَحُزْنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِالشُّعُورِ بِالْمَحْبُوبِ، أَوْ الشُّعُورِ بِالْمَكْرُوهِ، وَلَيْسَ نَفْسُ الشُّعُورِ هُوَ الْفَرَحُ وَلَا الْحُزْنُ. فَحَلَاوَةُ الْإِيمَانِ الْمُتَضَمَّنَةِ مِنْ اللَّذَّةِ بِهِ وَالْفَرَحِ مَا يَجِدُهُ الْمُؤْمِنُ الْوَاجِدُ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ تَتْبَعُ كَمَالَ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِلَّهِ، وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ تَكْمِيلُ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ، وَتَفْرِيعُهَا، وَدَفْعُ ضِدِّهَا. " فَتَكْمِيلُهَا " أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُكْتَفَى فِيهَا بِأَصْلِ الْحُبِّ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ. " وَتَفْرِيعُهَا " أَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ. " وَدَفْعُ ضِدِّهَا " أَنْ يَكْرَهَ ضِدَّ الْإِيمَانِ أَعْظَمَ مِنْ كَرَاهَتِهِ الْإِلْقَاءَ فِي النَّارِ، فَإِذَا كَانَتْ مَحَبَّةُ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُحِبُّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ النَّاسِ مَحَبَّةً لِلَّهِ، وَأَحَقُّهُمْ بِأَنْ يُحِبَّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ،

وَيَبْغُضَ مَا يَبْغُضُهُ اللَّهُ، " وَالْخُلَّةُ " لَيْسَ لِغَيْرِ اللَّهِ فِيهَا نَصِيبٌ، بَلْ قَالَ: «لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا» عُلِمَ مَزِيدُ مَرْتَبَةِ الْخُلَّةِ عَلَى مُطْلَقِ الْمَحَبَّةِ. وَالْمَقْصُودُ هُوَ أَنَّ " الْخُلَّةَ " " وَالْمَحَبَّةَ لِلَّهِ " تَحْقِيقُ عُبُودِيَّتِهِ؛ وَإِنَّمَا يَغْلَطُ مَنْ يَغْلَطُ فِي هَذِهِ مِنْ حَيْثُ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ مُجَرَّدُ ذُلٍّ وَخُضُوعٍ فَقَطْ، لَا مَحَبَّةَ مَعَهُ، أَوْ أَنَّ الْمَحَبَّةَ فِيهَا انْبِسَاطٌ فِي الْأَهْوَاءِ، أَوْ إذْلَالٌ لَا تَحْتَمِلُهُ الرُّبُوبِيَّةُ؛ وَلِهَذَا يُذْكَرُ عَنْ " ذِي النُّونِ " أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا عِنْدَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَحَبَّةِ، فَقَالَ: أَمْسِكُوا عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا تَسْمَعُهَا النُّفُوسُ فَتَدَّعِيهَا. وَكَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ مُجَالَسَةَ أَقْوَامٍ يُكْثِرُونَ الْكَلَامَ فِي الْمَحَبَّةِ بِلَا خَشْيَةٍ؛ وَقَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ وَحْدَهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ، وَمَنْ عَبَدَهُ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ فَهُوَ مُرْجِئٌ، وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْخَوْفِ وَحْدَهُ فَهُوَ حَرُورِيٌّ، وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُوَحِّدٌ. وَلِهَذَا وُجِدَ فِي الْمُسْتَأْخِرِينَ مَنْ انْبَسَطَ فِي دَعْوَى الْمَحَبَّةِ حَتَّى أَخْرَجَهُ ذَلِكَ إلَى نَوْعٍ مِنْ الرُّعُونَةِ، وَالدَّعْوَى الَّتِي تُنَافِي الْعُبُودِيَّةَ وَتُدْخِلُ الْعَبْدَ فِي نَوْعٍ مِنْ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ؛ وَيَدَّعِي أَحَدُهُمْ دَعَاوَى تَتَجَاوَزُ حُدُودَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، أَوْ يَطْلُبُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لَا يَصْلُحُ - بِكُلِّ وَجْهٍ - إلَّا لِلَّهِ لَا يَصْلُحُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ. وَهَذَا بَابٌ وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الشُّيُوخِ وَسَبَبُهُ ضَعْفُ تَحْقِيقِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَتْهَا الرُّسُلُ وَحَرَّرَهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الَّذِي جَاءُوا بِهِ، بَلْ ضَعْفُ الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ يَعْرِفُ الْعَبْدُ حَقِيقَتَهُ؛ وَإِذَا ضَعُفَ الْعَقْلُ وَقَلَّ الْعِلْمُ بِالدِّينِ وَفِي النَّفْسِ مَحَبَّةٌ انْبَسَطَتْ النَّفْسُ بِحُمْقِهَا فِي ذَلِكَ، كَمَا يَنْبَسِطُ الْإِنْسَانُ فِي مَحَبَّةِ الْإِنْسَانِ مَعَ حُمْقِهِ وَجَهْلِهِ، وَيَقُولُ: أَنَا مُحِبٌّ فَلَا أُؤَاخَذُ بِمَا أَفْعَلُهُ مِنْ أَنْوَاعٍ يَكُونُ فِيهَا عُذْرٌ أَوْ جَهْلٌ. فَهَذَا عَيْنُ الضَّلَالِ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 18] فَإِنَّ تَعْذِيبَهُ لَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَيْرُ مَحْبُوبِينَ وَلَا مَنْسُوبِينَ إلَيْهِ بِنِسْبَةِ الْبُنُوَّةِ، بَلْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مَرْبُوبُونَ مَخْلُوقُونَ.

فَمَنْ كَانَ اللَّهُ يُحِبُّهُ اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا يُحِبُّهُ مَحْبُوبُهُ، لَا يَفْعَلُ مَا يَبْغُضُهُ الْحَقُّ، وَيَسْخَطُهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَمَنْ فَعَلَ الْكَبَائِرَ، وَأَصَرَّ عَلَيْهَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْغُضُ مِنْهُ ذَلِكَ؛ كَمَا يُحِبُّ مِنْهُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْخَيْرِ؛ إذْ حُبُّهُ لِلْعَبْدِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الذُّنُوبَ لَا تَضُرُّهُ لِكَوْنِ اللَّهِ يُحِبُّهُ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَيْهَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَنَاوُلَ السُّمِّ لَا يَضُرُّهُ مَعَ مُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهِ، وَعَدَمِ تَدَاوِيهِ مِنْهُ بِصِحَّةِ مِزَاجِهِ. وَلَوْ تَدَبَّرَ الْأَحْمَقُ مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَصَصِ أَنْبِيَائِهِ؛ وَمَا جَرَى لَهُمْ مِنْ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ؛ وَمَا أُصِيبُوا بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ الَّذِي فِيهِ تَمْحِيصٌ لَهُمْ وَتَطْهِيرٌ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ؛ عَلِمَ بَعْضَ ضَرَرِ الذُّنُوبِ بِأَصْحَابِهَا وَلَوْ كَانَ أَرْفَعَ النَّاسِ مَقَامًا، فَإِنَّ الْمُحِبَّ لِلْمَخْلُوقِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِمَصْلَحَتِهِ وَلَا مُرِيدًا لَهَا؛ بَلْ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَى الْحُبِّ - وَإِنْ كَانَ جَهْلًا وَظُلْمًا - أَنَّ ذَلِكَ سَبَبًا لِبُغْضِ الْمَحْبُوبِ لَهُ وَنُفُورِهِ عَنْهُ؛ بَلْ لِعُقُوبَتِهِ. وَكَثِيرٌ مِنْ السَّالِكِينَ سَلَكُوا فِي دَعْوَى حُبِّ اللَّهِ أَنْوَاعًا مِنْ أُمُورِ الْجَهْلِ بِالدِّينِ؛ إمَّا مِنْ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ؛ وَإِمَّا مِنْ تَضْيِيعِ حُقُوقِ اللَّهِ، وَإِمَّا مِنْ ادِّعَاءِ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَيُّ مُرِيدٍ لِي تَرَكَ فِي النَّارِ أَحَدًا فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ؛ فَقَالَ الْآخَرُ: أَيُّ مُرِيدٍ لِي تَرَكَ أَحَدًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُ النَّارَ فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ. فَالْأَوَّلُ جَعَلَ مُرِيدَهُ يُخْرِجُ كُلَّ مَنْ فِي النَّارِ؛ وَالثَّانِي جَعَلَ مُرِيدَهُ يَمْنَعُ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنْ دُخُولِ النَّارِ. وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: إذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَصَبْت خَيْمَتِي عَلَى جَهَنَّمَ حَتَّى لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُؤْثَرُ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الْمَشْهُورِينَ؛ وَهِيَ إمَّا كَذِبٌ عَلَيْهِمْ، وَإِمَّا غَلَطٌ مِنْهُمْ؛ وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَصْدُرُ فِي حَالِ سُكْرٍ وَغَلَبَةٍ وَفَنَاءٍ يَسْقُطُ فِيهَا تَمْيِيزُ الْإِنْسَانِ؛ أَوْ يَضْعُفُ حَتَّى لَا يَدْرِي مَا قَالَ، " وَالسُّكْرُ " هُوَ لَذَّةٌ مَعَ عَدَمِ تَمْيِيزٍ وَلِهَذَا كَانَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ مَنْ إذَا صَحَا اسْتَغْفَرَ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ. وَاَلَّذِينَ تَوَسَّعُوا مِنْ الشُّيُوخِ فِي سَمَاعِ الْقَصَائِدِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْحُبِّ، وَالشَّوْقِ، وَاللَّوْمِ، وَالْعَذْلِ، وَالْغَرَامِ كَانَ هَذَا أَصْلَ مَقْصِدِهِمْ؛ وَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ لِلْمَحَبَّةِ مِحْنَةً يَمْتَحِنُ بِهَا الْمُحِبَّ فَقَالَ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فَلَا

يَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ إلَّا مَنْ يَتَّبِعُ رَسُولَهُ، وَطَاعَةُ الرَّسُولِ وَمُتَابَعَتُهُ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ. وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعِي الْمَحَبَّةَ يَخْرُجُ عَنْ شَرِيعَتِهِ وَسُنَّتِهِ، وَيَدَّعِي مِنْ الْخَيَالَاتِ مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ، حَتَّى قَدْ يَظُنُّ أَحَدُهُمْ سُقُوطَ الْأَمْرِ وَتَحْلِيلَ الْحَرَامِ لَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مُخَالَفَةُ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ وَسُنَّتِهِ، وَطَاعَتِهِ، بَلْ قَدْ جَعَلَ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَمَحَبَّةَ رَسُولِهِ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ. " وَالْجِهَادُ " يَتَضَمَّنُ كَمَالَ مَحَبَّةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَكَمَالَ بُغْضِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ فِي صِفَةِ مَنْ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المائدة: 54] . وَلِهَذَا كَانَتْ مَحَبَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِلَّهِ أَكْمَلَ مِنْ مَحَبَّةِ مَنْ قَبْلَهَا، وَعُبُودِيَّتُهُمْ لِلَّهِ أَكْمَلَ مِنْ عُبُودِيَّةِ مَنْ قَبْلَهُمْ. وَأَكْمَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ كَانَ بِهِمْ أَشْبَهَ كَانَ ذَلِكَ فِيهِ أَكْمَلَ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَدَّعُونَ الْمَحَبَّةَ؟ ،. [وَفِي] كَلَامِ بَعْضِ الشُّيُوخِ: الْمَحَبَّةُ نَارٌ تُحَرِّقُ فِي الْقَلْبِ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ. وَأَرَادُوا أَنَّ الْكَوْنَ كُلَّهُ قَدْ أَرَادَ اللَّهُ وُجُودَهُ، فَظَنُّوا أَنَّ كَمَالَ الْمَحَبَّةِ أَنْ يُحِبَّ الْعَبْدُ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُحِبَّ كُلَّ مَوْجُودٍ بَلْ يُحِبُّ مَا يُلَائِمُهُ وَيَنْفَعُهُ وَيَبْغُضُ مَا يُنَافِيهِ وَيَضُرُّهُ، وَلَكِنْ اسْتَفَادُوا بِهَذَا الضَّلَالِ اتِّبَاعَ أَهْوَائِهِمْ، فَهُمْ يُحِبُّونَ مَا يَهْوَوْنَهُ كَالصُّوَرِ وَالرِّئَاسَةِ وَفُضُولِ الْمَالِ، وَالْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ، زَاعِمِينَ أَنَّ هَذَا مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَمِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ بُغْضُ مَا يَبْغُضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَجِهَادُ أَهْلِهِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ. وَأَصْلُ ضَلَالِهِمْ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ الَّذِي قَالَ: " إنَّ الْمَحَبَّةَ نَارٌ تُحَرِّقُ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ " قَصَدَ بِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى الْإِرَادَةَ الدِّينِيَّةَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: تُحَرِّقُ مِنْ الْقَلْبِ مَا سِوَى الْمَحْبُوبِ لِلَّهِ، وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ. فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ الْحُبِّ أَنْ لَا يُحِبَّ إلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْت مَا لَا يُحِبُّ كَانَتْ الْمَحَبَّةُ نَاقِصَةً، وَأَمَّا قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ فَهُوَ يَبْغُضُهُ، وَيَكْرَهُهُ، وَيَسْخَطُهُ، وَيَنْهَى عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ أُوَافِقْهُ فِي بُغْضِهِ وَكَرَاهَتِهِ وَسُخْطِهِ لَمْ أَكُنْ مُحِبًّا لَهُ، بَلْ مُحِبًّا لِمَا يَبْغُضُهُ. فَاتِّبَاعُ الشَّرِيعَةِ، وَالْقِيَامُ بِالْجِهَادِ مِنْ أَعْظَمِ الْفُرُوقِ بَيْنَ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ،

وَبَيْنَ مَنْ يَدَّعِي مَحَبَّةَ اللَّهِ نَاظِرًا إلَى عُمُومِ رُبُوبِيَّتِهِ، أَوْ مُتَّبِعًا لِبَعْضِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرِيعَتِهِ، فَإِنَّ دَعْوَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ مِنْ جِنْسِ دَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْمَحَبَّةَ لِلَّهِ، بَلْ قَدْ تَكُونُ دَعْوَى هَؤُلَاءِ شَرًّا مِنْ دَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِمَا فِيهِمْ مِنْ النِّفَاقِ الَّذِينَ هُمْ بِهِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ، كَمَا قَدْ تَكُونُ دَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى شَرٌّ مِنْ دَعْوَاهُمْ إذَا لَمْ يَصِلُوا إلَى مِثْلِ كُفْرِهِمْ، وَفِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ مَا هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهِ، حَتَّى إنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَعْظَمُ وَصَايَا النَّامُوسِ. فَفِي الْإِنْجِيلِ أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ: " أَعْظَمُ وَصَايَا الْمَسِيحِ أَنْ تُحِبَّ اللَّهَ بِكُلِّ قَلْبِك وَعَقْلِك وَنَفْسِك "، وَالنَّصَارَى يَدَّعُونَ قِيَامَهُمْ بِهَذِهِ الْمَحَبَّةِ، وَأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ هُوَ مِنْ ذَلِكَ، وَهُمْ بَرَاءٌ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ إذْ لَمْ يَتَّبِعُوا مَا أَحَبَّهُ، بَلْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ، وَاَللَّهُ يَبْغُضُ الْكَافِرِينَ وَيَمْقُتُهُمْ، وَيَلْعَنُهُمْ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهُ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُحِبًّا لِلَّهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُحِبٍّ لَهُ، بَلْ بِقَدْرِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ يَكُونُ حُبُّ اللَّهِ لَهُ؛ وَإِنْ كَانَ جَزَاءُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ أَعْظَمَ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعَا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً» . وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، وَالْمُحْسِنِينَ وَالصَّابِرِينَ، وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، بَلْ هُوَ يُحِبُّ مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ» الْحَدِيثَ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُخْطِئِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَشْيَاخًا فِي " الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ " وَقَعُوا فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ فِيهِ النَّصَارَى: مِنْ دَعْوَى الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ مَعَ مُخَالَفَةِ شَرِيعَتِهِ، وَتَرْكِ الْمُجَاهَدَةِ فِي سَبِيلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَتَمَسَّكُونَ فِي الدِّينِ الَّذِي يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إلَى اللَّهِ بِنَحْوِ مَا تَمَسَّكَ بِهِ النَّصَارَى مِنْ الْكَلَامِ الْمُتَشَابِهِ، وَالْحِكَايَاتِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ صِدْقُ قَائِلِهَا، وَلَوْ صَدَقَ لَمْ يَكُنْ قَائِلُهَا مَعْصُومًا، فَيَجْعَلُونَ مَتْبُوعِيهِمْ شَارِعِينَ لَهُمْ دِينًا، كَمَا جَعَلَ النَّصَارَى قِسِّيسِيهِمْ

وَرُهْبَانَهُمْ شَارِعِينَ لَهُمْ دِينًا، ثُمَّ إنَّهُمْ يَنْتَقِصُونَ الْعُبُودِيَّةَ وَيَدَّعُونَ أَنَّ الْخَاصَّةَ يَتَعَدَّوْنَهَا كَمَا يَدَّعِي النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ، وَيُثْبِتُونَ لِلْخَاصَّةِ مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِي اللَّهِ مِنْ جِنْسِ مَا تُثْبِتُهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ إلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ يَطُولُ شَرْحُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنَّمَا دِينُ الْحَقِّ هُوَ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ بِكُلِّ وَجْهٍ، وَهُوَ تَحْقِيقُ مَحَبَّةِ اللَّهِ بِكُلِّ دَرَجَةٍ وَبِقَدْرِ تَكْمِيلِ الْعُبُودِيَّةِ تَكْمُلُ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، وَتَكْمُلُ مَحَبَّةُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ، وَبِقَدْرِ نَقْصِ هَذَا يَكُونُ نَقْصُ هَذَا؛ وَكُلَّمَا كَانَ فِي الْقَلْبِ حُبٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ كَانَتْ فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَكُلَّمَا كَانَ فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ كَانَ فِيهِ حُبٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَكُلُّ مَحَبَّةٍ لَا تَكُونُ لِلَّهِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ، وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ. فَالدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ، وَلَا يَكُونُ لِلَّهِ إلَّا مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَهُوَ الْمَشْرُوعُ. فَكُلُّ عَمَلٍ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ، وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُوَافِقُ شَرْعَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ، بَلْ لَا يَكُونُ لِلَّهِ إلَّا مَا جَمَعَ الْوَصْفَيْنِ: أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ. كَمَا قَالَ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] . فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» . وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ، وَبِحَسَبِ تَحْقِيقِهِ يَكُونُ تَحْقِيقُ الدِّينِ وَبِهِ أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَإِلَيْهِ دَعَا الرَّسُولُ، وَعَلَيْهِ جَاهَدَ؛ وَبِهِ أَمَرَ، وَفِيهِ رَغِبَ؛ وَهُوَ قُطْبُ الدِّينِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ رَحَاهُ.

وَالشِّرْكُ غَالِبٌ عَلَى النُّفُوسِ، وَهُوَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. «وَهُوَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. كَيْفَ نَنْجُو مِنْهُ، وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ: أَلَا أُعَلِّمُك كَلِمَةً إذَا قُلْتَهَا نَجَوْتَ مِنْ دِقِّهِ وَجِلِّهِ؟ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أُشْرِكَ بِك وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُك لِمَا لَا أَعْلَمُ» . وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا، وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا، وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا. وَكَثِيرًا مَا يُخَالِطُ النُّفُوسَ مِنْ الشَّهَوَاتِ الْخَفِيَّةِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهَا تَحْقِيقَ مَحَبَّتِهَا لِلَّهِ وَعُبُودِيَّتَهَا لَهُ، وَإِخْلَاصَ دِينِهَا لَهُ. كَمَا قَالَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ: يَا بَقَايَا الْعَرَبِ إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّيَاءُ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ. قِيلَ لِأَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ: وَمَا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ؟ قَالَ: حُبُّ الرِّئَاسَةِ، وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي زَرِيبَةِ غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْحِرْصَ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي فَسَادِ الدِّينِ لَا يَنْقُصُ عَنْ فَسَادِ الذِّئْبَيْنِ الْجَائِعَيْنِ لِزَرِيبَةِ الْغَنَمِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ؛ فَإِنَّ الدِّينَ السَّلِيمَ لَا يَكُونُ فِيهِ هَذَا الْحِرْصُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا ذَاقَ حَلَاوَةَ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُقَدِّمَهُ عَلَيْهِ، وَبِذَلِكَ يُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ السُّوءُ وَالْفَحْشَاءُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] . فَإِنَّ الْمُخْلِصَ لِلَّهِ ذَاقَ مِنْ حَلَاوَةِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ لِغَيْرِهِ، وَمِنْ حَلَاوَةِ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ مَا يَمْنَعُهُ عَنْ مَحَبَّةِ غَيْرِهِ، إذْ لَيْسَ عِنْدَ الْقَلْبِ لَا أَحْلَى وَلَا أَلَذُّ وَلَا أَطْيَبُ وَلَا أَلْيَنُ وَلَا أَنْعَمُ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ الْمُتَضَمِّنِ عُبُودِيَّتَهُ لِلَّهِ، وَمَحَبَّتَهُ لَهُ، وَإِخْلَاصَهُ الدِّينَ لَهُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي انْجِذَابَ الْقَلْبِ إلَى اللَّهِ فَيَصِيرُ الْقَلْبُ مُنِيبًا إلَى اللَّهِ خَائِفًا مِنْهُ رَاغِبًا رَاهِبًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33] .

إذْ الْمُحِبُّ يَخَافُ مِنْ زَوَالِ مَطْلُوبِهِ وَحُصُولِ مَرْغُوبِهِ، فَلَا يَكُونُ عَبْدًا لِلَّهِ وَمُحِبَّهُ إلَّا بَيْنَ خَوْفٍ وَرَجَاءٍ؛ قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] . وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُخْلِصًا لَهُ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَيُحْيِي قَلْبَهُ، وَاجْتَذَبَهُ إلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ مِنْ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ، وَيَخَافُ مِنْ حُصُولِ ضِدِّ ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ الْقَلْبِ الَّذِي لَمْ يُخْلِصْ لِلَّهِ، فَإِنَّهُ فِي طَلَبٍ وَإِرَادَةٍ وَحُبٍّ مُطْلَقٍ، فَيَهْوَى مَا يَسْنَحُ لَهُ وَيَتَشَبَّثُ بِمَا يَهْوَاهُ، كَالْغُصْنِ أَيُّ نَسِيمٍ مَرَّ بِعِطْفِهِ أَمَالَهُ فَتَارَةً تَجْتَذِبُهُ الصُّوَرُ الْمُحَرَّمَةُ وَغَيْرُ الْمُحَرَّمَةِ؛ فَيَبْقَى أَسِيرًا عَبْدًا لِمَنْ لَوْ اتَّخَذَهُ هُوَ عَبْدًا لَهُ لَكَانَ ذَلِكَ عَيْبًا وَنَقْصًا وَذَمًّا. وَتَارَةً يَجْتَذِبُهُ الشَّرَفُ وَالرِّئَاسَةُ، فَتُرْضِيهِ الْكَلِمَةُ وَتُغْضِبُهُ الْكَلِمَةُ وَيَسْتَعْبِدُهُ مَنْ يُثْنِي عَلَيْهِ وَلَوْ بِالْبَاطِلِ، وَيُعَادِي مَنْ يَذُمُّهُ وَلَوْ بِالْحَقِّ. وَتَارَةً يَسْتَعْبِدُهُمْ الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَسْتَعْبِدُ الْقُلُوبَ، وَالْقُلُوبُ تَهْوَاهَا فَيَتَّخِذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَيَتَّبِعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ خَالِصًا لِلَّهِ عَبْدًا لَهُ قَدْ صَارَ قَلْبُهُ مُعْبِدًا لِرَبِّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، بِحَيْثُ يَكُونُ اللَّهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَيَكُونُ ذَلِيلًا لَهُ خَاضِعًا وَإِلَّا اسْتَعْبَدَتْهُ الْكَائِنَاتُ، وَاسْتَوْلَتْ عَلَى قَلْبِهِ الشَّيَاطِينُ، وَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ، وَصَارَ فِيهِ مِنْ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ، وَهَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا حِيلَةَ فِيهِ؛ فَالْقَلْبُ إنْ لَمْ يَكُنْ حَنِيفًا مُقْبِلًا عَلَى اللَّهِ مُعْرِضًا عَمَّا سِوَاهُ وَإِلَّا كَانَ مُشْرِكًا. قَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] إلَى قَوْلِهِ: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] . وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إبْرَاهِيمَ وَآلَ إبْرَاهِيمَ أَئِمَّةً لِهَؤُلَاءِ الْحُنَفَاءِ الْمُخْلَصِينَ أَهْلِ

مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ؛ كَمَا جَعَلَ فِرْعَوْنَ وَآلَ فِرْعَوْنَ أَئِمَّةَ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَّبِعِينَ أَهْوَاءَهُمْ. قَالَ تَعَالَى فِي إبْرَاهِيمَ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} [الأنبياء: 72] {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73] . وَقَالَ فِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} [القصص: 41] {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 42] . وَلِهَذَا يَصِيرُ أَتْبَاعُ فِرْعَوْنَ أَوَّلًا إلَى أَنْ لَا يُمَيِّزُوا بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ. وَبَيْنَ مَا قَدَّرَ اللَّهُ وَقَضَاهُ؛ بَلْ يَنْظُرُونَ إلَى الْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ الشَّامِلَةِ. ثُمَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، بَلْ يَجْعَلُونَ وُجُودَ هَذَا وُجُودَ هَذَا، وَيَقُولُ مُحَقِّقُوهُمْ الشَّرِيعَةُ فِيهَا طَاعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ. وَالْحَقِيقَةُ فِيهَا مَعْصِيَةٌ بِلَا طَاعَةٍ؛ وَالتَّحْقِيقُ لَيْسَ فِيهِ طَاعَةٌ وَلَا مَعْصِيَةٌ، وَهَذَا تَحْقِيقُ مَذْهَبِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْخَالِقَ وَأَنْكَرُوا تَكْلِيمَهُ لِعَبْدِهِ مُوسَى وَمَا أَرْسَلَهُ بِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ وَآلُ إبْرَاهِيمَ الْحُنَفَاءُ وَالْأَنْبِيَاءُ فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ. وَأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا ازْدَادَ تَحْقِيقًا ازْدَادَتْ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ وَعُبُودِيَّتُهُ لَهُ وَطَاعَتُهُ لَهُ وَإِعْرَاضُهُ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَمَحَبَّةِ غَيْرِهِ وَطَاعَةِ غَيْرِهِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الضَّالُّونَ يُسَوُّونَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ. وَالْخَلِيلُ يَقُولُ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} [الشعراء: 75] {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} [الشعراء: 76] {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77] وَيَتَمَسَّكُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ كَلَامِ الْمَشَايِخِ كَمَا فَعَلَتْ النَّصَارَى. مِثَالُ ذَلِكَ اسْمُ " الْفَنَاءِ " فَإِنَّ " الْفَنَاءَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ ": نَوْعٌ لِلْكَامِلِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ؛ وَنَوْعٌ لِلْقَاصِدِينَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ وَنَوْعٌ لِلْمُنَافِقِينَ الْمُلْحِدِينَ الْمُشَبِّهِينَ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ " الْفَنَاءُ عَنْ إرَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ " بِحَيْثُ لَا يُحِبُّ إلَّا اللَّهَ. وَلَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ، وَلَا يَطْلُبُ غَيْرَهُ؛ وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقْصَدَ بِقَوْلِ

الشَّيْخِ أَبِي يَزِيدَ حَيْثُ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ لَا أُرِيدَ إلَّا مَا يُرِيدُ. أَيْ الْمُرَادُ الْمَحْبُوبُ الْمَرْضِيُّ؛ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ وَكَمَالُ الْعَبْدِ أَنْ لَا يُرِيدَ وَلَا يُحِبَّ وَلَا يَرْضَى إلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَرَضِيَهُ وَأَحَبَّهُ، وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ؛ وَلَا يُحِبُّ إلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] ، قَالُوا: هُوَ السَّلِيمُ مِمَّا سِوَى اللَّهِ، أَوْ مِمَّا سِوَى عِبَادَةِ اللَّهِ، أَوْ مِمَّا سِوَى إرَادَةِ اللَّهِ، أَوْ مِمَّا سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهَذَا الْمَعْنَى إنْ سُمِّيَ فَنَاءً أَوْ لَمْ يُسَمَّ هُوَ أَوَّلُ الْإِسْلَامِ وَآخِرُهُ. وَبَاطِنُ الدِّينِ وَظَاهِرُهُ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَهُوَ " الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى ". وَهَذَا يَحْصُلُ لِكَثِيرٍ مِنْ السَّالِكِينَ، فَإِنَّهُمْ لِفَرْطِ انْجِذَابِ قُلُوبِهِمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَضَعْفِ قُلُوبِهِمْ عَنْ أَنْ تَشْهَدَ غَيْرَ مَا تَعْبُدُ وَتَرَى غَيْرَ مَا تَقْصِدُ؛ لَا يَخْطِرُ بِقُلُوبِهِمْ غَيْرُ اللَّهِ؛ بَلْ وَلَا يَشْعُرُونَ؛ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص: 10] قَالُوا: فَارِغًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى. وَهَذَا كَثِيرٌ يَعْرِضُ لِمَنْ فَقَمَهُ أَمْرٌ مِنْ الْأُمُورِ إمَّا حُبٌّ وَإِمَّا خَوْفٌ. وَإِمَّا رَجَاءٌ يَبْقَى قَلْبُهُ مُنْصَرِفًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا عَمَّا قَدْ أَحَبَّهُ أَوْ خَافَهُ أَوْ طَلَبَهُ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ عِنْدَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي ذَلِكَ لَا يَشْعُرُ بِغَيْرِهِ. فَإِذَا قَوِيَ عَلَى صَاحِبِ الْفَنَاءِ هَذَا فَإِنَّهُ يَغِيبُ بِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ، وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ، وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ، وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، حَتَّى يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمُعْبَدَةُ مِمَّنْ سِوَاهُ، وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزُلْ وَهُوَ الرَّبُّ تَعَالَى. وَالْمُرَادُ فَنَاؤُهَا فِي شُهُودِ الْعَبْدِ وَذِكْرِهِ، وَفَنَاؤُهُ عَنْ أَنْ يُدْرِكَهَا أَوْ يَشْهَدَهَا. وَإِذَا قَوِيَ هَذَا ضَعُفَ الْمُحِبُّ حَتَّى اضْطَرَبَ فِي تَمْيِيزِهِ فَقَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ مَحْبُوبُهُ، كَمَا يُذْكَرُ: أَنَّ رَجُلًا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْيَمِّ فَأَلْقَى مُحِبُّهُ نَفْسَهُ خَلْفَهُ، فَقَالَ: أَنَا وَقَعْتُ فَمَا أَوْقَعَكَ خَلْفِي قَالَ: غِبْتُ بِكَ عَنِّي، فَظَنَنْتَ أَنَّكَ أَنِّي. " وَهَذَا الْمَوْضِعُ " يَزِلُّ فِيهِ أَقْوَامٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ اتِّحَادٌ، وَأَنَّ الْمُحِبَّ يَتَّحِدُ بِالْمَحْبُوبِ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فِي نَفْسِ وُجُودِهِمَا، وَهَذَا غَلَطٌ؛ فَإِنَّ الْخَالِقَ لَا يَتَّحِدُ بِهِ شَيْءٌ أَصْلًا، بَلْ لَا يَتَّحِدُ شَيْءٌ بِشَيْءٍ إلَّا إذَا اسْتَحَالَا وَفَسَدَا وَحَصَلَ مِنْ اتِّحَادِهِمَا أَمْرٌ

ثَالِثٌ لَا هُوَ هَذَا وَلَا هَذَا، كَمَا إذَا اتَّحَدَ الْمَاءُ وَاللَّبَنُ، وَالْمَاءُ وَالْخَمْرُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَلَكِنْ يَتَّحِدُ الْمُرَادُ وَالْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ وَيَتَّفِقَانِ فِي نَوْعِ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ، فَيُحِبُّ هَذَا مَا يُحِبُّ هَذَا. وَيَبْغُضُ هَذَا مَا يَبْغُضُ هَذَا، وَيَرْضَى مَا يَرْضَى وَيَسْخَطُ مَا يَسْخَطُ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُ، وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِي وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِي وَهَذَا الْفَنَاءُ كُلُّهُ فِيهِ نَقْصٌ. وَأَكَابِرُ الْأَوْلِيَاءِ كَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ: لَمْ يَقَعُوا فِي هَذَا الْفَنَاءِ، فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا بَعْدَ الصَّحَابَةِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ مِمَّا فِيهِ غَيْبَةُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزُ لِمَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ أَحْوَالِ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا أَكْمَلَ وَأَقْوَى وَأَثْبَتَ فِي الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ مِنْ أَنْ تَغِيبَ عُقُولُهُمْ. أَوْ يَحْصُلَ لَهُمْ غَشْيٌ أَوْ صَعْقٌ أَوْ سُكْرٌ أَوْ فَنَاءٌ أَوْ وَلَهٌ أَوْ جُنُونٌ. وَإِنَّمَا كَانَ مَبَادِئُ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي التَّابِعِينَ مِنْ عُبَّادِ الْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُغْشَى عَلَيْهِ إذَا سَمِعَ الْقُرْآنَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ: كَأَبِي جَهِيرٍ الضَّرِيرِ وَزُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَاضِي الْبَصْرَةِ. وَكَذَلِكَ صَارَ فِي شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ مَنْ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ الْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ مَا يَضْعُفُ مَعَهُ تَمْيِيزُهُ، حَتَّى يَقُولَ فِي تِلْكَ الْحَالِ مِنْ الْأَقْوَالِ مَا إذَا صَحَا عَرَفَ أَنَّهُ غَالِطٌ فِيهِ، كَمَا يُحْكَى نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مِثْلِ أَبِي يَزِيدَ، وَأَبِي الْحَسَنِ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الشِّبْلِيِّ، وَأَمْثَالِهِمْ. بِخِلَافِ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ، وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ، وَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ بَلْ وَبِخِلَافِ الْجُنَيْدِ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ كَانَتْ عُقُولُهُمْ وَتَمْيِيزُهُمْ يَصْحَبُهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ فَلَا يَقَعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ وَنَحْوِهِ، بَلْ الْكُمَّلُ تَكُونُ قُلُوبُهُمْ لَيْسَ فِيهَا سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَعِنْدَهُمْ مِنْ سَعَةِ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ مَا يَشْهَدُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، بَلْ يَشْهَدُونَ الْمَخْلُوقَاتِ قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ مُدَبَّرَةً بِمَشِيئَتِهِ بَلْ مُسْتَجِيبَةً لَهُ قَانِتَةً لَهُ، فَيَكُونُ لَهُمْ فِيهَا تَبْصِرَةٌ وَذِكْرَى، وَيَكُونُ مَا يَشْهَدُونَهُ مِنْ ذَلِكَ مُؤَيِّدًا وَمُمِدًّا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ إخْلَاصِ الدِّينِ، وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ لَهُ، وَالْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَهَذِهِ " الْحَقِيقَةُ " الَّتِي دَعَا إلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَقَامَ بِهَا أَهْلُ تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ، وَالْكُمَّلُ مِنْ أَهْلِ الْعِرْفَانِ. وَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إمَامُ هَؤُلَاءِ وَأَكْمَلُهُمْ؛ وَلِهَذَا لَمَّا عُرِجَ بِهِ إلَى السَّمَوَاتِ وَعَايَنَ مَا هُنَالِكَ مِنْ الْآيَاتِ وَأَوْحَى إلَيْهِ مَا أَوْحَى مِنْ أَنْوَاعِ الْمُنَاجَاةِ أَصْبَحَ فِيهِمْ وَهُوَ لَمْ

يَتَغَيَّرْ حَالُهُ، وَلَا ظَهَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا كَانَ يَظْهَرُ عَلَى مُوسَى مِنْ التَّغَشِّي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْمَعِينَ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِمَّا قَدْ يُسَمَّى فَنَاءً: فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا مَوْجُودَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ فَهَذَا فَنَاءُ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْإِلْحَادِ الْوَاقِعِينَ فِي الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ. وَالْمَشَايِخُ الْمُسْتَقِيمُونَ إذَا قَالَ أَحَدُهُمْ: مَا أَرَى غَيْرَ اللَّهِ، أَوْ لَا أَنْظُرُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ مَا أَرَى رَبًّا غَيْرَهُ، وَلَا خَالِقًا غَيْرَهُ وَلَا مُدَبِّرًا غَيْرَهُ، وَلَا إلَهًا غَيْرَهُ وَلَا أَنْظُرُ إلَى غَيْرِهِ مَحَبَّةً لَهُ أَوْ خَوْفًا مِنْهُ أَوْ رَجَاءً لَهُ، فَإِنَّ الْعَيْنَ تَنْظُرُ إلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَلْبُ، فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَوْ رَجَاهُ أَوْ خَافَهُ الْتَفَتَ إلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقَلْبِ مَحَبَّةٌ لَهُ وَلَا رَجَاءٌ لَهُ وَلَا خَوْفٌ مِنْهُ وَلَا بُغْضٌ لَهُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ لَهُ لَمْ يَقْصِدْ الْقَلْبُ أَنْ يَلْتَفِتَ إلَيْهِ وَلَا أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ وَلَا أَنْ يَرَاهُ وَإِنْ رَآهُ اتِّفَاقًا رُؤْيَةً مُجَرَّدَةً كَانَ كَمَا لَوْ رَأَى حَائِطًا وَنَحْوَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ تَعَلُّقٌ بِهِ. وَالْمَشَايِخُ الصَّالِحُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَذْكُرُونَ شَيْئًا مِنْ تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ وَتَحْقِيقِ إخْلَاصِ الدِّينِ كُلِّهِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُلْتَفِتًا إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَلَا نَاظِرًا إلَى مَا سِوَاهُ: لَا حُبًّا لَهُ، وَلَا خَوْفًا مِنْهُ، وَلَا رَجَاءً لَهُ بَلْ يَكُونُ الْقَلْبُ فَارِغًا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ خَالِيًا مِنْهَا لَا يَنْظُرُ إلَيْهَا إلَّا بِنُورِ اللَّهِ، فَبِالْحَقِّ يَسْمَعُ وَبِالْحَقِّ يُبْصِرُ وَبِالْحَقِّ يَبْطِشُ وَبِالْحَقِّ يَمْشِي، فَيُحِبُّ مِنْهَا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَيَبْغُضُ مِنْهَا مَا يَبْغُضُهُ اللَّهُ، وَيُوَالِي مِنْهَا مَا وَالَاهُ اللَّهُ، وَيُعَادِي مِنْهَا مَا عَادَاهُ اللَّهُ، وَيَخَافُ اللَّهَ فِيهَا وَلَا يَخَافُهَا فِي اللَّهِ، وَيَرْجُو اللَّهَ فِيهَا وَلَا يَرْجُوهَا فِي اللَّهِ، فَهَذَا هُوَ الْقَلْبُ السَّلِيمُ الْحَنِيفُ الْمُوَحِّدُ الْمُسْلِمُ الْمُؤْمِنُ الْعَارِفُ الْمُحَقِّقُ الْمُوَحِّدُ بِمَعْرِفَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَبِحَقِيقَتِهِمْ وَتَوْحِيدِهِمْ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْفَنَاءُ فِي الْمَوْجُودِ: فَهُوَ تَحْقِيقُ آلِ فِرْعَوْنَ وَمَعْرِفَتُهُمْ وَتَوْحِيدُهُمْ كَالْقَرَامِطَةِ وَأَمْثَالِهِمْ. وَهَذَا النَّوْعُ الَّذِي عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ هُوَ " الْفَنَاءُ الْمَحْمُودُ " الَّذِي يَكُونُ صَاحِبُهُ بِهِ مِمَّنْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ، وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ، وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ. وَلَيْسَ مُرَادُ الْمَشَايِخِ وَالصَّالِحِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الَّذِي أَرَاهُ بِعَيْنِي مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ

هُوَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الضَّلَالِ وَالْفَسَادِ؟ إمَّا فَسَادُ الْعَقْلِ؛ وَإِمَّا فَسَادُ الِاعْتِقَادِ. فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْجُنُونِ وَالْإِلْحَادِ. وَكُلُّ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الدِّينِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مِنْ أَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ، وَلَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ إفْرَادُ الْقَدِيمِ عَنْ الْحَادِثِ؛ وَتَمْيِيزُ الْخَالِقِ عَنْ الْمَخْلُوقِ. وَهَذَا فِي كَلَامِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُمْكِنَ ذِكْرُهُ هُنَا. وَهُمْ قَدْ تَكَلَّمُوا عَلَى مَا يَعْرِضُ لِلْقُلُوبِ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَالشُّبُهَاتِ؛ وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَشْهَدُ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ فَيَظُنُّهُ خَالِقَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ لِعَدَمِ التَّمْيِيزِ وَالْفُرْقَانِ فِي قَلْبِهِ: بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَأَى شُعَاعَ الشَّمْسِ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الشَّمْسُ الَّتِي فِي السَّمَاءِ. وَهُمْ قَدْ يَتَكَلَّمُونَ فِي " الْفَرْقِ وَالْجَمْعِ " وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ الْمُتْلِفَةِ نَظِيرُ مَا دَخَلَ فِي الْفَنَاءِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا شَهِدَ التَّفْرِقَةَ وَالْكَثْرَةَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ يَبْقَى قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِهَا، مُتَشَتِّتًا نَاظِرًا إلَيْهَا مُتَعَلِّقًا بِهَا: إمَّا مَحَبَّةً وَإِمَّا خَوْفًا وَإِمَّا رَجَاءً؛ فَإِذَا انْتَقَلَ إلَى الْجَمْعِ اجْتَمَعَ قَلْبُهُ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَالْتَفَتَ قَلْبُهُ إلَى اللَّهِ بَعْدَ الْتِفَاتِهِ إلَى الْمَخْلُوقِينَ فَصَارَتْ مَحَبَّتُهُ لِرَبِّهِ وَخَوْفُهُ مِنْ رَبِّهِ وَرَجَاؤُهُ لِرَبِّهِ وَاسْتِعَانَتُهُ بِرَبِّهِ، وَهُوَ فِي هَذَا الْحَالِ قَدْ لَا يَسَعُ قَلْبَهُ النَّظَرُ إلَى الْمَخْلُوقِ لِيُفَرِّقَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ. فَقَدْ يَكُونُ مُجْتَمِعًا عَلَى الْحَقِّ مُعْرِضًا عَنْ الْخَلْقِ نَظَرًا وَقَصْدًا وَهُوَ نَظِيرُ النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ الْفَنَاءِ. وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ، " الْفَرْقُ الثَّانِي " وَهُوَ: أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ قَائِمَةٌ بِاَللَّهِ مُدَبَّرَةٌ بِأَمْرِهِ وَيَشْهَدَ كَثْرَتَهَا مَعْدُومَةً بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَبُّ الْمَصْنُوعَاتِ وَإِلَهُهَا وَخَالِقُهَا وَمَالِكُهَا فَيَكُونُ مَعَ اجْتِمَاعِ قَلْبِهِ عَلَى اللَّهِ - إخْلَاصًا لَهُ وَمَحَبَّةً وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَاسْتِعَانَةً وَتَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ وَمُوَالَاةً فِيهِ وَمُعَادَاةً فِيهِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ - نَاظِرًا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مُمَيِّزًا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا يَشْهَدُ تَفَرُّقَ الْمَخْلُوقَاتِ وَكَثْرَتَهَا مَعَ شَهَادَتِهِ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، وَخَالِقُهُ، وَأَنَّهُ هُوَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهَذَا هُوَ الشُّهُودُ الصَّحِيحُ الْمُسْتَقِيمُ وَذَلِكَ وَاجِبٌ فِي عِلْمِ الْقَلْبِ وَشَهَادَتِهِ وَذِكْرِهِ وَمَعْرِفَتِهِ: فِي حَالِ الْقَلْبِ وَعِبَادَتِهِ وَقَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَطَاعَتِهِ. وَذَلِكَ تَحْقِيقُ " شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " فَإِنَّهُ يَنْفِي عَنْ قَلْبِهِ أُلُوهِيَّةَ مَا سِوَى الْحَقِّ

وَيَثْبُتُ فِي قَلْبِهِ أُلُوهِيَّةُ الْحَقِّ فَيَكُونُ نَافِيًا لِأُلُوهِيَّةِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مُثْبِتًا لِأُلُوهِيَّةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ اجْتِمَاعَ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى مُفَارَقَةِ مَا سِوَاهُ، فَيَكُونُ مُفَرِّقًا: فِي عِلْمِهِ وَقَصْدِهِ فِي شَهَادَتِهِ وَإِرَادَتِهِ فِي مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، بِحَيْثُ يَكُونُ عَالِمًا بِاَللَّهِ تَعَالَى ذَاكِرًا لَهُ عَارِفًا بِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عَالِمٌ بِمُبَايَنَتِهِ لِخَلْقِهِ وَانْفِرَادِهِ عَنْهُمْ وَتَوَحُّدِهِ دُونَهُمْ، وَيَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ مُعَظِّمًا لَهُ عَابِدًا لَهُ رَاجِيًا لَهُ خَائِفًا مِنْهُ مُوَالِيًا فِيهِ مُعَادِيًا فِيهِ مُسْتَعِينًا بِهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ، مُمْتَنِعًا عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ لَهُ وَالْمُوَالَاةِ فِيهِ وَالْمُعَادَاةِ فِيهِ وَالطَّاعَةِ لِأَمْرِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ إلَهِيَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَإِقْرَارُهُ بِأُلُوهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ مَا سِوَاهُ يَتَضَمَّنُ إقْرَارَهُ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ وَمُدَبِّرُهُ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُوَحِّدًا لِلَّهِ. وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ أَفْضَلَ الذِّكْرِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرُهُمَا مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» وَفِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا ذِكْرُ الْعَامَّةِ، وَأَنَّ ذِكْرَ الْخَاصَّةِ هُوَ الِاسْمُ الْمُفْرَدُ، وَذِكْرَ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ هُوَ الِاسْمُ الْمُضْمَرُ، فَهُمْ ضَالُّونَ غَالِطُونَ، وَاحْتِجَاجُ بَعْضِهِمْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] مِنْ أَبْيَنِ غَلَطِ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ الِاسْمَ هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْأَمْرِ بِجَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ. وَهُوَ قَوْلُهُ: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} [الأنعام: 91] إلَى قَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 91] أَيْ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى، فَالِاسْمُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ. كَمَا فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ تَقُولُ: مَنْ جَارُهُ فَيَقُولُ زَيْدٌ

وَأَمَّا الِاسْمُ الْمُفْرَدُ مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا فَلَيْسَ بِكَلَامٍ تَامٍّ، وَلَا جُمْلَةً مُفِيدَةً وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إيمَانٌ وَلَا كُفْرٌ وَلَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَلَا شَرَعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَا يُعْطِي الْقَلْبَ بِنَفْسِهِ مَعْرِفَةً مُفِيدَةً وَلَا حَالًا نَافِعًا. وَإِنَّمَا يُعْطِيهِ تَصَوُّرًا مُطْلَقًا لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَحَالِهِ مَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ. وَالشَّرِيعَةُ إنَّمَا تُشَرِّعُ مِنْ الْأَذْكَارِ مَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ لَا مَا تَكُونُ الْفَائِدَةُ حَاصِلَةً بِغَيْرِهِ. وَقَدْ وَقَعَ بَعْضُ مَنْ وَاظَبَ عَلَى هَذَا الذِّكْرِ فِي فُنُونٍ مِنْ الْإِلْحَادِ وَأَنْوَاعٍ مِنْ الِاتِّحَادِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ مِنْ أَنَّهُ قَالَ: أَخَافُ أَنْ أَمُوتَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. حَالٌ لَا يُقْتَدَى فِيهَا بِصَاحِبِهَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَلَطِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ؛ إذْ لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَمُتْ إلَّا عَلَى مَا قَصَدَهُ وَنَوَاهُ، إذْ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ بِتَلْقِينِ الْمَيِّتِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَقَالَ: مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ مَحْذُورًا لَمْ يُلَقَّنْ الْمَيِّتُ كَلِمَةً يُخَافُ أَنْ يَمُوتَ فِي أَثْنَائِهَا مَوْتًا غَيْرَ مَحْمُودٍ بَلْ كَانَ يُلَقَّنُ مَا اخْتَارَهُ مِنْ ذِكْرِ الِاسْمِ الْمُفْرَدِ. وَالذِّكْرُ بِالِاسْمِ الْمُضْمَرِ الْمُفْرَدِ أَبْعَدُ عَنْ السُّنَّةِ، وَأَدْخَلُ فِي الْبِدْعَةِ وَأَقْرَبُ إلَى إضْلَالِ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: يَا هُوَ يَا هُوَ، أَوْ: هُوَ هُوَ. وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَّا إلَى مَا يُصَوِّرُهُ قَلْبُهُ، وَالْقَلْبُ قَدْ يَهْتَدِي وَقَدْ يَضِلُّ، وَقَدْ صَنَّفَ صَاحِبُ الْفُصُوصِ كِتَابًا سَمَّاهُ " كِتَابَ الْهُوَ " وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] مَعْنَاهُ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ هَذَا الِاسْمِ الَّذِي هُوَ " الْهُوَ ". وَقِيلَ هَذَا وَإِنْ كَانَ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ بَلْ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَبْيَنِ الْبَاطِلِ، فَقَدْ يَظُنُّ ذَلِكَ مَنْ يَظُنُّهُ مِنْ هَؤُلَاءِ، حَتَّى قُلْتُ مَرَّةً لِبَعْضِ مَنْ قَالَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَوْ كَانَ هَذَا كَمَا قُلْتَهُ لَكُتِبَتْ (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ هُوَ) مُنْفَصِلَةً. ثُمَّ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُ بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنَّهُ يَحْتَجُّ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِ: " اللَّهُ " بِقَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام: 91] وَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِأَنْ يَقُولَ الِاسْمَ الْمُفْرَدَ، وَهَذَا غَلَطٌ

بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: {قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 91] مَعْنَاهُ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى. وَهُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 91] أَيْ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى. رَدَّ بِذَلِكَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91] ثُمَّ قَالَ: {قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 91] أَنْزَلَهُ {ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام: 91] هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ {فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] . وَمِمَّا يُبَيِّنُ مَا تَقَدَّمَ: مَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ النَّحْوِ أَنَّ الْعَرَبَ يَحْكُونَ بِالْقَوْلِ مَا كَانَ كَلَامًا، لَا يَحْكُونَ بِهِ مَا كَانَ قَوْلًا، فَالْقَوْلُ لَا يُحْكَى بِهِ إلَّا كَلَامٌ تَامٌّ، أَوْ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ أَوْ فِعْلِيَّةٌ، وَلِهَذَا يَكْسِرُونَ إنَّ إذَا جَاءَتْ بَعْدَ الْقَوْلِ، فَالْقَوْلُ لَا يُحْكَى بِهِ اسْمٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ أَحَدًا بِذِكْرِ اسْمٍ مُفْرَدٍ، وَلَا شَرَعَ لِلْمُسْلِمِينَ اسْمًا مُفْرَدًا مُجَرَّدًا، وَالِاسْمُ الْمُجَرَّدُ لَا يُفِيدُ الْإِيمَانَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُؤْمَرُ بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُخَاطَبَاتِ. وَنَظِيرُ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ مَا يُذْكَرُ أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ مَرَّ بِمُؤَذِّنٍ يَقُولُ: " أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ " بِالنَّصْبِ فَقَالَ: مَاذَا يَقُولُ هَذَا؟ هَذَا الِاسْمُ فَأَيْنَ الْخَبَرُ عَنْهُ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْكَلَامُ؟ وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} [المزمل: 8] وَقَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] وَقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] وَقَوْلِهِ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي ذِكْرَهُ مُفْرَدًا بَلْ فِي السُّنَنِ «أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قَالَ اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] قَالَ اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ»

فَشَرَعَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي الرُّكُوعِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ، وَفِي السُّجُودِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى. وَفِي الصَّحِيحِ: «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ، وَفِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى» وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ وَسُجُودِكُمْ» بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. فَتَسْبِيحُ اسْمِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَذِكْرُ اسْمِ رَبِّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ بِالْكَلَامِ التَّامِّ الْمُفِيدِ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ - وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ - سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَاَللَّهُ أَكْبَرُ» . وَفِي الصَّحِيحِ: عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَالَ فِي يَوْمِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ. وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ. وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إلَّا رَجُلٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ» . «وَمَنْ قَالَ فِي يَوْمِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . وَفِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ مَا قُلْتُهُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» . وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كَثِيرَةٌ فِي أَنْوَاعِ مَا يُقَالُ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ. وَكَذَلِكَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]

وَقَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] إنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ: بِسْمِ اللَّهِ. وَهَذَا جُمْلَةٌ تَامَّةٌ إمَّا اسْمِيَّةٌ عَلَى أَظْهَرِ قَوْلَيْ النُّحَاةِ؛ أَوْ فِعْلِيَّةٌ؛ وَالتَّقْدِيرُ ذَبْحِي بِاسْمِ اللَّهِ، أَوْ اذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَارِئِ فَتَقْدِيرُهُ: قِرَاءَتِي بِسْمِ اللَّهِ؛ أَوْ اقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُضْمِرُ فِي مِثْلِ هَذَا ابْتِدَائِي بِسْمِ اللَّهِ؛ أَوْ ابْتَدَأْتُ بِسْمِ اللَّهِ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ كُلَّهُ مَفْعُولُ بِسْمِ اللَّهِ، لَيْسَ مُجَرَّدُ ابْتِدَائِهِ كَمَا أَظْهَرَ الْمُضْمَرَ فِي قَوْلِهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] وَفِي قَوْلِهِ: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] . وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ بِسْمِ اللَّهِ» . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِرَبِيبِهِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: «سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِك؛ وَكُلْ مِمَّا يَلِيك» فَالْمُرَادُ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ. لَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَذْكُرَ الِاسْمَ مُجَرَّدًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ «إذَا أَرْسَلْت كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ» وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ مَنْزِلَهُ فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ دُخُولِهِ؛ وَعِنْدَ خُرُوجِهِ، وَعِنْدَ طَعَامِهِ. قَالَ الشَّيْطَانُ لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ» وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.

وَكَذَلِكَ مَا شَرَعَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي صَلَاتِهِمْ وَآذَانِهِمْ وَحَجِّهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا هُوَ بِالْجُمْلَةِ التَّامَّةِ كَقَوْلِ الْمُؤَذِّنِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَقَوْلِ الْمُصَلِّي: اللَّهُ أَكْبَرُ. سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ. سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى. سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ. وَقَوْلِ الْمُلَبِّي: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَجَمِيعُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ الذِّكْرِ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ تَامٌّ لَا اسْمٌ مُفْرَدٌ لَا مُظْهَرٌ وَلَا مُضْمَرٌ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ كَلِمَةً، كَقَوْلِهِ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ. ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ. حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ؛ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» وَقَوْلِهِ: «أَفْضَلُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ» وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا} [الأنعام: 115] وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ لَفْظُ الْكَلِمَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَلْ وَسَائِرِ كَلَامِ الْعَرَبِ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ، كَمَا كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْحَرْفَ فِي الِاسْمِ، فَيَقُولُونَ: هَذَا حَرْفٌ غَرِيبٌ أَيْ لَفْظُ الِاسْمِ غَرِيبٌ. وَقَسَّمَ سِيبَوَيْهِ الْكَلَامَ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ جَاءَ لِمَعْنًى، لَيْسَ بِاسْمٍ وَفِعْلٍ. وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ يُسَمَّى حَرْفًا لَكِنَّ خَاصَّةَ الثَّالِثِ أَنَّهُ حَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى لَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ؛ وَسُمِّيَ حُرُوفُ الْهِجَاءِ بِاسْمِ الْحَرْفِ وَهِيَ أَسْمَاءٌ، وَلَفْظُ الْحَرْفِ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَغَيْرَهَا؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ: أَمَا إنِّي لَا أَقُولُ: {الم} [البقرة: 1] حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» وَقَدْ سَأَلَ الْخَلِيلُ أَصْحَابَهُ عَنْ النُّطْقِ بِحَرْفِ الزَّايِ مِنْ زَيْدٍ فَقَالُوا: زَايٌ، فَقَالَ: جِئْتُمْ بِالِاسْمِ، وَإِنَّمَا الْحَرْفُ " ز ". ثُمَّ إنَّ النُّحَاةَ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُسَمَّى فِي اللُّغَةِ بِالْحَرْفِ يُسَمَّى كَلِمَةً، وَأَنَّ لَفْظَ الْحَرْفِ يُخَصُّ لِمَا جَاءَ لِمَعْنًى، لَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ، كَحُرُوفِ الْجَرِّ وَنَحْوِهَا، وَأَمَّا أَلْفَاظُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ فَيُعَبَّرُ تَارَةً بِالْحَرْفِ عَنْ نَفْسِ الْحَرْفِ مِنْ اللَّفْظِ، وَتَارَةً بِاسْمِ

ذَلِكَ الْحَرْفِ، وَلَمَّا غَلَبَ هَذَا الِاصْطِلَاحُ صَارَ يَتَوَهَّمُ مَنْ اعْتَادَهُ أَنَّهُ هَكَذَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ لَفْظَ الْكَلِمَةِ فِي اللُّغَةِ لَفْظًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الِاسْمِ مَثَلًا وَبَيْنَ الْجُمْلَةِ، وَلَا يَعْرِفُ فِي صَرِيحِ اللُّغَةِ مِنْ لَفْظِ الْكَلِمَةِ إلَّا الْجُمْلَةَ التَّامَّةَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ هُوَ ذِكْرُهُ " بِجُمْلَةٍ تَامَّةٍ " وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْكَلَامِ، وَالْوَاحِدُ مِنْهُ بِالْكَلِمَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَنْفَعُ الْقُلُوبَ، وَيَحْصُلُ بِهِ الثَّوَابُ وَالْأَجْرُ، وَالْقُرْبُ إلَى اللَّهِ وَمَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَخَشْيَتُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ وَالْمَقَاصِدِ السَّامِيَةِ. وَأَمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى " الِاسْمِ الْمُفْرَدِ " مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا فَلَا أَصْلَ لَهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذِكْرِ الْخَاصَّةِ وَالْعَارِفِينَ، بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ وَذَرِيعَةٌ إلَى تَصَوُّرَاتِ أَحْوَالٍ فَاسِدَةٍ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ، وَأَهْلِ الِاتِّحَادِ، كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَجِمَاعُ الدِّينِ " أَصْلَانِ " أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ، وَلَا نَعْبُدَهُ إلَّا بِمَا شَرَعَ، لَا نَعْبُدَهُ بِالْبِدَعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] . وَذَلِكَ تَحْقِيقُ " الشَّهَادَتَيْنِ ": شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَشَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَفِي الْأُولَى أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا إيَّاهُ، وَفِي الثَّانِيَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ رَسُولُهُ الْمُبَلِّغُ عَنْهُ. فَعَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَ خَبَرَهُ وَنُطِيعَ أَمْرَهُ، وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا مَا نَعْبُدُ اللَّهَ بِهِ، وَنَهَانَا عَنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهَا ضَلَالَةٌ. قَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112] . كَمَا أَنَّا مَأْمُورُونَ أَنْ لَا نَخَافَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَى اللَّهِ، وَلَا نَرْغَبُ إلَّا إلَى اللَّهِ، وَلَا نَسْتَعِينُ إلَّا بِاَللَّهِ: وَأَنْ لَا تَكُونَ عِبَادَتُنَا إلَّا لِلَّهِ، فَكَذَلِكَ نَحْنُ مَأْمُورُونَ أَنْ نَتَّبِعَ الرَّسُولَ وَنُطِيعَهُ وَنَتَأَسَّى بِهِ، فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ، وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] فَجَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، كَمَا قَالَ:

{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وَجَعَلَ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ بِقَوْلِهِ: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [آل عمران: 173] وَلَمْ يَقُلْ وَرَسُولُهُ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] أَيْ حَسْبُكَ وَحَسْبُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] . ثُمَّ قَالَ: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 59] فَجَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْفَضْلِ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وَلَهُ الْفَضْلُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] فَجَعَلَ الرَّغْبَةَ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ عَبَّاسٍ: «إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ» . وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. فَجَعَلَ الْعِبَادَةَ وَالْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ، وَجَعَلَ الطَّاعَةَ وَالْمَحَبَّةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا فِي قَوْلِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح: 3] وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] وَأَمْثَالِ ذَلِكَ فَالرُّسُلُ أُمِرُوا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالطَّاعَةِ لَهُمْ. فَأَضَلَّ الشَّيْطَانُ النَّصَارَى وَأَشْبَاهَهُمْ فَأَشْرَكُوا بِاَللَّهِ وَعَصَوْا الرَّسُولَ فَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ

مسألة قول النبي دعوة أخي ذي النون لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَجَعَلُوا يَرْغَبُونَ إلَيْهِمْ وَيَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِمْ وَيَسْأَلُونَهُمْ، مَعَ مَعْصِيَتِهِمْ لِأَمْرِهِمْ وَمُخَالَفَاتِهِمْ لِسُنَّتِهِمْ، وَهَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ أَهْلَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوهُ فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ، وَأَسْلَمُوا وُجُوهَهُمْ لِلَّهِ، وَأَنَابُوا إلَى رَبِّهِمْ، وَأَحَبُّوهُ وَرَجَوْهُ وَخَافُوهُ وَسَأَلُوهُ وَرَغِبُوا إلَيْهِ وَفَوَّضُوا أُمُورَهُمْ إلَيْهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ، وَأَطَاعُوا رُسُلَهُ وَعَزَّرُوهُمْ وَوَقَّرُوهُمْ وَأَحَبُّوهُمْ وَوَالُوهُمْ وَاتَّبَعُوهُمْ، وَاقْتَفَوْا آثَارَهُمْ وَاهْتَدَوْا بِمَنَارِهِمْ. وَذَلِكَ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مِنْ الرُّسُلِ وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا إلَّا إيَّاهُ، وَهُوَ حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَيْهِ، وَيُكْمِلَهُ لَنَا وَيُمِيتَنَا عَلَيْهِ وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. [مَسْأَلَةٌ قَوْلِ النَّبِيِّ دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ] 1061 - 37 وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] . مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إلَّا فَرَّجَ اللَّهُ كُرْبَتَهُ» مَا مَعْنَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ؟ وَلِمَ كَانَتْ كَاشِفَةً لِلْكَرْبِ؟ وَهَلْ لَهَا شُرُوطٌ بَاطِنَةٌ عِنْدَ النُّطْقِ بِلَفْظِهَا؟ وَكَيْفَ مُطَابَقَةُ اعْتِقَادِ الْقَلْبِ لِمَعْنَاهَا. حَتَّى يُوجِبَ كَشْفَ ضُرِّهِ؟ وَمَا مُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] مَعَ أَنَّ التَّوْحِيدَ يُوجِبُ كَشْفَ الضُّرِّ؟ وَهَلْ يَكْفِيهِ اعْتِرَافُهُ. أَمْ لَا بُدَّ مِنْ التَّوْبَةِ وَالْعَزْمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؟ وَمَا هُوَ السِّرُّ فِي أَنَّ كَشْفَ الضُّرِّ وَزَوَالَهُ يَكُونُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الرَّجَاءِ عَنْ الْخَلْقِ وَالتَّعَلُّقِ بِهِمْ؟ وَمَا الْحِيلَةُ فِي انْصِرَافِ الْقَلْبِ عَنْ الرَّجَاءِ لِلْمَخْلُوقِينَ وَالتَّعَلُّقِ بِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَتَعَلُّقِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَرَجَائِهِ وَانْصِرَافِهِ إلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَا السَّبَبُ الْمُعِينُ عَلَى ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَفْظُ " الدُّعَاءِ وَالدَّعْوَةِ " فِي الْقُرْآنِ يَتَنَاوَلُ مَعْنَيَيْنِ:

دُعَاءَ الْعِبَادَةِ، وَدُعَاءَ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 213] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} [القصص: 88] وَقَالَ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19] وَقَالَ: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117] وَقَالَ تَعَالَى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد: 14] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77] . قِيلَ: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ إيَّاهُ، وَقِيلَ: لَوْلَا دُعَاؤُهُ إيَّاكُمْ. فَإِنَّ الْمَصْدَرَ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ تَارَةً، وَإِلَى الْمَفْعُولِ تَارَةً، وَلَكِنَّ إضَافَتَهُ إلَى الْفَاعِلِ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ، فَلِهَذَا كَانَ هَذَا أَقْوَى الْقَوْلَيْنِ، أَيْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَدْعُونَهُ فَتَعْبُدُونَهُ وَتَسْأَلُونَهُ: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77] أَيْ عَذَابٌ لَازِمٌ لِلْمُكَذِّبِينَ. وَلَفْظُ " الصَّلَاةِ فِي اللُّغَةِ " أَصْلُهُ الدُّعَاءُ، وَسُمِّيَتْ الصَّلَاةُ دُعَاءً لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الدُّعَاءِ، وَهُوَ الْعِبَادَةُ وَالْمَسْأَلَةُ. وَقَدْ فَسَّرَ قَوْله تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] . بِالْوَجْهَيْنِ، قِيلَ: اُعْبُدُونِي وَامْتَثِلُوا أَمْرِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشورى: 26]

أَيْ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، يُقَالُ: اسْتَجَابَهُ وَاسْتَجَابَ لَهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبٌ وَقِيلَ: سَلُونِي أُعْطِكُمْ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ» فَذَكَرَ أَوَّلًا لَفْظَ الدُّعَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ السُّؤَالَ وَالِاسْتِغْفَارَ، وَالْمُسْتَغْفِرُ سَائِلٌ كَمَا أَنَّ السَّائِلَ دَاعٍ؛ لَكِنَّ ذِكْرَ السَّائِلِ لِدَفْعِ الشَّرِّ بَعْدَ السَّائِلِ الطَّالِبِ لِلْخَيْرِ، وَذَكَرَهُمَا جَمِيعًا بَعْدَ ذِكْرِ الدَّاعِي الَّذِي يَتَنَاوَلُهُمَا وَغَيْرَهُمَا فَهُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] . وَكُلُّ سَائِلٍ رَاغِبٍ رَاهِبٍ، فَهُوَ عَابِدٌ لِلْمَسْئُولِ، وَكُلُّ عَابِدٍ لَهُ فَهُوَ أَيْضًا رَاغِبٌ وَرَاهِبٌ يَرْجُو رَحْمَتَهُ وَيَخَافُ عَذَابَهُ. فَكُلُّ عَابِدٍ سَائِلٌ وَكُلُّ سَائِلٍ عَابِدٌ. فَأَحَدُ الِاسْمَيْنِ يَتَنَاوَلُ الْآخَرَ عِنْدَ تَجَرُّدِهِ عَنْهُ، وَلَكِنْ إذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا: فَإِنَّهُ يُرَادُ بِالسَّائِلِ الَّذِي يَطْلُبُ جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ بِصِيَغِ السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ. وَيُرَادُ بِالْعَابِدِ مَنْ يَطْلُبُ ذَلِكَ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ صِيَغُ سُؤَالٍ. وَالْعَابِدُ الَّذِي يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ وَالنَّظَرَ إلَيْهِ هُوَ أَيْضًا رَاجٍ خَائِفٌ رَاغِبٌ رَاهِبٌ: يَرْغَبُ فِي حُصُولِ مُرَادِهِ، وَيَرْهَبُ مِنْ فَوَاتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] وَقَالَ تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَخْلُوَ دَاعٍ لِلَّهِ - دُعَاءَ عِبَادَةٍ أَوْ دُعَاءَ مَسْأَلَةٍ - مِنْ الرَّغَبِ وَالرَّهَبِ مِنْ الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ.

وَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَنَّهُ جَعَلَ الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ، فَهَذَا قَدْ يُفَسَّرُ مُرَادُهُ بِأَنَّ الْمُقَرَّبِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَيَقْصِدُونَ التَّلَذُّذَ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَخْلُوقٌ يَتَلَذَّذُونَ بِهِ، وَهَؤُلَاءِ يَرْجُونَ حُصُولَ هَذَا الْمَطْلُوبِ وَيَخَافُونَ حِرْمَانَهُ، فَلَمْ يَخْلُو عَنْ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ لَكِنَّ مَرْجُوَّهُمْ وَمُخَوِّفَهُمْ بِحَسَبِ مَطْلُوبِهِمْ. وَمَنْ قَالَ مِنْ هَؤُلَاءِ: لَمْ أَعْبُدْك شَوْقًا إلَى جَنَّتِكَ وَلَا خَوْفًا مِنْ نَارِكَ، فَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْجَنَّةَ اسْمٌ لِمَا يُتَمَتَّعُ فِيهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ، وَالنَّارَ اسْمٌ لَا عَذَابَ فِيهِ إلَّا أَلَمُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهَذَا قُصُورٌ وَتَقْصِيرٌ مِنْهُمْ عَنْ فَهْمِ مُسَمَّى الْجَنَّةِ، بَلْ كُلُّ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ فَهُوَ مِنْ الْجَنَّةِ، وَالنَّظَرُ إلَيْهِ هُوَ مِنْ الْجَنَّةِ، وَلِهَذَا «كَانَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ يَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَيَسْتَعِيذُ بِهِ مِنْ النَّارِ، وَلَمَّا سَأَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَمَّا يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ قَالَ: إنِّي أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ، أَمَا إنِّي لَا أُحْسِنَ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ فَقَالَ: حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ» . وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ يَعْنِي أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، ظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا نَعِيمَ إلَّا بِمَخْلُوقٍ. فَغَلِطَ هَؤُلَاءِ فِي مَعْنَى الْجَنَّةِ كَمَا غَلِطَ أُولَئِكَ، لَكِنَّ أُولَئِكَ طَلَبُوا مَا يُسْتَحَقُّ أَنْ يُطْلَبَ، وَهَؤُلَاءِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ. وَأَمَّا التَّأَلُّمُ بِالنَّارِ فَهُوَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، وَمَنْ قَالَ: لَوْ أَدْخَلَنِي النَّارَ لَكُنْتُ رَاضِيًا، فَهُوَ عَزْمٌ مِنْهُ عَلَى الرِّضَا. وَالْعَزَائِمُ قَدْ تَنْفَسِخُ عِنْدَ وُجُودِ الْحَقَائِقِ وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِثْلِ سَمْنُونٍ الَّذِي قَالَ: وَلَيْسَ لِي فِي سِوَاكَ حَظٌّ فَكَيْفَ مَا شِئْتَ فَامْتَحِنِّي فَابْتُلِيَ بِعُسْرِ الْبَوْلِ فَجَعَلَ يَطُوفُ عَلَى صِبْيَانِ الْمَكَاتِبِ وَيَقُولُ: اُدْعُوا لِعَمِّكُمْ الْكَذَّابِ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143] . وَبَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي عِلَلِ الْمَقَامَاتِ جَعَلَ الْحُبَّ وَالرِّضَا وَالْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ مِنْ

مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ بِنَاءً عَلَى مُشَاهَدَةِ الْقَدَرِ، وَأَنَّ مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ فَشَهِدَ تَوْحِيدَ الْأَفْعَالِ حَتَّى فَنِيَ مَنْ لَمْ يَكُنْ وَبَقِيَ مَنْ لَمْ يَزَلْ، يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَهَذَا كَلَامٌ مُسْتَدْرِكٌ حَقِيقَةً وَشَرْعًا. أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ لَا يَكُونَ حَسَّاسًا مُحِبًّا لِمَا يُلَائِمُهُ مُبْغِضًا لِمَا يُنَافِرُهُ، وَمَنْ قَالَ إنَّ الْحَيَّ يَسْتَوِي عِنْدَهُ جَمِيعُ الْمَقْدُورَاتِ فَهُوَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إمَّا أَنَّهُ لَا يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ بَلْ هُوَ جَاهِلٌ، وَإِمَّا أَنَّهُ مُكَابِرٌ مُعَانِدٌ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ حَصَلَ لَهُ حَالٌ أَزَالَ عَقْلَهُ - سَوَاءٌ سُمِّيَ اصْطِلَامًا أَوْ مَحْوًا أَوْ فَنَاءً أَوْ غَشْيًا أَوْ ضَعْفًا - فَهَذَا لَمْ يَسْقُطْ إحْسَاسُ نَفْسِهِ بِالْكُلِّيَّةِ. بَلْ لَهُ إحْسَاسٌ بِمَا يُلَائِمُهُ وَمَا يُنَافِرُهُ، وَإِنْ سَقَطَ إحْسَاسُهُ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ بِجَمِيعِهَا. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُشَاهِدَ لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ يَدْخُلُ إلَى مَقَامِ الْجَمْعِ وَالْفَنَاءِ فَلَا يَشْهَدُ فَرْقًا فَإِنَّهُ غَالِطٌ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ. لَكِنْ إذَا خَرَجَ عَنْ الْفَرْقِ الشَّرْعِيِّ بَقِيَ فِي الْفَرْقِ الطَّبْعِيِّ، فَيَبْقَى مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ لَا مُطِيعًا لِمَوْلَاهُ. وَلِهَذَا لَمَّا وَقَعَتْ " هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ " بَيْنَ الْجُنَيْدِ وَأَصْحَابِهِ ذَكَرَ لَهُمْ " الْفَرْقَ الثَّانِي " وَهُوَ: أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ، وَبَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمَا يَكْرَهُهُ مَعَ شُهُودِهِ لِلْقَدْرِ الْجَامِعِ، فَيَشْهَدُ الْفَرْقَ فِي الْقَدْرِ الْجَامِعِ. وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ خَرَجَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْجَمْعِ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْفَرْقِ الشَّرْعِيِّ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ خَرَجُوا عَنْهُ كَانُوا كُفَّارًا مِنْ شَرِّ الْكُفَّارِ، وَهُمْ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الرُّسُلِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ إلَى الْقَوْلِ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّ هَؤُلَاءِ يَنْتَهُونَ إلَى هَذَا الْإِلْحَادِ، بَلْ يُفَرِّقُونَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ تَارَةً، وَيَعْصُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ تَارَةً، كَالْعُصَاةِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ لَفْظَ " الدَّعْوَةِ وَالدُّعَاءِ " يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] وَفِي الْحَدِيثِ: «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا. وَقَالَ النَّبِيُّ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: «دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إلَّا فَرَّجَ اللَّهُ كُرْبَتَهُ» سَمَّاهَا " دَعْوَةً " لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ نَوْعَيْ الدُّعَاءِ. فَقَوْلُهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ اعْتِرَافٌ بِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ. وَتَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ يَتَضَمَّنُ أَحَدَ نَوْعَيْ الدُّعَاءِ، فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَأَنْ يُدْعَى دُعَاءَ عِبَادَةٍ وَدُعَاءَ مَسْأَلَةٍ، وَهُوَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. وَقَوْلُهُ: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] . اعْتِرَافٌ بِالذَّنْبِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ، فَإِنَّ الطَّالِبَ السَّائِلَ تَارَةً يَسْأَلُ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ، وَتَارَةً يَسْأَلُ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، إمَّا بِوَصْفِ حَالِهِ، وَإِمَّا بِوَصْفِ حَالِ الْمَسْئُولِ، وَإِمَّا بِوَصْفِ الْحَالَيْنِ. كَقَوْلِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47] فَهَذَا لَيْسَ صِيغَةَ طَلَبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ اللَّهِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَغْفِرْ لَهُ وَيَرْحَمْهُ خَسِرَ. وَلَكِنَّ هَذَا الْخَبَرَ يَتَضَمَّنُ سُؤَالَ الْمَغْفِرَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] فَإِنَّ هَذَا وَصْفٌ لِحَالِهِ بِأَنَّهُ فَقِيرٌ إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِسُؤَالِ اللَّهِ إنْزَالَ الْخَيْرِ إلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ،

حَسَنٌ، وَرَوَاهُ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ وَقَالَ: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» وَأَظُنُّ الْبَيْهَقِيَّ رَوَاهُ مَرْفُوعًا بِهَذَا اللَّفْظِ. وَقَدْ سُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ قَوْلِهِ: «أَفْضَلُ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ وَأَنْشَدَ قَوْلَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ يَمْدَحُ ابْنَ جُدْعَانَ. أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي ... حِبَاؤُكَ إنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ إذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا ... كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ قَالَ: فَهَذَا مَخْلُوقٌ يُخَاطِبُ مَخْلُوقًا فَكَيْفَ بِالْخَالِقِ تَعَالَى. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ، وَإِلَيْكَ الْمُشْتَكَى، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ، وَبِك الْمُسْتَغَاثُ، وَعَلَيْكَ التُّكْلَانُ " فَهَذَا خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ السُّؤَالَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] فَوَصَفَ نَفْسَهُ وَوَصَفَ رَبَّهُ بِوَصْفٍ يَتَضَمَّنُ سُؤَالَ رَحْمَتِهِ بِكَشْفِ ضُرِّهِ وَهِيَ صِيغَةُ خَبَرٍ تَضَمَّنَتْ السُّؤَالَ. وَهَذَا مِنْ بَابِ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي السُّؤَالِ وَالدُّعَاءِ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ يُعَظِّمُهُ وَيَرْغَبُ إلَيْهِ: أَنَا جَائِعٌ، أَنَا مَرِيضٌ، حُسْنُ أَدَبٍ فِي السُّؤَالِ. وَإِنْ كَانَ فِي قَوْلِهِ: أَطْعِمْنِي وَدَاوِنِي وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ طَلَبٌ جَازِمٌ مِنْ الْمَسْئُولِ، فَذَاكَ فِيهِ إظْهَارُ حَالِهِ، وَإِخْبَارُهُ عَلَى وَجْهِ الذُّلِّ وَالِافْتِقَارِ الْمُتَضَمِّنِ لِسُؤَالِ الْحَالِ، وَهَذَا فِيهِ الرَّغْبَةُ التَّامَّةُ وَالسُّؤَالُ الْمَحْضُ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ. وَهَذِهِ الصِّيغَةُ " صِيغَةُ الطَّلَبِ وَالِاسْتِدْعَاءِ " إذَا كَانَتْ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الطَّالِبُ أَوْ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى قَهْرِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا تُقَالُ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ: إمَّا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَاجَةِ الطَّالِبِ، وَإِمَّا لِمَا فِيهِ مِنْ نَفْعِ الْمَطْلُوبِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مِنْ الْفَقِيرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِلْغَنِيِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّهَا سُؤَالٌ مَحْضٌ بِتَذَلُّلٍ وَافْتِقَارٍ وَإِظْهَارِ الْحَالِ.

وَوَصْفُ الْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارُ هُوَ سُؤَالٌ بِالْحَالِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ. وَذَلِكَ أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ، فَلِهَذَا كَانَ غَالِبُ الدُّعَاءِ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي، لِأَنَّ الطَّالِبَ السَّائِلَ يَتَصَوَّرُ مَقْصُودَهُ وَمُرَادَهُ فَيَطْلُبُهُ وَيَسْأَلُهُ فَهُوَ سُؤَالٌ بِالْمُطَابَقَةِ وَالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَتَصْرِيحٌ بِهِ بِاللَّفْظِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَصْفٌ لِحَالِ السَّائِلِ وَالْمَسْئُولِ، فَإِنْ تَضَمَّنَ وَصْفَ حَالِهِمَا كَانَ أَكْمَلَ مِنْ النَّوْعَيْنِ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْخَبَرَ وَالْعِلْمَ الْمُقْتَضِي لِلسُّؤَالِ وَالْإِجَابَةِ، وَيَتَضَمَّنُ الْقَصْدَ وَالطَّلَبَ الَّذِي هُوَ نَفْسُ السُّؤَالِ، فَيَتَضَمَّنُ السُّؤَالَ وَالْمُقْتَضَى لَهُ وَالْإِجَابَةَ «كَقَوْلِ النَّبِيِّ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمَّا قَالَ لَهُ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، فَقَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَهَذَا فِيهِ وَصْفُ الْعَبْدِ لِحَالِ نَفْسِهِ الْمُقْتَضِي حَاجَتَهُ إلَى الْمَغْفِرَةِ، وَفِيهِ وَصْفُ رَبِّهِ الَّذِي يُوجِبُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ غَيْرُهُ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِسُؤَالِ الْعَبْدِ لِمَطْلُوبِهِ، وَفِيهِ بَيَانُ الْمُقْتَضِي لِلْإِجَابَةِ وَهُوَ وَصْفُ الرَّبِّ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ فَهَذَا وَنَحْوُهُ أَكْمَلُ أَنْوَاعِ الطَّلَبِ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَدْعِيَةِ يُتَضَمَّنُ بَعْدَ ذَلِكَ. كَقَوْلِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: 155] فَهَذَا طَلَبٌ وَوَصْفٌ لِلْمَوْلَى بِمَا يَقْتَضِي الْإِجَابَةَ. وَقَوْلُهُ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16] فِيهِ وَصْفُ حَالِ النَّفْسِ وَالطَّلَبِ. وَقَوْلُهُ: {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] فِيهِ الْوَصْفُ الْمُتَضَمِّنُ لِلسُّؤَالِ بِالْحَالِ، فَهَذِهِ أَنْوَاعٌ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا خَاصَّةٌ. يَبْقَى أَنْ يُقَالَ فَصَاحِبُ الْحُوتِ وَمَنْ أَشْبَهَهُ لِمَاذَا نَاسَبَ حَالُهُمْ صِيغَةَ الْوَصْفِ وَالْخَبَرِ دُونَ صِيغَةِ الطَّلَبِ؟ .

فَيُقَالُ: لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ اعْتِرَافٍ بِأَنَّ مَا أَصَابَنِي مِنْ الشَّرِّ كَانَ بِذَنْبِي، فَأَصْلُ الشَّرِّ هُوَ الذَّنْبُ، وَالْمَقْصُودُ دَفْعُ الضُّرِّ وَالِاسْتِغْفَارُ جَاءَ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، فَلَمْ يَذْكُرْ صِيغَةَ طَلَبِ كَشْفِ الضُّرِّ لِاسْتِشْعَارِهِ أَنَّهُ مُسِيءٌ ظَالِمٌ. وَهُوَ الَّذِي أَدْخَلَ الضُّرَّ عَلَى نَفْسِهِ، فَنَاسَبَ حَالُهُ أَنْ يَذْكُرَ مَا يُرْفَعُ سَبَبُهُ مِنْ الِاعْتِرَافِ بِظُلْمِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ صِيغَةَ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ لِلْعَبْدِ الْمَكْرُوبِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي؛ بِخِلَافِ كَشْفِ الْكَرْبِ فَإِنَّهُ مَقْصُودٌ لَهُ فِي حَالِ وُجُودِهِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، إذْ النَّفْسُ بِطَبْعِهَا تَطْلُبُ مَا هِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهِ مِنْ زَوَالِ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنْ الْحَالِ قَبْلَ طَلَبِهَا زَوَالَ مَا تَخَافُ وُجُودَهُ مِنْ الضَّرَرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، وَالْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ الْمَغْفِرَةُ وَطَلَبُ كَشْفِ الضُّرِّ، فَهَذَا مُقَدَّمٌ فِي قَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَأَبْلَغُ مَا يَنَالُ بِهِ رَفْعُ سَبَبِهِ فَجَاءَ بِمَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ. وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: {سُبْحَانَكَ} فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ الرَّبِّ وَتَنْزِيهَهُ، وَالْمَقَامُ يَقْتَضِي تَنْزِيهَهُ عَنْ الظُّلْمِ وَالْعُقُوبَةِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ، يَقُولُ: أَنْتَ مُقَدَّسٌ وَمُنَزَّهٌ عَنْ ظُلْمِي وَعُقُوبَتِي بِغَيْرِ ذَنْبٍ؛ بَلْ أَنَا الظَّالِمُ الَّذِي ظَلَمْتُ نَفْسِي. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101] وَقَالَ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76] وَقَالَ آدَم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] . وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِي مُسْلِمٍ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ» . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْت، أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا

صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، مَنْ قَالَهَا إذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قَالَهَا إذَا أَمْسَى مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» . فَالْعَبْدُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَرِفَ بِعَدْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا، فَلَا يُعَاقِبُ أَحَدًا إلَّا بِذَنْبِهِ، وَهُوَ يُحْسِنُ إلَيْهِمْ فَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَكُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ. فَقَوْلُهُ: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ} [الأنبياء: 87] فِيهِ إثْبَاتُ انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَالْإِلَهِيَّةُ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَفِيهَا إثْبَاتُ إحْسَانِهِ إلَى الْعِبَادِ فَإِنَّ " الْإِلَهَ " هُوَ الْمَأْلُوهُ، وَالْمَأْلُوهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ، وَكَوْنُهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ هُوَ بِمَا اتَّصَفَ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَحْبُوبُ غَايَةَ الْحُبِّ، الْمَخْضُوعِ لَهُ غَايَةَ الْخُضُوعِ؛ وَالْعِبَادَةُ تَتَضَمَّنُ غَايَةَ الْحُبِّ بِغَايَةِ الذُّلِّ. وَقَوْلُهُ: {سُبْحَانَك} يَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَهُ وَتَنْزِيهَهُ عَنْ الظُّلْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ النَّقَائِصِ؛ فَإِنَّ التَّسْبِيحَ وَإِنْ كَانَ يُقَالُ: يَتَضَمَّنُ نَفْيَ النَّقَائِصِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ مِنْ مَرَاسِيلِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي «قَوْلِ الْعَبْدِ: سُبْحَانَ اللَّهِ: إنَّهَا بَرَاءَةُ اللَّهِ مِنْ السُّوءِ» فَالنَّفْيُ لَا يَكُونُ مَدْحًا إلَّا إذَا تَضَمَّنَ ثُبُوتًا وَإِلَّا فَالنَّفْيُ الْمَحْضُ لَا مَدْحَ فِيهِ، وَنَفْيُ السُّوءِ وَالنَّقْصِ عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ مَحَاسِنِهِ وَكَمَالَهُ، وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى. وَهَكَذَا عَامَّةُ مَا يَأْتِي بِهِ الْقُرْآنُ فِي نَفْيِ السُّوءِ وَالنَّقْصِ عَنْهُ يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ مَحَاسِنِهِ وَكَمَالَهُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] فَنَفْيُ أَخْذِ السُّنَّةِ وَالنَّوْمِ لَهُ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ حَيَاتِهِ وَقَيُّومِيَّتِهِ وَقَوْلِهِ: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] يَتَضَمَّنُ كَمَالَ قُدْرَتِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَالتَّسْبِيحُ الْمُتَضَمِّنُ تَنْزِيهَهُ عَنْ السُّوءِ، وَنَفْيُ النَّقْصِ عَنْهُ يَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَهُ. فَفِي قَوْلِهِ: {سُبْحَانَك} تَبْرِئَتُهُ مِنْ الظُّلْمِ، وَإِثْبَاتُ الْعَظَمَةِ الْمُوجِبَةِ لَهُ بَرَاءَتَهُ مِنْ الظُّلْمِ، فَإِنَّ الظَّالِمَ إنَّمَا يَظْلِمُ لِحَاجَتِهِ إلَى الظُّلْمِ أَوْ لِجَهْلِهِ، وَاَللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إلَيْهِ، وَهَذَا كَمَالُ الْعَظَمَةِ.

وَأَيْضًا فَفِي هَذَا الدُّعَاءِ التَّهْلِيلُ وَالتَّسْبِيحُ فَقَوْلُهُ: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ} [الأنبياء: 87] تَهْلِيلٌ. وَقَوْلُهُ: {سُبْحَانَكَ} [الأنبياء: 87] تَسْبِيحٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ، وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ» . وَالتَّحْمِيدُ مَقْرُونٌ بِالتَّسْبِيحِ وَتَابِعٌ لَهُ، وَالتَّكْبِيرُ مَقْرُونٌ بِالتَّهْلِيلِ وَتَابِعٌ لَهُ، وَفِي الصَّحِيحِ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» . وَفِي الْقُرْآنِ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [الحجر: 98] وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30] . وَهَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ إحْدَاهُمَا مَقْرُونَةٌ بِالتَّحْمِيدِ، وَالْأُخْرَى بِالتَّعْظِيمِ، فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّسْبِيحَ فِيهِ نَفْيُ السُّوءِ وَالنَّقَائِصِ الْمُتَضَمِّنِ إثْبَاتَ الْمَحَاسِنِ وَالْكَمَالِ، وَالْحَمْدُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْمَحَاسِنِ. وَقَرَنَ بَيْنَ الْحَمْدِ وَالتَّعْظِيمِ كَمَا قَرَنَ بَيْنَ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، إذْ لَيْسَ كُلُّ مُعَظَّمٍ مَحْبُوبًا مَحْمُودًا، وَلَا كُلُّ مَحْبُوبٍ مَحْمُودًا مُعَظَّمًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعِبَادَةَ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحُبِّ الْمُتَضَمِّنِ مَعْنَى الْحَمْدِ، وَتَتَضَمَّنُ كَمَالَ الذُّلِّ الْمُتَضَمِّنِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ، فَفِي الْعِبَادَةِ حُبُّهُ وَحَمْدُهُ عَلَى الْمَحَاسِنِ، وَفِيهَا الذُّلُّ النَّاشِئُ عَنْ عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ. فَفِيهَا إجْلَالُهُ وَإِكْرَامُهُ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ غَايَةَ الْإِجْلَالِ وَغَايَةَ الْإِكْرَامِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْسَبُ أَنَّ " الْجَلَالَ " هُوَ الصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ " وَالْإِكْرَامَ " الصِّفَاتُ الثُّبُوتِيَّةُ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الرَّازِيّ وَنَحْوُهُ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كِلَيْهِمَا صِفَاتٌ ثُبُوتِيَّةٌ، وَإِثْبَاتُ الْكَمَالِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ النَّقَائِصِ، لَكِنَّ ذِكْرَ نَوْعَيْ الثُّبُوتِ وَهُوَ مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ وَمَا

يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَظَّمَ: كَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان: 26] وَقَوْلِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغابن: 1] فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ وَالْغِنَى لَا يَكُونُ مَحْمُودًا بَلْ مَذْمُومًا، إذْ الْحَمْدُ يَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ عَنْ الْمَحْمُودِ بِمَحَاسِنِهِ الْمَحْبُوبَةِ، فَيَتَضَمَّنُ إخْبَارًا بِمَحَاسِنِ الْمَحْبُوبِ مَحَبَّةً لَهُ. وَكَثِيرٌ مِمَّنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ الْحَمْدِ وَالْمَحَبَّةِ يَكُونُ فِيهِ عَجْزٌ وَضَعْفٌ وَذُلٌّ يُنَافِي الْعَظَمَةَ وَالْغِنَى وَالْمُلْكَ. فَالْأَوَّلُ يُهَابُ وَيُخَافُ وَلَا يُحَبُّ. وَهَذَا يُحَبُّ وَيُحْمَدُ، وَلَا يُهَابُ وَلَا يُخَافُ. وَالْكَمَالُ اجْتِمَاعُ الْوَصْفَيْنِ. كَمَا وَرَدَ فِي الْأَثَرِ «أَنَّ الْمُؤْمِنَ رُزِقَ حَلَاوَةً وَمَهَابَةً» وَفِي نَعْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ» . فَقَرَنَ التَّسْبِيحَ بِالتَّحْمِيدِ، وَقَرَنَ التَّهْلِيلَ بِالتَّكْبِيرِ؛ كَمَا فِي كَلِمَاتِ الْأَذَانِ. ثُمَّ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ يَتَضَمَّنُ الْآخَرَ إذَا أَفْرَدَ: فَإِنَّ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ يَتَضَمَّنُ التَّعْظِيمَ؛ وَيَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْإِلَهِيَّةَ فَإِنَّ الْإِلَهِيَّةَ تَتَضَمَّنُ كَوْنَهُ مَحْبُوبًا؛ بَلْ تَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ كَمَالَ الْحُبِّ إلَّا هُوَ. وَالْحَمْدُ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الْمَحْمُودِ بِالصِّفَاتِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ فَالْإِلَهِيَّةُ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحَمْدِ؛ وَلِهَذَا كَانَ " الْحَمْدُ لِلَّهِ " مِفْتَاحَ الْخِطَابِ؛ وَكُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ " وَسُبْحَانَ اللَّهِ " فِيهَا إثْبَاتُ عَظَمَتِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: « {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ» رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، وَقَالَ: «أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِيهِ بِالدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فَجَعَلَ التَّعْظِيمَ فِي الرُّكُوعِ أَخَصَّ مِنْهُ بِالسُّجُودِ وَالتَّسْبِيحَ يَتَضَمَّنُ التَّعْظِيمَ. فَفِي " قَوْلِهِ " سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ " إثْبَاتُ تَنْزِيهِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَحَمْدِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ " فَفِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ [إثْبَاتُ] مَحَامِدِهِ، فَإِنَّهَا كُلَّهَا دَاخِلَةٌ

فِي إثْبَاتِ إلَهِيَّتِهِ وَفِي قَوْلِهِ: " اللَّهُ أَكْبَرُ " إثْبَاتُ عَظَمَتِهِ فَإِنَّ الْكِبْرِيَاءَ يَتَضَمَّنُ الْعَظَمَةَ وَلَكِنَّ الْكِبْرِيَاءَ أَكْمَلُ. وَلِهَذَا جَاءَتْ الْأَلْفَاظُ الْمَشْرُوعَةُ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ بِقَوْلِ: " اللَّهُ أَكْبَرُ " فَإِنَّ ذَلِكَ أَكْمَلُ مِنْ قَوْلِ اللَّهُ أَعْظَمُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْته» فَجَعَلَ الْعَظَمَةَ كَالْإِزَارِ، وَالْكِبْرِيَاءَ كَالرِّدَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرِّدَاءَ أَشْرَفُ، فَلَمَّا كَانَ التَّكْبِيرُ أَبْلَغَ مِنْ التَّعْظِيمِ صَرَّحَ بِلَفْظِهِ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ التَّعْظِيمَ، وَفِي قَوْلِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، صَرَّحَ فِيهَا بِالتَّنْزِيهِ مِنْ السُّوءِ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّعْظِيمِ، فَصَارَ كُلٌّ مِنْ الْكَلِمَتَيْنِ مُتَضَمِّنًا مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ إذَا أُفْرِدَتَا، وَعِنْدَ الِاقْتِرَانِ تُعْطِي كُلُّ كَلِمَةٍ خَاصِّيَّتَهَا. وَهَذَا كَمَا أَنَّ كُلَّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَعْنَى الْآخَرِ؛ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ، وَالذَّاتُ تَسْتَلْزِمُ مَعْنَى الِاسْمِ الْآخَرِ، لَكِنَّ هَذَا بِاللُّزُومِ. وَأَمَّا دَلَالَةُ كُلِّ اسْمٍ عَلَى خَاصِّيَّتِهِ وَعَلَى الذَّاتِ بِمَجْمُوعِهِمَا فَبِالْمُطَابَقَةِ، وَدَلَالَتُهَا عَلَى أَحَدِهِمَا بِالتَّضَمُّنِ. فَقَوْلُ الدَّاعِي: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ} [الأنبياء: 87] يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعِ اللَّاتِي هُنَّ أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ. وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ تَتَضَمَّنُ مَعَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا فَفِيهَا كَمَالُ الْمَدْحِ. وَقَوْلُهُ: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] فِيهِ اعْتِرَافٌ بِحَقِيقَةِ حَالِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ أَنْ يُبَرِّئَ نَفْسَهُ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ، لَا سِيَّمَا فِي مَقَامِ مُنَاجَاتِهِ لِرَبِّهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» . وَقَالَ: «مَنْ قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ» فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَرِفَ بِظُلْمِ نَفْسِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ، وَلِهَذَا كَانَ سَادَاتُ الْخَلَائِقِ لَا يَفْضُلُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى يُونُسَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، بَلْ يَقُولُونَ: كَمَا قَالَ أَبُوهُمْ آدَم وَخَاتِمُهُمْ مُحَمَّدٌ.

فصل الضر لا يكشفه إلا الله

[فَصْلٌ الضُّرَّ لَا يَكْشِفُهُ إلَّا اللَّهُ] فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: لِمَ كَانَتْ مُوجِبَةً لِكَشْفِ الضُّرِّ؟ فَذَلِكَ لِأَنَّ الضُّرَّ لَا يَكْشِفُهُ إلَّا اللَّهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107] وَالذُّنُوبُ سَبَبٌ لِلضُّرِّ، وَالِاسْتِغْفَارُ يُزِيلُ أَسْبَابَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُعَذِّبُ مُسْتَغْفِرًا. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَكْثَرَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ» وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] . فَقَوْلُهُ: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] اعْتِرَافٌ بِالذَّنْبِ وَهُوَ اسْتِغْفَارٌ، فَإِنَّ هَذَا الِاعْتِرَافَ مُتَضَمِّنٌ طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ. وَقَوْلُهُ: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ} [الأنبياء: 87] تَحْقِيقٌ لِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، فَإِنَّ الْخَيْرَ لَا مُوجِبَ لَهُ إلَّا مَشِيئَةُ اللَّهِ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَالْمُعَوِّقَ لَهُ مِنْ الْعَبْدِ هُوَ ذُنُوبُهُ، وَمَا كَانَ خَارِجًا عَنْ قُدْرَةِ الْعَبْدِ فَهُوَ مِنْ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَتْ أَفْعَالُ الْعِبَادِ بِقَدْرِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ سَبَبًا لِلنَّجَاةِ، وَالسَّعَادَةِ، فَشَهَادَةُ التَّوْحِيدِ تَفْتَحُ بَابَ الْخَيْرِ، وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْ الذُّنُوبِ يُغْلِقُ بَابَ الشَّرِّ. وَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ لَا يُعَلِّقَ رَجَاءَهُ إلَّا بِاَللَّهِ وَلَا يَخَافَ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَظْلِمَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ؛ بَلْ يَخَافُ أَنْ يَجْزِيَهُ بِذُنُوبِهِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ وَلَا يَخَافَنَّ إلَّا ذَنْبَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدُك؟ فَقَالَ أَرْجُو اللَّهَ وَأَخَافُ ذُنُوبِي، فَقَالَ: مَا اجْتَمَعَا فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا

الْمَوْطِنِ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ» . فَالرَّجَاءُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّقَ بِاَللَّهِ، وَلَا يَتَعَلَّقَ بِمَخْلُوقٍ وَلَا بِقُوَّةِ الْعَبْدِ وَلَا عَمَلِهِ، فَإِنَّ تَعْلِيقَ الرَّجَاءِ بِغَيْرِ اللَّهِ إشْرَاكٌ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ لَهَا أَسْبَابًا فَالسَّبَبُ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُعَاوِنٍ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَمْنَعَ الْمُعَارِضَ الْمُعَوِّقَ لَهُ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ وَيَبْقَى إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلِهَذَا قِيلَ: الِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ، وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ. وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] فَأَمَرَ بِأَنْ تَكُونَ الرَّغْبَةُ إلَيْهِ وَحْدَهُ، وَقَالَ: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] فَالْقَلْبُ لَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَى مَنْ يَرْجُوهُ، فَمَنْ رَجَا قُوَّتَهُ أَوْ عَمَلَهُ أَوْ عِلْمَهُ أَوْ أَوْ صَدِيقَهُ أَوْ قَرَابَتَهُ أَوْ شَيْخَهُ أَوْ مِلْكَهُ أَوْ مَالَهُ غَيْرَ نَاظِرٍ إلَى اللَّهِ كَانَ فِيهِ نَوْعُ تَوَكُّلٍ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ، وَمَا رَجَا أَحَدٌ مَخْلُوقًا أَوْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ إلَّا خَابَ ظَنُّهُ فِيهِ فَإِنَّهُ مُشْرِكٌ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] . وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكُ يَخَافُ الْمَخْلُوقِينَ، وَيَرْجُوهُمْ، فَيَحْصُلُ لَهُ رُعْبٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151] وَالْخَالِصُ مِنْ الشِّرْكِ يَحْصُلُ لَهُ الْأَمْنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظُّلْمَ هُنَا بِالشِّرْكِ. فَفِي الصَّحِيحِ: «عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّمَا هَذَا الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] »

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165] {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ - وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 166 - 167] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا} [الإسراء: 56] {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] . وَلِهَذَا يَذْكُرُ اللَّهُ الْأَسْبَابَ، وَيَأْمُرُ بِأَنْ لَا يُعْتَمَدَ عَلَيْهَا، وَلَا يُرْجَى إلَّا اللَّهُ، قَالَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126] وَقَالَ: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160] . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الدُّعَاءَ نَوْعَانِ: دُعَاءُ عِبَادَةٍ، وَدُعَاءُ مَسْأَلَةٍ. وَكِلَاهُمَا لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ، فَمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ قَعَدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا، وَالرَّاجِي سَائِلٌ طَالِبٌ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَرْجُوَ إلَّا اللَّهَ، وَلَا يَسْأَلُ غَيْرَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَك» . فَالْمُشْرِفُ الَّذِي يَسْتَشْرِفُ بِقَلْبِهِ، وَالسَّائِلُ الَّذِي يَسْأَلُ بِلِسَانِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «قَالَ: أَصَابَتْنَا فَاقَةٌ فَجِئْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَسْأَلَهُ فَوَجَدْته يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُوَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ وَاَللَّهِ، مَهْمَا يَكُنْ عِنْدَنَا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ نَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ

اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ» . " وَالِاسْتِغْنَاءُ " أَنْ لَا يَرْجُوَ بِقَلْبِهِ أَحَدًا فَيَسْتَشْرِفُ إلَيْهِ. " وَالِاسْتِعْفَافُ " أَنْ لَا يَسْأَلَ بِلِسَانِهِ أَحَدًا، وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ التَّوَكُّلِ فَقَالَ: قَطْعُ الِاسْتِشْرَافِ إلَى الْخَلْقِ؛ أَيْ لَا يَكُونُ فِي قَلْبِك أَنَّ أَحَدًا يَأْتِيك بِشَيْءٍ فَقِيلَ لَهُ: فَمَا الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: قَوْلُ الْخَلِيلِ لَمَّا قَالَ لَهُ جَبْرَائِيلُ هَلْ لَك مِنْ حَاجَةٍ؟ فَقَالَ: " أَمَّا إلَيْك فَلَا ". فَهَذَا وَمَا يُشْبِهُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَبْدَ فِي طَلَبِ مَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ لَا يُوَجِّهُ قَلْبَهُ إلَّا إلَى اللَّهِ؛ فَلِهَذَا قَالَ الْمَكْرُوبُ: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ} [الأنبياء: 87] . وَمِثْلُ هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ ابْن عَبَّاسٍ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: عِنْدَ الْكَرْبِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» فَإِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِيهَا تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ، وَتَأَلُّهُ الْعَبْدِ رَبَّهُ، وَتَعَلُّقُ رَجَائِهِ بِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهِيَ لَفْظُ خَبَرٍ يَتَضَمَّنُ الطَّلَبَ. وَالنَّاسُ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَقَوْلُ الْعَبْدِ لَهَا مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ لَهُ حَقِيقَةٌ أُخْرَى، وَبِحَسَبِ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ تَكْمُلُ طَاعَةُ اللَّهِ. قَالَ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا} [الفرقان: 43] {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا} [الفرقان: 44] فَمَنْ جَعَلَ مَا يَأْلَهُهُ هُوَ مَا يَهْوَاهُ فَقَدْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ، أَيْ جَعَلَ مَعْبُودَهُ هُوَ مَا يَهْوَاهُ، وَهَذَا حَالُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُ أَحَدُهُمْ مَا يَسْتَحْسِنُهُ فَهُمْ يَتَّخِذُونَ أَنْدَادًا مِنْ دُونِ اللَّهِ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: 76] . فَإِنَّ قَوْمَهُ لَمْ يَكُونُوا مُنْكَرِينَ لِلصَّانِعِ، وَلَكِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ يَعْبُدُ مَا يَسْتَحْسِنُهُ وَيَظُنُّهُ نَافِعًا لَهُ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، وَالْخَلِيلُ بَيَّنَ أَنَّ الْآفِلَ يَغِيبُ عَنْ عَابِدِهِ وَتَحْجُبُهُ

عَنْهُ الْحَوَاجِبُ فَلَا يَرَى عَابِدَهُ وَلَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ وَلَا يَعْلَمُ وَلَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ بِسَبَبٍ وَلَا غَيْرِهِ فَأَيُّ وَجْهٍ لِعِبَادَةِ مَنْ يَأْفُلُ؟ ، وَكُلَّمَا حَقَّقَ الْعَبْدُ الْإِخْلَاصَ فِي قَوْلِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَرَجَ مِنْ قَلْبِهِ تَأَلُّهُ مَا يَهْوَاهُ، وَتُصْرَفُ عَنْهُ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] . فَعَلَّلَ صَرْفَ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] وَقَالَ الشَّيْطَانُ: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» . فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ يَنْفِي أَسْبَابَ دُخُولِ النَّارِ؛ فَمَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنْ الْقَائِلِينَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَمْ يُحَقِّقْ إخْلَاصَهَا الْمُحَرِّمَ لَهُ عَلَى النَّارِ؛ بَلْ كَانَ فِي قَلْبِهِ نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِيمَا أَدْخَلَهُ النَّارَ، وَالشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعَبْدُ مَأْمُورًا فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ يَقُولَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . وَالشَّيْطَانُ يَأْمُرُ بِالشِّرْكِ وَالنَّفْسُ تُطِيعُهُ فِي ذَلِكَ، فَلَا تَزَالُ النَّفْسُ تَلْتَفِتُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ. إمَّا خَوْفًا مِنْهُ، وَإِمَّا رَجَاءً لَهُ، فَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ مُفْتَقِرًا إلَى تَخْلِيصِ تَوْحِيدِهِ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ. وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ الشَّيْطَانُ: أَهْلَكْتُ النَّاسَ بِالذُّنُوبِ وَأَهْلَكُونِي بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالِاسْتِغْفَارِ فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِكَ بَثَثْتُ فِيهِمْ الْأَهْوَاءَ فَهُمْ يُذْنِبُونَ وَلَا يَسْتَغْفِرُونَ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا» . فَصَاحِبُ الْهَوَى الَّذِي اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ لَهُ نَصِيبٌ مِمَّنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ، فَصَارَ فِيهِ شِرْكٌ مَنَعَهُ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ وَأَمَّا مَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ وَالِاسْتِغْفَارَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُرْفَعَ عَنْهُ الشَّرُّ؛ فَلِهَذَا قَالَ ذُو النُّونِ: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] .

دعاء خاتمة المجلس

وَلِهَذَا يَقْرُنُ اللَّهُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] وَقَوْلِهِ: {أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود: 2] {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3] وَقَوْلِهِ: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65] إلَى قَوْلِهِ: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 52] وَقَوْلِهِ: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6] . [دُّعَاءُ خَاتِمَةُ الْمَجْلِسِ] وَخَاتِمَةُ الْمَجْلِسِ: " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك " إنْ كَانَ مَجْلِسَ رَحْمَةٍ كَانَتْ كَالطَّابَعِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَجْلِسَ لَغْوٍ كَانَتْ كَفَّارَةً لَهُ، وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا أَنَّهَا تُقَالُ فِي آخِرِ الْوُضُوءِ بَعْدَ أَنْ يُقَالَ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ الْمُتَطَهِّرِينَ» . وَهَذَا الذِّكْرُ يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ وَالِاسْتِغْفَارَ؛ فَإِنَّ صَدْرَهُ الشَّهَادَتَانِ اللَّتَانِ هُمَا أَصْلَا الدِّينِ وَجِمَاعُهُ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الدِّينِ دَاخِلٌ فِي " الشَّهَادَتَيْنِ " إذْ مَضْمُونُهُمَا أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ، وَأَنْ نُطِيعَ رَسُولَهُ، " وَالدِّينُ " كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي هَذَا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَكُلُّ مَا يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ دَاخِلٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ يَقُولُ: «سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك» وَهَذَا كَفَّارَةُ الْمَجْلِسِ، فَقَدْ شُرِعَ فِي آخِرِ الْمَجْلِسِ وَفِي آخِرِ الْوُضُوءِ، وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْتِمُ الصَّلَاةَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ «كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ» وَهُنَا قَدَّمَ الدُّعَاءَ

وَخَتَمَهُ بِالتَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَخَتَمَ بِالتَّوْحِيدِ لِيَخْتِمَ الصَّلَاةَ بِأَفْضَلَ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ، بِخِلَافِ مَا لَمْ يَقْصِدْ فِيهِ هَذَا فَإِنَّ تَقْدِيمَ التَّوْحِيدِ أَفْضَلُ. فَإِنَّ جِنْسَ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ ثَنَاءٌ وَعِبَادَةٌ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ سُؤَالٌ وَطَلَبٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَفْضُولُ قَدْ يَفْضُلُ عَلَى الْفَاضِلِ فِي مَوْضِعِهِ الْخَاصِّ، بِسَبَبٍ وَبِأَشْيَاءَ أُخَرَ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ، وَالْقِرَاءَةَ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ ثَنَاءٌ، وَالذِّكْرَ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ سُؤَالٌ، وَمَعَ هَذَا فَالْمَفْضُولُ لَهُ أَمْكِنَةٌ وَأَزْمِنَةٌ وَأَحْوَالٌ يَكُونُ فِيهَا أَفْضَلَ مِنْ الْفَاضِلِ، لَكِنَّ أَوَّلَ الدِّينِ وَآخِرَهُ وَظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ هُوَ التَّوْحِيدُ، وَإِخْلَاصُ الدِّينِ كُلِّهِ لِلَّهِ هُوَ تَحْقِيقُ قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِي الْإِقْرَارِ بِهَا، فَهُمْ مُتَفَاضِلُونَ فِي تَحْقِيقِهَا تَفَاضُلًا لَا نَقْدِرُ أَنْ نَضْبِطَهُ، حَتَّى أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ التَّوْحِيدَ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَبَيْنَ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ الَّذِي دَعَاهُمْ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَجْمَعُونَ بَيْنَ التَّوْحِيدِ الْقَوْلِيِّ وَالْعَمَلِيِّ. فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ الْعَالَمَ خَلَقَهُ اثْنَانِ، وَلَا إنَّ مَعَ اللَّهِ رَبًّا يَنْفَرِدُ دُونَهُ بِخَلْقِ شَيْءٍ؛ بَلْ كَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 84] {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ - قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون: 85 - 87] {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 88] {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89] . وَكَانُوا مَعَ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ وَحْدَهُ يَجْعَلُونَ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى. يَجْعَلُونَهُمْ

شُفَعَاءَ لَهُمْ إلَيْهِ. وَيَقُولُونَ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] . وَيُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. وَالْإِشْرَاكُ فِي الْحُبِّ وَالْعِبَادَةِ وَالدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ غَيْرُ الْإِشْرَاكِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْإِقْرَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] فَمَنْ أَحَبَّ مَخْلُوقًا كَمَا يُحِبُّ الْخَالِقَ فَهُوَ مُشْرِكٌ بِهِ، قَدْ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ. وَلِهَذَا فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَ مَنْ أَحَبَّ مَخْلُوقًا لِلَّهِ، وَبَيْنَ مَنْ أَحَبَّ مَخْلُوقًا مَعَ اللَّهِ، فَالْأَوَّلُ يَكُونُ اللَّهُ هُوَ مَحْبُوبُهُ وَمَعْبُودُهُ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَى حُبِّهِ وَعِبَادَتِهِ لَا يُحِبُّ مَعَهُ غَيْرَهُ؛ لَكِنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْبِيَاءَهُ وَعِبَادَهُ الصَّالِحِينَ أَحَبَّهُمْ لِأَجْلِهِ، وَكَذَلِكَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ أَحَبَّ ذَلِكَ، فَكَانَ حُبُّهُ لِمَا يُحِبُّهُ تَابِعًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَفَرْعًا عَلَيْهِ وَدَاخِلًا فِيهِ. بِخِلَافِ مَنْ أَحَبَّ مَعَ اللَّهِ فَجَعَلَهُ نِدًّا لِلَّهِ يَرْجُوهُ وَيَخَافُهُ، أَوْ يُطِيعُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ، وَيَتَّخِذُهُ شَفِيعًا لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ يَأْذَنُ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] وَقَالَ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] . وَقَدْ «قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ لِلنَّبِيِّ: مَا عَبَدُوهُمْ، قَالَ: أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ فَأَطَاعُوهُمْ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ فَأَطَاعُوهُمْ، فَكَانَتْ تِلْكَ عِبَادَتُهُمْ إيَّاهُمْ» . وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]

وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا} [الفرقان: 27] {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا} [الفرقان: 28] {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولا} [الفرقان: 29] . فَالرَّسُولُ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ، وَالدِّينُ مَا شَرَّعَهُ، وَمَنْ سِوَى الرَّسُولِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ إنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ إذَا كَانَتْ طَاعَتُهُمْ طَاعَةً لِلَّهِ، وَهُمْ إذَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِطَاعَتِهِمْ فَطَاعَتُهُمْ دَاخِلَةٌ فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] . فَلَمْ يَقُلْ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأَطِيعُوا أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ؛ بَلْ جَعَلَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ دَاخِلَةً فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ؛ وَطَاعَةَ الرَّسُولِ طَاعَةً لِلَّهِ، وَأَعَادَ الْفِعْلَ فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ دُونَ طَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ؛ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ إذَا أَمَرَهُ الرَّسُولُ بِأَمْرٍ أَنْ يَنْظُرَ هَلْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْ لَا، بِخِلَافِ أُولِي الْأَمْرِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَأْمُرُونَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَطَاعَهُمْ مُطِيعًا لِلَّهِ، بَلْ لَا بُدَّ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْصِيَةً لِلَّهِ، وَيَنْظُرُ هَلْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْ لَا، سَوَاءٌ كَانَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْأُمَرَاءِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا تَقْلِيدُ الْعُلَمَاءِ وَطَاعَةُ أُمَرَاءِ السَّرَايَا وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَبِهَذَا يَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ قَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَمَّا قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً. فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يُحِبُّ خَلِيفَةً أَوْ عَالِمًا أَوْ شَيْخًا أَوْ أَمِيرًا فَيَجْعَلُهُ نِدًّا لِلَّهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقُولُ: إنَّهُ يُحِبُّهُ لِلَّهِ.

فَمَنْ جَعَلَ غَيْرَ الرَّسُولِ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ، وَإِنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَدْ جَعَلَهُ نِدًّا، وَرُبَّمَا صَنَعَ بِهِ كَمَا تَصْنَعُ النَّصَارَى بِالْمَسِيحِ، وَيَدْعُوهُ وَيَسْتَغِيثُ بِهِ، وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَهُ، وَيُعَادِي أَعْدَاءَهُ مَعَ إيجَابِهِ طَاعَتَهُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ وَيُحَلِّلُهُ وَيُحَرِّمُهُ، وَيُقِيمُهُ مَقَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهَذَا مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي يَدْخُلُ أَصْحَابُهُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] . فَالتَّوْحِيدُ وَالْإِشْرَاكُ يَكُونُ فِي أَقْوَالِ الْقَلْبِ، وَيَكُونُ فِي أَعْمَالِ الْقَلْبِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْجُنَيْدُ: التَّوْحِيدُ قَوْلُ الْقَلْبِ، وَالتَّوَكُّلُ عَمَلُ الْقَلْبِ أَرَادَ بِذَلِكَ التَّوْحِيدَ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَرَنَهُ بِالتَّوَكُّلِ جَعَلَهُ أَصْلَهُ، وَإِذَا أَفْرَدَ لَفْظَ التَّوْحِيدِ فَهُوَ يَتَضَمَّنُ قَوْلَ الْقَلْبِ وَعَمَلَهُ، وَالتَّوَكُّلُ مِنْ تَمَامِ التَّوْحِيدِ. وَهَذَا كَلَفْظِ " الْإِيمَانِ " فَإِنَّهُ إذَا أُفْرِدَ دَخَلَتْ فِيهِ الْأَعْمَالُ الْبَاطِنَةُ وَالظَّاهِرَةُ، وَقِيلَ الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، أَيْ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ» . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الأنفال: 3] {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 4]

وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] . " وَالْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ " يَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْلَامُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ» وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا. وَأَمَّا إذَا قَرَنَ لَفْظَ الْإِيمَانِ بِالْعَمَلِ أَوْ بِالْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277] وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَكَمَا فِي «قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: لَمَّا سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، فَقَالَ: الْإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ قَالَ: فَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. قَالَ: فَمَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك» . فَفَرَّقَ فِي هَذَا النَّصِّ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ لَمَّا أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْعَمَلِ " فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الْمَذْكُورَ هُوَ مِنْ الْعَمَلِ وَالْعَمَلُ الظَّاهِرُ هُوَ مُوجِبُ إيمَانِ الْقَلْبِ وَمُقْتَضَاهُ، فَإِذَا حَصَلَ إيمَانُ الْقَلْبِ حَصَلَ إيمَانُ الْجَوَارِحِ ضَرُورَةً، وَإِيمَانُ الْقَلْبِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَانْقِيَادِهِ، وَإِلَّا فَلَوْ صَدَّقَ قَلْبُهُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ يَبْغُضُهُ وَيَحْسُدُهُ وَيَسْتَكْبِرُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ لَمْ يَكُنْ قَدْ آمَنَ قَلْبُهُ. " وَالْإِيمَانُ " وَإِنْ تَضَمَّنَ التَّصْدِيقَ فَلَيْسَ هُوَ مُرَادِفًا لَهُ؛ فَلَا يُقَالُ لِكُلِّ مُصَدِّقٍ

بِشَيْءٍ: إنَّهُ مُؤْمِنٌ بِهِ. فَلَوْ قَالَ: أَنَا أُصَدِّقُ بِأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، وَأَنَّ السَّمَاءَ فَوْقَنَا وَالْأَرْضَ تَحْتَنَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُشَاهِدُهُ النَّاسُ وَيَعْلَمُونَهُ لَمْ يُقَلْ لِهَذَا: إنَّهُ مُؤْمِنٌ بِذَلِكَ؛ بَلْ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَنْ أُخْبِرَ بِشَيْءٍ مِنْ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ كَقَوْلِ إخْوَةِ يُوسُفَ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوهُ بِمَا غَابَ عَنْهُ وَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَنْ آمَنَ لَهُ وَآمَنَ بِهِ فَالْأَوَّلُ يُقَالُ لِلْمُخْبِرِ، وَالثَّانِي يُقَالُ لِلْمُخْبَرِ بِهِ كَمَا قَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يونس: 83] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] فَفَرَّقَ بَيْنَ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَإِيمَانِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ يُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ إذَا أَخْبَرُوهُ وَأَمَّا إيمَانُهُ بِاَللَّهِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِقْرَارِ بِهِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47] أَيْ نُقِرُّ لَهُمَا وَنُصَدِّقُهُمَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26] وَمِنْ الْمَعْنَى الْآخَرِ قَوْله تَعَالَى: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] وَقَوْلُهُ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177] أَيْ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ لَفْظَ " الْإِيمَانِ " إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْأَمْنِ، كَمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَرَّ، فَالْمُؤْمِنُ صَاحِبُ أَمْنٍ، كَمَا أَنَّ الْمُقِرَّ صَاحِبُ إقْرَارٍ، فَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ بِمُوجِبِ تَصْدِيقِهِ، فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِذَلِكَ حُبُّهُ وَتَعْظِيمُهُ بَلْ كَانَ يَبْغُضُهُ وَيَحْسُدُهُ وَيَسْتَكْبِرُ عَنْ اتِّبَاعِهِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ بِهِ بَلْ كَافِرٌ بِهِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ كُفْرُ إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ. فَإِنَّ إبْلِيسَ لَمْ يُكَذِّبْ خَبَرًا وَلَا مُخْبِرًا بَلْ اسْتَكْبَرَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] وَقَالَ لَهُ مُوسَى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102] وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] . فَمُجَرَّدُ عِلْمِ الْقَلْبِ بِالْحَقِّ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عَمَلُ الْقَلْبِ بِمُوجِبِ عِلْمِهِ مِثْلُ مَحَبَّةِ الْقَلْبِ لَهُ وَاتِّبَاعُ الْقَلْبِ لَهُ لَمْ يَنْفَعْ صَاحِبَهُ، بَلْ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ، وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ» . وَلَكِنَّ الْجَهْمِيَّةَ ظَنُّوا أَنَّ مُجَرَّدَ عِلْمِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ هُوَ الْإِيمَانُ، وَأَنَّ مَنْ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ عِلْمِ قَلْبِهِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ شَرْعًا وَعَقْلًا وَحَقِيقَتُهُ تُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ؛ وَلِهَذَا أَطْلَقَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ كُفْرَهُمْ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ عَالِمًا بِالْحَقِّ وَيَبْغُضُهُ لِغَرَضٍ آخَرَ، فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ مُسْتَكْبِرًا عَنْ الْحَقِّ

يَكُونُ غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ، وَحِينَئِذٍ فَالْإِيمَانُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ. ثُمَّ إنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ الْقَلْبُ بِالتَّصْدِيقِ وَالْمَحَبَّةِ التَّامَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْإِرَادَةِ لَزِمَ وُجُودُ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، فَإِنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ إذْ اقْتَرَنَتْ بِهَا الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ لَزِمَ وُجُودُ الْمُرَادِ قَطْعًا، وَإِنَّمَا يَنْتَفِي وُجُودُ الْفِعْلِ لِعَدَمِ كَمَالِ الْقُدْرَةِ، أَوْ لِعَدَمِ كَمَالِ الْإِرَادَةِ، وَإِلَّا فَمَعَ كَمَالِهَا يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ، فَإِذَا أَقَرَّ الْقَلْبُ إقْرَارًا تَامًّا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَحَبَّهُ مَحَبَّةً تَامَّةً امْتَنَعَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ إنْ كَانَ عَاجِزًا لِخَرَسٍ وَنَحْوِهِ أَوْ لِخَوْفٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ بِهِمَا. " وَأَبُو طَالِبٍ " وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ مُحِبٌّ لَهُ فَلَمْ تَكُنْ مَحَبَّتُهُ لَهُ لِمَحَبَّتِهِ لِلَّهِ. بَلْ كَانَ يُحِبُّهُ لِأَنَّهُ ابْنُ أَخِيهِ فَيُحِبُّهُ لِلْقَرَابَةِ، وَإِذَا أَحَبَّ ظُهُورَهُ فَلِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ مِنْ الشَّرَفِ وَالرِّئَاسَةِ، فَأَصْلُ مَحْبُوبِهِ هُوَ الرِّئَاسَةُ؛ فَلِهَذَا لَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِ الشَّهَادَتَيْنِ عِنْدَ الْمَوْتِ رَأَى أَنَّ بِالْإِقْرَارِ بِهِمَا زَوَالُ دِينِهِ الَّذِي يُحِبُّهُ، فَكَانَ دِينُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ ابْنِ أَخِيهِ فَلَمْ يُقِرَّ بِهِمَا - فَلَوْ كَانَ يُحِبُّهُ لِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا كَانَ يُحِبُّهُ أَبُو بَكْرٍ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى - الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل: 17 - 18] {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 19] {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل: 20] {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 21] وَكَمَا كَانَ يُحِبُّهُ سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، كَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ لَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ قَطْعًا - فَكَانَ حُبُّهُ حُبًّا مَعَ اللَّهِ لَا حُبًّا لِلَّهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ مَا فَعَلَهُ مِنْ نَصْرِ الرَّسُولِ وَمُؤَازَرَتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهُ لِلَّهِ، وَاَللَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ، بِخِلَافِ الَّذِي فَعَلَ مَا فَعَلَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى. وَهَذَا مِمَّا يُحَقِّقُ أَنَّ " الْإِيمَانَ، وَالتَّوْحِيدَ " لَا بُدَّ فِيهِمَا مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ، كَحُبِّ الْقَلْبِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ، وَالدِّينُ لَا يَكُونُ دِينًا إلَّا بِعَمَلٍ؛ فَإِنَّ الدِّينَ يَتَضَمَّنُ الطَّاعَةَ وَالْعِبَادَةَ؛ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سُورَتَيْ الْإِخْلَاصِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] . إحْدَاهُمَا فِي تَوْحِيدِ الْقَوْلِ وَالْعِلْمِ.

وَالثَّانِيَةُ فِي تَوْحِيدِ الْعَمَلِ وَالْإِرَادَةِ؛ فَقَالَ فِي الْأَوَّلِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا التَّوْحِيدَ وَقَالَ فِي الثَّانِي {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 2] {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3] {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} [الكافرون: 4] {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 5] {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ مَا يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ. " وَالْعِبَادَةُ " أَصْلُهَا الْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ. وَالْعِبَادَةُ إذَا أُفْرِدَتْ دَخَلَ فِيهَا التَّوَكُّلُ وَنَحْوُهُ، وَإِذَا قُرِنَتْ بِالتَّوَكُّلِ صَارَ التَّوَكُّلُ قَسِيمًا لَهَا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي لَفْظِ الْإِيمَانِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَحْظُورَاتِ؛ وَالتَّوَكُّلُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وَقَالَ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرًا مَا يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ: تَتَنَوَّعُ دَلَالَةُ اللَّفْظِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ بِحَسَبِ الْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ؛ كَلَفْظِ " الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ " فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] وَقَالَ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] وَقَالَ: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] فَالْمُنْكَرُ يَدْخُلُ فِيهِ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ؛ كَمَا يَدْخُلُ فِي الْمَعْرُوفِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ. وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]

فَعَطَفَ الْمُنْكَرَ عَلَى الْفَحْشَاءِ، وَدَخَلَ فِي الْمُنْكَرِ هُنَا الْبَغْيُ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] فَقَرَنَ بِالْمُنْكَرِ الْفَحْشَاءَ وَالْبَغْيَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ " الْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ " إذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا دَخَلَ فِيهِ الْآخَرُ، وَإِذَا قَرَنَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ صَارَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؛ لَكِنْ هُنَاكَ أَحَدُ الِاسْمَيْنِ أَعَمُّ مِنْ الْآخَرِ، وَهُنَا بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، فَمَحَبَّةُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَنَحْوُ هَذَا كُلُّ هَذَا يَدْخُلُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى فِي الْمَحَبَّةِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] فَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] فَجَعَلَ التَّحَسُّبَ وَالرَّغْبَةَ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: (لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ) فِيهِ إفْرَادُ الْإِلَهِيَّةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ التَّصْدِيقَ لِلَّهِ قَوْلًا وَعَمَلًا، فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ؛ لَكِنْ كَانُوا يَجْعَلُونَ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى، فَلَا يَخُصُّونَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَتَخْصِيصُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ يُوجِبُ أَنْ لَا

يُعْبَدُ إلَّا إيَّاهُ، وَأَنْ لَا يُسْأَلُ غَيْرُهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقْصِدُ سُؤَالَ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، لَكِنْ فِي أُمُورٍ لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ؛ بَلْ يَكْرَهُهَا وَيَنْهَى عَنْهَا، فَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُخْلِصًا لَهُ فِي سُؤَالِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَيْسَ هُوَ مُخْلِصًا فِي عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ التَّوَجُّهَاتِ الْفَاسِدَةِ أَصْحَابِ الْكُشُوفَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّهُمْ يُعَانُونَ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهَا لَكِنْ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُوَافِقَةً لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَصَلَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ الْعَاجِلَةِ، وَكَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ عَاقِبَةً سَيِّئَةً، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12] . وَطَائِفَةٌ أُخْرَى قَدْ يَقْصِدُونَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَكِنْ لَا يُحَقِّقُونَ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ. فَهَؤُلَاءِ يُثَابُونَ عَلَى حُسْنِ نِيَّتِهِمْ، وَعَلَى طَاعَتِهِمْ، لَكِنَّهُمْ مَخْذُولُونَ فِيمَا يَقْصِدُونَهُ، إذْ لَمْ يُحَقِّقُوا الِاسْتِعَانَةَ بِاَللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا يُبْتَلَى الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالضَّعْفِ وَالْجَزَعِ تَارَةً، وَبِالْإِعْجَابِ أُخْرَى، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُهُ مِنْ الْخَيْرِ كَانَ لِضَعْفِهِ، وَرُبَّمَا حَصَلَ لَهُ جَزَعٌ، فَإِنْ حَصَلَ مُرَادُهُ نَظَرَ إلَى نَفْسِهِ وَقُوَّتِهِ فَحَصَلَ لَهُ إعْجَابٌ، وَقَدْ يَعْجَبُ بِحَالِهِ فَيَظُنُّ حُصُولَ مُرَادِهِ فَيَخْذُلُ. قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] إلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 27] . وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ النَّاسَ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ، فَالرِّيَاءُ مِنْ بَابِ الْإِشْرَاكِ بِالْخَلْقِ، وَالْعُجْبُ مِنْ بَابِ الْإِشْرَاكِ بِالنَّفْسِ وَهَذَا حَالُ الْمُسْتَكْبِرِ، فَالْمُرَائِي لَا يُحَقِّقُ قَوْلَهُ:

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] وَالْمُعْجَبُ لَا يُحَقِّقُ قَوْلَهُ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] خَرَجَ عَنْ الرِّيَاءِ وَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] خَرَجَ عَنْ الْإِعْجَابِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ: «ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ» . وَشَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مَنْ لَا تَكُونُ عِبَادَتُهُ لِلَّهِ وَلَا اسْتِعَانَتُهُ بِاَللَّهِ بَلْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ وَيَسْتَعِينُ غَيْرَهُ وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَكُونُ شِرْكُهُ بِالشَّيَاطِينِ كَأَصْحَابِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَيَفْعَلُونَ مَا تُحِبُّهُ الشَّيَاطِينُ مِنْ الْكَذِبِ وَالْفُجُورِ وَيَدْعُونَهُ بِأَدْعِيَةٍ تُحِبُّهَا الشَّيَاطِينُ وَيَعْزِمُونَ بِالْعَزَائِمِ الَّتِي تُطِيعُهَا الشَّيَاطِينُ مِمَّا فِيهَا إشْرَاكٌ بِاَللَّهِ. كَمَا قَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الْخَوَارِقِ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ. وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَحْوَالِ السَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: فَهُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ الَّذِينَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَلَمْ يَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَلَمْ يَتَوَكَّلُوا إلَّا عَلَيْهِ. وَقَوْلُ الْمَكْرُوبِ: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ} [الأنبياء: 87] قَدْ يَسْتَحْضِرُ فِي ذَلِكَ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَمَنْ أَتَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ النِّعْمَةَ اسْتَحْضَرَ التَّوْحِيدَ فِي النَّوْعَيْنِ. فَإِنَّ الْمَكْرُوبَ هِمَّتُهُ مُنْصَرِفَةٌ إلَى دَفْعِ ضُرِّهِ وَجَلْبِ نَفْعِهِ، فَقَدْ يَقُولُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " مُسْتَشْعِرًا أَنَّهُ لَا يَكْشِفُ الضُّرَّ غَيْرُك، وَلَا يَأْتِي بِالنِّعْمَةِ إلَّا أَنْتَ فَهَذَا مُسْتَحْضِرٌ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَمُسْتَحْضِرٌ تَوْحِيدَ السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ، وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، مُعْرِضٌ عَنْ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَأْمُرُ بِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَعْبُدَ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَعْبُدَهُ إلَّا بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَمَنْ اسْتَشْعَرَ هَذَا فِي قَوْلِهِ: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ} [الأنبياء: 87] كَانَ عَابِدًا لِلَّهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ وَكَانَ مُمْتَثِلًا قَوْلَهُ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] وَقَوْلَهُ: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] وَقَوْلَهُ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} [المزمل: 8] {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} [المزمل: 9] .

ثُمَّ إنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ مُحَرَّمًا أَثِمَ وَإِنْ قَضَيْت حَاجَتَهُ. وَإِنْ كَانَ طَالِبًا مُبَاحًا لِغَيْرِ قَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ لَمْ يَكُنْ آثِمًا وَلَا مُثَابًا. وَإِنْ كَانَ طَالِبًا مَا يُعِينُهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ لِقَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مُثَابًا مَأْجُورًا. وَهَذَا مِمَّا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْعَبْدِ الرَّسُولِ وَخُلَفَائِهِ، وَبَيْنَ النَّبِيِّ الْمَلَكِ، فَإِنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلَكًا أَوْ عَبْدًا رَسُولًا، فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ الرَّسُولَ هُوَ الَّذِي لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا أُمِرَ بِهِ، فَفِعْلُهُ كُلُّهُ عِبَادَةٌ لِلَّهِ، فَهُوَ عَبْدٌ مَحْضٌ مُنَفِّذٌ أَمْرَ مُرْسِلِهِ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «إنِّي وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت» وَهُوَ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ «لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ» إفْرَادَ اللَّهِ بِذَلِكَ قَدَرًا وَكَوْنًا، فَإِنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقِينَ يُشَارِكُونَهُ فِي هَذَا فَلَا يُعْطِي أَحَدًا وَلَا يَمْنَعُ إلَّا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ إفْرَادَ اللَّهِ بِذَلِكَ شَرْعًا وَدِينًا. أَيْ لَا أُعْطِي إلَّا مَنْ أُمِرْتُ بِإِعْطَائِهِ. وَلَا أَمْنَعُ إلَّا مَنْ أُمِرْتُ بِمَنْعِهِ، فَأَنَا مُطِيعٌ لِلَّهِ فِي إعْطَائِي وَمَنْعِي فَهُوَ يَقْسِمُ الصَّدَقَةَ وَالْفَيْءَ وَالْغَنَائِمَ كَمَا يَقْسِمُ الْمَوَارِيثَ بَيْنَ أَهْلِهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ. وَلِهَذَا كَانَ الْمَالُ حَيْثُ أُضِيفَ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَجِبُ أَنْ يُصْرَفَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مِلْكٌ لِلرَّسُولِ، كَمَا ظَنَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَلَا الْمُرَادُ بِهِ كَوْنَهُ مَمْلُوكًا لِلَّهِ خَلْقًا وَقَدْرًا فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَمْوَالِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] وَقَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] إلَى قَوْلِهِ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] . فَذَكَرَ فِي الْفَيْءِ مَا ذَكَرَ فِي الْخُمُسِ.

فَظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الرَّسُولِ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَمْلِكُهُ. كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْلَاكَهُمْ. ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ كَانَتْ مِلْكًا لِلرَّسُولِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْفَيْءَ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ كَانَ مِلْكًا لِلرَّسُولِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الرَّسُولَ إنَّمَا كَانَ يَسْتَحِقُّ مِنْ الْخُمُسِ خُمُسَهُ. وَقَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: وَكَذَلِكَ كَانَ يَسْتَحِقُّ مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ خُمُسَهُ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تُوجَدُ فِي كَلَامِ طَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا: أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ هَذِهِ الْأَمْوَالَ كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْوَالَهُمْ، وَلَا كَمَا يَتَصَرَّفُ الْمُلُوكُ فِي مِلْكِهِمْ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ أَنْ يَصْرِفُوا أَمْوَالَهُمْ فِي الْمُبَاحَاتِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهُ فَيَصْرِفُهُ فِي أَغْرَاضِهِ الْخَاصَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لَهُ فَيَصْرِفُهُ فِي مَصْلَحَةِ مِلْكِهِ، وَهَذِهِ حَالُ النَّبِيِّ الْمَلِكِ كَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ. قَالَ تَعَالَى: {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39] أَيْ أَعْطِ مَنْ شِئْت وَاحْرِمْ مَنْ شِئْت لَا حِسَابَ عَلَيْك، وَنَبِيُّنَا كَانَ عَبْدًا رَسُولًا لَا يُعْطِي إلَّا مَنْ أُمِرَ بِإِعْطَائِهِ، وَلَا يَمْنَعُ إلَّا مَنْ أُمِرَ بِمَنْعِهِ، فَلَمْ يَكُنْ يَصْرِفُ الْأَمْوَالَ إلَّا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَةٍ لَهُ. وَمِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ لَا يُورَثُ وَلَوْ كَانَ مَلِكًا، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُورَثُونَ فَإِذَا كَانَ مُلُوكُ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُونُوا مُلَّاكًا كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْوَالَهُمْ، فَكَيْفَ يَكُونُ صَفْوَةُ الرُّسُلِ الَّذِي هُوَ عَبْدٌ رَسُولٌ مَالِكًا. وَمِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ قَدْرَ الْحَاجَةِ، وَيَصْرِفُ سَائِرَ الْمَالِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَا يَسْتَفْضِلُهُ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ حَالُ الْمُلَّاكِ، بَلْ الْمَالُ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِيهِ كُلَّهُ هُوَ مَالُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَصْرِفَ ذَلِكَ الْمَالَ فِي طَاعَتِهِ، فَتَجِبُ طَاعَتُهُ فِي قَسْمِهِ، كَمَا تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي سَائِرِ مَا يَأْمُرُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُبَلِّغٌ عَنْ اللَّهِ. وَالْأَمْوَالُ الَّتِي كَانَ يَقْسِمُهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وَجْهَيْنِ: مِنْهَا: مَا تَعَيَّنَ مُسْتَحِقُّهُ وَمَصْرِفُهُ كَالْمَوَارِيثِ. وَمِنْهَا: مَا يَحْتَاجُ إلَى اجْتِهَادِهِ وَنَظَرِهِ وَرَأْيِهِ، فَإِنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُ مَا هُوَ مَحْدُودٌ

بِالشَّرْعِ: كَالصَّلَوَاتِ، وَطَوَافِ الْأُسْبُوعِ بِالْبَيْتِ، وَمِنْهُ مَا يَرْجِعُ فِي قَدْرِهِ إلَى اجْتِهَادِ الْمَأْمُورِ فَيَزِيدُهُ وَيَنْقُصُهُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ. فَمِنْ هَذَا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَمِنْهُ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ: كَتَنَازُعِ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَجِبُ لِلزَّوْجَاتِ مِنْ النَّفَقَاتِ: هَلْ هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ؟ أَمْ يُرْجَعُ فِيهَا إلَى الْعُرْفِ، فَتَخْتَلِفُ فِي قَدْرِهَا وَصِفَتِهَا بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ؟ . وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، وَهُوَ الصَّوَابُ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدٍ: خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» وَقَالَ أَيْضًا: فِي خُطْبَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ «لِلنِّسَاءِ كِسْوَتُهُنَّ وَنَفَقَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» . وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا أَيْضًا فِيمَا يَجِبُ مِنْ الْكَفَّارَاتِ: هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ أَوْ بِالْعُرْفِ؟ فَمَا أُضِيفَ إلَى اللَّهِ وَالرُّسُلِ مِنْ الْأَمْوَالِ كَانَ الْمَرْجِعُ فِي قِسْمَتِهِ إلَى أَمْرِ النَّبِيِّ. بِخِلَافِ مَا سُمِّيَ مُسْتَحِقُّوهُ كَالْمَوَارِيثِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ حُنَيْنٍ «لَيْسَ لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ» أَيْ لَيْسَ لَهُ بِحُكْمِ الْقِسْمِ الَّذِي يَرْجِعُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِهِ وَنَظَرِهِ الْخَاصِّ إلَّا الْخُمُسُ، وَلِهَذَا قَالَ: «وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ» بِخِلَافِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ فَإِنَّهُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. وَلِهَذَا كَانَتْ الْغَنَائِمُ يَقْسِمُهَا الْأُمَرَاءُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَالْخُمُسُ يُرْفَعُ إلَى الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ الَّذِينَ خَلَفُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُمَّتِهِ فَيَقْسِمُونَهَا بِأَمْرِهِمْ، فَأَمَّا أَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ فَإِنَّمَا يَرْجِعُونَ فِيهَا لِيُعْلَمَ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا يَسْتَفْتِي الْمُسْتَفْتِي، وَكَمَا كَانُوا فِي الْحُدُودِ لِمَعْرِفَةِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ مَا أَعْطَاهُمْ؛ فَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ الْخُمُسِ؛ وَقِيلَ: إنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ فَعَلَ ذَلِكَ لِطِيبِ نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ؛ وَلِهَذَا أَجَابَ مَنْ عَتَبَ مِنْ الْأَنْصَارِ بِمَا أَزَالَ عَتَبَهُ وَأَرَادَ تَعْوِيضَهُمْ عَنْ ذَلِكَ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ الْغَنِيمَةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَمْلِكْهَا الْغَانِمُونَ؛ وَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ

يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا بَيَانُ حَالِ الْعَبْدِ الْمَحْضِ لِلَّهِ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَيَسْتَعِينُهُ فَيَعْمَلُ لَهُ وَيَسْتَعِينُهُ وَيُحَقِّقُ قَوْلَهُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ وَتَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ؛ وَإِنْ كَانَتْ الْإِلَهِيَّةُ تَتَضَمَّنُ الرُّبُوبِيَّةَ. وَالرُّبُوبِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْإِلَهِيَّةَ؛ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا إذَا تَضَمَّنَ الْآخَرَ عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَخْتَصَّ مَعْنَاهُ عِنْدَ الِاقْتِرَانِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] {مَلِكِ النَّاسِ} [الناس: 2] {إِلَهِ النَّاسِ} [الناس: 3] وَفِي قَوْلِهِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] فَجَمَعَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ: اسْمِ الْإِلَهِ وَاسْمِ الرَّبِّ. فَإِنَّ " الْإِلَهَ " هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ. " وَالرَّبُّ " هُوَ الَّذِي يَرُبُّ عَبْدَهُ فَيُدَبِّرُهُ. وَلِهَذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِهِ: اللَّهُ، وَالسُّؤَالُ مُتَعَلِّقًا بِاسْمِهِ: الرَّبُّ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي لَهَا خَلْقَ الْخَلْقَ. وَالْإِلَهِيَّةَ هِيَ الْغَايَةُ؛ وَالرُّبُوبِيَّةَ تَتَضَمَّنُ خَلْقَ الْخَلْقِ وَإِنْشَاءَهُمْ فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ ابْتِدَاءَ حَالِهِمْ؛ وَالْمُصَلِّي إذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فَبَدَأَ بِالْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ الْغَايَةُ عَلَى الْوَسِيلَةِ الَّتِي هِيَ الْبِدَايَةُ، فَالْعِبَادَةُ غَايَةٌ مَقْصُودَةٌ؛ وَالِاسْتِعَانَةُ وَسِيلَةٌ إلَيْهَا؛ تِلْكَ حِكْمَةٌ وَهَذَا سَبَبٌ؛ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ وَالْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ مَعْرُوفٌ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: أَوَّلُ الْفِكْرَةِ آخِرُ الْعَمَلِ وَأَوَّلُ الْبُغْيَةِ آخِرُ الدَّرْكِ. فَالْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التَّصَوُّرِ وَالْإِرَادَةِ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ فِي الْوُجُودِ. فَالْمُؤْمِنُ يَقْصِدُ عِبَادَةَ اللَّهِ ابْتِدَاءً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِعَانَتِهِ فَيَقُولُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . وَلَمَّا كَانَتْ الْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِهِ: اللَّهُ تَعَالَى جَاءَتْ الْأَذْكَارُ الْمَشْرُوعَةُ بِهَذَا الِاسْمِ مِثْلُ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ. وَمِثْلُ الشَّهَادَتَيْنِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَمِثْلُ التَّشَهُّدِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ. وَمِثْلُ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. وَأَمَّا السُّؤَالُ فَكَثِيرًا مَا يَجِيءُ بِاسْمِ الرَّبُّ كَقَوْلِ آدَمَ وَحَوَّاءَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]

وَقَوْلِ نُوحٍ: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: 47] وَقَوْلِ مُوسَى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16] وَقَوْلِ الْخَلِيلِ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم: 37] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ مَعَ إسْمَاعِيلَ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] وَكَذَلِكَ قَوْلُ الَّذِينَ قَالُوا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: يَا سَيِّدِي، يَا سَيِّدِي، يَا حَنَّانُ، يَا حَنَّانُ، وَلَكِنْ يَدْعُو بِمَا دَعَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ؛ رَبَّنَا، رَبَّنَا، نَقَلَهُ عَنْهُ الْعُتْبِيُّ فِي الْعُتْبِيَّةِ. وَقَالَ تَعَالَى: عَنْ أُولِي الْأَلْبَابِ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] الْآيَاتِ. فَإِذَا سَبَقَ إلَى قَلْبِ الْعَبْدِ قَصْدُ السُّؤَالِ نَاسَبَ أَنْ يَسْأَلَهُ بِاسْمِهِ الرَّبِّ. وَأَنْ يَسْأَلَهُ بِاسْمِهِ اللَّهِ لِتَضَمُّنِهِ اسْمَ الرَّبِّ كَانَ حَسَنًا، وَأَمَّا إذَا سَبَقَ إلَى قَلْبِهِ قَصْدُ الْعِبَادَةِ فَاسْمُ اللَّهِ أَوْلَى بِذَلِكَ. إذَا بَدَأَ بِالثَّنَاءِ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ، وَإِذَا قَصَدَ الدُّعَاءَ دَعَا الرَّبَّ، وَلِهَذَا قَالَ يُونُسُ: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] وَقَالَ آدَم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] فَإِنَّ يُونُسَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَهَبَ مُغَاضِبًا، وَقَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] قَالَ تَعَالَى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 142] فَفَعَلَ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ

فَكَانَ الْمُنَاسِبُ لِحَالِهِ أَنْ يَبْدَأَ بِالثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ، وَالِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ دُونَ غَيْرِهِ فَلَا يُطَاعُ الْهَوَى، فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يُضْعِفُ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ يُونُسَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَدِمَ عَلَى ارْتِفَاعِ الْعَذَابِ عَنْ قَوْمِهِ بَعْدَ أَنْ أَظَلَّهُمْ وَخَافَ أَنْ يَنْسُبُوهُ إلَى الْكَذِبِ فَغَاضَبَ. وَفَعَلَ مَا اقْتَضَى الْكَلَامَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْ يُقَالَ: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ} [الأنبياء: 87] وَهَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ الْإِلَهِيَّةِ، سَوَاءٌ صَدَرَ ذَلِكَ عَنْ هَوَى النَّفْسِ أَوْ طَاعَةِ الْخَلْقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ: {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] . وَالْعَبْدُ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فِيمَا يَظُنُّهُ وَهُوَ غَيْرُ مُطَابِقٍ، وَفِيمَا يُرِيدُهُ وَهُوَ غَيْرُ حَسَنٍ. وَأَمَّا آدَم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّهُ اعْتَرَفَ أَوَّلًا بِذَنْبِهِ فَقَالَ: {ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ آدَمَ مَنْ يُنَازِعُهُ الْإِرَادَةَ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، مِمَّا يُزَاحِمُ الْإِلَهِيَّةَ بَلْ ظَنَّ صِدْقَ الشَّيْطَانِ الَّذِي {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21] {فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22] فَالشَّيْطَانُ غَرَّهُمَا وَأَظْهَرَ نُصْحَهُمَا فَكَانَا فِي قَبُولِ غُرُورِهِ وَمَا أَظْهَرَ مِنْ نُصْحِهِ حَالُهُمَا مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِمَا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] لِمَا حَصَلَ مِنْ التَّفْرِيطِ، لَا لِأَجْلِ هَوًى وَحَظٍّ يُزَاحِمُ الْإِلَهِيَّةَ وَكَانَا مُحْتَاجَيْنِ إلَى أَنْ يَرُبَّهُمَا رُبُوبِيَّةً تُكْمِلُ عِلْمَهُمَا وَقَصْدَهُمَا. حَتَّى لَا يَغْتَرَّا بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَهُمَا يَشْهَدَانِ حَاجَتَهُمَا إلَى اللَّهِ رَبِّهِمَا الَّذِي لَا يَقْضِي حَاجَتَهُمَا غَيْرُهُ. وَذُو النُّونِ شَهِدَ مَا حَصَلَ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الْإِلَهِيَّةِ بِمَا حَصَلَ مِنْ الْمُغَاضَبَةِ وَكَرَاهَةِ إنْجَاءِ أُولَئِكَ، فَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمُعَارَضَةِ فِي الْفِعْلِ لِحُبِّ شَيْءٍ آخَرَ مَا يُوجِبُ تَجْرِيدَ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَتَأَلُّهِهِ لَهُ وَأَنْ يَقُولَ: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ} [الأنبياء: 87] فَإِنَّ قَوْلَ الْعَبْدِ: لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، يَمْحُو أَنْ يَتَّخِذَ إلَهَهُ هَوَاهُ. وَقَدْ رُوِيَ «مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ إلَهٌ يُعْبَدُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ هَوَى مُتَّبِعٍ» فَكَمَّلَ يُونُسُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه تَحْقِيقَ إلَهِيَّتِهِ لِلَّهِ، وَمَحْوَ الْهَوَى الَّذِي يُتَّخَذُ إلَهًا مِنْ دُونِهِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عِنْدَ تَحْقِيقِ قَوْلِهِ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ إرَادَةُ تَزَاحُمِ إلَهِيَّةَ الْحَقِّ، بَلْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ الدِّينَ إذْ كَانَ مِنْ أَفْضَلِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ.

وَأَيْضًا: فَمِثْلُ هَذِهِ الْحَالِ تَعْرِضُ لِمَنْ تَعْرِضُ لَهُ، فَيَبْقَى فِيهِ نَوْعُ مُغَاضَبَةٍ لِلْقَدَرِ وَمُعَارَضَةٍ لَهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَوَسَاوِسُ فِي حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، فَيَحْتَاجُ الْعَبْدُ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ شَيْئَيْنِ: الْآرَاءَ الْفَاسِدَةَ وَالْأَهْوَاءَ الْفَاسِدَةَ، فَيَعْلَمُ أَنَّ الْحِكْمَةَ وَالْعَدْلَ فِيمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ لَا فِيمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُ الْعَبْدِ وَحِكْمَتُهُ، وَيَكُونُ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ مَعَ أَمْرِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ هَوًى يُخَالِفُ ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْت بِهِ» رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ. وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاَللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي. قَالَ: الْآنَ يَا عُمَرُ» . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] . فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ لَا يَحْصُلُ حَتَّى يُحَكِّمَ الْعَبْدُ رَسُولَهُ وَيُسَلِّمَ لَهُ وَيَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ مُقَدَّمًا عَلَى حُبِّ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ، فَكَيْفَ فِي تَحْكِيمِهِ اللَّهَ تَعَالَى وَالتَّسْلِيمِ لَهُ؟ ، فَمَنْ رَأَى قَوْمًا يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ فِي ظَنِّهِ. وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُمْ وَرَحِمَهُمْ، وَكَرِهَ هُوَ ذَلِكَ. فَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ إرَادَةٍ تُخَالِفُ حُكْمَ اللَّهِ وَإِمَّا عَنْ ظَنٍّ يُخَالِفُ عِلْمَ اللَّهِ، وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَإِذَا عَلِمْت أَنَّهُ عَلِيمٌ، وَأَنَّهُ حَكِيمٌ لَمْ يَبْقَ لِكَرَاهِيَةِ مَا فَعَلَهُ وَجْهٌ، وَهَذَا يَكُونُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَفِيمَا خَلَقَهُ وَلَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْرَهَهُ وَنَغْضَبَ عَلَيْهِ. فَأَمَّا مَا أَمَرَنَا بِكَرَاهَتِهِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ: كَالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ فَعَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَهُ فِي أَمْرِهِ بِخِلَافِ تَوْبَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَإِنْجَائِهِ إيَّاهُمْ مِنْ الْعَذَابِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ

مَفْعُولَاتِهِ الَّتِي لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْرَهَهَا، بَلْ هِيَ مِمَّا يُحِبُّهَا فَإِنَّهُ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. فَكَرَاهَةُ هَذَا مِنْ نَوْعِ اتِّبَاعِ الْإِرَادَةِ الْمُزَاحِمَةِ لِلْإِلَهِيَّةِ. فَعَلَى صَاحِبِهَا أَنْ يُحَقِّقَ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ فَيَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ. فَعَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّ مَا يُحِبُّ وَنَرْضَى مَا يَرْضَى وَنَأْمُرَ بِمَا يَأْمُرُ وَنَنْهَى عَمَّا يَنْهَى. فَإِذَا كَانَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ فَعَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّهُمْ؛ وَلَا نَأْلَهَ مُرَادَاتِنَا الْمُخَالِفَةَ لِمُحَابِّهِ. وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى " أَصْلٍ ": وَهُوَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مَعْصُومُونَ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَفِي تَبْلِيغِ رِسَالَاتِهِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، وَلِهَذَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أُوتُوهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] . وَقَالَ: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177] . وَقَالَ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] . بِخِلَافِ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا مَعْصُومِينَ كَمَا عُصِمَ الْأَنْبِيَاءُ، وَلَوْ كَانُوا أَوْلِيَاءَ لِلَّهِ، وَلِهَذَا مَنْ سَبَّ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قُتِلَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَمَنْ سَبَّ غَيْرَهُمْ لَمْ يُقْتَلْ. وَهَذِهِ الْعِصْمَةُ الثَّابِتَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ هِيَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ؛ فَإِنَّ " النَّبِيَّ " هُوَ الْمُنَبِّئُ عَنْ اللَّهِ، " وَالرَّسُولَ " هُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَيْسَ كُلِّ نَبِيٍّ رَسُولًا، وَالْعِصْمَةُ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ عَنْ اللَّهِ ثَابِتَةٌ فَلَا يَسْتَقِرُّ فِي ذَلِكَ خَطَأٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

وَلَكِنْ هَلْ يَصْدُرُ مَا يَسْتَدْرِكُهُ اللَّهُ فَيَنْسَخُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ. وَالْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ يُوَافِقُ الْقُرْآنَ بِذَلِكَ. وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا ذَلِكَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ طَعَنُوا فِيمَا يُنْقَلُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي سُورَةِ النَّجْمِ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتُهُنَّ لَتُرْتَجَى، وَقَالُوا: إنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ ثَبَتَ: قَالَ هَذَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ فِي مَسَامِعِهِمْ وَلَمْ يَلْفِظْ بِهِ الرَّسُولُ. وَلَكِنَّ السُّؤَالَ وَارِدٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا. وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ: {إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] هُوَ حَدِيثُ النَّفْسِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَّرُوا مَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ فَقَالُوا هَذَا مَنْقُولٌ نَقْلًا ثَابِتًا لَا يُمْكِنُ الْقَدْحُ فِيهِ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ - وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 53 - 54] . فَقَالُوا الْآثَارُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعْرُوفَةٌ ثَابِتَةٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَالْحَدِيثِ، وَالْقُرْآنُ يُوَافِقُ ذَلِكَ فَإِنَّ نَسْخَ اللَّهِ لِمَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَإِحْكَامُهُ آيَاتِهِ إنَّمَا يَكُونُ لِرَفْعِ مَا وَقَعَ فِي آيَاتِهِ، وَتَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ حَتَّى لَا تَخْتَلِطَ آيَاتُهُ بِغَيْرِهَا. وَجَعْلُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا يَسْمَعُهُ النَّاسُ لَا بَاطِنًا فِي النَّفْسِ وَالْفِتْنَةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ النَّسْخِ مِنْ جِنْسِ الْفِتْنَةِ الَّتِي تَحْصُلُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ مِنْ النَّسْخِ. وَهَذَا النَّوْعُ أَدَلُّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبُعْدِهِ عَنْ الْهَوَى مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَأْمُرُ بِأَمْرٍ ثُمَّ يَأْمُرُ بِخِلَافِهِ وَكِلَاهُمَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا قَالَ عَنْ نَفْسِهِ إنَّ الثَّانِيَ هُوَ الَّذِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ النَّاسِخُ وَإِنَّ ذَلِكَ الْمَرْفُوعَ الَّذِي نَسَخَهُ اللَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ كَانَ أَدَلَّ عَلَى اعْتِمَادِهِ لِلصِّدْقِ وَقَوْلِهِ الْحَقَّ، وَهَذَا كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ كَاتِمًا شَيْئًا مِنْ الْوَحْيِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي يُعَظِّمُ نَفْسَهُ بِالْبَاطِلِ يُرِيدُ أَنْ يَنْصُرَ كُلَّ مَا قَالَهُ وَلَوْ كَانَ خَطَأً، فَبَيَانُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ اللَّهَ أَحْكَمَ آيَاتِهِ وَنَسَخَ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ هُوَ أَدَلُّ عَلَى تَحَرِّيهِ لِلصِّدْقِ وَبَرَاءَتِهِ مِنْ الْكَذِبِ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالرِّسَالَةِ فَإِنَّهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْلِيمًا، وَلِهَذَا كَانَ تَكْذِيبُهُ كُفْرًا مَحْضًا بِلَا رَيْبٍ. وَأَمَّا الْعِصْمَةُ فِي غَيْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَلِلنَّاسِ فِيهِ نِزَاعٌ، هَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالسَّمْعِ؟ وَمُتَنَازِعُونَ فِي الْعِصْمَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ أَوْ مِنْ بَعْضِهَا، أَمْ هَلْ الْعِصْمَةُ إنَّمَا هِيَ فِي الْإِقْرَارِ عَلَيْهَا لَا فِي فِعْلِهَا؟ أَمْ لَا يَجِبُ الْقَوْلُ بِالْعِصْمَةِ إلَّا فِي التَّبْلِيغِ فَقَطْ؟ وَهَلْ تَجِبُ الْعِصْمَةُ مِنْ الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ أَمْ لَا: وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْقَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ النَّاسِ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْآثَارِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ السَّلَفِ إثْبَاتُ الْعِصْمَةِ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ مُطْلَقًا، وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّهُ يَجُوزُ إقْرَارُهُمْ عَلَيْهَا، وَحُجَجُ الْقَائِلِينَ بِالْعِصْمَةِ إذَا حُرِّرَتْ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَحُجَجُ النُّفَاةِ لَا تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ ذَنْبٍ أَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ، فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِالْعِصْمَةِ احْتَجُّوا بِأَنَّ التَّأَسِّي بِهِمْ مَشْرُوعٌ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا مَعَ تَجْوِيزِ كَوْنِ الْأَفْعَالِ ذُنُوبًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّأَسِّي بِهِمْ إنَّمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِيمَا أَقَرُّوا عَلَيْهِ دُونَ مَا نَهَوْا عَنْهُ وَرَجَعُوا عَنْهُ، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ إنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْهُ، فَأَمَّا مَا نُسِخَ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَلَا يَجُوزُ جَعْلُهُ مَأْمُورًا بِهِ وَلَا مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَضْلًا عَنْ وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ وَالطَّاعَةِ فِيهِ. وَكَذَلِكَ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ أَنَّ الذُّنُوبَ تُنَافِي الْكَمَالَ، أَوْ أَنَّهَا مِمَّنْ عَظُمَتْ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ أَقْبَحُ. أَوْ أَنَّهَا تُوجِبُ التَّنْفِيرَ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ، فَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْبَقَاءِ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ الرُّجُوعِ، وَإِلَّا فَالتَّوْبَةُ النَّصُوحُ الَّتِي يَقْبَلُهَا اللَّهُ يَرْفَعُ بِهَا صَاحِبَهَا إلَى أَعْظَمِ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كَانَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ. وَقَالَ آخَرُ: لَوْ لَمْ تَكُنْ التَّوْبَةُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ لَمَا اُبْتُلِيَ

بِالذَّنْبِ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَيْهِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ حَدِيثُ التَّوْبَةِ: «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا» إلَخْ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] وَقَالَ تَعَالَى: {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: حَدِيثُ «الَّذِي يَعْرِضُ اللَّهُ صِغَارَ ذُنُوبِهِ وَيُخَبَّأُ عَنْهُ كِبَارُهَا وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِهَا أَنْ تَظْهَرَ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: إنِّي قَدْ غَفَرْتهَا لَك وَأَبْدَلْتُك مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، إنَّ لِي سَيِّئَاتٍ لَمْ أَرَهَا» إذَا رَأَى تَبْدِيلَ السَّيِّئَاتِ بِالْحَسَنَاتِ طَلَبَ رُؤْيَةَ الذُّنُوبِ الْكِبَارِ الَّتِي كَانَ مُشْفِقًا مِنْهَا أَنْ تَظْهَرَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ مَعَ هَذَا التَّبْدِيلِ أَعْظَمُ مِنْ حَالِهِ لَوْ لَمْ تَقَعْ السَّيِّئَاتُ وَلَا التَّبْدِيلُ. وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا النَّارَ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا الْجَنَّةَ، يَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَيُعْجَبُ بِهَا وَيَفْتَخِرُ بِهَا حَتَّى تُدْخِلَهُ النَّارَ، وَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَلَا يَزَالُ خَوْفُهُ مِنْهَا وَتَوْبَتُهُ مِنْهَا حَتَّى تُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} [الأحزاب: 72] {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 73] فَغَايَةُ كُلِّ إنْسَانٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الَّذِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَفِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْكُتُبِ الَّتِي أُنْزِلَتْ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِمَّا يُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ مَا يَتَعَذَّرُ إحْصَاؤُهُ. وَالرَّادُّونَ لِذَلِكَ تَأَوَّلُوا ذَلِكَ بِمِثْلِ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالدَّهْرِيَّةِ لِنُصُوصِ " الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " وَنُصُوصِ " الْقَدَرِ " وَنُصُوصِ " الْمَعَادِ " وَهِيَ مِنْ جِنْسِ تَأْوِيلَاتِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّتِي يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ، وَأَنَّهَا مِنْ بَابِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ

مَوَاضِعِهِ، وَهَؤُلَاءِ يَقْصِدُ أَحَدُهُمْ تَعْظِيمَ الْأَنْبِيَاءِ فَيَقَعُ فِي تَكْذِيبِهِمْ، وَيُرِيدُ الْإِيمَانَ بِهِمْ فَيَقَعُ فِي الْكُفْرِ بِهِمْ. ثُمَّ إنَّ الْعِصْمَةَ الْمَعْلُومَةَ بِدَلِيلِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالْإِجْمَاعِ، وَهِيَ " الْعِصْمَةُ فِي التَّبْلِيغِ " لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا إذْ كَانُوا لَا يُقِرُّونَ بِمُوجِبٍ مَا بَلَّغَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ، وَإِنَّمَا يُقِرُّونَ بِلَفْظٍ حَرَّفُوا مَعْنَاهُ أَوْ كَانُوا فِيهِ كَالْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ، وَالْعِصْمَةُ الَّتِي كَانُوا ادَّعَوْهَا لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا وَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَيْهَا عِنْدَهُمْ، فَإِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِغَيْرِهِمْ لَا بِمَا أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِهِ، فَيَتَكَلَّمُ أَحَدُهُمْ فِيهَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ مِنْ اللَّهِ، وَيَدَعُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْأَنْبِيَاءِ وَطَاعَتِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ السَّعَادَةُ وَبِضِدِّهِ تَحْصُلُ الشَّقَاوَةُ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54] الْآيَةَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا مَقْرُونًا بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، كَقَوْلِ آدَمَ وَزَوْجَتِهِ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] . وَقَوْلِ نُوحٍ: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47] ، وَقَوْلِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41] . وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] . وَقَوْلِ مُوسَى: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ - وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 155 - 156] . وَقَوْلِهِ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16] . وَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] . وقَوْله تَعَالَى عَنْ دَاوُد:

{فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] . وقَوْله تَعَالَى عَنْ سُلَيْمَانَ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35] . وَأَمَّا يُوسُفُ الصِّدِّيقُ فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ عَنْهُ ذَنْبًا فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ عَنْهُ مَا يُنَاسِبُ الذَّنْبَ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ، بَلْ قَالَ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ سُوءٌ وَلَا فَحْشَاءُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] . فَالْهَمُّ اسْمُ جِنْسٍ تَحْتَهُ " نَوْعَانِ " كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الْهَمُّ هَمَّانِ: هَمُّ خَطَرَاتٍ، وَهَمُّ إصْرَارٍ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ الْعَبْدَ إذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَرَكَهَا لِلَّهِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَ لَهُ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ» وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتْرُكَهَا لِلَّهِ لَمْ تَكْتُبْ لَهُ حَسَنَةٌ وَلَا تَكْتُبُ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ وَيُوسُفُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَمَّ هَمًّا تَرَكَهُ لِلَّهِ، وَلِذَلِكَ صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ لِإِخْلَاصِهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا قَامَ الْمُقْتَضِي لِلذَّنْبِ وَهُوَ الْهَمُّ، وَعَارَضَهُ الْإِخْلَاصُ الْمُوجِبُ لِانْصِرَافِ الْقَلْبِ عَنْ الذَّنْبِ لِلَّهِ. فَيُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ إلَّا حَسَنَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] . وَأَمَّا مَا يُنْقَلُ: مِنْ أَنَّهُ حَلَّ سَرَاوِيلَهُ، وَجَلَسَ مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَأَنَّهُ رَأَى صُورَةَ يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى يَدِهِ، وَأَمْثَالِهِ ذَلِكَ، فَكُلُّهُ مِمَّا لَمْ يُخْبِرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كَذِبًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْحًا فِيهِمْ، وَكُلُّ مَنْ نَقَلَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَعَنْهُمْ نَقَلَهُ، لَمْ يَنْقُلْ مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ عَنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرْفًا وَاحِدًا.

وَقَوْلُهُ: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53] فَمِنْ كَلَامِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، كَمَا يَدُلُّ الْقُرْآنُ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً بَيِّنَةً، لَا يَرْتَابُ فِيهَا مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ - قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 50 - 51] {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52] {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53] . فَهَذَا كُلُّهُ كَلَامُ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَيُوسُفُ إذْ ذَاكَ فِي السِّجْنِ، لَمْ يَحْضُرْ بَعْدُ إلَى الْمَلِكِ، وَلَا سَمِعَ كَلَامَهُ وَلَا رَآهُ؛ وَلَكِنْ لَمَّا ظَهَرَتْ بَرَاءَتُهُ فِي غَيْبَتِهِ - كَمَا قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف: 52] أَيْ لَمْ أَخُنْهُ فِي حَالِ مَغِيبِهِ عَنِّي وَإِنْ كُنْت فِي حَالِ شُهُودِهِ رَاوَدْته - فَحِينَئِذٍ: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا هَذَا الْقَوْلَ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ الْأَدِلَّةُ تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ، وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ " قِصَّةُ ذِي النُّونِ " مِمَّا يُلَامُ عَلَيْهِ كُلِّهِ مَغْفُورٌ بَدَّلَهُ اللَّهُ بِهِ حَسَنَاتٍ؛ وَرَفَعَ دَرَجَاتِهِ، وَكَانَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ وَتَوْبَتِهِ أَعْظَمَ دَرَجَةً مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مَا وَقَعَ، قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48] {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ - فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم: 49 - 50] وَهَذَا بِخِلَافِ حَالِ الْتِقَامِ الْحُوتِ فَإِنَّهُ قَالَ:

{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 142] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ مُلِيمٌ، " وَالْمُلِيمُ " الَّذِي فَعَلَ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ، فَالْمُلَامُ فِي تِلْكَ الْحَالِ لَا فِي حَالِ نَبْذِهِ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ، فَكَانَتْ حَالُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] أَرْفَعَ مِنْ حَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ مَا كَانَ، وَالِاعْتِبَارُ بِكَمَالِ النِّهَايَةِ لَا بِمَا جَرَى فِي الْبِدَايَةِ، وَالْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا. وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا ثُمَّ عَلَّمَهُ فَنَقَلَهُ مِنْ حَالِ النَّقْصِ إلَى حَالِ الْكَمَالِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ قَدْرُ الْإِنْسَانِ بِمَا وَقَعَ مِنْهُ قَبْلَ حَالِ الْكَمَالِ، بَلْ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ كَمَالِهِ، وَيُونُسُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فِي حَالِ النِّهَايَةِ حَالُهُمْ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ. وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مِنْ غَلِطَ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَإِنَّهُمْ اعْتَبَرُوا كَمَالَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ بِدَايَةِ الصَّالِحِينَ وَنَقْصِهِمْ فَغَلِطُوا وَلَوْ اعْتَبَرُوا حَالَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بَعْدَ دُخُولِ الْجِنَانِ، وَرِضَا الرَّحْمَنِ، وَزَوَالِ كُلِّ مَا فِيهِ نَقْصٌ وَمَغْلَامٌ، وَحُصُولِ كُلِّ مَا فِيهِ رَحْمَةٌ وَسَلَامٌ، حَتَّى اسْتَقَرَّ بِهِمْ الْقَرَارُ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24] فَإِذَا اُعْتُبِرَتْ تِلْكَ الْحَالُ ظَهَرَ فَضْلُهَا عَلَى حَالِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ وَإِلَّا فَهَلْ يَجُوزُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَعْتَبِرَ حَالَ أَحَدِهِمْ قَبْلَ الْكَمَالِ فِي مَقَامِ الْمَدْحِ وَالتَّفْضِيلِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ. وَلَوْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ لَاعْتُبِرَ أَحَدُهُمْ وَهُوَ نُطْفَةٌ ثُمَّ عَلَقَةٌ، ثُمَّ مُضْغَةٌ، ثُمَّ حِينَ نُفِخَتْ فِيهِ الرُّوحُ، ثُمَّ هُوَ وَلِيدٌ، ثُمَّ رَضِيعٌ ثُمَّ فَطِيمٌ، إلَى أَحْوَالٍ أُخَرَ فَعَلِمَ أَنَّ الْوَاحِدَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَمْ تَقُمْ بِهِ صِفَاتُ الْكَمَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا كَمَالَ الْمَدْحِ وَالتَّفْضِيلِ، وَتَفْضِيلُهُ بِهَا عَلَى كُلِّ صِنْفٍ وَجِيلٍ؛ وَإِنَّمَا فَضْلُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِ، عِنْدَ حُصُولِ الْكَمَالِ. وَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ مَنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَكْفُرْ قَطُّ أَفْضَلُ مِمَّنْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ لَيْسَ بِصَوَابٍ؛ بَلْ الِاعْتِبَارُ بِالْعَاقِبَةِ وَأَيُّهُمَا كَانَ أَتْقَى لِلَّهِ فِي عَاقِبَتِهِ كَانَ أَفْضَلَ. فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ

وَرَسُولِهِ بَعْدَ كُفْرِهِمْ هُمْ أَفْضَلُ مِمَّنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَغَيْرِ أَوْلَادِهِمْ؛ بَلْ مَنْ عَرَفَ الشَّرَّ وَذَاقَهُ ثُمَّ عَرَفَ الْخَيْرَ وَذَاقَهُ فَقَدْ تَكُونُ مَعْرِفَتُهُ بِالْخَيْرِ وَمَحَبَّتُهُ لَهُ وَمَعْرِفَتُهُ بِالشَّرِّ وَبُغْضُهُ لَهُ أَكْمَلَ مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفْ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَيَذُقْهُمَا كَمَا ذَاقَهُمَا؛ بَلْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ إلَّا الْخَيْرَ فَقَدْ يَأْتِيهِ الشَّرُّ فَلَا يَعْرِفُ أَنَّهُ شَرٌّ، فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُنْكِرَهُ كَمَا أَنْكَرَهُ الَّذِي عَرَفَهُ. وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً إذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْجَاهِلِيَّةَ. وَهُوَ كَمَا قَالَ عُمَرُ، فَإِنَّ كَمَالَ الْإِسْلَامِ هُوَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَتَمَامُ ذَلِكَ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَنْ نَشَأَ فِي الْمَعْرُوفِ لَمْ يَعْرِفْ غَيْرَهُ فَقَدْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مَنْ الْعِلْمِ بِالْمُنْكَرِ وَضَرَرِهِ مَا عِنْدَ مَنْ عَلِمَهُ، وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ الْجِهَادِ لِأَهْلِهِ مَا عِنْدَ الْخَبِيرِ بِهِمْ، وَلِهَذَا يُوجَدُ الْخَبِيرُ بِالشَّرِّ وَأَسْبَابِهِ إذَا كَانَ حُسْنُ الْقَصْدِ عِنْدَهُ مِنْ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ وَمَنْعِ أَهْلِهِ وَالْجِهَادِ لَهُمْ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِ. وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَعْظَمَ إيمَانًا وَجِهَادًا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، لِكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَكَمَالِ مَحَبَّتِهِمْ لِلْخَيْرِ وَبُغْضِهِمْ لِلشَّرِّ، لِمَا عَلِمُوهُ مِنْ حُسْنِ حَالِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَقُبْحِ حَالِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَلِهَذَا يُوجَدُ مَنْ ذَاقَ الْفَقْرَ وَالْمَرَضَ وَالْخَوْفَ أَحْرَصَ عَلَى الْغِنَى وَالصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ مِمَّنْ لَمْ يَذُقْ ذَلِكَ. وَلِهَذَا يُقَالُ: وَالضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنُهُ الضِّدُّ. وَيُقَالُ: وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: لَسْت بِخِبٍّ وَلَا يَخْدَعُنِي الْخِبُّ. فَالْقَلْبُ السَّلِيمُ الْمَحْمُودُ هُوَ الَّذِي يُرِيدُ الْخَيْرَ لَا الشَّرَّ، وَكَمَالُ ذَلِكَ بِأَنْ يَعْرِفَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ الشَّرَّ فَذَاكَ نَقْصٌ فِيهِ لَا يُمْدَحُ بِهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي يَكُونُ أَعْلَمَ بِذَلِكَ وَأَكْرَهُ لَهُ مِمَّنْ لَمْ يُذَقْهُ مُطْلَقًا؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الطَّبِيبُ أَعْلَمَ بِالْأَمْرَاضِ مِنْ الْمَرْضَى، وَالْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَطِبَّاءُ الْأَدْيَانِ فَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا يُصْلِحُ الْقُلُوبَ وَيُفْسِدُهَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَمْ يُذَقْ مِنْ الشَّرِّ مَا ذَاقَهُ النَّاسُ.

وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ بِذَوْقِهِ الشَّرَّ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِهِ، وَالنُّفُورِ عَنْهُ، وَالْمَحَبَّةِ لِلْخَيْرِ إذَا ذَاقَهُ مَا لَا يَحْصُلُ لِبَعْضِ النَّاسِ، مِثْلَ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا أَوْ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَقَدْ عَرَفَ مَا فِي الْكُفْرِ مِنْ الشُّبُهَاتِ وَالْأَقْوَالِ الْفَاسِدَةِ وَالظُّلْمَةِ وَالشَّرِّ، ثُمَّ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ، وَعَرَّفَهُ مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَرْغَبَ فِيهِ، وَأَكْرَهَ لِلْكُفْرِ مِنْ بَعْضِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ؛ بَلْ هُوَ مُعْرِضٌ عَنْ بَعْضِ حَقِيقَةِ هَذَا وَحَقِيقَةِ هَذَا، أَوْ مُقَلِّدٌ فِي مَدْحِ هَذَا وَذَمِّ هَذَا. وَمِثَالُ ذَلِكَ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ الْجُوعِ ثُمَّ ذَاقَ طَعْمَ الشِّبَعِ بَعْدَهُ؛ أَوْ ذَاقَ الْمَرَضَ ثُمَّ ذَاقَ طَعْمَ الْعَافِيَةِ بَعْدَهُ، أَوْ ذَاقَ الْخَوْفَ ثُمَّ ذَاقَ الْأَمْنَ بَعْدَهُ، فَإِنَّ مَحَبَّةَ هَذَا وَرَغْبَتَهُ فِي الْعَافِيَةِ وَالْأَمْنِ وَالشِّبَعِ وَنُفُورَهُ عَنْ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ وَالْمَرَضِ أَعْظَمُ مِمَّنْ لَمْ يُبْتَلَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ دَخَلَ مَعَ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُ الْحَقَّ وَتَابَ عَلَيْهِ تَوْبَةً نَصُوحًا، وَرَزَقَهُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَدْ يَكُونُ بَيَانُهُ لِحَالِهِمْ، وَهَجْرُهُ لِمُسَاوِيهِمْ، وَجِهَادُهُ لَهُمْ أَعْظَمَ مِنْ غَيْرِهِ، قَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ - وَكَانَ شَدِيدًا عَلَى الْجَهْمِيَّةِ - أَنَا شَدِيدٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنِّي كُنْت مَعَهُمْ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110] نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ الْمُشْرِكُونَ فَتَنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَهَاجَرُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَجَاهَدُوا وَصَبَرُوا. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَمَّا أَسْلَمَا تَقَدَّمَا عَلَى مَنْ سَبَقَهُمَا إلَى الْإِسْلَامِ؛ وَكَانَ [بَعْضُ مَنْ سَبَقَهُمَا] دُونَهُمَا فِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِمَا كَانَ عِنْدَهُمَا مِنْ كَمَالِ الْجِهَادِ لِلْكُفَّارِ وَالنَّصْرِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَكَانَ عُمَرُ لِكَوْنِهِ أَكْمَلَ إيمَانًا وَإِخْلَاصًا وَصِدْقًا وَمَعْرِفَةً وَفِرَاسَةً وَنُورًا أَبْعَدَ عَنْ هَوَى النَّفْسِ وَأَعْلَى هِمَّةً فِي إقَامَةِ دِينِ اللَّهِ، مُقَدَّمًا عَلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِكَمَالِ النِّهَايَةِ لَا بِنَقْصِ الْبِدَايَةِ.

مَا يُذْكَرُ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّات: " أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِدَاوُدَ: أَمَّا الذَّنْبُ فَقَدْ غَفَرْنَاهُ؛ وَأَمَّا الْوُدُّ فَلَا يَعُودُ " فَهَذَا لَوْ عُرِفَتْ صِحَّتُهُ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا لَنَا وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَبْنِيَ دِينَنَا عَلَى هَذَا؛ فَإِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّوْبَةِ جَاءَ بِمَا لَمْ يَجِئْ بِهِ شَرْعُ مَنْ قَبْلَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: «أَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ؛ وَأَنَا نَبِيُّ التَّوْبَةِ» وَقَدْ رَفَعَ بِهِ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ مَا كَانَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] وَأَخْبَرَ أَنَّهُ تَعَالَى يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ التَّائِبِ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِ الْفَاقِدِ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْمَوْكِبِ إذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْيَأْسِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا فَرَحَ الرَّبِّ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ وَتِلْكَ مَحَبَّتَهُ؛ كَيْفَ يُقَالُ: إنَّهُ لَا يَعُودُ لِمَوَدَّتِهِ: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 14] {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج: 15] {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] . وَلَكِنَّ وُدَّهُ وَحُبَّهُ بِحَسَبِ مَا يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ الْعَبْدُ بَعْدَ التَّوْبَةِ؛ فَإِنْ كَانَ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ مَحْبُوبَاتِ الْحَقِّ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ يَأْتِي بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَتْ مَوَدَّتُهُ لَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَعْظَمَ مِنْ مَوَدَّتِهِ لَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ؛ وَإِنْ كَانَ أَنْقَصَ كَانَ الْأَمْرُ أَنْقَصَ؛ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ؛ وَمَا رَبُّك بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْته بِالْحَرْبِ؛ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا: فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي؛ وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ؛ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَفْضَلَ الْأَوْلِيَاءِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ هُمْ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؛ وَكَانَتْ مَحَبَّةُ الرَّبِّ لَهُمْ وَمَوَدَّتُهُ لَهُمْ بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ أَعْظَمَ مَحَبَّةً وَمَوَدَّةً، وَكُلَّمَا تَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَحَبَّهُمْ وَوَدَّهُمْ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:

{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 7] . نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَادَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِثْلَ أَهْلِ الْأَحْزَابِ " كَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ، وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ. وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ بَعْدَ مُعَادَاتِهِمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ مَوَدَّةً، وَكَانُوا فِي ذَلِكَ مُتَفَاضِلِينَ وَكَانَ عِكْرِمَةُ وَسُهَيْلٌ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ أَعْظَمَ مَوَدَّةً مِنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَنَحْوِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ هِنْدَ امْرَأَةَ أَبِي سُفْيَانَ أُمَّ مُعَاوِيَةَ قَالَتْ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُذَلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِك، وَقَدْ أَصْبَحْتُ وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعَزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِك فَذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا نَحْوَ ذَلِكَ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْمَوَدَّةَ الَّتِي بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّمَا تَكُونُ تَابِعَةً لِحُبِّهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ. فَالْحُبُّ لِلَّهِ مِنْ كَمَالِ التَّوْحِيدِ؛ وَالْحُبُّ مَعَ اللَّهِ شِرْكٌ. قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] فَتِلْكَ الْمَوَدَّةُ الَّتِي صَارَتْ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادُوهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إنَّمَا كَانَتْ مَوَدَّةً لِلَّهِ وَمَحَبَّةً لِلَّهِ وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ وَدَّ اللَّهَ وَدَّهُ اللَّهُ، فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَحَبَّهُمْ وَوَدَّهُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ، كَمَا أَحَبُّوهُ وَوَدُّوهُ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّ التَّائِبَ إنَّمَا تَحْصُلُ لَهُ الْمَغْفِرَةُ دُونَ الْمَوَدَّةِ؟ ،. وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أُولَئِكَ كَانُوا كُفَّارًا، لَمْ يَعْرِفُوا أَنَّ مَا فَعَلُوهُ مُحَرَّمٌ؛ بَلْ كَانُوا جُهَّالًا بِخِلَافِ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ مُحَرَّمٌ وَأَتَاهُ. قِيلَ: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْكُفَّارِ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُعَادُونَهُ حَسَدَا وَكِبْرًا وَأَبُو سُفْيَانَ قَدْ سَمِعَ مِنْ أَخْبَارِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَمْ يَسْمَعْ غَيْرُهُ، كَمَا سَمِعَ مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَمَا سَمِعَهُ مِنْ هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ، وَقَدْ

أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُوقِنًا أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيَظْهَرُ حَتَّى أُدْخِلَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ كَارِهٌ لَهُ، وَقَدْ سُمِعَ مِنْهُ عَامَ الْيَرْمُوكِ وَغَيْرِهِ مَا دَلَّ عَلَى حُسْنِ إسْلَامِهِ وَمَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بَعْدَ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ الْعَظِيمَةِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 69] {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] فَإِذَا كَانَ اللَّهُ يُبَدِّلُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ فَالْحَسَنَاتُ تُوجِبُ مَوَدَّةَ اللَّهِ لَهُمْ، وَتَبْدِيلُ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِمَنْ كَانَ كَافِرًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17] قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: سَأَلْت أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا لِي: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَكُلٌّ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ تَائِبٍ وَتَائِبٍ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّائِبَيْنِ فَرْقٌ لَا أَصْلَ لَهُ؛ بَلْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ، سَوَاءٌ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ مَا أَتَوْهُ ذَنْبًا أَوْ لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ. وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ مَا أَتَاهُ ذَنْبًا ثُمَّ تَابَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَدِّلَ وَصْفَهُ الْمَذْمُومَ بِالْمَحْمُودِ؛ فَإِذَا كَانَ يَبْغُضُ الْحَقَّ فَلَا بُدَّ أَنْ يُحِبَّهُ، وَإِذَا كَانَ يُحِبُّ الْبَاطِلَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْغُضَهُ. فَمَا يَأْتِي بِهِ التَّائِبُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَمَحَبَّتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَمِنْ بُغْضِ الْبَاطِلِ وَاجْتِنَابِهِ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَرْضَاهَا، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ كَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَأْتِي بِهِ الْعَبْدُ مِنْ مَحَابِّهِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ فِعْلًا لِمَحْبُوبِ الْحَقِّ كَانَ الْحَقُّ أَعْظَمَ مَحَبَّةً لَهُ، وَانْتِقَالُهُ مِنْ مَكْرُوهِ الْحَقِّ إلَى مَحْبُوبِهِ مَعَ قُوَّةِ بُغْضِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَاطِلِ، وَقُوَّةِ حُبِّ مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ حُبِّ الْحَقِّ، فَوَجَبَ زِيَادَةُ مَحَبَّةِ الْحَقِّ لَهُ وَمَوَدَّتُهُ إيَّاهُ؛ بَلْ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ لِأَنَّهُ بَدَّلَ صِفَاتِهِ الْمَذْمُومَةَ بِالْمَحْمُودَةِ فَيُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ إتْيَانُ التَّائِبِ بِمَا يُحِبُّهُ الْحَقَّ أَعْظَمَ مِنْ إتْيَانِ غَيْرِهِ كَانَتْ مَحَبَّةُ

الْحَقِّ لَهُ أَعْظَمَ وَإِذَا كَانَ فِعْلُهُ لِمَا يَوَدُّهُ اللَّهُ مِنْهُ أَعْظَمَ مِنْ فِعْلِهِ لَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ كَانَتْ مَوَدَّةُ اللَّهِ لَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَعْظَمَ مِنْ مَوَدَّتِهِ لَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ، فَكَيْفَ يُقَالُ الْوُدُّ لَا يَعُودُ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ جَوَابُ شُبْهَةِ مَنْ يَقُولُ: " إنَّ اللَّهَ لَا يَبْعَثُ نَبِيًّا إلَّا مَنْ كَانَ مَعْصُومًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يَبْعَثُ نَبِيًّا إلَّا مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تَوَهَّمُوا أَنَّ الذُّنُوبَ تَكُونُ نَقْصًا وَإِنْ تَابَ التَّائِبُ مِنْهَا، وَهَذَا مَنْشَأُ غَلَطِهِمْ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ صَاحِبَ الذُّنُوبِ مَعَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ يَكُونُ نَاقِصًا فَهُوَ غَالِطٌ غَلَطًا عَظِيمًا، فَإِنَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ الَّذِي يَلْحَقُ أَهْلَ الذُّنُوبِ لَا يَلْحَقُ التَّائِبَ مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا؛ لَكِنْ إنْ قَدَّمَ التَّوْبَةَ لَمْ يَلْحَقْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ أَخَّرَ التَّوْبَةَ فَقَدْ يَلْحَقُهُ مَا بَيْنَ الذُّنُوبِ وَالتَّوْبَةِ مِنْ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ مَا يُنَاسِبُ. وَالْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ كَانُوا لَا يُؤَخِّرُونَ التَّوْبَةَ؛ بَلْ يُسَارِعُونَ إلَيْهَا، وَيُسَابِقُونَ إلَيْهَا، لَا يُؤَخِّرُونَ وَلَا يُصِرُّونَ عَلَى الذَّنْبِ بَلْ هُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ أَخَّرَ ذَلِكَ زَمَنًا قَلِيلًا كَفَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ بِمَا يَبْتَلِيهِ بِهِ كَمَا فَعَلَ بِذِي النُّونِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ إلْقَاءَهُ كَانَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ؛ وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ إلْقَاءَهُ كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا. وَالتَّائِبُ مِنْ الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَمْ يَقَعْ فِي الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ؛ ` وَإِذَا كَانَ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ. فَالْأَفْضَلُ أَحَقُّ بِالنُّبُوَّةِ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الْفَضِيلَةِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ أُخُوَّةِ يُوسُفَ بِمَا أَخْبَرَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَهُمْ الْأَسْبَاطُ الَّذِينَ نَبَّأَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26] فَآمَنَ لُوطٌ لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثُمَّ أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى قَوْمِ لُوطٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّة شُعَيْبٍ:

{قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف: 88] {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 13] {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14] . وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِكَمَالِ النِّهَايَةِ، وَهَذَا الْكَمَالُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَلَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ التَّوْبَةِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 73] . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِتَوْبَةِ آدَمَ وَنُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُمَا إلَى خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآخِرُ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ - أَوْ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ - قَوْله تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 2] {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ. وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117] . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» . وَفِي السُّنَنِ: عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا نَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ يَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ مِائَةَ مَرَّةٍ» .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ [النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ أَنَّهُ مِنِّي؛ اللَّهُمَّ: اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت، وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَاذَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ: بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ، نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: نَحْوَ هَذَا إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ: «اللَّهُمَّ، أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُك، ظَلَمْتُ نَفْسِي وَعَمِلْتُ سُوءًا فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ» . فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: «اللَّهُمَّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ، عَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ، أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ» . وَفِي السُّنَنِ عَنْ عَلِيٍّ «أَنَّ النَّبِيَّ أُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا وَأَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 14] ثُمَّ كَبَّرَهُ وَحَمِدَهُ ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَك ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، ثُمَّ ضَحِكَ، وَقَالَ إنَّ الرَّبَّ يَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إذَا قَالَ اغْفِرْ لِي. فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، يَقُولُ عَلِمَ عَبْدِي أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنَا» .

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] وَقَالَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ «أَنَّ الْمَسِيحَ يَقُولُ: اذْهَبُوا إلَى مُحَمَّدٍ عَبْدٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» . وَفِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُومُ حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ: تَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» . وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَثِيرَةٌ. لَكِنْ الْمُنَازِعُونَ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ النُّصُوصَ مِنْ جِنْسِ تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَتَأْوِيلَاتُهُمْ تُبَيِّنُ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا أَنَّهَا فَاسِدَةٌ مِنْ بَابِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ. كَتَأْوِيلِهِمْ قَوْلَهُ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] الْمُتَقَدِّمُ ذَنْبُ آدَمَ وَالْمُتَأَخِّرُ ذَنْبُ أُمَّتِهِ وَهَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ آدَمَ قَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ إلَى الْأَرْضِ فَضْلًا عَنْ عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ هَذِهِ السُّورَةَ قَالَ تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122] وَقَالَ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37] ذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] .

وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: فَآدَمُ عِنْدَكُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَوَارِدِ النِّزَاعِ وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ ذَنْبُهُ عِنْدَ الْمُنَازِعِ فَإِنَّهُ نَبِيٌّ أَيْضًا، وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبٌ يَقُولُ ذَلِكَ عَنْ آدَمَ وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ لَا يَجْعَلُ الذَّنْبَ ذَنْبًا لِمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَإِنَّهُ هُوَ الْقَائِلُ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] . فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُضَافَ إلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَنْبُ آدَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أُمَّتِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54] وَقَالَ تَعَالَى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} [النساء: 84] وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ يُضَافَ إلَى مُحَمَّدٍ ذُنُوبُ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ. وَيُقَالُ: إنَّ قَوْلَهُ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] الْمُرَادُ ذُنُوبُ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ قَبْلَك، فَإِنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَشْفَعُ لِلْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ، وَهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَقَالَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ وَآدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَنَا خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ إذَا وَفَدُوا، وَإِمَامُهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا» وَحِينَئِذٍ فَلَا يَخْتَصُّ آدَمَ بِإِضَافَةِ ذَنْبِهِ إلَى مُحَمَّدٍ، بَلْ تُجْعَلُ ذُنُوبُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ ذُنُوبًا لَهُ. فَإِنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَغْفِرْ ذُنُوبَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، قِيلَ: وَهُوَ أَيْضًا لَمْ يَغْفِرْ ذُنُوبَ جَمِيعِ أُمَّتِهِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ مَيَّزَ بَيْنَ ذَنْبِهِ وَذُنُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] فَكَيْفَ يَكُونُ ذَنْبُ الْمُؤْمِنِينَ ذَنْبًا لَهُ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ الصَّحَابَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا لَك فَمَا لَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلِمُوا أَنَّ

فصل هل الاعتراف بالخطيئة بمجرده مع التوحيد موجب لغفرانها وكشف الكربة

قَوْلَهُ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] مُخْتَصٌّ بِهِ دُونَ أُمَّتِهِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَغْفِرْ ذُنُوبَ جَمِيعِ أُمَّتِهِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ مِنْ أُمَّتِهِ مِنْ يُعَاقَبُ بِذُنُوبِهِ إمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا مِمَّا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ وَأَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا، وَشُوهِدَ فِي الدُّنْيَا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] وَالِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ قَدْ يَكُونَانِ مِنْ تَرْكِ الْأَفْضَلِ. فَمَنْ نُقِلَ إلَى حَالٍ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَدْ يَتُوبُ مِنْ الْحَالِ الْأَوَّلِ؛ لَكِنَّ الذَّمَّ وَالْوَعِيدَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى ذَنْبٍ. [فَصْلٌ هَلْ الِاعْتِرَافُ بِالْخَطِيئَةِ بِمُجَرَّدِهِ مَعَ التَّوْحِيدِ مُوجِبٌ لِغُفْرَانِهَا وَكَشْفِ الْكُرْبَةِ] فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: هَلْ الِاعْتِرَافُ بِالْخَطِيئَةِ بِمُجَرَّدِهِ مَعَ التَّوْحِيدِ مُوجِبٌ لِغُفْرَانِهَا وَكَشْفِ الْكُرْبَةِ الصَّادِرَةِ عَنْهَا؛ أَمْ يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ؟ فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْغُفْرَانِ مَعَ التَّوْحِيدِ هُوَ التَّوْبَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا؛ فَإِنَّ الشِّرْكَ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ إلَّا بِتَوْبَةٍ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ الْقُرْآنِ وَمَا دُونَ الشِّرْكِ فَهُوَ مَعَ التَّوْبَةِ مَغْفُورٌ؛ وَبِدُونِ التَّوْبَةِ مُعَلَّقٌ بِالْمَشِيئَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] فَهَذَا فِي حَقِّ التَّائِبِينَ، وَلِهَذَا عَمَّمَ وَأَطْلَقَ، وَخَتَمَ أَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، وَقَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فَخَصَّ مَا دُونَ الشِّرْكِ وَعَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَإِذَا كَانَ الشِّرْكُ لَا يُغْفَرُ إلَّا بِتَوْبَةٍ؛ وَأَمَّا مَا دُونَهُ فَيَغْفِرُهُ اللَّهُ لِلتَّائِبِ؛ وَقَدْ يَغْفِرُهُ بِدُونِ التَّوْبَةِ لِمَنْ يَشَاءُ. فَالِاعْتِرَافُ بِالْخَطِيئَةِ مَعَ التَّوْحِيدِ إنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِلتَّوْبَةِ أَوْجَبَ الْمَغْفِرَةَ؛ وَإِذَا غُفِرَ الذَّنْبُ زَالَتْ عُقُوبَتُهُ؛ فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ هِيَ وِقَايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ.

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ الْغَفْرُ السِّتْرُ، وَيَقُولُ: إنَّمَا سُمِّيَ الْمَغْفِرَةَ وَالْغَفَّارَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى السِّتْرِ، وَتَفْسِيرُ اسْمِ اللَّهِ الْغَفَّارِ بِأَنَّهُ السَّتَّارُ وَهَذَا تَقْصِيرٌ فِي مَعْنَى الْغَفْرِ؛ فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ مَعْنَاهَا وِقَايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ بِحَيْثُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى الذَّنْبِ فَمَنْ غُفِرَ ذَنْبُهُ لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مُجَرَّدُ سِتْرِهِ فَقَدْ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ، وَمَنْ عُوقِبَ عَلَى الذَّنْبِ بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ غُفْرَانُ الذَّنْبِ إذَا لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ بِالذَّنْبِ. وَأَمَّا إذَا اُبْتُلِيَ مَعَ ذَلِكَ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا فِي حَقِّهِ لِزِيَادَةِ أَجْرِهِ فَهَذَا لَا يُنَافِي الْمَغْفِرَةَ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ أَنْ يَأْتِيَ بِحَسَنَاتِ يَفْعَلُهَا فَإِنَّ مَنْ يُشْتَرَطُ فِي التَّوْبَةِ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ؛ وَقَدْ يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُ تَائِبٌ وَلَا يَكُونُ تَائِبًا بَلْ يَكُونُ تَارِكًا، وَالتَّارِكُ غَيْرُ التَّائِبِ. فَإِنَّهُ قَدْ يُعْرِضُ عَنْ الذَّنْبِ لِعَدَمِ خُطُورِهِ بِبَالِهِ أَوْ الْمُقْتَضَى لِعَجْزِهِ عَنْهُ، أَوْ تَنْتَفِي إرَادَتُهُ لَهُ بِسَبَبٍ غَيْرِ دِينِيِّ، وَهَذَا لَيْسَ بِتَوْبَةٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ سَيِّئَةٌ وَيَكْرَهُ فِعْلَهُ لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْهُ وَيَدَعُهُ لِلَّهِ تَعَالَى: لَا لِرَغْبَةِ مَخْلُوقٍ وَلَا لِرَهْبَةِ مَخْلُوقٍ؛ فَإِنَّ التَّوْبَةَ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ؛ وَالْحَسَنَاتُ كُلُّهَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ وَمُوَافَقَةُ أَمْرِهِ، كَمَا قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، فِي قَوْلِهِ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2] قَالَ: أَخَلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ، قَالُوا: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ قَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ. وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ؛ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا. وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا، وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا، وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا. وَبَسْطُ الْكَلَامِ فِي التَّوْبَةِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَأَمَّا الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ عَلَى وَجْهِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ مِنْ غَيْرِ إقْلَاعٍ عَنْهُ فَهَذَا فِي نَفْسِ الِاسْتِغْفَارِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَا تَوْبَةَ مَعَهُ. وَهُوَ كَاَلَّذِي يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُ الذَّنْبَ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ، وَهَذَا يَأْسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَا يَقْطَعُ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُ فَإِنَّهُ دَاعٍ دَعْوَةً

مُجَرَّدَةً. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إلَّا كَانَ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثٍ: إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنْ الْجَزَاءِ مِثْلَهَا؛ وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ الشَّرِّ مِثْلَهَا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إذًا نَكْثُرُ قَالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ» فَمِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ قَدْ تَحْصُلُ مَعَهُ الْمَغْفِرَةُ وَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ صَرْفُ شَرٍّ آخَرَ أَوْ حُصُولُ خَيْرٍ آخَرَ، فَهُوَ نَافِعٌ كَمَا يَنْفَعُ كُلَّ دُعَاءٍ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ: الِاسْتِغْفَارُ مَعَ الْإِصْرَارِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ، فَهَذَا إذَا كَانَ الْمُسْتَغْفِرُ يَقُولُهُ عَلَى وَجْهِ التَّوْبَةِ أَوْ يَدَّعِي أَنَّ اسْتِغْفَارَهُ تَوْبَةٌ، وَأَنَّهُ تَائِبٌ بِهَذَا الِاسْتِغْفَارِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَعَ الْإِصْرَارِ لَا يَكُونُ تَائِبًا، فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَالْإِصْرَارَ ضِدَّانِ: الْإِصْرَارُ يُضَادُّ التَّوْبَةَ، لَكِنْ لَا يُضَادُّ الِاسْتِغْفَارُ بِدُونِ التَّوْبَةِ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: هَلْ الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ الْمُعَيَّنِ يُوجِبُ دَفْعَ مَا حَصَلَ بِذُنُوبٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْضَارِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ؟ فَجَوَابُ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّوْبَةَ تَصِحُّ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَنْبٍ آخَرَ إذَا كَانَ الْمُقْتَضِي لِلتَّوْبَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا أَقْوَى مِنْ الْمُقْتَضِي لِلتَّوْبَةِ مِنْ الْآخَرِ، أَوْ كَانَ الْمَانِعُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَشَدَّ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ. وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَأَبِي هَاشِمٍ إلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ قَبِيحٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْآخَرِ، قَالُوا: لِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى التَّوْبَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ تَوْبَةً صَحِيحَةً. وَالْخَشْيَةُ مَانِعَةٌ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ لَا مِنْ بَعْضِهَا، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَابْنُ عَقِيلٍ هَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ الْمَرُّوذِيَّ نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ تَابَ مِنْ الْفَاحِشَةِ وَقَالَ: لَوْ مَرِضْت لَمْ أَعُدْ لَكِنْ لَا يَدَعُ النَّظَرَ، فَقَالَ أَحْمَدُ: أَيُّ تَوْبَةٍ هَذِهِ؟ ، قَالَ «جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ: اصْرِفْ بَصَرَك» . وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَحْمَدَ وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ هُوَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ التَّوْبَةِ، وَأَحْمَدُ فِي هَذِهِ

الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ تَوْبَةً عَامَّةً يَحْصُلُ بِسَبَبِهَا مِنْ التَّائِبِينَ تَوْبَةٌ مُطْلَقًا، لَمْ يَرِدْ أَنَّ ذَنْبَ هَذَا كَذَنْبِ الْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِرِ، فَإِنَّ نُصُوصَهُ الْمُتَوَاتِرَةَ عَنْهُ وَأَقْوَالَهُ الثَّابِتَةَ تُنَافِي ذَلِكَ، وَحَمْلُ كَلَامِ الْإِمَامِ عَلَى مَا يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّنَاقُضِ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْقَوْلُ الْآخَرُ مُبْتَدَعًا لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ. وَأَحْمَدُ يَقُولُ: إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَك فِيهَا إمَامٌ. وَكَانَ فِي الْمِحْنَةِ يَقُولُ: كَيْفَ أَقُولُ مَا لَمْ يُقَلْ. وَاتِّبَاعُ أَحْمَدَ لِلسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَقُوَّةُ رَغْبَتِهِ فِي ذَلِكَ وَكَرَاهَتُهُ لِخِلَافِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ يَعْرِفُهَا مَنْ يَعْرِفُ مِنْ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الْخَشْيَةَ تُوجِبُ الْعُمُومَ. فَجَوَابُهُ: أَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ قُبْحَ أَحَدِ الذَّنْبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا يَتُوبُ مِمَّا يَعْلَمُ قُبْحَهُ. وَأَيْضًا: فَقَدْ يَعْلَمُ قُبْحَهَا وَلَكِنَّ هَوَاهُ يَغْلِبُهُ فِي إحْدَاهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَيَتُوبُ مِنْ هَذَا دُونَ ذَاكَ، كَمَنْ أَدَّى بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ دُونَ بَعْضٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُقْبَلُ مِنْهُ. وَلَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَهُمْ أَصْلٌ فَاسِدٌ وَافَقُوا فِيهِ الْخَوَارِجَ فِي الْحُكْمِ وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي الِاسْمِ، فَقَالُوا: إنَّ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِشَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَعِنْدَهُمْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِمَّنْ يُعَاقِبُهُ اللَّهُ ثُمَّ يُثِيبُهُ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: بِحُبُوطِ جَمِيعِ الْحَسَنَاتِ بِالْكَبِيرَةِ. وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَعَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ وَيَشْفَعُ فِيهِمْ. وَأَنَّ الْكَبِيرَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ وَلَكِنْ قَدْ يُحْبَطُ مَا يُقَابِلُهَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَلَا يُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ إلَّا الْكُفْرُ. كَمَا لَا يُحْبِطُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ إلَّا التَّوْبَةُ. فَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ إذَا أَتَى بِحَسَنَاتٍ يَبْتَغِي بِهَا رِضَا اللَّهِ أَثَابَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعُقُوبَةِ عَلَى كَبِيرَتِهِ. وَكِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُفَرِّقُ بَيْنَ حُكْمِ السَّارِقِ وَالزَّانِي وَقِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَبَيْنَ حُكْمِ الْكُفَّارِ فِي " الْأَسْمَاءِ، وَالْأَحْكَامِ ". وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَعَلَى هَذَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] . فَعَلَى

قَوْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ لَا تُقْبَلُ حَسَنَةٌ إلَّا مِمَّنْ اتَّقَاهُ مُطْلَقًا فَلَمْ يَأْتِ كَبِيرَةً، وَعِنْدَ الْمُرْجِئَةِ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ مِمَّنْ اتَّقَى الشِّرْكَ، فَجَعَلُوا أَهْلَ الْكَبَائِرِ دَاخِلِينَ فِي اسْمِ " الْمُتَّقِينَ " وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُتَقَبَّلُ الْعَمَلُ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ فِيهِ فَعَمِلَهُ خَالِصًا لِلَّهِ مُوَافِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ، فَمَنْ اتَّقَاهُ فِي عَمَلٍ تَقَبَّلَهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا فِي غَيْرِهِ. وَمَنْ لَمْ يَتَّقِهِ فِيهِ لَمْ يَتَقَبَّلْهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مُطِيعًا فِي غَيْرِهِ. وَالتَّوْبَةُ مِنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ دُونَ بَعْضٍ كَفِعْلِ بَعْضِ الْحَسَنَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا دُونَ بَعْضٍ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَتْرُوكُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْمَفْعُولِ كَالْإِيمَانِ الْمَشْرُوطِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19] . وَقَالَ تَعَالَى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] . وَقَالَ: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] . الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ لَهُ ذُنُوبٌ فَتَابَ مِنْ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ فَإِنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا تَقْتَضِي مَغْفِرَةَ مَا تَابَ مِنْهُ أَمَّا مَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَهُوَ بَاقٍ فِيهِ عَلَى حُكْمِ مَنْ لَمْ يَتُبْ، لَا عَلَى حُكْمِ مَنْ تَابَ، وَمَا عَلِمْت فِي هَذَا نِزَاعًا إلَّا فِي الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ، فَإِنَّ إسْلَامَهُ يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ مِنْ الْكُفْرِ فَيُغْفَرُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ الْكُفْرُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ، وَهَلْ تُغْفَرُ لَهُ الذُّنُوبُ الَّتِي فَعَلَهَا فِي حَالِ الْكُفْرِ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا فِي الْإِسْلَامِ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ. أَحَدُهُمَا: يُغْفَرُ لَهُ الْجَمِيعُ، لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. . مَعَ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ إلَّا مَا تَابَ مِنْهُ؛ فَإِذَا أَسْلَمَ

وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى كَبَائِرَ دُونَ الْكُفْرِ فَحُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ وَالنُّصُوصُ، فَإِنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ لَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ فَقَالَ: مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ» فَقَدْ دَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا تُرْفَعُ الْمُؤَاخَذَةُ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي فُعِلَتْ فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ عَمَّنْ أَحْسَنَ لَا عَمَّنْ لَا يُحْسِنُ؛ وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَلَمْ يُحْسِنْ. وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَهِيَ عَنْ شَيْءٍ يُغْفَرُ لَهُ مَا قَدْ سَلَفَ مِنْهُ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَهِيَ عَنْ شَيْءٍ يُغْفَرُ لَهُ مَا سَلَفَ مِنْ غَيْرِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ: إنْ انْتَهَيْت غَفَرْت لَك مَا تَقَدَّمَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَنَّكَ إنْ انْتَهَيْت عَنْ هَذَا الْأَمْرِ غُفِرَ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ، وَإِذَا انْتَهَيْت عَنْ شَيْءٍ غُفِرَ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ، كَمَا يُفْهَمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: " إنْ تُبْت "، لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّك بِالِانْتِهَاءِ عَنْ ذَنْبٍ يُغْفَرُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ غَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ «يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ» فَهَذَا قَالَهُ لَمَّا أَسْلَمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَطَلَبَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ فَقَالَ لَهُ: «يَا عَمْرُو، أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ التَّوْبَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا» وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا تُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا تَابَ مِنْهُ، لَا تُوجِبُ التَّوْبَةُ غُفْرَانَ جَمِيعَ الذُّنُوبِ. الْأَصْلُ الثَّالِثُ: إنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْتَحْضِرُ ذُنُوبًا فَيَتُوبُ مِنْهَا وَقَدْ يَتُوبُ تَوْبَةً مُطْلَقَةً لَا يَسْتَحْضِرُ مَعَهَا ذُنُوبَهُ، لَكِنْ إذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ التَّوْبَةَ الْعَامَّةَ فَهِيَ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَرَاهُ ذَنْبًا؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ الْعَامَّةَ تَتَضَمَّنُ عَزْمًا عَامًّا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ، وَكَذَلِكَ تَتَضَمَّنُ نَدَمًا عَامًّا عَلَى كُلِّ مَحْظُورٍ.

" وَالنَّدَمُ " سَوَاءٌ قِيلَ: إنَّهُ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ، أَوْ مِنْ بَابِ الْإِرَادَاتِ، أَوْ قِيلَ: إنَّهُ مِنْ بَابِ الْآلَامِ الَّتِي تَلْحَقُ النَّفْسَ بِسَبَبِ فِعْلِ مَا يَضُرُّهَا؛ فَإِذَا اسْتَشْعَرَ الْقَلْبُ أَنَّهُ فَعَلَ مَا يَضُرُّهُ، حَصَلَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ كَانَ مِنْ السَّيِّئَاتِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ، وَكَرَاهِيَةٌ لِمَا كَانَ فَعَلَهُ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَاتِ؛ وَحَصَلَ لَهُ أَذًى وَغَمٌّ لِمَا كَانَ فَعَلَهُ؛ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْآلَامِ، كَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، كَمَا أَنَّ الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ هُوَ مِنْ بَابِ اللَّذَّاتِ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْإِرَادَاتِ. وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ: إنَّ اللَّذَّةَ هِيَ إدْرَاكُ الْمُلَائِمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُلَائِمٌ، وَإِنَّ الْأَلَمَ هُوَ إدْرَاكُ الْمُنَافِرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُنَافِرٌ فَقَدْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ. فَإِنَّ اللَّذَّةَ وَالْأَلَمَ حَالَانِ يَتَعَقَّبَانِ إدْرَاكَ الْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِرِ فَإِنَّ الْحُبَّ لِمَا يُلَائِمُهُ، كَالطَّعَامِ الْمُشْتَهَى مَثَلًا لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: الْحُبُّ، كَالشَّهْوَةِ لِلطَّعَامِ. وَالثَّانِي: إدْرَاكُ الْمَحْبُوبِ، كَأَكْلِ الطَّعَامِ. وَالثَّالِثُ: اللَّذَّةُ الْحَاصِلَةُ بِذَلِكَ، وَاللَّذَّةُ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِلشَّهْوَةِ وَلِذَوْقِ الْمُشْتَهِي، بَلْ هِيَ حَاصِلَةٌ لِذَوْقِ الْمُشْتَهِي؛ لَيْسَتْ نَفْسَ ذَوْقِ الْمُشْتَهَى. وَكَذَلِكَ " الْمَكْرُوهُ " كَالضَّرْبِ مَثَلًا. فَإِنَّ كَرَاهَتَهُ شَيْءٌ، وَحُصُولَهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَالْأَلَمُ الْحَاصِلُ بِهِ ثَالِثٌ. وَكَذَلِكَ مَا لِلْعَارِفِينَ أَهْلَ مَحَبَّةِ اللَّهِ مِنْ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّ حُبَّهُمْ لِلَّهِ شَيْءٌ، ثُمَّ مَا يَحْصُلُ مِنْ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ شَيْءٌ، ثُمَّ اللَّذَّةُ الْحَاصِلَةُ بِذَلِكَ أَمْرٌ ثَالِثٌ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحُبَّ مَشْرُوطٌ بِشُعُورِ الْمَحْبُوبِ، كَمَا أَنَّ الشَّهْوَةَ مَشْرُوطَةٌ بِشُعُورِ الْمُشْتَهِي؛ لَكِنَّ الشُّعُورَ الْمَشْرُوطَ فِي اللَّذَّةِ غَيْرُ الشُّعُورِ الْمَشْرُوطِ فِي الْمَحَبَّةِ، فَهَذَا الثَّانِي يُسَمَّى إدْرَاكًا وَذَوْقًا وَنَيْلًا وَوَجْدًا وَوِصَالًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ إدْرَاكِ الْمَحْبُوبِ، سَوَاءً كَانَ بِالْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ، ثُمَّ هَذَا الذَّوْقُ يَسْتَلْزِمُ اللَّذَّةَ، وَاللَّذَّةُ أَمْرٌ يُحِسُّهُ الْحَيُّ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا،

وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ سِوَاهُمَا، وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» . فَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ لِمَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَإِنْ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ حَاصِلٌ لِمَنْ كَانَ حُبُّهُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَشَدَّ مِنْ حُبِّهِ لِغَيْرِهِمَا، وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ شَخْصًا لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ ضِدَّ الْإِيمَانِ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ؛ فَهَذَا الْحُبُّ لِلْإِيمَانِ. وَالْكَرَاهِيَةُ لِلْكُفْرِ اسْتَلْزَمَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، كَمَا اسْتَلْزَمَ الرِّضَى الْمُتَقَدِّمُ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ، وَهَذَا هُوَ اللَّذَّةُ؛ وَلَيْسَ هُوَ نَفْسُ التَّصْدِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقَلْبِ، وَلَا نَفْسُ الْحُبِّ الْحَاصِلِ فِي الْقَلْبِ؛ بَلْ هَذَا نَتِيجَةُ ذَاكَ وَثَمَرَتُهُ وَلَازِمٌ لَهُ، وَهِيَ أُمُورٌ مُتَلَازِمَةٌ، فَلَا تُوجَدُ اللَّذَّةُ إلَّا بِحُبٍّ وَذَوْقٍ، وَإِلَّا فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا وَلَمْ يَذُقْ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَجِدْ لَذَّةً، كَاَلَّذِي يَشْتَهِي الطَّعَامَ وَلَمْ يُذَقْ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَوْ ذَاقَ مَا لَا يُحِبُّهُ لَمْ يَجِدْ لَذَّةً، كَمَنْ ذَاقَ مَا لَا يُرِيدُهُ، فَإِذَا اجْتَمَعَ حُبُّ الشَّيْءِ وَذَوْقُهُ حَصَلَتْ اللَّذَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَإِنْ حَصَلَ بُغْضُهُ: وَبِذَوْقِ الْبَغِيضِ حَصَلَ الْأَلَمُ ... فَاَلَّذِي يَبْغُضُ الذَّنْبَ وَلَا يَفْعَلُهُ لَا يَنْدَمُ ، وَاَلَّذِي لَا يَبْغُضُهُ لَا يَنْدَمُ عَلَى فِعْلِهِ، فَإِذَا فَعَلَهُ وَعَرَفَ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَبْغُضُهُ وَيَضُرُّهُ نَدِمَ عَلَى فِعْلِهِ إيَّاهُ. وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» . إذَا تَبَيَّنَ هَذَا، فَمَنْ تَابَ تَوْبَةً عَامَّةً كَانَتْ هَذِهِ التَّوْبَةُ مُقْتَضِيَةً لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ كُلِّهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرْ أَعْيَانَ الذُّنُوبِ إلَّا أَنْ يُعَارِضَ هَذَا الْعَامَّ مُعَارِضٌ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الذُّنُوبِ لَوْ اسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ؛ لِقُوَّةِ إرَادَتِهِ إيَّاهُ أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ حَسَنٌ لَيْسَ بِقَبِيحٍ، فَمَا كَانَ لَوْ اسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي التَّوْبَةِ، وَأَمَّا مَا كَانَ لَوْ حَضَرَ بِعَيْنِهِ لَكَانَ مِمَّا يَتُوبُ مِنْهُ فَإِنَّ التَّوْبَةَ الْعَامَّةَ شَامِلَتُهُ. وَأَمَّا " التَّوْبَةُ الْمُطْلَقَةُ ": وَهِيَ أَنْ يَتُوبَ تَوْبَةً مُجْمَلَةً، وَلَا تَسْتَلْزِمُ التَّوْبَةَ مِنْ كُلِّ

ذَنْبٍ، فَهَذِهِ لَا تُوجِبُ دُخُولَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الذُّنُوبِ فِيهَا وَلَا تَمْنَعُ دُخُولَهُ كَاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ؛ لَكِنَّ هَذِهِ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الْمُعَيَّنِ. كَمَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الْجَمِيعِ؛ بِخِلَافِ الْعَامَّةِ فَإِنَّهَا مُقْتَضِيَةٌ لِلْغُفْرَانِ الْعَامِّ، كَمَا تَنَاوَلَتْ الذُّنُوبَ تَنَاوُلًا عَامًّا. وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَسْتَحْضِرُ عِنْدَ التَّوْبَةِ إلَّا بَعْضَ الْمُتَّصِفَاتِ بِالْفَاحِشَةِ أَوْ مُقَدَّمَاتِهَا أَوْ بَعْضَ الظُّلْمِ بِاللِّسَانِ أَوْ الْيَدِ، وَقَدْ يَكُونُ مَا تَرَكَهُ مِنْ الْمَأْمُورِ الَّذِي يَجِبُ لِلَّهِ عَلَيْهِ فِي بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَحَقَائِقِهِ أَعْظَمَ ضَرَرًا عَلَيْهِ مِمَّا فَعَلَهُ مِنْ بَعْضِ الْفَوَاحِشِ، فَإِنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي بِهَا يَصِيرُ الْعَبْدُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا أَعْظَمُ نَفْعًا مِنْ نَفْعِ تَرْكِ بَعْضِ الذُّنُوبِ الظَّاهِرَةِ، كَحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا أَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ الْفِعْلِيَّةِ حَتَّى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ يُدْعَى حِمَارًا، وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَكَانَ كُلَّمَا أُتِيَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَلَدَهُ الْحَدَّ، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ أُتِيَ بِهِ مَرَّةً فَأَمَرَ بِجِلْدِهِ فَلَعَنَهُ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . فَنَهَى عَنْ لَعْنِهِ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الشُّرْبِ لِكَوْنِهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، مَعَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً: «لَعَنَ الْخَمْرَ، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا» . وَلَكِنْ لَعْنُ الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ لَعْنَ الْمُعَيَّنِ الَّذِي قَامَ بِهِ مَا يَمْنَعُ لُحُوقَ اللَّعْنَةِ لَهُ. وَكَذَلِكَ " التَّكْفِيرُ الْمُطْلَقُ " " وَالْوَعِيدُ الْمُطْلَقُ ". وَلِهَذَا كَانَ الْوَعِيدُ الْمُطْلَقُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَشْرُوطًا بِثُبُوتِ شُرُوطٍ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ. فَلَا يَلْحَقُ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَلْحَقُ مَنْ لَهُ حَسَنَاتٌ تَمْحُو سَيِّئَاتِهِ، وَلَا يَلْحَقُ الْمَشْفُوعَ لَهُ، وَالْمَغْفُورَ لَهُ؛ فَإِنَّ الذُّنُوبَ تَزُولُ عُقُوبَتُهَا الَّتِي هِيَ جَهَنَّمُ بِأَسْبَابِ التَّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ - لَكِنَّهَا مِنْ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا - وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ فِي الْبَرْزَخِ مِنْ الشِّدَّةِ، وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، وَتَزُولُ أَيْضًا بِدُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ:

كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَشَفَاعَةِ الشَّفِيعِ الْمُطَاعِ، كَمَنْ يَشْفَعُ فِيهِ سَيِّدُ الشُّفَعَاءِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْلِيمًا. وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ ذَنْبٍ تَابَ مِنْهُ ارْتَفَعَ مُوجِبُهُ، وَمَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَلَهُ حُكْمُ الذُّنُوبِ الَّتِي لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، فَالشِّدَّةُ إذَا حَصَلَتْ بِذُنُوبٍ وَتَابَ مِنْ بَعْضِهَا خَفَّفَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا تَابَ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ؛ بِخِلَافِ صَاحِبِ التَّوْبَةِ الْعَامَّةِ. وَالنَّاسُ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ لَا يَتُوبُونَ تَوْبَةً عَامَّةً مَعَ حَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ فِي كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ دَائِمًا يَظْهَرُ لَهُ مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ تَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ مَا اعْتَدَى فِيهِ مِنْ فِعْلِ مَحْظُورٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ دَائِمًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: مَا السَّبَبُ فِي أَنَّ الْفَرَجَ يَأْتِي عِنْدَ انْقِطَاعِ الرَّجَاءِ عَنْ الْخَلْقِ؟ وَمَا الْحِيلَةُ فِي صَرْفِ الْقَلْبِ عَنْ التَّعَلُّقِ بِهِمْ وَتَعَلُّقِهِ بِاَللَّهِ؟ فَيُقَالُ: سَبَبُ هَذَا تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ: " تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ "، " وَتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ ". " فَتَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ " أَنَّهُ لَا خَالِقَ إلَّا اللَّهُ، فَلَا يَسْتَقِلُّ شَيْءٌ سِوَاهُ بِإِحْدَاثِ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ؛ بَلْ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ فَكُلُّ مَا سِوَاهُ إذَا قُدِّرَ سَبَبًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ شَرِيكٍ مُعَاوِنٍ وَضِدٍّ مُعَوِّقٍ، فَإِذَا طَلَبَ مِمَّا سِوَاهُ إحْدَاثَ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ طَلَبَ فِيهِ مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ وَلَا يَقْدِرُ وَحْدَهُ عَلَيْهِ، حَتَّى مَا يُطْلَبُ مِنْ الْعَبْدِ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لَا يَفْعَلُهَا إلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُ، كَأَنْ يَجْعَلَهُ فَاعِلًا لَهَا بِمَا يَخْلُقُهُ فِيهِ مِنْ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ وَيَخْلُقُهُ لَهُ مِنْ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ، وَعِنْدَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ يَجِبُ وُجُودُ الْمَقْدُورِ. فَمَشِيئَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِكُلِّ مَا يُرِيدُهُ، فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَمَا سِوَاهُ لَا تَسْتَلْزِمُ إرَادَتُهُ شَيْئًا؛ بَلْ مَا أَرَادَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِأُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنْ مَقْدُورِهِ إنْ لَمْ يُعِنْهُ الرَّبُّ بِهَا لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُهُ، وَنَفْسُ إرَادَتِهِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28] {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]

وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا} [الإنسان: 29] {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا - يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 30 - 31] وَقَالَ: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [المدثر: 55] {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] . وَالرَّاجِي لِمَخْلُوقٍ طَالِبٌ بِقَلْبِهِ لِمَا يُرِيدُهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ وَذَلِكَ الْمَخْلُوقُ عَاجِزٌ عَنْهُ، ثُمَّ هَذَا مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، فَمِنْ كَمَالِ نِعْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَمْنَعَ حُصُولَ مَطَالِبِهِمْ بِالشِّرْكِ حَتَّى يَصْرِفَ قُلُوبَهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ، ثُمَّ إنْ وَحَّدَهُ الْعَبْدُ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ حَصَلَتْ لَهُ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ قِيلَ فِيهِ: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12] وَفِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67] كَانَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ وَحْدَانِيِّتِهِ حُجَّةً عَلَيْهِ. كَمَا احْتَجَّ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ثُمَّ يُشْرِكُونَ وَلَا يَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 84] {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ - قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون: 85 - 87] {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 88] {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61] وَهَذَا قَدْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. فَمِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُنَزِّلَ بِهِمْ الشِّدَّةَ وَالضُّرَّ وَمَا يُلْجِئُهُمْ إلَى تَوْحِيدِهِ فَيَدْعُونَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدَّيْنُ وَيَرْجُونَهُ لَا يَرْجُونَ أَحَدًا سِوَاهُ، وَتَتَعَلَّقُ قُلُوبُهُمْ

بِهِ لَا بِغَيْرِهِ، فَيَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ، وَحَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَذَوْقِ طَعْمِهِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْ الشِّرْكِ مَا هُوَ أَعْظَمُ نِعْمَةً عَلَيْهِمْ مِنْ زَوَالِ الْمَرَضِ وَالْخَوْفِ، أَوْ الْجَدْبِ، أَوْ حُصُولِ الْيُسْرِ وَزَوَالِ الْعُسْرِ فِي الْمَعِيشَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لِذَاتٍ بَدَنِيَّةٍ وَنِعَمٍ دُنْيَوِيَّةٍ قَدْ يَحْصُلُ لِلْكَافِرِ مِنْهَا أَعْظَمُ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ. وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ الدِّينَ فَأَعْظَمُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ كُنْهِهِ مَقَامٌ، أَوْ يَسْتَحْضِرَ تَفْصِيلَهُ بَالٌ، وَلِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبٌ بِقَدْرِ إيمَانِهِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يَا بْنَ آدَمَ، لَقَدْ بُورِكَ لَك فِي حَاجَةٍ أَكْثَرْت فِيهَا مِنْ قَرْعِ بَابِ سَيِّدِك. وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: إنَّهُ لَيَكُونَ لِي إلَى اللَّهِ حَاجَةٌ فَأَدْعُوهُ فَيُفْتَحُ لِي مِنْ لَذِيذِ مَعْرِفَتِهِ وَحَلَاوَةِ مُنَاجَاتِهِ مَا لَا أُحِبُّ مَعَهُ أَنْ يُعَجِّلَ قَضَاءَ حَاجَتِي خَشْيَةَ أَنْ تَنْصَرِفَ نَفْسِي عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تُرِيدُ إلَّا حَظَّهَا فَإِذَا قَضَى انْصَرَفَتْ. وَفِي بَعْضِ الْإِسْرَائِيلِيَّات يَا بْنَ آدَمَ، الْبَلَاءُ يَجْمَعُ بَيْنِي وَبَيْنَك وَالْعَافِيَةُ تَجْمَعُ بَيْنَك وَبَيْنَ نَفْسِك. وَهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ، وَهُوَ مَوْجُودٌ مَذُوقٌ مَحْسُوسٌ بِالْحِسِّ الْبَاطِنِ لِلْمُؤْمِنِ، وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا وَقَدْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَعْرِفُ بِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الذَّوْقِ وَالْحِسِّ لَا يَعْرِفُ إلَّا مَنْ كَانَ لَهُ ذَوْقٌ وَحِسٌّ بِذَلِكَ. وَلَفْظُ " الذَّوْقِ " وَإِنْ كَانَ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مُخْتَصٌّ بِذَوْقِ اللِّسَانِ فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِحْسَاسِ بِالْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِرِ، كَمَا أَنَّ لَفْظَ " الْإِحْسَاسِ " فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ عَامٌّ فِيمَا يُحَسُّ بِالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، بَلْ وَبِالْبَاطِنِ. وَأَمَّا فِي اللُّغَةِ فَأَصْلُهُ " الرُّؤْيَةُ " كَمَا قَالَ: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [مريم: 98] . وَالْمَقْصُودُ لَفْظُ " الذَّوْقِ " قَالَ تَعَالَى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112] فَجَعَلَ الْخَوْفَ وَالْجُوعَ مَذُوقًا؛ وَأَضَافَ إلَيْهِمَا اللِّبَاسَ لِيَشْعُرَ أَنَّهُ لُبْسُ الْجَائِعِ وَالْخَائِفِ فَشَمَلَهُ وَأَحَاطَ بِهِ إحَاطَةَ اللِّبَاسِ بِاللَّابِسِ؛ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ الْأَلَمُ لَا يَسْتَوْعِبُ مَشَاعِرَهُ

بَلْ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} [آل عمران: 106] وَقَالَ تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] وَقَالَ تَعَالَى: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 48] وَقَالَ: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} [الدخان: 56] وَقَالَ تَعَالَى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} [النبأ: 24] {إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ: 25] وَقَالَ: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة: 21] وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا» . فَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ " الذَّوْقِ " فِي إدْرَاكِ الْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِرِ كَثِيرٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ» كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَدِيثِ فَوُجُودُ الْمُؤْمِنِ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ وَذَوْقُ طَعْمِ الْإِيمَانِ أَمْرٌ يَعْرِفُهُ مَنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْوَجْدُ. وَهَذَا الذَّوْقُ، أَصْحَابُهُ فِيهِ يَتَفَاوَتُونَ، فَاَلَّذِي يَحْصُلُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ عِنْدَ تَجْرِيدِ تَوْحِيدِ قُلُوبِهِمْ إلَى اللَّهِ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَيْهِ دُونَ مَا سِوَاهُ بِحَيْثُ يَكُونُونَ حُنَفَاءَ لَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينُ، لَا يُحِبُّونَ شَيْئًا إلَّا لَهُ، وَلَا يَتَوَكَّلُونَ إلَّا عَلَيْهِ، وَلَا يُوَالُونَ إلَّا فِيهِ، وَلَا يُعَادُونَ إلَّا لَهُ وَلَا يَسْأَلُونَ إلَّا إيَّاهُ، وَلَا يَرْجُونَ إلَّا إيَّاهُ، وَلَا يَخَافُونَ إلَّا إيَّاهُ. يَعْبُدُونَهُ وَيَسْتَعِينُونَ لَهُ وَبِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُونَ عِنْدَ الْحَقِّ بِلَا خَلْقٍ، وَعِنْدَ الْخَلْقِ بِلَا هَوًى؛ قَدْ فَنِيَتْ عَنْهُمْ إرَادَةُ مَا سِوَاهُ بِإِرَادَتِهِ، وَمَحَبَّةُ مَا سِوَاهُ بِمَحَبَّتِهِ، وَخَوْفُ مَا سِوَاهُ بِخَوْفِهِ، وَرَجَاءُ مَا سِوَاهُ بِرَجَائِهِ، وَدُعَاءُ مَا سِوَاهُ بِدُعَائِهِ، هُوَ أَمْرٌ لَا يَعْرِفُهُ بِالذَّوْقِ وَالْوَجْدِ إلَّا مَنْ لَهُ نَصِيبٌ، وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا لَهُ مِنْهُ نَصِيبٌ. وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ وَهُوَ قُطْبُ الْقُرْآنِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ رَحَاهُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

مسألة من كان عليه دين هل يجوز له أن يأخذ من زكاة أبيه لقضاء دينه

[مَسْأَلَةٌ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ زَكَاةِ أَبِيهِ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ] 1062 - 38 وَسُئِلَ: هَلْ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ زَكَاةِ أَبِيهِ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ أَمْ لَا؟ . فَأَجَابَ: إذَا كَانَ عَلَى الْوَلَدِ دَيْنٌ وَلَا وَفَاءَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ زَكَاةِ أَبِيهِ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى النَّفَقَة وَلَيْسَ لِأَبِيهِ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَإِلَّا ظَهَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ زَكَاةِ أَبِيهِ وَأَمَّا إنْ كَانَ مُسْتَغْنِيًا بِنَفَقَةِ أَبِيهِ فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَّا زَكَاتَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ نَوَى زِيَارَةَ قَبْرِ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ فِي سَفَرِهِ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ] 1063 - 39 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ نَوَى زِيَارَةَ قَبْرِ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مِثْلُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ فِي سَفَرِهِ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ؟ وَهَلْ هَذِهِ الزِّيَارَةُ شَرْعِيَّةٌ أَمْ لَا؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي، وَمَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي» ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «لَا تُشَدُّ الرَّحَّالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا» . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَمَّا مَنْ سَافَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ قَصْرُ الصَّلَاةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ مُتَقَدِّمِي الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَا يُجَوِّزُونَ الْقَصْرَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ وَأَبِي الْوَفَا بْنِ عَقِيلٍ، وَطَوَائِفَ كَبِيرَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ فِي مِثْلِ هَذَا السَّفَرِ، لِأَنَّهُ سَفَرٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ السَّفَرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الشَّرِيعَةِ لَا يُقْصَرُ فِيهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَقْصُرُ، وَهَذَا يَقُولُهُ مَنْ يُجَوِّزُ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ الْمُحَرَّمِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَيَقُولُهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ مِمَّنْ يُجَوِّزُ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ: كَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ عَبْدُوسٍ الْحَرَّانِيِّ،

وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ قُدَامَةَ الْمَقْدِسِيَّ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ هَذَا السَّفَرَ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ لِعُمُومِ قَوْلِهِ «فَزُورُوا الْقُبُورَ» . وَقَدْ يَحْتَجُّ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ بِالْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَوْلِهِ «مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ «مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي» فَهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ «مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ» فَإِنَّ هَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ، وَلَمْ يَحْتَجَّ بِهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا يَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ. وَقَدْ احْتَجَّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ عَلَى جَوَازِ السَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَزُورُ مَسْجِدَ قُبَاءَ. وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ» بِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِحْبَابِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَإِنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا» وَهَذَا الْحَدِيثُ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى صِحَّتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَلَوْ نَذَرَ الرَّجُلُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدٍ أَوْ مَشْهَدٍ أَوْ يَعْكُفُ فِيهِ أَوْ يُسَافِرُ إلَيْهِ غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لَحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى لِصَلَاةٍ أَوْ اعْتِكَافٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَذَا النَّذْرِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَلَمْ يَجِبْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عِنْدَهُ بِالنَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَيُوَجِّهُونَ الْوَفَاءَ بِكُلِّ طَاعَةٍ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلِيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» وَالسَّفَرُ إلَى الْمَسْجِدِ هُوَ طَاعَةٌ فَلِهَذَا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ. وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى بُقْعَةِ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ فَلَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ السَّفَرَ إلَيْهِ

إذَا نَذَرَهُ حَتَّى نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَافَرُ إلَى مَسْجِدِ قُبَاءَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الثَّلَاثَةِ، مَعَ أَنَّ مَسْجِدَ قُبَاءَ تُسْتَحَبُّ زِيَارَتُهُ لِمَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَدِّ رَحْلٍ كَمَا فِي الصَّحِيحِ «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ لَا يُرِيدُ إلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ كَانَ كَعُمْرَةٍ» . قَالُوا: وَلِأَنَّ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ، وَلَا أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، لِمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ عِبَادَةً وَفَعَلَهَا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَلِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ. وَهَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي إبَانَتِهِ الصُّغْرَى مِنْ الْبِدَعِ الْمُخَالَفَةِ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ ضَعْفُ حُجَّةِ أَبِي مُحَمَّدٍ، فَإِنَّ «زِيَارَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَسْجِدِ قُبَاءَ لَمْ تَكُنْ بِشَدِّ الرَّحْلِ» ، وَهُوَ يُسَلَّمُ لَهُمْ أَنَّ السَّفَرَ إلَيْهِ لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ. وَقَوْلُهُ إنَّ قَوْلَهُ «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ» مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِحْبَابِ يُجَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا تَسْلِيمٌ مِنْهُ أَنَّ هَذَا السَّفَرَ لَيْسَ بِعَمَلٍ صَالِحٍ وَلَا قُرْبَةٍ وَلَا طَاعَةٍ وَلَا هُوَ مِنْ الْحَسَنَاتِ. وَمَنْ اعْتَقَدَ فِي السَّفَرِ لِزِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَنَّهُ قُرْبَةٌ وَعِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ، وَإِذَا سَافَرَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ طَاعَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَصَارَ التَّحْرِيمُ مِنْ جِهَةِ اتِّخَاذِهِ قُرْبَةً. وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا لَا يُسَافِرُ إلَيْهَا إلَّا لِذَلِكَ، وَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ شَدَّ الرَّحْلَ إلَيْهَا لِغَرَضٍ مُبَاحٍ فَهَذَا جَائِزٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّفْيَ يَقْتَضِي النَّهْيَ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، بَلْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ الْمُعْتَمَدَةِ شَيْئًا مِنْهَا، وَلَمْ يَحْتَجَّ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ بِشَيْءٍ مِنْهَا، بَلْ مَالِكٌ إمَامُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَرِهَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ، وَلَوْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ أَوْ مَشْرُوعًا أَوْ مَأْثُورًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكْرَهْهُ عَالِمُ الْمَدِينَةِ. الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْلَمُ النَّاسِ فِي زَمَانِهِ بِالسُّنَّةِ لَمَّا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إلَّا حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» وَعَلَى هَذَا اعْتَمَدَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ، وَكَذَلِكَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ: رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ

السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ أَيْنَمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي» وَفِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنِ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَأَى رَجُلًا يَخْتَلِفُ إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدْعُوهُ عِنْدَهُ فَقَالَ: يَا هَذَا إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ أَيْنَمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي» فَمَا أَنْتَ وَرَجُلٌ بِالْأَنْدَلُسِ مِنْهُ إلَّا سَوَاءٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا. قَالَتْ عَائِشَةُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزَ قَبْرَهُ، وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا، فَهُمْ دَفَنُوهُ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ بِخِلَافِ مَا اعْتَادُوهُ مِنْ الدَّفْنِ فِي الصَّحْرَاءِ لِئَلَّا يُصَلِّيَ أَحَدٌ عَلَى قَبْرِهِ وَيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَيُتَّخَذَ قَبْرُهُ وَثَنًا، وَكَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَمَّا كَانَتْ الْحُجْرَةُ النَّبَوِيَّةُ مُنْفَصِلَةً عَنْ الْمَسْجِدِ إلَى زَمَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ عِنْدَهُ لَا لِصَلَاةٍ هُنَاكَ وَلَا لِتَمَسُّحٍ بِالْقَبْرِ وَلَا دُعَاءٍ هُنَاكَ، بَلْ هَذَا جَمِيعُهُ إنَّمَا يَفْعَلُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إذَا سَلَّمُوا عَلَيْهِ أَوْ أَرَادُوا الدُّعَاءَ دَعَوْا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ وَلَمْ يَسْتَقْبِلُوا الْقَبْرَ. وَأَمَّا وَقْتُ السَّلَامِ عَلَيْهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ أَيْضًا وَلَا يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ بَلْ يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ عِنْدَ السَّلَامِ خَاصَّةً، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ عِنْدَ الدُّعَاءِ إلَّا حِكَايَةً مَكْذُوبَةً تُرْوَى عَنْ مَالِكٍ، وَمَذْهَبُهُ بِخِلَافِهَا. وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَمَسَّحُ بِقَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يُقَبِّلُهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مُحَافَظَةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ، فَإِنَّ مِنْ أُصُولِ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ اتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، كَمَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]

مسألة في رجل حبس خصما له عليه دين بحكم الشرع فحضر إليه رجل يشفع فيه

قَالُوا: هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ، ثُمَّ صَوَّرُوا عَلَى صُوَرِهِمْ تَمَاثِيلَ، ثُمَّ طَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَعَبَدُوهَا. وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ، وَذَكَرَهُ وَثِيمَةُ وَغَيْرُهُ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى أُصُولِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْأَحَادِيثَ فِي السَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْمَشَاهِدَ الَّتِي عَلَى قُبُورِهِمْ أَهْلُ الْبِدَعِ الرَّافِضَةُ وَنَحْوُهُمْ الَّذِينَ يُعَطِّلُونَ الْمَسَاجِدَ، وَيُعَظِّمُونَ الْمَشَاهِدَ، يَدَعُونَ بُيُوتَ اللَّهِ الَّتِي أَمَرَ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، وَيُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَيُعَظِّمُونَ الْمَشَاهِدَ الَّتِي يُشْرَكُ فِيهَا وَيُكْذَبُ فِيهَا، وَيُبْتَدَعُ فِيهَا دِينٌ لَمْ يُنَزِّلْ اللَّهُ بِهِ سُلْطَانًا، فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ إنَّمَا فِيهِمْ ذِكْرُ الْمَسَاجِدِ دُونَ الْمَشَاهِدِ، كَمَا قَالَ: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29] وَقَالَ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة: 18] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114] . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ «إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ حَبَسَ خَصْمًا لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِحُكْمِ الشَّرْعِ فَحَضَرَ إلَيْهِ رَجُلٌ يَشْفَعُ فِيهِ] 1064 - 40 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ حَبَسَ خَصْمًا لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، فَحَضَرَ إلَيْهِ رَجُلٌ يَشْفَعُ فِيهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ شَفَاعَتَهُ، فَتَخَاصَمَا بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَشَهِدَ الشَّافِعُ عَلَى

الرَّجُلِ بِأَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ كَلَامٌ يَقْتَضِي الْكُفْرَ، وَخَافَ الرَّجُلُ غَائِلَةَ ذَلِكَ، فَأَحْضَرَ إلَى حَاكِمٍ شَافِعِيٍّ وَادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُ تَلَفَّظَ بِمَا قِيلَ عَنْهُ، وَسَأَلَ حُكْمَ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الْحَاكِمُ لِلْخَصْمِ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَعْتَرِفْ، فَلُقِّنَ أَنْ يَعْتَرِفَ لِيَتِمَّ لَهُ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ إسْلَامِهِ، وَحَقْنِ دَمِهِ، فَاعْتَرَفَ بِأَنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْهُ جَاهِلًا بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَتَابَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى، ثُمَّ سَأَلَ الْحَاكِمَ الْمَذْكُورَ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِإِسْلَامِهِ، وَحَقْنِ دَمِهِ، وَتَوْبَتِهِ، وَبَقَاءِ مَالِهِ عَلَيْهِ، فَأَجَابَهُ إلَى سُؤَالِهِ وَحَكَمَ بِإِسْلَامِهِ، وَحَقْنِ دَمِهِ وَبَقَاءِ مَالِهِ عَلَيْهِ وَقَبُولِ تَوْبَتِهِ، وَعَزَّرَهُ تَعْزِيرَ مِثْلِهِ، وَحَكَمَ بِسُقُوطِ تَعْزِيرٍ ثَانٍ عَنْهُ، وَقَضَى بِمُوجِبِ ذَلِكَ كُلِّهِ، ثُمَّ نَفَّذَ ذَلِكَ حَاكِمٌ آخَرُ حَنَفِيٌّ، فَهَلْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ صَحِيحٌ فِي جَمِيعِ مَا حَكَمَ لَهُ بِهِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَفْتَقِرُ حُكْمُ الشَّافِعِيِّ إلَى حُضُورِ خَصْمٍ مِنْ جِهَةِ بَيْتِ الْمَالِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ بِمَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ أَخْذِ مَالِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَحِلُّ لِحَكَمٍ آخَرَ بَعْدَ الْحُكْمِ وَالتَّنْفِيذِ الْمَذْكُورَيْنِ أَنْ يَحْكُمَ فِي مَالِهِ بِخِلَافِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ وَتَنْفِيذِهِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُثَابُ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَى مَنْعِ مَنْ يَتَعَرَّضُ إلَيْهِ بِأَخْذِ مَالِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ بِمَا ذَكَرَ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. نَعَمْ الْمَذْكُورُ صَحِيحٌ وَكَذَلِكَ تَنْفِيذُهُ، وَلَيْسَ لِبَيْتِ الْمَالِ فِي مَالٍ مِثْلِ هَذَا حَقٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَفْتَقِرُ الْحُكْمُ بِإِسْلَامِهِ وَعِصْمَةِ مَالِهِ إلَى حُضُورِ خَصْمٍ مِنْ جِهَةِ بَيْتِ الْمَالِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْحُكْمِ، إذْ الْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا أَسْلَمَ عَصَمَ بِإِسْلَامِهِ دَمَهُ وَمَالَهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِذَلِكَ حَاكِمٌ، وَلَا كَلَامَ لِوَلِيِّ بَيْتِ الْمَالِ فِي مَالِ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ رِدَّتِهِ، بَلْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ أَيْضًا فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ مَنْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالرِّدَّةِ، فَأَنْكَرَ وَتَشَهَّدَ الشَّهَادَتَيْنِ الْمُعْتَبَرَتَيْنِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يُقِرَّ بِمَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ عَدْلٌ، فَإِنَّهُ مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَفْتَقِرُ الْحُكْمُ بِعِصْمَةِ دَمِهِ وَمَالِهِ إلَى إقْرَارِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَحْتَاجُ عِصْمَةُ دَمِ مِثْلِ هَذَا إلَى أَنْ يُقِرَّ ثُمَّ يُسْلِمَ بَعْدَ إخْرَاجِهِ إلَى ذَلِكَ، فَقَدْ يَكُونُ فِيهِ إلْزَامٌ لَهُ بِالْكَذِبِ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ كُفْرٌ. وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِقْرَارِ حُكْمَ الْإِقْرَارِ الصَّحِيحِ، فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لُقِّنَ الْإِقْرَارَ، وَأَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ إنَّمَا فَعَلَهُ خَوْفَ الْقَتْلِ.

وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ كُفْرَ الْمُرْتَدِّ كُفْرُ سَبٍّ، فَلَيْسَ فِي الْحُكَّامِ بِمَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مَنْ يَحْكُمُ بِأَنَّ مَالَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ بَعْدَ إسْلَامِهِ، إنَّمَا يَحْكُمُ مَنْ يَحْكُمُ بِقَتْلِهِ، لِكَوْنِهِ يُقْتَلُ حَدًّا عِنْدَهُمْ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَمَنْ قَالَ يُقْتَلُ لِزَنْدَقَتِهِ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِمِثْلِ هَذَا الْإِقْرَارِ. وَأَيْضًا فَمَالُ الزِّنْدِيقِ عِنْدَ أَكْثَرِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا إذَا مَاتُوا وَرِثَهُمْ الْمُسْلِمُونَ مَعَ الْجَزْمِ بِنِفَاقِهِمْ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ وَرِثَهُمْ وَرَثَتُهُمْ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ بِنِفَاقِهِمْ، وَلَمْ يَتَوَارَثْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ غَيْرَ مِيرَاثِ مُنَافِقٍ، وَالْمُنَافِقُ هُوَ الزِّنْدِيقُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ. وَأَيْضًا فَحُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا نَفَذَ فِي دَمِهِ الَّذِي قَدْ يَكُونُ فِيهِ نِزَاعٌ، نَفَذَ فِي مَالِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، إذْ لَيْسَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ يَقُولُ: يُؤْخَذُ مَالُهُ وَلَا يُبَاحُ دَمُهُ، فَلَوْ قِيلَ بِهَذَا كَانَ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ، فَإِذَا لَمْ يَتَوَقَّفْ الْحُكْمُ بِعِصْمَةِ دَمِهِ عَلَى دَعْوَى مِنْ جِهَةِ وَلِيِّ الْأَمْرِ فَمَالُهُ أَوْلَى. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ بِمَالِ مِثْلِ هَذَا لِبَيْتِ الْمَالِ غَيْرُ مُمْكِنٍ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ مَا يُبِيحُ دَمَهُ لَا بِبَيِّنَةٍ وَلَا بِإِقْرَارٍ مُتَعَيِّنٍ، وَلَكِنْ بِإِقْرَارٍ قَصَدَ بِهِ عِصْمَةَ مَالِهِ وَدَمِهِ مِنْ جِنْسِ الدَّعْوَى عَلَى الْخَصْمِ الْمُسَخَّرِ. الثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ بِعِصْمَةِ دَمِهِ وَمَالِهِ وَاجِبٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْحُكْمَ صَحِيحٌ بِلَا رَيْبٍ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُكْمَ مُجْتَهِدٍ فِيهِ لَزَالَ ذَلِكَ بِتَنْفِيذِ الْمُنَفِّذِ لَهُ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحُكَّامِ مَنْ يَحْكُمُ بِمَالِ هَذَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ ثُمَّ الْإِسْلَامُ، وَلَوْ كَانَ الْكُفْرُ سَبًّا، فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ، أَمْ كَيْفَ إذَا حَكَمَ بِعِصْمَةِ مَالِهِ، بَلْ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ الَّذِي يَسْتَنِدُ إلَيْهِمَا فِي مِثْلِ هَذِهِ مِنْ أَبْعَدِ

مسألة عن العمرة هل هي واجبة

الْمَذَاهِبِ عَنْ الْحُكْمِ بِمَالِ مِثْلِ هَذَا لِبَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِقْرَارِ عِنْدَهُمْ إقْرَارُ تَلْجِئَةٍ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَلِمَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِمَا فِي السَّابِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ عَنْ الْعُمْرَةِ هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ] 1065 - 41 مَسْأَلَةٌ: عَنْ الْعُمْرَةِ، هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ؟ وَإِنْ كَانَ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟ . فَصْلٌ: الْعُمْرَةُ فِي وُجُوبِهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمَا وُجُوبُهَا، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: لَا تَجِبُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَهَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحُ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَوْجَبَ الْحَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] لَمْ يُوجِبْ الْعُمْرَةَ كَمَا أَوْجَبَ إتْمَامَهَا بِقَوْلِهِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] إيجَابُ الْإِتْمَامِ وَأَوْجَبَ إتْمَامَهُمَا، وَفِي الِابْتِدَاءِ إنَّمَا أَوْجَبَ الْحَجَّ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ لَيْسَ فِيهَا إلَّا إيجَابُ الْحَجِّ؛ وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَيْسَ فِيهَا جِنْسُ غَيْرِ مَا فِي الْحَجِّ فَإِنَّهَا إحْرَامٌ وَإِحْلَالٌ وَطَوَافٌ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الْحَجِّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَفْعَالُ الْحَجِّ لَمْ يَفْرِضْ اللَّهُ مِنْهَا شَيْئًا مَرَّتَيْنِ، فَلَمْ يَفْرِضْ وَقُوفَيْنِ وَلَا طَوَافَيْنِ وَلَا سَعْيَيْنِ، وَلَا فَرَضَ الْحَجَّ مَرَّتَيْنِ، فَطَوَافُ الْوَدَاعِ لَيْسَ بِرُكْنٍ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ، وَلَكِنْ كُلُّ مَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَدِّعَ، وَلِهَذَا مَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ لَا يُوَدِّعُ عَلَى الصَّحِيحِ، فَوُجُوبُهُ لِيَكُونَ آخِرَ عَهْدِ الْخَارِجِ بِالْبَيْتِ كَمَا وَجَبَ الدُّخُولُ بِالْإِحْرَامِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ لِسَبَبٍ عَارِضٍ، لَا لِكَوْنِ ذَلِكَ وَاجِبًا بِالْإِسْلَامِ كَوُجُوبِ الْحَجِّ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ الْمُقِيمِينَ بِمَكَّةَ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَمِرُونَ بِمَكَّةَ لَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَلَى عَهْدِ خُلَفَائِهِ، بَلْ لَمْ يَعْتَمِرْ أَحَدٌ عُمْرَةً بِمَكَّةَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا عَائِشَةُ وَحْدَهَا لِسَبَبٍ عَارِضٍ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

كتاب الاختيارات العلمية

[كِتَابُ الِاخْتِيَارَاتِ الْعِلْمِيَّةِ] [كِتَابُ الطَّهَارَةِ] [بَابُ الْمِيَاهِ]

كِتَابُ الطَّهَارَةِ بَابُ الْمِيَاهِ الطَّهَارَةُ تَارَةً تَكُونُ مِنْ الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ، وَتَارَةً مِنْ الْأَعْمَالِ الْخَبِيثَةِ، وَتَارَةً مِنْ الْأَحْدَاثِ الْمَانِعَةِ، فَمِنْ الْأَوَّلِ: قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ. مِنْ الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] الْآيَةَ. وَمِنْ الثَّالِثِ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الطَّهُورِ هَلْ هُوَ بِمَعْنَى الطَّاهِرِ أَمْ لَا؟ وَهَذَا النِّزَاعُ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ: الطَّهُورُ مُتَعَدٍّ، وَالطَّاهِرُ لَازِمٌ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: الطَّاهِرُ هُوَ الطَّهُورُ، وَهُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ. وَفَصْلُ الْخِطَابِ: أَنَّ صِيغَةَ اللُّزُومِ وَالتَّعَدِّي لَفْظٌ مُجْمَلٌ يُرَادُ بِهِ اللُّزُومُ، الطَّاهِرُ يَتَنَاوَلُ الْمَاءَ وَغَيْرَهُ، وَكَذَلِكَ الطَّهُورُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ التُّرَابَ طَهُورًا، وَلَكِنْ لَفْظُ الطَّاهِرِ يَقَعُ عَلَى جَامِدَاتٍ كَثِيرَةٍ: كَالثِّيَابِ، وَالْأَطْعِمَةِ، وَعَلَى مَائِعَاتٍ كَثِيرَةٍ: كَالْأَدْهَانِ، وَالْأَلْبَانِ، وَتِلْكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُطَهَّرَ بِهَا فَهِيَ طَاهِرَةٌ لَيْسَتْ بِطَهُورٍ. قُلْت: وَذَكَرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ " عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَعْنَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاسِ، قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا فَائِدَةَ فِي النِّزَاعِ فِي الْمَسْأَلَةِ، قَالَ

الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: فَائِدَتُهُ أَنَّهُ عِنْدَنَا لَا تَجُوزُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ لَا لِاخْتِصَاصِهِ بِالتَّطْهِيرِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ تَجُوزُ لِمُشَارَكَتِهِ غَيْرَ الْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: لَهُ فَائِدَةٌ أُخْرَى، الْمَاءُ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ بِكَوْنِهِ مُطَهِّرًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يَنْجَسُ بِشَيْءٍ» وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِطَهُورٍ، فَلَا يُدْفَعُ وَعِنْدَهُمْ الْجَمِيعُ سَوَاءٌ. وَتَجُوزُ طَهَارَةُ الْحَدَثِ بِكُلِّ مَا يُسَمَّى مَاءً وَبِمُعْتَصِرِ الشَّجَرِ، قَالَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالْأَصَمُّ، وَابْنُ شَعْبَانَ. وَبِمُتَغَيِّرٍ بِطَاهِرٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبِمَاءٍ حَلَّتْ بِهِ امْرَأَةٌ لِطَهَارَةٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَبِمُسْتَعْمَلٍ فِي رَفْعِ حَدَثٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ اخْتَارَهَا ابْنُ عَقِيلٍ، وَأَبُو الْبَقَاءِ، وَطَوَائِفُ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى نَجَاسَتِهِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَحُمِلَ كَلَامُهُ عَلَى الْغَدِيرِ يُغْتَسَلُ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ قُلَّتَيْنِ مِنْ نَجَاسَةِ الْحَدَثِ، وَلَيْسَتْ مِنْ مَوَارِدِ الظُّنُونِ، بَلْ هِيَ قَطِيعَةٌ بِلَا رَيْبٍ. وَلَا يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ مِنْهُ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَأَوَّلَ الْقَاضِي الْقَوْلَ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ بِجَعْلِهِ فِي صِفَةِ النَّجَسِ فِي مَعْنَى الْوُضُوءِ، لَا أَنَّهُ جَعَلَهُ نَجَسًا حَقِيقَةً، وَكَلَامُهُ فِي التَّعْلِيقِ لَا يَرْتَفِعُ عَنْ الْأَعْضَاءِ إلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ، كَمَا لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إلَّا بِذَلِكَ هَذَا إذَا نَوَى وَهُوَ فِي الْمَاءِ وَإِذَا نَوَى قَبْلَ الِانْغِمَاسِ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ. وَأَمَّا إذَا صَبَّ عَلَى الْعُضْوِ فَهُنَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ الْحَدَثُ. وَيُكْرَهُ الْغُسْلُ لَا الْوُضُوءُ بِمَاءِ زَمْزَمَ. قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَلَا يَنْجَسُ الْمَاءُ إلَّا بِالتَّغْيِيرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا ابْنُ عَقِيلٍ، وَابْنُ الْمُنَى، وَأَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ الْجَوْزِيِّ، وَأَبُو نَصْرٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَلَوْ كَانَ تَغْيِيرُهُ فِي مَحَلِّ التَّطْهِيرِ، وَقَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَفَرَّقَتْ طَائِفَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ الْجَارِي، وَالْوَاقِفِ، وَهُوَ نَصُّ الرِّوَايَتَيْنِ، فَلَا يَنْجَسُ الْجَارِي إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، سَوَاءً كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. وَحَوْضُ الْحَمَّامِ إذَا كَانَ فَائِضًا يَجْرِي إلَيْهِ الْمَاءُ فَإِنَّهُ جَارٍ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ

باب الآنية

الْعُلَمَاءِ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ هَلْ يَقْتَضِي الْقِيَاسُ فِيهِ أَنَّ النَّجَاسَةَ كَاخْتِلَاطِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ إلَى حِينِ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى تَطْهِيرِهِ، أَوْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ طَهَارَتُهُ إلَى أَنْ تَظْهَرَ النَّجَاسَةُ فِيهِ قَوْلَانِ. وَالثَّانِي الصَّوَابُ. وَالْمَائِعَاتُ كُلُّهَا حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَاءِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَذْهَبُ الزُّهْرِيِّ، وَالْبُخَارِيِّ، وَحُكِيَ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ، وَذُكِرَ فِي " شَرْحِ الْعُمْدَةِ " أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ لَيْسَتْ عَيْنِيَّةً، لِأَنَّهُ يُطَهِّرُ غَيْرَهُ، فَنَفْسُهُ أَوْلَى. وَفِي الثِّيَابِ الْمُشْتَبِهَةِ بِنَجَسٍ أَنَّهُ يَتَحَرَّى وَيُصَلِّي فِي وَاحِدٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ سَوَاءً قَلَّتْ الطَّاهِرَةُ أَوْ كَثُرَتْ. ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ وَمُنَاظَرَاتِهِ ". قُلْت: وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ، قَالَ: وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ مَالِكٍ كَمَا يَتَحَرَّى فِي الْقِبْلَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إنْ كَثُرَ عَدَدُ الثِّيَابِ تَحَرَّى دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ، وَإِنْ قَلَّ عَمِلَ بِالْيَقِينِ. وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا سَقَطَ عَلَيْهِ مَاءٌ مِنْ مِيزَابٍ وَنَحْوِهِ، وَلَا أَمَارَةَ عَلَى النَّجَاسَةِ لَمْ يَلْزَمْ السُّؤَالُ عَنْهُ، بَلْ يُكْرَهُ، وَإِنْ سُئِلَ فَهَلْ يَلْزَمُهُ رَدُّ الْجَوَابِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ الْأَصْحَابِ وَغَيْرُهُمْ السُّؤَالَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَأَضْعَفُ مِنْهُ مَنْ أَوْجَبَهُمَا. قَالَ الْأَزَجِيُّ: إنْ عَلِمَ الْمَسْئُولُ نَجَاسَتَهُ وَجَبَ الْجَوَابُ. وَإِلَّا فَلَا، وَإِذَا شَكَّ فِي النَّجَاسَةِ هَلْ أَصَابَتْ الثَّوْبَ أَوْ الْبَدَنَ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَأْمُرُ بِنَضْحِهِ، وَيَجْعَلُ حُكْمَ الْمَشْكُوكِ فِيهِ النَّضْحَ، كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُوجِبُهُ، فَإِذَا احْتَاطَ وَنَضَحَ كَانَ حَسَنًا، كَمَا رُوِيَ فِي نَضْحِ أَنَسٍ لِلْحَصِيرِ الَّذِي قَدْ اسْوَدَّ، وَنَضَحَ عُمَرُ ثَوْبَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. [بَابُ الْآنِيَةِ] يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ آنِيَةِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَاِتِّخَاذُهَا. ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي " الْخِلَافِ ". وَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ إنَاءٍ مُفَضَّضٍ إذَا كَانَ كَثِيرًا، وَلَا يُكْرَهُ يَسِيرٌ لِحَاجَةٍ، وَيُكْرَهُ لِغَيْرِهَا، وَنَصُّ عَلَى التَّفْضِيلِ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ، رَأْسُ الْمُكْحُلَةِ وَالْمِيلُ، وَحَلْقَةُ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ مِنْ فِضَّةٍ فَهِيَ مِنْ الْآنِيَةِ.

باب آداب التخلي

قَالَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: لَا بَأْسَ بِمَا يُضَبِّبُهُ وَأَكْرَهُ الْحَلْقَةَ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا وَأَبِي مَنْصُورٍ: لَا بَأْسَ فِي إنَاءٍ مُفَضَّضٍ إذَا لَمْ يَقَعْ فَمُهُ عَلَى الْفِضَّةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: قَدْ فَرَّقَ بَيْن الضَّبَّةِ، وَالْحَلْقَةِ، وَرَأْسِ الْحَلْقَةِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَكَلَامُ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمَنْ تَدَبَّرَهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْحَاجَةِ. وَعَدَمِهَا، وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْن مَا يُسْتَعْمَلُ وَبَيْنَ مَا لَا يُسْتَعْمَلُ. فَأَمَّا يَسِيرُ الذَّهَبِ فَلَا يُبَاحُ بِحَالٍ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ فِي النَّصِّ: إذَا خَافَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْقُطَ هَلْ يُجْعَلُ لَهُ مِسْمَارٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: إنَّمَا رَخَّصَ فِي الْأَسْنَانِ عَلَى الضَّرُورَةِ، فَأَمَّا الْمِسْمَارُ فَلَا، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي اللِّبَاسِ فَفِي الْآنِيَةِ أَوْلَى. وَقَدْ غَلِطَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ حَيْثُ حَكَتْ قَوْلًا بِيَسِيرِ الذَّهَبِ تَبَعًا فِي الْآنِيَةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو بَكْرٍ، إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي بَابِ اللِّبَاسِ، وَالتَّحَلِّي، وَبَابُ اللِّبَاسِ أَوْسَعُ. وَلَا يَجُوزُ تَمْوِيهُ السُّقُوفِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا يَجُوزُ لَطْخُ اللِّجَامِ وَالسَّرْجِ بِالْفِضَّةِ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَتِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحَيْثُ أُبِيحَتْ الضَّبَّةُ يُرَادُ مِنْ إبَاحَتِهَا أَنْ تَحْتَاجَ إلَى تِلْكَ الصُّورَةِ لَا إلَى كَوْنِهَا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَإِنَّ هَذِهِ ضَرُورَةٌ، وَهِيَ تُبِيحُ الْمُتَعَذِّرَ. وَيُبَاحُ الِاكْتِحَالُ بِمِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، لِأَنَّهَا حَاجَةٌ، وَيُبَاحَانِ لَهَا. قَالَهُ أَبُو الْمَعَالِي. [بَابُ آدَابِ التَّخَلِّي] يَحْرُمُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارُهَا عِنْدَ التَّخَلِّي مُطْلَقًا سَوَاءٌ الْفَضَاءُ وَالْبُنْيَانُ. وَهُوَ رِوَايَةٌ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَلَا يَكْفِي انْحِرَافُهُ عَنْ الْجِهَةِ. قُلْت: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ جَدِّهِ. وَيَحْمَدُ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ إذَا عَطَسَ بِخَلَاءٍ، وَكَذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ، قَالَ أَبُو دَاوُد لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَيُحَرِّكُ بِهَا لِسَانَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ الْقَاضِي: وَنَقَلَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ يُحَرِّكُ بِهِ شَفَتَيْهِ فِي الْخَلَاءِ؟ قَالَ الْقَاضِي: بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ، وَقَالَ: مَا لَا يَسْمَعُهُ لَا يَكُونُ كَلَامًا

فَيَجْرِي مَجْرَى الذِّكْرِ فِي نَفْسِهِ، وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ وِفَاقًا الْقَاضِي، وَجَعَلَهَا أَوْلَى الرِّوَايَتَيْنِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: أَمَّا مَسْأَلَةُ الصَّلَاةِ فَتُقَارِبُ مَسْأَلَةَ الْخَلَاءِ، فَإِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ ذِكْرٌ لِلَّهِ، وَنَصَّ أَحْمَدُ أَنَّهُ يَقُولُهُ فِي الصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ أَذْكَارِ الْمُخَافَتَةِ لَكِنْ لَا يَجْهَرُ بِهِ كَمَا يَجْهَرُ خَارِجَ الصَّلَاةِ، لَيْسَ أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ نَفْسَهُ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْخَلَاءِ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَ الْقَاضِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا فِي نَفْسِهِ بِلَا لَفْظٍ، وَالثَّانِيَةُ بِاللَّفْظِ. وَيُكْرَهُ السَّلْتُ، وَالنَّثْرُ، وَلَمْ يَصِحَّ الْحَدِيثُ فِي الْأَمْرِ وَالْمَشْيِ، وَالتَّنَحْنُحُ عَقِيبَ الْبَوْلِ بِدْعَةٌ، وَيَجْزِي الِاسْتِجْمَارُ وَلَوْ بِوَاحِدَةٍ فِي وَالصَّفْحَتَيْنِ وَالْحَشَفَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ بِجَوَازِ الِاسْتِجْمَارِ. وَلَمْ يُنْقَلُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ تَقْدِيرٌ، وَيَجْزِي بِعَظْمٍ وَرَوْثٍ. قُلْت: وَمَا نَهَى عَنْهُ فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَنْفِي، بَلْ لِإِفْسَادِهِ، فَإِذَا قِيلَ: يَزُولُ بِطَعَامِنَا مَعَ التَّحْرِيمِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَالْأَفْضَلُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَلَا يُكْرَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْحَجَرِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَيْسَ لَهُ الْبَوْلُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَوْ فِي وِعَاءٍ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي الْبَوْلِ حَوْلَ الْبِرْكَةِ فِي الْمَسْجِدِ: هَذَا يُشْبِهُ الْبَوْلَ فِي قَارُورَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَهَى عَنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَخِّصُ فِيهِ لِلْحَاجَةِ، فَأَمَّا اتِّخَاذُهُ مَبَالًا فَلَا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَذْبَحَ فِي الْمَسْجِدِ ضَحَايَا وَلَا غَيْرَهَا، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّخِذَ. الْمَسْجِدَ طَرِيقًا. فَكَيْفَ إذَا اتَّخَذَهُ الْكَافِرُ طَرِيقًا، وَيَحْرُمُ مَنْعُ الْمُحْتَاجِ إلَى الطَّهَارَةِ وَلَوْ وُقِفَتْ عَلَى طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي رِبَاطٍ وَلَوْ فِي مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهَا بِمُوجِبِ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ مَبْذُولَةٌ لِلْمُحْتَاجِ، وَلَوْ قَدَّرْت أَنَّ الْوَاقِفَ صَرَّحَ بِالْمَنْعِ، فَإِنَّمَا يَسُوغُ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ، وَإِلَّا فَيَجِبُ بَذْلُ الْمَنَافِعِ الْمُحْصَنَةِ لِلْمُحْتَاجِ كَسُكْنَى دَارِهِ، وَالِانْتِفَاعِ بِمَا حَوَتْهُ، وَلَا أُجْرَةَ لِذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَيُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ دُخُولِ بَيْتِ الْخَلَاءِ إنْ حَصَلَ مِنْهُمْ تَضْيِيقٌ، أَوْ فَسَادُ مَاءٍ، أَوْ تَنْجِيسٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِمْ ضَرَرٌ، وَلَهُمْ مَا يَسْتَغْنُونَ بِهِ فَلَيْسَ لَهُمْ مُزَاحَمَتُهُمْ.

باب السواك

[بَابُ السِّوَاكِ] ِ وَغَيْرِهِ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ وَعَلَى مَا يُتَسَوَّكُ بِهِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ، قَالَ اللَّيْثُ: وَتُؤَنِّثُهُ الْعَرَبُ أَيْضًا، وَغَلَّطَهُ الْأَزْهَرِيُّ فِي ذَلِكَ، وَتَبِعَهُ ابْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ ". وَهُوَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ مُسْتَحَبٌّ، وَالْأَصَحُّ وَلَوْ لِلصَّائِمِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ، وَقَالَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ، وَالْأَفْضَلُ بِيَدِهِ الْيُسْرَى. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: مَا عَلِمْت إمَامًا خَالَفَ فِيهِ، وَالسِّوَاكُ مَا عَلِمْت أَحَدًا كَرِهَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْآثَارُ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَيُكْرَهُ تَرْكُ شَعْرِهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَجِسًا، وَيَفْعَلُ الْأَصْلَحَ كُلُّ بَلَدٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ فِي الْعَمَلِ، وَالْأَفْضَلُ قَمِيصٌ مِنْ سَرَاوِيلَ لَا رِدَاءٍ، وَإِزَارٍ وَلَوْ مَعَ الْقَمِيصِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَيَحْرُمُ حَلْقُ اللِّحْيَةِ، وَيَجِبُ الْخِتَانُ إذَا وَجَبَتْ الطَّهَارَةُ وَالصَّلَاةُ، وَيَنْبَغِي إذَا رَاهَقَ الْبُلُوغَ أَنْ يَخْتَتِنَ كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُ لِئَلَّا يَبْلُغَ إلَّا وَهُوَ مَخْتُونٌ. [بَابُ صِفَةِ الْوُضُوءِ] لَمْ يَرِدْ الْوُضُوءُ بِمَعْنَى غُسْلِ الْيَدِ إلَّا فِي لُغَةِ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ الْفَارِسِيَّ قَالَ: إنَّا نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ» وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَحَدِيثُ ابْنِ مَاجَهْ: «وُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي» ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِهِ، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ خَبَرٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ الِاغْتِسَالِ مِنْ الْجَنَابَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ مَشْرُوعًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَيَمُّمٌ إذَا عَدِمُوا الْمَاءَ. وَيَجِبُ الْوُضُوءُ بِالْحَدَثِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ، وَفِي الِانْتِصَارِ بِإِرَادَةِ الصَّلَاةِ

باب المسح على الخفين

نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْوُضُوءُ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، إلَّا أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ بُصَاقٌ أَوْ مُخَاطٌ. وَالْأَفْضَلُ بِثَلَاثِ غَرَفَاتٍ، الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ يَجْمَعُهَا بِغَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ. وَتَجِبُ النِّيَّةُ لِطَهَارَةِ الْحَدَثِ لَا الْخَبَثِ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يَجِبُ نُطْقُهُ بِهَا سِرًّا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَشَذَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَأَوْجَبَ النُّطْقَ بِهَا وَهُوَ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فِي اسْتِحْبَابِ النُّطْقِ بِهَا، وَالْأَقْوَى عَدَمُهُ، وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ الْجَهْرُ بِهَا وَلَا تَكْرَارُهَا، وَيَنْبَغِي تَأْدِيبُ مَنْ اعْتَادَهُ، وَكَذَا بَقِيَّةُ الْعِبَادَاتِ لَا يُسْتَحَبُّ النُّطْقُ بِهَا لِإِحْرَامٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ أَبُو دَاوُد لِأَحْمَدَ: يَقُولُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ شَيْئًا. وَالْجَهْرُ بِلَفْظِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَفَاعِلُهُ مُسِيءٌ، وَإِنْ اعْتَقَدَهُ دَيْنًا خَرَجَ عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَيَجِبُ نَهْيُهُ، وَيُعْزَلُ عَنْ الْإِمَامَةِ إنْ لَمْ يَتُبْ، وَيَجُوزُ مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ لِلْعُذْرِ. قَالَهُ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ " وَيَمْسَحُ مَعَهُ الْعِمَامَةَ، وَيَكُونُ كَالْجَبِيرَةِ فَلَا تَوْقِيتَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ وَجَبَ مَسْحُ جَمِيعِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ الصَّحِيحُ عَنْهُ، وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ مَسْحِ شَعْرِهِ أَوْ بَعْضِ رَأْسِهِ، بَلْ شَعْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، وَلَا يُسَنُّ تَكْرَارُ مَسْحِ جَمِيعِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يَمْسَحُ الْعُنُقَ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا أَخْذُهُ مَاءً جَدِيدًا لِلْأُذُنَيْنِ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِ، وَإِنْ مَنَعَ يَسِيرُ وَسَخِ ظُفْرٍ وَنَحْوِهِ وُصُولَ الْمَاءِ صَحَّتْ الطَّهَارَةُ، وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِنَا، وَمِثْلُهُ كُلُّ يَسِيرٍ مَنَعَ وُصُولَ الْمَاءِ حَيْثُ كَانَ: كَدَمٍ، وَعَجِينٍ، وَلَا يُسْتَحَبُّ إطَالَةُ الْغُرَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْوُضُوءُ إنْ كَانَ مُسْتَحَبًّا لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْبَعْضِ لِوُضُوءِ ابْنِ عُمَرَ لِنَوْمِهِ جُنُبًا. [بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ] ِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَخَفِيَ أَصْلُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ حَتَّى أَنْكَرَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلِ الْبَيْتِ، وَصَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ كِتَابًا كَبِيرًا فِي " الْأَشْرِبَةِ " فِي تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا عَنْ الصَّحَابَةِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذَا صَحَّ فِيهِ الْخِلَافُ عَنْ الصَّحَابَةِ، بِخِلَافِ الْمُسْكِرِ، وَمَالِكٌ مَعَ سَعَةِ عِلْمِهِ

وَعُلُوِّ قَدْرِهِ أَنْكَرَهُ فِي رِوَايَةٍ وَأَصْحَابُهُ خَالَفُوهُ فِي ذَلِكَ. قُلْت: وَحَكَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ إنْكَارَهُ عَنْ عَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَضَعَّفَ الرِّوَايَةَ عَنْ الصَّحَابَةِ بِإِنْكَارِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَاَلَّذِينَ خَفِيَ عَلَيْهِمْ ظَنُّوا مُعَارَضَةَ آيَةِ الْمَائِدَةِ لِلْمَسْحِ، لِأَنَّهُ أَمَرَ بِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِيهَا، وَاخْتُلِفَ فِي الْآيَةِ مَعَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ نَاسِخٌ لِلْآيَةِ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، قَالَ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ مُخَصَّصٌ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ: هُوَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ، وَطَائِفَةٌ: بَيَانٌ لِمَا فِي الْكِتَابِ. وَمَالَ إلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَجَمِيعُ مَا يُدْعَى مِنْ السُّنَّةِ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِلْقُرْآنِ غَلَطٌ، أَمَّا أَحَادِيثُ الْمَسْحِ فَهِيَ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ بِالْقُرْآنِ، إذْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ لَابِسَ الْخُفِّ يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ مَنْ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يَغْسِلُ، وَهَذَا عَامٌّ لِكُلِّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ، لَكِنْ لَيْسَ عَامًّا لِأَحْوَالِهِ، بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ فِي ذَلِكَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُخَالِفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كِتَابَ اللَّهِ، بَلْ يُبَيِّنُ مُرَادَهُ بِهِ وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: كَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْقَصَّارِ، وَمَالَ إلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَيْضًا أَنَّ الْآيَةَ قُرِئَتْ بِالْخَفْضِ، وَالنَّصْبِ، فَيُحْمَلُ النَّصْبُ عَلَى غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَالْخَفْضُ عَلَى مَسْحِ الْخُفَّيْنِ، فَيَكُونُ الْقُرْآنُ كَآيَتَيْنِ. وَهَلْ الْمَسْحُ أَفْضَلُ أَمْ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ، أَمْ هُمَا سَوَاءٌ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِ قَدَمِهِ، فَلِلَابِسِ الْخُفِّ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْزِعُ خُفَّيْهِ اقْتِدَاءً بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، وَلِمَنْ قَدَمَاهُ مَكْشُوفَتَانِ الْغَسْلُ، وَلَا يَتَحَرَّى لُبْسَهُ لِيَمْسَحَ عَلَيْهِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إذَا كَانَتَا مَكْشُوفَتَيْنِ، وَيَمْسَحُ إذَا كَانَ لَابِسَ الْخُفَّيْنِ. وَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى اللَّفَائِفِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، حَكَاهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَغَيْرُهُ، وَعَلَى الْخُفِّ الْمُخَرَّقِ مَا دَامَ اسْمُهُ بَاقِيًا، وَالْمَشْيُ فِيهِ مُمْكِنٌ، وَهُوَ قَدِيمُ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي الْبَرَكَاتِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَعَلَى الْقَدَمِ وَنَعْلِهَا الَّتِي يَشُقُّ نَزْعُهَا إلَّا بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ، كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ، وَالِاكْتِفَاءُ بِأَكْثَرِ الْقَدَمِ هُنَا، وَالظَّاهِرِ مِنْهَا غَسْلًا وَمَسْحًا أَوْلَى مِنْ مَسْحِ بَعْضِ الْخُفِّ، وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّتُ.

وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الرِّجْلَ لَهَا ثَلَاثُ أَحْوَالٍ الْكَشْفُ لَهُ الْغَسْلُ، وَهُوَ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ، وَالسِّتْرُ الْمَسْحُ، وَحَالَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ وَهِيَ فِي النَّعْلِ، فَلَا هِيَ بَارِزَةٌ فَيَجِبُ الْغَسْلُ، فَأُعْطِيَتْ حَالَةً مُتَوَسِّطَةً وَهُوَ الرَّشُّ، وَحَيْثُ أُطْلِقَ عَلَيْهَا لَفْظُ الْمَسْحِ فِي هَذَا الْحَالِ فَالْمُرَادُ بِهِ الرَّشُّ. وَقَدْ وَرَدَ الرَّشُّ عَلَى النَّعْلَيْنِ وَالْمَسْحُ عَلَيْهَا فِي الْمُسْنَدِ " مِنْ حَدِيثِ أَوْسٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَوْسٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَنْصُوصُ أَحْمَدَ «الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ مَا لَمْ يَخْلَعْ النَّعْلَيْنِ» ، فَإِذَا أَجَازَ عَلَيْهِمَا فَالزَّرْبُولُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ إلَّا بِسَيْرٍ يَشُدُّهُ بِهِ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا عَنْهُ أَوْلَى بِالْمَسْحِ عَلَيْهِ مِنْ الْجَوْرَبَيْنِ، وَمَا لَبِسَهُ مِنْ فَرْوَةٍ أَوْ قُطْنٍ وَغَيْرِهِمَا. وَثَبَتَ بِشَدِّهِ بِخَيْطٍ مُتَّصِلٍ أَوْ مُنْفَصِلٍ مَسَحَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الثَّبَاتِ بِنَفْسِهِ فَلَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ، وَإِنَّمَا الْمَنْصُوصُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ فَالْمُرَادُ بِهِ مَا ثَبَتَ فِي السَّاقِ وَلَمْ يَسْتَرْسِلْ عِنْدَ الْمَشْيِ، وَلَا يَعْتَبِرُ مُوَالَاةَ الْمَشْيِ فِيهِ، كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ تَيْمِيَّةَ، وَيَجُوزُ عَلَى الْعِمَامَةِ الصَّمَّاءِ، وَهِيَ كَالْقَلَانِسِ، وَالْمَحْكِيُّ عَنْ أَحْمَدَ الْكَرَاهَةُ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهَا كَرَاهَةُ السَّلَفِ لِغَيْرِ الْمُحَنَّكَةِ عَلَى الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ لِجِهَادٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْعَمَائِمُ الْمُكَلَّبَةُ بِالْكِلَابِ تُشْبِهُ الْمُحَنَّكَةَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، فَإِنَّهُ يُمْسِكُهَا كَمَا تَمْسِكُ الْحَنَكُ الْعِمَامَةَ. وَمَنْ غَسَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ ثُمَّ أَدْخَلَهَا الْخُفَّ قَبْلَ غَسْلِ الْأُخْرَى فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ خَلْعٍ، وَلُبْسُهُ قَبْلَ إكْمَالِ الطَّهَارَةِ، كَلُبْسِهِ بَعْدَهَا، وَكَذَا لُبْسُهَا قَبْلَ كَمَالِهَا. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَوْ غَسَلَ الرِّجْلَيْنِ فِي الْخُفَّيْنِ بَعْدَ أَنْ لَبِسَهَا مُحْدِثًا جَازَ الْمَسْحُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلٌ مُخَرَّجٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. قُلْت: وَهُوَ رِوَايَةٌ فِي الْمَنْهَجِ وَلَا تَتَوَقَّتُ مُدَّةُ الْمَسْحِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ، الَّذِي يَشُقُّ اشْتِغَالُهُ بِالْخَلْعِ، وَاللُّبْسُ، كَالْبَرِيدِ الْمُجَهَّزِ فِي مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قِصَّةُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَهُوَ نَصُّ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَرَى التَّوْقِيتَ، وَلَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُ الْمَاسِحِ عَلَى الْخُفِّ وَالْعِمَامَةِ بِنَزْعِهِمَا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَسْحُ رَأْسِهِ وَلَا غَسْلُ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، كَإِزَالَةِ الشَّعْرِ الْمَمْسُوحِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَإِذَا حَلَّ الْجَبِيرَةَ فَهَلْ تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ كَالْخُفِّ؟ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالنَّقْضِ، أَوْ لَا تُنْتَقَضُ كَحَلْقِ الرَّأْسِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ لَا تُنْتَقَضَ الطَّهَارَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا طَهَارَةٌ أَصْلٌ

باب ما ظن ناقضا وليس بناقض

لِوُجُوبِهَا فِي الطَّهَارَتَيْنِ، وَعَدَمِ تَوْقِيتِهَا، وَأَنَّ الْجَبِيرَةَ بِمَنْزِلَةِ بَاقِي الْبَشَرَةِ، إلَّا أَنَّ الْفَرْضَ اسْتَتَرَ بِمَا يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إلَيْهِ، فَانْتَقَلَ الْفَرْضُ إلَى الْحَائِلِ فِي الطَّهَارَتَيْنِ، كَمَا يَنْتَقِلُ الْوُضُوءُ إلَى مَنْبَتِ الشَّعْرِ فِي الْوَجْهِ، وَالرَّأْسِ لِلْمَشَقَّةِ لَا لِلشَّعْرِ، وَهَذَا قَوِيٌّ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ الطَّهَارَةَ لِشَدِّهَا. فَأَمَّا مَنْ اشْتَرَطَ الطَّهَارَةَ لِشَدِّهَا فَأَلْحَقَهَا الْحَوَائِلَ الْبَنِيلِيَّةَ فَتُنْتَقَضُ الطَّهَارَةُ بِزَوَالِهَا كَالْعِمَامَةِ وَالْخُفِّ، وَيُتَوَجَّهُ أَنْ تَنْبَنِيَ هَذِهِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ. قُلْت: الْبَدَلُ عِنْدَنَا فِي حَلِّ الْجَبِيرَةِ إنْ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ، وَإِلَّا فَكَالْخُفِّ إذَا خَلَعَهُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا كَذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ مَا ظُنَّ نَاقِضًا وَلَيْسَ بِنَاقِضٍ] ٍ وَالْأَحْدَاثُ اللَّازِمَةُ: كَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ، وَسَلَسِ الْبَوْلِ لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ مَا لَمْ يُوجَدْ الْمُعْتَادُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَالدَّمُ، وَالْقَيْءُ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ النَّجَاسَاتِ الْخَارِجَةِ مِنْ غَيْرِ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ: لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَلَوْ كَثُرَتْ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. قُلْت: اخْتَارَهُ الْأَجْرُمِيُّ فِي غَيْرِ الْقَيْءِ. وَالنَّوْمُ: لَا يَنْقُضُ مُطْلَقًا إنْ ظَنَّ بَقَاءَ طَهَارَتِهِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ رِوَايَةٍ حُكِيَتْ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ النَّوْمَ لَا يَنْقُضُ بِحَالٍ. وَيُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الْإِبِلِ، وَأَمَّا اللَّحْمُ الْخَبِيثُ الْمُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ: كَلَحْمِ السِّبَاعِ فَيَنْبَنِي الْخِلَافُ فِيهِ عَلَى أَنَّ النَّقْضَ بِلَحْمِ الْإِبِلِ تَعَبُّدِيٌّ، فَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، أَوْ مَعْقُولُ الْمَعْنَى فَيُعْطَى حُكْمَهُ، بَلْ هُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ. وَيُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ عَقِيبَ الذَّنْبِ، وَمِنْ مَسِّ الذَّكَرِ إذَا تَحَرَّكَتْ الشَّهْوَةُ بِمَسِّهِ، وَتَرَدَّدَ فِيمَا إذَا لَمْ تَتَحَرَّك، وَمَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَخِيرًا إلَى اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ دُونَ الْوُجُوبِ مِنْ مَسِّ النِّسَاءِ، وَالْأَمْرَدِ إذَا كَانَ لِشَهْوَةٍ. قَالَ: إذَا مَسَّ الْمَرْأَةَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَهَذَا مِمَّا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُوجِبْ مِنْهُ وُضُوءً وَلَا يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنْهُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي قَدِيمِ خَطِّهِ: خَطَرَ لِي أَنَّ الرِّدَّةَ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا دَوَامُ شَرْطِهَا اسْتِصْحَابًا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنِّيَّةُ مِنْ

باب الغسل

شَرَائِطِ الطَّهَارَةِ عَلَى أَصْلِنَا، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ. وَلَا يَفْتَحُ الْمُصْحَفَ لِلْفَأْلِ، قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ، وَيَجِبُ احْتِرَامُ الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَ، وَتَحْرُمُ كِتَابَتُهُ حَيْثُ يُهَانُ بِبَوْلِ حَيَوَانٍ أَوْ جُلُوسٍ عَلَيْهِ إجْمَاعًا، وَالنَّاسُ إذَا اعْتَادُوا الْقِيَامَ وَإِنْ لَمْ يُقَمْ لِأَحَدِهِمْ أَفْضَى إلَى مَفْسَدَةٍ فَالْقِيَامُ دَفْعًا لَهَا خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ. وَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْعَى فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، وَعَادَتِهِمْ، وَاتِّبَاعِ هَدْيِهِمْ، وَالْقِيَامُ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْلَى. وَالدَّرَاهِمُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهَا (لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ لَمْسُهَا، وَإِذَا كَانَتْ مَعَهُ فِي مِنْدِيلٍ، أَوْ خَرِيطَةٍ، وَشَقَّ إمْسَاكُهَا جَازَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الْخَلَاءَ. [بَابُ الْغُسْلِ] ِ وَإِذَا وَجَبَ الْغُسْلُ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ فَقِيَاسُهُ وُجُوبُهُ بِخُرُوجِ الْحَيْضِ، وَيَجِبُ غُسْلُ الْجُمُعَةِ عَلَى مَنْ لَهُ عَرَقٌ أَوْ رِيحٌ يَتَأَذَّى بِهِ غَيْرُهُ، وَهُوَ بَعْضٌ مَنْ بَعْضٍ مُطْلَقًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَلَوْ اغْتَسَلَ الْكَافِرُ بِسَبَبٍ يُوجِبُهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ، لَا يَلْزَمُهُ إعَادَتُهُ إنْ اعْتَقَدَ وُجُوبَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى طَاعَتِهِ فِي الْكُفْرِ إذَا أَسْلَمَ، وَيُكْرَهُ، الذِّكْرُ لِلْجُنُبِ لَا لِلْحَائِضِ. وَلَا يُسْتَحَبُّ الْغُسْلُ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَلَا لِطَوَافِ الْوَدَاعِ، وَلَوْ قُلْنَا بِاسْتِحْبَابِهِ لِدُخُولِ مَكَّةَ كَانَ نَوْعَ عَبَثٍ لِلطَّوَافِ لَا مَعْنَى لَهُ. وَفِي كَلَامِ أَحْمَدَ مَا ظَاهِرُهُ وُجُوبُ الْوُضُوءِ عَلَى الْجُنُبِ إذَا أَرَادَ النَّوْمَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ: إذَا أَحْدَثَ أَعَادَهُ لِمَبِيتِهِ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا: لَا يُعِيدُهُ. لِتَعْلِيلِهِمْ بِخِفَّةِ الْحَدَثِ أَوْ بِالنَّشَاطِ. وَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا إذَا تَوَضَّأَ، وَلَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ إلَّا إذَا تَوَضَّأَ. وَإِذَا نَوَى الْجُنُبُ الْحَدَثَيْنِ الْأَصْغَرَ وَالْأَكْبَرَ ارْتَفَعَا، قَالَهُ الْأَزَجِيُّ. وَلَا يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُ الْغُسْلِ عَلَى بَدَنِهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ،

وَيُكْرَهُ الِاغْتِسَالُ فِي مُسْتَحَمٍّ، أَوْ مَاءٍ: عُرْيَانًا، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ النُّصُوصِ، وَنَهْيُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ الِاغْتِسَالِ فِي الْمَاءِ بَعْدَ الْبَوْلِ فَهَذَا إنْ صَحَّ فَهُوَ كَنَهْيِهِ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمُسْتَحَمِّ. وَيَجُوزُ التَّطْهِيرُ فِي الْحِيَاضِ الَّتِي فِي الْحَمَّامَاتِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فَائِضَةً، أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْأُنْبُوبُ يَصُبُّ فِيهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَسَوَاءٌ كَانَ نَاتِئًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَمَنْ اعْتَقَدَ غَسْلَهُ مِنْ الْحَوْضِ الْفَائِضِ مُسَطَّرًا أَوْ دِينًا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ، مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ، مُسْتَحِقُّ التَّعْزِيرِ الَّذِي يَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ أَنْ يُشَرِّعُوا فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. وَلَا يَجِبُ غَسْلُ بَاطِنِ الْفَرْجِ مِنْ حَيْضٍ، أَوْ جَنَابَةٍ، وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي تَقْسِيمِهِ لِلْحَمَّامِ بَعْدَ ذِكْرِ مَنْ ذَمَّهُ وَمَنْ مَدَحَهُ مِنْ السَّلَفِ فَصْلًا لِلنِّزَاعِ: الْأَقْسَامُ أَرْبَعَةٌ: يُحْتَاجُ، إلَيْهَا، وَلَا مَحْظُورَ فَلَا رَيْبَ فِي جَوَازِهِ، وَلَا مَحْظُورَ، وَلَا حَاجَةَ فَلَا رَيْبَ فِي جَوَازِ بِنَائِهَا، فَقَدْ بُنِيَتْ الْحَمَّامَاتُ فِي الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ عَلَى عَهْدِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَقَرُّوهَا وَأَحْمَدُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ حَرَامٌ، وَلَكِنْ كَرِهَ ذَلِكَ لِاشْتِمَالِهِ غَالِبًا عَلَى مُبَاحٍ وَمَحْظُورٍ، وَفِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ كَانَ النَّاسُ أَتْقَى لِلَّهِ، وَأَرْعَى لِحُدُودِهِ مِنْ أَنْ يَكْثُرَ فِيهَا الْمَحْظُورُ، فَلَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا إذْ ذَاكَ لِلْحَاجَةِ، وَلَا مَحْظُورًا غَالِبًا فَالْحَاجَاتُ: مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ: كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَالْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُؤَكَّدٌ قَدْ نُوزِعَ فِي وُجُوبِهِ: كَغُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَالْغُسْلِ فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ، وَلَا يُمْكِنُ إلَّا فِي حَمَّامٍ، وَإِنْ اغْتَسَلَ مِنْ غَيْرِهِ خِيفَ عَلَيْهِ التَّلَفُ، وَلَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ إلَى التَّيَمُّمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بِالْمَاءِ فِي الْحَمَّامِ، وَهَلْ يَبْقَى مَكْرُوهًا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي طَهَارَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ، هَذَا مَحَلُّ تَرَدُّدٍ، فَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَقَدْ يُقَالُ بِنَاءُ الْحَمَّامِ وَاجِبٌ حَيْثُ يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ الْعَامِّ. وَأَمَّا إذَا اشْتَمَلَ عَلَى مَحْظُورٍ مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ كَمَا فِي حَمَّامَاتِ الْحِجَازِ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ فَهَذَا مَحَلُّ نَصِّ أَحْمَدَ وَبَحْثُ ابْنِ عُمَرَ وَقَدْ يُقَالُ عَنْهُ إنَّمَا يُكْرَهُ بِنَاؤُهَا ابْتِدَاءً، فَأَمَّا إذَا بَنَاهَا غَيْرُنَا فَلَا نَأْمُرُ بِهَدْمِهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ إنَّمَا هُوَ فِي الْبِنَاءِ لَا فِي الْإِبْقَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ أَقْوَى مِنْ الِابْتِدَاءِ وَإِذَا انْتَفَتْ الْإِبَاحَةُ: كَحَرَارَةِ الْبَلَدِ، وَكَذَا إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ حَمَّامَاتٌ تَكْفِيهِمْ كُرِهَ الْإِحْدَاثُ.

باب التيمم

وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الصَّاعَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ عِرَاقِيَّةً، سَوَاءٌ صَاعُ الطَّعَامِ وَالْمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَابْنِ قُتَيْبَةَ، وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي تَعْلِيقِهِ، وَأَبِي الْبَرَكَاتِ: أَنَّ صَاعَ الطَّعَامِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ، وَصَاعَ الْمَاءِ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ عِرَاقِيَّةً، وَالْوُضُوءُ رُبُعُ ذَلِكَ. [بَابُ التَّيَمُّمِ] ِ وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِغَيْرِ التُّرَابِ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ إذَا لَمْ يَجِدْ تُرَابًا، وَهُوَ رِوَايَةٌ، وَيَلْزَمُهُ قَبُولُ الْمَاءِ فَرْضًا، وَكَذَا ثَمَنُهُ إذَا كَانَ لَهُ مَاءٌ يُوفِيهِ وَلَا يُكْرَهُ لِعَادِمِهِ وَطْءُ زَوْجَتِهِ، وَمَنْ أُبِيحَ لَهُ التَّيَمُّمُ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ أَوَّلَ الْوَقْتِ، وَلَوْ عَلِمَ وُجُودَهُ آخِرَ الْوَقْتِ، وَفِيهِ أَفْضَلِيَّةٌ، وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ: وَمَسْحُ الْجُرْحِ بِالْمَاءِ أَوْلَى مِنْ مَسْحِ الْجَبِيرَةِ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ التَّيَمُّمِ، وَنَقَلَهُ الْمَيْمُونِيُّ عَنْ أَحْمَدَ وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِمَنْ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ بِاللَّيْلِ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ، وَلَا يُؤَخَّرُ وِرْدَهُ إلَى النَّهَارِ، وَيَجُوزُ لِخَوْفِ فَوَاتِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ. وَأَلْحَقَ بِهِ مَنْ خَافَ فَوَاتَ الْعِيدِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: بَلْ لِمَنْ خَافَ فَوَاتَ الْجُمُعَةِ مِمَّنْ اُنْتُقِضَ وُضُوءُهُ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا يَتَيَمَّمُ لِلنَّجَاسَةِ عَلَى بَدَنِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِأَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَيَجِبُ بَذْلُ الْمَاءِ لِلْمُضْطَرِّ الْمَعْصُومِ وَيَعْدِلُ إلَى التَّيَمُّمِ كَمَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَمَنْ اسْتَيْقَظَ آخِرَ وَقْتِ صَلَاةٍ وَهُوَ جُنُبٌ وَخَافَ إنْ اغْتَسَلَ خَرَجَ الْوَقْتُ اغْتَسَلَ وَصَلَّى، وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ، وَكَذَا مَنْ نَسِيَهَا، بِخِلَافِ مَنْ اسْتَيْقَظَ أَوَّلَ الْوَقْتِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَوِّتَ الصَّلَاةَ بَلْ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي. وَمَنْ أَمْكَنَهُ الذَّهَابُ إلَى الْحَمَّامِ، لَكِنْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ، إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ: كَالْغُلَامِ وَالْمَرْأَةِ الَّتِي مَعَهَا أَوْلَادُهَا، وَلَا يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ حَتَّى تَغْسِلَهُمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَالْأَظْهَرُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي خَارِجَ الْحَمَّامِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْحَمَّامِ وَبَعْدَ الْوَقْتِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا. وَتُصَلِّي الْمَرْأَةُ بِالتَّيَمُّمِ عَنْ الْجَنَابَةِ إذَا كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهَا تَكْرَارُ النُّزُولِ إلَى الْحَمَّامِ،

وَلَا تَقْدِرُ عَلَى الِاغْتِسَالِ فِي الْبَيْتِ، وَكُلُّ مَنْ صَلَّى فِي الْوَقْتِ كَمَا أُمِرَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعُذْرُ نَادِرًا أَوْ مُعْتَادًا (قَالَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ) . وَصِفَةُ التَّيَمُّمِ أَنْ يَضْرِبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ لِحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ. وَالْجَرِيحُ إذَا كَانَ مُحْدِثًا حَدَثًا أَصْغَرَ: فَلَا يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فَيَصِحُّ أَنْ يَتَيَمَّمَ بَعْدَ كَمَالِ الْوُضُوءِ بَلْ هَذَا هُوَ السُّنَّةُ. وَالْفَصْلُ بَيْنَ أَبْعَاضِ الْوُضُوءِ بِتَيَمُّمٍ بِدْعَةٌ، وَلَا يُسْتَحَبُّ حَمْلُ التُّرَابِ مَعَهُ لِلتَّيَمُّمِ، قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِمَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ. وَمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ يُتَوَجَّهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ مِنْ صَلَاةِ فَرْضٍ، أَوْ نَفْلٍ، وَزِيَادَةِ قِرَاءَةٍ عَلَى مَا يُجْزِئُ. وَفِي " الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ " عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَإِذَا صَلَّى قَرَأَ الْقِرَاءَةَ الْوَاجِبَةَ. قُلْت: وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ جَدُّهُ وَغَيْرُهُ: أَنَّ مَنْ عَدِمَ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ لَا يَتَنَفَّلُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى مَا يُجْزِئُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالتَّيَمُّمُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرِوَايَةُ أَحْمَدَ وَاخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدٌ الْجَوْزِيُّ، وَفِي " الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ " التَّيَمُّمُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ إلَى أَنْ يَدْخُلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى: كَمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ. وَلَوْ بَذَلَ مَاءَ لِلْأَوْلَى مِنْ حَيٍّ وَمَيِّتٍ، فَالْمَيِّتُ أَوْلَى وَلَوْ كَانَ الْحَيُّ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي الْبَرَكَاتِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْمَاءِ الْمُشْتَرَكِ أَيْضًا، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى مِنْ التَّشْقِيصِ. وَإِذَا كَانَ عَلَى وُضُوءٍ وَهُوَ حَاقِنٌ يُحْدِثُ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ، إذْ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ وَهُوَ غَيْرُ حَاقِنٍ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ بِالْوُضُوءِ وَهُوَ حَاقِنٌ.

باب إزالة النجاسة

[بَابُ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ] ِ وَاخْتَلَفَ كَلَامُ أَبِي الْعَبَّاسِ فِي نَجَاسَةِ الْكَلْبِ، وَلَكِنَّ الَّذِي نُقِلَ عَنْهُ أَخِيرًا أَنَّ مَذْهَبَهُ نَجَاسَةُ غَيْرِ شَعْرِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَالْمِسْكُ وَجِلْدَتُهُ طَاهِرَانِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ وَعَمَلُ الْمُسْلِمِينَ. وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يُبَانُ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ، بَلْ إذَا كَانَ يَنْفَصِلُ عَنْ الْغَزَالِ فِي حَيَاتِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ، وَالْبِيضِ، وَاللَّبَنِ، وَالصُّوفِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْفَصِلُ عَنْ الْحَيَوَانِ. وَلَا يَنْجَسُ الْآدَمِيُّ بِالْمَوْتِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَخَصَّهُ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ " بِالْمُسْلِمِ، وَقَالَهُ جَدُّهُ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ ". وَتُطَهَّرُ النَّجَاسَةُ بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ يُزِيلُ: كَالْخَلِّ، وَنَحْوِهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا ابْنُ عَقِيلٍ وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. وَإِذَا تَنَجَّسَ مَا يَضُرُّهُ الْغُسْلُ: كَثِيَابِ الْحَرِيرِ، وَالْوَرَقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ أَجْزَأَ مَسْحُهُ فِي أَظْهَرْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَأَصْلُهُ الْخِلَافُ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ: كَإِفْسَادِ الْمَاءِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ، كَمَا يَنْهَى عَنْ ذَبْحِ الْخَيْلِ الَّتِي يُجَاهَدُ عَلَيْهَا، وَالْإِبِلِ الَّتِي يُحَجُّ عَلَيْهَا، وَالْبَقَرِ الَّتِي يُحْرَسُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْحَاجَةِ إلَيْهَا وَتُطَهَّرُ الْأَجْسَامُ الصَّقِيلَةُ: كَالسَّيْفِ، وَالْمِرْآةِ، وَنَحْوِهِمَا إذَا تَنَجَّسَتْ بِالْمَسْحِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ فِي السِّكِّينِ مِنْ دَمِ الذَّبِيحَةِ، فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ خَصَّصَهُ بِهَا لِمَشَقَّةِ الْغُسْلِ مَعَ التَّكْرَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَدَّاهُ كَقَوْلِهِمَا. وَيَطْهُرَ النَّعْلُ بِالدَّلْكِ بِالْأَرْضِ إذَا أَصَابَهُ نَجَاسَةٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَذَيْلُ الْمَرْأَةِ يَطْهُرُ بِمُرُورِهِ عَلَى طَاهِرٍ يُزِيلُ النَّجَاسَةَ وَنَقَلَهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيُّ عَنْ أَحْمَدَ، وَتَطْهُرُ النَّجَاسَةُ بِالِاسْتِحَالَةِ (أَطْلَقَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ) وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ طَهُرَتْ

بِالِاسْتِحَالَةِ، فَإِنَّ نَفْسَ النَّجَسِ لَمْ يَطْهُرْ، بَلْ اسْتَحَالَ وَصَحَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْخَمْرَةَ إذَا خُلِّلَتْ لَا تَطْهُرُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ اقْتِنَائِهَا، مَأْمُورٌ بِإِرَاقَتِهَا، فَإِذَا أَمْسَكَهَا فَهَلْ الْمُوجِبُ لِتَنَجُّسِهَا، عَدَمُ حِلِّهَا وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ خَمْرُ الْحَلَالِ وَغَيْرِهِ. وَلَوْ أَلْقَى أَحَدٌ فِيهَا شَيْئًا يُرِيدُ بِهِ إفْسَادَهَا عَلَى صَاحِبِهَا لَا تَخْلِيلَهَا، أَوْ قَصَدَ صَاحِبُهَا ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ إرَاقَتِهَا لِكَوْنِهَا فِي خُبٍّ فَيُرِيدُ إفْسَادَهَا لَا تَخْلِيلَهَا، فَعُمُومُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ يَقْتَضِي أَنَّهَا لَا تَحِلُّ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَحِلَّ وَإِذَا انْقَلَبَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْقِيَاسُ فِيهَا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مِلْحٌ فَيَقَعُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ، فَيَنْبَغِي عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنْ تَحِلَّ، وَعَلَى طَرِيقَةِ مَنْ عَلَّلَ النَّجَاسَةَ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ لَا تَحِلُّ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ ذَكَرَ فِي خَمْرِ النَّبِيذِ أَنَّهَا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَا تَحِلُّ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَاءِ، وَأَنَّ كَلَامَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَقْتَضِي حِلَّهَا. أَمَّا تَخْلِيلُ الذِّمِّيِّ الْخَمْرَ بِمُجَرَّدِ إمْسَاكِهَا فَيَنْبَغِي جَوَازُهَا عَلَى مَعْنَى كَلَامِ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ عَلَّلَ الْمَنْعَ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ الْخَمْرُ، وَهَذَا لَيْسَ بِمُسْلِمٍ، وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يُمْنَعُ مِنْ إمْسَاكِهَا. وَعَلَّلَ الْقَوْلَ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ فَيُعْفَى مِنْ ذَلِكَ عَمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالدُّخَانِ، وَالْغُبَارِ الْمُسْتَحِيلِ مِنْ النَّجَاسَةِ، كَمَا يُعْفَى عَمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مِنْ طِينِ الشَّوَارِعِ وَغُبَارِهَا، وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ نَجَسٌ فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ نَجَسٌ وَلَمْ يَعْفُ عَمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَقَوْلُهُ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ، وَلَوْ كَانَ الْمَائِعُ غَيْرَ الْمَاءِ كَثِيرًا فَزَالَ تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ تَوَقَّفَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي طَهَارَتِهِ. وَتَطْهُرُ الْأَرْضُ النَّجِسَةُ بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ إذَا لَمْ يَبْقَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ عَلَيْهَا بَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ تُغْسَلْ، وَيَطْهُرُ غَيْرُهَا بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي حَبْلِ الْغَسَّالِ، وَتَكْفِي غَلَبَةُ الظَّنِّ بِإِزَالَةِ نَجَاسَةِ الْمَذْيِ أَوْ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَرِوَايَةٌ عَنْهُ فِي الْمَذْيِ. وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ فِي جَوَارِحِ الطَّيْرِ إذَا أَكَلَتْ الْجِيَفَ، فَلَا يُعْجِبُنِي عِرْقُهَا فَدَلَّ

عَلَى أَنَّهُ كَرِهَهُ لِأَكْلِهَا فَقَطْ وَهُوَ أَوْلَى وَلَا فَرْقَ فِي الْكَرَاهَةِ بَيْنَ جَوَارِحِ الطَّيْرِ وَغَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ يَأْكُلُ الْجِيَفَ أَمْ لَا. وَإِذَا شَكَّ فِي الرَّوْثَةِ هَلْ هِيَ مِنْ رَوْثِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ لَا، فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَرْوَاثِ الطَّهَارَةُ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ، وَهُوَ الصَّوَابُ أَوْ النَّجَاسَةِ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ. قُلْت: وَالْوَجْهَانِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُمَا رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إنَّ الْأَبْوَالَ كُلَّهَا نَجِسَةٌ إلَّا مَا أُكِلَ لَحْمُهُ. وَالثَّانِيَةُ: قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْحَارِثِ فِي رَجُلٍ وَطِئَ عَلَى رَوْثٍ لَا يَدْرِي هَلْ هُوَ رَوْثُ جِمَالٍ أَوْ بِرْذَوْنٍ، فَرَخَّصَ فِيهِ إذْ لَمْ يَعْرِفْهُ، وَبَوْلُ مَا أُكِلَ لَحْمُهُ وَرَوْثُهُ طَاهِرٌ، لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَى تَنَجُّسِهِ بَلْ الْقَوْلُ بِنَجَاسَتِهِ قَوْلٌ مُحْدَثٌ لَا سَلَفَ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَرَوْثُ دُودِ الْقَزِّ طَاهِرٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَدُودِ الْجُرُوحِ. وَمَنِيُّ الْآدَمِيِّ طَاهِرٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَبَوْلُ الْهِرَّةِ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ طَاهِرٌ؛ يَعْنِي أَنَّ جِنْسَهُ طَاهِرٌ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يَكُونُ نَجَسَ الْعَيْنِ: كَالدُّودِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ الْعَذِرَةِ فَإِنَّهُ نَجَسٌ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَتَتَخَرَّجُ طَهَارَتُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِحَالَةَ إذَا كَانَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى طَهُرَتْ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُلْحَظَ طَهَارَةٌ ظَاهِرَةٌ مِنْ الْعَذِرَةِ بِأَنْ يُغْمَسَ فِي مَاءٍ وَنَحْوِهِ إلَى أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى بَدَنِهِ شَيْءٌ مِنْهَا، وَيَطْهُرُ جِلْدُ الْمَيْتَةِ الطَّاهِرَةِ حَالَ الْحَيَاةِ بِالدَّبَّاغِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا. وَلَا يَجِبُ غَسْلُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ مِنْ الْمَذْيِ، وَالْقَيْحِ، وَالصَّدِيدِ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَحَكَى أَبُو الْبَرَكَاتِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ طَهَارَتَهُ، وَالْأَقْوَى فِي الْمَذْيِ: أَنَّهُ يُجْزِئُ فِيهِ النَّضْحُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَيَدُ الصَّبِيِّ إذَا أَدْخَلَهَا فِي الْإِنَاءِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ، وَكَذَلِكَ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي ثَوْبِهِ وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبِ الصَّبِيِّ فَكَرِهَهُ. وَقَرْنُ الْمَيْتَةِ، وَعَظْمُهَا، وَظَهْرُهَا، وَمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ: كَالْحَافِرِ وَنَحْوِهِ طَاهِرٌ، وَقَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالنَّجَاسَاتِ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ شَحْمُ الْمَيْتَةِ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَوْمَأَ إلَيْهِ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ. وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ

باب الحيض

حَتَّى بَعْرِ فَأْرَةٍ، وَنَحْوِهَا فِي الْأَطْعِمَةِ، وَغَيْرِهَا، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَلَوْ تَحَقَّقَتْ نَجَاسَةُ طِينِ الشَّارِعِ عُفِيَ عَنْ يَسِيرِهِ لِمَشَقَّةِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ، ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا، وَمَا تَطَايَرَ مِنْ غُبَارِ السِّرْجِينِ وَنَحْوِهِ، وَلَمْ يُمْكِنْ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، عُفِيَ عَنْهُ، وَإِذَا قُلْنَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ النَّبِيذِ الْمُخْتَلِفِ فِيهِ لِأَجْلِ الْخِلَافِ فِيهِ، فَالْخِلَافُ فِي الْكَلْبِ أَظْهَرُ وَأَقْوَى، فَعَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ نَجَاسَتِهِ وَإِذَا أَكَلَتْ الْهِرَّةُ فَأْرَةً وَنَحْوَهَا فَإِذَا طَالَ الْفَصْلُ طَهُرَ فَمُهَا بِرِيقِهَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، وَهَذَا أَقْوَى الْأَقْوَالِ، وَاخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَلِكَ أَفْوَاهُ الْأَطْفَالِ، وَالْبَهَائِمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْحَيْضِ] ِ وَيَحْرُمُ وَطْءُ الْحَائِضِ، فَإِنْ وَطِئَ فِي الْفَرْجِ فَعَلَيْهِ دِينَارٌ كَفَّارَةٌ، وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ مَضْرُوبًا، وَإِذَا تَكَرَّرَ مِنْ الزَّوْجِ الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ وَلَمْ يَنْزَجِرْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا قُلْنَا فِيمَا إذَا وَطِئَهَا فِي الدُّبُرِ وَلَمْ يَنْزَجِرْ. وَيَجُوزُ لِلْحَائِضِ الطَّوَافُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا، وَهُوَ خِلَافُ مَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهَا مَعَ لُزُومِ الْفِدْيَةِ، وَلَا يَأْمُرُهَا بِالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، وَأَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ إلَّا أَنَّهُمَا لَا يُقَيِّدَانِهِ بِحَالِ الضَّرُورَةِ، وَإِنْ طَافَتْ مَعَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ فَمُقْتَضَى تَوْجِيهِ هَذَا الْقَوْلُ يَجِبُ الدَّمُ عَلَيْهَا. وَيَجُوزُ لِلْحَائِضِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِخِلَافِ الْجُنُبِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَحُكِيَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَإِنْ ظَنَّتْ نِسْيَانَهُ وَجَبَ، وَإِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا فَلَا يَطَؤُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ إنْ كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى الِاغْتِسَالِ، وَإِلَّا تَيَمَّمَتْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ. وَلَا يُتَقَدَّرُ أَقَلُّ الْحَيْضِ وَلَا أَكْثَرُهُ، بَلْ كُلُّ مَا اسْتَقَرَّ عَادَةً لِلْمَرْأَةِ فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْ يَوْمٍ أَوْ زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ أَوْ السَّبْعَةَ عَشَرَ، وَلَا حَدَّ لِأَقَلِّ سِنٍّ تَحِيضُ فِيهِ الْمَرْأَةُ وَلَا لِأَكْثَرِهِ، وَلَا لِأَقَلِّ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ. وَالْمُبْتَدَأَةُ تَحْسِبُ مَا تَرَاهُ مِنْ الدَّمِ مَا لَمْ تَصِرْ مُسْتَحَاضَةً، وَكَذَلِكَ الْمُنْتَقِلَةُ إذَا تَغَيَّرَتْ عَادَتُهَا بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ، أَوْ انْتِقَالٍ، فَذَلِكَ حَيْضٌ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهَا اسْتِحَاضَةٌ بِاسْتِمْرَارِ الدَّمِ.

وَالْمُسْتَحَاضَةُ تُرَدُّ إلَى عَادَتِهَا، ثُمَّ إلَى تَمْيِيزِهَا، ثُمَّ إلَى غَالِبِ عَادَاتِ النِّسَاءِ كَمَا جَاءَتْ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ سُنَّةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ أَخَذَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِالسُّنَنِ الثَّلَاثِ فَقَالَ: الْحَيْضُ يَدُورُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ: حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ، وَحَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ، وَحَدِيثِ حَمْنَةَ، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي تَصْحِيحِ حَدِيثِ حَمْنَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: وَحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَكَانَ فِي حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ. وَالصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ بَعْدَ الطُّهْرِ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا. قَالَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ: لِقَوْلِ أُمِّ عَطِيَّةَ: كُنَّا لَا نَعُدُّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ بَعْدَ الطُّهْرِ شَيْئًا. وَلَا حَدَّ لِأَقَلِّ النِّفَاسِ وَلَا لِأَكْثَرِهِ وَلَوْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ أَوْ السِّتِّينَ، أَوْ السَّبْعِينَ، وَانْقَطَعَ فَهُوَ نِفَاسٌ وَلَكِنْ إنْ اتَّصَلَ فَهُوَ دَمٌ فَسَادٌ، وَحِينَئِذٍ فَالْأَرْبَعُونَ مُنْتَهَى الْغَالِبِ، وَالْحَامِلُ قَدْ تَحِيضُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ بَلْ حَكَى أَنَّهُ رَجَعَ إلَيْهِ. وَيَجُوزُ التَّدَاوِي لِحُصُولِ الْحَيْضِ إلَّا فِي رَمَضَانَ لِئَلَّا تُفْطِرَ، وَقَالَهُ أَبُو يَعْلَى الصَّغِيرُ، وَالْأَحْوَطُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَسْتَعْمِلُ دَوَاءً يَمْنَعُ تَفَوُّقَ الْمَنِيِّ فِي مَجَارِي الْحَبْلِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

كتاب الصلاة

[كِتَابُ الصَّلَاةِ] ِ وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي اسْمِ الصَّلَاةِ: هَلْ هُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَنْقُولِ عَنْ مُسَمَّاهَا فِي اللُّغَةِ، أَوْ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ، أَوْ أَنَّهَا تَصَرَّفَ فِيهَا الشَّارِعُ تَصَرُّفَ أَهْلِ الْعُرْفِ، فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ مَجَازٌ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى عُرْفِ الشَّارِعِ حَقِيقَةٌ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُغَيِّرْهَا وَلَكِنْ اسْتَعْمَلَهَا مُقَيَّدَةً لَا مُطْلَقَةً كَمَا تُسْتَعْمَلُ نَظَائِرُهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] فَذَكَرَ بَيْتًا خَاصًّا، فَلَمْ يَكُنْ لَفْظُ الْحَجِّ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ قَصْدٍ، بَلْ لِقَصْدٍ مَخْصُوصٍ دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ نَفْسُهُ، وَمَنْ كَانَ قَبْلَنَا كَانَتْ لَهُمْ صَلَاةٌ لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِصَلَاتِنَا فِي الْأَوْقَاتِ وَالْهَيْئَاتِ. وَلَا تَلْزَمُ الشَّرَائِعُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، فَعَلَى هَذَا لَا تَلْزَمُ الصَّلَاةُ حَرْبِيًّا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا يَعْلَمُ وُجُوبَهَا، وَالْوَجْهَانِ فِي كُلِّ مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا قَبْلَ بُلُوغِ الشَّرْعِ كَمَنْ لَمْ يَتَيَمَّمْ لِعَدَمِ الْمَاءِ لِظَنِّهِ عَدَمَ الصِّحَّةِ، أَوْ لَمْ يُزَكِّ، أَوْ أَكَلَ حَتَّى تَبَيَّنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ لِظَنِّهِ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ تُصَلِّ مُسْتَحَاضَةٌ، وَالْأَصَحُّ: لَا قَضَاءَ وَلَا إثْمَ إذَا لَمْ نَقْصِدْ اتِّفَاقًا لِلْعَفْوِ عَنْ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ وَمَنْ عَقَدَ عَقْدًا فَاسِدًا مُخْتَلَفًا فِيهِ بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ، وَاتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ لَمْ يُؤْمَرْ بِرَدِّهِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ إذَا بَانَ لَهُ خَطَأُ الِاجْتِهَادِ أَوْ التَّقْلِيدِ، وَقَدْ انْقَضَى الْمُفْسِدُ لَمْ يُفَارِقْ وَإِنْ كَانَ الْمُفْسِدُ قَائِمًا فَارَقَهَا. بَقِيَ النَّظَرُ فِيمَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ، وَفَعَلَ الْمُحَرَّمَ لَا بِاعْتِقَادٍ وَلَا بِجَهْلٍ يُعْذَرُ فِيهِ،

وَلَكِنْ جَهْلًا وَإِعْرَاضًا عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ، أَوْ مِنْ سَمَاعِ إيجَابِ هَذَا، وَتَحْرِيمِ هَذَا، وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ إعْرَاضًا لَا كُفْرًا بِالرِّسَالَةِ، فَإِنَّ هَذَا تَرَكَ الِاعْتِقَادَ الْوَاجِبَ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ كَمَا تَرَكَ الْكَافِرُ الْإِسْلَامَ، فَهَلْ يَكُونُ حَالُ هَذَا إذَا تَابَ فَأَقَرَّ بِالْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ تَصْدِيقًا وَالْتِزَامًا، بِمَنْزِلَةِ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا كَالْإِسْلَامِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي جَزَمْنَا بِصِحَّتِهِ فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ يُقَالُ لَيْسَ هَذَا بِأَسْوَإِ حَالًا مِنْ الْكَافِرِ الْمُعَانِدِ، وَالتَّوْبَةُ وَالْإِسْلَامُ يَهْدِمَانِ مَا قَبْلَهُمَا، وَلَا تَلْزَمُ الصَّلَاةُ صَبِيًّا وَلَوْ بَلَغَ عَشَرًا، وَقَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَثَوَابُ عِبَادَةِ الصَّبِيِّ لَهُ. قُلْت: وَذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يَجِبُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِمُحَرَّمٍ، وَفِي " الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ ": يَلْزَمُهُ بِلَا نِزَاعٍ، وَمَنْ كَفَرَ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ الْأَصْوَبُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِفِعْلِهَا مِنْ غَيْرِ إعَادَةِ الشَّهَادَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُفْرَهُ بِالِامْتِنَاعِ كَإِبْلِيسَ؛ وَتَارِكُ الزَّكَاةِ كَذَلِكَ، وَفَرَضَهَا مُتَأَخِّرُو الْفُقَهَاءِ. مَسْأَلَةٌ يَمْتَنِعُ وُقُوعُهَا: وَهِيَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ مُقِرًّا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فَدُعِيَ إلَيْهَا وَامْتَنَعَ ثَلَاثًا مَعَ تَهْدِيدِهِ بِالْقَتْلِ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى قُتِلَ، هَلْ يَمُوتُ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا، عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهَذَا الْفَرْضُ بَاطِلٌ إذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَهَا وَلَا يَفْعَلَهَا، وَيَصْبِرُ عَلَى الْقَتْلِ هَذَا لَا يَفْعَلُهُ أَحَدٌ قَطُّ. وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَيَنْبَغِي الْإِشَاعَةَ عَنْهُ بِتَرْكِهَا حَتَّى يُصَلِّيَ، وَلَا يَنْبَغِي السَّلَامُ عَلَيْهِ، وَلَا إجَابَةُ دَعْوَتِهِ. وَالْمَحَافِظُ عَلَى الصَّلَاةِ أَقْرَبُ إلَى الرَّحْمَةِ مِمَّنْ لَمْ يُصَلِّهَا وَلَوْ فَعَلَ مَا فَعَلَ. وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا لِغَيْرِ الْجَمْعِ، وَأَمَّا الْمُسَافِرُ الْعَادِمُ لِلْمَاءِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَجِدُ الْمَاءَ بَعْدَ الْوَقْتِ: لَا يَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ إلَى مَا بَعْدَ الْوَقْتِ، بَلْ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ فِي الْوَقْتِ بِلَا نِزَاعٍ، وَكَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ إذَا عَلِمَ بَعْدَ الْوَقْتِ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِإِتْمَامِ الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالْقِرَاءَةِ: كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ.

باب المواقيت

وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا إلَّا لِنَاوٍ جَمْعَهُمَا أَوْ مُشْتَغِلٍ بِشَرْطِهَا، فَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ مِنْ الْأَصْحَابِ، بَلْ وَلَا مِنْ سَائِرِ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَهَذَا لَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ صُوَرًا مَعْرُوفَةً، كَمَا إذَا أَمْكَنَ الْوَاصِلَ إلَى الْبِئْرِ أَنْ يَضَعَ حَبْلًا يَسْتَقِي بِهِ وَلَا يَفْرُغُ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ، أَوْ أَمْكَنَ الْعُرْيَانَ أَنْ يَخِيطَ ثَوْبًا وَلَا يَفْرُغُ. إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ، وَنَحْوُ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَمَعَ هَذَا فَاَلَّذِي قَالَهُ فِي ذَلِكَ هُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ الْمَعْرُوفِ عَنْ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَمَا أَظُنُّهُ يُوَافِقُهُ إلَّا بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا أَنَّ الْعُرْيَانَ لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى قَرْيَةٍ يَشْتَرِي مِنْهَا ثَوْبًا وَلَا يُصَلِّي إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ بِلَا نِزَاعٍ، وَكَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنْ تَعَلُّمِ التَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ إذَا كَانَ دَمُهَا يَنْقَطِعُ بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهَا التَّأْخِيرُ، بَلْ تُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ حَالِهَا. [بَابُ الْمَوَاقِيتِ] ِ بَدَأَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا كَالْخِرَقِيِّ، وَالْقَاضِي فِي بَعْضِ كُتُبِهِ وَغَيْرِهِمَا بِالظُّهْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَدَأَ بِالْفَجْرِ كَابْنِ أَبِي مُوسَى، وَأَبِي الْخَطَّابِ، وَالْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ، وَهَذَا أَجْوَدُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ، الْعَصْرُ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْوُسْطَى إذَا كَانَ الْفَجْرُ الْأَوَّلَ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ وَقْتَ الْعِشَاءِ بِقَدْرِ حِصَّةِ الْفَجْرِ فِي الشِّتَاءِ وَفِي الصَّيْفِ، فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا بَيَّنَّا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَرَوْنَ تَقَدُّمَ الصَّلَاةِ أَفْضَلَ إلَّا إذَا كَانَ فِي التَّأْخِيرِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ مِثْلُ الْمُتَيَمِّمِ يُؤَخِّرُ لِيُصَلِّيَ آخِرَ الْوَقْتِ بِوُضُوءٍ، وَالْمُنْفَرِدِ يُؤَخِّرُ حَتَّى يُصَلِّيَ آخِرَ الْوَقْتِ مَعَ جَمَاعَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيُعْمَلُ بِقَوْلِ الْمُؤَذِّنِ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ مَعَ إمْكَانِ الْعِلْمِ بِالْوَقْتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ وَكَمَا شَهِدْت لَهُ النُّصُوصُ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا. وَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ ثُمَّ طَرَأَ مَانِعٌ مِنْ جُنُونٍ، أَوْ حَيْضٍ: لَا قَضَاءَ إلَّا أَنْ يَتَضَايَقَ الْوَقْتُ عَنْ فِعْلِهَا ثُمَّ يُوجَدُ الْمَانِعُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَزُفَرَ، رَوَاهُ زُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ

وَمَتَى زَالَ الْمَانِعُ مِنْ تَكْلِيفِهِ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ لَزِمَتْهُ إنْ أَدْرَكَ فِيهَا قَدْرَ رَكْعَةٍ وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَقَالَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَلَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ بِحَجٍّ وَلَا تَضْعِيفٍ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ إجْمَاعًا، وَتَارِكُ الصَّلَاةِ عَمْدًا لَا يُشْرَعُ لَهُ قَضَاؤُهَا وَلَا تَصِحُّ مِنْهُ، بَلْ يُكْثِرُ مِنْ التَّطَوُّعِ، وَكَذَا الصَّوْمُ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ: كَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ، وَدَاوُد وَأَتْبَاعِهِ، وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ مَا يُخَالِفُ هَذَا، بَلْ يُوَافِقُهُ، «وَأَمْرُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْمُجَامِعِ بِالْقَضَاءِ» ضَعِيفٌ لِعُدُولِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي " الِانْتِصَارِ ": إذَا مَاتَ فِي أَثْنَاءِ وَقْتِ الصَّلَاةِ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَكُونُ عَاصِيًا بِالْإِجْمَاعِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُحْتَمَلُ عِصْيَانُهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَقَضَاءِ الصَّلَاةِ، وَالنَّذْرِ، وَالْكَفَّارَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، وَإِنْ قُلْنَا لَا يَعْصِي وَهُوَ الصَّحِيحُ فَلِأَنَّ مَا وَجَبَ وُجُوبًا مُوَسَّعًا لَا يَعْصِي مَنْ أَخَّرَهُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ إذَا مَاتَ، كَالْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: أَمَّا قَضَاءُ الصَّلَاةِ وَالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ فَعِنْدَنَا عَلَى الْفَوْرِ، وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا تُنَاظِرُ الْمَسْأَلَةَ، وَإِنَّمَا نَظِيرُهَا قَضَاءُ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ وَقْتٌ مُوَسَّعٌ، وَالْمَذَاهِبُ هُنَاكَ أَنَّهُ إذَا مَاتَ بَعْدَ اسْتِطَاعَةِ الْقَضَاءِ أَطْعَمَ عَنْهُ، الْمَشْهُورُ فِي الصَّلَاةِ لَا يَعْصِي فَيُتَوَجَّهُ التَّخْرِيجُ فِيهِمَا كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ اتَّفَقَ عَلَى الْإِيجَابِ الْمُوَسَّعِ فِي الْقَضَاءِ، وَالْحَجِّ، وَالْكَفَّارَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ فِيهِ مَا هُوَ مُضَيَّقٌ وَمَا هُوَ عَلَى التَّرَاخِي، وَيَجِبُ قَضَاءُ الْفَوَائِتِ عَلَى الْفَوْرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَالنَّائِمُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ الصَّلَاةَ حَالَ نَوْمِهِ بِلَا نِزَاعٍ، لَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ وَجَبَتْ فِي ذِمَّتِهِ؟ بِمَعْنَى أَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلهَا إذَا اسْتَيْقَظَ، أَوْ يُقَالُ لَمْ تَجِبْ فِي ذِمَّتِهِ لَكِنْ انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: عَلَى أَنَّهَا قَضَاءٌ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هِيَ أَدَاءٌ وَالنِّزَاعَانِ لَفْظِيَّانِ وَيُشْبِهُ هَذَا النِّزَاعَ فِيمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فِي الْوَاجِبِ عَلَى التَّرَاخِي أَنَّهُ يَمُوتُ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ فَلَوْ لَمْ يَمُتْ، ثُمَّ

باب الأذان والإقامة

فَعَلَهُ فَهَلْ يَكُونُ أَدَاءً كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ أَوْ قَضَاءً كَقَوْلِ الْبَاقِلَّانِيِّ أَوْ غَيْرِهِ: فِيهِ نِزَاعٌ، وَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا النِّزَاعِ فِي الْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ فَقَطْ، بَلْ لَوْ اعْتَقَدَ بَقَاءَ الْوَقْتِ فَصَلَّى أَدَاءً، ثُمَّ تَبَيَّنَ خُرُوجَهُ، أَوْ بِالْعَكْسِ: صَحَّتْ الصَّلَاةُ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ أَعْلَمُهُ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي قَدِيمِ خَطِّهِ: قَوْلُ الْبَاقِلَّانِيِّ قِيَاسُ الْمَذَاهِبِ إذْ الِاعْتِبَارُ بِحَالَةِ غَلَبَةِ الظَّنِّ لَا بِمَا يُخَالِفُهَا، وَذَلِكَ كَمَا قُلْنَا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ أَعْلَمُهُ فِي الْمَذَاهِبِ فِي الْمَعْضُوبِ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ إذَا حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ بَرِئَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الْحَجِّ، فَاعْتَبَرْنَا حَالَةَ غَلَبَةِ الظَّنِّ وَلَمْ نَعْتَبِرْ تَبَيُّنَ فَسَادِهِ، وَلَا أَعْرِفُ بَيْنَهُمَا فَرْقًا. [بَابُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ] ِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ أَطْلَقَ طَوَائِفُ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْأَذَانَ سُنَّةٌ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ إذَا اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهِ قُوتِلُوا، وَالنِّزَاعُ مَعَ هَؤُلَاءِ قَرِيبٌ مِنْ النِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُطْلِقُ الْقَوْلَ بِالسُّنَّةِ عَلَى مَا يُذَمُّ تَارِكُهُ وَيُعَاقَبُ تَارِكُهُ شَرْعًا وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ سُنَّةٌ لَا إثْمَ عَلَى تَارِكِهِ فَقَدْ أَخْطَأَ. وَلَيْسَ الْأَذَانُ بِوَاجِبٍ لِلصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ، وَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ أَدَاءً أَوْ قَضَاءً وَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَإِنْ اكْتَفَى بِالْإِقَامَةِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ يَقْضِي صَلَوَاتٍ فَأَذَّنَ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَأَقَامَ لِبَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ كَانَ حَسَنًا أَيْضًا، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْإِمَامَةِ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ. وَأَمَّا إمَامَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِمَامَةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَكَانَتْ مُتَعَيِّنَةً عِنْدَهُ، فَإِنَّهَا وَظِيفَةُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، وَلَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَذَانِ، فَصَارَتْ الْإِمَامَةُ فِي حَقِّهِمْ أَفْضَلَ مِنْ الْأَذَانِ لِخُصُوصِ أَحْوَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لِأَكْثَرِ النَّاسِ الْأَذَانُ أَفْضَلُ، وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يُجْزِئَ أَذَانُ الْقَاعِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، كَأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْخُطْبَةِ، وَأَوْلَى إذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ الْأَذَانُ قَاعِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَخَطَبَ بَعْضُهُمْ: قَاعِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَأَطْلَقَ أَحْمَدُ الْكَرَاهَةَ، وَالْكَرَاهَةُ الْمُطْلَقَةُ هَلْ تَنْصَرِفُ إلَى التَّحْرِيمِ أَوْ التَّنْزِيهِ، عَلَى وَجْهَيْنِ. قُلْت: قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيُّ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ ": نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ إنْ أَذَّنَ

الْقَاعِدُ يُعِيدُ، قَالَ الْقَاضِي: مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِحْبَابِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى نَفْيِ الِاعْتِدَادِ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ الْمَنْعُ مِنْ أَذَانِ الْجُنُبِ وَتَوَقَّفَ عَنْ الْإِعَادَةِ فِي بَعْضِهَا، وَصَرَّحَ بِعَدَمِ الْإِعَادَةِ فِي بَعْضِهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ، وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ عَنْهُ رِوَايَةً بِالْإِعَادَةِ، وَاخْتَارَهَا الْخِرَقِيِّ وَفِي إجْزَاءِ الْأَذَانِ مِنْ الْفَاسِقِ رِوَايَتَانِ أَقْوَاهُمَا عَدَمُهُ لِمُخَالَفَةِ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا تَرْتِيبُ الْفَاسِقِ مُؤَذِّنًا فَلَا يَنْبَغِي قَوْلًا وَاحِدًا، وَالصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ يَسْتَخْرِجُ أَذَانَهُ لِلْبَالِغِ رِوَايَتَانِ كَشَهَادَتِهِ وَوَلَايَتِهِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي تَحْقِيقِ مَوْضِعِ الْخِلَافِ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَوْضِعُ الْخِلَافِ سُقُوطُ الْفَرْضِ بِهِ، وَالسُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ إذَا لَمْ يُوجَدْ سِوَاهُ. وَأَمَّا صِحَّةُ أَذَانِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَكَوْنُهُ جَائِزًا إذَا أَذَّنَ غَيْرُهُ، فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ الْخِلَافَ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ الْغُلَامُ قَبْلَ أَنْ يَحْتَلِمَ إذَا كَانَ قَدْ رَاهَقَ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ: وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الْغُلَامِ يُؤَذِّنُ قَبْلَ أَنْ يَحْتَلِمَ فَلَمْ يُعْجِبْهُ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْأَذَانَ الَّذِي يُسْقِطُ الْفَرْضَ عَنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، وَيُعْتَمَدُ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاشِرَهُ صَبِيٌّ قَوْلًا، وَلَا يُسْقِطُ الْفَرْضَ وَلَا يُعْتَمَدُ فِي مَوَاقِيتِ الْعِبَادَاتِ. وَأَمَّا الْأَذَانُ الَّذِي يَكُونُ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً فِي مِثْلِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِي الْمِصْرِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا فِيهِ الرِّوَايَتَانِ وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُوصَلَ الْأَذَانُ بِمَا قَبْلَهُ، مِثْلَ قَوْلِ بَعْضِ الْمُؤَذِّنِينَ قَبْلَ الْأَذَانِ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء: 111] الْآيَةَ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَرْفَعَ فَمَه وَوَجْهَهُ إلَى السَّمَاءِ إذَا أَذَّنَ أَوْ أَقَامَ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ كَمَا يُسْتَحَبُّ لِلَّذِي يَتَشَهَّدُ عَقِيبَ الْوُضُوءِ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ. وَكَمَا يُسْتَحَبُّ لِلْمُحْرِمِ بِالصَّلَاةِ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ قَلِيلًا؛ لِأَنَّ التَّهْلِيلَ وَالتَّكْبِيرَ إعْلَانٌ بِذِكْرِ اللَّهِ لَا يَصْلُحُ إلَّا لَهُ، فَاسْتُحِبَّ الْإِشَارَةُ لَهُ كَمَا تُسْتَحَبُّ الْإِشَارَةُ بِالْأُصْبُعِ الْوَاحِدَةِ فِي التَّشَهُّدِ وَالدُّعَاءِ، هَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ، إذْ الْمُسْتَحَبُّ فِيهِ خَفْضُ الطَّرْفِ.

وَإِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَلَّى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ. قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ: رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ يَخْرُجُ عِنْدَ الْمَغْرِبِ فَحِينَ انْتَهَى إلَى مَوْضِعِ الصَّفِّ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ فَجَلَسَ. وَالْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْأَذَانِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَهَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ التَّأْذِينُ لِلْفَجْرِ قَبْلَ الْوَقْتِ، فَلَا يُكْرَهُ الْخُرُوجُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَالْإِقَامَةُ كَالنِّدَاءِ بِالْأَذَانِ وَالسُّنَّةُ أَنْ يُنَادَى لِلْكُسُوفِ بِ " الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ "، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ: «خَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ مُنَادِيًا الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ» . وَلَا يُنَادَى لِلْعِيدِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَقَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا؛ وَلِهَذَا لَا يُشْرَعُ لِلْجِنَازَةِ وَلَا لِلتَّرَاوِيحِ عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ، خِلَافًا لِلْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقِيَاسُ عَلَى الْكُسُوفِ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: السُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ أَوْلَادِ مَنْ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ الْأَذَانَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ جَازَ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ لَا يُقَدَّمُ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي الْأَذَانِ لَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا بِكَوْنِ أَبِيهِ هُوَ الْمُؤَذِّنُ. وَأَمَّا مَا سِوَى التَّأْذِينِ قَبْلَ الْفَجْرِ مِنْ تَسْبِيحٍ، وَتَشَهُّدٍ، وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِدُعَاءٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي الْمَآذِنِ، فَهَذَا لَيْسَ بِمَسْنُونٍ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ. بَلْ قَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ: أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ، وَلَا حَدَثَ سَبَبٌ يَقْتَضِي إحْدَاثَهُ حَتَّى يُقَالَ إنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ اللُّغَوِيَّةِ الَّتِي دَلَّتْ الشَّرِيعَةُ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ، وَلَا يُنْكِرَ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ وَلَا يُعَلِّقَ اسْتِحْقَاقَ الرِّزْقِ بِهِ، وَإِنْ شَرَطَهُ وَاقِفٌ، وَإِذَا قِيلَ: إنَّ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَصْوَاتِ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً عَلَى مَفْسَدَتِهَا، فَنَقْتَصِرُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ دُونَ الزِّيَادَةِ الَّتِي هِيَ ضَرَرٌ بِلَا مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجِيبَ الْمُؤَذِّنَ وَيَقُولَ مِثْلَ مَا يَقُولُ وَلَوْ فِي الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي الصَّلَاةِ كُلُّ ذِكْرٍ وَدُعَاءٍ وُجِدَ سَبَبُهُ فِي الصَّلَاةِ، وَيُجِيبُ مُؤَذِّنًا ثَانِيًا، وَأَكْثَرَ حَيْثُ

باب ستر العورة

يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ، كَمَا كَانَ الْمُؤَذِّنَانِ يُؤَذِّنَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا الْمُؤَذِّنُونَ الَّذِينَ يُؤَذِّنُونَ مَعَ الْمُؤَذِّنِ الرَّاتِبِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي مِثْلِ صَحْنِ الْمَسْجِدِ، فَلَيْسَ أَذَانُهُمْ مَشْرُوعًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، بَلْ ذَلِكَ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ التَّبْلِيغُ وَرَاءَ الْإِمَامِ، بَلْ يُكْرَهُ إلَّا لِحَاجَةٍ. وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ إلَى بُطْلَانِ صَلَاةِ الْمُبَلِّغِ إذَا لَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ هَذَا أَنَّ الْمُجِيبَ يَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ حَتَّى فِي الْحَيْعَلَةِ، وَقِيلَ: يَقُولُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَيَجُوزُ الْأَذَانُ لِلْفَجْرِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا، وَقَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَحْمَدَ نَصٌّ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ التَّأْذِينُ، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: يَجُوزُ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ كَمَا يَجُوزُ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ الْإِفَاضَةُ مِنْ مُزْدَلِفَةَ، وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اللَّيْلُ الَّذِي يُعْتَبَرُ نِصْفُهُ أَوَّلُهُ غُرُوبُ الشَّمْسِ، وَآخِرُهُ طُلُوعُهَا، كَمَا أَنَّ النَّهَارَ الْمُعْتَبَرَ نِصْفُهُ أَوَّلُهُ طُلُوعُ الشَّمْسِ، وَآخِرُهُ غُرُوبُهَا لِانْقِسَامِ الزَّمَانِ لَيْلًا وَنَهَارًا. وَلَعَلَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ» الَّذِي يَنْتَهِي لِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَفِي الْآخَرِ حِينَ يَمْضِي نِصْفُ اللَّيْلِ يَعْنِي اللَّيْلَ الَّذِي يَنْتَهِي بِطُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهُ إذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ الشَّمْسِيُّ يَكُونُ قَدْ بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْفَجْرِيُّ تَقْرِيبًا، وَلَوْ قِيلَ: تَحْدِيدُ وَقْتِ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ تَارَةً، وَإِلَى ثُلُثِهِ أُخْرَى مِنْ هَذَا الْبَابِ لَكَانَ مُتَوَجَّهًا، وَيُسْتَحَبُّ؛ إذَا أَخَّرَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْأَذَانِ أَنْ لَا يَقُومَ، إذْ فِي ذَلِكَ تَشَبُّهٌ بِالسُّلْطَانِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَقُومُ أَوْ مَا يُبْدِي أَوْ يَصِيرُ. [بَابُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ] ِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَةُ أَصْحَابِنَا فِي وَجْهِ الْحُرَّةِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِعَوْرَةٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَوْرَةٌ، وَإِنَّمَا رَخَّصَ فِي كَشْفِهِ فِي الصَّلَاةِ لِلْحَاجَةِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ عَوْرَةٌ فِي بَابِ النَّظَرِ إذْ لَمْ يَجُزْ النَّظَرُ إلَيْهِ، وَلَا يَخْتَلِفُ

الْمَذْهَبُ فِي أَنَّ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ مِنْ الْأَمَةِ عَوْرَةٌ، وَقَدْ حَكَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ عَوْرَتَهَا السَّوْأَتَانِ فَقَطْ كَالرِّوَايَةِ فِي عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَهَذَا غَلَطٌ قَبِيحٌ فَاحِشٌ عَلَى الْمَذْهَبِ خُصُوصًا، وَعَلَى الشَّرِيعَةِ عُمُومًا، وَكَلَامُ أَحْمَدَ أَبْعَدُ شَيْءٍ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَا يَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ وَالْحَرِيرِ وَالْمَكَانِ الْمَغْصُوبِ، هَذَا إذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ فَرْضًا وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِنْ كَانَتْ نَفْلًا. فَقَالَ الْآمِدِيُّ: لَا تَصِحُّ رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا أَطْلَقُوا الْخِلَافَ وَهُوَ الصَّوَابُ، لِأَنَّ مَنْشَأَ الْقَوْلِ بِالصِّحَّةِ أَنَّ جِهَةَ الطَّاعَةِ مُغَايِرَةٌ لِجِهَةِ الْمَعْصِيَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُثَابَ مِنْ وَجْهٍ وَيُعَاقَبَ مِنْ وَجْهٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَجُرُّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّهُ حَرَامٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فِيهِ تَصَاوِيرُ. قُلْت: لَازِمُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ ثَوْبٍ يَحْرُمُ لُبْسُهُ يَجْرِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْمُسْتَوْعِبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَ الْمُصَلِّي جَاهِلًا بِالْمَكَانِ وَالثَّوْبِ أَنَّهُ حَرَامٌ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إنَّ الْجَاهِلَ بِالنَّجَاسَةِ يُعِيدُ أَوْ لَا يُعِيدُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ عِلْمِهِ بِالنَّجَاسَةِ لَا يَمْنَعُ الْعَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَجِسَةً، وَكَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالتَّحْرِيمِ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مَعْصِيَةً، بَلْ يَكُونُ طَاعَةً، وَأَمَّا الْمَحْبُوسُ فِي مَكَانِ غَصْبٍ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا نُوجِبَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ إذَا صَلَّى فِيهِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ لُبْثَهُ فِيهِ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَجْعَلُ فِيمَنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا الثَّوْبَ الْحَرِيرَ رِوَايَتَيْنِ، كَمَنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا الثَّوْبَ النَّجِسَ، وَعَلَى هَذَا فَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَّا فِي الْمَوْضِعِ الْغَصْبِ فِيهِ الرِّوَايَتَانِ وَأَوْلَى، وَكَذَلِكَ كُلُّ مُكْرَهٍ الْكَوْنُ بِالْمَكَانِ النَّجِسِ وَالْغَصْبِ بِحَيْثُ يَخَافُ ضَرَرًا مِنْ الْخُرُوجِ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَالْمَحْبُوسِ، وَذَكَرَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَحُوطًا عَلَيْهِ وَجْهَيْنِ، وَأَنَّ الْمَذْهَبَ الصِّحَّةُ يُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ يَدْخُلُهُ وَيَأْكُلُ ثَمَرَهُ فَلَأَنْ يَدْخُلَهُ بِلَا أَكْلٍ وَلَا أَذًى أَوْلَى وَأَجْزَى، وَالْمَقْبُوضُ بِتَعَدٍّ فَاسِدٍ مِنْ الثِّيَابِ وَالْعَقَارِ أَفْتَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِأَنَّهُ كَالْمَغْصُوبِ سَوَاءٌ، وَعَلَى هَذَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَالُ الَّذِي يَلْبَسُهُ وَيَسْكُنُهُ حَلَالًا فِي نَفْسِهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا حَقَّ لِعِبَادِهِ، وَإِلَّا لَمْ تَصِحَّ فِيهِ الصَّلَاةُ.

باب اجتناب النجاسة ومواضع الصلاة

وَكَذَلِكَ الْمَاءُ فِي الطَّهَارَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَرْكُوبُ، وَالزَّادُ فِي الْحَجِّ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَفِيهِ نَوْعُ مَشَقَّةٍ. وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا ثَوْبًا لَطِيفًا أَرْسَلَهُ عَلَى كَتِفِهِ وَعَجُزِهِ وَصَلَّى جَالِسًا، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَوْ اتَّزَرَ بِهِ وَصَلَّى قَائِمًا. وَقَالَ الْقَاضِي: يَسْتُرُ مَنْكِبَيْهِ وَيُصَلِّي جَالِسًا وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَوْلُ الْقَاضِي ضَعِيفٌ وَلَوْ صَلَّى عَلَى رَاحِلَةٍ مَغْصُوبَةٍ فَهُوَ كَالْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَإِنْ صَلَّى عَلَى فِرَاشٍ مَغْصُوبٍ فَوَجْهَانِ، أَظْهَرُهُمَا الْبُطْلَانُ، وَلَوْ غَصَبَ مَسْجِدًا وَغَيْرَهُ بِأَنْ حَوَّلَهُ عَنْ كَوْنِهِ مَسْجِدًا بِدَعْوَى مِلْكِهِ أَوْ وَقَفَهُ عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فِيهِ، وَإِنْ أَبْقَاهُ مَسْجِدًا، وَمَنَعَ النَّاسَ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ فِيهِ وَجْهَانِ، اخْتَارَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الصِّحَّةَ، وَالْأَقْوَى الْبُطْلَانُ وَلَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ عِنْدَ ابْنِ عَقِيلٍ، وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ ضَمَانُهُ. وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْعُرْيَانُ ثَوْبًا وَلَا حَشِيشًا، وَلَكِنْ وَجَدَ طِينًا لَزِمَهُ الِاسْتِتَارُ عِنْدَ ابْنِ عَقِيلٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ الْآمِدِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ، وَقِيلَ: إنَّهُ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَنَاثَرُ وَلَا يَبْقَى، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَتِرَ بِحَائِطٍ، أَوْ شَجَرَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ إنْ أَمْكَنَ. وَتُسْتَحَبُّ الصَّلَاةُ بِالنَّعْلِ، وَقَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَالْعَبْدُ الْآبِقُ لَا يَصِحُّ نَفْلُهُ، وَيَصِحُّ فَرْضُهُ عِنْدَ ابْنِ عَقِيلٍ، وَابْنِ الزَّاغُونِيِّ، وَبُطْلَانُ فَرْضِهِ قَوِيٌّ أَيْضًا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا، وَيَنْبَغِي قَبُولُ صَلَاتِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِقَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ أَخْذُ الزِّينَةِ، فَقَالَ: «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» فَعَلَّقَ الْأَمْرَ بِاسْمِ الزِّينَةِ لَا بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ إيذَانًا بِأَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَلْبَسَ أَزْيَنَ ثِيَابِهِ وَأَجْمَلَهَا فِي الصَّلَاةِ. [بَابُ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةِ] ِ وُجُوبُ تَطْهِيرِ الْبَدَنِ مِنْ الْخَبَثِ يُحْتَجُّ عَلَيْهِ بِأَحَادِيثِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَحَدِيثِ التَّنَزُّهِ مِنْ الْبَوْلِ، وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حُتِّيهِ، ثُمَّ اُقْرُصِيهِ، ثُمَّ انْضَحِيهِ بِالْمَاءِ ثُمَّ صَلِّي فِيهِ» مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ وَغَيْرِهَا، وَبِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي «دَلْكِ النَّعْلَيْنِ بِالتُّرَابِ ثُمَّ الصَّلَاةِ فِيهِمَا» ،

وَطَهَارَةُ الْبُقْعَةِ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ: «إنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ الْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ» وَأَمْرُهُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَى الْبَوْلِ. وَمَنْ صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، وَقَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مَقْصُودُهُ اجْتِنَابَ الْمَحْظُورِ إذَا فَعَلَهُ مُخْطِئًا أَوْ نَاسِيًا لَا تَبْطُلُ الْعِبَادَةُ بِهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ " وَالْآمِدِيُّ، أَنَّ النَّاسِيَ يُعِيدُ رِوَايَةً وَاحِدَةً عَنْ أَحْمَدَ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ، وَإِنَّمَا الرِّوَايَتَانِ فِي الْجَاهِلِ وَالرِّوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْجَاهِلِ بِالنَّجَاسَةِ، فَأَمَّا النَّاسِي فَلَيْسَ عَنْهُ نَصٌّ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الطَّرِيقَانِ. وَالنَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِ الْمَسْجِدِ لِمَنْ أَكَلَ الثُّومَ، وَنَحْوَهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْمَقْبَرَةِ وَلَا إلَيْهَا، وَالنَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ سَدٌّ لِذَرِيعَةِ الشِّرْكِ، وَذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقَبْرَ وَالْقَبْرَيْنِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ اسْمَ الْمَقْبَرَةِ، وَإِنَّمَا الْمَقْبَرَةُ ثَلَاثَةُ قُبُورٍ فَصَاعِدًا. وَلَيْسَ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ هَذَا الْفَرْقُ، بَلْ عُمُومُ كَلَامِهِمْ وَتَعْلِيلِهِمْ وَاسْتِدْلَالِهِمْ يُوجِبُ مَنْعَ الصَّلَاةِ عِنْدَ قَبْرٍ وَاحِدٍ مِنْ الْقُبُورِ، وَهُوَ الصَّوَابُ؛ وَالْمَقْبَرَةُ كُلُّ مَا قُبِرَ فِيهِ. لَا أَنَّهُ جَمْعُ قَبْرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: وَكُلُّ مَا دَخَلَ فِي اسْمِ الْمَقْبَرَةِ مِمَّا حَوْلَ الْقُبُورِ لَا يُصَلَّى فِيهِ فَهَذَا يُعَيِّنُ أَنَّ الْمَنْعَ يَكُونُ مَتْنًا، وَلَا لِحُرْمَةِ الْقَبْرِ الْمُنْفَرِدِ وَفِنَائِهِ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ، أَيْ الْمَسْجِدِ الَّذِي قِبْلَتُهُ إلَى الْقَبْرِ، حَتَّى يَكُونَ بَيْنَ الْحَائِطِ وَبَيْنَ الْمَقْبَرَةِ حَائِلٌ آخَرُ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ هَذَا مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْحَشِّ وَلَا إلَيْهِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَشُّ فِي ظَاهِرِ جِدَارِ الْمَسْجِدِ أَوْ بَاطِنِهِ، وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ إذَا كَانَ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَبَيْنَ الْحَشِّ وَنَحْوِهِ حَائِلٌ، مِثْلُ جِدَارِ الْمَسْجِدِ لَمْ يُكْرَهْ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْمَذْهَبُ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ كَرَاهَةُ دُخُولِ الْكَنِيسَةِ الْمُصَوَّرَةِ، فَالصَّلَاةُ فِيهَا وَفِي كُلِّ مَكَان فِيهِ تَصَاوِيرُ أَشَدُّ كَرَاهَةً وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا شَكَّ وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْآمِدِيِّ، وَأَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ: أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي أَرْضِ

باب استقبال القبلة

الْخَسْفِ، وَهُوَ قَوِيٌّ وَنَصُّ أَحْمَدَ لَا يُصَلِّي فِيهَا، وَقَالَ الْآمِدِيُّ: وَيُكْرَهُ فِي الرَّحَى وَلَا فَرْقَ بَيْنَ عُلُوِّهَا وَسُفْلِهَا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَلَعَلَّ هَذَا لِمَا فِيهَا مِنْ الصَّوْتِ الَّذِي يُلْهِي الْمُصَلِّيَ وَيَشْغَلُهُ، وَلَا تَصِحُّ الْفَرِيضَةُ فِي الْكَعْبَةِ بَلْ النَّافِلَةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَأَمَّا صَلَاةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبَيْتِ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَطَوُّعًا فَلَا يَلْحَقُ الْفَرْضَ؛ لِأَنَّهُ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى دَاخِلَ الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ» فَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُ لِهَذَا الْكَلَامِ فِي عَقِيبِ الصَّلَاةِ خَارِجَ الْبَيْتِ بَيَانًا؛ لِأَنَّ الْقِبْلَةَ الْمَأْمُورَ بِاسْتِقْبَالِهَا هِيَ الْبِنْيَةُ كُلُّهَا، لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ اسْتِقْبَالَ بَعْضِهَا كَافٍ فِي الْفَرْضِ، لِأَجْلِ أَنَّهُ صَلَّى التَّطَوُّعَ فِي الْبَيْتِ، وَإِلَّا فَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَنَّ الْكَعْبَةَ فِي الْجُمْلَةِ هِيَ الْقِبْلَةُ فَلَا بُدَّ لِهَذَا الْكَلَامِ مِنْ فَائِدَةٍ، وَعِلْمُ شَيْءٍ قَدْ يَخْفَى وَيَقَعُ فِي مَحَلِّ الشُّبْهَةِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ وَفَهِمَ مِنْهُ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَعْنَى مَا سَمِعَ، وَإِنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي الْكَعْبَةِ جَازَ كَمَا لَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَأَمَّا إنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ مُطْلَقًا اُعْتُبِرَ فِيهَا شُرُوطُ الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ الْمُطْلَقَ يُحْذَى بِهِ حَذْوَ الْفَرَائِضِ. [بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ] ِ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ فِي قَوْلِ الرَّاوِي إنَّهُ «صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حِمَارٍ غَلَطٌ مِنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ» ، وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ صَلَاتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَاحِلَتِهِ أَوْ الْبَعِيرِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْحِمَارِ مِنْ فِعْلِ أَنَسٍ كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ عَمْرٍو هَذَا وَقِيلَ إنَّ فِي تَغْلِيطِهِ نَظَرًا وَقِيلَ إنَّهُ شَاذٌّ لِمُخَالَفَتِهِ رِوَايَةَ الْجَمَاعَةِ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» هَذَا خِطَابٌ مِنْهُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ كَأَهْلِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ. وَأَمَّا أَهْلُ مِصْرَ فَقِبْلَتُهُمْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْجَنُوبِ مِنْ مَطْلَعِ الشَّمْسِ فِي الشِّتَاءِ، وَذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ هَوَاؤُهَا دُونَ بُنْيَانِهَا بِدَلِيلِ الْمُصَلِّي عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْجِبَالِ الْعَالِيَةِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَسْتَقْبِلُ الْهَوَاءَ لَا الْبِنَاءَ، وَبِدَلِيلِ لَوْ اُنْتُقِضَتْ الْكَعْبَةُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ اسْتِقْبَالُ الْعَرْصَةِ.

قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: الْوَاجِبُ اسْتِقْبَالُ الْبُنْيَانِ، وَأَمَّا الْعَرْصَةُ وَالْهَوَاءُ فَلَيْسَ بِكَعْبَةٍ وَلَا بِبِنَاءٍ. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي قِبْلَةً شَاخِصَةً مُرْتَفِعَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسَامِتَةً، فَإِنَّ الْمُسَامِتَةَ لَا تُشْتَرَطُ كَمَا لَمْ تَكُنْ مَشْرُوطَةً فِي الِائْتِمَامِ بِالْإِمَامِ وَأَمَّا إذَا زَالَ بِنَاءُ الْكَعْبَةِ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ، وَأَنَّهُ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ حَتَّى يُنَصِّبَ شَيْئًا يُصَلِّي إلَيْهِ، لِأَنَّ أَحْمَدَ جَعَلَ الْمُصَلِّيَ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ لَا قِبْلَةَ لَهُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ جَعَلَ الْقِبْلَةَ الشَّيْءَ الشَّاخِصَ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْآمِدِيُّ: إنْ صَلَّى بِإِزَاءِ الْبَيْتِ وَكَانَ مَفْتُوحًا لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ مَرْدُودًا صَحَّتْ، وَإِنْ كَانَ مَفْتُوحًا وَبَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ مَنْصُوبٌ كَالسُّتْرَةِ صَحَّتْ؛ لِأَنَّهُ يُصَلِّي إلَى جُزْءٍ مِنْ الْبَيْتِ فَإِنْ زَالَ بُنْيَانُ الْبَيْتِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَصَلَّى وَبَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ، صَحَّتْ الصَّلَاةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ لَمْ تَصِحَّ، وَهَذَا مِنْ كَلَامِ الْآمِدِيِّ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبِنَاءَ لَوْ زَالَ لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا كَانَ شَاخِصًا كَمَا قَيَّدَهُ فِيمَا إذَا صَلَّى إلَى الْبَابِ وَلِأَنَّهُ عَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إذَا صَلَّى إلَى سُتْرَةٍ فَقَدْ صَلَّى إلَى جُزْءٍ مِنْ الْبَيْتِ. فَعُلِمَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْعَرْصَةِ غَيْرُ كَافٍ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْأَزْرَقُ فِي أَخْبَارِ مَكَّةَ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَرْسَلَ إلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ: لَا تَدَعْ النَّاسَ بِغَيْرِ قِبْلَةٍ انْصِبْ لَهُمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ الْخَشَبَ، وَاجْعَلْ السُّتُورَ عَلَيْهَا حَتَّى يَطُوفَ النَّاسُ مِنْ وَرَائِهَا وَيُصَلُّونَ إلَيْهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَهَذَا مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَعْبَةَ الَّتِي يُطَافُ بِهَا وَيُصَلَّى إلَيْهَا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ شَيْئًا مَنْصُوبًا شَاخِصًا وَأَنَّ الْعَرْصَةَ لَيْسَتْ قِبْلَةً، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ خَالَفَ فِي ذَلِكَ وَلَا أَنْكَرَهُ، نَعَمْ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ قَدْ تَعَذَّرَ نَصْبُ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ مَوْضِعَهَا بِأَنْ يَقَعَ ذَلِكَ إذَا هَدَمَهَا ذُو السَّوِيقَتَيْنِ مِنْ الْحَبَشَةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَهُنَا يَنْبَغِي أَنْ يَكْتَفِيَ حِينَئِذٍ بِاسْتِقْبَالِ الْعَرْصَةِ، كَمَا يَكْتَفِي الْمُصَلِّي أَنْ يَخُطَّ خَطًّا إذَا لَمْ يَجِدْ سُتْرَةً، فَإِنَّ قَوَاعِدَ إبْرَاهِيمَ كَالْخَطِّ. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْبِنَاءَ إذَا زَالَ صَحَّتْ الصَّلَاةُ إلَى هَوَاءِ الْبَيْتِ، مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، وَمَنْ قَالَ هَذَا يُفَرَّقُ بِأَنَّهُ إذَا زَالَ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ شَيْءٌ شَاخِصٌ يُسْتَقْبَلُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ هُنَاكَ قِبْلَةٌ تُسْتَقْبَلُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الشَّيْءِ الشَّاخِصِ إذَا كَانَ مَعْدُومًا سُقُوطُ اسْتِقْبَالِهِ إذَا كَانَ مَوْجُودًا، كَمَا فَرَّقْنَا بَيْنَ حَالِ إمْكَانِ نَصْبِ شَيْءٍ

وَحَالِ تَعَذُّرِهِ، وَكَمَا يُفَرَّقُ فِي سَائِرِ الشُّرُوطِ بَيْنَ حَالِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ، فَإِذَا قُلْنَا لَا بُدَّ مِنْ الصَّلَاةِ إلَى شَيْءٍ شَاخِصٍ، فَإِنَّهُ يَكْفِي شُخُوصُهُ، وَلَوْ أَنَّهُ شَيْءٌ يَسِيرٌ كَالْعَتَبَةِ الَّتِي لِلْبَابِ قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى الْبَابِ إذَا كَانَ مَفْتُوحًا، لَكِنْ إذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ مَنْصُوبٌ كَالسُّتْرَةِ صَحَّتْ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكْفِي ارْتِفَاعُ الْعَتَبَةِ وَنَحْوِهَا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ آخِرَةِ الرَّحْلِ، لِأَنَّهَا السُّتْرَةُ الَّتِي قَدَّرَ بِهَا الشَّارِعُ السُّتْرَةَ الْمُسْتَحَبَّةَ، فَلَأَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهَا فِي الْوَاجِبِ أَوْلَى ثُمَّ إنْ كَانَتْ السُّتْرَةُ الَّتِي فَوْقَ السَّطْحِ وَنَحْوِهِ بِنَاءً أَوْ خَشَبَةً مُسَمَّرَةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا يُتْبَعُ فِي مُطْلَقِ الْبَيْعِ لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ مَمْلُوكٍ جَازَتْ الصَّلَاةُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْبَيْتِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ لَبِنٌ وَآجُرٌّ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ، أَوْ خَشَبَةٌ مَعْرُوضَةٌ غَيْرُ مُسَمَّرَةٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قِبْلَةً فِيمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْبَيْتِ، وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُكْتَفَى فِي ذَلِكَ بِمَا يَكُونُ سُتْرَةً فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ شَيْءٌ شَاخِصٌ؛ وَلِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ دَلِيلٌ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِكُلِّ مَا يَكُونُ قِبْلَةً وَسُتْرَةً، فَإِنَّ الْخَشَبَ وَالسُّتُورَ الْمُعَدَّةَ عَلَيْهَا لَا يُتْبَعُ فِي مُطْلَقِ الْبَيْعِ. قُلْت: وَقَدْ يُقَالُ إنَّمَا اُكْتُفِيَ بِمَا نَصَبَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَإِنْ لَمْ يُتْبَعْ فِي مُطْلَقِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ حَالُ ضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ بِالْمُصَلِّي إلَى الصَّلَاةِ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ أَوْ بَاطِنِهَا، إذْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُتَوَجَّهَ إلَى جُزْءٍ مِنْهَا أَوْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ جَمِيعَهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي " الْوَاضِحِ " وَأَبُو الْمَعَالِي: لَوْ صَلَّى إلَى الْحِجْرِ مَنْ فَرْضُهُ الْمُعَايَنَةُ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمُشَاهَدَةِ، وَالْعِيَانِ، لَيْسَ مِنْ الْكَعْبَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَإِنَّمَا وَرَدَتْ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّهُ كَانَ مِنْ الْبَيْتِ فَعُمِلَ بِتِلْكَ الْأَحَادِيثِ فِي وُجُوبِ الطَّوَافِ دُونَ الِاكْتِفَاءِ بِهِ لِلصَّلَاةِ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَتَيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّعْلِيقِ ": يَجُوزُ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ تَوَجَّهَ إلَى حَائِطِ الْكَعْبَةِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَهَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ لِأَنَّهُ مِنْ الْبَيْتِ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ، وَبِعِيَانِ مَنْ شَاهَدَهُ مِنْ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ لَمَّا نَقَضَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ. وَنَصَّ أَحْمَدُ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي الْفَرْضَ فِي الْحِجْرِ، فَقَالَ: لَا يُصَلِّي فِي الْحِجْرِ، الْحِجْرُ مِنْ الْبَيْتِ.

باب النية

قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَالْحِجْرُ جَمِيعُهُ لَيْسَ مِنْ الْبَيْتِ، وَإِنَّمَا الدَّاخِلُ فِي حُدُودِ الْبَيْتِ سِتَّةُ أَذْرُعٍ وَشَيْءٌ، فَمَنْ اسْتَقْبَلَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ أَلْبَتَّةَ. [بَابُ النِّيَّةِ] ِ وَالنِّيَّةُ تَتَّبِعُ الْعِلْمَ، فَمَنْ عَلِمَ مَا يُرِيدُ فِعْلَهُ قَصَدَهُ ضَرُورَةً، وَيَحْرُمُ خُرُوجُهُ لِشَكِّهِ فِي النِّيَّةِ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ مَا دَخَلَ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَلَوْ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا ثُمَّ نَوَى الْإِمَامَةَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ فَرْضًا وَنَفْلًا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ وَغَيْرُهُ. وَلَوْ سَمَّى إمَامًا أَوْ جِنَازَةً فَأَخْطَأَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ إنْ كَانَ أَفْسَدَهُ خَلْفَ مَنْ حَضَرَ وَإِلَّا فَلَا، وَوُجُوبُ مُقَارَنَةِ النِّيَّةِ لِلتَّكْبِيرِ قَدْ يُفَسَّرُ بِوُقُوعِ التَّكْبِيرِ عَقِيبَ النِّيَّةِ، وَهَذَا مُمْكِنٌ لَا صُعُوبَةَ فِيهِ بَلْ عَامَّةُ النَّاسِ إنَّمَا يُصَلُّونَ هَكَذَا. وَقَدْ يُفَسَّرُ بِانْبِسَاطِ آخِرِ النِّيَّةِ عَلَى أَجْزَاءِ التَّكْبِيرِ، بِحَيْثُ يَكُونُ أَوَّلُهَا مَعَ أَوَّلِهِ وَآخِرُهَا مَعَ آخِرِهِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي عُزُوبَ كَمَالِ النِّيَّةِ عَنْ أَوَّلِ الصَّلَاةِ، وَخُلُوَّ أَوَّلِ الصَّلَاةِ عَنْ النِّيَّةِ الْوَاجِبَةِ، وَقَدْ يُفَسَّرُ بِحُضُورِ جَمْعِ النِّيَّةِ الْوَاجِبَةِ، وَقَدْ يُفَسَّرُ بِجَمِيعِ النِّيَّةِ مَعَ جَمِيعِ أَجْزَاءِ التَّكْبِيرِ، وَهَذَا قَدْ نُوزِعَ فِي إمْكَانِهِ فَضْلًا عَنْ وُجُوبِهِ، وَلَوْ قِيلَ بِإِمْكَانِهِ فَهُوَ مُتَعَسِّرٌ فَيَسْقُطُ بِالْحَرَجِ. وَأَيْضًا فَمَا يَبْطُلُ هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الْمُكَبِّرَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَدَبَّرَ التَّكْبِيرَ وَيَتَصَوَّرَهُ فَيَكُونُ قَلْبُهُ مَشْغُولًا بِمَعْنَى التَّكْبِيرِ لَا بِمَا يَشْغَلُهُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ اسْتِحْضَارِ الْمَنْوِيِّ؛ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ مِنْ الشُّرُوطِ، وَالشَّرْطُ يَتَقَدَّمُ الْعِبَادَةَ وَيَسْتَمِرُّ حُكْمُهُ إلَى آخِرِهَا. [بَابُ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ] ِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّهُ يَجِبُ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرَهُ فَقَالَ: لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» وَقَالَ

- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَتَهَا مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ بِبَابِ: إثْمِ مَنْ لَمْ يُقِمْ الصَّفَّ. قُلْت: وَمَنْ ذَكَرَ الْإِجْمَاعَ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ فَمُرَادُهُ ثُبُوتُ اسْتِحْبَابِهِ لَا نَفْيُ وُجُوبِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا قَدَرَ الْمُصَلِّي أَنْ يَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ لَزِمَهُ وَلَا يُجْزِئُهُ غَيْرُهَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يُسْمِعَ الْمُصَلِّي نَفْسَهُ الْقِرَاءَةَ الْوَاجِبَةَ، بَلْ يَكْفِيهِ الْإِتْيَانُ بِالْحُرُوفِ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهَا وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ الْكَرْخِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَذَا كُلُّ ذِكْرٍ وَاجِبٍ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْمَعَ فِي الِاسْتِفْتَاحِ بَيْنَ قَوْلِهِ: " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك " إلَى آخِرِهِ، وَبَيْنَ: " وَجَّهْتُ وَجْهِي " إلَى آخِرِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي يُوسُفَ، وَأَبِي هُبَيْرَةَ، وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ لَفْظَيْ كَبِيرٍ وَكَثِيرٍ، بَلْ يَقُولُ هَذَا تَارَةً، وَهَذِهِ تَارَةً، وَكَذَا الْمَشْرُوعُ فِي الْقِرَاءَاتِ سَبْعٌ أَنْ يَقْرَأَ هَذِهِ تَارَةً وَهَذِهِ تَارَةً لَا الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَأْتِيَ فِي الْعِبَادَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى وُجُوهٍ مُتَنَوِّعَةٍ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا: كَالِاسْتِفْتَاحَاتِ، وَأَنْوَاعِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْمَفْضُولُ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ لِمَنْ انْتِفَاعُهُ بِهِ إثْمٌ. وَيُسْتَحَبُّ التَّعَوُّذُ أَوَّلَ كُلِّ قِرَاءَةٍ وَيَجْهَرُ فِي الصَّلَاةِ بِالتَّعَوُّذِ وَبِالْبَسْمَلَةِ وَبِالْفَاتِحَةِ فِي الْجِنَازَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَحْيَانَا، فَإِنَّهُ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ تَعْلِيمًا لِلسُّنَّةِ، وَيُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ لِلتَّأْلِيفِ كَمَا اسْتَحَبَّ أَحْمَدُ تَرْكَ الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ تَأْلِيفًا لِلْمَأْمُومِ، وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ مُتَطَوِّعًا تَبِعَهُ الْمَأْمُومُ وَالسُّنَّةُ أَوْلَى وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. قُلْت: وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أُخِذَ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ يَجْهَرَ بِهَا أَحْيَانًا، وَهَذَا الْمَأْخَذُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْبَسْمَلَةُ آيَةٌ مُنْفَرِدَةٌ فَاصِلَةٌ بَيْنَ السُّورِ لَيْسَتْ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ لَا الْفَاتِحَةِ وَلَا

غَيْرِهِمَا، وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ ابْنِ الْعَبَّاسِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْهَرُ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إذَا كَانَ بِمَكَّةَ، وَأَنَّهُ لَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ تَرَكَ الْجَهْرَ بِهَا حَتَّى مَاتَ» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي كِتَابِ " النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ " وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلْوَاقِعِ فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ كَانَ الْجَهْرَ بِهَا، وَأَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْكُوفَةِ فَلَمْ يَكُونُوا يَجْهَرُونَ، وَالدَّارَقُطْنِيّ لَمَّا دَخَلَ مِصْرَ وَسُئِلَ أَنْ يَجْمَعَ أَحَادِيثَ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ فَجَمَعَهَا، فَقِيلَ لَهُ: هَلْ فِيهَا شَيْءٌ صَحِيحٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا، وَأَمَّا عَنْ الصَّحَابَةِ فَمِنْهُ صَحِيحٌ، وَمِنْهُ ضَعِيفٌ، وَتُكْتَبُ الْبَسْمَلَةُ أَوَائِلَ الْكُتُبِ كَمَا كَتَبَهَا سُلَيْمَانُ، وَكَتَبَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَإِلَى قَيْصَرَ وَغَيْرِهِ، فَتُذْكَرُ فِي ابْتِدَاءِ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ، وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَنْزِلِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ لِلْبَرَكَةِ، وَهِيَ تَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، وَإِنَّمَا تُسْتَحَبُّ إذَا ابْتَدَأَ فِعْلًا تَبَعًا لِغَيْرِهَا لَا مُسْتَقِلَّةً فَلَمْ تُجْعَلْ كَالْهَيْلَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ، وَنَحْوِهِمَا. وَالْفَاتِحَةُ أَفْضَلُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهَا «أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَذَكَرَ مَعْنَاهُ ابْنُ شِهَابٍ وَغَيْرُهُ، وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ أَعْظَمُ آيِ الْقُرْآنِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّ تَفَاضُلَ الْقُرْآنِ عِنْدَهُ فِي نَفْسِ الْحَرْفِ أَيْ ذَاتِ الْحَرْفِ، وَاللَّفْظُ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ غَيْرُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَالْفَاتِحَةِ لِمَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَعَانٍ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: تَوْحِيدٌ، وَقَصَصٌ، وَأَمْرٌ وَنَهْيٌ. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مُتَضَمَّنَةٌ ثُلُثَ التَّوْحِيدِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهَا ثَلَاثًا إلَّا إذَا قُرِئَتْ مُنْفَرِدَةً [ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: السُّنَّةُ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ أَنْ يَقْرَأَهَا كَمَا فِي الْمُصْحَفِ، وَأَمَّا إذَا قَرَأَهَا مُنْفَرِدَةً أَوْ مَعَ بَعْضِ الْقُرْآنِ ثَلَاثًا فَإِنَّهَا تَعْدِلُ الْقُرْآنَ، وَإِذَا قِيلَ: ثَوَابُ قِرَاءَتِهَا مَرَّةً يَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَمُعَادَلَةُ الشَّيْءِ لِلشَّيْءِ يَقْتَضِي تَسَاوِيهِمَا فِي الْقَدْرِ لَا تَمَاثُلَهُمَا فِي الْوَصْفِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] . وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِقِرَاءَتِهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَنْ قِرَاءَةِ سَائِرِ الْقُرْآنِ لِحَاجَتِهِ

إلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْقَصَصِ، كَمَا لَا يَسْتَغْنِي مَنْ مَلَكَ نَوْعًا شَرِيفًا مِنْ الْمَالِ عَنْ غَيْرِهِ، وَيَحْسُنُ تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى تَفْهِيمِهِ إيَّاهُ بِالتَّرْجَمَةِ. قُلْت: وَذَكَرَ غَيْرُهُ هَذَا الْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. الْمُرَادُ بِالْحَرْفِ الْكَلِمَةُ وَوُقُوفُ الْقَارِئِ عَلَى رُءُوسِ الْآيَاتِ سُنَّةٌ، وَإِنْ كَانَتْ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ مُتَعَلِّقَةً بِالْأُولَى تَعَلُّقَ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَالْقِرَاءَةُ الْقَلِيلَةُ بِتَفَكُّرٍ أَفْضَلُ مِنْ الْكَثِيرَةِ بِلَا تَفَكُّرٍ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الصَّحَابَةِ صَرِيحًا. وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَقَلَ عَنْهُ مُثَنَّى بْنِ جَامِعٍ رَجُلٌ أَكَلَ فَشَبِعَ، وَأَكْثَرَ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ، وَرَجُلُ أَقَلَّ الْأَكْلَ، فَقَلَّتْ نَوَافِلُهُ وَكَانَ أَكْثَرَ فِكْرًا، أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَذَكَرَ مَا جَاءَ فِي الْفِكْرِ «تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ» قَالَ: فَرَأَيْت هَذَا عِنْدَهُ أَفْضَلَ لِلْفِكْرِ وَمَا خَالَفَ الْمُصْحَفَ، وَصَحَّ سَنَدُهُ، صَحَّتْ الصَّلَاةُ بِهِ. وَهَذَا نَصُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَمُصْحَفُ عُثْمَانَ أَحَدُ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ، وَقَالَهُ عَامَّةُ السَّلَفِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ مَعَ إمَامِهِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وَنَحْوَهُ. وَقِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ أُصُولُ الْأَقْوَالِ فِيهَا ثَلَاثَةٌ طَرَفَانِ وَوَسَطٌ فَأَحَدُ الطَّرَفَيْنِ لَا يَقْرَأُ بِحَالٍ، وَالثَّانِي يَقْرَأُ بِكُلِّ حَالٍ، وَالثَّالِثُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ أَنْصَتَ وَإِذَا لَمْ يَسْمَعْ قَرَأَ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ قِرَاءَتَهُ أَفْضَلُ مِنْ سُكُوتِهِ، وَالِاسْتِمَاعُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِنْ السُّكُوتِ. وَعَلَى هَذَا فَهَلْ الْقِرَاءَةُ حَالَ مُخَافَتَةِ الْإِمَامِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَأْمُومِ، أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَشْهُرُهُمَا أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، وَلَا يَقْرَأُ حَالَ تَنَفُّسِ إمَامِهِ، وَإِذَا سَمِعَ هَمْهَمَةَ الْإِمَامِ، وَلَمْ يَفْهَمْ قِرَاءَتَهُ قَرَأَ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُ اسْتَحَبَّ، فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ سَكْتَتَيْنِ عَقِيبَ التَّكْبِيرِ لِلِاسْتِفْتَاحِ، وَقَبْلَ الرُّكُوعِ لِأَجْلِ الْفَصْلِ، وَلَمْ يَسْتَحِبَّ أَنْ يَسْكُتَ سَكْتَةً تَتَّسِعُ لِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ وَالْقِرَاءَةُ إذَا سَمِعَ، هَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ وَهَلْ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ إنْ قَرَأَ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. أَحَدُهُمَا: الْقِرَاءَةُ مُحَرَّمَةٌ وَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهَا حَكَاهُ ابْنُ حَامِدٍ. وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَهَلْ الْأَفْضَلُ لِلْمَأْمُومِ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ لِلِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِهَا، أَمْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَمَعَهَا مُقْتَضَى نُصُوصِ أَحْمَدَ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِهَا أَفْضَلُ. قُلْت: فَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ غَيْرُهَا أَفْضَلَ إذَا سَمِعَهَا وَإِلَّا فَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَسْتَعِيذُ حَالَ جَهْرِ الْإِمَامِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَمِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، مَنْ قَالَ لَا يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَسْتَعِيذُ حَالَ جَهْرِ الْإِمَامِ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ حَالَ سُكُوتِ الْإِمَامِ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّ النِّزَاعَ فِي حَالِ الْجَهْلِ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِمَاعِ يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ بِخِلَافِ الِاسْتِفْتَاحِ وَالتَّعَوُّذِ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ وَقْتَ مُخَافَتَةِ الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِنْ اسْتِفْتَاحِهِ: غَلَطٌ، بَلْ قَوْلُ أَحْمَدَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ الِاسْتِفْتَاحُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ اسْتِمَاعَهُ بَدَلٌ عَنْ قِرَاءَتِهِ، وَالْمَرْأَةُ إذَا صَلَّتْ بِالنِّسَاءِ جَهَرَتْ بِالْقِرَاءَةِ وَإِلَّا فَلَا تَجْهَرُ إذَا صَلَّتْ وَحْدَهَا. وَنَقَلَ ابْنُ أَصْرَمَ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ جَهِلَ مَا قَرَأَ بِهِ إمَامُهُ يُعِيدُ الصَّلَاةَ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا: لِأَنَّهُ لَمْ يَدْرِ هَلْ قَرَأَ إمَامُهُ الْحَمْدَ أَمْ لَا، وَلَا مَانِعَ مِنْ السَّمَاعِ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: بَلْ لِتَرْكِهِ الْإِنْصَاتَ الْوَاجِبَ. وَحَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى أَنَّهُ «صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ لَا يُتِمُّ تَكْبِيرَهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَعَلَّ ابْنَ أَبْزَى صَلَّى خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَوْتُهُ ضَعِيفًا فَلَمْ يَسْمَعْ تَكْبِيرَهُ فَاعْتَقَدَ أَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ التَّكْبِيرَ وَإِلَّا فَالْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافُ هَذَا.

وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ النَّخَعِيِّ: إنَّ أَوَّلَ مَنْ نَقَصَ التَّكْبِيرَ زِيَادٌ وَكَانَ أَمِيرًا فِي زَمَنِ عُمَرَ، وَإِذَا رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ يَقُولُ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ " وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ، وَالْآجُرِّيُّ، وَأَبُو الْبَرَكَاتِ. وَيُسَنُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ إذَا قَامَ الْمُصَلِّي مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ إلَى الثَّالِثَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، اخْتَارَهَا أَبُو الْبَرَكَاتِ، كَمَا يُسَنُّ فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَفْعِ يَدَيْهِ إلَّا بِزِيَادَةٍ عَلَى أُذُنَيْهِ رَفَعَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالسُّنَّةِ وَزِيَادَةٍ لَا يُمْكِنُهُ تَرْكُهَا. وَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَعَمُّدِ تَكْرَارِ الرُّكْنِ الْفِعْلِيِّ لَا الْقَوْلِيِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَمَنْ لَمْ يُحْسِنْ الْقِرَاءَةَ وَلَا الذِّكْرَ أَوْ الْأَخْرَسُ لَا يُحَرِّكُ لِسَانَهُ حَرَكَةً مُجَرَّدَةً، وَلَوْ قِيلَ إنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ بِذَلِكَ كَانَ أَقْرَبَ؛ لِأَنَّهُ عَبَثٌ يُنَافِي الْخُشُوعَ وَزِيَادَةٌ عَلَى غَيْرِ الْمَشْرُوعِ. وَآلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلُ بَيْتِهِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَاخْتَارَهُ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَغَيْرُهُ، فَمِنْهُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَفِي بَنِي الْمُطَّلِبِ الرِّوَايَتَانِ فِي الزَّكَاةِ، وَفِي دُخُولِ أَزْوَاجِهِ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ رِوَايَتَانِ، وَالْمُخْتَارُ الدُّخُولُ. وَأَفْضَلُ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيٌّ، وَفَاطِمَةُ، وَحَسَنٌ، وَحُسَيْنٌ الَّذِينَ أَدَارَ عَلَيْهِمْ الْكِسَاءَ وَخَصَّهُمْ بِالدُّعَاءِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ حَمْزَةَ أَفْضَلُ مِنْ حَسَنٍ، وَحُسَيْنٍ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ إذَا اُتُّخِذَتْ شِعَارًا، وَهُوَ قَوْلٌ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ مَنْ قَالَ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَمَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ. وَيُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ لَا التَّكْبِيرُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ لَا قَالَهُ بَعْضُ السَّلَفِ وَلَا الْخَلْفِ، لَا يَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ سِرًّا لَا جَهْرًا لِعَدَمِ نَقْلِهِ. وَالتَّسْبِيحُ الْمَأْثُورُ أَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يُسَبِّحَ عَشْرًا، وَيَحْمَدَ عَشْرًا، وَيُكَبِّرَ عَشْرًا. وَالثَّانِي: أَنْ يُسَبِّحَ إحْدَى عَشْرَةَ، وَيَحْمَدَ إحْدَى عَشْرَةَ، وَيُكَبِّرَ إحْدَى عَشْرَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُسَبِّحَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيَحْمَدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيُكَبِّرَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَيَكُونَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ.

وَالرَّابِعُ: أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، وَيَخْتِمَ الْمِائَةَ بِالتَّوْحِيدِ التَّامِّ: وَهُوَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ. الْخَامِسُ: أَنْ يُسَبِّحَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيَحْمَدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيُكَبِّرَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ. السَّادِسُ: أَنْ يُسَبِّحَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَيَحْمَدَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَيُكَبِّرَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَيَقُولَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَلَا يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ لِغَيْرِ عَارِضٍ كَالِاسْتِسْقَاءِ وَالِانْتِصَارِ، أَوْ تَعْلِيمِ الْمَأْمُومِ وَلَمْ تَسْتَحِبَّهُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَمَا جَاءَ فِي خَبَرِ ثَوْبَانَ مِنْ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا خَصَّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ فَقَدْ خَانَ الْمُؤْمِنِينَ، الْمُرَادُ بِهِ الدُّعَاءُ الَّذِي يُؤَمِّنُ عَلَيْهِ كَدُعَاءِ الْقُنُوتِ فَإِنَّ الْمَأْمُومَ إذَا أَمَّنَ كَانَ دَاعِيًا. قَالَ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] وَكَانَ أَحَدُهُمَا يَدْعُو وَالْآخَرُ يُؤَمِّنُ وَالْمَأْمُومُ إنَّمَا أَمَّنَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْإِمَامَ يَدْعُو لَهُمَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ خَانَ الْإِمَامُ الْمَأْمُومَ. وَيُسَنُّ لِلدَّاعِي رَفْعُ يَدَيْهِ وَالِابْتِدَاءُ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْ يَخْتِمَهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَبِالتَّأْمِينِ، وَصِفَةُ الْمَشْرُوعِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا صَحَّتْ بِهِ الْأَخْبَارُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِي الصِّحَاحِ لَمْ أَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا: «كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ» بَلْ الْمَشْهُورُ فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ وَالطُّرُقِ لَفْظُ " وَآلِ إبْرَاهِيمَ " بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ. قُلْت: بَلْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ الرُّسُلِ لَكِنْ وَقَعَ النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ قَطَعَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُ وَحْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ كَمَا أَنَّ صَدِيقَهُ وُزِنَ بِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ فَرَجَحَ بِهِمْ. وَقَدْ أَنْكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ ارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ» لِأَنَّهُ خِلَافُ الْوَارِدِ فِي تَعْلِيمِ الصَّلَاةِ. قُلْت: وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ " الْمَنْعَ قَوْلَ الْأَكْثَرِينَ، وَاَللَّهُ

باب ما يبطل الصلاة وما يكره فيها

أَعْلَمُ. وَيَحْرُمُ الِاعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَقَدْ يَكُونُ الِاعْتِدَاءُ فِي نَفْسِ الطَّلَبِ وَقَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْمَطْلُوبِ. وَلَا يُكْرَهُ رَفْعُ بَصَرِهِ إلَى السَّمَاءِ فِي الدُّعَاءِ لِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَلَا يُسْتَحَبُّ. وَإِذَا لَمْ يُخْلِصْ الدَّاعِي الدُّعَاءَ، وَلَمْ يَجْتَنِبْ الْحَرَامَ تَبْعُدُ إجَابَتُهُ إلَّا مُضْطَرًّا أَوْ مَظْلُومًا، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَدْعُوَ قَبْلَ السَّلَامِ بِمَا أَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ أَنْ يَقُولَهُ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك» وَلَا يُفْرِدُ الْمُنْفَرِدُ ضَمِيرَ الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَيَكُونُ دُعَاءُ الِاسْتِخَارَةِ قَبْلَ السَّلَامِ. وَقَالَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ: بَلْ وَالدُّعَاءُ سَبَبٌ لِجَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا الدَّاعِي، وَلَا يَحْصُلُ بِهَا جَلْبُ الْمَنَافِعِ وَدَفْعُ الْمَضَارِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَإِذَا ارْتَاضَتْ نَفْسُ الْعَبْدِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَانْشَرَحَتْ بِهَا، وَتَنَعَّمَتْ بِهَا، وَبَادَرَتْ إلَيْهَا طَوَاعِيَةً، وَمَحَبَّةً: كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ يُجَاهِدُ نَفْسَهُ عَلَى الطَّاعَاتِ وَيُكْرِهُهَا عَلَيْهَا. وَهُوَ قَوْلُ الْجُنَيْدِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ عُبَّادِ الْبَصْرَةِ، وَالتَّكْبِيرُ مَشْرُوعٌ فِي الْأَمَاكِنِ الْعَالِيَةِ وَحَالَ ارْتِفَاعِ الْعَبْدِ، وَحَيْثُ يَقْصِدُ الْإِعْلَانَ: كَالتَّكْبِيرِ فِي الْأَذَانِ وَالْأَعْيَادِ وَإِذَا عَلَا شَرَفًا، وَإِذَا رَقَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ، وَإِذَا رَكِبَ دَابَّةً، وَالتَّسْبِيحُ فِي الْأَمَاكِنِ الْمُنْخَفِضَةِ، كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ جَابِرٍ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا هَبَطْنَا سَبَّحْنَا فَوُضِعَتْ الصَّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ» . وَفِي نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ أَشْرَفُ الْكَلَامِ، إذْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، وَحَالَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ذُلٌّ وَانْخِفَاضٌ مِنْ الْعَبْدِ، فَمِنْ الْأَدَبِ مَنْعُ كَلَامِ اللَّهِ أَنْ لَا يُقْرَأَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ وَالِانْتِظَارُ أَوْلَى. [بَابُ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَمَا يُكْرَهُ فِيهَا] وَالنَّفْخُ إذَا بَانَ مِنْهُ حَرْفَانِ هَلْ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهِ أَمْ لَا؟ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ تَرْجِيحُ عَدَمِ الْإِبْطَالِ. وَالسُّعَالُ، وَالْعُطَاسُ، وَالتَّثَاؤُبُ، وَالْبُكَاءُ، وَالتَّأَوُّهُ، وَالْأَنِينُ الَّذِي يُمْكِنُ دَفْعُهُ،

فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ كَالنَّفْخِ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا تُبْطِلَ، فَإِنَّ النَّفْخَ أَشْبَهُ بِالْكَلَامِ مِنْ هَذِهِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ بِالْقَهْقَهَةِ إذَا كَانَ فِيهَا أَصْوَاتٌ عَالِيَةٌ تُنَافِي الْخُشُوعَ الْوَاجِبَ فِي الصَّلَاةِ، وَفِيهَا مِنْ الِاسْتِخْفَافِ وَالتَّلَاعُبِ مَا يُنَاقِضُ مَقْصُودَ الصَّلَاةِ فَأُبْطِلَتْ لِذَلِكَ لَا لِكَوْنِهَا كَلَامًا. وَيَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ، وَالْحِمَارُ، وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ، وَالْبَهِيمُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَالْمَشْهُورُ عَنْ الْأَئِمَّةِ إذَا غَلَبَ الْوَسْوَاسُ عَلَى أَكْثَرِ الصَّلَاةِ أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ، وَيَسْقُطُ الْفَرْضُ بِذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي " الْإِحْيَاءِ " وَتَبِعَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: تَبْطُلُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يُثَابُ إلَّا عَلَى مَا عَلِمَهُ بِقَلْبِهِ فَلَا يُكَفَّرُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ إلَّا بِقَدْرِهِ، فَالْبَاقِي يَحْتَاجُ إلَى تَكْفِيرٍ، فَإِذَا تَرَكَ وَاجِبًا اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ. فَإِذَا كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ سَدَّ مَسَدَهُ، فَكَمَّلَ ثَوَابَهُ، وَهَذَا كَلَامُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْصِدُ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ مَعَ الْوَسْوَاسِ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ الَّذِي لَا يُصَلِّي إلَّا رِيَاءً وَسُمْعَةً فَهَذَا عَمَلُهُ حَابِطٌ لَا يَحْصُلُ بِهِ ثَوَابٌ، وَلَا يَرْتَفِعُ بِهِ عِقَابٌ، وَابْنُ حَامِدٍ وَنَحْوُهُ سَدَّدَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ. فَإِنَّ كِلَيْهِمَا إنَّمَا تُسْقِطُ عَنْهُ الصَّلَاةُ الْقَتْلَ فِي الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَبْرَأَ ذِمَّتُهُ، وَلَا تُرْفَعُ عَنْهُ عُقُوبَةُ الْآخِرَةِ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ فِي الصَّلَاةِ خَطَأٌ. وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَامِ عَلَى الْمُصَلِّي إنْ كَانَ يُحْسِنُ الرَّدَّ بِالْإِشَارَةِ، وَقَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يُثَابُ عَلَى عَمَلٍ مَشُوبٍ إجْمَاعًا، وَمَنْ صَلَّى لِلَّهِ ثُمَّ حَسَّنَهَا وَأَكْمَلَهَا لِلنَّاسِ أُثِيبَ عَلَى مَا أَخْلَصَهُ لِلَّهِ لَا عَلَى مَا عَمِلَهُ لِلنَّاسِ، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّك أَحَدًا. وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِكَلَامِ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَلَا مِمَّا إذَا أَبْدَلَ ضَادًا بِظَاءٍ، وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَقَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَلَا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ لَحْنًا غَيْرَ مُخِلٍّ لِلْمَعْنَى عَجْزًا، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَذْهَبَ إلَى النَّعْلِ، فَيَأْخُذَهُ وَيَقْتُلُ بِهِ الْحَيَّةَ أَوْ الْعَقْرَبَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَى مَكَانِهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُصَلِّي مِنْ الْأَفْعَالِ، وَكَانَ أَبُو بَرْزَةَ وَمَعَهُ فَرَسُهُ وَهُوَ يُصَلِّي كُلَّمَا خَطَا يَخْطُو مَعَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَنْفَلِتَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إنْ فَعَلَ كَمَا فَعَلَ أَبُو بَرْزَةَ فَلَا بَأْسَ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ أَنَّ

باب سجود التلاوة

هَذَا لَا يُقَدَّرُ بِثَلَاثِ خُطُوَاتٍ وَلَا ثَلَاثِ فِعْلَاتٍ، كَمَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَمَنْ قَيَّدَهَا بِثَلَاثٍ كَمَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ إذَا كَانَتْ مُتَّصِلَةً، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ مَوْقُوفَةً فَيَجُوزُ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى ثَلَاثٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ] ِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَاَلَّذِي تَبَيَّنَ لِي أَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ وَاجِبٌ مُطْلَقًا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يُشْرَعُ فِيهِ تَحْرِيمٌ وَلَا تَحْلِيلٌ هَذَا هُوَ السُّنَّةُ الْمَعْرُوفَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهَا عَامَّةُ السَّلَفِ. وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ هُوَ صَلَاةً فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ شُرُوطُ الصَّلَاةِ، بَلْ يَجُوزُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، وَاخْتَارَهَا الْبُخَارِيُّ لَكِنَّ السُّجُودَ بِشُرُوطِ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخِلَّ بِذَلِكَ إلَّا لِعُذْرٍ، فَالسُّجُودُ بِلَا طَهَارَةٍ خَيْرٌ مِنْ الْإِخْلَالِ بِهِ، لَكِنْ يُقَالُ إنَّهُ لَا يَجِبُ فِي هَذَا الْحَالِ. كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى السَّامِعِ إذَا لَمْ يَسْجُدْ قَارِئُ السُّجُودِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ السُّجُودُ جَائِزًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَسْجُدَ عَنْ قِيَامٍ، وَقَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَسُجُودُ الشُّكْرِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى طَهَارَةٍ: كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَوَافَقَ أَبُو الْعَبَّاسِ عَلَى سُجُودِ السَّهْوِ فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ. وَلَوْ أَرَادَ الْإِنْسَانُ الدُّعَاءَ فَعَفَّرَ وَجْهَهُ لِلَّهِ فِي التُّرَابِ، وَسَجَدَ لَهُ لِيَدْعُوَهُ، فَهَذَا سُجُودٌ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ وَلَا شَيْءَ يَمْنَعُهُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ سَجَدَ سُجُودًا مُجَرَّدًا لَمَّا جَاءَ نَعْيُ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا رَأَيْتُمْ آيَةً فَاسْجُدُوا» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ يُشْرَعُ عِنْدَ الْآيَاتِ، فَالْمَكْرُوهُ هُوَ. وَمِنْ الْبِدَعِ إنْ صَلَّى الصُّبْحَ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ سَجَدَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا وَقَبَّلَ الْأَرْضَ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا السُّجُودَ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ، وَأَمَّا تَقْبِيلُ الْأَرْضِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، مِمَّا فِيهِ السُّجُودُ مِمَّا يُفْعَلُ قُدَّامَ بَعْضِ الشُّيُوخِ وَبَعْضِ الْمُلُوكِ فَلَا

باب سجود السهو

يَجُوزُ، بَلْ لَا يَجُوزُ الِانْحِنَاءُ كَالرُّكُوعِ أَيْضًا، أَمَّا إذَا أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ إنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ يَحْصُلُ لَهُ ضَرَرٌ فَلَا بَأْسَ، وَأَمَّا إنْ فَعَلَ لِنَيْلِ الرِّيَاسَةِ وَإِلْمَامٍ فَحَرَامٌ. [بَابُ سُجُودِ السَّهْوِ] يُشْرَعُ لِلسَّهْوِ لَا لِلْعَمْدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمَنْ شَكَّ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ بَنَى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا، وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ أُمُورِ الشَّرْعِ، وَيُقَالُ مِثْلُهُ فِي الطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فَرَّقَ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، وَبَيْنَ الشَّكِّ مَعَ التَّحَرِّي وَالشَّكِّ مَعَ الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ فَإِذَا كَانَ السُّجُودُ لِنَقْصٍ كَانَ قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ جَابِرٌ لِيُتِمَّ الصَّلَاةَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لِزِيَادَةٍ كَانَ بَعْدَ السَّلَامِ لِأَنَّهُ إرْغَامٌ لِلشَّيْطَانِ لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ زِيَادَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ، كَذَلِكَ إذَا شَكَّ وَتَحَرَّى فَإِنَّهُ يُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَإِنَّمَا السَّجْدَتَانِ إرْغَامٌ لِلشَّيْطَانِ فَتَكُونَانِ بَعْدَهُ. وَكَذَلِكَ إذَا سَلَّمَ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ صَلَاتِهِ ثُمَّ أَكْمَلَهَا فَقَدْ أَتَمَّهَا، وَالسَّلَامُ فِيهَا زِيَادَةٌ، وَالسُّجُودُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ السَّلَامِ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ، وَأَمَّا إذَا شَكَّ وَلَمْ يَبِنْ لَهُ الرَّاجِحُ فَيَعْمَلُ هُنَا عَلَى الْيَقِينِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَلَّى خَمْسًا أَوْ أَرْبَعًا فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا فَالسَّجْدَتَانِ يَشْفَعَانِ لَهُ صَلَاتَهُ لِيَكُونَ كَأَنَّهُ صَلَّى لِلَّهِ سِتًّا لَا خَمْسًا. وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ السَّلَامِ فَهَذَا الَّذِي بَصِرْنَاهُ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ جَمِيعُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَمَا شُرِعَ قَبْلَ السَّلَامِ يَجِبُ فِعْلُهُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَمَا شُرِعَ بَعْدَ السَّلَامِ لَا يُفْعَلُ إلَّا بَعْدَهُ وُجُوبًا، وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَهَلْ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ إذَا سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: ثَالِثُهَا الْمُخْتَارُ يُسَلِّمُ، وَلَا يَتَشَهَّدُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ. وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَالتَّكْبِيرُ لِسُجُودِ السَّهْوِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِنْ نَسِيَ سُجُودَ السَّهْوِ سَجَدَ وَلَوْ طَالَ الْفَصْلُ وَتَكَلَّمَ أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

باب صلاة التطوع

[بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ] وَالتَّطَوُّعُ يَكْمُلُ بِهِ صَلَاةُ الْفَرْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ الْمُصَلِّي أَتَمَّهَا وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ وَبَقِيَّةُ الْأَعْمَالِ. وَاسْتِيعَابُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِالْعِبَادَةِ لَيْلًا وَنَهَارًا أَفْضَلُ مِنْ جِهَادٍ لَمْ يَذْهَبْ فِيهِ نَفْسُهُ وَمَالُهُ، وَالْعِبَادَةُ فِي غَيْرِهِ تَعْدِلُ الْجِهَادَ لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَقَدْ رَوَاهَا أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. وَالْعَمَلُ بِالْقَوْسِ وَالرُّمْحِ أَفْضَلُ مِنْ الرِّبَاطِ فِي الثَّغْرِ وَفِي غَيْرِهِ نَظِيرُهَا وَمِنْ طَلَبِ الْعِلْمَ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ آجِرٌ فِي نَفْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَحَبَّةِ لَهُ لَا لِلَّهِ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ الشُّرَكَاءِ فَلَيْسَ مَذْمُومًا بَلْ قَدْ يُثَابُ بِأَنْوَاعٍ مِنْ الثَّوَابِ إمَّا بِزِيَادَةٍ فِيهَا، وَفِي أَمْثَالِهَا فَتَنْعَمُ بِذَلِكَ، وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَتَعَلُّمُ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمُهُ يَدْخُلُ بَعْضُهُ فِي الْجِهَادِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْجِهَادِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ. وَأَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، فَذَنْبُهُ مِنْ جِنْسِ ذَنْبِ الْيَهُودِ. وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ أَفْضَلَ مَا تَطَوَّعَ بِهِ الْجِهَادُ، وَذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَهُ تَطَوُّعًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ عَلَيْهِ بِحَيْثُ إنَّ الْفَرْضَ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ وَإِذَا بَاشَرَهُ، وَقَدْ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ، فَهَلْ يَقَعُ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا عَلَى وَجْهَيْنِ كَالْوَجْهَيْنِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ أَنْ صَلَّاهَا غَيْرُهُ، وَانْبَنَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ جَوَازُ فِعْلِهَا بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ فَرْضًا وَأَنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُهَا بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الدُّخُولِ فِي ذَلِكَ تَطَوُّعًا كَمَا فِي التَّطَوُّعِ الَّذِي يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فَإِنَّهُ كَانَ نَفْلًا ثُمَّ يَصِيرُ إتْمَامُهُ فَرْضًا. وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ وَالذِّكْرُ بِقَلْبٍ أَفْضَلُ مِنْ الْقُرْآنِ بِلَا قَلْبٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فِي رَدِّهِ عَلَى الرَّافِضِيِّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَفْضِيلَ أَحْمَدَ لِلْجِهَادِ

وَالشَّافِعِيِّ لِلصَّلَاةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ لِلْعِلْمِ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلٍّ مِنْ الْآخَرَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ أَفْضَلُ فِي حَالٍ كَفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَالْحَاجَةِ وَيُوَافِقُ هَذَا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ لِأَحْمَدَ الرَّجُلُ يَبْلُغُنِي عَنْهُ صَلَاحٌ، فَأَذْهَبُ فَأُصَلِّي خَلْفَهُ قَالَ: قَالَ لِي أَحْمَدُ: اُنْظُرْ إلَى مَا هُوَ أَصْلَحُ لِقَلْبِك فَافْعَلْهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَعْرِفَةُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ أَعْجَبُ إلَيَّ مِنْ حِفْظِهِ. وَيَجِبُ الْوِتْرُ عَلَى مَنْ يَتَهَجَّدُ بِاللَّيْلِ، وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ مَنْ يُوجِبُهُ مُطْلَقًا وَيُخَيَّرُ فِي الْوِتْرِ بَيْنَ فَصْلِهِ وَوَصْلِهِ، وَفِي دُعَائِهِ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، وَالْوِتْرُ لَا يُقْضَى إذَا فَاتَ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَلَا يَقْنُتُ فِي غَيْرِ الْوِتْرِ، إلَّا أَنْ تَنْزِلَ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ فَيَقْنُتَ كُلُّ مُصَلٍّ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، لَكِنَّهُ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ آكَدُ بِمَا يُنَاسِبُ تِلْكَ النَّازِلَةِ، وَإِذَا صَلَّى قِيَامَ رَمَضَانَ فَإِنْ قَنَتَ جَمِيعَ الشَّهْرِ، أَوْ نِصْفَهُ الْأَخِيرِ، أَوْ لَمْ يَقْنُتْ بِحَالٍ فَقَدْ أَحْسَنَ وَالتَّرَاوِيحُ إنْ صَلَّاهَا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ: عِشْرِينَ رَكْعَةً أَوْ: كَمَذْهَبِ مَالِكٍ سِتًّا وَثَلَاثِينَ، أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، أَوْ إحْدَى عَشْرَةَ فَقَدْ أَحْسَنَ. كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِعَدَمِ التَّوْقِيفِ فَيَكُونُ تَكْثِيرُ الرَّكَعَاتِ وَتَقْلِيلُهَا بِحَسَبِ طُولِ الْقِيَامِ وَقِصَرِهِ، وَمَنْ صَلَّاهَا قَبْلَ الْعِشَاءِ فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ الْمُبْتَدِعَةِ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ، وَيَقْرَأُ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ سُورَةَ (الْقَلَمِ) لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ، وَنَقَلَهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَارِثُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ أَحْسَنُ مِمَّا نَقَلَهُ غَيْرُهُ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِهَا التَّرَاوِيحَ. وَمِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَيْسَ لِلْعَصْرِ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَمَا تَبَيَّنَ فِعْلُهُ مُنْفَرِدًا كَقِيَامِ اللَّيْلِ وَصَلَاةِ الضُّحَى وَنَحْوِ ذَلِكَ إنْ فَعَلَ فِي جَمَاعَةٍ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لَكِنْ لَا يُتَّخَذُ سُنَّةً رَاتِبَةً. وَتُسْتَحَبُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى إنْ لَمْ يَقُمْ فِي لَيْلَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ مَنْ يَسْتَحِبُّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهَا مُطْلَقًا. قُلْت: لَكِنْ أَبُو الْعَبَّاسِ لَهُ قَاعِدَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ مَا لَيْسَ مِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ لَا يُدَاوَمُ

عَلَيْهِ حَتَّى يَلْحَقَ بِالرَّاتِبِ كَمَا نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى عَدَمِ سُورَةِ السَّجْدَةِ، وَهَلْ أَتَى يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَا يَجُوزُ التَّطَوُّعُ مُضْطَجِعًا لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَقِرَاءَةُ الْإِدَارَةِ حَسَنَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَمِنْ قِرَاءَةِ الْإِدَارَةِ قِرَاءَتُهُمْ مُجْتَمَعِينَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ وَلِلْمَالِكِيَّةِ وَجْهَانِ فِي كَرَاهَتِهَا، وَكَرِهَهَا مَالِكٌ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ وَاحِدٍ وَالْبَاقُونَ يَتَسَمَّعُونَ لَهُ فَلَا يُكْرَهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهَا: كَأَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ. وَتَعْلِيمُ الْقُرْآنِ فِي الْمَسْجِدِ لَا بَأْسَ بِهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمَسْجِدِ وَأَهْلِهِ، بَلْ يُسْتَحَبُّ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ فِي الْمَسَاجِدِ. وَقَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ التَّابِعِيِّ عَامٌّ فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ. وَقِيَامُ بَعْضِ اللَّيَالِي كُلِّهَا مِمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ. وَصَلَاةُ الرَّغَائِبِ بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ لَمْ يُصَلِّهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ، وَأَمَّا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَفِيهَا فَضْلٌ، وَكَانَ فِي السَّلَفِ مَنْ يُصَلِّي فِيهَا، لَكِنَّ الِاجْتِمَاعَ فِيهَا لِإِحْيَائِهَا فِي الْمَسَاجِدِ بِدْعَةٌ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ الْأَلْفِيَّةُ. وَتَقُولُ الْمَرْأَةُ فِي سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ: " وَأَنَا أَمَتُك بِنْتُ أَمَتِك أَوْ بِنْتُ عَبْدِك " وَلَوْ قَالَتْ: " وَأَنَا عَبْدُك " فَلَهُ مَخْرَجٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ بِتَأْوِيلِ شَخْصٍ، وَتَكْفِيرُ الطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَعَرَفَةَ، وَعَاشُورَاءَ لِلصَّغَائِرِ فَقَطْ، وَكَذَا الْحَجُّ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَرَمَضَانَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَكَثْرَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَطُولُ الْقِيَامِ سَوَاءٌ فِي الْفَضِيلَةِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ. وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَئِمَّةُ الصَّحَابَةِ عَلَى كَرَاهَةِ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ وَلَمْ يَسْتَحِبَّهَا إمَامٌ، وَاسْتَحَبَّهَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ صِفَةٍ لَمْ يَرِدْ بِهَا الْخَبَرُ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ: فَلَمْ يَسْتَحِبُّوهَا بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ: لَا بَأْسَ بِهَا فَإِنَّ الْفَضَائِلَ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا صِحَّةُ الْخَبَرِ، كَذَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: يُعْمَلُ بِالْخَبَرِ الضَّعِيفِ يَعْنِي أَنَّ النَّفْسَ تَرْجُو ذَلِكَ الثَّوَابَ، أَوْ ذَلِكَ الْعِقَابَ، وَمِثْلُهُ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ بِالْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَالْمَنَامَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ بِمُجَرَّدِهِ إثْبَاتُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَا الِاسْتِحْبَابِ وَلَا غَيْرِهِ، لَكِنْ يَجُوزُ ذِكْرُهُ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فِيمَا عُلِمَ حُسْنُهُ أَوْ قُبْحُهُ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ

باب صلاة الجماعة

يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَاعْتِقَادُ مُوجِبِهِ مِنْ قَدْرِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، وَقَالَ أَيْضًا فِي التَّيَمُّمِ بِضَرْبَتَيْنِ: يُعْمَلُ بِالْخَبَرِ الْوَارِدِ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ ضَعِيفًا، وَكَذَا مَنْ يَشْرَعُ فِي عَمَلٍ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ، فِي الْجُمْلَةِ فَإِذَا رَغِبَ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ بِخَبَرٍ ضَعِيفٍ عَمِلَ بِهِ. أَمَّا إثْبَاتُ سُنَّةٍ فَلَا وَكُلٌّ مَنْ عَبَدَ عِبَادَةً نُهِيَ عَنْهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ بِالنَّهْيِ لَكِنْ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ: مِثْلُ الصَّلَاةِ وَقْتَ النَّهْيِ، وَصَوْمِ الْعِيدِ أُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ. فَصْلٌ: وَلَا نَهْيَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى زَوَالِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَتَقْضَى السُّنَنُ الرَّاتِبَةُ، وَيَفْعَلُ مَا لَهُ سَبَبٌ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَيُصَلِّي صَلَاةَ الِاسْتِخَارَةِ وَقْتَ النَّهْيِ فِي أَمْرٍ يَفُوتُ بِالتَّأْخِيرِ إلَى وَقْتِ الْإِبَاحَةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ عَقِبَ الْوُضُوءِ وَلَوْ كَانَ وَقْتَ النَّهْيِ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ. [بَابُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ] فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ «تَفْضُلُ صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» وَالثَّلَاثَةُ فِي الصَّحِيحِ. وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ حَدِيثَ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ ذُكِرَ فِيهِ الْفَضْلُ الَّذِي بَيْنَ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ وَالصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفَضْلُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ، وَحَدِيثُ السَّبْعَةِ وَالْعِشْرِينَ ذُكِرَ فِيهِ صَلَاتُهُ مُنْفَرِدًا وَصَلَاتُهُ فِي الْجَمَاعَةِ، فَصَارَ الْمَجْمُوعُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ وَمَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ وَالصَّلَاةُ قَائِمًا ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ لِمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ فَإِنَّهُ يَكْتُبُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ وَكَذَلِكَ مَنْ تَطَوَّعَ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَقَدْ كَانَ يَتَطَوَّعُ فِي الْحَضَرِ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ مَا كَانَ يُعْمَلُ فِي الْإِقَامَةِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَكُنْ عَادَتُهُ الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ وَلَا الصَّلَاةُ قَائِمًا إذَا مَرِضَ أَوْ سَافَرَ فَصَلَّى قَاعِدًا أَوْ وَحْدَهُ فَهَذَا لَا يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ صَلَاةِ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ.

وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي " الصَّارِمِ الْمَسْلُولِ ": خَبَرُ التَّفْضِيلِ فِي الْمَعْذُورِ الَّذِي تُبَاحُ لَهُ الصَّلَاةُ وَحْدَهُ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا عَلَى النِّصْفِ وَمُضْطَجِعًا عَلَى النِّصْفِ» فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَعْذُورُ كَمَا فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَقَدْ أَصَابَهُمْ وَعْكٌ وَهُمْ يُصَلُّونَ قُعُودًا، فَقَالَ ذَلِكَ، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، أَنَّ «مَنْ صَلَّى قَاعِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ لَهُ أَجْرُ الْقَائِمِ» . وَالْجَمَاعَةُ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى، وَأَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ، وَلَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ الذَّهَابُ إلَّا بِمَشْيِهِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَعَلَ، فَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَفِي " الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ ": وَإِذَا قُلْنَا هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ، وَفِيهَا الْحَدِيثُ، فَهَؤُلَاءِ تَنَازَعُوا فِيمَا إذَا صَلَّى مُنْفَرِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي " شَرْحِ الْمُذْهَبِ " عَنْهُمْ. وَالثَّانِي: تَصِحُّ مَعَ إثْمِهِ بِالتَّرْكِ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ. وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ، وَلَوْ جَعَلَ الثَّانِيَةَ فَائِتَةً أَوْ غَيْرَهَا، وَالْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، وَفِي " الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ ": وَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ بِطَائِفَةٍ ثُمَّ صَلَّى بِطَائِفَةٍ أُخْرَى تِلْكَ الصَّلَاةَ بِعَيْنِهَا لِعُذْرٍ جَازَ ذَلِكَ لِلْعُذْرِ، مِثْلُ: صَلَاةِ الْخَوْفِ وَنَحْوِهَا، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ مَنْ بِالْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ بِلَا سَبَبِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَذَكَرَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ. وَمَنْ نَذَرَ مَتَى حَفِظَ الْقُرْآنَ صَلَّى مَعَ كُلِّ صَلَاةِ فَرِيضَةٍ أُخْرَى، وَحَفِظَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَيُكَفِّرُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وَلَا يُدْرِكُ الْجَمَاعَةَ إلَّا بِرَكْعَةٍ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ. وَأَصَحُّ الطَّرِيقَيْنِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَصِحُّ ائْتِمَامُ الْقَاضِي بِالْمُؤَدِّي،

وَبِالْعَكْسِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ ائْتِمَامُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ وَلَوْ اخْتَلَفَا، أَوْ كَانَ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ أَقَلَّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْبَرَكَاتِ وَغَيْرِهِ، وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ فِي صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ خَلْفَ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ رِوَايَتَيْنِ، وَاخْتَارَ الْجَوَازَ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: سُئِلَتْ عَنْ مَا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ شَاكًّا فِي وُجُوبِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ، فَهَلْ يَأْتَمُّ بِهِ الْمُفْتَرِضُ؟ قَالَ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَصِحُّ لِأَنَّ الشَّاكَّ يُؤَدِّيهَا بِنِيَّةِ الْوُجُوبِ إذَا احْتَاطَ، وَيُجْزِئُهُ عَنْ الْوَاجِبِ حَتَّى لَوْ تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ الْوُجُوبُ أَجْزَأَهُ كَمَا قُلْنَا فِي لَيْلَةِ الْإِغْمَاءِ وَإِنْ لَمْ نَقُلْ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ، وَكَمَا قُلْنَا فِيمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ مِنْ خَمْسٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا، وَكَمَا قُلْنَا فِيمَنْ شَكَّ فِي انْتِقَاضِ وُضُوئِهِ فَتَوَضَّأَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ صُوَرِ الشَّكِّ فِي وُجُوبِ طَهَارَةٍ، أَوْ صِيَامٍ؛ أَوْ زَكَاةٍ، أَوْ صَلَاةٍ، أَوْ نُسُكٍ، أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اعْتَقَدَ عَدَمَ الْوُجُوبِ وَأَدَّاهُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ وَعَكْسِهِ، كَمَا لَوْ اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ ثُمَّ تَبَيَّنَ عَدَمَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ خَرَجَ فِيهَا خِلَافٌ فِي الْحَقِيقَةِ نَفْلٌ، لَكِنَّهَا فِي اعْتِقَادِهِ وَاجِبَةٌ وَالْمَشْكُوكُ فِيهَا هِيَ فِي قَصْدِهِ وَاجِبَةٌ، وَالِاعْتِقَادُ مُتَرَدِّدٌ. وَالْمَأْمُومُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَدَثِ الْإِمَامِ حَتَّى قُضِيَتْ الصَّلَاةُ أَعَادَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَيَلْزَمُ الْإِمَامَ مُرَاعَاةُ الْمَأْمُومِ إنْ تَضَرَّرَ بِالصَّلَاةِ أَوَّلَ الْوَقْتِ أَوْ آخِرَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْقَدْرِ الْمَشْرُوعِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ غَالِبًا مَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ لِلْمَصْلَحَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَزِيدُ وَيُنْقِصُ أَحْيَانًا. وَالصَّلَاةُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَبِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ " بِأَلْفٍ، وَالصَّوَابُ فِي " الْأَقْصَى " بِخَمْسِمِائَةٍ. وَالْجِنُّ لَيْسُوا كَالْإِنْسِ فِي الْحَدِّ، وَالْحَقِيقَةِ، لَكِنَّهُمْ يُشَارِكُونَهُمْ فِي جِنْسِ التَّكْلِيفِ بِالْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ، وَالتَّحْلِيلِ، وَالتَّحْرِيمِ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ إذَا أُتِيَ بِالْمَصْرُوعِ وَعَظَ مَنْ صَرَعَهُ، وَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ، فَإِنْ انْتَهَى وَأَفَاقَ الْمَصْرُوعُ أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ أَنْ لَا يَعُودَ، وَإِنْ لَمْ يَأْتَمِرْ وَلَمْ يَنْتَهِ وَلَمْ يُفَارِقْهُ ضَرَبَهُ عَلَى أَنْ يُفَارِقَهُ، وَالضَّرْبُ فِي الظَّاهِرِ يَقَعُ عَلَى الْمَصْرُوعِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ فِي الْمَصْرُوعِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى مَنْ صَرَعَهُ، وَلِهَذَا لَا يَتَأَلَّمُ مَنْ ضَرَبَهُ وَيَصْحُو. وَلَا يُقَدَّمُ فِي الْإِمَامَةِ بِالنَّسَبِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ. وَيَجِبُ

تَقْدِيمُ مَنْ قَدَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَوْ مَعَ شَرْطِ الْوَاقِفِ بِخِلَافِهِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى شَرْطٍ يُخَالِفُ شَرْطَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذَا كَانَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ مُعَادَاةٌ مِنْ جِنْسِ مُعَادَاةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ أَوْ الْمَذَاهِبِ لَمْ يَنْبَغِ أَنْ يَؤُمَّهُمْ بِالصَّلَاةِ جَمَاعَةً؛ لِأَنَّهَا لَا تَتِمُّ إلَّا بِالِائْتِلَافِ، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ» ، وَإِذَا فَعَلَ الْإِمَامُ مَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ يَتْبَعُهُ الْمَأْمُومُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَرَاهُ، مِثْلَ: الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ، وَوَصْلِ الْوِتْرِ، وَإِذَا ائْتَمَّ مَنْ يَرَى الْقُنُوتَ بِمَنْ لَا يَرَاهُ تَبِعَهُ فِي تَرْكِهِ. وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالْفَسَقَةِ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الصَّلَاةِ خَلْفَ غَيْرِهِمْ، وَتَصِحُّ إمَامَةُ مَنْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ يَعْجَزُ عَنْ إزَالَتِهَا بِمَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ، وَلَوْ تَرَكَ الْإِمَامُ رُكْنًا يَعْتَقِدُهُ الْمَأْمُومُ وَلَا يَعْتَقِدُهُ الْإِمَامُ صَحَّتْ صَلَاتُهُ خَلْفَهُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ، وَاخْتِيَارُ الْمَقْدِسِيَّ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَوْ فَعَلَ الْإِمَامُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ عِنْدَ الْمَأْمُومِ دُونَهُ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ صَحَّتْ صَلَاتُهُ خَلْفَهُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنَّ الرِّوَايَاتِ الْمَنْقُولَةَ عَنْ أَحْمَدَ لَا تُوجِبُ اخْتِلَافًا وَإِنَّمَا ظَوَاهِرُهَا أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ يُقْطَعُ فِيهِ بِخَطَإِ الْمُخَالِفِ تَجِبُ الْإِعَادَةُ، وَمَا لَا يُقْطَعُ فِيهِ بِخَطَإِ الْمُخَالِفِ، لَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ السُّنَّةُ، وَالْآثَارُ، وَقِيَاسُ الْأُصُولِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي تَوْلِيَةُ الْفَاسِقِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْدِمَ الْعَامِّيُّ عَلَى فِعْلٍ لَا يَعْلَمُ جَوَازَهُ وَيُفَسَّقُ بِهِ إنْ كَانَ مِمَّا يُفَسَّقُ بِهِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَتَصِحُّ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَنَحْوِهَا قُدَّامَ الْإِمَامِ لِعُذْرٍ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ مَنْ تَأَخَّرَ بِلَا عُذْرٍ لَهُ، فَلَمَّا أَذَّنَ جَاءَ فَصَلَّى قُدَّامَهُ عُزِرَ، وَتَصِحُّ صَلَاةُ الْفَذِّ لِعُذْرٍ، وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ إلَّا مَوْقِفًا خَلْفَ الصَّفِّ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقِفَ وَحْدَهُ وَلَا يَجْذِبُ مَنْ يُصَافِّهِ لِمَا فِي الْجَذْبِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَجْذُوبِ، فَإِنْ كَانَ الْمَجْذُوبُ يُطِيعُهُ قَائِمًا أَفْضَلُ لَهُ، وَلِلْمَجْذُوبِ الِاصْطِفَافُ مَعَ بَقَاءِ فُرْجَةٍ أَوْ وُقُوفِ الْمُتَأَخِّرِ وَحْدَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ حَضَرَ اثْنَانِ وَفِي الصَّفِّ فُرْجَةٌ، فَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ: وُقُوفُهُمَا جَمِيعًا، أَوْ سَدُّ أَحَدِهِمَا الْفُرْجَةَ وَيَنْفَرِدُ الْآخَرُ؟ رَجَّحَ أَبُو الْعَبَّاسِ الِاصْطِفَافَ مَعَ بَقَاءِ الْفُرْجَةِ لِأَنَّ سَدَّ

باب صلاة أهل الأعذار

الْفُرْجَةِ مُسْتَحَبٌّ وَالِاصْطِفَافُ وَاجِبٌ، وَإِذَا رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ، ثُمَّ دَخَلَ الصَّفَّ بَعْدَ اعْتِدَالِ الْإِمَامِ كَانَ ذَلِكَ سَائِغًا، وَمَنْ أَخَّرَ الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ مَعَ إمْكَانِهِ حَتَّى قَضَى الْقِيَامَ، أَوْ كَانَ الْقِيَامُ مُتَّسَعًا لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَلَمْ يَقْرَأْهَا؛ فَهَذَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَعَلَيْهِ عِنْدَهُ أَنْ يَقْرَأَ، وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْ الرُّكُوعِ، وَإِنَّمَا تَسْقُطُ قِرَاءَتُهَا عِنْدَهُ عَنْ الْمَسْبُوقِ خَاصَّةً، فَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَرْكَعَ مَعَ الْإِمَامِ وَلَا يُتِمُّ الْقِرَاءَةَ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ، وَالْمَرْأَةُ إذَا كَانَ مَعَهَا امْرَأَةٌ أُخْرَى تُصَافِفُهَا كَانَ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تَقِفَ مَعَهَا وَكَانَ حُكْمُهَا إنْ لَمْ تَقِفْ مَعَهَا حُكْمُ الرَّجُلِ الْمُنْفَرِدِ عَنْ صَفِّ الرِّجَالِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَحَيْثُ صَحَّتْ الصَّلَاةُ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ كُرِهَتْ إلَّا لِعُذْرٍ. وَالْمَأْمُومُ إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ مَا يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ وَالِاسْتِطْرَاقَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، إذَا كَانَتْ لِعُذْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، بَلْ نَصُّ أَحْمَدُ وَغَيْرِهِ. وَيُنْشَأُ مَسْجِدٌ إلَى جَنْبِ آخَرَ، إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ، وَلَمْ يَقْصِدْ الضَّرَرَ، فَإِنْ قَصَدَ الضَّرَرَ أَوْ لَا حَاجَةَ فَلَا يُنْشَأُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، نَقَلَهَا عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى، وَيَجِبُ هَدْمُهُ، وَقَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ فِيمَا بَنَى بِجِوَارِ جَامِعِ بَنِي أُمَيَّةَ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ حُضُورَ الْمَسْجِدِ إلَّا لِعُذْرٍ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَنُ وَالْآثَارُ، وَنَهَى عَنْ اتِّخَاذِهِ بَيْتًا مَقِيلًا، قَالَهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَارِثٍ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ النِّسَاءِ يَخْرُجْنَ فِي الْعِيدِ فِي زَمَانِنَا قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي هَذَا. انْتَهَى. وَبِهَذَا يُعْلَمُ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [بَابُ صَلَاةِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ] مَتَى عَجَزَ الْمَرِيضُ عَنْ الْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ سَقَطَتْ عَنْهُ الصَّلَاةُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِيمَاءُ بِطَرَفِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَيُكْرَهُ إتْمَامُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُعْجِبُنِي، وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ إذَا صَلَّى أَرْبَعًا أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي الْإِجْزَاءِ، وَتَوَقُّفُهُ عَنْ الْقَوْلِ بِالْإِجْزَاءِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ يُتِمُّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّفَرِ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي مُخَالَفَةِ ذَلِكَ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَيَجُوزُ قَصْرُ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ مَا يُسَمَّى سَفَرًا سَوَاءٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلَا يَتَقَدَّرُ

عَدُّهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الظَّاهِرِيَّةِ، وَنَصَرَهُ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " فِيهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُبَاحًا أَوْ مُحَرَّمًا، وَنَصَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي مَوْضِعٍ، وَقَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَسَوَاءٌ نَوَى إقَامَةَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، أَوْ لَا، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَقَرَّرَ أَبُو الْعَبَّاسِ قَاعِدَةً نَافِعَةً وَهِيَ: أَنَّ مَا أَطْلَقَهُ الشَّارِعُ بِعَمَلٍ يُطْلَقُ مُسَمَّاهُ، وَوُجُودُهُ، لَمْ يَجُزْ تَقْدِيرُهُ وَتَحْدِيدُهُ بِمُدَّةٍ، فَلِهَذَا كَانَ الْمَاءُ قِسْمَيْنِ طَاهِرًا طَهُورًا، أَوْ نَجِسًا، وَلَا حَدَّ لِأَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ مَا لَمْ تَصِرْ مُسْتَحَاضَةً، وَلَا لِأَقَلِّ سِنِّهِ، وَأَكْثَرِهِ، وَلَا لِأَقَلِّ السَّفَرِ، أَمَّا خُرُوجُهُ إلَى بَعْضِ عِلْمِ أَرْضِهِ، وَخُرُوجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى قُبَاءَ فَلَا يُسَمَّى سَفَرًا وَلَوْ كَانَ بَرِيدًا؛ وَلِهَذَا لَا يَتَزَوَّدُ وَلَا يَتَأَهَّبُ لَهُ أُهْبَةً السَّفَرِ، هَذَا مَعَ قَصْرِهِ الْمُدَّةِ فَالْمَسَافَةُ الْقَرِيبَةُ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ سَفَرٌ، لَا الْبَعِيدَةُ فِي الْمُدَّةِ الْقَلِيلَةِ، وَلَا حَدَّ لِلدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ، فَلَوْ كَانَ أَرْبَعَةَ دَوَانِقَ أَوْ ثَمَانِيَةً خَالِصًا، أَوْ مَغْشُوشًا، قَلَّ غِشُّهُ أَوْ كَثُرَ، لَا دِرْهَمًا أَسْوَدَ عَمِلَ بِهِ فِي الزَّكَاةِ وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا تَأْجِيلَ فِي الدِّيَةِ، وَأَنَّهُ نَصُّ أَحْمَدَ فِيهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُؤَجِّلْهَا، وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ تَأْجِيلَهَا فَعَلَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ أَجَّلَهَا فَأَيُّهُمَا رَأَى الْإِمَامَ فَعَلَ، وَإِلَّا فَإِيجَابُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا يَسُوغُ. وَالْخُلْعُ فَسْخٌ مُطْلَقًا، وَالْكَفَّارَةُ فِي كُلِّ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَفُرُوعُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَذْكُورَةٌ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ فِي مَظَانِّهَا. وَيُوتِرُ الْمُسَافِرُ وَيَرْكَعُ سُنَّةَ الْفَجْرِ، وَيُسَنُّ تَرْكُهُ غَيْرَهُمَا، وَالْأَفْضَلُ لَهُ التَّطَوُّعُ فِي غَيْرِ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ، وَنَقَلَهُ بَعْضُهُمْ إجْمَاعًا. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ مِنْ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَيَجْمَعُ لِتَحْصِيلِ الْجَمَاعَةِ، وَلِلصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ مَعَ جَوَازِهَا فِيهِ خَوْفُ فَوَاتِ الْوَقْتِ، وَلِخَوْفٍ يُحْرَجُ فِي تَرْكِهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ قَالَ: أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِهِ. فَلَمْ يُعَلِّلْهُ بِمَرَضٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَأَوْسَعُ الْمَذَاهِبِ فِي الْجَمْعِ مَذْهَبُ أَحْمَدَ؛ فَإِنَّهُ جَوَّزَ الْجَمْعَ إذَا كَانَ لَهُ شُغْلٌ، كَمَا

باب اللباس

رَوَى النَّسَائِيّ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوَّلَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ نَصَّ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ بِالشُّغْلِ الَّذِي يُبِيحُ تَرْكَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَلَا مُوَالَاةَ فِي الْجَمْعِ فِي وَقْتِ الْأُولَى، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ نَصِّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي جَمْعِ الْمُضْطَرِّ إذَا صَلَّى إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، وَالْأُخْرَى فِي الْمَسْجِدِ، فَلَا بَأْسَ وَمِنْ نَصِّهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَالْمَرْوَزِيِّ: لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ. وَعَلَّلَهُ أَحْمَدُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ، وَيَجْمَعُ وَيَقْصُرُ بِمُزْدَلِفَةَ وَعَرَفَةَ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ، وَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي عِبَادَاتِهِ. وَيَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمُرْضِعِ إذَا كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهَا غَسْلُ الثَّوْبِ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَنَصَّ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ الْجَمْعُ أَيْضًا لِلطَّبَّاخِ، وَالْخَبَّازِ، وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ يَخْشَى فَسَادَ مَالِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ بِتَرْكِ الْجَمْعِ، وَلَا يُشْتَرَطُ لِلْقَصْرِ وَالْجَمْعِ نِيَّةٌ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ جَعْفَرٍ وَغَيْرُهُ، وَتَصِحُّ صَلَاةُ الْفَرْضِ عَلَى الرَّاحِلَةِ خَشْيَةَ الِانْقِطَاعِ عَنْ الرُّفْقَةِ أَوْ حُصُولِ ضَرَرٍ بِالْمَشْيِ، أَوْ تَبَرُّزٍ لِلْخَفَرِ، وَيُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي الطَّرِيقِ إذَا فَاتَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. [بَابُ اللِّبَاسِ] وَلُبْسُ الْحَرِيرِ حَيْثُ يَكُونُ سُدًى بِحَيْثُ يَكُونُ الْقُطْنُ، وَالْكَتَّانُ أَغْلَى قِيمَةً مِنْهُ، وَفِي تَحْرِيمِهِ إضْرَارٌ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ أَرْخَصُ عَلَيْهِمْ يُخَرَّجُ عَلَى وَجْهَيْنِ لِتَعَارُضِ لَفْظِ النَّصِّ، وَمَعْنَاهُ، كَالرِّوَايَتَيْنِ فِي إخْرَاجِ غَيْرِ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ قُوتًا لِذَلِكَ الْبَلَدِ، وَلَوْ كَانَ الظُّهُورُ لِلْحَرِيرِ وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ غَيْرِهِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ التَّحْرِيمُ: وَالْكَرَاهَةُ، وَالْإِبَاحَةُ. وَحَدِيثُ السِّيَرَاءِ وَالْقَسِّيّ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ مَا ظَهَرَ فِيهِ خُيُوطُ حَرِيرٍ أَوْ سُيُورٌ لَا بُدَّ أَنْ يُنْسَجَ مَعَ غَيْرِهَا مِنْ الْكَتَّانِ أَوْ الْقُطْنِ لِأَنَّ مَا فِيهِ الْحَرِيرُ، فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَهَا لِظُهُورِ الْحَرِيرِ فِيهَا وَلَمْ يَسْأَلْ هَلْ وَزْنُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ أَكْثَرُ أَمْ لَا مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ أَنَّهُ أَقَلُّ فَإِنْ اسْتَوَيَا فَالْأَشْبَهُ بِكَلَامِ أَحْمَدَ التَّحْرِيمُ، وَالثِّيَابُ الْقَسِّيَّةُ: ثِيَابٌ مَخْطُوطَةٌ بِحَرِيرٍ.

قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ": قَالَ عَاصِمٌ: عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قُلْنَا لِعَلِيٍّ: مَا الْقَسِّيَّةُ؟ قَالَ: ثِيَابٌ أَتَتْنَا مِنْ الشَّامِ أَوْ مِنْ مِصْرَ مُضَلَّعَةٌ فِيهَا حَرِيرٌ كَأَمْثَالِ الْأُتْرُجِّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هِيَ ثِيَابٌ يُؤْتَى بِهَا مِنْ مِصْرَ، فِيهَا حَرِيرٌ. فَقَدْ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهَا ثِيَابٌ فِيهَا حَرِيرٌ وَلَيْسَتْ حَرِيرًا مُصْمَتًا. وَهَذَا هُوَ الْمُلْحَمُ، وَالْخَزُّ أَخَفُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُدَاهُ مِنْ حَرِيرٍ، وَالسُّدَى أَيْسَرُ مِنْ اللُّحْمَةِ، وَهُوَ الَّذِي بَيَّنَ ابْنِ عَبَّاسٍ جَوَازَهُ بِقَوْلِهِ: فَأَمَّا الْعِلْمُ، وَالْحَرِيرُ، وَالسُّدَى لِثَوْبٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَزَّ ثَخِينٌ، وَالْحَرِيرُ مَسْتُورٌ بِالْوَبَرِ فِيهِ، فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْحَشْوِ. وَالْخَزُّ اسْمٌ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: لِلْوَبَرِ الَّذِي يُنْسَجُ مَعَ الْحَرِيرِ وَهُوَ وَبَرُ الْأَرْنَبِ، وَاسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْحَرِيرِ وَالْوَبَرِ، وَاسْمُ لِرَدِيءِ الْحَرِيرِ. فَالْأَوَّلُ، وَالثَّانِي: حَلَالٌ، وَالثَّالِثُ: حَرَامٌ، وَجَعَلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُلْحَمَ، وَالْقَسِّيَّ، وَالْخَزَّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَجَعْلُ التَّحْرِيمِ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ حَرَّمَ الْمُلْحَمَ، وَالْقَسِّيَّ، وَالْإِبَاحَةُ قَوْلُ ابْنِ الْبَنَّاءِ؛ لِأَنَّهُ أَبَاحَ الْخَزَّ، وَهَذَا لَا يَصْلُحُ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: وَيُلْبَسُ الْخَزِّ، وَلَا يُلْبَسُ الْمُلْحَمُ، وَلَا الدِّيبَاجُ. وَأَمَّا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَقُدَمَاءِ الْأَصْحَابِ، فَإِبَاحَةُ الْخَزِّ دُونَ الْمُلْحَمِ، وَغَيْرِهِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي الْخَزِّ خِلَافًا فَقَدْ غَلِطَ. وَأَمَّا لُبْسُ الرِّجَالِ الْحَرِيرَ: كَالْكُلُوبَةِ، وَالْقَبَاءِ: فَحَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى الْأَجْنَادِ وَغَيْرِهِمْ، لَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي لُبْسِهِ عِنْدَ الْقِتَالِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَظْهَرُهُمَا الْإِبَاحَةُ، وَأَمَّا إنْ احْتَاجَ إلَى الْحَرِيرِ فِي السِّلَاحِ وَلَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فَهَذَا يَجُوزُ بِلَا نِزَاعٍ، وَأَمَّا إلْبَاسُهُ الصِّبْيَانَ الَّذِينَ دُونَ الْبُلُوغِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ أَظْهَرُهُمَا: التَّحْرِيمُ. وَلُبْسُ الْفِضَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ لَفْظٌ عَامٌّ بِالتَّحْرِيمِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ مِنْهُ إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَإِذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِإِبَاحَةِ خَاتَمِ الْفِضَّةِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا

عَلَى إبَاحَةِ ذَلِكَ، وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ، وَمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْإِبَاحَةِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ فِي تَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ، وَتُبَاحُ الْمِنْطَقَةُ الْفِضَّةُ فِي أَظْهَرْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ التركاشي، وَغِشَاءُ الْقَوْسِ، وَالنُّشَّابُ وَالْجَوْشَنُ، والقرقل، وَالْخُوذَةُ، وَكَذَلِكَ حِلْيَةُ الْمِهْمَازِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِرُكُوبِ الْخَيْلِ، وَالْكَلَالِيبُ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا أَوْلَى بِالْإِبَاحَةِ مِنْ الْخَاتَمِ فَإِنَّ الْخَاتَمَ يُتَّخَذُ لِلزِّينَةِ، وَهَذِهِ لِلْحَاجَةِ وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِالسَّيْرِ لَيْسَتْ مُفْرَدَةً: كَالْخَاتَمِ وَلَا حَدَّ لِلْمُبَاحِ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُحَرِّمْ لِبَاسَ الْفِضَّةِ عَلَى الرِّجَالِ وَعَلَى النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَى الرِّجَالِ لُبْسَ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ، وَحَرَّمَ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالرُّخْصَةُ فِي اللِّبَاسِ أَوْسَعُ مِنْ الْآنِيَةِ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُمْ إلَى اللِّبَاسِ أَشَدُّ، وَتَنَازُعُ الْعُلَمَاءِ فِي يَسِيرِ الذَّهَبِ فِي اللِّبَاسِ وَالسِّلَاحِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: أَحَدُهَا: لَا تُبَاحُ. وَالثَّانِي: تُبَاحُ فِي السَّيْفِ خَاصَّةً. وَالثَّالِثُ: تُبَاحُ فِي السِّلَاحِ. وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ فِي سَيْفِهِ مِسْمَارٌ مِنْ ذَهَبٍ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُبَاحُ يَسِيرُ الذَّهَبِ فِي اللِّبَاسِ وَالسِّلَاحِ، فَيُبَاحُ طِرَازُ الذَّهَبِ إذَا كَانَ أَرْبَعَةَ أَصَابِعِ فَمَا دُونَهَا، وَخَزُّ الْقَبَّانِ وَحِيلَةُ الْقَوْسِ كَالسَّرْجِ وَالْبُرْدَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَحَدِيثُ: «لَا يُبَاحُ مِنْ الذَّهَبِ وَلَوْ خَزُّ بِصِيصَةٍ» وَخَزُّ بِصِيصَةٍ: عَيْنُ الْجَرَادَةِ؛ مَحْمُولٌ عَلَى الذَّهَبِ الْمُفْرَدِ: كَالْخَاتَمِ وَنَحْوِهِ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ. وَجَعَلَ الْقَاضِي، وَابْنُ عَقِيلٍ تَشَبُّهَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءٍ، وَالنِّسَاءِ بِالرِّجَالِ مِنْ قِسْمِ الْمَكْرُوهِ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا التَّحْرِيمَ رِوَايَةً، وَمَا كَانَ مِنْ لُبْسِ الرِّجَالِ مِثْلُ: الْعِمَامَةِ، وَالْخُفِّ، الْقَبَاءِ الَّذِي لِلرِّجَالِ، وَالثِّيَابِ الَّتِي تُبْدِي مَقَاطِعَ خَلْقِهَا، وَالثَّوْبِ الرَّقِيقِ الَّذِي لَا يَسْتُرُ الْبَشَرَةَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تُنْهَى عَنْهُ، وَعَلَى وَلِيِّهَا كَأَبِيهَا وَزَوْجِهَا أَنْ يَنْهَاهَا عَنْ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْعَمَائِمُ الَّتِي تَلْبَسُهَا النِّسَاءُ عَلَى رُءُوسِهِنَّ حَرَامٌ بِلَا رَيْبٍ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَقَدْ سُئِلَ عَنْ لُبْسِ الْقَبَاءِ. وَالنَّظَرِيُّ لَيْسَ لَهُ التَّشْبِيهُ فِي لِبَاسِهِ بِلِبَاسِ أَعْدَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَاللِّبَاسُ وَالزِّيُّ الَّذِي يَتَّخِذُهُ بَعْضُ النُّسَّاكِ مِنْ الْفُقَرَاءِ، وَالصُّوفِيَّةِ، وَالْفُقَهَاءِ، وَغَيْرِهِمْ بِحَيْثُ يَصِيرُ شِعَارًا فَارِقًا كَمَا أُمِرَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالتَّمْيِيزِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي شُعُورِهِمْ وَمَلَابِسِهِمْ، فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَلْ يُشْرَعُ ذَلِكَ اسْتِحْبَابًا لِتَمَيُّزِ

باب صلاة الجمعة

الْفَقِيرِ وَالْفَقِيهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ طَائِفَةً مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ اسْتَحَبُّوا ذَلِكَ، وَأَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ لَا يَسْتَحِبُّونَ ذَلِكَ بَلْ قَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّمْيِيزِ عَنْ الْأُمَّةِ وَبِثَوْبِ الشُّهْرَةِ. أَقُولُ هَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ فِي كَرَاهَتِهِ وَإِبَاحَتِهِ وَاسْتِحْبَابِهِ فَإِنَّهُ يُجْمَعُ مِنْ وَجْهٍ وَيُفَرَّقُ مِنْ وَجْهٍ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إنَّ لُبْسَ الْمُرَقَّعَاتِ، وَالْمَصْبَغَاتِ، وَالصُّوفِ مِنْ الْعَبَاءَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: فَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ: مِنْهُمْ مَنْ يَكْرَهُ ذَلِكَ مُطْلَقًا: إمَّا لِكَوْنِهِ بِدْعَةً، وَإِمَّا لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الدِّينِ. وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَحَبَّهُ بِحَيْثُ يَلْزَمُهُ وَيَمْتَنِعُ مِنْ تَرْكِهِ، وَهُوَ حَالُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى الْخِرْقَةِ وَاللُّبْسَةِ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ وَالْفِعْلَيْنِ خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ جَائِزٌ: كَلُبْسِ غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُرَقِّعَ الرَّجُلُ ثَوْبَهُ لِلْحَاجَةِ، كَمَا رَقَّعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثَوْبَهُ، وَعَائِشَةُ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ السَّلَفِ، وَكَمَا لَبِسَ قَوْمٌ الصُّوفَ لِلْحَاجَةِ، وَيُلْبَسُ أَيْضًا لِلتَّوَاضُعِ وَالْمَسْكَنَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ تَرَكَ جَيِّدَ اللِّبَاسِ وَهُوَ يَقْدِرُ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَأَمَّا تَقْطِيعُ الثَّوْبِ الصَّحِيحِ وَتَرْقِيعُهُ، فَهَذَا فَسَادٌ وَشُهْرَةٌ. وَكَذَلِكَ تَعَمُّدُ صَبْغِ الثَّوْبِ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ، أَوْ حَكُّ الثَّوْبِ لِيَظْهَرَ التَّحْتَانِيُّ، أَوْ الْمُغَالَاةُ فِي الصُّوفِ الرَّفِيعِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ إفْسَادُ الْمَالِ وَنَقْصُ قِيمَتِهِ أَوْ فِيهِ إظْهَارُ التَّشَبُّهِ بِلِبَاسِ أَهْلِ التَّوَاضُعِ وَالْمَسْكَنَةِ مَعَ ارْتِفَاعِ قِيمَتِهِ وَسِعْرِهِ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ النِّفَاقِ وَالتَّلْبِيسِ، فَهَذَانِ النَّوْعَانِ فِيهِمَا إرَادَةُ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ، أَوْ الْفَسَادِ، وَالدَّارُ الْآخِرَةُ لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ النِّفَاقِ، وَأَيْضًا فَالتَّقْيِيدُ بِهَذِهِ اللُّبْسَةِ بِحَيْثُ يُكْرَهُ اللَّابِسُ غَيْرَهَا أَوْ يَكْرَهُ أَصْحَابُهُ أَنْ لَا يَلْبَسُوا غَيْرَهَا، هُوَ أَيْضًا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُطَوِّلَ الْقَمِيصَ وَالسَّرَاوِيلَ، وَسَائِرَ اللِّبَاسِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ ". [بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ] ِ وَتَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ أَقَامَ فِي غَيْرِ بِنَاءٍ كَالْخِيَامِ، وَبُيُوتِ الشِّعْرِ وَنَحْوِهَا

وَهُوَ أُخِذَ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَى الْأَزَجِيُّ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ لَيْسَ عَلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ جُمُعَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْتَقِلُونَ فَأَسْقَطَهَا عَنْهُمْ، وَعَلَّلَ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُسْتَوْطِنِينَ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يُشْتَرَطُ مَعَ إقَامَتِهِمْ فِي الْخِيَامِ وَنَحْوِهَا أَنْ يَكُونُوا يَزْرَعُونَ كَمَا يَزْرَعُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَلْزَمَ الْجُمُعَةُ مُسَافِرًا لَهُ الْقَصْرُ تَبَعًا لِلْمُقِيمِينَ، وَتَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِثَلَاثَةٍ: وَاحِدٌ يَخْطُبُ وَاثْنَانِ يَسْتَمِعَانِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ. وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ يُقَالُ بِوُجُوبِهَا عَلَى الْأَرْبَعِينَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ وُجُوبُهَا عَلَى مَنْ دُونَهُمْ، وَتَصِحُّ مِمَّنْ دُونَهُمْ؛ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ إلَى أَعْلَى الْفَرْضَيْنِ: كَالْمَرِيضِ، بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ فَإِنَّ فَرْضَهُ رَكْعَتَانِ وَلَا يَكْفِي فِي الْخُطْبَةِ ذَمُّ الدُّنْيَا وَذِكْرُ الْمَوْتِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مُسَمَّى الْخُطْبَةِ عُرْفًا، وَلَا تَحْصُلُ بِاخْتِصَارٍ يَفُوتُ بِهِ الْمَقْصُودُ، وَيَجِبُ فِي الْخُطْبَةِ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَوْجَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَتَرَدَّدَ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخُطْبَةِ. قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الْأَشْبَهُ أَنْ تَجِبَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا وَلَا تَجِبُ مُفْرَدَةً، لِقَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ: الدُّعَاءُ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى تُصَلِّيَ عَلَى نَبِيِّك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَتُقَدَّمُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الدُّعَاءِ لِوُجُوبِ تَقْدِيمِهِ عَلَى النَّفْسِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ بِتَقْوَى اللَّهِ فَالْوَاجِبُ أَمَّا مَعْنَى ذَلِكَ وَهُوَ الْأَشْبَهُ مِنْ أَنْ يُقَالَ الْوَاجِبُ لَفْظُ التَّقْوَى. وَمَنْ أَوْجَبَ لَفْظَ التَّقْوَى فَقَدْ يَحْتَجُّ بِأَنَّهَا جَاءَتْ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] وَلَيْسَتْ كَلِمَةٌ أَجْمَعَ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ مِنْ كَلِمَةِ التَّقْوَى، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] : أَجْمَعَ النَّاسُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصَّلَاةِ. وَقَدْ قِيلَ فِي الْخُطْبَةِ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي الْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ إذَا إنَّمَا تَقُولُهَا الْعَرَبُ فِيمَا لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، لَا فِيمَا يَحْتَمِلُ الْوُقُوعَ وَعَدَمَهُ؛ لِأَنَّ إذَا ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ الزَّمَانِ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الشَّرْطِ غَالِبًا وَالظَّرْفُ لِلْفِعْلِ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى الْفِعْلِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ ظَرْفًا وَالسُّنَّةُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ

باب صلاة العيدين

يُصَلِّيَ عَلَيْهِ سِرًّا كَالدُّعَاءِ، أَمَّا رَفْعُ الصَّوْتِ بِهَا قُدَّامَ بَعْضِ الْخُطَبَاءِ فَمَكْرُوهٌ، أَوْ مُحَرَّمٌ اتِّفَاقًا، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يُصَلِّي عَلَيْهِ سِرًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَسْكُتُ، وَدُعَاءُ الْإِمَامِ بَعْدَ صُعُودِهِ لَا أَصْلَ لَهُ، وَيُكْرَهُ لِلْإِمَامِ رَفْعُ يَدَيْهِ حَالَ الدُّعَاءِ فِي الْخُطْبَةِ وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إذَا دَعَا. وَأَمَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ فَرَفَعَ يَدَيْهِ لَمَّا اسْتَسْقَى عَلَى الْمِنْبَرِ. وَيَقْرَأُ فِي أُولَى فَجْرِ الْجُمُعَةِ أَلَمْ السَّجْدَةَ، وَفِي الثَّانِيَةِ {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] وَيُكْرَهُ مُدَاوَمَتُهُ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَيُكْرَهُ تَحَرِّي سَجْدَةٍ غَيْرِهَا، وَالسُّنَّةُ إكْمَالُ السَّجْدَةِ، وَ {هَلْ أَتَى} [الإنسان: 1] . وَصَلَاةُ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْجُمُعَةِ حَسَنَةٌ مَشْرُوعَةٌ، وَلَا يُدَاوِمُ عَلَيْهَا إلَّا لِمَصْلَحَةٍ وَيَحْرُمُ تَخَطِّي رِقَابِ النَّاسِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَخَطَّى النَّاسَ لِيَدْخُلَ فِي الصَّفِّ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ فُرْجَةٌ، لَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَا غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الظُّلْمِ وَالتَّعَدِّي لِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا فَرَشَ مُصَلَّى وَلَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلِغَيْرِهِ رَفْعُهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَإِذَا وَقَعَ الْعِيدُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَاجْتَزَى بِالْعِيدِ وَصَلَّى ظُهْرًا جَازَ إلَّا لِلْإِمَامِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ. وَأَمَّا الْقُصَّاصُ الَّذِينَ يَقُومُونَ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ ثُمَّ يَسْأَلُونَ فَهَؤُلَاءِ مَنْعُهُمْ مَنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ، فَإِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ وَيَتَخَطَّوْنَ النَّاسَ وَيَشْغَلُونَ عَمَّا يُشْرَعُ فِي الصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ لَا سِيَّمَا إنْ قَصُّوا أَوْ سَأَلُوا، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الشَّنِيعَةِ الَّتِي يَنْبَغِي إزَالَتُهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَيَنْبَغِي لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنْ يَمْنَعُوا مِنْ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ كُلِّهَا فَإِنَّهُمْ مُتَصَدُّونَ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. [بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ] وَهِيَ فَرْضٌ عَمَلِيٌّ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَدْ يُقَالُ بِوُجُوبِهَا عَلَى النِّسَاءِ، وَمِنْ شَرْطِهَا الِاسْتِيطَانُ وَعَدَدُ الْجُمُعَةِ، وَيَفْعَلُهَا الْمُسَافِرُ وَالْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ تَبَعًا، وَلَا يُسْتَحَبُّ قَضَاؤُهَا لِمَنْ فَاتَتْهُ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَسْتَفْتِحُ

خُطْبَتَهَا بِالْحَمْدِ لِلَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ افْتَتَحَ خُطْبَةً بِغَيْرِهَا. وَالتَّكْبِيرُ فِي عِيدِ الْأَضْحَى مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقٍ، وَكَذَا مَشْرُوعٌ فِي عِيدِ الْفِطْرِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمْ خِلَافُهُ، وَالتَّكْبِيرُ فِيهِ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَالتَّكْبِيرُ فِيهِ آكَدُ مِنْ جِهَةِ أَمْرِ اللَّهِ بِهِ وَالتَّكْبِيرُ أَوَّلَهُ مِنْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَآخِرَهُ انْقِضَاءُ الْعِيدِ، وَهُوَ فَرَاغُ الْإِمَامِ مِنْ الْخُطْبَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالتَّكْبِيرُ فِي عِيدِ النَّحْرِ آكَدُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُشْرَعُ أَدْبَارَ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعِيدُ النَّحْرِ أَفْضَلُ مِنْ عِيدِ الْفِطْرِ، وَمِنْ سَائِرِ الْأَيَّامِ. وَالِاسْتِغْفَارُ الْمَأْثُورُ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ، وَقَوْلُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ الْإِكْرَامِ، هَلْ يُقَدَّمُ عَلَى التَّكْبِيرِ وَالتَّلْبِيَةِ أَمْ يُقَدَّمَانِ عَلَيْهِ كَمَا يُقَدَّم عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ؟ وَبَيَّضَ لِذَلِكَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَحْمَدَ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ، وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَآثَارُ السَّلَفِ أَنَّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى الصَّلَاةِ، أَوْ الْقِرَاءَةِ وَسَمَاعِهَا، أَوْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ دُعَائِهِ، أَوْ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ شُرِعَ اجْتِمَاعٌ لَهُ عَلَى وَجْهِ الْمُدَاوَمَةِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَدُورُ بِدَوَرَانِ الْأَوْقَاتِ: كَالْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَالْحَجِّ، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، أَوْ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْأَسْبَابِ: كَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَالْكُسُوفِ، وَالْآيَاتِ، وَالْقُنُوتِ فِي النَّوَازِلِ. وَالْمُؤَقَّتُ فَرْضُهُ وَنَفْلُهُ إمَّا أَنْ يَعُودَ بِعَوْدِ الْيَوْمِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى عَمَلَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ: كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَسُنَنِهَا: الرَّوَاتِبِ، وَالْوِتْرِ، وَالْأَذْكَارِ، وَالْأَدْعِيَةِ الْمَشْرُوعَةِ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ، وَإِمَّا أَنْ يَعُودَ بِعَوْدِ الْأُسْبُوعِ: كَالْجُمُعَةِ، وَصَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَالْخَمِيسِ، وَإِمَّا أَنْ يَعُودَ بِعَوْدِ الشَّهْرِ: كَصِيَامِ أَيَّامِ الْبِيضِ، أَوْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَالذِّكْرِ الْمَأْثُورِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَعُودَ بِعَوْدِ الْحُلُولِ: كَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالْعِيدَيْنِ، وَالْحَجِّ. وَالْمُتَسَبَّبُ مَا لَهُ سَبَبٌ وَلَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَحْدُودٌ: كَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَالْكُسُوفِ، وَقُنُوتِ النَّوَازِلِ. وَمَا لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ الْجَمَاعَةُ: كَصَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ، وَصَلَاةِ التَّوْبَةِ، وَصَلَاةِ الْوُضُوءِ،

باب صلاة الكسوف

وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ نَوْعُهُ فِي بَابِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَالْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا لَمْ يُسَنَّ لَهُ الِاجْتِمَاعُ الْمُعْتَادُ الدَّائِمِ: كَالتَّعْرِيفِ فِي الْأَمْصَارِ، وَالدُّعَاءِ الْمُجْتَمَعِ عَلَيْهِ عَقِبَ الْفَجْرِ، وَالْعَصْرِ، وَالصَّلَاةِ، وَالتَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ فِي جَمَاعَةٍ، وَالِاجْتِمَاعِ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِهِ، أَوْ سَمَاعِ الْعِلْمِ، وَالْحَدِيثِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يُكْرَهُ الِاجْتِمَاعُ لَهَا مُطْلَقًا، وَلَمْ يُسَنَّ مُطْلَقًا، بَلْ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا بِدْعَةٌ فَيُسْتَحَبُّ أَحْيَانَا، وَيُبَاحُ أَحْيَانًا وَتُكْرَهُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى الدُّعَاءِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالذِّكْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فِي الْمُدَاوَمَةِ أَمْرٌ عَظِيمٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ. [بَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ] وَيُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَلَوْ نَهَارًا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَتُصَلَّى صَلَاةُ الْكُسُوفِ لِكُلِّ آيَةٍ كَالزَّلْزَلَةِ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلُ مُحَقِّقِي أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَلَا كُسُوفَ إلَّا فِي ثَامِنٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ تَاسِعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَا خُسُوفَ إلَّا فِي إبْدَارِ الْقَمَرِ، وَالتَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَسْأَلَةِ الْيَمِينِ بِهِ وَالتَّوَسُّلِ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَطَاعَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ مِمَّا هُوَ فِعْلُهُ، أَوْ أَفْعَالُ الْعِبَادِ الْمَأْمُورُ بِهَا فِي حَقِّهِ مَشْرُوعٌ إجْمَاعًا وَهُوَ مِنْ الْوَسِيلَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي قَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] . وَقَصْدُ الْقَبْرِ لِلدُّعَاءِ عِنْدَهُ رَجَاءَ الْإِجَابَةِ بِدْعَةٌ لَا قُرْبَةٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: أَنَا فِي بَرَكَةِ فُلَانٍ وَتَحْتَ نَظَرِهِ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ نَظَرَهُ وَبَرَكَتَهُ مُسْتَقِلَّةٌ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ، وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، فَكَذَبَ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ فُلَانًا دَعَا لِي فَانْتَفَعْت بِدُعَائِهِ، أَوْ أَنَّهُ عَلَّمَنِي وَأَدَّبَنِي فَأَنَا فِي بَرَكَةِ مَا انْتَفَعْت بِهِ مِنْ تَعْلِيمِهِ وَتَأْدِيبِهِ فَصَحِيحٌ. وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ يَجْلِبُ الْمَنَافِعَ، وَيَدْفَعُ الْمَضَارَّ، أَوْ مُجَرَّدُ صَلَاحِهِ وَدِينِهِ وَقُرْبِهِ مِنْ اللَّهِ يَنْفَعُنِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَكَذَبَ.

كتاب الجنائز

[كِتَابُ الْجَنَائِزِ] ِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَابْتِدَاءِ السَّلَامِ، وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّصُّ وُجُوبُ ذَلِكَ، فَيُقَالُ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ. الْأَدْيَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ عَلَى الْعَبْدِ لَيْسَ أَمْرًا عَامًّا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا هُوَ أَيْضًا مَنْفِيًّا عَنْ كُلِّ أَحَدٍ، بَلْ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْأَدْيَانُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْرَضُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا الَّتِي أَمَرَنَا أَنْ نَسْتَعِيذَ فِي صَلَاتِنَا مِنْهَا، وَوَقْتُ الْمَوْتِ يَكُونُ الشَّيْطَانُ أَحْرَصَ مَا يَكُونُ عَلَى إغْوَاءِ بَنِي آدَمَ. وَعَمَلُ الْقَلْبِ مِنْ التَّوَكُّلِ، وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، وَالصَّبْرِ وَاجِبٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا يَلْزَمُ الرِّضَا بِمَرَضٍ وَفَقْرٍ وَعَاهَةٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَالصَّبْرُ تُنَافِيهِ الشَّكْوَى، وَالصَّبْرُ الْجَمِيلُ تُنَافِيهِ الشَّكْوَى إلَى الْمَخْلُوقِ لَا إلَى الْخَالِقِ بَلْ هِيَ مَطْلُوبَةٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ. وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ وَاحِدًا، فَأَيُّهُمَا غَلَبَ هَلَكَ صَاحِبُهُ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ مَنْ غَلَبَ خَوْفُهُ وَقَعَ فِي نَوْعٍ مِنْ الْيَأْسِ، وَمَنْ غَلَبَ رَجَاؤُهُ وَقَعَ فِي نَوْعٍ مِنْ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ. وَتُعْتَبَرُ الْمَصْلَحَةُ فِي الْعِبَادَةِ الدِّعَائِيَّةِ، وَلَا يُشْهَدُ بِالْجَنَّةِ إلَّا لِمَنْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ. وَتَوَاطُؤُ الرُّؤْيَا لِتَوَاطُؤِ الشَّهَادَاتِ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَقُومُ بِأَمْرِ الْمَيِّتِ تَعَيَّنَ

عَلَيْهِ وَقَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَتُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَلَا تَجِبُ وَهُوَ ظَاهِرُ نَقْلِ أَبِي طَالِبٍ، وَيُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ، وَهُوَ وَجْهٌ فِي الْمَذْهَبِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْقُنُوتِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمَنْ صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ فَلَا يُعِيدُهَا إلَّا لِسَبَبٍ مِثْلُ أَنْ يُعِيدَ غَيْرُهُ الصَّلَاةَ فَيُعِيدَهَا مَعَهُ أَوْ يَكُونَ هُوَ أَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ مِنْ الطَّائِفَةِ الَّتِي صَلَّتْ أَوَّلًا، فَيُصَلِّي بِهِمْ وَيُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ إلَى شَهْرٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ. صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ وَهِيَ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ وَهِيَ وَاقِفَةٌ فَهَذَا لَهُ مَأْخَذَانِ الْأَوَّلُ اسْتِقْرَارُ الْمَحَلِّ فَقَدْ يُخَرَّجُ عَلَى الصَّلَاةِ فِي السَّفِينَةِ وَعَلَى الرَّاحِلَةِ مَعَ اسْتِيفَاءِ الْفَرَائِضِ وَإِمْكَانِ الِانْتِقَالِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالثَّانِي اشْتِرَاطُ مُحَاذَاةِ الْمُصَلِّي لِلْجِنَازَةِ، فَلَوْ كَانَتْ أَعْلَى مِنْ رَأْسِهِ فَهَذَا قَدْ يُخَرَّجُ عَلَى عُلُوِّ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ فَلَوْ وُضِعَتْ عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ أَوْ مِنْبَرٍ ارْتَفَعَ الْمَحْذُورُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي قُلْت قَالَ أَبُو الْمَعَالِي لَوْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ وَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَعْنَاقِ أَوْ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ صَغِيرٍ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْجِنَازَةَ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ وَجَمَاعَةٌ: يُشْتَرَطُ حُضُورُ السَّرِيرِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي وَلَا يُصَلَّى عَلَى الْغَائِبِ عَنْ الْبَلَدِ إنْ كَانَ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَهُوَ وَجْهٌ فِي الْمَذْهَبِ وَمُقْتَضَى اللَّفْظِ أَنَّ مَنْ هُوَ خَارِجُ السُّورِ أَوْ مَا يُقَدَّرُ سُورًا يُصَلِّي عَلَيْهِ أَمَّا الْغَائِبُ فَهُوَ الَّذِي يَكُونُ انْفِصَالُهُ عَنْ الْبَلَدِ بِمَا يُعَدُّ الذَّهَابُ إلَيْهِ نَوْعُ سَفَرٍ. وَقَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: إنَّهُ يَكْفِي خَمْسُونَ خُطْوَةً وَأَقْرَبُ الْحُدُودِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْجُمُعَةُ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ فِي الْبَلَدِ فَلَا يُعَدُّ غَائِبًا عَنْهُ وَلَا يُصَلَّى كُلَّ يَوْمٍ عَلَى غَائِبٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إذَا مَاتَ رَجُلٌ صَالِحٌ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَاحْتَجَّ بِقِصَّةِ النَّجَاشِيِّ وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ كُلَّ لَيْلَةٍ يُصَلِّي عَلَى جَمِيعِ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا رَيْبَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ وَمَنْ مَاتَ وَكَانَ لَا يُزَكِّي وَلَا يُصَلِّي إلَّا فِي رَمَضَانَ يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَنْ يَدَعُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ عُقُوبَةً وَنَكَالًا لِأَمْثَالِهِ لِتَرْكِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ عَلَى الْقَاتِلِ نَفْسَهُ وَعَلَى الْغَالِّ وَالْمَدِينِ الَّذِي لَهُ وَفَاءٌ وَلَا بُدَّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا كَمَنْ عُلَمِ نِفَاقُهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ وَمَنْ لِمَ يُعْلَمْ نِفَاقَهُ صَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَرَحَّم عَلَى مَنْ مَاتَ كَافِرًا وَمَنْ مَاتَ مُظْهِرًا لِلْفِسْقِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ

الْإِيمَانِ كَأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى أَحَدِهِمْ زَجْرًا لِأَمْثَالِهِ عَنْ مِثْلِ فِعْلِهِ كَانَ حَسَنًا وَلَوْ امْتَنَعَ فِي الظَّاهِرِ وَدَعَا لَهُ فِي الْبَاطِنِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ كَانَ أَوْلَى مِنْ تَفْوِيتِ إحْدَاهُمَا. وَتَرْكُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُسْلَ الشَّهِيدِ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، أَمَّا اسْتِحْبَابُ التَّرْكِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْفِعْلِ وَيَتْبَعُ الْجِنَازَةَ وَلَوْ لِأَجْلِ أَهْلِهِ فَقَطْ إحْسَانًا إلَيْهِمْ لِتَأَلُّفِهِمْ أَوْ مُكَافَأَةً أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْمَيِّتُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا» أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ، وَحَمَلَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَلَى أَنَّ الثِّيَابَ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا الْعَبْدُ هِيَ مَا مَاتَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ سَوَاءٌ كَانَ صَالِحًا أَوْ سَيِّئًا؛ وَرَجَّحَ أَبُو الْعَبَّاسِ هَذَا بِأَنَّ الَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ «يُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» رَوَاهُ حَاتِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَقَالَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تُبَيِّنُ أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ عُرَاةً، وَيُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ إذَا مَرَّتْ بِهِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَاخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ، وَإِذَا كَانَ مَعَ الْجِنَازَةِ مُنْكَرٌ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ إزَالَتِهِ تَبِعَهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَأَنْكَرَ بِحَسَبِهِ وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ مَعَ الْجِنَازَةِ وَلَوْ بِالْقِرَاءَةِ اتِّفَاقًا وَضَرْبُ النِّسَاءِ بِالدُّفِّ مَعَ الْجِنَازَةِ مُنْكَرٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَمَنْ بَنَى فِي مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَخْتَصُّ بِهِ فَهُوَ عَاصٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَيَحْرُمُ الْإِسْرَاجُ عَلَى الْقُبُورِ وَاِتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ عَلَيْهَا وَبَيْنَهَا وَيَتَعَيَّنُ إزَالَتُهَا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْمَشْيُ إلَى الْمَسْجِدِ إلَّا عَلَى الْجَنَابَةِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا يَتْرُكُ الْمَسْجِدَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمَيِّتِ عِنْدَ الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ وَاقِفًا قَالَ أَحْمَدُ لَا بَأْسَ بِهِ قَدْ فَعَلَهُ عَلِيٌّ وَالْأَحْنَفُ. وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَقِفُ فَيَدْعُو» وَلِأَنَّهُ مُعْتَادٌ بِدَلِيلٍ قَوْله تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَتَلْقِينُ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ مِنْ الْأَئِمَّةِ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَقَدْ اسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَكْرَهُهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ بِدْعَةٌ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ

وَغَيْرِهِ فَالْأَقْوَالُ فِيهِ ثَلَاثَةٌ: الِاسْتِحْبَابُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ، وَغَيْرُ الْمُكَلَّفِ يُمْتَحَنُ وَيُسْأَلُ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ قَالَهُ أَبُو حَكِيمٍ وَغَيْرُهُ وَيُكْرَهُ دَفْنُ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتَارَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ. وَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ أَوْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا» فَسَّرَ بَعْضُهُمْ الْقَبْرَ بِأَنَّهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا تُكْرَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ تَعَمُّدُ تَأْخِيرِ الدَّفْنِ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، كَمَا يُكْرَهُ تَعَمُّدُ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ بِلَا عُذْرٍ. فَأَمَّا إذَا وَقَعَ الدَّفْنُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِلَا تَعَمُّدٍ فَلَا يُكْرَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَحْفِرَ قَبْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ هُوَ وَلَا أَصْحَابُهُ وَالْعَبْدُ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَمُوتُ. وَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الرَّجُلِ الِاسْتِعْدَادَ لِلْمَوْتِ، فَهَذَا يَكُونُ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَيُسْتَحَبُّ الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ رَحْمَةً لَهُ وَهُوَ أَكْمَلُ مِنْ الْفَرَحِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْمَيِّتُ يَتَأَذَّى بِنَوْحِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَمَا يُهَيِّجُ الْمُصِيبَةَ مِنْ إنْشَادِ الشِّعْرِ وَالْوَعْظِ فَمِنْ النَّائِحَةِ وَفِي الْفُنُونِ لِابْنِ عَقِيلٍ مَا يُوَافِقُهُ وَيَحْرُمُ الذَّبْحُ وَالتَّضْحِيَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ وَنَقَلَ أَحْمَدُ كَرَاهَةَ الذَّبْحِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَلِهَذَا كَرِهَ الْعُلَمَاءُ الْأَكْلَ مِنْ هَذِهِ الذَّبِيحَةِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَإِخْرَاجُ الصَّدَقَةِ مَعَ الْجِنَازَةِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَهِيَ تُشْبِهُ الذَّبْحَ عِنْدَ الْقَبْرِ وَلَا يُشْرَعُ شَيْءٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ عِنْدَ الْقُبُورِ الصَّدَقَةُ وَغَيْرُهَا، وَيَجُوزُ زِيَارَةُ قَبْرِ الْكَافِرِ لِلِاعْتِبَارِ وَلَا يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ زِيَارَةِ قَبْرِ أَبِيهِ الْمُسْلِمِ، وَاسْتَفَاضَتْ الْآثَارُ بِمَعْرِفَةِ الْمَيِّتِ أَهْلَهُ وَبِأَحْوَالِ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّ ذَلِكَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ وَجَاءَتْ الْآثَارُ بِأَنَّهُ يَرَى أَيْضًا وَبِأَنَّهُ يَدْرِي بِمَا يُفْعَلُ عِنْدَهُ فَيُسَرُّ بِمَا كَانَ حَسَنًا وَيَتَأَلَّمُ بِمَا كَانَ قَبِيحًا وَتَجْتَمِعُ أَرْوَاحُ الْمَوْتَى فَيَنْزِلُ الْأَعْلَى إلَى الْأَدْنَى لَا الْعَكْسُ وَلَا تَتْبَعُ النِّسَاءُ الْجَنَائِزَ وَنَقَلَ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَحْمَدَ كَرَاهَةَ الْقُرْآنِ عَلَى الْقُبُورِ. وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَعَلَيْهَا قُدَمَاءُ أَصْحَابِهِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ: إنَّ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ أَفْضَلُ وَلَا رَخَّصَ فِي اتِّخَاذِهِ عِيدًا كَاعْتِيَادِ الْقِرَاءَةِ عِنْدَهُ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ أَوْ الذِّكْرِ أَوْ الصِّيَامِ، وَاِتِّخَاذُ الْمَصَاحِفِ عِنْدَ الْقَبْرِ بِدْعَةٌ وَلَوْ لِلْقِرَاءَةِ وَلَوْ

نَفَعَ الْمَيِّتَ لَفَعَلَهُ السَّلَفُ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ كَالْقِرَاءَةِ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ أَنَّ الْمَيِّتَ يُؤْجَرُ عَلَى اسْتِمَاعِهِ لِلْقُرْآنِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَنْتَفِعُ بِسَمَاعِهِ دُونَ مَا إذَا بَعُدَ فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ، وَالْقِرَاءَةَ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِدْعَةٌ بِخِلَافِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمُحْتَضَرِ فَإِنَّهَا تُسْتَحَبُّ بِيَاسِينَ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي غَرْسِ الْجَرِيدَتَيْنِ نِصْفَيْنِ عَلَى الْقَبْرَيْنِ: إنَّ الشَّجَرَ وَالنَّبَاتَ يُسَبِّحُ مَا دَامَ أَخْضَرَ فَإِذَا يَبِسَ انْقَطَعَ تَسْبِيحُهُ، وَالتَّسْبِيحُ وَالْعِبَادَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ مِمَّا تُوجِبُ تَخْفِيفَ الْعَذَابِ كَمَا يُخَفَّفُ الْعَذَابُ عَنْ الْمَيِّتِ بِمُجَاوَرَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ الْمَعْرُوفَةُ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْيَابِسِ مِنْ النَّبَاتِ مَا قَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْجَامِدَاتِ مِثْلُ حُنَيْنِ الْجِذْعِ الْيَابِسِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَسْلِيمِ الْحَجَرِ وَالْمَدَرِ عَلَيْهِ وَتَسْبِيحِ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ. وَهُوَ التَّسْبِيحُ تَسْبِيحٌ مَسْمُوعٌ لَا بِالْحَالِ، كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ النُّظَّارِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأَوْقَافُ عَلَى التُّرَبِ فَفِيهَا مِنْ الْمَصْلَحَةِ بَقَاءُ حِفْظِ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِهِ وَكَوْنُ هَذِهِ الْأَمْوَالِ مَعُونَةً عَلَى ذَلِكَ وَحَاضَّةً عَلَيْهِ إذْ قَدْ يُدْرَسُ حِفْظُ الْقُرْآنِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ بِسَبَبِ عَدَمِ الْأَسْبَابِ الْحَامِلَةِ عَلَيْهِ وَفِيهَا مَفَاسِدُ أُخَرُ مِنْ حُصُولِ الْقِرَاءَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَالتَّأَكُّلِ بِالْقُرْآنِ وَقِرَاءَتِهِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَاشْتِغَالِ النُّفُوسِ بِذَلِكَ عَنْ الْقِرَاءَةِ الْمَشْرُوعَةِ فَمَتَى أَمْكَنَ تَحْصِيلُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ بِدُونِ ذَلِكَ الْفَسَادِ جَازَ وَالْوَجْهُ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ الْمَنْعِ وَإِبْطَالِهِ وَإِنْ ظَنَّ حُصُولَ مَفْسَدَةٍ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَدْفَعْ أَدْنَى الْفَسَادَيْنِ بِاحْتِمَالٍ لِأَعْلَاهُمَا وَلَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَةِ السَّلَفِ إذَا صَلَّوْا تَطَوُّعًا أَوْ صَامُوا تَطَوُّعًا أَوْ حَجُّوا تَطَوُّعًا أَوْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ يُهْدُونَ ثَوَابَ ذَلِكَ إلَى أَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْ طَرِيقِ السَّلَفِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ الْمَيِّتُ بِجَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْقِرَاءَةِ كَمَا يَنْتَفِعُ بِالْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ مِنْ الصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَنَحْوِهِمَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَكَمَا لَوْ دَعَا لَهُ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ وَالصَّدَقَةُ عَلَى الْمَيِّتِ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِ خَتْمَةٍ وَجَمْعِ النَّاسِ وَلَوْ أَوْصَى الْمَيِّتُ أَنْ يُصْرَفَ مَالٌ فِي هَذِهِ الْخَتْمَةِ وَقَصْدُهُ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ صُرِفَ إلَى مَحَاوِيجَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَخَتْمَةٍ أَوْ أَكْثَرَ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ جَمْعِ النَّاسِ وَلَا يُسْتَحَبُّ الْقُرْبُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ هَذَا الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ.

قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَأَقْدَمُ مَنْ بَلَغَنَا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ الْمُوَفَّقِ أَحَدُ الشُّيُوخِ الْمَشْهُورِينَ كَانَ أَقْدَمَ مِنْ الْجُنَيْدِ وَأَدْرَكَ أَحْمَدُ طَبَقَتَهُ وَعَاصَرَهُ وَعَاشَ بَعْدَهُ وَاتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَإِنَّهُ لَا يَتَمَسَّحُ بِالْقَبْرِ وَلَا يُقَبِّلُهُ بَلْ اتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ وَلَا يُقَبَّلُ إلَّا الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، وَالرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ يُسْتَلَمُ وَلَا يُقَبَّلُ عَلَى الصَّحِيحِ قُلْت: بَلْ قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ يُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُ حُجْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَإِذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَدَعَا فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَدْعُ مُسْتَقْبِلًا لِلْقَبْرِ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ وَهَذَا بِلَا نِزَاعٍ أَعْلَمُهُ وَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ فِيمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ مَعَ الْمَنْصُورِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي وَقْتِ التَّسْلِيمِ هَلْ يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ أَوْ الْقِبْلَةَ فَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ وَتَغْشِيَةُ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ لَيْسَ فِي الدِّينِ. وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ الْخَضِرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَيِّتٌ لَمْ يُدْرِكْ الْإِسْلَامَ وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَمُتْ بِحَيْثُ فَارَقَتْ رُوحُهُ بَدَنَهُ بَلْ هُوَ حَيٌّ مَعَ كَوْنِهِ تُوُفِّيَ وَالتَّوَفِّي الِاسْتِيفَاءُ وَهُوَ يَصْلُحُ لِتَوَفِّي النَّوْمِ وَلِتَوَفِّي الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ فِرَاقُ الرُّوحِ الْبَدَنَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَبْضَ الَّذِي هُوَ قَبْضُ الرُّوحِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا. وَنَهْيُ النِّسَاءِ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ هَلْ هُوَ نَهْيُ تَنْزِيهٍ أَوْ تَحْرِيمٍ؟ فِيهِ قَوْلَانِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ تَرْجِيحُ التَّحْرِيمِ لِاحْتِجَاجِهِ بِلَعْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَتَصْحِيحِهِ إيَّاهُ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ ادِّعَاءُ النَّسْخِ بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى حُكْمِهِ وَالْمَرْأَةُ لَا يُشْرَعُ لَهَا زِيَارَةٌ، لَا الزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَلَا غَيْرُهَا اللَّهُمَّ إلَّا إذَا اجْتَازَتْ بِقَبْرٍ بِطَرِيقِهَا فَسَلَّمَتْ عَلَيْهِ وَدَعَتْ لَهُ فَهَذَا أَحْسَنُ. وَلَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا عَلَى زَوْجِهَا وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصْلَحَ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامٌ يُبْعَثُ بِهِ إلَيْهِمْ وَلَا يُصْلِحُونَ هُمْ طَعَامًا لِلنَّاسِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَقَابِرُ أَهْلِ الذِّمَّةِ مُتَمَيِّزَةً عَنْ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَكُلَّمَا بَعُدَتْ كَانَ أَصْلَحَ. وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنَّ الْعَذَابَ أَوْ النَّعِيمَ لِرُوحِ الْمَيِّتِ وَبَدَنِهِ وَأَنَّ الرُّوحَ تَبْقَى بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ مُنَعَّمَةً أَوْ مُعَذَّبَةً وَأَيْضًا تَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ أَحْيَانَا فَيَحْصُلُ لَهُ مَعَهَا النَّعِيمُ أَوْ الْعَذَابُ وَلِأَهْلِ السُّنَّةِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّ النَّعِيمَ أَوْ الْعَذَابَ يَكُونُ لِلْبَدَنِ دُونَ الرُّوحِ

وَعُلَمَاءُ الْكَلَامِ لَهُمْ أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ فَلَا عِبْرَةَ بِهَا وَرُوحُ الْآدَمِيِّ مَخْلُوقَةٌ وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ وَغَيْرُهُ. فَصْلٌ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْكِتَابِيُّ الْمُحَدِّثُ الْمَعْرُوفُ لَيْسَ مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ مَا يَثْبُتُ إلَّا قَبْرَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ غَيْرُهُ وَقَبْرُ إبْرَاهِيمَ أَيْضًا. وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي كِتَابِ الطَّبَقَاتِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُرَّةَ قَالَ لَا نَعْلَمُ قَبْرَ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا ثَلَاثَةً قَبْرَ إسْمَاعِيلَ فَإِنَّهُ تَحْتَ الْمِيزَابِ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَيْتِ وَقَبْرَ هُودٍ فِي كَثِيبٍ مِنْ الرَّمْلِ تَحْتَ جَبَلٍ مِنْ جِبَالِ الْيَمَنِ عَلَيْهِ شَجَرَةٌ تَبْدُو. مَوْضِعُهُ أَشَدُّ الْأَرْضِ حَرًّا، وَقَبْرَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ -. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَالْقُبَّةُ الَّتِي عَلَى الْعَبَّاسِ بِالْمَدِينَةِ يُقَالُ فِيهَا سَبْعَةٌ الْعَبَّاسُ وَالْحَسَنُ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَيُقَالُ: إنَّ فَاطِمَةَ تَحْتَ الْحَائِطِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّ رَأْسَ الْحُسَيْنِ هُنَاكَ وَأَمَّا الْقُبُورُ الْمَكْذُوبَةُ مِنْهَا الْقَبْرُ الْمُضَافُ إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي دِمَشْقَ وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ قَبْرَ أُمِّ حَبِيبَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ كَذَبَ، وَلَكِنْ بِالشَّامِ مِنْ الصَّحَابِيَّاتِ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ فَهَذِهِ تُوُفِّيَتْ بِالشَّامِ فَهَذِهِ قَبْرُهَا مُحْتَمَلٌ وَأَمَّا قَبْرُ بِلَالٍ فَمُمْكِنٌ فَإِنَّهُ دُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ بِدِمَشْقَ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ دُفِنَ هُنَاكَ وَأَمَّا الْقَطْعُ بِتَعْيِينِ قَبْرِهِ فَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ يُقَالُ: إنَّ تِلْكَ الْقُبُورَ حُرِثَتْ. وَمِنْهَا الْقَبْرُ الْمُضَافُ إلَى أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ غَرْبِي دِمَشْقَ فَإِنَّ أُوَيْسًا لَمْ يَجِئْ إلَى الشَّامِ وَإِنَّمَا ذَهَبَ إلَى الْعِرَاقِ وَمِنْهَا الْقَبْرُ الْمُضَافُ إلَى هُودٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِجَامِعِ دِمَشْقَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّ هُودًا لَمْ يَجِئْ إلَى الشَّامِ بَلْ بُعِثَ بِالْيَمَنِ وَهَاجَرَ إلَى مَكَّةَ فَقِيلَ: إنَّهُ مَاتَ بِالْيَمَنِ وَقِيلَ: إنَّهُ مَاتَ بِمَكَّةَ وَإِنَّمَا ذَلِكَ قَبْرُ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الَّذِي تَوَلَّى الْخِلَافَةَ مُدَّةً قَصِيرَةً ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَعْهَدْ إلَى أَحَدٍ وَكَانَ فِيهِ دَيْنٌ وَصَلَاحٌ وَمِنْهَا

قَبْرُ خَالِدٍ بِحِمْصَ يُقَالُ: إنَّهُ قَبْرُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَخِي مُعَاوِيَةَ هَذَا وَلَكِنْ لَمَّا اُشْتُهِرَ أَنَّهُ خَالِدٌ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ هَلْ هُوَ قَبْرُهُ أَوْ قَبْرُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ تُوُفِّيَ بِحِمْصَ وَقِيلَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَأَوْصَى إلَى عُمَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا قَبْرُ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ الَّذِي بِدَارِيَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ وَمِنْهَا قَبْرُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الَّذِي بِمِصْرَ فَإِنَّهُ كَذِبٌ قَطْعًا فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ بِإِجْمَاعٍ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ. وَمِنْهَا مَشْهَدُ الرَّأْسِ الَّذِي بِالْقَاهِرَةِ فَإِنَّ الْمُصَنِّفِينَ فِي مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرَّأْسَ لَيْسَ بِمِصْرَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ وَأَصْلُهُ أَنَّهُ نُقِلَ مِنْ مَشْهَدٍ بِعَسْقَلَانَ وَذَلِكَ الْمَشْهَدُ بُنِيَ قَبْلَ هَذَا بِنَحْوٍ مِنْ سِتِّينَ سَنَةً أَوْ أَوَاخِرَ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ وَهَذَا بُنِيَ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِنَحْوِ ثَلَثِمِائَةِ عَامٍ، وَقَدْ بَيَّنَ كَذِبَ الْمَشْهَدِ أَبُو دِحْيَةَ فِي الْمَعْلَمِ الْمَشْهُورِ وَأَنَّ الرَّأْسَ دُفِنَ بِالْمَدِينَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارَ وَاَلَّذِي صَحَّ مِنْ حَمْلِ الرَّأْسِ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أَنَّهُ حُمِلَ إلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ وَجَعَلَ يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ عَلَى ثَنَايَاهُ وَقَدْ شَهِدَ ذَلِكَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَفِي رِوَايَةِ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ وَكِلَاهُمَا كَانَ بِالْعِرَاقِ. وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ أَوْ مَجْهُولٍ أَنَّهُ حُمِلَ إلَى يَزِيدَ وَجَعَلَ يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ عَلَى ثَنَايَاهُ وَأَنَّ أَبَا بَرْزَةَ كَانَ حَاضِرًا وَأَنْكَرَ هَذَا، وَهَذَا كَذِبٌ فَإِنَّ أَبَا بَرْزَةَ لَمْ يَكُنْ بِالشَّامِ عِنْدَ يَزِيدَ بَلْ كَانَ بِالْعِرَاقِ وَأَمَّا بَدَنُ الْحُسَيْنِ فَبِكَرْبَلَاءَ بِالِاتِّفَاقِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَقَدْ حَدَّثَنِي طَائِفَةٌ عَنْ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ وَطَائِفَةٌ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ خَلَفٍ الدِّمْيَاطِيِّ وَطَائِفَةٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْقَسْطَلَّانِيِّ وَطَائِفَةٌ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيِّ صَاحِبِ التَّفْسِيرِ كُلُّ هَؤُلَاءِ حَدَّثَنِي عَنْهُ مَنْ لَا أَتَّهِمُهُ. وَحَدَّثَنِي عَنْ بَعْضِهِمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ كُلٌّ يُحَدِّثُنِي عَمَّنْ حَدَّثَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ أَمْرَ

هَذَا الْمَشْهَدِ وَيَقُولُ إنَّهُ كَذِبٌ وَلَيْسَ فِي قَبْرِ الْحُسَيْنِ وَلَا شَيْءٍ مِنْهُ وَاَلَّذِينَ حَدَّثُونِي عَنْ ابْنِ الْقَسْطَلَّانِيِّ ذَكَرُوا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إنَّمَا فِيهِ غَيْرُهُ. وَمِنْهَا قَبْرُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّذِي بِبَاطِنِ النَّجَفِ فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَلِيًّا دُفِنَ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ بِالْكُوفَةِ كَمَا دُفِنَ مُعَاوِيَةُ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ بِالشَّامِ وَدُفِنَ عَمْرٌو بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ بِمِصْرَ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ الْخَوَارِجِ أَنْ يَنْبُشُوا قُبُورَهُمْ وَلَكِنْ قِيلَ: إنَّ الَّذِي بِالنَّجَفِ قَبْرُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَذْكُرُ أَنَّهُ قَبْرُ عَلِيٍّ وَلَا يَقْصِدُ أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَثِمِائَةِ سَنَةٍ. وَمِنْهَا قَبْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي الْجَزِيرَةِ وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَاتَ بِمَكَّةَ عَامَ قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ بِالْحِلِّ لِكَوْنِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَدَفَنُوهُ بِأَعْلَى مَكَّةَ وَمِنْهَا قَبْرُ جَابِرٍ الَّذِي بِظَاهِرِ حَرَّانَ وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ جَابِرًا تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْ الصَّحَابَةِ بِهَا. وَمِنْهَا قَبْرٌ نُسِبَ إلَى أُمِّ كُلْثُومٍ وَرُقَيَّةَ بِالشَّامِ وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ أَنَّهُمَا مَاتَا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ تَحْتَ عُثْمَانَ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ سَبَبُ اشْتَرَاك الْأَسْمَاءِ لَعَلَّ شَخْصًا يُسَمَّى بِاسْمِ مَنْ ذُكِرَ، تُوُفِّيَ وَدُفِنَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَذْكُورَةِ فَظَنَّ بَعْضُ الْجُهَّالِ أَنَّهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الزكاة

[كِتَابُ الزَّكَاةِ] ِ لَا تَجِبُ فِي دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ أَوْ عَلَى مُعْسِرٍ أَوْ مُمَاطِلٍ أَوْ جَاحِدٍ وَمَغْصُوبٍ وَمَسْرُوقٍ وَضَالٍّ وَمَا دَفَنَهُ وَنَسِيَهُ أَوْ جَهِلَ عِنْدَ مَنْ هُوَ وَلَوْ حَصَلَ فِي يَدِهِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتَارَهَا وَصَحَّحَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. الدَّيْنُ الَّذِي لَهُ عَلَى أَبِيهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَشْبَهُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ الضَّالِّ فَيُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الِابْنَ غَيْرُ مُمَكَّنٍ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِهِ فَقَدْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَلَوْ قِيلَ لَا تَلْزَمُهُ زَكَاتُهُ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الْكِتَابَةِ لَكَانَ مُتَوَجِّهًا وَدَيْنُ الْوَلَدِ هَلْ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ عَنْ الْأَبِ لِثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ أَمْ لَا لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إسْقَاطِهِ خَرَّجَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ عَلَى وَجْهَيْنِ وَجَعَلَ أَصْلَهُمَا الْخِلَافَ عَلَى أَنَّ قُدْرَةَ الْمَرِيضِ عَلَى اسْتِرْجَاعِ مِلْكِهِ الْمُنْتَقِلِ عَنْهُ عَيْنًا أَوْ غَيْرَهُ هَلْ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ تَبَرُّعِهِ فِي الْمَرَضِ أَمْ لَا؟ وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي جَمِيعِ أَجْنَاسِ الْأُجْرَةِ الْمَقْبُوضَةِ وَلَا يُعْتَبَرُ لَهَا مُضِيُّ حَوْلٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَمَنْقُولٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِطَ رَبُّ الْمَالِ زَكَاةَ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ بَعْضَهُ مِنْ الرِّبْحِ وَلَا يُقَالُ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ وَنَقَلَهُ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ أَحْمَدَ لِأَنَّهُ قَدْ تُحِيطُ الزَّكَاةُ بِالرِّبْحِ فَيَخْتَصُّ رَبُّ الْمَالِ بِعِلْمِهِ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ كَمَا يَخْتَصُّ بِنَفْعِهِ فِي الْمُسَاقَاةِ إذَا لَمْ يُثْمِرْ الشَّجَرُ وَبِرُكُوبِ الْفَرَسِ لِلْجِهَادِ إذَا لَمْ يَغْنَمُوا وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ إمْكَانُ الْأَدَاءِ. فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَلَوْ تَلِفَ النِّصَابُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْ الْمَالِكِ لَمْ يَضْمَنْ الزَّكَاةَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ وَاخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَلَوْ كَانَ الْمَانِعُ مِنْ الزَّكَاةِ دُيُونٌ لَمْ يَقُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالزَّكَاةِ لِأَنَّ عُقُوبَتَهَا أَعْظَمُ وَلَا يَحِلُّ الِاحْتِيَالُ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا كَانَتْ الْمَاشِيَةُ سَائِمَةً أَكْثَرَ الْحَوْلِ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهَا عَلَى الصَّحِيحِ وَإِذَا

نَقَلَ الزَّكَاةَ إلَى الْمُسْتَحَقِّينَ بِالْمِصْرِ الْجَامِعِ مِثْلُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ بِالْقَاهِرَةِ مِنْ الْعُشُورِ الَّتِي بِأَرْضِ مِصْرَ فَالصَّحِيحُ جَوَازُ ذَلِكَ فَإِنَّ سُكَّانَ الْمِصْرِ إنَّمَا يُعَانُونَ مِنْ مَزَارِعِهِمْ بِخِلَافِ النَّقْلِ مِنْ إقْلِيمٍ مَعَ حَاجَةِ أَهْلِ الْمَنْقُولِ عَنْهَا وَإِنَّمَا قَالَ السَّلَفُ: جِيرَانُ الْمَالِ أَحَقُّ بِزَكَاتِهِ وَكَرِهُوا نَقْلَ الزَّكَاةِ إلَى بَلَدِ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ لِيَكْتَفِيَ كُلُّ نَاحِيَةٍ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الزَّكَاةِ وَلِهَذَا فِي كِتَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مَنْ انْتَقَلَ مِنْ مِخْلَافٍ إلَى مِخْلَافٍ فَإِنَّ صَدَقَتَهُ وَعُشْرَهُ فِي مِخْلَافِ جِيرَانِهِ وَالْمِخْلَافُ عِنْدَهُمْ كَمَا يُقَالُ الْمُعَامَلَةُ وَهُوَ مَا يَكُونُ فِيهِ الْوَالِي وَالْقَاضِي وَهُوَ الَّذِي يَسْتَخْلِفُ فِيهِ وَلِيُّ الْأَمْرِ جَابِيًا بِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَيَرُدُّهَا عَلَى فُقَرَائِهِمْ وَلَمْ يُقَيَّدْ ذَلِكَ بِمَسِيرِ يَوْمَيْنِ، وَتَحْدِيدُ الْمَنْعِ مِنْ نَقْلِ الزَّكَاةِ بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَيَجُوزُ نَقْلُ الزَّكَاةِ وَمَا فِي حُكْمِهَا لِمَصْلَحَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَإِذَا أَخَذَ السَّاعِي مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ رَجَعَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْمَدْفُوعِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: يُتَوَجَّهُ قَبُولُ قَوْلِ الْمُعْطِي لِأَنَّهُ كَالْأَمِينِ وَإِنْ أَخَذَ السَّاعِي أَكْثَرَ مِنْ الْوَاجِبِ ظُلْمًا بِلَا تَأْوِيلٍ مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فَفِي رُجُوعِهِ عَلَى شَرِيكِهِ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا الرُّجُوعُ وَكَذَلِكَ فِي الْمَظَالِمِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي يَطْلُبُهَا الْوُلَاةُ مِنْ الشُّرَكَاءِ أَوْ الظَّلَمَةِ مِنْ الْبُلْدَانِ أَوْ التُّجَّارِ أَوْ الْحَجِيجِ أَوْ غَيْرِهِمْ. وَالْكُلَفُ السُّلْطَانِيَّةُ عَلَى الْأَنْفُسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَمْوَالِ يَلْزَمُهُمْ الْتِزَامَ الْعَدْلِ فِي ذَلِكَ كَمَا يَلْزَمُ فِيمَا يُؤْخَذُ بِحَقٍّ. فَمَنْ تَغَيَّبَ أَوْ امْتَنَعَ فَأَخَذَ مِنْ غَيْرِهِ حِصَّتَهُ رَجَعَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ عَلَى مَنْ أَدَّى عَنْهُ فِي الْأَظْهَرِ إنْ لَمْ يَتَبَرَّعْ وَلِمَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْمَالِ أَنْ يَصْرِفَ مِمَّا يَخُصُّهُ مِنْ الْكُلَفِ كَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَالْوَصِيِّ وَالْمُضَارِبِ وَالْوَكِيلِ وَمَنْ قَامَ فِيهَا بِنِيَّةِ تَقْلِيلِ الظُّلْمِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَنْ صُودِرَ عَلَى أَدَاءِ مَالٍ وَأُكْرِهَ أَقَارِبُهُ أَوْ جِيرَانُهُ أَوْ أَصْدِقَاؤُهُ أَوْ شُرَكَاؤُهُ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوهُ عَنْهُ فَلَهُمْ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا مِنْ أَجْلِهِ وَلِأَجْلِ مَالِهِ وَالطَّالِبُ مَقْصُودُهُ مَالُهُ لَا مَالُهُمْ وَمَنْ لَمْ يَخْلُصْ مَالُ غَيْرِهِ مِنْ التَّلَفِ إلَّا بِمَا أَدَّى عَنْهُ رَجَعَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ أَخَذَ السَّاعِي فَوْقَ الْوَاجِبِ بِتَأْوِيلٍ أَوْ أَخَذَ الْقِيمَةَ فَالصَّوَابُ الْإِجْزَاءُ وَلَوْ اعْتَقَدَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ عَدَمَهُ وَجَعَلَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ كَالصَّلَاةِ خَلْفَ التَّارِكِ رُكْنًا أَوْ شَرْطًا.

فصل المعتبر لوجوب زكاة الخارج من الأرض

[فَصْلٌ الْمُعْتَبَرَ لِوُجُوبِ زَكَاةِ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ] فَصْلٌ وَرَجَّحَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ لِوُجُوبِ زَكَاةِ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ الْإِدْخَارُ لَا غَيْرُ لِوُجُودِ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِيهِ بِخِلَافِ الْكَيْلِ فَإِنَّهُ تَقْدِيرٌ مَحْضٌ فَالْوَزْنُ فِي مَعْنَاهُ قَالَ وَكَذَلِكَ الْعَدُّ كَالْجَوْزِ وَالزَّرْعُ كَالْجَوْزِ الْمُسْتَنْبَتِ فِي دِمَشْقَ وَنَحْوِهَا وَلِهَذَا تَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَنَا فِي الْعَسَلِ وَهُوَ رَطْبٌ وَلَا يُوَسَّقُ لِكَوْنِهِ يَبْقَى وَيُدَّخَرُ وَنَصَّ أَبُو الْعَبَّاسِ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي التِّينِ لِلِادِّخَارِ وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ فِي الرِّبَوِيَّاتِ لِأَجْلِ التَّمَاثُلِ الْمُعْتَبَرِ فِيهَا وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ هَاهُنَا. وَتَسْقُطُ فِيمَا خَرَجَ مِنْ مُؤْنَةِ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَسْقَطَ فِي الْخَرْصِ زَكَاةَ الثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ لِأَجْلِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الثَّمَرَةِ بِالْإِعْرَاءِ وَالضِّيَافَةِ وَإِطْعَامِ ابْنِ السَّبِيلِ وَهُوَ تَبَرُّعٌ فِيمَا يَخْرُجُ عَنْهُ لِمَصْلَحَتِهِ الَّتِي لَا تَحْصُلُ إلَّا بِهَا أَوَّلًا بِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ عَنْهُ وَمَا يُدِيرُهُ الْمَاءُ مِنْ النَّوَاعِيرِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُصْنَعُ مِنْ الْعَامِ إلَى الْعَامِ أَوْ أَثْنَاءَ الْعَامِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى دُولَابٍ تُدِيرُهُ الدَّوَابُّ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ لِأَنَّ مُؤْنَتَهُ خَفِيفَةٌ فَهِيَ كَحَرْثِ الْأَرْضِ وَإِصْلَاحِ طُرُقِ الْمَاءِ وَكَلَامُ أَبِي الْعَبَّاسِ فِي اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ يُعْطِي أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ مُنِعُوا مِنْ شِرَاءِ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ وَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ وَجَزَمَ الْأَصْحَابُ بِالصِّحَّةِ وَلَكِنْ حَكَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ الشِّرَاءِ، فَإِنْ اشْتَرَوْا لَمْ تَصِحَّ وَتَعْطِيلُ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ بِاسْتِئْجَارِ الذِّمِّيِّ لَهَا أَوْ مُزَارِعَتِهِ فِيهَا كَتَعْطِيلِهِ بِالشِّرَاءِ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ يُوَافِقُهُ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يُؤَجَّرُ مِنْهُ أَيْ الْأَرْضُ مِنْ الذِّمِّيِّ وَلَا يَجُوزُ بَقَاءُ أَرْضٍ بِلَا عُشْرٍ وَلَا خَرَاجٍ اتِّفَاقًا فَيُخْرِجُ مَنْ أَقْطَعَ أَرْضًا بِأَرْضِ مِصْرَ أَوْ غَيْرِهَا الْعُشْرَ قُلْت وَالْمُرَادُ مَا عَدَا أَرْضَ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ لَوْ جَعَلَ دَارِهِ بُسْتَانًا أَوْ مَزْرَعَةً أَوْ رَضَخَ الْإِمَامُ لَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَإِنَّهُ لَا يَبْنِي فِيهَا نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَيُلْحَقُ بِالْمَدْفُونِ حُكْمًا الْمَوْجُودُ ظَاهِرًا فِي مَكَان جَاهِلِيٍّ أَوْ طَرِيقٍ غَيْرِ مَسْلُوكٍ. [فَصْلٌ إخْرَاجُ زَكَاةِ الْعُرُوضِ عَرْضًا] فَصْلٌ وَيَجُوزُ إخْرَاجُ زَكَاةِ الْعُرُوضِ عَرْضًا وَيَقْوَى عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِ الْمَالِ.

فصل لا يجوز دفع زكاة الفطر إلا لمن يستحق الكفارة

[فَصْلٌ لَا يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاةِ الْفِطْرِ إلَّا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْكَفَّارَةَ] فَصْلٌ وَيُجْزِئُهُ فِي الْفِطْرَةِ مِنْ قُوتِ بَلَدِهِ مِثْلُ الْأُرْزِ وَغَيْرِهِ وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاةِ الْفِطْرِ إلَّا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْكَفَّارَةَ وَهُوَ مَنْ يَأْخُذُ لِحَاجَتِهِ لَا فِي الرِّقَابِ وَالْمُؤَلَّفَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ مِلْكُ نِصَابٍ بَلْ تَجِبُ عَلَى مَنْ مَلَكَ صَاعًا فَاضِلًا عَنْ قُوتِهِ يَوْمَ الْعِيدِ وَلَيْلَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَصَاحِبُهُ لَا يُطَالِبُهُ بِهِ أَدَّى صَدَقَةَ الْفِطْرِ كَمَا يُطْعِمُ عِيَالَهُ يَوْمَ الْعِيدِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَمَنْ عَجَزَ عَنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَقْتَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ ثُمَّ أَيْسَرَ فَأَدَّاهَا فَقَدْ أَحْسَنَ وَقَدْرُ الْفِطْرِ صَاعٌ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ وَأَمَّا مِنْ الْبُرِّ فَنِصْفٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ فِي بَقِيَّةِ الْكَفَّارَاتِ. [فَصْلٌ الْمَالُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ] فَصْلٌ وَمَا سَمَّاهُ النَّاسُ دِرْهَمًا وَتَعَامَلُوا بِهِ تَكُونُ أَحْكَامُهُ أَحْكَامَ الدِّرْهَمِ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيمَا يَبْلُغُ مِائَتَيْنِ مِنْهُ وَالْقَطْعُ بِسَرِقَةِ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ مِنْهُ إلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ، قَلَّ مَا فِيهِ الْفِضَّةُ أَوْ كَثُرَ. وَكَذَلِكَ مَا سُمِّيَ دِينَارًا وَنُقِلَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: زَكَاةُ الْحُلِيِّ عَارِيَّتُهُ وَلِهَذَا تَنَازَعَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ هَلْ عَلَيْهَا أَنْ تُعِيرَهُ لِمَنْ يَسْتَعِيرُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَيْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي إذَا لَمْ تُخْرِجْ الزَّكَاةَ عَنْهُ أَنْ تُعِيرَهُ وَأَمَّا إنْ كَانَتْ تُكْرِيهِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَكِتَابَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْحِيَاضَةِ وَالدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ مَكْرُوهَةٌ وَيَجُوزُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ لِعَدَمِ الْعُدُولِ عَنْ الْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَةَ بُسْتَانِهِ أَوْ زَرْعَهُ فَهُنَا إخْرَاجُ عُشْرِ الدَّرَاهِمِ يُجْزِئُهُ وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يَشْتَرِيَ تَمْرًا أَوْ حِنْطَةً فَإِنَّهُ قَدْ سَاوَى الْفَقِيرَ بِنَفْسِهِ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ وَمِثْلُ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ شَاةٌ فِي الْإِبِلِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ شَاةٌ فَإِخْرَاجُ الْقِيمَةِ كَافٍ وَلَا يُكَلَّفُ السَّفَرَ لِشِرَاءِ شَاةٍ أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحِقُّونَ طَلَبُوا الْقِيمَةَ لِكَوْنِهَا أَنْفَعَ لَهُمْ فَهَذَا جَائِزٌ، أَمَّا الْفُلُوسُ فَلَا يُجْزِئُ إخْرَاجُهَا عَنْ النَّقْدَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ لِأَنَّهَا وَلَوْ كَانَتْ نَافِقَةً فَلَيْسَتْ فِي الْمُعَامَلَةِ كَالدَّرَاهِمِ فِي الْعَادَةِ لِأَنَّهَا قَدْ تَكْسُدُ وَيَحْرُمُ الْمُعَامَلَةُ بِهَا وَلِأَنَّهَا أَنْقَصُ سِعْرًا. وَلِهَذَا يَكُونُ الْبَيْعُ بِالْفُلُوسِ دُونَ الْبَيْعِ بِقِيمَتِهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ وَغَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ

فصل يعطي الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله

بِمَنْزِلَةِ الْمُنْكَسِرَةِ مَعَ الصِّحَاحِ وَالْبَهْرَجَةِ مَعَ الْخَالِصَةِ فَإِنَّ تِلْكَ إلَى النُّحَاسِ أَقْرَبُ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَخْرَجَ الْفُلُوسَ وَأَخْرَجَ التَّفَاوُتَ جَازَ عَلَى الْمَنْصُوصِ فِي جَوَازِ إخْرَاجِ التَّفَاوُتِ فِيمَا بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْمُنْكَسِرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ جُبْرَانَ الصِّفَاتِ كَجُبْرَانِ الْمِقْدَارِ لَكِنْ يُقَالُ الْمُنْكَسِرَةُ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفُلُوسِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ فَيَنْتَفِي فِيهَا الْمَأْخَذُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إلَّا وَجْهَانِ إلَّا إذَا خَرَجَتْ بِقِيمَتِهَا فِضَّةٌ لَا بِسِعْرِهَا فِي الْعِوَضِ. [فَصْلٌ يُعْطِيَ الزَّكَاةَ لِمَنْ لَا يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ] فَصْلٌ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْطِيَ الزَّكَاةَ لِمَنْ لَا يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَهَا مَعُونَةً عَلَى طَاعَتِهِ كَمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ كَالْفُقَرَاءِ وَالْغَارِمِينَ أَوْ لِمَنْ يُعَاوِنُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَنْ لَا يُصَلِّي مِنْ أَهْلِ الْحَاجَاتِ لَا يُعْطَى شَيْئًا حَتَّى يَتُوبَ وَيَلْتَزِمَ أَدَاءَ الصَّلَاةِ وَيَجِبُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ إنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ وَإِلَّا صُرِفَتْ إلَى الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ إلَى حَيْثُ يُوجَدُونَ وَبَنُو هَاشِمٍ إذَا مُنِعُوا مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ جَازَ لَهُمْ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي يَعْقُوبَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَقَالَهُ أَبُو يُوسُفَ وَالْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ حَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ وَيَجُوزُ لِبَنِي هَاشِمٍ الْأَخْذُ مِنْ زَكَاةِ الْهَاشِمِيِّينَ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَيَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ عَلَوْا وَإِلَى الْوَالِدِ وَإِنْ سَفَلَ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ نَفَقَتِهِمْ لِوُجُودِ الْمُقْتَضَى السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ الْعَادِمِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَكَذَا إنْ كَانُوا غَارِمِينَ أَوْ مُكَاتَبِينَ أَوْ أَبْنَاءَ السَّبِيلِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا وَإِذَا كَانَتْ الْأُمُّ فَقِيرَةً وَلَهَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ لَهُمْ مَالٌ وَنَفَقَتُهَا تَضُرُّ بِهِمْ أُعْطِيت مِنْ زَكَاتِهِمْ وَاَلَّذِي يَخْدُمُهُ إذَا لَمْ تَكْفِهِ أُجْرَتُهُ أَعْطَاهُ مِنْ زَكَاتِهِ إذَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ بَدَلَ خِدْمَتِهِ. وَمَنْ كَانَ فِي عِيَالِهِ قَوْمٌ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ الزَّكَاةِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِمَّا لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِإِنْفَاقِهِ مِنْ مَالِهِ وَالْيَتِيمُ الْمُمَيِّزُ يَقْبِضُ الزَّكَاةَ لِنَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمَيِّزًا قَبَضَهَا كَافِلَةً كَائِنًا مَنْ كَانَ وَأَمَّا إسْقَاطُ الدَّيْنِ عَنْ الْمُعْسِرِ فَلَا يُجْزِئُ عَنْ زَكَاةِ الْعَيْنِ بِلَا نِزَاعٍ لَكِنْ إذَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ فَأَعْطَاهُ مِنْهَا وَشَارَطَهُ أَنْ

يُعِيدَهَا إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَا إنْ لَمْ يَشْرِطْ لَكِنْ قَصَدَهُ الْمُعْطِي فِي الْأَظْهَرِ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْقِطَ عَنْهُ قَدْرَ ذَلِكَ الدَّيْنِ وَيَكُونُ ذَلِكَ زَكَاةَ ذَلِكَ الدَّيْنِ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ أَظْهَرُهُمَا الْجَوَازُ لِأَنَّ الزَّكَاةَ مُوَاسَاةٌ وَمَنْ لَيْسَ مَعَهُ مَا يَشْتَرِي بِهِ كَثِيبًا يَشْتَغِلُ فِيهَا يَجُوزُ لَهُ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ مَا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي إقَامَةِ مُؤْنَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُنْفِقْهُ بِعَيْنِهِ فِي الْمُؤْنَةِ وَقِيلَ الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الزَّرْعُ الْقَائِمُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَحْصُدُهُ أَيَأْخُذُ مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ نَعَمْ يَأْخُذُ وَيَأْخُذُ الْفَقِيرُ مِنْ الزَّكَاةِ مَا يَصِيرُ بِهِ غَنِيًّا وَإِنْ كَثُرَ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ. وَيَجُوزُ إعْتَاقُ الرَّقِيقِ مِنْ الزَّكَاةِ وَافْتِكَاكُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْتِقَ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وَالْمَصَالِحِ إذَا كَانَ فِي الْإِعْتَاقِ مَصْلَحَةٌ إمَّا لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ لِمَنْفَعَةِ الْمُعْتِقِ أَوْ تَأْلِيفًا لِقُلُوبِ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى تَأْلِيفِهِ وَقَدْ يَنْفُذُ الْعِتْقُ حَيْثُ لَا يَجُوزُ إذَا كَانَ فِي الرَّدِّ فَسَادٌ كَمَا فِي الْوِلَايَاتِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَسْلَمُوا وَهُمْ لِكَافِرٍ ذِمِّيٍّ أَوْ مُعَاهِدٍ حَرْبِيٍّ وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ فَقِيرٌ أُعْطِيَ مَا يَحُجُّ بِهِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَيَبْرَأُ بِدَفْعِ الزَّكَاةِ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ الْعَادِلِ وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا لَا يَصْرِفُ الزَّكَاةَ فِي الْمَصَارِفِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَنْبَغِي لِصَاحِبِهَا أَنْ لَا يَدْفَعَهَا إلَيْهِ فَإِنْ حَصَلَ لَهُ ضَرَرٌ بَعْدَ دَفْعِهَا إلَيْهِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُ عَنْهُ إذَا أُخِذَتْ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ ظَلَمُوا مُسْتَحِقَّهَا كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ إذَا قَبَضَا الْمَالَ وَصَرَفَاهُ فِي غَيْرِ مَصَارِفِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَالدُّيُونُ وَمَظَالِمُ الْعِبَادِ عَمَّنْ مَاتَ شَهِيدًا وَإِذَا قَبَضَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ مَالًا مِنْ الزَّكَاةِ وَصَرَفَهُ فِي شِرَاءِ عَقَارٍ أَوْ نَحْوِهِ فَالنَّمَاءُ الَّذِي حَصَلَ بِعَمَلِهِ وَسَعْيِهِ يُجْعَلُ مُضَارَبَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الزَّكَاةِ. وَإِعْطَاءُ السُّؤَالِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إنْ صَدَقُوا وَمَنْ سَأَلَ غَيْرَهُ الدُّعَاءَ لِنَفْعِ ذَلِكَ الْغَيْرِ أَوْ نَفْعِهِمَا أُثِيبَ وَإِنْ قَصَدَ نَفْعَ نَفْسِهِ فَقَطْ نُهِيَ عَنْهُ كَسُؤَالِ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ قَدْ لَا يَأْثَمُ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ لَا بَأْسَ بِطَلَبِ النَّاسِ الدُّعَاءَ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ لَكِنْ أَهْلُ الْفَضْلِ يَفُوزُونَ بِذَلِكَ إذْ الَّذِي يَطْلُبُونَ مِنْهُ الدُّعَاءَ إذَا دَعَا لَهُمْ كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ عَلَى دُعَائِهِ أَعْظَمُ مِنْ أَجْرِهِ لَوْ دَعَا لِنَفْسِهِ وَحْدَهُ وَيَلْزَمُ عَامِلَ الزَّكَاةِ رَفْعُ حِسَابِ مَا تَوَلَّاهُ إذَا طُلِبَ مَنّهُ الْخَرَاجُ وَصِلَةُ الرَّحِمِ الْمُحْتَاجِ أَفْضَلُ مِنْ الْعِتْقِ.

كتاب الصوم

[كِتَابُ الصَّوْمِ] ِ تَخْتَلِفُ الْمَطَالِعُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِهَذَا، فَإِنْ اتَّفَقَتْ لَزِمَهُ الصَّوْمُ وَإِلَّا فَلَا وَهُوَ الْأَصَحُّ لِلشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَمَنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الصَّوْمُ وَلَا غَيْرَهُ وَنَقَلَهُ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي الصَّوْمِ وَكَمَا لَا يَعْرِفُ وَلَا يُضَحِّي وَحْدَهُ وَالنِّزَاعُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْهِلَالَ هُوَ اسْمٌ لِمَا يَطْلُعُ مِنْ السَّمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ وَلَمْ يَظْهَرْ أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى هِلَالًا إلَّا بِالِاشْتِهَارِ وَالظُّهُورِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَالِاعْتِبَارُ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَإِنْ نَوَى نَذْرًا أَوْ نَفْلًا ثُمَّ بَانَ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ إنْ كَانَ جَاهِلًا كَمَنْ دَفَعَ وَدِيعَةَ رَجُلٍ إلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الشَّرْعِ ثُمَّ تَبَيَّنَ إنْ كَانَ حَقَّهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعْطَاءٍ ثَانٍ بَلْ يَقُولُ لَهُ: الَّذِي وَصَلَ إلَيْك هُوَ حَقٌّ كَانَ لَك عِنْدِي. وَمَنْ خَطَرَ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ صَائِمٌ غَدًا فَقَدْ نَوَى، وَالصَّائِمُ لَمَّا يَتَعَشَّى يَتَعَشَّى عَشَاءَ مَنْ يُرِيدُ الصِّيَامَ وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ عَشَاءِ لَيْلَةِ الْعِيدِ وَعَشَاءِ لَيَالِي رَمَضَانَ وَتَصِحُّ النِّيَّةُ الْمُتَرَدِّدَةُ كَقَوْلِهِ إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ فَرْضٌ وَإِلَّا فَهُوَ نَفْلٌ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَيَصِحُّ صَوْمُ الْفَرْضِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ وُجُوبَهُ بِاللَّيْلِ كَمَا إذَا شُهِدَتْ النِّيَّةُ بِالنَّهَارِ وَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرَةٍ لِهِلَالِ لَيْلَةِ الثَّلَاثِينَ غَيْمٌ أَوْ قَتَرٌ فَصَوْمُهُ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ وَلَا حَرَامٌ وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَنْقُولَاتُ الْكَثِيرَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ عَنْ أَحْمَدَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا وَلَا أَصْلَ لِلْوُجُوبِ فِي كَلَامِهِ، وَلَا فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَّهُ كَانَ يَمِيلُ أَخِيرًا إلَى أَنَّهُ لَا

فصل لا يفطر الصائم بالاكتحال

يُسْتَحَبُّ صَوْمُهُ وَمَنْ تَجَدَّدَ لَهُ صَوْمٌ بِسَبَبٍ كَمَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِالرُّؤْيَةِ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَكَلَ. وَالْمَرِيضُ إذَا خَافَ الضَّرَرَ اُسْتُحِبَّ لَهُ الْفِطْرُ وَالْمُسَافِرُ الْأَفْضَلُ لَهُ الْفِطْرُ فَإِنْ أَضْعَفَهُ عَنْ الْجِهَادِ كُرِهَ لَهُ بَلْ يَجِبُ مَنْعُهُ عَنْ وَاجِبٍ وَأَفْتَى أَبُو الْعَبَّاسِ لَمَّا نَزَلَ الْعَدُوُّ دِمَشْقَ فِي رَمَضَانَ بِالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ لِلتَّقَوِّي عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ وَفَعَلَهُ وَقَالَ هُوَ أَوْلَى لِلسَّفَرِ. وَيَصِحُّ صَوْمُ الْجُنُبِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فِي بَلَدٍ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَلَهُ الْفِطْرُ وَإِذَا نَوَى صِيَامَ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الزَّوَالِ فَفِي ثَوَابِهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ وَالْأَظْهَرُ الثَّوَابُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ وَلَكِنْ إذَا اشْتَهَى الْأَكْلَ وَاسْتَمَرَّ بِهِ الْجُوعُ فَهَذَا يَكُونُ جُوعُهُ مِنْ بَابِ الْمَصَائِبِ الَّتِي تُكَفَّرُ بِهَا خَطَايَاهُ وَيُثَابُ عَلَى صَبْرِهِ عَلَيْهَا وَلَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الصَّوْمِ الَّذِي هُوَ عِبَادَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا ثَوَابُ الصَّوْمِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ لَا يُفْطِرُ الصَّائِمُ بِالِاكْتِحَالِ] فَصْلٌ وَلَا يُفْطِرُ الصَّائِمُ بِالِاكْتِحَالِ وَالْحُقْنَةِ وَمَا يُقَطَّرُ فِي إحْلِيلِهِ وَمُدَاوَاةُ الْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَيُفْطِرُ بِإِخْرَاجِ الدَّمِ بِالْحِجَامَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَبِالْفَصْدِ وَالتَّشْرِيطِ وَهُوَ وَجْهٌ لَنَا أَوْ بِإِرْعَافِ نَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَيُفْطِرُ الْحَاجِمُ إنْ مَصَّ الْقَارُورَةَ وَلَا يُفْطِرُ بِمَذْيٍ بِسَبَبِ قُبْلَةٍ أَوْ لَمْسٍ أَوْ تَكْرَارِ نَظَرٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِنَا وَأَمَّا إذَا ذَاقَ طَعَامًا وَلَفَظَهُ أَوْ وَضَعَ فِي فِيهِ عَسَلًا وَمَجَّهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِلْحَاجَةِ كَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ إذَا وُجِدَتْ مِنْ الصَّائِمِ فَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى الْفِطْرِ كَمَا يُعَاقَبُ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ ذَكَرَ «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ الصَّوْمِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ» لِمَا حَصَلَ مِنْ الْإِثْمِ الْمُقَاوِمِ لِلصَّوْمِ وَهَذَا أَيْضًا لَا تَنَازُعَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا تُفَطِّرُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الصَّوْمِ أَوْ أَنَّهَا قَدْ تَذْهَبُ بِأَجْرِ الصَّوْمِ فَقَوْلُهُ يُوَافِقُ قَوْلَ الْأَئِمَّةِ وَمَنْ قَالَ إنَّهَا تُفَطِّرُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الصِّيَامِ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الْأَئِمَّةِ. وَإِذَا شُتِمَ الصَّائِمُ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُجِيبَ بِقَوْلِهِ: إنِّي صَائِمٌ وَسَوَاءٌ كَانَ الصَّوْمُ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَشَمُّ الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ لَا بَأْسَ بِهِ لِلصَّائِمِ.

فصل تبرع إنسان بالصوم عمن لا يطيقه

وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَالْمُرَادُ بِتَفْطِيرِهِ أَنْ يُشْبِعَهُ. وَمَنْ أَكَلَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَيْلٌ فَبَانَ نَهَارًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَكَذَا مَنْ جَامَعَ جَاهِلًا بِالرَّفَثِ أَوْ نَاسِيًا وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَإِذَا أَكْرَهَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ عَلَى الْجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ يَحْمِلُ عَنْهَا مَا يَجِبُ عَلَيْهَا وَهَلْ تَجِبُ كَفَّارَةُ الْجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ لِإِفْسَادِ الصَّوْمِ الصَّحِيحِ أَوْ لِحُرْمَةِ الزَّمَانِ فِيهِ قَوْلَانِ الصَّوَابُ الثَّانِي. [فَصْلٌ تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِالصَّوْمِ عَمَّنْ لَا يُطِيقُهُ] فَصْلٌ وَإِنْ تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِالصَّوْمِ عَمَّنْ لَا يُطِيقُهُ لِكِبَرِهِ وَنَحْوِهِ أَوْ عَنْ مَيِّتٍ وَهُمَا مُعْسِرَانِ تَوَجَّهَ جَوَازُهُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْمُمَاثَلَةِ مِنْ الْمَالِ. وَحَكَى الْقَاضِي فِي صَوْمِ النَّذْرِ فِي حَيَاةِ النَّاذِرِ نَحْوَ ذَلِكَ وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمُ نَذْرٍ أَجْزَأَ الصَّوْمُ عَنْهُ بِلَا كَفَّارَةٍ، وَلَا يَقْضِي مُتَعَمِّدٌ بِلَا عُذْرٍ صَوْمًا وَلَا صَلَاةً وَلَا تَصِحُّ مِنْهُ. وَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ أَمَرَ الْمُجَامِعَ فِي رَمَضَانَ بِالْقَضَاءِ فَضَعِيفٌ لِعُدُولِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْهُ، وَإِذَا شَرَعَتْ الْمَرْأَةُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَجَبَ عَلَيْهَا إتْمَامُهُ وَلَمْ يَكُنْ لِزَوْجِهَا تَفْطِيرُهَا، وَإِنْ أَمَرَهَا أَنْ تُؤَخِّرَ الْقَضَاءَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهِ كَانَ حَسَنًا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ. [فَصْلٌ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ] فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ وَفِي بَعْضِهَا هُوَ كَصَوْمِ الدَّهْرِ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا حَصَلَ لَهُ أَجْرُ صِيَامِ الدَّهْرِ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ الْمَفْسَدَةِ وَصِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ. فَلَوْ غُمَّ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ شَهِدَ بِرُؤْيَتِهِ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، إمَّا لِانْفِرَادِهِ بِالرُّؤْيَةِ أَوْ لِكَوْنِهِ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ قَبُولُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَى إكْمَالِ ذِي الْقَعْدَةِ فَصَوْمُ يَوْمِ التَّاسِعِ الَّذِي هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ جَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ، قُلْت وَلَكِنْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِهِ عَنْ النَّخَعِيِّ فِي صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فِي الْحَضَرِ إذَا كَانَ فِيهِ اخْتِلَافٌ فَلَا يَصُومَنَّ، وَعَنْهُ قَالَ كَانُوا لَا يَرَوْنَ بِصَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بَأْسًا إلَّا أَنْ يَتَخَوَّفُوا أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الذَّبْحِ.

وَرُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ وَغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ مِثْلُ ذَلِكَ وَكَلَامُ هَؤُلَاءِ قَدْ يُقَالُ: إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ دُونَ التَّحْرِيمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا إنْ شَهِدَ بِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ مَنْ يَثْبُتُ الشَّهْرُ بِهِ لَكِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ الْحَاكِمُ إمَّا لِعُذْرٍ ظَاهِرٍ أَوْ لِتَقْصِيرٍ فِي أَمْرِهِ، فَأَقُولُ هَذِهِ الصُّورَةُ تُخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُنْفَرِدِ بِهِلَالِ شَوَّالٍ هَلْ يُفْطِرُ عَمَلًا بِرُؤْيَتِهِ أَمْ لَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ النَّاسِ، فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَا يُفْطِرُ الْمُنْفَرِدُ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ بَلْ يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ النَّاسِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ لَا يُسْتَحَبُّ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِلشَّاهِدِ الَّذِي لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ بِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ. وَمَنْ قَالَ فِي الشَّاهِدِ بِهِلَالِ شَوَّالٍ يُفْطِرُ سِرًّا قَالَ هُنَا إنَّهُ يُفْطِرُ وَلَا يَصُومُ لِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ فِي حَقِّهِ، وَلَكِنْ لَا يُضَحِّي وَلَا يَقِفُ بِعَرَفَةَ بِذَلِكَ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ وَلَا يُكْرَهُ إفْرَادُهُ بِالصَّوْمِ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُكْرَهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَوَجَبَ صَوْمُهُ وَنُسِخَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا. وَصَوْمُ الدَّهْرِ الصَّوَابُ قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ تَرْكًا لِلْأَوْلَى أَوْ كَرِهَهُ، وَمَنْ صَامَ رَجَبًا مُعْتَقِدًا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَشْهُرِ أَثِمَ وَعُزِّرَ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ فِعْلُ عُمَرُ، وَفِي تَحْرِيمِ إفْرَادِهِ وَجْهَانِ، وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَهُ كُلَّ سَنَةٍ أَفْطَرَ بَعْضَهُ وَقَضَاهُ وَفِي الْكَفَّارَةِ خِلَافٌ. وَأَمَّا مَنْ صَامَ الْأَشْهُرَ الثَّلَاثَةَ «فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَصُومُ شَهْرًا كَامِلًا إلَّا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَكَانَ يَصُومُ أَكْثَرَ شَعْبَانَ» وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ فِي رَجَبٍ شَيْءٌ، وَإِذَا أَفْطَرَ الصَّائِمُ بَعْضَ رَجَبٍ وَشَعْبَانَ كَانَ حَسَنًا، وَلَا يُكْرَهُ صَوْمُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَعْبَانَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا يُكْرَهُ إفْرَادُ يَوْمِ السَّبْتِ بِالصَّوْمِ وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ صَوْمِ أَعْيَادِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا صَوْمُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَا قِيَامُ لَيْلَتِهَا، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي رَدِّهِ عَلَى الرَّافِضِيِّ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِثَوَابِهِ عَلَى مَا فَعَلَهُ وَعِقَابُهُ عَلَى مَا تَرَكَهُ وَلَوْ كَانَ بَاطِلًا كَعَدَمِهِ لَمْ يُجْبَرْ بِالنَّوَافِلِ، وَالْبَاطِلُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ ضِدُّ الصَّحِيحِ فِي عُرْفِهِمْ، وَهُوَ مَا أَبْرَأَ الذِّمَّةَ، فَقَوْلُهُمْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَصَوْمُهُ لِمَنْ تَرَكَ رُكْنًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهَا شَيْئًا فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] الْإِبْطَالُ هُوَ بُطْلَانُ الثَّوَابِ، وَلَا يُسَلَّمُ بُطْلَانُ جَمِيعِهِ بَلْ قَدْ

فصل في مسائل التفضيل وليلة القدر من أفضل الليالي

يُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَهُ فَلَا يَكُونُ مُبْطِلًا لِعَمَلِهِ، وَأَمَّا ثَامِنُ شَوَّالٍ فَلَيْسَ عِيدًا لَا لِلْأَبْرَارِ وَلَا لِلْفُجَّارِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَهُ عِيدًا وَلَا يُحْدِثَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ شَعَائِرِ الْأَعْيَادِ. [فَصْلٌ فِي مَسَائِلِ التَّفْضِيلِ وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ أَفْضَلِ اللَّيَالِي] وَهِيَ فِي الْوِتْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ وَالْوِتْرُ قَدْ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي فَيَطْلُبُ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَلَيَالِيَ ثَلَاثٍ إلَى آخِرِهِ. وَقَدْ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْبَاقِي لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَاسِعَةٍ تَبْقَى. الْحَدِيثَ، فَإِذَا كَانَ الشَّهْرُ ثَلَاثِينَ فَتَكُونُ تِلْكَ مِنْ لَيَالِي الْإِشْفَاعِ، وَلَيْلَةُ الثَّانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ تَاسِعَةٌ تَبْقَى وَلَيْلَةُ أَرْبَعٍ سَابِعَةٌ تَبْقَى كَمَا فَسَّرَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَإِنْ كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ كَانَ التَّارِيخُ بِالْبَاقِي كَالتَّارِيخِ بِالْمَاضِي. وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ إجْمَاعًا، وَيَوْمُ النَّحْرِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ، وَلَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ أَفْضَلُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ أَفْضَلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُمَّةِ. وَخَدِيجَةُ إيثَارُهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَنَصْرُهَا وَقِيَامُهَا فِي الدِّينِ لَمْ تُشْرِكْهَا عَائِشَةُ وَلَا غَيْرُهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِيثَارُ عَائِشَةَ فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ وَحَمْلُ الدِّينِ وَتَبْلِيغُهُ إلَى الْأُمَّةِ وَإِدْرَاكُهَا مِنْ الْعِلْمِ لَمْ تُشْرِكْهَا فِيهِ خَدِيجَةُ وَلَا غَيْرُهَا مِمَّا تَمَيَّزَتْ بِهِ عَنْ غَيْرِهَا، وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، مِنْ أَفْضَلِ النِّسَاءِ، وَالْفَوَاضِلُ مِنْ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَخَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ وَفَاطِمَةَ أَفْضَلُ مِنْهُمَا، وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَحُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِنَبِيَّتَيْنِ، وَأَمَّا أَزْوَاجُهُمَا فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ رُوِيَ فِي مَرْيَمَ أَنَّهَا زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَلَا أَعْلَمُ صِحَّةَ ذَلِكَ وَلَا أَعْلَمُ مَا يَقْطَعُ بِهِ. وَالْغَنِيُّ الشَّاكِرُ وَالْفَقِيرُ الصَّابِرُ أَفْضَلُهُمَا أَتْقَاهُمَا لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ، وَصَالِحُو الْبَشَرِ أَفْضَلُ بِاعْتِبَارِ النِّهَايَةِ، وَصَالِحُو الْمَلَكِ أَفْضَلُ بِاعْتِبَارِ الْبِدَايَةِ. وَعَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ لَيَالِيِهِ وَأَيَّامِهِ، وَقَدْ يُقَالُ لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ وَأَيَّامُ تِلْكَ أَفْضَلُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَرَمَضَانُ أَفْضَلُ الشُّهُورِ وَيَكْفُرُ مَنْ فَضَّلَ رَجَبًا عَلَيْهِ، وَمَكَّةُ أَفْضَلُ بِقَاعِ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَنَصُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا فَضَّلَ تُرْبَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْكَعْبَةِ إلَّا الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَلَمْ

باب الاعتكاف

يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا وَافَقَهُ وَالصَّلَاةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْقُرَبِ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ، وَالْمُجَاوَرَةُ بِمَكَانٍ يَكْثُرُ فِيهِ إيمَانُهُ وَتَقْوَاهُ أَفْضَلُ حَيْثُ كَانَ وَتُضَاعَفُ السَّيِّئَةُ وَالْحَسَنَةُ بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ فَاضِلٍ وَذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ الْجَوْزِيِّ انْتَهَى. [بَابُ الِاعْتِكَافِ] ِ وَمَنْ نَذَرَ الِاعْتِكَافَ فِي مَسْجِدٍ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ تَعَيَّنَ مَا امْتَازَ عَلَى غَيْرِهِ بِمَزِيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ كَقِدَمٍ وَكَثْرَةِ جَمْعٍ اخْتَارَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِنَا، وَلَا يَجُوزُ سَفَرُ الرَّجُلِ إلَى الْمَشَاهِدِ وَالْقُبُورِ وَالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَإِنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عِنْدَ الْحُكْمِ الَّذِي أُنْزِلَ لَهُ أَوْ مَا يُنَاسِبُهُ فَحَسَنٌ، كَقَوْلِهِ لِمَنْ دَعَاهُ إلَى ذَنْبٍ تَابَ مِنْهُ {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور: 16] وَقَوْلُهُ عِنْدَمَا أَهَمَّهُ أَمْرٌ {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] . وَالتَّحْقِيقُ فِي الصَّمْتِ أَنَّهُ إذَا طَالَ حَتَّى يَتَضَمَّنَ تَرْكَ الْكَلَامِ الْوَاجِبِ صَارَ حَرَامًا كَمَا قَالَ الصِّدِّيقُ، وَكَذَا إنْ بَعُدَ بِالصَّمْتِ عَنْ الْكَلَامِ الْمُسْتَحَبِّ. وَالْكَلَامُ الْحَرَامُ يَجِبُ الصَّمْتُ عَنْهُ، وَفُضُولُ الْكَلَامِ يَنْبَغِي الصَّمْتُ عَنْهُ، وَلَمْ يَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ لِمَنْ قَصَدَ الْمَسْجِدَ لِلصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا أَنْ يَنْوِيَ الِاعْتِكَافَ مُدَّةَ لُبْثِهِ. وَالسِّيَاحَةُ فِي الْبِلَادِ لِغَيْرِ قَصْدٍ شَرْعِيٍّ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النُّسَّاكِ أَمْرٌ مُنْهَى عَنْهُ قَالَ الْإِمَام أَحْمَدُ: لَيْسَتْ السِّيَاحَةُ مِنْ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ وَلَا مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ.

كتاب الحج

[كِتَابُ الْحَجِّ] ِّ وَيَلْزَمُ الْإِنْسَانَ طَاعَةُ وَالِدِيهِ فِي غَيْرِ الْمَعْصِيَةِ وَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ أَحْمَدَ، وَهَذَا فِيمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُمَا وَلَا ضَرَرَ، فَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَضُرَّهُ وَجَبَ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنَّمَا لَمْ يُقَيِّدْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِسُقُوطِ الْفَرَائِضِ بِالضَّرَرِ وَتَحْرُمُ فِي الْمَعْصِيَةِ وَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، فَحِينَئِذٍ لَيْسَ لِلْأَبَوَيْنِ مَنْعُ وَلَدِهِمَا مِنْ الْحَجِّ الْوَاجِبِ، لَكِنْ يَسْتَطِيبُ أَنْفُسَهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا وَإِلَّا حَجَّ وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُ زَوْجَتِهِ مِنْ الْحَجِّ الْوَاجِبِ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَحُجَّ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ، حَتَّى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ يُوجِبُونَ لَهَا النَّفَقَةَ عَلَيْهِ مُدَّةَ الْحَجِّ. وَالْحَجُّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ، وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ الطَّرِيقَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا عُمْرَةَ عَلَيْهِمْ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَفِي غَيْرِهِمْ رِوَايَتَانِ، وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ وَطَرِيقَةُ أَبِي الْبَرَكَاتِ فِي الْعُمْرَةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ثَالِثُهَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ. وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَتُوُفِّيَ قَبْلَهُ وَخَلَّفَ مَالًا حُجَّ عَنْهُ مِنْهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَالتِّجَارَةُ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً لَكِنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشْغَلُهُ عَنْ الْحَجِّ. وَمَنْ أَرَادَ سُلُوكَ طَرِيقٍ يَسْتَوِي فِيهَا احْتِمَالُ السَّلَامَةِ وَالْهَلَاكِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْكَفُّ عَنْ سُلُوكِهَا فَإِنْ لَمْ يَكْفِ فَيَكُونُ أَعَانَ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ شَهِيدًا. وَيَجُوزُ الْخَفَارَةُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا فِي الدَّفْعِ عَنْ الْمَخْفِرِ وَلَا يَجُوزُ مَعَ عَدَمِهَا كَمَا يَأْخُذُهُ السُّلْطَانُ مِنْ الرَّعَايَا. وَتَحُجُّ كُلُّ امْرَأَةٍ آمِنَةٍ مَعَ عَدَمِ مَحْرَمٍ.

فصل ما ينعقد به الإحرام

قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ فِي سَفَرِ كُلِّ طَاعَةٍ وَأَمَّا إمَاءُ الْمَرْأَةِ يُسَافِرْنَ مَعَهَا وَلَا يَفْتَقِرْنَ إلَى مَحْرَمٍ لِأَنَّهُ لَا مَحْرَمَ لَهُنَّ فِي الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، فَأَمَّا عُتَقَاؤُهَا مِنْ الْإِمَاءِ بَيَّضَ لِذَلِكَ أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ يُتَوَجَّهُ احْتِمَالُ أَنَّهُنَّ كَالْإِمَاءِ عَلَى مَا قَالَ إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ مَحْرَمٌ فِي الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، أَوْ احْتِمَالِ عَكْسِهِ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ وَمِلْكِ أَنْفُسِهِنَّ بِالْعِتْقِ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ. وَصَحَّحَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ " أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُسَافِرُ لِلْحَجِّ إلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ، وَالْمَحْرَمُ زَوْجُ الْمَرْأَةِ أَوْ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ بِنَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ، وَلَوْ كَانَ النَّسَبُ وَطْءَ شُبْهَةٍ لَا زِنًا وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ فِي التَّحْرِيمِ لَا الْمَحْرَمِيَّةِ اتِّفَاقًا، وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ الْحَجُّ عَنْ الْمَرْأَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَكَذَا الْعَكْسُ عَلَى قَوْلِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَخَالَفَ فِيهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، وَالْحَجُّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ الَّتِي لَيْسَتْ وَاجِبَةً. وَأَمَّا إنْ كَانَ لَهُ أَقَارِبُ مَحَاوِيجُ فَالصَّدَقَةُ عَلَيْهِمْ أَفْضَلُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هُنَاكَ قَوْمٌ مُضْطَرُّونَ إلَى نَفَقَتِهِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ كِلَاهُمَا تَطَوُّعًا فَالْحَجُّ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَالِيَّةٌ وَكَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ وَالْعَقِيقَةُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ بِقِيمَةِ ذَلِكَ، لَكِنْ هَذَا بِشَرْطِ أَنْ يُقِيمَ الْوَاجِبَ فِي الطَّرِيقِ وَيَتْرُكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَيُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَيَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَيُؤَدِّي الْأَمَانَةَ وَلَا يَتَعَدَّى عَلَى أَحَدٍ. [فَصْلٌ مَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِحْرَامُ] فَصْلٌ وَيَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ بِنِيَّةِ النُّسُكِ مَعَ التَّلْبِيَةِ أَوْ سَوْقِ الْهَدْيِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَحَكَى قَوْلًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَيَحْرُمُ عَقِبَ فَرْضٍ إنْ كَانَ أَوْ نَفْلٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِحْرَامِ صَلَاةٌ تَخُصُّهُ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُحْرِمِ الِاشْتِرَاطُ إنْ كَانَ خَائِفًا وَإِلَّا فَلَا جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ، وَالْقِرَانُ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ إنْ سَاقَ هَدْيًا وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. اعْتَمَرَ وَحَجَّ فِي سَفْرَتَيْنِ أَوْ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَالْإِفْرَادُ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ

الْأَرْبَعَةِ، وَمَنْ أَفْرَدَ الْعُمْرَةَ بِسَفْرَةٍ ثُمَّ قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَتَمَتَّعُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّ قَارِنًا. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا شَكَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَارِنًا وَالتَّمَتُّعُ أَحَبُّ إلَيَّ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَعَلَى هَذَا مُتَقَدِّمُو أَصْحَابِنَا، وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ لَمْ يَجُزْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ بِالِاتِّفَاقِ وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ أَنْ تُغَطِّيَ وَجْهَهَا بِمُلَاصِقٍ خَلَا النِّقَابِ وَالْبُرْقُعِ، وَيَجُوزُ عَقْدُ الرِّدَاءِ فِي الْإِحْرَامِ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِيهِ. وَمَنْ مِيقَاتُهُ الْجُحْفَةُ كَأَهْلِ مِصْرَ وَالشَّامِ إذَا مَرُّوا عَلَى الْمَدِينَةِ فَلَهُمْ تَأْخِيرُ الْإِحْرَامِ إلَى الْجُحْفَةِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِحْرَامُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَيَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُ مَقْطُوعِ الْكَعْبَيْنِ مَعَ وُجُودِ النَّعْلِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمُفْرَدَاتِ وَأَبُو الْبَرَكَاتِ، وَمَنْ جَامَعَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ يَعْتَمِرُ مُطْلَقًا وَعَلَيْهِ نُصُوصُ أَحْمَدَ وَيُجْزِئُ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى رَطْلَا خُبْزٍ عِرَاقِيَّةٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِأُدْمٍ وَمِمَّا يَأْكُلُهُ أَفْضَلُ مِنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ، وَالْمُحْرِمُ إنْ احْتَاجَ وَقَطَعَ شَعْرَهُ لِحِجَامَةٍ أَوْ غُسْلٍ لَمْ يَضُرَّهُ، وَالْقَمْلُ وَالْبَعُوضُ وَالْقُرَادُ إنْ قَرَصَهُ قَتَلَهُ مُحَابًّا وَإِلَّا فَلَا يَقْتُلُهُ، وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ النَّحْلِ وَلَوْ بِأَخْذِ كُلِّ عَسَلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ ضَرَرُهُ إلَّا بِقَتْلِهِ جَازَ، وَيُسَنُّ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَفِي الطَّوَافِ وَتُسَنُّ الْقِرَاءَةُ فِي الطَّوَافِ لَا الْجَهْرُ بِهَا، فَأَمَّا إنْ غَلَّطَ الْمُصَلِّينَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إذًا، وَجِنْسُ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الطَّوَافِ، والشَّاذِرْوَانُ لَيْسَ مِنْ الْبَيْتِ بَلْ جُعِلَ عِمَادًا لَهُ، وَلَا يُشْرَعُ تَقْبِيلُ الْمَقَامِ وَمَسْحُهُ إجْمَاعًا فَسَائِرُ الْمَقَامَاتِ أَوْلَى، وَلَا يُشْرَعُ صُعُودُ جَبَلِ الرَّحْمَةِ إجْمَاعًا. وَتَخْتَلِفُ أَفْضَلِيَّةُ الْحَجِّ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا بِحَسَبِ النَّاسِ، وَالْوُقُوفُ رَاكِبًا أَفْضَلُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، يُقَصِّرُ مِنْ شَعْرِهِ، إذَا حَلَّ لَا مِنْ كُلِّ شَعْرَةٍ بِعَيْنِهَا، وَالْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ إمَّا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ. وَمَنْ حَكَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ مُبَاحٌ فَقَدْ غَلِطَ، وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ قُدُومٍ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ الْإِفَاضَةِ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَقَالَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَالْمُتَمَتِّعُ يَكْفِيهِ سَعْيٌ وَاحِدٌ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، نَقَلَهَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ كَالْقَارِنِ، وَيَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى عَقْدِ النِّكَاحِ هَذَا مَنْصُوصُ أَحْمَدَ إلَّا النِّسَاءَ.

باب الهدي والأضحية

وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ الْمُقِيمِ لِلْمَنَاسِكِ التَّعْجِيلُ لِأَجْلِ مَنْ يَتَأَخَّرُ. قَالَ أَصْحَابُنَا وَإِنْ خَرَجَ إنْسَانٌ غَيْرُ حَاجٍّ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ لَا يُوَدِّعُ، وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الزَّاغُونِيِّ لَا يُوَدِّعُ الْبَيْتَ ظَهْرَهُ حَتَّى يَغِيبَ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: هَذَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ. وَيَحْرُمُ طَوَافُهُ بِغَيْرِ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ اتِّفَاقًا، وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا يَقْبَلُهُ وَلَا يَتَمَسَّحُ بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ الشِّرْكِ، وَالشِّرْكُ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وَكَذَا الْخُرُوجُ مِنْ مَكَّةَ لِعُمْرَةِ تَطَوُّعٍ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَصْحَابُهُ عَلَى عَهْدِهِ لَا فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْ عَائِشَةَ بِهَا بَلْ أَذِنَ لَهَا بَعْدَ الْمُرَاجَعَةِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا، وَطَوَافُهُ بِالْبَيْتِ أَفْضَلُ مِنْ الْخُرُوجِ اتِّفَاقًا وَخُرُوجُهُ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَكْرَهْهُ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوا الْوُضُوءَ لِلطَّوَافِ لَيْسَ مَعَهُمْ دَلِيلٌ أَصْلًا وَمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا طَافَ تَوَضَّأَ» فَهَذَا لَا يَدُلُّ فَإِنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثُ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ أَتَى بِالْعُمْرَةِ وَلِهَذَا أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ حَجَّةَ الْمُتَمَتِّعِ حَجَّةٌ مَكِّيَّةٌ. وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْحَجَّ يُسْقِطُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ بَعْدَ تَعْرِيفِهِ إنْ كَانَ جَاهِلًا، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْآدَمِيِّ مِنْ مَالٍ أَوْ عَرَضٍ أَوْ دَمٍ بِالْحَجِّ إجْمَاعًا. وَمَنْ جَرَّدَ مَعَ الْحَاجِّ أَوْ غَيْرِهِ وَجَمَعَ لَهُ مِنْ الْجُنْدِ الْمُقْطَعِينَ مَا يُعِينُهُ عَلَى كُلْفَةِ الطَّرِيقِ أُبِيحَ لَهُ أَخْذُهُ وَلَا يَنْقُصُ أَجْرُهُ، وَلَهُ أَجْرُ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ، وَشَهْرُ السِّلَاحِ عِنْدَ قُدُومِ تَبُوكَ بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ وَمَا يَذْكُرُهُ الْجُهَّالُ مِنْ حِصَارِ تَبُوكَ كَذِبٌ لَا أَصْلَ لَهُ. وَالْمُحْصَرُ بِمَرَضٍ أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ كَالْمُحْصَرِ بِعَدُوِّ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَمِثْلُهُ حَائِضٌ تَعَذَّرَ مَقَامُهَا وَحَرُمَ طَوَافُهَا وَرَجَعَتْ وَلَمْ تَطُفْ لِجَهْلِهَا بِوُجُوبِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ أَوْ لِعَجْزِهَا عَنْهُ، أَوْ لِذَهَابِ الرُّفْقَةِ، وَالْمُحْصَرُ يَلْزَمُهُ دَمٌ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ حَجِّهِ إنْ كَانَ تَطَوُّعًا وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. [بَابُ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ] ِ وَتَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِمَا كَانَ أَصْغَرَ مِنْ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ لِمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ

جَاهِلًا بِالْحُكْمِ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَغَيْرِهَا، لِقِصَّةِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَنْ يُجْزِئَ أَحَدٌ بَعْدَك أَيْ بَعْدَ حَالِك، وَالْأَجْرُ فِي الْأُضْحِيَّةِ عَلَى قَدْرِ الْقِيمَةِ مُطْلَقًا، وَتُجْزِي الْهَتْمَاءُ الَّتِي سَقَطَ بَعْضُ أَسْنَانِهَا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَلَا تَضْحِيَةَ بِمَكَّةَ وَإِنَّمَا هُوَ الْهَدْيُ، وَإِذَا ذَبَحَ قَالَ: اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْت مِنْ إبْرَاهِيمَ. وَلَا يُسْتَحَبُّ أَخْذُ شَعْرِهِ بَعْدَ ذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالتَّضْحِيَةُ عَنْ الْمَيِّتِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ بِثَمَنِهَا، وَآخِرُ وَقْتِ ذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَلَمْ يُنْسَخْ تَحْرِيمُ الِادِّخَارِ عَامَ مَجَاعَةٍ لِأَنَّهُ سَبَبُ التَّحْرِيمِ، وَقَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ عَدِمَ مَا يُضَحَّى بِهِ وَيُعَقُّ اقْتَرَضَ وَضَحَّى وَعَقَّ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوَفَاءِ، وَالْأُضْحِيَّةُ مِنْ النَّفَقَةِ بِالْمَعْرُوفِ فَتُضَحِّي امْرَأَةٌ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ بِلَا إذْنِهِ، وَمَدِينٍ لَمْ يُطَالِبْهُ رَبُّ الدَّيْنِ وَلَا يُعْتَبَرُ التَّمْلِيكُ فِي الْعَقِيقَةِ.

كتاب البيع

[كِتَابُ الْبَيْعِ] ِ وَكُلُّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا أَوْ هِبَةً مِنْ مُتَعَاقِبٍ أَوْ مُتَرَاخٍ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ انْعَقَدَ بِهِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَيَجُوزُ بَيْعُ الطَّيْرِ لِقَصْدِ صَوْتِهِ إذَا جَازَ حَبْسُهُ، وَفِيهِ احْتِمَالَانِ لِابْنِ عَقِيلٍ، وَاخْتَارَ أَبُو الْعَبَّاسِ صِحَّةَ الْبَيْعِ بِغَيْرِ صِفَةٍ وَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَضَعَّفَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَالْبَيْعُ بِالصِّفَةِ السَّلِيمَةِ صَحِيحٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ. وَإِنْ بَاعَهُ لَبَنًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ وَاشْتَرَطَ كَوْنَهُ مِنْ هَذِهِ الشَّاةِ أَوْ الْبَقَرَةِ صَحَّ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَلَإِ وَنَحْوِهِ الْمَوْجُودِ فِي أَرْضِهِ إذَا قَصَدَ اسْتِنْبَاتَهُ، وَيَصِحُّ بَيْعُ مَا فُتِحَ عَنْوَةً أَوْ لَمْ يُقْسَمْ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ، وَيَكُونُ فِي يَدِ مُشْتَرِيهِ بِخَرَاجِهِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَجَوَّزَ أَحْمَدُ أَصْدَاقَهَا وَقَالَهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ وَتَأَوَّلَهُ الْقَاضِي عَلَى نَفْعِهَا وَالْمُؤَثِّرُ بِهَا أَحَقُّ بِلَا خِلَافٍ، وَإِذَا جَعَلَهَا الْإِمَامُ فَيْئًا صَارَ ذَلِكَ حُكْمًا بَاقِيًا فِيهِمَا دَائِمًا. وَلَا تَعُودُ إلَى الْغَانِمِينَ وَلَيْسَ غَيْرُهُمْ مُخْتَصًّا بِهَا وَمَكَّةُ الْمُشَرَّفَةُ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَيَجُوزُ بَيْعُهَا لَا إجَارَتُهَا، فَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا فَالْأُجْرَةُ سَاقِطَةٌ يَحْرُمُ بَذْلُهَا، وَيَصِحُّ بَيْعُ الْحَيَوَانِ الْمَذْبُوحِ مَعَ جِلْدِهِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَا لَوْ أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا بِالْبَيْعِ، وَيَصِحُّ بَيْعُ الْمَغْرُوسِ فِي الْأَرْضِ الَّذِي يَظْهَرُ وَرَقُهُ كَالْقَتِّ وَالْجَوْزِ وَالْقُلْقَاسِ وَالْفُجْلِ وَالْبَصَلِ وَشَبِيهِ ذَلِكَ، وَقَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَيَصِحُّ الْبَيْعُ بِالرَّقْمِ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَتَأَوَّلَهُ الْقَاضِي وَبِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ، وَكَمَا يَبِيعُ النَّاسُ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَلَوْ بَاعَ وَلَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ صَحَّ بِثَمَنِ الْمِثْلِ كَالنِّكَاحِ، وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ مَا قَصْدُهُ بِهِ

الْحَرَامَ كَعَصِيرٍ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا إذَا عَلِمَ ذَلِكَ كَمَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، أَوْ ظَنَّ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ يُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْأَصْحَابَ قَالُوا لَوْ ظَنَّ الْآجِرُ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَسْتَأْجِرُ الدَّارَ لِمَعْصِيَةٍ كَبَيْعِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ تِلْكَ الدَّارَ، وَلَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ، وَالْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ سَوَاءٌ. وَإِذَا جَمَعَ الْبَائِعُ بَيْنَ عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الْحُكْمِ بِعِوَضَيْنِ مُتَمَيِّزَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبَلَ أَحَدَهُمَا بِعِوَضِهِ، وَيَحْرُمُ الشِّرَاءُ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ مُطَالَبَةُ الْبَائِعِ بِالسِّلْعَةِ وَأَخَذَ السِّلْعَةَ أَوْ عِوَضَهَا. وَمَنْ اسْتَوْلَى عَلَى مِلْكِ إنْسَانٍ بِلَا حَقٍّ وَمَنَعَهُ إيَّاهُ حَتَّى يَبِيعَهُ إيَّاهُ فَهُوَ كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَمَنَّى الْغَلَاءَ. قَالَ أَحْمَدُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَنَّى الْغَلَاء، وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ: اشْتَرِنِي مِنْ زَيْدٍ فَإِنِّي عَبْدُهُ فَاشْتَرَاهُ فَبَانَ حُرًّا، فَإِنَّهُ يُؤَاخِذُ الْبَائِعَ وَالْمُقِرَّ بِالثَّمَنِ فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ غَابَ آخَذَ الْآخَرَ بِالثَّمَنِ وَنَقَلَهُ ابْنُ الْحَكَمِ عَنْ أَحْمَدَ. وَبَيْعُ الْأَمَانَةِ بَاطِلٌ وَيَجِبُ الْمُعَاوَضَةُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ لِأَنَّهَا مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَرْبَحُ عَلَى الْمُسْتَرْسِلِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَذَا الْمُضْطَرِّ الَّذِي لَا يَجِدُ حَاجَتَهُ إلَّا عِنْدَ شَخْصٍ يَنْبَغِي أَنْ يَرْبَحَ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا يَرْبَحُ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ بِالْقِيمَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، قَالَ أَبُو طَالِبٍ قِيلَ لِأَحْمَدَ إنْ رَبِحَ الرَّجُلُ فِي الْعَشَرَةِ خَمْسَةً يُكْرَهُ ذَلِكَ، قَالَ إذَا كَانَ أَجَلُهُ إلَى سَنَةٍ أَوْ أَقَلَّ بِقَدْرِ الرِّبْحِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ مُحَمَّدٍ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ بَيْعُ النَّسِيئَةِ إذَا كَانَ مُقَارِبًا فَلَا بَأْسَ، وَهَذَا يَقْتَضِي كَرَاهَةَ الرِّبْحِ الْكَثِيرِ الَّذِي يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الْأَجَلِ لِأَنَّهُ شِبْهُ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ، وَهَذَا يَعُمُّ بَيْعَ الْمُرَابَحَةِ وَالْمُسَاوَمَةِ. وَمَنْ ضَمِنَ مَكَانًا لِلْبَيْعِ وَيَشْتَرِي فِيهِ وَحْدَهُ كُرِهَ الشِّرَاءُ مِنْهُ بِلَا حَقٍّ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُ زِيَادَةٍ بِلَا حَقٍّ. اتَّفَقَ أَهْلُ السُّوقِ عَلَى أَنْ لَا يَتَزَايَدُوا فِي السِّلْعَةِ وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَيْهَا لِيَبِيعَهَا صَاحِبُهَا بِدُونِ قِيمَتِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ غِشِّ النَّاسِ مَا لَا يَخْفَى، وَإِنْ ثَمَّ مِنْ بُدٍّ فَلَا بَأْسَ، وَمَنْ مَلَكَ مَاءً نَابِعًا كَبِئْرٍ مَحْفُورَةٍ فِي مِلْكِهِ أَوْ عَيْنِ مَاءٍ فِي أَرْضِهِ فَلَهُ بَيْعُ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ جَمِيعًا، وَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا مُشَاعًا كَأُصْبُعٍ أَوْ أُصْبُعَيْنِ مِنْ قَنَاةٍ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْقَنَاةِ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ فَكَيْفَ إذَا كَانَ أَصْلُهَا فِي أَرْضِهِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَهَذَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا، وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ يَنْبُعُ مَاؤُهَا شَيْئًا فَشَيْئًا فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمَبِيعِ أَنْ يُرَى جَمِيعُهُ، بَلْ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ بِرُؤْيَتِهِ وَأَمَّا مَا يَتَجَدَّدُ وَمِثْلُ الْمَنَابِعِ وَنَقْعِ الْبِئْرِ فَلَا يَشْتَرِطُ أَحَدٌ رُؤْيَتَهُ فِي بَيْعٍ وَلَا إجَارَةٍ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا لَوْ بَاعَ

الْمَاءَ دُونَ الْقَرَارِ؛ وَفِي الصِّحَّةِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ هَلْ يُمْلَكُ وَتَنَازَعُوا إذَا بَاعَ الْأَرْضَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَاءَ هَلْ يَدْخُلُ أَمْ لَا؟ فَصْلٌ وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُك لَوْ جِئْتَنِي بِكَذَا أَوْ إنْ رَضِيَ زَيْدٌ صَحَّ الْبَيْعُ، وَالشَّرْطُ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَتَصِحُّ الشُّرُوطُ الَّتِي لَمْ تُخَالِفْ الشَّرْعَ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ، فَلَوْ بَاعَ جَارِيَةً وَشَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي إنْ بَاعَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ صَحَّ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أَحْمَدَ نَحْوُ الْعِشْرِينَ نَصًّا عَلَى صِحَّةِ الشُّرُوطِ. وَأَنَّهُ يَحْرُمُ الْوَطْءُ لِنَقْصِ الْمِلْكِ. سَأَلَ أَبُو طَالِبٍ الْإِمَامَ أَحْمَدَ عَمَّنْ اشْتَرَى أَمَةً يَشْتَرِطُ أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا لَا لِلْخِدْمَةِ قَالَ لَا بَأْسَ بِهِ، وَهَذَا مِنْ أَحْمَدَ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا شَرَطَ عَلَى الْبَائِعِ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا فِي الْبَيْعِ مِمَّا هُوَ مَقْصُودٌ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْبَيْعِ نَفْسِهِ صَحَّ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ كَاشْتِرَاطِ الْعِتْقِ، وَكَمَا اشْتَرَطَ عُثْمَانُ لِصُهَيْبٍ وَقْفَ دَارِهِ عَلَيْهِ، وَمِثْلُ هَذَا أَنْ يَبِيعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُعَلِّمَهُ أَوْ لَا يُخْرِجَهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ أَوْ لَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْعَمَلِ الْفُلَانِيِّ، أَوْ أَنْ يُزَوِّجَهُ أَوْ يُسَاوِيَهُ فِي الْمَطْعَمِ، أَوْ لَا يَبِيعَهُ أَوْ لَا يَهَبَهُ. فَإِذَا امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْوَفَاءِ فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَيْهِ أَوْ يَنْفَسِخُ، عَلَى وَجْهَيْنِ وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِنَا إذَا شَرَطَ فِي النِّكَاحِ أَنْ لَا يُسَافِرَ بِهَا أَوْ لَا يَتَزَوَّجَ إذْ لَا فَرْقَ فِي الْحَقِيقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَالْمَمْلُوكِ، وَإِذَا شَرَطَ الْبَائِعُ نَفْعَ الْمَبِيعِ لِغَيْرِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فَمُقْتَضَى كَلَامِ أَصْحَابِنَا جَوَازُهُ، فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا أَعْتَقَتْ سَفِينَةَ وَشَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَخْدُمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عَاشَ وَاسْتِثْنَاءُ خِدْمَةِ غَيْرِهِ فِي الْعِتْقِ كَاسْتِثْنَائِهَا فِي الْبَيْعِ، وَشَرْطُ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بَاطِلٌ، وَعَلَّلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا بِأَنَّهُ خِيَارٌ يَثْبُتُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَلَا يَسْقُطُ قَبْلَهُ كَالشُّفْعَةِ، وَمُقْتَضَى هَذَا التَّعْلِيلِ صِحَّةُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ بَعْدَ عَقْدِ الْبَيْعِ. وَقَالَ الْمُخَالِفُ فِي صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ إسْقَاطُ حَقٍّ وَصَحَّ فِي الْمَجْهُولِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ قِيلَ لَهُ وَالْجَوَابُ أَنَّا نَقُولُ بِوُجُوبِهِ، وَأَنَّهُ يَصِحُّ فِي الْمَجْهُولِ لَكِنْ بَعْدَ وُجُوبِهِ وَالصَّحِيحُ فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَاَلَّذِي قَضَى بِهِ الصَّحَابَةُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِذَلِكَ الْعَيْبِ فَلَا رَدَّ لِلْمُشْتَرِي، لَكِنْ إذَا ادَّعَى أَنَّ الْبَائِعَ عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَنْكَرَ الْبَائِعُ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ فَإِنْ نَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ.

فصل خيار المجلس في البيع

[فَصْلٌ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فِي الْبَيْعِ] فَصْلٌ وَيَثْبُتُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فِي الْبَيْعِ، وَيَثْبُتُ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي كُلِّ الْعُقُودِ وَلَوْ طَالَتْ الْمُدَّةُ، فَإِنْ أَطْلَقَا الْخِيَارَ وَلَمْ يُوَقِّتَاهُ بِمُدَّةٍ تَوَجَّهَ أَنْ يَثْبُتَ ثَلَاثًا لِخَبَرِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ. وَلِلْبَائِعِ الْفَسْخُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ إذَا رَدَّ الثَّمَنَ وَإِلَّا فَلَا، وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ وَكَذَا التَّمَلُّكَاتُ الْقَهْرِيَّةُ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ كَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَأَخْذِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ، وَالزَّرْعِ مِنْ الْغَاصِبِ، وَيَثْبُتُ خِيَارُ الْغَبْنِ الْمُسْتَرْسَلِ إلَى الْبَائِعِ لَمْ يُمَاكِسْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَإِنْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِبَيْعِهِ وَكَانَ قَصْدُهُ بِالتَّعْلِيقِ الْيَمِينَ دُونَ التَّبَرُّرِ بِعِتْقِهِ أَجْزَأَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّقَرُّبَ كَانَ عِتْقُهُ مُسْتَحَقًّا كَالنَّذْرِ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَيَكُونُ الْعِتْقُ مُطْلَقًا عَلَى صُورَةِ الْبَيْعِ. وَطَرَدَ أَبُو الْعَبَّاسِ قَوْلَهُ: هَذَا فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ عَلَى الْفَسْخِ وَالْخُلْعِ، فَجَعَلَهُ مُعَلَّقًا عَلَى صُورَةِ الْفَسْخِ وَالْخُلْعِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ فَلَا يَمْتَنِعُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ مَعَهُ، عَلَى رَأْيِ ابْنِ حَامِدٍ، حَيْثُ أَوْقَعَهُ مَعَ الْبَيْنُونَةِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَكَذَا بِالْفَسْخِ، وَيَحْرُمُ كَتْمُ الْعَيْبِ فِي السِّلْعَةِ. وَكَذَا لَوْ أَعْلَمَهُ بِهِ وَلَمْ يُعْلِمْهُ قَدْرَ عَيْبِهِ وَيَجُوزُ عِقَابُهُ بِإِتْلَافِهِ أَوْ التَّصَدُّقِ بِهِ، وَقَدْ أَفْتَى بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَيَحْرُمُ تَغْرِيرُ مُشْتَرٍ بِأَنْ يَسُومَهُ كَثِيرًا لِيَبْذُلَ قَرِيبًا مِنْهُ. وَالنَّمَاءُ الْمُتَّصِلُ فِي الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ الْعَائِدَةِ إلَى مَنْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ عَنْهُ لَا يَتْبَعُ الْأَعْيَانَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، حَيْثُ قَالَ إذَا اشْتَرَى غَنَمًا فَنَمَتْ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ فَالنَّمَاءُ لَهُ، وَهَذَا يَعُمُّ الْمُتَّصِلَ وَالْمُنْفَصِلَ، وَإِذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ عَلَى عَيْبٍ فَلَهُ أَرْشُهُ إنْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَكَذَا فِي نَظَائِرِهِ كَالصَّفْقَةِ إذَا تَفَرَّقَتْ، وَالْمَذْهَبُ يُخَيِّرُ الْمُشْتَرِيَ بَيْنَ الرَّدِّ وَأَخْذِ الثَّمَنِ وَإِمْسَاكِهِ وَأَخْذِ الْأَرْشِ، فَعَلَيْهِ يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى الرَّدِّ وَأَخْذِ الْأَرْشِ لِتَضَرُّرِ الْبَائِعِ بِالتَّأْخِيرِ، وَإِذَا أَبَقَتْ الْجَارِيَةُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَكَانَتْ مَعْرُوفَةً بِذَلِكَ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَكَتَمَهُ الْبَائِعُ رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ فِي الْأَصَحِّ.

باب الربا

وَالْجَارُ السُّوءُ عَيْبٌ، وَإِذَا ظَهَرَ عُسْرُ الْمُشْتَرِي أَوْ مَطَلَهُ فَلِلْبَائِعِ الْفَسْخُ، وَيَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِالْعَقْدِ وَيَصِحُّ عِتْقُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ إجْمَاعًا فِيهِمَا، وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَبِعْهُ قَبْلَ قَبْضِهِ سَوَاءٌ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ وَغَيْرُهُمَا. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا ابْنُ عَقِيلٍ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَبِيعُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي أَوْ لَا وَعَلَى ذَلِكَ تَدُلُّ أُصُولُ أَحْمَدَ كَتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَرَةِ قَبْلَ جَدِّهَا فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْبَائِعِ وَكَصِحَّةِ تَصَرُّفِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ بِالْإِجَارَةِ وَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُؤَجِّرِ، وَيَمْتَنِعُ التَّصَرُّفُ فِي صُبْرَةِ الطَّعَامِ الْمُشْتَرَاةِ جُزَافًا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهِيَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ مَعَ أَنَّهَا مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْأَكْثَرِينَ وَعِلَّةُ النَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَيْسَتْ تَوَالِي الضَّمَانَيْنِ بَلْ عَجْزُ الْمُشْتَرِي عَنْ تَسْلِيمِهِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ قَدْ يُسَلِّمُهُ وَقَدْ لَا يُسَلِّمُهُ، لَا سِيَّمَا إذَا رَأَى الْمُشْتَرِي قَدْ رَبِحَ فَيَسْعَى فِي رَدِّ الْبَيْعِ إمَّا بِجَحْدٍ أَوْ بِاحْتِيَالٍ فِي الْفَسْخِ، وَعَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ تَجُوزُ التَّوْلِيَةُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَهُوَ مُخَرَّجٌ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ الدَّيْنِ. وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِغَيْرِ الْبَيْعِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ لِبَائِعِهِ وَالشَّرِكَةُ فِيهِ، وَكُلُّ مَا مُلِكَ بِعَقْدٍ سِوَى الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِغَيْرِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ لِعَدَمِ قَصْدِ الرِّبْحِ، وَإِذَا تَعَيَّنَ مِلْكُ إنْسَانٍ فِي مَوْرُوثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ غَنِيمَةٍ لَمْ يُعْتَبَرْ لِصِحَّةِ تَصَرُّفِهِ قَبْضُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَيَنْتَقِلُ الضَّمَانُ إلَى الْمُشْتَرِي بِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْقَبْضِ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ الْفَرْقُ بَيْنَ تَمَكُّنِ قَبْضِهِ وَغَيْرِهِ لَيْسَ هُوَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَقْبُوضِ وَغَيْرِهِ. [بَابُ الرَّبَّا] وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ الْكَيْلُ أَوْ الْوَزْنُ مَعَ الطُّعْمِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَصُوغِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِجِنْسِهِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ التَّمَاثُلِ، وَيُجْعَلُ الزَّائِدُ فِي مُقَابَلَةِ الصِّيغَةِ لَيْسَ بِرِبًا وَلَا بِجِنْسٍ بِنَفْسِهِ، فَيُبَاعُ خُبْزٌ بِهَرِيسَةٍ وَزَيْتٌ بِزَيْتُونٍ، وَسِمْسِمٌ بِشَيْرَجٍ. وَالْمَعْمُولُ مِنْ النُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ إذَا قُلْنَا يَجْرِي الرِّبَا فِيهِ يَجْرِي فِي

فصل بيع المقاثي جملة بعروقها

مَعْمُولِهِ إذَا كَانَ يُقْصَدُ وَزْنُهُ بَعْدَ الصَّنْعَةِ كَثِيَابِ الْحَرِيرِ وَالْأَسْطَالِ وَنَحْوِهَا وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ ثَالِثُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَيَحْرُمُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ مَقْصُودًا لِلَّحْمِ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَوْزُونَاتِ الرِّبَوِيَّةِ بِالتَّحَرِّي، وَقَالَهُ مَالِكٌ، وَمَا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ مِثْلُ الْأَدْهَانِ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَيْلًا وَوَزْنًا، وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ الْعَرَايَا فِي جَمِيعِ الْعَرَايَا وَالزُّرُوعِ، وَيَجُوزُ مَسْأَلَةٌ مِنْ عَجْوَةٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ جَوَازُ بَيْعِ السَّيْفِ الْمُحَلَّى بِجِنْسِ حِلْيَتِهِ لِأَنَّ الْحِلْيَةَ لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ. وَيَجُوزُ بَيْعُ فِضَّةٍ لَا يَقْصِدُ غِشَّهَا بِخَالِصَةٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْحُلُولُ وَالتَّقَابُضُ فِي صَرْفِ الْفُلُوسِ النَّافِقَةِ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ نَقَلَهَا أَبُو مَنْصُورٍ وَاخْتَارَهَا ابْنُ عَقِيلٍ، وَمَا جَازَ التَّفَاضُلُ فِيهِ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ يَجُوزُ النَّسَاءُ فِيهِ إنْ كَانَ مُتَسَاوِيًا وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِنْ اصْطَرَفَا دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِمَا جَازَ. وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ خِلَافًا لِمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَيَحْرُمُ مَسْأَلَةُ التَّوَرُّقِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَمَنْ بَاعَ رِبَوِيًّا نَسِيئَةً حَرُمَ أَخْذُهُ عَنْ ثَمَنِ مَا لَا يُبَاعُ نَسِيئَةً مَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ. وَهُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي تَحْرِيمِهِ وَالشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيَّ فِي حِلِّهِ، وَالتَّحْقِيقُ فِي عُقُودِ الرِّبَا إذَا لَمْ يَحْصُلُ فِيهَا الْقَبْضُ أَنْ لَا عَقْدَ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ بَطَلَ الْعَقْدُ فَهُوَ بُطْلَانٌ مَا لَمْ يَتِمَّ بُطْلَانُ مَا تَمَّ، وَالْكِيمْيَاءُ بَاطِلَةٌ مُحَرَّمَةٌ وَتَحْرِيمُهَا أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكُتُبِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْرِفَةِ صِنَاعَتِهَا وَأَفْتَى بَعْضُ وُلَاةِ الْأُمُورِ بِإِتْلَافِهَا. [فَصْلٌ بَيْعُ الْمَقَاثِي جُمْلَةً بِعُرُوقِهَا] فَصْلٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَقَاثِي جُمْلَةً بِعُرُوقِهَا سَوَاءٌ بَدَا صَلَاحُهَا أَوْ لَا، وَهَذَا الْقَوْلُ لَهُ مَأْخَذَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعُرُوقَ كَأُصُولِ الشَّجَرِ، فَبَيْعُ الْخَضْرَاوَات قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا كَبَيْعِ الشَّجَرِ بِثَمَرِهِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ يَجُوزُ تَبَعًا. وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ لَمْ تَدْخُلْ فِي نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَى اللُّقَطَةِ الْمَوْجُودَةِ

باب السلم

وَاللُّقَطَةِ الْمَعْدُومَةِ إلَى أَنْ تَيْبَسَ الْمَقْثَأَةُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَقَاثِي دُونَ أُصُولِهَا وَقَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَإِذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِ شَجَرَةٍ جَازَ بَيْعُهَا وَبَيْعُ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَبَقِيَّةُ الْأَجْنَاسِ الَّتِي سَاءَ حَمْلُهُ فَإِنَّ أَصْحَابَ ذَلِكَ أَوْ الزَّرْعِ الَّذِي بِجَائِحَةٍ وَلَوْ مِنْ جَرَادٍ أَوْ جَيْشٍ لَا يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ فَمِنْ ضَمَانِ بَائِعِهِ إنْ لَمْ يُفَرِّطْ الْمُشْتَرِي، وَثَبَتَتْ الْجَائِحَةُ فِي الْمَزَارِعِ، كَمَا إذَا اكْتَرَى الْأَرْضَ بِأَلْفٍ مَثَلًا وَكَانَتْ تُسَاوِي بِالْجَائِحَةِ سَبْعَمِائَةٍ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا خِلَافُ مَا فِي الْمَعْنَى أَنَّ نَفْسَهُ إذَا تَلِفَ يَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ صَاحِبِ الزَّرْعِ لَا يَكُونُ كَالثَّمَرَةِ الْمُشْتَرَاةِ، فَهَذَا مَا فِيهِ خِلَافٌ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي نَفْسِ أُجْرَةِ الْأَرْضِ وَنَقْصِ قِيمَتِهَا فَيَكُونُ كَمَا لَوْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْ الرَّحَا وَنَبَتَتْ الْجَائِحَةُ فِي الْمَزَارِعِ. وَلَوْ قَالَ فِي الْإِجَارَةِ: إنَّهُ أَجَّرَهُ إيَّاهَا مُقِيلًا أَوْ مُضِيفًا أَوْ مَرَاحًا أَوْ مَزْرُوعًا، وَثَبَتَتْ الْجَائِحَةُ فِي حَانُوتٍ أَوْ حَمَّامٍ نَقَصَ نَفْعُهُ، وَحَكَمَ بِذَلِكَ أَبُو الْفَضْلِ سُلَيْمَانُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَقْدِسِيُّ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: لَكِنَّهُ بِخِلَافِ مَا رَأَيْته عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَقِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَدَ وَنُصُوصِهِ إذَا عَطَّلَ نَفْعَ الْأَرْضِ بِآفَةِ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ كَاسْتِهْدَامِ الدَّارِ. وَلَوْ يَبِسَتْ الْكُرُومُ بِجَرَادٍ أَوْ غَيْرِهِ سَقَطَ مِنْ الْخَرَاجِ حَسَبَ مَا يَعْطَلُ مِنْ النَّفْعِ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ النَّفْعُ بِهِ بِبَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ عِمَارَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ الْمُطَالَبَةُ بِالْخَرَاجِ. [بَابُ السَّلَمِ] ِ وَلَوْ أَسْلَمَ مِقْدَارًا مَعْلُومًا إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فِي شَيْءٍ، يَحْكُمُ أَنَّهُ إذَا حَلَّ يَأْخُذُهُ بِأَنْقَصَ مِمَّا يُسَاوِي بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ صَحَّ كَالْبَيْعِ بِالسِّعْرِ، وَيَصِحُّ السَّلَمُ حَالًّا إنْ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا فِي مِلْكِهِ وَإِلَّا فَلَا، وَيَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ مِنْ الْغَرِيمِ وَغَيْرِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ دَيْنِ السَّلَمِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَكِنْ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ فَقَطْ؛ لِئَلَّا يَرْبَحَ فِيمَا لَمْ يَضْمَنْ، وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ عَلَى شَرْطٍ، وَهُوَ عَنْ أَحْمَدَ.

باب القرض

وَمَا قَبَضَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بِعَقْدٍ، أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ إتْلَافٍ أَوْ ضَرِيبَةٍ وَسَبَبُ اسْتِحْقَاقِهَا وَاحِدٌ، فَلِشَرِيكِهِ الْأَخْذُ مِنْ الْغَرِيمِ وَيُحَاصُّهُ فِيمَا قَبَضَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ، وَكَذَا لَوْ تَلِفَ وَلَوْ تَبَارَآهُ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ دَيْنٌ مَكْتُوبٌ فَادَّعَى اسْتِثْنَاءَهُ بِقَلْبِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُبْرِئْهُ مِنْهُ قُبِلَ وَلِخَصْمِهِ تَحْلِيفُهُ. [بَابُ الْقَرْضِ] ِ وَيَجُوزُ قَرْضُ الْخُبْزِ وَرَدُّ مِثْلِهِ عَدَدًا بِلَا وَزْنٍ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَلَوْ أَقْرَضَهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَجُوزُ قَرْضُ الْمَنَافِعِ مِثْلُ أَنْ يَحْصُدَ مَعَهُ يَوْمًا وَيَحْصُدَ مَعَهُ الْآخَرُ يَوْمًا أَوْ يُسْكِنَهُ دَارًا لِيَسْكُنهُ الْآخَرُ بَدَلهَا، لَكِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْمَنَافِعِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ حَتَّى يَجِبَ رَدُّ الْمِثْلِ بِتَرَاضِيهِمَا. وَإِذَا ظَهَرَ الْمُقْتَرِضُ مُفْلِسًا وَوَجَدَ الْمُقْرِضُ عَيْنَ مَالِهِ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِعَيْنِ مَالِهِ بِلَا رَيْبٍ، وَالدَّيْنُ الْحَالُّ يَتَأَجَّلُ بِتَأْجِيلِهِ سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ قَرْضًا أَوْ غَيْرَهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَيَتَخَرَّجُ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ مِنْ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي صِحَّةِ إلْحَاقِ الْأَجَلِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ، وَلَوْ أَقْرَضَ إكَارَهُ بَذْرًا أَوْ أَمَرَهُ بِبَذْرِهِ وَأَنَّهُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَلَهُ نَصِيبُ الْمِثْلِ، وَلَوْ تَلِفَ لَمْ يَضْمَنْهُ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ، وَلَوْ اقْتَرَضَ مِنْ رَجُلٍ قُرُوضًا مُتَفَرِّقَةً، وَوَكَّلَ الْمُقْرِضَ فِي ضَبْطِهَا أَوْ ابْتَاعَ مِنْهُ شَيْئًا وَوَكَّلَ الْبَائِعَ فِي ضَبْطِ الْمَبِيعِ حِفْظًا أَوْ كِتَابَةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُ هَذَا الْمُؤْتَمَنِ هَاهُنَا مَقْبُولًا، وَيَجِبُ عَلَى الْمُقْتَرِضِ أَنْ يُوَفِّيَ الْمُقْرِضَ فِي بَلَدِ الْقَرْضِ وَلَا يُكَلِّفَهُ مَئُونَةَ السَّفَرِ وَالْحَمْلِ. [بَابُ الضَّمَانِ] ِ وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَصِحُّ بِكُلِّ لَفْظٍ يُفْهَمُ مِنْهُ الضَّمَانُ عُرْفًا، مِثْلُ زَوِّجْهُ وَأَنَا أُؤَدِّي الصَّدَاقَ، أَوْ بِعْهُ وَأَنَا أُعْطِيك الثَّمَنَ، أَوْ اُتْرُكْهُ لَا تُطَالِبْهُ وَأَنَا أُعْطِيك الثَّمَنَ، وَلَوْ تَغَيَّبَ مَضْمُونٌ عَنْهُ قَادِرٌ فَأَمْسَكَ الضَّامِنُ وَغَرِمَ شَيْئًا أَوْ أَنْفَقَهُ فِي الْحَبْسِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَيَصِحُّ ضَمَانُ الْمَجْهُولِ، وَمِنْهُ ضَمَانُ السُّوقِ وَهُوَ أَنْ يَضْمَنَ مَا يَلْزَمُ

فصل الحوالة على ماله في الدين إن أذن في الاستيفاء فقط

التَّاجِرَ مِنْ دَيْنٍ وَمَا يَقْبِضُهُ مِنْ عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ، وَتَجُوزُ كِتَابَتُهُ، وَالشَّهَادَةُ بِهِ لَمْ يَرَ جَوَازَهَا. وَكَذَلِكَ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ لِمَنْ لَمْ يَرَ جَوَازَهَا لِأَنَّ ذَلِكَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِعَانَةِ عَلَيْهَا فَحَرَامٌ، وَيَصِحُّ ضَمَانُ حَارِسٍ وَنَحْوِهِ وَتُجَّارِ حَرْبٍ بِمَا يَذْهَبُ مِنْ الْبَلَدِ أَوْ الْبَحْرِ وَغَايَتُهُ ضَمَانُ مَجْهُولٍ، وَمَا لَمْ يَجِبْ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ. وَمَنْ كَفَلَ إنْسَانًا فَسَلَّمَهُ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ وَلَا ضَرَرَ فِي تَسْلِيمِهِ بَرِئَ وَلَوْ فِي حَبْسِ الشَّرْعِ وَلَا يَلْزَمُهُ اخْتِيَارُهُ مِنْهُ إلَيْهِ عِنْدَ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ، وَالسَّجَّانُ وَنَحْوُهُ مِمَّنْ هُوَ وَكِيلٌ عَلَى بَدَنِ الْغَرِيمِ كَالْكَفِيلِ لِلْوَجْهِ عَلَيْهِ إحْضَارُ الْخَصْمِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ إحْضَارُهُ كَانَ كَمَا لَوْ لَمْ يَحْضُرْ الْمَكْفُولُ بِهِ يَضْمَنُ مَا عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْوَالِدُ ضَامِنًا لِوَلَدِهِ وَلَا لَهُ عِنْدَهُ مَالٌ يَجِبُ لَهُ عَلَى الْوَالِدِ مُعَاوَنَةُ صَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى إحْضَارِ وَلَدِهِ وَنَحْوِهِ وَلَزِمَهُ ذَلِكَ. [فَصْلٌ الْحَوَالَةُ عَلَى مَالِهِ فِي الدَّيْنِ إنْ أَذِنَ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَقَطْ] فَصْلٌ وَالْحَوَالَةُ عَلَى مَالِهِ فِي الدَّيْنِ، إنْ أَذِنَ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَقَطْ وَالْمُخْتَارُ الرُّجُوعُ وَمُطَالَبَتُهُ، وَلَيْسَ لِلِابْنِ أَنْ يُحِيلَ عَلَى الْأَبِ وَلَا يُبِيحُ دَيْنَهُ إذَا جَوَّزْنَا بَيْعَ مَا عَلَى الْغَرِيمِ إلَّا بِرِضَاءِ الْأَبِ، وَكَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ أَوْ يَقْتَرِضَ أَوْ يَشْتَرِيَ إذَا لَمْ يُعْلِمْ الْآخَرَ بِعُسْرَتِهِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَالِ أَنَّ الرَّجُلَ إنَّمَا يُعَامِلُ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ؛ فَإِذَا كَتَمَ ذَلِكَ كَانَ غَارًّا. [فَصْلٌ رَهْنُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مِنْ كَافِرٍ] فَصْلٌ وَيَجُوزُ رَهْنُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مِنْ كَافِرٍ بِشَرْطِ كَوْنِهِ فِي يَدِ مُسْلِمٍ، وَاخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْهَنَ الْإِنْسَانُ مَالَ نَفْسِهِ عَلَى دَمِ غَيْرِهِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَهُ وَأَوْلَى وَهُوَ نَظِيرُ إعَارَتِهِ لِلْمُرْهِنِ، وَإِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَا لَمْ يَدَّعِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَلَا يَنْفَكُّ شَيْءٌ مِنْ الرَّهْنِ حَتَّى يَقْضِيَ جَمِيعَ الدَّيْنِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَدْيُونِ وَفَاءً غَيْرُ الرَّهْنِ وَجَبَ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ إمْهَالُهُ حَتَّى يَبِيعَهُ، فَمَتَى لَمْ يُمْكِنْ بَيْعُهُ إلَّا بِخُرُوجِهِ مِنْ الْحَبْسِ، أَوْ كَانَ فِي بَيْعِهِ وَهُوَ فِي الْحَبْسِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ وَجَبَ إخْرَاجُهُ وَيَضْمَنُ عَلَيْهِ أَوْ يَمْشِي مَعَهُ هُوَ أَوْ وَكِيلُهُ.

باب الصلح وحكم الجوار

[بَابُ الصُّلْحِ وَحُكْمِ الْجِوَارِ] ِ وَيَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْ الْمُؤَجَّلِ بِبَعْضِهِ حَالًّا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَحُكِيَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ، وَيَصِحُّ عَنْ دِيَةِ الْخَطَإِ وَعَنْ قِيمَةِ الْمُتْلَفِ غَيْرِ الْمِثْلِ بِأَكْثَرَ مِنْهَا مِنْ جِنْسِهَا، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ، وَالْغَبْنُ وَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا عَادَةً كَالِاسْتِظْلَالِ بِجِدَارِ الْغَيْرِ وَالنَّظَرِ فِي سِرَاجِهِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَرِدَ عَلَيْهَا عَقْدُ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ اتِّفَاقًا، وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى بِنَاءِ حَائِطِ بُسْتَانٍ فَبَنَى أَحَدُهُمَا فَمَا تَلِفَ مِنْ الثَّمَرَةِ بِسَبَبِ إهْمَالِ الْآخَرِ ضَمِنَ لِشَرِيكِهِ نَصِيبَهُ، وَإِذَا احْتَاجَ الْمِلْكُ الْمُشْتَرَكُ إلَى عِمَارَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا فَعَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَعْمُرَ مَعَ شَرِيكِهِ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَيَلْزَمُ إلَّا عَلَى التَّسَتُّرِ بِمَا يَمْنَعُ مُشَارَفَةَ الْأَسْفَلِ. وَإِنْ اسْتَوَيَا وَطَلَبَ أَحَدُهُمَا بِنَاءَ السُّتْرَةِ أُجْبِرَ الْآخَرُ مَعَهُ مَعَ الْحَاجَةِ إلَى السُّتْرَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ بِمَا يُؤْذِي بِهِ جَارَهُ مِنْ بِنَاءِ حَمَّامٍ وَحَانُوتِ طَبَّاخٍ وَدَقَّاقٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَمَنْ لَمْ يَسُدَّ بِئْرَهُ سَدًّا يَمْنَعُ مِنْ التَّضَرُّرِ بِهَا ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهَا وَلَهُ تَعْلِيَةُ بِنَائِهِ، وَلَوْ أَفْضَى إلَى سَدِّ الْفَضَاءِ عَنْ جَارِهِ. قُلْت: وَفِيهِ عَلَى قَاعِدَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ نَظَرٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ خَوْفًا مِنْ نَقْصِ أُجْرَةِ مِلْكِهِ بِلَا نِزَاعٍ، وَالْمُضَارَّةُ مَبْنَاهَا عَلَى الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ، أَوْ عَلَى فِعْلِ ضَرَرٍ عَلَيْهِ فَمَتَى قَصَدَ الْإِضْرَارَ وَلَوْ بِالْمُنَاخِ أَوْ فَعَلَ الْإِضْرَارَ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ فَهُوَ مُضَارٌّ. وَأَمَّا إذَا فَعَلَ الضَّرَرَ الْمُسْتَحَقَّ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ لَا لِقَصْدِ الْأَضْرَارِ فَلَيْسَ بِمُضَارٍّ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ النَّخْلَةِ الَّتِي كَانَتْ تَضُرُّ صَاحِبَ الْحَدِيقَةِ لَمَّا طَلَبَ مِنْ صَاحِبِهَا الْمُعَاوَضَةَ عَنْهَا بِعِدَّةِ طُرُقٍ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَقَالَ إنَّمَا أَنْتَ مُضَارٌّ ثُمَّ أَمَرَ بِقَلْعِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الضِّرَارَ مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ تَمْكِينُ صَاحِبِهِ مِنْهُ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ سَاحَةٌ تُلْقَى فِيهَا التُّرَابُ وَالْحَيَوَانَاتُ وَيَتَضَرَّرُ الْجِيرَانُ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهَا أَنْ يَدْفَعَ ضَرَرَ الْجِيرَانِ إمَّا بِعِمَارَتِهَا أَوْ إعْطَائِهَا لِمَنْ يُعَمِّرُهَا، أَوْ يَمْنَعُ أَنْ يُلْقَى فِيهَا مَا يَضُرُّ بِالْجِيرَانِ، وَإِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ مُعَدًّا لِلصَّلَاةِ فَفِي جَوَازِ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ نِزَاعٌ بَيْنَ

باب الحجر

الْعُلَمَاءِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْنِيَ فَوْقَ الْوَقْفِ مَا يَضُرُّ بِهِ اتِّفَاقًا، وَكَذَا إنْ لَمْ يَضُرَّ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِذَا كَانَ الْجِدَارُ مُخْتَصًّا بِشَخْصٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْجَارُ، وَلَا يَضُرُّ بِصَاحِبِ الْجِدَارِ، وَيَجِبُ عَلَى الْجَارِ تَمْكِينُ جَارِهِ مِنْ إجْرَاءِ مَائِهِ فِي أَرْضِهِ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ ضَرَرٌ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَحَكَمَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَالسَّابَاطُ الَّذِي يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ مِثْلُ أَنْ يَحْتَاجَ الرَّاكِبُ أَنْ يَحْنِيَ رَأْسَهُ إذَا مَرَّ هُنَاكَ، وَإِنْ غَفَلَ عَنْ نَفْسِهِ رَمَى عِمَامَتَهُ أَوْ شَجَّ رَأْسَهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَمُرَّ هُنَاكَ جَمَلٌ عَالٍ إلَّا كُسِرَتْ رَقَبَتُهُ، وَالْجَمَلُ الْمُحَمَّلُ لَا يَمُرُّ هُنَاكَ فَمِثْلُ هَذَا السَّابَاطِ لَا يَجُوزُ إحْدَاثُهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَارَّةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ إزَالَتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ إلْزَامُهُ بِإِزَالَتِهِ حَتَّى يَزُولَ الضَّرَرُ ، حَتَّى لَوْ كَانَ الطَّرِيقُ مُنْخَفِضًا ثُمَّ ارْتَفَعَ عَلَى طَوْرِ الزَّمَانِ وَجَبَ إزَالَتُهُ إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْحَجْرِ] ِ وَإِذَا لَزِمَ الْإِنْسَانَ الدَّيْنُ بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ كَالضَّمَانِ وَنَحْوِهِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي الْإِعْسَارِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَمَنْ أَرَادَ سَفَرًا وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ وَفَاءِ دَيْنِهِ فَلِغَرِيمِهِ مَنْعُهُ حَتَّى يُقِيمَ كَفِيلًا بِدَيْنِهِ. وَمَنْ طُولِبَ بِأَدَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ فَطَلَبَ إمْهَالًا أُمْهِلَ بِقَدْرِ ذَلِكَ اتِّفَاقًا، لَكِنْ إذَا خَافَ غَرِيمُهُ مِنْهُ احْتَاطَ عَلَيْهِ بِمُلَازَمَتِهِ أَوْ بِكَفِيلٍ أَوْ بِرَسْمٍ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى وَفَاءِ دَيْنِهِ وَامْتَنَعَ أُجْبِرَ عَلَى وَفَائِهِ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ، وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا، لَكِنْ لَا يُزَادُ كُلُّ يَوْمٍ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ التَّعْزِيرِ إنْ قِيلَ يَقْتَدِرُ وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَبِيعَ عَلَيْهِ مَالَهُ وَيَقْضِي دَيْنَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ، وَإِذَا كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ وَمَطَلَ صَاحِبَ الْحَقِّ حَتَّى أَخْرَجَهُ إلَى الشِّكَايَةِ فَمَا غَرِمَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى الظَّالِمِ الْمُبْطِلِ إذَا كَانَ غُرْمُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ وَمِمَّنْ عُرِفَ بِالْقُدْرَةِ فَادَّعَى إعْسَارًا وَأَمْكَنَ عَادَةً قُبِلَ وَلَيْسَ لَهُ إثْبَاتُ إعْسَارِهِ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ حَبْسِهِ بِلَا إذْنِهِ وَيَقْضِي دَيْنَهُ مِنْ مَالٍ لَهُ فِيهِ شُبْهَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى شُبْهَةٌ بِتَرْكِ وَاجِبٍ، وَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى زَوْجِهَا بِحَقِّهَا وَحَبَسَتْهُ لَمْ يَسْقُطْ مِنْ حُقُوقِهِ عَلَيْهَا شَيْءٌ قَبْلَ الْحَبْسِ، بَلْ يَسْتَحِقُّهَا عَلَيْهَا

بَعْدَ الْحَبْسِ كَحَبْسِهِ فِي دَيْنِ غَيْرِهَا فَلَهُ إلْزَامُهَا مُلَازَمَةَ بَيْتِهِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا أَحَدٌ بِلَا إذْنِهِ وَلَوْ خَافَ خُرُوجَهَا مِنْ مَنْزِلِهِ بِلَا إذْنِهِ أَسْكَنَهَا حَيْثُ شَاءَ، وَلَا يَجِبُ حَبْسُهُ بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ فَيَجُوزُ حَبْسُهُ فِي دَارِ نَفْسِهِ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ مِنْ الْخُرُوجِ، وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ وَامْتَنَعَ وَرَأَى الْحَاكِمُ مَنْعَهُ مِنْ فُضُولِ الْأَكْلِ وَالنِّكَاحِ فَلَهُ ذَلِكَ، إذْ التَّعْزِيرُ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ فِي نَوْعِهِ وَقَدْرِهِ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ. وَمَنْ ضَاقَ مَالُهُ عَنْ دُيُونِهِ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ بِالْحَجْرِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَنْ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ وَاجِبَةٌ فَلَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ بِمَا يُخِلُّ بِالنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَإِنْ نُوزِعَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِحَظْرٍ فِي الرُّشْدِ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِرُشْدِهِ قُبِلَ لِأَنَّهُ قَدْ يُعْلَمُ بِالِاسْتِفَاضَةِ، وَمَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ لَهُ عَلَى وَلِيِّهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ رُشْدَهُ، وَالْإِسْرَافُ مَا صَرَفَهُ فِي الْحَرَامِ أَوْ كَانَ صَرْفُهُ فِي مُبَاحٍ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَلَوْ وَصَّى مَنْ فِسْقُهُ ظَاهِرٌ أَوْ لَا وَجَبَ إنْفَاذُهُ كَحَاكِمٍ فَاسِقٍ حَكَمَ بِالْعَدْلِ. وَالْوِلَايَةُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ تَكُونُ لِسَائِرِ الْأَقَارِبِ، وَمَعَ الِاسْتِقَامَةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْحَاكِمِ إلَّا إذَا امْتَنَعَ مِنْ طَاعَةِ الْوَلِيِّ، وَتَكُونُ الْوِلَايَةُ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْحَاكِمِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْصُوصُ أَحْمَدَ فِي الْأُمِّ. وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْوِلَايَةِ بِالْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْحَاكِمِ فَضَعِيفٌ جِدًّا، وَالْحَاكِمُ الْعَاجِزُ كَالْعَدَمِ، وَلَوْ مَاتَ مَنْ يَتَّجِرُ لِنَفْسِهِ وَلِيَتِيمِهِ بِمَالِهِ وَقَدْ اشْتَرَى شَيْئًا وَلَمْ يُعْرَفْ لِمَنْ هُوَ لَمْ يُقْسَمْ وَلَمْ يُوقَفْ الْأَمْرُ حَتَّى يَصْطَلِحَا كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ، بَلْ مَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَفْرُغُ فَمَنْ فَرَغَ خَلْفَ وَاحِدٍ وَلَوْ مَاتَ الْوَصِيُّ وَجَهِلَ بَقَاءَ مَالِ وَلِيِّهِ كَانَ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ، وَلِوَصِيِّ الْيَتِيمِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ أَوْ كِفَايَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى مَالِ الْيَتِيمِ إلَّا مَنْ كَانَ قَوِيًّا خَبِيرًا بِمَا وُلِّيَ عَلَيْهِ أَمِينًا عَلَيْهِ وَالْوَاجِبُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْوَلِيُّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَنْ يُسْتَبْدَلَ بِهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ لَكِنْ إذَا عَمِلَ لِلْيَتَامَى اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ كَالْعَمَلِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْ السَّيِّدِ دَعْوَى عَدَمِ الْإِذْنِ لِعَبْدِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِتَصَرُّفِهِ وَلَوْ قَدْرَ صَدَقَةٍ فَتَسْلِيطُهُ عَلَيْهِ عُدْوَانٌ، وَتَرَدَّدَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِيمَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ لِلْوَلِيِّ خَلَاصُ حَقِّ مُوَلِّيهِ إلَّا بِرَفْعِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ إلَى وَالٍ يَظْلِمُهُ، وَيُسْتَحَبُّ التِّجَارَةُ بِمَالِ الْيَتِيمِ لِقَوْلِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ اتَّجِرُوا بِأَمْوَالِ الْيَتَامَى كَيْ لَا تَأْكُلَهَا الصَّدَقَةُ.

باب الوكالة

[بَابُ الْوَكَالَةِ] ِ قَالَ الْقَاضِي فِي ضِمْنِ مَسْأَلَةِ بَقَاءِ الْوَكِيلِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ: فَأَمَّا إنْ أَخْرَجَ الْمُوَكَّلَ فِيهِ عَنْ مِلْكِهِ مِثْلَ إعْتَاقِهِ الْعَبْدَ وَبَيْعِهِ فَإِنَّهُ تَنْفَسِخُ الْوَكَالَةُ بِذَلِكَ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْمَوْتِ وَبَيْنَ الْعِتْقِ وَالْمَبِيعِ بِأَنَّ حُكْمَ الْمِلْكِ هُنَا قَدْ زَالَ، وَهُنَاكَ السِّلْعَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ بَاقِيَةٌ عَلَى حُكْمِ مَالِكِهَا، وَمَا قَالَهُ الْقَاضِي فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الِانْتِقَالَ بِالْمَوْتِ أَقْوَى مِنْهُ بِالْبَيْعِ وَالْعِتْقِ فَإِنَّ هَذَا يُمْكِنُ الْمُوَكِّلُ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ عَزْلِهِ بِالْقَوْلِ وَذَلِكَ زَالَ الْمِلْكُ فِيهِ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا تَصَرَّفَ بِلَا إذْنٍ وَلَا مِلْكٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ وَكِيلًا أَوْ مَالِكًا فَفِي صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ تَصَرَّفَ بَعْدَ الْعَزْلِ وَلَمْ يَعْلَمْ فَلَوْ تَصَرَّفَ بِإِذْنٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِذْنَ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ وَالْمَالِكُ أَذِنَ لَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَوْ أَذِنَ بِنَاءً عَلَى جِهَةٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ الْإِذْنَ بِهَا بَلْ بِغَيْرِهَا أَوْ بِنَاءً أَنَّهُ مَالِكُ شِبْرٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ وَارِثًا، فَإِنْ قُلْنَا يَصِحُّ التَّصَرُّفُ فِي الْأَوَّلِ فَهَاهُنَا أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا لَا يَصِحُّ هُنَاكَ فَقَدْ يُقَالُ يَصِحُّ هُنَا لِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، لَكِنَّ الَّذِي اعْتَقَدَهُ ظَاهِرٌ لَيْسَ هُوَ الْبَاطِلَ، فَنَظِيرُهُ إذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ فَتَطَهَّرَ ثُمَّ تَبَيَّنَ فَسَادَ طَهَارَتِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ مُتَطَهِّرًا قَبْلَ هَذَا، وَلَوْ وَكَّلَ شَخْصًا أَنْ يُوَكِّلَ لَهُ فُلَانًا فِي بَيْعٍ وَنَحْوِهِ، فَقَالَ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ لِلْوَكِيلِ الثَّانِي: بِعْ هَذَا وَلَمْ يَشْعُرْ أَنَّهُ وَكِيلُ الْمُوَكِّلِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: سُئِلْت عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقُلْت: نِسْبَةُ أَنْوَاعِ التَّوْكِيلِ وَالْمُوَكِّلِينَ إلَى الْوَكِيلِ كَنِسْبَةِ أَنْوَاعِ التَّمْلِيكِ وَالْمُمَلِّكِينَ إلَى الْمِلْكِ، ثُمَّ لَوْ مَلَكَ شَيْئًا لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَتَبَيَّنَ هَلْ هُوَ وَكِيلُهُ أَوْ وَكِيلُ فُلَانٍ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِمَا مُخْتَلِفًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُوَكِّلِ وَالْمُمَلِّكِ (نُقِلَ) هَاهُنَا فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ ثَوْبًا يَبِيعُهُ فَبَاعَهُ وَأَخَذَ الثَّمَنَ فَوَهَبَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ دِرْهَمًا فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الَّذِي بَاعَ الثَّوْبَ، فَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ مَا حَصَلَ لِلْوَكِيلِ مِنْ زِيَادَةٍ فَهِيَ لِلْبَائِعِ وَمَا نَقَصَ فَهُوَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ قَبْلَ لُزُومِ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُفَصَّلَ إذَا لَمْ يَلْزَمْهُ، وَالْوَكِيلُ فِي الضَّبْطِ وَالْمَعْرِفَةِ مِثْلُ مَنْ وَكَّلَ رَجُلًا فِي كِتَابَةِ مَالِهِ وَمَا عَلَيْهِ كَأَهْلِ الدِّيوَانِ فَقَوْلُهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ وَكِيلِ التَّصَرُّفِ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى نَفْسِ الْأَخْبَارِ بِمَالِهِ وَمَا عَلَيْهِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ نَافِعَةٌ وَنَظِيرُ إقْرَارِ كِتَابِ الْأُمَرَاءِ وَأَهْلِ

دِيوَانِهِمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْحُقُوقِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَإِقْرَارِ كِتَابِ السُّلْطَانِ وَبَيْتِ الْمَالِ وَسَائِرِ أَهْلِ الدِّيوَانِ مِمَّا عَلَى جِهَاتِهِمْ مِنْ الْحُقُوقِ، وَمِنْ نَاظِرِ الْوَقْفِ وَعَامِلِ الصَّدَقَةِ وَالْخَرَاجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ وَلَايَةٍ أَوْ وَكَالَةٍ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَ الْأَمِيرُ كَاتِبًا جَابِيًا أَوْ عَامِلًا أَثِمَ بِمَا أَذْهَبَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ لِتَفْرِيطِهِ. وَمَنْ اسْتَأْمَنَهُ أَمِيرًا عَلَى مَالِهِ فَخَشِيَ مِنْ حَاشِيَتِهِ إنْ مَنَعَهُمْ مِنْ عَادَتِهِمْ الْمُتَقَدِّمَةِ لَزِمَهُ فِعْلُ مَا يُمْكِنُهُ، وَمَا هُوَ أَصْلَحُ لِلْأَمِيرِ مِنْ تَوْلِيَةِ غَيْرِهِ فَيَرْتَعُ مَعَهُمْ لَا سِيَّمَا وَلِلْأَخْذِ شُبْهَةٌ، قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ وَإِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ أَوْ الْمُضَارِبُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ بِدُونِهِ صَحَّ وَلَزِمَهُ النَّقْصُ وَالزِّيَادَةُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَكَذَلِكَ الشَّرِيكُ وَالْوَصِيُّ وَالنَّاظِرُ عَلَى الْوَقْفِ وَبَيْتِ الْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَالَ هَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا فَرَّطَ وَأَمَّا إذَا احْتَاطَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ثُمَّ ظَهَرَ غَبْنٌ أَوْ عَيْبٌ لَمْ يُقَصِّرْ فِيهِ، فَهَذَا مَعْذُورٌ يُشْبِهُ خَطَأَ الْإِمَامِ أَوْ الْحَاكِمِ، وَيُشْبِهُ تَصَرُّفَهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْعَزْلِ وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا النَّاظِرُ وَالْوَصِيُّ وَالْإِمَامُ وَالْقَاضِي إذَا بَاعَ أَوْ أَجَّرَ أَوْ زَارَعَ أَوْ ضَارَبَ ثُمَّ تَبَيَّنَ الْخَطَأَ فِيهِ، مِثْلُ أَنْ يَأْمُرَ بِعِمَارَةٍ أَوْ غَرْسٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ كَانَتْ فِي خِلَافِهِ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ وَالشَّرِيكُ فَإِنَّ عَامَّةَ مَنْ يَتَصَرَّفُ لِغَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ أَوْ وَلَايَةٍ قَدْ يَجْتَهِدُ ثُمَّ يَظْهَرُ فَوَاتُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ حُصُولُ الْمَفْسَدَةِ وَلَا لُزُومَ عَلَيْهِ فِيهِمَا وَتَضْمِينُ مِثْلِ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَهُوَ يُشْبِهُ بِمَا إذَا قَتَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَنْ يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا فَبَانَ مُسْلِمًا، فَإِنَّ جِمَاعَ هَذَا أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ مَأْمُورٌ بِعَمَلٍ اجْتَهَدَ فِيهِ، وَكَيْفَ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالضَّمَانُ هَذَا الضَّرْبُ هُوَ خَطَأٌ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْقَصْدِ لَا فِي الْعَمَلِ، وَأُصُولُ الْمَذْهَبِ تَشْهَدُ لَهُ بِرِوَايَتَيْنِ، قَالَ أَبُو حَفْصٍ فِي الْمَجْمُوعِ وَإِذَا سَمَّى لَهُ ثَمَنًا فَنَقَصَ مِنْهُ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ إذَا أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَبِيعَ لَهُ شَيْئًا فَبَاعَهُ بِأَقَلَّ، قَالَ الْبَيْعُ جَائِزٌ وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا نَقَصَ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ لَعَلَّهُ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُمَا عَلَى الْمُشْتَرِي فِي تَقْدِيرِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُمَا يَرَيَانِ فَسَادَ الْعَقْدِ، وَهُوَ يَدَّعِي صِحَّتَهُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَيَضْمَنُ الْوَكِيلُ النَّقْصَ، وَإِذَا وَكَّلَهُ أَوْ أَوْصَى إلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالٍ ذَكَرَهُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَتَعْيِينُ الْمُعْطِي إلَى الْوَكِيلِ أَوْ الْوَصِيِّ هَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ مِثْلُهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ أَوْ أَوْصَى إلَيْهِ بِإِخْرَاجِ حُجَّةٍ عَنْهُ وَإِنْ وَكَّلَهُ أَوْ أَوْصَى إلَيْهِ أَنْ يَقِفَ عَنْهُ شَيْئًا وَلَمْ يُعَيِّنْ مَصْرِفًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَالصَّدَقَةِ فَإِنَّ الْمَصْرِفَ لِلْوَقْفِ كَالْمَصْرِفِ

لِلصَّدَقَةِ، وَيَبْقَى إلَى الْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ تَعْيِينُ الْمَصْرِفِ وَإِنْ عَيَّنَ مَصْرِفًا مُنْقَطِعًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إلَى الْوَصِيِّ تَتْمِيمُهُ بِذِكْرِ مَصْرِفٍ مُؤَبَّدٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ الصَّدَقَةُ لَهَا جِهَةٌ مَعْلُومَةٌ بِالشَّرْعِ وَالْعُرْفِ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ لِلْوَصِيِّ فِي تَعْيِينِ أَفْرَادِ الْجِهَةِ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ فَإِنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ لَهُ جِهَةٌ مُعَيَّنَةٌ شَرْعًا وَلَا عُرْفًا فَالْكَلَامُ فِي هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَقِفَ أَوْ يَتَصَدَّقَ. وَحَدِيثُ أَبِي طَلْحَةَ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمَالٍ فَإِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي أَقْرَبِيهِ، وَإِنْ كَانَ سَهْمَ غَنِيٍّ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الصَّدَقَةَ الْمُطْلَقَةَ فِي النَّذْرِ لَيْسَتْ مَحْمُولَةً عَلَى الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ فِي الشَّرْعِ لَكِنْ عَلَى جِنْسِ الْمُسْتَحَبَّةِ شَرْعًا، وَيُتَوَجَّهُ عَلَى أَدْنَى الْوَاجِبِ أَوْ أَدْنَى التَّطَوُّعِ، فَبَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالْإِيمَانِ مُشَابَهَاتٌ، وَالْوَكِيلُ أَمِينٌ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَوْ عُزِلَ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْعَزْلِ وَقُلْنَا يَنْعَزِلُ لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ، وَكَذَا لَا يَضْمَنُ مُشْتَرٍ الْأُجْرَةَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ. وَمَنْ وُكِّلَ فِي بَيْعٍ أَوْ اسْتِئْجَارٍ أَوْ شِرَاءٍ فَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْمُوَكِّلَ فِي الْعَقْدِ فَضَامِنٌ، وَإِلَّا فَرِوَايَتَانِ وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ تَضْمِينُهُ، وَلَوْ تَصَرَّفَ الْوَكِيلُ فَادَّعَى الْمُوَكِّلُ أَنَّهُ عَزَلَهُ قَبْلَ التَّصَرُّفِ لَمْ يُقْبَلْ، فَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِبَلَدٍ آخَرَ وَحَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ فَإِنْ لَمْ يَنْعَزِلْ قَبْلَ الْعِلْمِ صَحَّ تَصَرُّفُهُ وَإِلَّا كَانَ حُكْمًا عَلَى الْغَائِبِ، وَلَوْ حَكَمَ قَبْلَ هَذَا الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ حَاكِمٌ لَا يَرَى عَزْلَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْحُكْمِ النَّاقِضِ لَهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَإِلَّا وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. قَالَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ ": وَابْنُ عَقِيلٍ فِي " الْفُصُولِ ": وَلَوْ جَاءَ رَجُلٌ إلَى امْرَأَةٍ فَقَالَ لَهَا وَكَّلَنِي فُلَانٌ لِأُزَوِّجَك لَهُ فَرَغِبَتْ فِي ذَلِكَ وَأَذِنَتْ لِوَلِيِّهَا فِي تَزْوِيجِهَا ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الْمُوَكِّلَ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ وَكَّلَهُ فِي التَّزْوِيجِ لَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ النِّكَاحُ وَلَا تَلْزَمُ لِلْوَكِيلِ بَلْ يَحْكُمُ بِبُطْلَانِهِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا وَكَّلَ وَكِيلًا فِي أَنْ يَتَزَوَّجَ لَهُ امْرَأَةً فَتَزَوَّجَهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ حَالَ الْعَقْدِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا لِفُلَانٍ، فَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يُسَمِّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَلْزَمْهُ النِّكَاحُ فِي حَقِّهِ وَلَا فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ عَقَدَ الْعَقْدَ لِنَفْسِهِ وَنِيَّتُهُ أَنْ يَعْقِدَهُ لِغَيْرِهِ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ ذَلِكَ الْغَيْرِ فَقَدْ أَخَلَّ بِالْمَقْصُودِ، وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ سِلْعَةً فَاشْتَرَاهَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ ذِكْرُ فُلَانٍ، بَلْ إذَا أَطْلَقَ وَنَوَى الشِّرَاءَ لَهُ صَحَّ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ حُصُولُ الثَّمَنِ وَقَدْ وُجِدَ، وَإِذَا بَطَلَ عَقْدُ النِّكَاحِ فِي حَقِّهِمَا فَهَلْ يَلْزَمُ الْوَكِيلَ نِصْفُ الصَّدَاقِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.

قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فَقَدْ جَعَلَا فِيمَا إذَا لَمْ يُسَمِّ الْوَكِيلُ الْمُوَكِّلَ فِي الْعَقْدِ رِوَايَتَيْنِ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ إذَا قَالَ: زَوَّجْتُك فُلَانَةَ فَقَالَ قَبِلْت فَقَدْ انْعَقَدَ النِّكَاحُ فِي الظَّاهِرِ لِلْوَكِيلِ، فَإِذَا قَالَ نَوَيْت أَنَّ النِّكَاحَ لِمُوَكِّلِي فَهُوَ يَدَّعِي فَسَادَ الْعَقْدِ وَأَنَّ الزَّوْجَ غَيْرُهُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ إلَّا أَنْ تُصَدِّقَهُ، وَلَوْ صَدَّقَتْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ قَوْلًا وَاحِدًا إلَّا أَنَّ هُنَا الْإِنْكَارَ مِنْ الزَّوْجِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ إنْكَارِ الْوَكَالَةِ، وَلَوْ قَبِلَ مِنْهُ فَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا ثُمَّ كَتَبَ لِزَوْجَتِهِ الْجَدِيدَةِ وَكَالَةً، وَقَالَ مَتَى رَدَّدْتهَا كَانَ طَلَاقُهَا بِيَدِك إلَى مُدَّةِ عِشْرِينَ سَنَةً، وَقَدْ طَلَّقَ الَّتِي بِيَدِهَا الْوَكَالَةُ. فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ يَظُنُّ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الْوَكَالَةَ بِحَالِهَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إذَا وَكَّلَ امْرَأَتَهُ فِي بَيْعٍ وَنَحْوِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ بِالتَّطْلِيقِ كَمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ وَلَيْسَتْ كَتِلْكَ، وَالصَّوَابُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّهَا تَبْطُلُ بِالتَّطْلِيقِ لِأَنَّهُ هُنَاكَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَقَدْ اسْتَنَابَ غَيْرَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ مَتَاعَهُ فَيُوَكِّلُ شَخْصًا وَهُنَا الْمُرَادُ تَمْكِينُهَا هِيَ مِنْ الطَّلَاقِ لِئَلَّا تَبْقَى زَوْجَةً إلَّا بِرِضَاهَا. وَأَمَّا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ فَلَا يَقْصِدُ رِضَاهَا كَيْفَ وَقَدْ طَلَّقَهَا، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا جَعَلَ الشَّرْطَ لَازِمًا وَأَمَّا إذَا لَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا لَازِمًا فَيَكُونُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا ابْتِدَاءً: أَمْرُك بِيَدِك، أَوْ أَمْرُ فُلَانَةَ بِيَدِك، فَإِنَّ هَذَا لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ، قَالَ الْأَصْحَابُ: وَمَنْ ادَّعَى الْوَكَالَةَ فِي اسْتِيفَاءِ حَقٍّ فَصَدَّقَهُ الْغَرِيمُ لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ وَلَا الْيَمِينُ إنْ كَذَّبَهُ، وَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْغَرِيمَ مَتَى غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يُنْكِرُ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي بَعَثَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى وَكِيلِهِ وَعَلَّمَ لَهُ عَلَامَةً، فَهَلْ يَقُولُ أَحَدٌ: إنَّ ذَلِكَ الْوَكِيلَ لَمْ يَكُنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّفْعُ. وَأَمَّا فِي الْقَضَاءِ فَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ عَدْلًا وَجَبَ الْحُكْمُ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يَجْحَدُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَسْتَثْنِي، فَإِنْ دَفَعَ مِنْ عِنْدِهِ الْحَقَّ إلَى الْوَكِيلِ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ بِأَنَّهُ وَكِيلٌ وَأَنْكَرَ صَاحِبُ الْحَقِّ الْوَكَالَةَ رَجَعَ عَلَيْهِ وِفَاقًا، وَمُجَرَّدُ التَّسْلِيمِ لَيْسَ تَصْدِيقًا وَكَذَا إنْ صَدَّقَهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ أَصْحَابِنَا، بَلْ نَصِّ إمَامِنَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ مَتَى لَمْ يَتَبَيَّنْ صِدْقَهُ فَقَدْ غَرَّهُ. وَكُلُّ إقْرَارٍ كَذَبَ فِيهِ لِيَحْصُلَ بِمَا يُمْكِنُ أَسَاءَهُ وَيُجْعَلُ أُنْسًا مِثْلُ أَنْ يَقُولُ: وَكَّلْت فُلَانًا وَلَمْ تُوَكِّلْهُ فَهُوَ نَظِيرُ أَنْ يَجْحَدَ الْوَصِيَّةَ، فَهَلْ يَكُونُ جَحْدُهُ رُجُوعًا،

فصل الاشتراك في مجرد الملك بالعقد

فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَإِذَا اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ مُوَكِّلِهِ أَوْ مُوَلِّيهِ كَانَ الْمِلْكُ لِلْمُوَكِّلِ وَالْمَوْلَى عَلَيْهِ وَلَوْ نَوَى شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الشِّرَاءِ وَلَيْسَ كَالْغَصْبِ لَكِنْ لَوْ نَوَى أَنْ يَقَعَ الْمِلْكُ لَهُ وَهَذِهِ نِيَّةٌ مُحَرَّمَةٌ فَتَقَعُ بَاطِلَةً، وَيَصِيرُ كَأَنَّ الْعَقْدَ عَرِيَ عَنْهَا إذَا كَانَ يُرِيدُ النَّقْدَ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ أَوْ الْمُوَكِّلِ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي تَعَالِيقِهِ الْقَدِيمَةِ حَدِيثُ عُرْوَةَ فِي شِرَاءِ الشَّاةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ فِي شِرَاءٍ مَعْلُومٍ بِمَعْلُومٍ إذَا اشْتَرَى بِهِ أَكْثَرَ مِنْ الْمُقَدَّرِ جَازَ لَهُ بَيْعُ الْفَاضِلِ، وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّهُ مَنْقُولٌ كَذَا حَسِبَهُ فِي كَفَالَةِ الْكَافِي. قُلْت: مَا قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ مِنْ النَّقْلِ فَصَحِيحٌ، قَالَ صَاحِبُ " الْكَافِي " ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ صِحَّةُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ عَنْ عُرْوَةَ وَلَكِنْ ذَكَرَهُ فِي وَكَالَةِ الْكَافِي فَنَسَبَ الْعِلْمَ لِأَبِي الْعَبَّاسِ فَكَتَبَ كَفَالَةَ الْكَافِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الِاشْتِرَاكُ فِي مُجَرَّدِ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ] ِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا عَقَارٌ فَيُشَيِّعَانِهِ أَوْ يَتَعَاقَدُ عَلَى أَنَّ الْمَالَ الَّذِي لَهُمَا الْمَعْرُوفَ بِهِمَا بَيْنَهُمَا يَكُونُ نِصْفَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مَعَ تَسَاوِي مِلْكِهِمَا فِيهِ فَجَوَازُهُ مُتَوَجِّهٌ، لَكِنْ يَكُونُ قِيَاسُ مَا ذَكَرُوهُ فِي الشَّرِكَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْعًا، كَمَا أَنَّ الْقِسْمَةَ لَيْسَتْ بَيْعًا وَلَا نَفَقَةً لِلْمُضَارِبِ إلَّا بِشَرْطٍ أَوْ عَادَةٍ، فَإِنْ شُرِطَتْ مُطْلَقًا فَلَهُ نَفَقَةُ مِثْلِ طَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ، وَقَدْ يُخَرَّجُ لَنَا أَنَّ لِلْمُضَارِبِ فِي السَّفَرِ الزِّيَادَةَ عَلَى نَفَقَةِ الْحَضَرِ كَمَا قُلْنَا فِي الْوَلِيِّ إذَا جَحَدَ الصَّبِيَّ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا احْتَاجَ إلَيْهَا لِأَجْلِ الْمَالِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَيْضًا يَتَوَجَّهُ فِيهَا مَا قُلْنَاهُ فِي نَفْعِهِ فِي الصَّبِيِّ إذَا أَحَجَّهُ الْوَلِيُّ هَلْ يَكُونُ الزَّائِدُ فِيهَا مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ أَوْ مَالِ الْوَلِيِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ كَذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ أَصْلِنَا صِحَّةُ الِاشْتِرَاكِ فِي الْعُقُودِ وَإِنْ تَخْتَلِطْ الْأَعْيَانُ، كَمَا تَصِحُّ الْأَقْسَامُ بِالْمُحَاسَبَةِ وَإِنْ لَمْ تَتَمَيَّزْ الْأَعْيَانُ. وَلَوْ دَفَعَ دَابَّتَهُ أَوْ نَخْلَةً إلَى مَنْ يَقُومُ بِهِ وَلَهُ جُزْءٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ صَحَّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَيَجُوزُ قِسْمَةُ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةٍ أَوْ ذِمَمٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، فَإِنْ تَكَافَأَتْ الذِّمَمُ فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ فِي الْحَوَالَةِ عَلَى وَلِيٍّ وُجُوبُهَا وَلَوْ كَتَبَ

رَبُّ الْمَالِ لِلْجَابِي وَالسِّمْسَارِ وَرَقَةً لِيُسَلِّمَهَا إلَى الصَّبِيِّ فِي الْمُتَسَلَّمِ مَالُهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يُسَلِّمَهُ حَتَّى يَقْتَصَّ مِنْهُ، فَخَالَفَ ضَمِنَ لِتَفْرِيطِهِ، وَيُصَدَّقُ الصَّبِيُّ مَعَ يَمِينِهِ وَالْوَرَقَةُ شَاهِدَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِذَلِكَ، وَتَصِحُّ شَرِكَةُ الشُّهُودِ، وَلِلشَّاهِدِ أَنْ يُقِيمَ مَقَامَهُ إنْ كَانَ الْجُعْلُ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ. وَإِنْ كَانَ عَلَى شَهَادَتِهِ بِعَيْنِهِ فَالْأَصَحُّ جَوَازُهُ، وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُكْرِهَهُمْ لِأَنَّ لَهُ نَظَرًا فِي الْعَدَالَةِ وَغَيْرِهَا، وَإِنْ اشْتَرَكُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا حَصَّلَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَيْنَهُمْ بِحَيْثُ إذَا كَتَبَ أَحَدُهُمْ وَشَهِدَ شَارَكَهُ الْآخَرُ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ فَهِيَ شَرِكَةُ الْأَبَدَانِ تَجُوزُ بِحَيْثُ تَجُوزُ بِهِ الْوَكَالَةُ وَأَمَّا حَيْثُ لَا تَجُوزُ فَفِيهِ وَجْهَانِ، كَشَرِكَةِ الدَّلَّالِينَ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِهَا فَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَأْخُذُ الثَّوْبَ لِيَبِيعَهُ فَيَدْفَعَهُ إلَى الْآخَرِ يَبِيعُهُ وَيُنَاصِفُهُ فِيمَا يَأْخُذُ مِنْ الْكِرَاءِ، لِلَّذِي بَاعَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَشْتَرِكَانِ فِيمَا أَصَابَا، وَوَجْهُ صِحَّتِهَا أَنَّ بَيْعَ الدَّلَّالِ وَشِرَاءَهُ بِمَنْزِلَةِ خِيَاطَةِ الْخَيَّاطِ وَتِجَارَةِ التُّجَّارِ وَسَائِرِ الْأُجَرَاءِ الْمُشْتَرِكِينَ. وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَسْتَنِيبَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ وَمَأْخَذُ مَنْ مَنَعَ أَنَّ الدَّلَالَةَ مِنْ بَابِ الْوَكَالَةِ، وَسَائِرُ الصِّنَاعَاتِ مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي شَرِكَةِ الدَّلَّالِينَ الَّتِي فِيهَا عَقْدٌ. فَأَمَّا مُجَرَّدُ النِّدَاءِ وَالْعَرْضِ وَإِحْضَارِ الدُّيُونِ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ، وَتَسْلِيمِ الْأَمْوَالِ إلَى الدَّلَّالِينَ مَعَ الْعِلْمِ بِاشْتِرَاكِهِمْ إذْنٌ لِهُمْ وَلَوْ بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا أَخَذَهُ وَلَمْ يُعْطِ غَيْرَهُ وَاشْتَرَكَا فِي الْكَسْبِ جَازَ فِي أَظْهَرْ الْوَجْهَيْنِ، وَمُوجِبُ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ التَّسَاوِي فِي الْعَمَلِ، وَأَمَّا بِإِعْطَائِهِ زِيَادَةً فِي الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ عَمَلٍ. وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَشْتَرِطُوا لَهُ زِيَادَةً جَازَ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ الْمَنْعُ بِمُقْتَضَى مَذْهَبِهِ فِي شَرِكَةِ الْأَبَدَانِ وَالْوُجُوهِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُشْرَعُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَالرِّبْحُ الْحَاصِلُ مِنْ مَالٍ لَمْ يَأْذَنْ مَالِكُهُ فِي التِّجَارَةِ فِيهِ، فَقِيلَ هُوَ لِلْمَالِكِ فَقَطْ كَنَمَاءِ الْأَعْنَابِ، وَقِيلَ لِلْعَامِلِ فَقَطْ لِأَنَّ عَلَيْهِ الضَّمَانَ، وَقِيلَ يَتَصَدَّقَانِ بِهِ لِأَنَّهُ رِبْحٌ خَبِيثٌ. وَقِيلَ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ النَّفْعَيْنِ بِحَسَبِ مَعْرِفَةِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ وَهُوَ أَصَحُّهَا، وَبِهِ حَكَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَّا أَنْ يَتَّجِرَ بِهِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعُدْوَانِ. مِثْلُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ مَالُ نَفْسِهِ فَتَبَيَّنَ مَالَ غَيْرِهِ، فَهُنَا يَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ بِلَا رَيْبٍ. وَذَكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّهُ إنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ مَالُ الْغَيْرِ فَهُنَا يُتَوَجَّهُ

باب المزارعة والمساقاة

قَوْلُ مَنْ لَا يُعْطِهِ شَيْئًا لِأَنَّهُ حَصَلَ بِعَمَلٍ مُحَرَّمٍ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْإِبَاحَةِ، فَإِنْ تَابَ سَقَطَ حَقُّ اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ وَأُبِيحَ لَهُ حِينَئِذٍ بِالْقِسْمَةِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَتُبْ فَفِي حِلِّهِ نَظَرٌ، وَكَذَلِكَ الْمُتَوَجَّهُ فِيمَا إذَا غَصَبَ شَيْئًا كَفَرَسٍ وَكَسَبَ بِهِ مَالًا كَالصَّيْدِ أَنْ يَجْعَلَ الْمَكْسُوبَ بَيْنَ الْغَاصِبِ وَمَالِكِ الدَّابَّةِ عَلَى قَدْرِ نَفْعِهِمَا. بِأَنْ تَقُومَ مَنْفَعَةُ الرَّاكِبِ وَمَنْفَعَةُ الْفَرَسِ ثُمَّ يُقْسَمُ الصَّيْدُ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا إذَا كَسَبَ الْعَبْدَ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْطِيَ الْمَالِكَ أَكْثَرَ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مِنْ كَسْبِهِ أَوْ قِيمَةِ نَفْعِهِ، وَمَنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا أَعْيَانٌ مُشْتَرَكَةٌ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا قَدْرَ حَقِّهِ بِإِذْنِ حَاكِمٍ جَازَ قَوْلًا وَاحِدًا وَذَلِكَ بِدُونِ إذْنِهِ عَلَى الصَّحِيحِ انْتَهَى. [بَابُ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ] وَلَوْ دَفَعَ أَرْضَهُ إلَى آخَرَ يَغْرِسُهَا بِجُزْءٍ مِنْ الْغِرَاسِ صَحَّ كَالْمُزَارَعَةِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ وَالْقَاضِي فِي تَعْلِيقِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ مَغْرُوسَةً فَعَامَلَهُ بِجُزْءٍ مِنْ غِرَاسِهَا صَحَّ وَهُوَ مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو حَفْصٍ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْغَارِسُ نَاظِرَ وَقْفٍ أَوْ غَيْرَهُ. وَلَا يَجُوزُ لِنَاظِرٍ بَعْدَهُ نَصِيبُ الْوَقْفِ مِنْ الشَّجَرَةِ وَلِلْحَاكِمِ الْحُكْمُ بِلُزُومِهَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ فَقَطْ، وَالْحُكْمُ لَهُ مِنْ عِوَضِ الْمِثْلِ وَلَوْ لَمْ تَقُمْ بِهِ بَيِّنَةٌ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا فِي يَدِهِ بِالْوَقْفِ وَغَيْرِهِ حَتَّى تَقُومَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِلْكًا لَهُ، لَكِنْ لَا يَحْكُمُ بِالْوَقْفِ حَتَّى يَثْبُتَ الْمِلْكُ وَمُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي حَفْصٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُغَارِسَهُ بِجُزْءٍ مِنْ الْأَرْضِ كَمَا جَازَ النَّسْجُ بِجُزْءٍ مِنْ غَزْلِ نَفْسِهِ، فَإِنْ اشْتَرَطَا فِي الْمُغَارَسَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْغَارِسِ الْمَاءُ أَوْ بَعْضُهُ، فَالْمُتَوَجِّهُ أَنَّ الْمَاءَ كَالْغَرْسِ وَكَالْبَذْرِ سَيَجِيءُ مِثْلُهُ فِي الْمُزَارَعَاتِ. لِأَنَّ الْمَاءَ أَصْلٌ يَفْنَى وَمَتَى كَانَ مِنْ الْعَامِلِ أَصْلٌ فَإِنَّ فِيهِ رِوَايَتَانِ وَإِنْ غَارَسَهُ عَلَى أَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ تَكُونُ لَهُ دَرَاهِمُ مُسَمَّاةٌ إلَى حِينِ إثْمَارِ الشَّجَرِ، فَإِذَا أَثْمَرَتْ كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي الثَّمَرِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فَهَذِهِ لَا أَعْرِفُهَا مَنْقُولَةً، وَقَدْ يُقَالُ هَذَا لَا يَجُوزُ، كَمَا إذَا اشْتَرَطَ شَيْئًا مُقَدَّرًا فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَحْصُلُ إلَّا ذَلِكَ الْمَشْرُوطُ فَيَبْقَى الْآخَرُ لَا شَيْءَ لَهُ لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، وَالْمُنَاصِبُ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ سَقْيَ الشَّجَرِ وَالْقِيَامَ عَلَيْهَا إذَا بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ ذَلِكَ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْعَمَلِ جَازَ وَصَحَّ شَرْطُهُ، كَالْمُكَاتَبِ إذَا بِيعَ عَلَى كِتَابَتِهِ

هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ الْغَارِسُ بِمَا شُرِطَ عَلَيْهِ كَانَ لِرَبِّ الْأَرْضِ الْفَسْخُ. فَإِذَا فَسَخَ الْعَامِلُ أَوْ كَانَتْ فَاسِدَةً فَلِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَتَمَلَّكَ نَصِيبَ الْغَارِسِ إذَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى الْقَلْعِ. وَإِذَا تَرَكَ الْعَامِلُ الْعَمَلَ حَتَّى فَسَدَ الثَّمَرُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ نَصِيبِ الْمَالِكِ، وَيَنْظُرُ كَمْ يُحْيِي لَوْ عَمِلَ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ. كَمَا يَضْمَنُ لَوْ يَبِسَ الشَّجَرُ وَهَذَا لِأَنَّ تَرْكَهُ الْعَمَلَ مِنْ غَيْرِ فَسْخِ الْعَقْدِ حَرَامٌ وَغَرَرٌ وَهُوَ سَبَبٌ فِي عَدَمِ هَذَا الثَّمَرِ، فَيَكُونُ كَمَا لَوْ تَلِفَتْ الثَّمَرَةُ تَحْتَ الْيَدِ الْعَادِيَةِ مِثْلُ أَنْ يَغْصِبَ الشَّجَرَ غَاصِبٌ وَيُعَطِّلَهَا عَنْ السَّقْيِ حَتَّى يَفْسُدَ ثَمَرُهَا، أَمَّا الضَّمَانُ بِالْيَدِ الْعَادِيَةِ كَالضَّمَانِ بِسَبَبِ الْإِتْلَافِ لَا سِيَّمَا إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ الْعَادِيَةِ. وَاسْتِيلَاؤُهُ عَلَى الشَّجَرِ مَعَ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا شَرَطَهُ هَلْ هُوَ يَدٌ عَادِيَةٌ فِيهِ نَظَرٌ، لَكِنَّهُ سَبَبٌ فِي الْإِتْلَافِ، وَهَذَا فِي الْفَوَائِدِ نَظِيرُ الْمَنَافِعِ فَإِنَّ الْمَنَافِعَ لَمْ تُوجَدْ وَإِنَّمَا الْغَاصِبُ مَنَعَ مِنْ اسْتِيفَائِهَا وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْإِتْلَافَ نَوْعَانِ: إعْدَامُ مَوْجُودٍ وَتَفْوِيتٌ لِمَعْدُومٍ انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُودِهِ وَهَذَا تَفْوِيتٌ. وَعَلَى هَذَا فَالْعَامِلُ فِي الْمُزَارَعَةِ إذَا تَرَكَ الْعَمَلَ فَقَدْ اسْتَوْلَى عَلَى الْأَرْضِ وَفَوَّتَ نَفْعَهَا، فَيَنْبَغِي أَيْضًا ضَمَانُ إتْلَافٍ أَوْ ضَمَانُ إتْلَافٍ وَيَدٍ، لَكِنْ هَلْ يَضْمَنُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ أَوْ يَضْمَنُ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْأَرْضِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ فِي مِثْلِهَا مَعْرُوفًا فَيُقَاسَ بِمِثْلِهَا. أَمَّا عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَالْأَصْوَبُ الْأَقْيَسُ بِالْمَذْهَبِ أَنْ يَضْمَنَ بِمِثْلِ مَا يَثْبُتُ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ ضَمَانَ يَدٍ وَإِنَّمَا هُوَ ضَمَانُ تَعْزِيرٍ وَالْمُزَارَعَةُ أَحَلُّ مِنْ الْإِجَارَةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْغُنْمِ وَالْمَغْرَمِ، وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْبَذْرِ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ إنْسَانٍ الْأَرْضُ وَمِنْ ثَانٍ الْعَمَلُ وَمِنْ ثَالِثٍ الْبَذْرُ وَمِنْ رَابِعٍ الْبَقَرُ صَحَّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَإِذَا نَبَتَ الزَّرْعُ مِنْ الْحَبِّ الْمُشْتَرَكِ قُسِّمَ الزَّرْعُ عَلَى قَدْرِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالْحَبُّ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ شَرَطَ صَاحِبُ الْبَذْرِ أَنْ يَأْخُذَ مِثْلَ بَذْرِهِ وَيَقْتَسِمَانِ الْبَاقِيَ جَازَ

باب الإجارة

كَالْمُضَارَبَةِ وَكَاقْتِسَامِهِمَا مَا يَبْقَى بَعْدَ الْكَلَفِ، وَإِذَا صَحَّتْ الْمُزَارَعَةُ فَيَلْزَمُ الْمُقْطِعَ عُشْرُ نَصِيبِهِ وَمَنْ قَالَ الْعُشْرُ كُلُّهُ عَلَى الْفَلَّاحِ فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ، وَإِنْ أَلْزَمُوا الْفَلَّاحَ بِهِ فَمَسْأَلَةُ الظُّفْرِ وَالْحَقُّ ظَاهِرٌ فَيَجُوزُ لَهُ قَدْرُ مَا ظُلِمَ بِهِ وَالْمَسَّاحُ عَلَى الْمَالِكِ، وَيَتْبَعُ فِي الْكُلَفِ السُّلْطَانِيَّةِ الْعُرْفَ مَا لَمْ يَكُنْ شَرْطٌ، وَمَا طُولِبَ مِنْ الْقَرْيَةِ مِنْ الْوَظَائِفِ السُّلْطَانِيَّةِ وَنَحْوِهَا فَعَلَ قَدْرَ الْأَمْوَالِ، وَإِنْ وُضِعَتْ عَلَى الزَّرْعِ فَعَلَى رَبِّهِ، وَإِنْ مُنِعَتْ مُطْلَقًا فَالْعَادَةُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُقْطِعُ عَلَى الْفَلَّاحِ شَيْئًا مَأْكُولًا. وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ نَصِيبِ الْفَلَّاحِ لِلْقَطْعِ، وَالْعُشْرُ وَالرِّئَاسَةُ إنْ كَانَتْ لَوْ دُفِعَتْ مُقَاسَمَةً قُسِمَتْ أَوْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِمِقْدَارٍ فَأَخَذَ قَدْرَهُ فَلَا بَأْسَ، وَهَدِيَّةُ الْفَلَّاحِ لِلْمُقْطِعِ إنَّمَا هِيَ بِسَبَبِ الْإِقْطَاعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحِسَّهَا لَهُ مِمَّا عِنْدَهُ أَوْ لَا يَأْخُذَهَا. وَإِذَا فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ أَوْ الْمُسَاقَاةُ أَوْ الْمُضَارَبَةُ اسْتَحَقَّ الْعَامِلُ نَصِيبَ الْمِثْلِ وَهُوَ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ فِي مِثْلِهِ لَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَإِذَا كُنَّا نَقُولُ فِي الْغَاصِبِ إنَّ زَرْعَهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ، فَلَأَنْ نَقُولَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ إنَّ الزَّرْعَ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ لِغَيْرِهِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِجَارَةِ] وَهَلْ تَنْعَقِدُ الْإِجَارَةُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ فِيهِ وَجْهَانِ يَثْبُتَانِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُعَاوَضَةَ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ أَوْ شَبَهٌ بِهِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الدَّابَّةَ بِعَلَفِهَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَجَزَمَ بِهِ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لِابْنِهِ وَلَوْ جَعَلَ الْأُجْرَةَ نَفَقَتَهُ نَصَّ مَالِكٌ عَلَى جَوَازِ إجَارَةٍ لِابْنِهِ فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ تَبَعًا لِنَصِّهِ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ بِهَا مَوْرِدَ النَّصِّ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا نَصُّهُ. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ لَبَنَهُ فَنَقَصَ عَنْ الْعَادَةِ كَبَعِيرِ الْعَادَةِ بِبَعِيرِ الْعَادَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ بِمَلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ.

وَأَمَّا الْأَرْشُ فَيَجُوزُ إجَارَةُ مَا قَنَاهُ مُدَّةً وَمَا قَابَضَ تَرْكُهُ رَامَاهُ وَيَجُوزُ إجَارَةُ الشَّجَرِ لِأَخْذِ ثَمَرِهِ وَالسَّمْعِ لِيَشْغَلَهُ، وَهُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ فِيمَا إذَا أَجَّرَهُ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ وَمِثْلُهُ وَكُلَّمَا أَعْتَقْت عَبْدًا مِنْ عَبِيدِك فَعَلَيَّ ثَمَنُهُ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْعَدَدَ وَالثَّمَنَ وَيَجُوزُ لِلْمُؤَجِّرِ إجَارَةُ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ. وَيَقُومُ الْمُسْتَأْجِرُ الثَّانِي مَقَامَ الْمَالِكِ فِي اسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ، وَغَلِطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فَأَفْتَى فِي نَحْوِ ذَلِكَ بِفَسَادِ الْإِجَارَةِ الثَّانِيَةِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ هَذَا كَبَيْعِ الْمَبِيعِ، وَأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ تَصَرُّفٌ فِيمَا اسْتَحَقَّهُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَيَجُوزُ إجَارَةُ الْإِقْطَاعِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ قَالَ: إجَارَةُ الْإِقْطَاعِ لَا تَجُوزُ حَتَّى حَدَّثَ بَعْضُ أَهْلِ زَمَانِنَا فَابْتَدَعَ الْقَوْلَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ وَيَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ إجَارَةُ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ بِمِثْلِ الْأُجْرَةِ وَزِيَادَةٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، فَإِنْ شَرَطَ الْمُؤَجِّرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَنْ لَا يَسْتَوْفِيَ الْمَنْفَعَةَ إلَّا بِنَفْسِهِ أَوْ أَنْ لَا يُؤَجِّرَهَا إلَّا لِعَدْلٍ أَوْ لَا يُؤَجِّرَهَا مِنْ زَيْدٍ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ فِيمَا أَرَاهُ أَنَّهَا شُرُوطٌ صَحِيحَةٌ، لَكِنْ لَوْ تَعَذَّرَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الِاسْتِيفَاءُ بِنَفْسِهِ لِمَرَضٍ أَوْ تَلَفِ مَالٍ أَوْ إرَادَةِ سَفَرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الْفَسْخُ كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمَنْفَعَةِ، وَلَوْ اضْطَرَّ إلَى السُّكْنَى فِي بَيْتِ إنْسَانٍ لَا يَجِدُ سِوَاهُ، أَوْ النُّزُولِ فِي خَانٍ مَمْلُوكٍ أَوْ رَحًا لِلطَّحْنِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَنَافِعِ وَجَبَ بَدَلُهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ بِلَا نِزَاعٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجِبُ بَدَلُهُ مُحَابَاةً ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الْأُجْرَةَ عَلَى تَعْلِيمِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَنَحْوِهِمَا إنْ كَانَ مُحْتَاجًا وَهُوَ وَجْهٌ فِي الْمَذْهَبِ، وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَإِهْدَائِهَا إلَى الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْإِذْنُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ إنَّ الْقَارِئَ إذَا قَرَأَ لِأَجْلِ الْمَالِ فَلَا ثَوَابَ لَهُ، فَأَيُّ شَيْءٍ يُهْدَى إلَى الْمَيِّتِ وَإِنَّمَا يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى مُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى التَّعْلِيمِ وَلَا بَأْسَ بِجَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى الرُّقْيَةِ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.

وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْخُذَ الْحَاجُّ عَنْ غَيْرِهِ لِيَحُجَّ لَا أَنْ يَحُجَّ لِيَأْخُذَ فَمَنْ أَحَبَّ إبْرَارَ الْمَيِّتِ بِرُؤْيَةِ الْمَشَاعِرِ يَأْخُذُ لِيَحُجَّ وَمِثْلُهُ كُلُّ رِزْقٍ أُخِذَ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ فَفَرَّقَ بَيْنَ مَنْ يَقْصِدُ الدِّينَ وَالدُّنْيَا وَسِيلَتَهُ وَعَكْسِهِ، فَالْأَشْبَهُ أَنَّ عَكْسَهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، وَالْأَعْمَالُ الَّتِي يَخْتَصُّ فَاعِلُهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ هَلْ يَجُوزُ إيقَاعُهَا غَيْرَ وَجْهِ الْقُرْبَةِ. فَمَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَمْ يُجِزْ الْإِجَارَةَ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا بِالْعِوَضِ تَقَعُ غَيْرَ قُرْبَةٍ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ، وَمِنْ جَوَّزَ الْإِجَارَةَ جَوَّزَ إيقَاعَهَا عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، وَقَالَ تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَيْهَا لِمَا فِيهَا مِنْ نَفْعِ الْمُسْتَأْجِرِ. وَأَمَّا مَا يُؤْخَذُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَيْسَ عِوَضًا وَأُجْرَةً بَلْ رِزْقٌ لِلْإِعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ لِلَّهِ أُثِيبَ وَمَا يَأْخُذُهُ رِزْقٌ لِلْإِعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ. وَكَذَلِكَ الْمَالُ الْمَوْقُوفُ عَلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْمُوصَى بِهِ وَالْمَنْذُورُ كَذَلِكَ لَيْسَ كَالْأُجْرَةِ. وَالْجُعَلُ فِي الْإِجَارَةِ إلَى مَا لَهُ الِاخْتِصَاصُ، فَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مِنْ جُنْدِيٍّ ثُمَّ غَرَسَهَا قَضْبًا وَانْتَقَلَ الْإِقْطَاعُ إلَى آخَرَ فَالْجُنْدِيُّ الثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْإِجَارَةِ الْأُولَى وَلَهُ أَنْ يُؤَجِّرَهَا لِمَنْ لَهُ فِيهَا الْقَضْبُ وَكَذَا لِغَيْرِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَقُومُ ذَلِكَ الْمُؤَجِّرُ فِيهَا مَقَامَ الْمُؤَجِّرِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ بِالْأَشْهُرِ فَاَلَّذِي وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَفِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ الشَّهْرُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْإِنْبَاتُ بِالْعَدَدِ، وَبَاقِي الشُّهُورِ بِالْأَهِلَّةِ. وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ بِحَسَبِ تَمَامِهِ وَنُقْصَانِهِ، فَإِنْ كَانَ تَامًّا كُمِّلَ تَامًّا، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا كُمِّلَ نَاقِصًا، فَإِذَا وَقَعَ أَوَّلَ الْمُدَّةِ فِي عَاشِرِ الشَّهْرِ مَثَلًا كُمِّلَ ذَلِكَ الشَّهْرُ فِي عَاشِرِ الشَّهْرِ الثَّانِي إنْ كَانَ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ نَاقِصًا وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُطْلِقَ فِي الْإِجَارَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً، بَلْ الْعُرْفُ كَسَنَتَيْنِ وَنَحْوِهِمَا. وَإِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنَّ النَّظَرَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَوْ أَتَى بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَأَفْتَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ إجَارَتَهُ كَإِجَارَةِ النَّاظِرَ وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَحْمَدَ أَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ وَتَنْفَسِخُ إجَارَةُ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ إذَا انْتَقَلَ الْوَقْفُ إلَى الْبَطْنِ الثَّانِي فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ.

وَصِنَاعَةُ التَّنْجِيمِ وَأَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا وَبَذْلُهَا حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى وُلَاةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ وَالْقِيَامُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَإِذَا رَكِبَ الْمُؤَجِّرُ إلَى شَخْصٍ لِيُؤَجِّرَهُ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ سَاكِنًا فِي الدَّارِ فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى سَاكِنِ الدَّارِ، وَإِذَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ صَحِيحَةً فَهِيَ لَازِمَةٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ لَيْسَ لِلْمُؤَجِّرِ الْفَسْخُ لِأَجْلِ زِيَادَةٍ حَصَلَتْ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ فَتَقْبَلُ الزِّيَادَةُ أَوْ أَقَلُّ فَلَا تَقْبَلُ فَهُوَ قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَا فِي الْوَقْفِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَلَوْ الْتَزَمَ الْمُسْتَأْجِرُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَمْ تَلْزَمْهُ اتِّفَاقًا، وَلَوْ الْتَزَمَهَا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ فِي لُزُومِهَا لَهُ قَوْلَانِ. فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ لَا تَلْزَمُهُ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ إلْحَاقَ الزِّيَادَةِ وَالشُّرُوطِ بِالْعُقُودِ اللَّازِمَةِ لَا يَصِحُّ، وَتَلْزَمُهُ إذَا فَعَلَهَا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ مُتَبَرِّعًا بِذَلِكَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَلْحَقُ الزِّيَادَةُ بِالْعُقُودِ اللَّازِمَةِ. لَكِنْ إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ لَمْ تَجْرِ بِأَنَّ أَحَدَ هَؤُلَاءِ يُلْحِقُهَا بِطِيبِ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ خَوْفًا مِنْ الْإِخْرَاجِ، فَحِينَئِذٍ لَا تَلْزَمُهُمْ بِالِاتِّفَاقِ بَلْ لَهُمْ اسْتِرْجَاعُهَا مِمَّنْ قَبَضَهَا مِنْهُمْ وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ لَيْسَتْ شَيْئًا مَحْدُودًا. وَإِنَّمَا هِيَ مَا تُسَاوِي الشَّيْءَ فِي نُفُوسِ أَهْلِ الرَّغْبَةِ، وَلَا عِبْرَةَ بِمَا يَحْدُثُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ مِنْ ارْتِفَاعِ الْكِرَاءِ أَوْ انْخِفَاضِهِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ تُفَّاحَةً يُحْتَمَلُ الْجَوَازُ وَيَجُوزُ إجَارَةُ الْمُقَصَّبَةِ لِيَقُومَ عَلَيْهَا الْمُسْتَأْجِرُ وَيَسْقِيَهَا فَتَنْبُتُ الْعُرُوقُ الَّتِي فِيهَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَسْقِي الْأَرْضَ لِيَنْبُتَ فِيهَا الْكَلَأُ بِلَا بَذْرٍ، وَإِذَا عَمِلَ الْأَجِيرُ بَعْضَ الْعَمَلِ أُعْطِي مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا عَمِلَ، وَإِذَا مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ لَمْ يَلْزَمْ وَرَثَتَهُ تَعْجِيلُ الْأُجْرَةِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَا يَحِلُّ الدَّيْنُ بِالْمَوْتِ ظَاهِرٌ وَكَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِحُلُولِهِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِمْ إذْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَغَيْرِهَا كَمَا يُفَرِّقُونَ فِي الْأَرْضِ الْمُحْتَكَرَةِ إذَا بِيعَتْ أَوْ وُرِثَتْ فَإِنَّ الْحَكْرَ يَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَالْوَارِثِ وَلَيْسَ لِأَصْحَابِ الْحَكْرِ

أَخْذُ الْحَكْرِ مِنْ الْبَائِعِ وَمَنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِمْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يُصَلِّي مَعَهُ نَافِلَةً وَلَا فَرِيضَةً فِي جَنْبِهِ وَلَا يَمِينِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِذَا تَقَايَلَا الْإِجَارَةَ أَوْ فَسَخَهَا الْمُسْتَأْجِرُ بِحَقٍّ وَكَانَ حَرَثَهَا فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْطَعَ غِرَاسَ الْمُسْتَأْجِرِ وَزَرْعَهُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْإِجَارَةُ صَحِيحَةً أَوْ فَاسِدَةً بَلْ إذَا بَقِيَ فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ. وَتَرْكُ الْقَابِلَةِ وَنَحْوِهَا الْأُجْرَةَ لِحَاجَةِ الْمَقْبُولَةِ أَفْضَلُ مِنْ أَخْذِهَا الصَّدَقَةَ بِهَا. وَإِجَارَةِ الْمُضَافِ يُفَسَّرُ بِشَيْئَيْنِ أَنْ يُؤَجَّرَ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ، وَالثَّانِي أَنْ يُؤَجَّرَ مُدَّةً لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَأْخُوذِ لِمَا اُسْتُؤْجِرَ لَهُ فِي الْمُدَّةِ فَمِنْ الْحُكَّامِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا إذَا أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِالْعَيْنِ عَقِبَ الْعَقْدِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْأَرْضَ لِلِازْدِرَاعِ وَنَحْوِهِ كَتَبَ فِيهَا أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا مَقِيلًا وَمَرَاحًا وَمُزْدَرَعًا وَنَحْوَ ذَلِكَ لِتَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مُمْكِنَةً حَالَةَ الْعَقْدِ وَنُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ كَثِيرَةٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ إجَارَةِ الْمُسْلِمِ دَارِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَبَيْعِهَا لَهُمْ وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي هَذَا الْمَنْعِ هَلْ هُوَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ أَوْ تَحْرِيمٍ فَأَطْلَقَ أَبُو عَلِيٍّ وَأَبُو مُوسَى وَالْآمِدِيُّ بِالْكَرَاهَةِ. وَأَمَّا الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ فَمُقْتَضَى كَلَامِهِمَا وَكَلَامِ الْقَاضِي تَحْرِيمُ ذَلِكَ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ وَهَذَا الْخِلَافُ عِنْدَنَا وَالتَّرَدُّدُ فِي الْكَرَاهَةِ إنَّمَا مَحَلُّهُ إذَا لَمْ يَعْقِدْ الْإِجَارَةَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ فَأَمَّا إنْ أَجَّرَهُ إيَّاهَا لِأَجْلِ بَيْعِ الْخَمْرِ وَاِتِّخَاذِهَا كَنِيسَةً لَمْ يَجُزْ قَوْلًا وَاحِدًا. قَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يُغَسِّلُ الْمَيِّتَ بِكِرَاءٍ؟ قَالَ: بِكِرَاءٍ،؟ وَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ. قُلْت: يَقُولُ أَنَا فَقِيرٌ، قَالَ: هَذَا كَسْبُ سُوءٍ. وَوَجْهُ هَذَا النَّصِّ أَنَّ تَغْسِيلَ الْمَوْتَى مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالتَّكَسُّبُ بِذَلِكَ يُؤْذِنُ بِتَمَنِّي مَوْتِ الْمُسْلِمِينَ فَنَسَبَهُ إلَى الِاحْتِكَارِ قَالَ أَصْحَابُنَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْطَى الظِّئْرُ عِنْدَ الْفِطَامِ عَبْدًا أَوْ أَمَةً إذَا أَمْكَنَ لِلْخَبَرِ وَلَعَلَّ هَذَا فِي الْمُتَبَرِّعَةِ بِالرَّضَاعِ وَأَمَّا فِي الْإِجَارَةِ فَلَا يُفْتَقَرُ إلَى تَقْدِيرِ عِوَضٍ وَلَا إلَى صِيغَةٍ بَلْ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنَّهُ إجَارَةٌ فَهُوَ إجَارَةٌ يَسْتَحِقُّ فِيهِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. نَقَلَ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَأَنَا أَسْمَعُ عَنْ رَجُلٍ يَأْخُذُ

الْأُجْرَةَ عَلَى كِتَابَةِ الْعِلْمِ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَكْرَهُهُ لَا نَأْخُذُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ أُجْرَةً وَكَانَ أَبُو عُيَيْنَةَ لَا يَرَاهُ قَالَ الْقَاضِي ظَاهِرُ هَذَا الْمَنْعُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: لَعَلَّهُ مَعَ الْغِنَى وَإِلَّا فَهُوَ بَعِيدٌ قَالَ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ ": إذَا دَفَعَ إلَى دَلَّالٍ ثَوْبًا أَوْ دَارًا وَقَالَ لَهُ: بِعْ هَذَا فَمَضَى وَعَرَضَ ذَلِكَ عَلَى جَمَاعَةٍ مُشْتَرِينَ وَعَرَفَ ذَلِكَ صَاحِبُ الْمَبِيعِ فَامْتَنَعَ مِنْ الْبَيْعِ وَأَخَذَ السِّلْعَةَ ثُمَّ بَاعَهَا هُوَ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ تَلْزَمْهُ أُجْرَةُ الدَّلَّالِ لِلْمَبِيعِ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ إنَّمَا جَعَلَهَا فِي مُقَابَلَةِ الْعَقْدِ وَمَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: الْوَاجِبُ أَنْ يَسْتَحِقَّ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا عَمِلَ وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْجَعَلَاتِ وَتَصِحُّ إجَارَةُ الْأَرْضِ لِلزَّرْعِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهَا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ: قُلْت لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يَسْتَأْجِرُ الْبَيْتَ إذَا شَاءَ أَخْرَجَهُ وَإِذَا شَاءَ خَرَجَ قَالَ قَدْ وَجَبَ فِيهِمَا إلَى أَجَلِهِ إلَّا أَنْ يُهْدَمَ الْبَيْتُ أَوْ يَغْرَقَ الدَّارُ أَوْ يَمُوتَ الْبَعِيرُ فَلَا يَنْتَفِعُ الْمُسْتَأْجِرُ بِمَا اسْتَأْجَرَ فَيَكُونُ عَلَيْهِ بِحِسَابِ مَا سَكَنَ أَوْ رَكِبَ قَالَ الْقَاضِي ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ لَا يُبْطِلُ الْإِجَارَةَ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: هَذَا اشْتِرَاطُ النَّجَّارِ لَكِنَّهُ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ مَعَ الْإِذْنِ فِي الِانْتِفَاعِ فَإِذَا تَرَكَ الْأَجِيرُ مَا يَلْزَمُهُ عَمَلُهُ بِلَا عُذْرٍ فَتَلِفَ مَا اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ ضَمِنَهُ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ مُطَالَبَةُ الْمُؤَجِّرِ بِالْعِمَارَةِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ جِهَةِ حَقِّ أَهْلِ الْوَقْفِ وَمِنْ جِهَةِ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ. وَاِتِّخَاذُ الْحِجَامَةِ صِنَاعَةً يَتَكَسَّبُ بِهَا هُوَ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ عِنْدَ إمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى كَثْرَةِ مُبَاشَرَةِ النَّجَاسَاتِ وَالِاعْتِنَاءِ بِهَا لَكِنْ إذَا عَمِلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ بِالْعِوَضِ اسْتَحَقَّهُ وَإِلَّا فَلَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ فِي مُبَاشَرَةِ النَّجَاسَةِ وَحِرْمَانُهُ أُجْرَتَهُ وَنُهِيَ عَنْ أَكْلِهِ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ مِلْكُهُ وَإِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ رَقِيقٍ أَوْ بَهَائِمَ يَحْتَاجُ إلَى نَفَقَتِهَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَفْسُدَ مَالُهُ إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُحْتَاجًا إلَى هَذَا الْكَسْبِ لَيْسَ لَهُ مَا يُغْنِيه عَنْهُ إلَّا الْمَسْأَلَةُ لِلنَّاسِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ كَسْبٌ فِيهِ دَنَاءَةٌ خَيْرٌ مِنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ.

فصل والعارية تجب مع غناء المالك

وَإِذَا بِيعَتْ الْعَيْنُ الْمُؤَجَّرَةُ أَوْ الْمَرْهُونَةُ وَنَحْوُهُمَا بِهِ تَعَلَّقَ حَقُّ غَيْرِ الْبَائِعِ وَهُوَ عَالِمٌ بِالْعَيْبِ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: لَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِفَسَادِ الْبَيْعِ بَعْدَ هَذَا لِأَنَّ إخْبَارَهُ بِالْعَيْبِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بِالسُّنَّةِ بِقَوْلِهِ وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ عَلِمَ ذَلِكَ إلَّا إنْ بَيَّنَهُ فَكِتْمَانُهُ تَغْرِيرٌ وَالْغَارُّ ضَامِنٌ وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِيمَا إذَا رَأَى عَيْبًا فَلَمْ يَنْهَهُ وَفِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ فَإِنَّ الْمَذَاهِبَ أَنَّ السُّكُوتَ لَا يَكُونُ إذْنًا فَلَا يَصِحُّ التَّصَرُّفُ لَكِنْ إذَا لَمْ يَصِحَّ يَكُونُ تَغْرِيرًا فَيَكُونُ ضَامِنًا بِحَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمُشْتَرِيَ بِالضَّمَانِ فَإِنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ عِنْدَنَا كَفِعْلِ الْمُحَرَّمِ كَمَا يُقَالُ فِيمَنْ قَدَرَ عَلَى إنْجَاءِ إنْسَانٍ مِنْ هَلَاكِهِ بَلْ الضَّمَانُ هُنَا أَقْوَى. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ أَنَّ مَنْ بَاعَ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهَا مُسْتَأْجَرَةٌ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَهُ وَمِلْكَ غَيْرِهِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ تَفْرِيقِ الصِّفَةِ. [فَصْلٌ وَالْعَارِيَّةُ تَجِبُ مَعَ غِنَاءِ الْمَالِكِ] فَصْلٌ وَالْعَارِيَّةُ تَجِبُ مَعَ غِنَاءِ الْمَالِكِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَهِيَ مَضْمُونَةٌ يُشْتَرَطُ ضَمَانُهَا وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَلَوْ سَلَّمَ شَرِيكٌ شَرِيكَهُ دَابَّةً فَتَلِفَتْ بِلَا تَعَدٍّ وَلَا تَفْرِيطٍ لَمْ يَضْمَنْ وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ إذَا قَالَ: أَعَرْتُك دَابَّتِي لِتَعْلِفَهَا أَنَّ هَذَا يَصِحُّ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ بِطَعَامِهِ وَكُسْوَتِهِ لَكِنْ دُخُولُ الْعِوَضِ فِيهِ يُلْحِقُهُ بِالْإِجَارَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَسِيرًا لَا يَبْلُغُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ بِلَا تَعَدٍّ فَيَكُونُ حُكْمُ الْعَارِيَّةِ بَاقِيًا وَهَذَا فِي الْمَنَافِعِ نَظِيرُ الْهِبَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهَا الثَّوَابُ فِي الْأَعْيَانِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فِي قَدِيمِ خَطِّهِ نَفَقَةُ الْعَيْنِ الْمُعَارَةِ تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ أَوْ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لَا أَعْرِفُ فِيهَا نَقْلًا إلَّا أَنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ فِيمَا يَظْهَرُ لِي أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لِأَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا: إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ رَدِّهَا وَضَمَانُهَا إذَا تَلِفَتْ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهَا إلَى صَاحِبِهَا كَمَا أَخَذَهَا مِنْهُ سِوَى نَقْصِ الْمَنَافِعِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِيهَا ثُمَّ إنَّهُ خَطَرَ لِي أَنَّهَا تُخَرَّجُ عَلَى الْأَوْجُهِ فِي نَفَقَةِ الدَّارِ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهَا فَقَطْ أَحَدُهَا: يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ لَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ، وَثَانِيهَا عَلَى الْمَالِكِ لِلنَّفْعِ، وَثَالِثُهَا فِي كَسْبِهَا فَإِنْ قِيلَ هُنَاكَ الْمَنْفَعَةُ مُسْتَحَقَّةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ هُنَا فَإِنَّ مَالِكَ الرَّقَبَةِ هُوَ مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ غَيْرَ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَنْتَفِعُ بِهَا بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ وَهَذَا يُقَوِّي وُجُوبَهَا عَلَى الْمُعِيرِ وَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ يُقَوِّي وُجُوبَهَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ ثُمَّ أَقُولُ: هَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ حَاصِلَةٌ فِي الْأَصْلِ

وَالْفَرْعُ ثُمَّ كَوْنُهُ يَمْلِكُ انْتِزَاعَ الْمَنْفَعَةِ مِنْ يَدِهِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ بِدَلِيلِ مَا لَوْ كَانَ وَاهِبُ الْمَنْفَعَةِ أَبًا وَكَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ ابْنَهُ وَهَذِهِ فِي غَيْرِ صُورَةِ الْوَصِيَّةِ قُلْت ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَبُو الْمَعَالِي بْنُ الْمُنَجَّا فِي " شَرْحِ الْهِدَايَةِ " فَقَالَ: وَنَفَقَةُ الْعَيْنِ الْمُعَارَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُعِيرِ وَوَافَقَهُ فِي " الرِّعَايَةِ " وَقَالَ وَعَلَى الْمُسْتَعِيرِ مُؤْنَةُ رَدِّ الْمُعَارِ لَا مُؤْنَةُ عَيْنِهِ وَذَكَرَ الْحَلْوَانِيُّ فِي " التَّبْصِرَةِ " أَنَّهَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

كتاب السبق

[كِتَابُ السَّبْقِ] ِ وَيَجُوزُ اللَّعِبُ بِمَا قَدْ يَكُونُ فِيهِ مَصْلَحَةٌ بِلَا مَضَرَّةٍ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ لَا يَجُوزُ الْمَعْرُوفُ بِالطَّابِ وَالْمُنَقِّلَةِ وَكُلُّ مَا أَفْضَى كَثِيرًا إلَى حُرْمَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ بَلْ حُجَّةٌ لِأَنَّهُ يَكُونُ سَبَبًا لِلشَّرِّ وَالْفَسَادِ وَمَا أَلْهَى وَشَغَلَ عَنْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُحَرَّمْ جِنْسُهُ كَالْبَيْعِ وَالتِّجَارَةِ وَأَمَّا سَائِرُ مَا يَتَلَهَّى بِهِ الْبَاطِلُونَ مِنْ أَنْوَاعِ اللَّهْوِ وَسَائِرِ ضُرُوبِ اللَّعِبِ مِمَّا لَا يُسْتَعَانُ بِهِ فِي حَقٍّ شَرْعِيٍّ فَكُلُّهُ حَرَامٌ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ: أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَجِوَارٍ كُنَّ مَعَهَا يَلْعَبْنَ بِالْبَنَاتِ وَهُوَ اللَّعِبُ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرَاهُنَّ فَيُرَخِّصُ فِيهِ لِلصِّغَارِ مَا لَا يُرَخِّصُ فِيهِ لِلْكِبَارِ، وَالصِّرَاعُ وَالسَّبْقُ بِالْأَقْدَامِ وَنَحْوُهُمَا طَاعَةٌ إذَا قَصَدَ بِهِ نَصْرَ الْإِسْلَامِ وَأَخْذُ السَّبْقِ عَلَيْهِ أَخْذٌ بِالْحَقِّ فَالْمُغَالَبَةُ الْجَائِزَةُ تَحِلُّ بِالْعِوَضِ إذَا كَانَتْ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الدَّيْنِ كَمَا فِي مُرَاهَنَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ قُلْت، وَظَاهِرُ ذَلِكَ جَوَازُ الرِّهَانِ فِي الْعِلْمِ وِفَاقًا لِلْحَنَفِيَّةِ لِقِيَامِ الدِّينِ بِالْجِهَادِ وَالْعِلْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَتَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ بِلَا مُحَلِّلَةٍ وَلَوْ أُخْرِجَ الْمُتَسَاوِي وَتَصِحُّ شُرُوطُ السَّبْقِ لِلْإِنْشَادِ وَشِرَاءِ قَوْسٍ وَكِرَاءِ حَانُوتٍ وَإِطْعَامِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُ مِمَّا يُعِينُ عَلَى الرَّمْيِ.

كتاب الغصب

[كِتَابُ الْغَصْبِ] ِ قَالَ فِي " الْمُحَرَّرِ ": وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ ظُلْمًا قَوْلُهُ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ ظُلْمًا يَدْخُلُ فِيهِ مَالُ الْمُسْلِمِ وَالْمُعَاهَدِ وَهُوَ الْمَالُ الْمَعْصُومُ وَيَخْرُجُ مِنْهُ اسْتِيلَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِظُلْمٍ وَيَدْخُلُ فِيهِ اسْتِيلَاءُ الْمُحَارِبِينَ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْغَصْبِ الْمَذْكُورِ حُكْمُهُ هُنَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ إذْ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ وَلَا بِالتَّلَفِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي وُجُوبِ رَدِّ عَيْنِهِ. وَأَمَّا أَمْوَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْعَدْلِ فَقَدْ لَا يَرِدُ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يَجُوزُ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى عَيْنِهَا وَمَتَى أُتْلِفَتْ بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى عَيْنِهَا ضُمِنَتْ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي ضَمَانِهَا بِالْإِتْلَافِ وَقْتَ الْحَرْبِ وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا أَخَذَ الْمُلُوكُ وَالْقُطَّاعُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ الْمُكُوسِ وَغَيْرِهَا. فَأَمَّا اسْتِيلَاءُ أَهْلِ الْحَرْبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَيَدْخُلُ فِيهِ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ قَتْلُ النُّفُوسِ وَأَخْذُ الْأَمْوَالِ إلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ لَكِنْ يُقَالُ لَمَّا كَانَ الْمَأْخُوذُ مُبَاحًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا لَمْ يَصِرْ ظُلْمًا فِي حَقِّنَا وَلَا فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ. فَأَمَّا مَا أُخِذَ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالنُّفُوسِ أَوْ أُتْلِفَ مِنْهَا فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ أَقَرَّ قَرَارَهُ لِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ عُفِيَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ بِشَرْطِ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ بِشَرْطِ الْأَمَانِ فَلَوْ تَحَاكَمَ إلَيْنَا مُسْتَأْمَنَانِ حَكَمْنَا بِالِاسْتِقْرَارِ وَإِذَا كَانَ الْمُتْلَفُ لَا يُبَاعُ مِثْلُ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ فَهَا هُنَا لَا يَجُوزُ تَقْوِيمُهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْإِبْقَاءِ وَقَدْ لَا يَكُونُ لَهُ قِيمَةٌ بَلْ كَالْجَنِينِ فِي الْحَيَوَانِ فَهَا هُنَا إمَّا أَنْ يُقَوَّمَ مُسْتَحِقُّ الْإِبْقَاءِ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ يُقَوَّمَ مَعَ الْأَصْلِ ثُمَّ يُقَوَّمَ الْأَصْلُ بِدُونِهِ وَإِمَّا أَنْ يُنْظَرَ إلَى حَالِ كَمَالِهِ فَيُقَوَّمَ بِدُونِ نَفَقَةِ الْإِبْقَاءِ فَفِيهِ نَظَرٌ لِإِمْكَانِ تَلَفِهِ قَبْلُ وَأَمَّا إذَا جَازَ بَيْعُهُ مُسْتَحِقَّ الْإِبْقَاءِ فَيُقَوَّمُ مُسْتَحِقُّ الْإِبْقَاءِ كَمَا يُقَوَّمُ الْمَنْقُولَاتُ مَعَ جَوَازِ الْآفَاتِ عَلَيْهَا جَمِيعًا.

قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: سُئِلْت عَنْ قَوْمٍ أُخِذَتْ لَهُمْ غَنَمٌ أَوْ غَيْرُهَا مِنْ الْمَالِ ثُمَّ رُدَّتْ عَلَيْهِمْ أَوْ بَعْضُهَا وَقَدْ اشْتَبَهَ مِلْكُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. قَالَ فَأَجَبْتُ أَنَّهُ إنْ عُرِفَ قَدْرُ الْمَالِ تَحْقِيقًا قُسِمَ الْمَوْجُودُ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ إلَّا عَدَدَهُ قُسِمَ عَلَى قَدْرِ الْعَدَدِ لِأَنَّ الْمَالَيْنِ إذَا اخْتَلَطَا قُسِمَا بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَأْخُذُ عَيْنَ مَا كَانَ لِلْآخَرِ لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ جَعَلَهُمْ شُرَكَاءَ لَا سِيَّمَا عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ تَصِحُّ بِالْعَقْدِ مَعَ امْتِيَازِ الْمَالَيْنِ لَكِنَّ الِاشْتِبَاهَ فِي الْغَنَمِ وَنَحْوِهَا يَقُومُ مَقَامَ الِاخْتِلَاطِ فِي الْمَائِعَاتِ وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا اشْتَرَكَا بِمَا يَتَشَابَهُ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ أَنَّهُ يَصِحُّ كَمَا لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ إذَا صَحَّحْنَاهَا بِالْعَرْضِ وَإِذَا كَانُوا شُرَكَاءَ بِالِاخْتِلَاطِ وَالِاشْتِبَاهِ فَعِنْدَ الْقَسْمِ يُقْسَمُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْمَرْدُودُ جَمِيعَ مَا لَهُمْ فَظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ بَعْضَهُ فَذَلِكَ الْبَعْضُ هُوَ بَعْضُ الْمُشْتَرَكِ كَمَا لَوْ رَدَّ بَعْضَ الدَّرَاهِمِ الْمُخْتَلِطَةِ بَقِيَ إنْ كَانَ حَيَوَانًا فَهَلْ تَجِبُ قِسْمَتُهُ أَعْيَانًا عِنْدَ طَلَبِ بَعْضِهِمْ قَوْلًا وَاحِدًا أَوْ يُخَرَّجَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْحَيَوَانِ الْمُشْتَرَكِ الْأَشْبَهُ خُرُوجُهُ عَلَى الْخِلَافِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ عَشَرَةُ رُءُوسٍ وَلِلْآخَرِ عِشْرُونَ فَمَا وُجِدَ فَلِأَحَدِهِمَا ثُلُثُهُ وَلِلْآخَرِ ثُلُثَاهُ كَمَا لَوْ وَرِثَاهُ. لِذَلِكَ لَكِنَّ الْمَحْدُودَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَالَ كُلٍّ مِنْهُمَا إنْ عُرِفَ قِيمَتُهُ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ إلَّا عَدَدُهُ مَعَ أَنَّ غَنَمَ أَحَدِهِمَا قَدْ يَكُونُ خَيْرًا مِنْ غَنَمِ الْآخَرِ فَالْوَاجِبُ عِنْدَ تَعَذُّرِ مَعْرِفَةِ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ التَّسْوِيَةُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ فَضْلِ غَنَمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُلْجِئُ إلَى التَّسْوِيَةِ وَعَلَى هَذَا فَسَوَاءٌ اخْتَلَطَ غَنَمُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً يُقْسَمُ الْمَالَانِ عَلَى الْعَدَدِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ الرُّجْحَانُ وَإِنْ عُرِفَ وَجُهِلَ قَدْرُهُ أَثْبَتَ مِنْهُ الْقَدْرَ الْمُتَيَقَّنَ وَأَسْقَطَ الزَّائِدَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ وَيَضْمَنُ الْمَغْصُوبَ بِمَا نَقَصَ رَقِيقًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ قَالَ فِي " الْمُحَرَّرِ " وَمَنْ قَبَضَ مَغْصُوبًا مِنْ غَاصِبِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ فَهُوَ بِمَنْزِلَتِهِ فِي جَوَازِ تَضْمِينِهِ الْعَيْنَ وَالْمَنْفَعَةَ لَكِنَّهُ يَرْجِعُ إذَا غَرِمَ عَلَى غَاصِبٍ بِمَا لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ خَاصَّةً. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: يَتَخَرَّجُ أَلَّا يَضْمَنَ الْغَاصِبُ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ عَلَى قَوْلِنَا إنَّهُ لَا يَقْلَعُ غَرْسَهُ وَبِنَاءَهُ حَتَّى يَضْمَنَ بَعْضَهُ وَيَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ وَعَلَى ظَاهِرِ كَلَامِهِ فِي الْمَنْعِ يَضْمَنُ مُودَعُ الْمُودَعِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ وَعَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ كَانَ الْمَغْرُورُ لَا يَضْمَنُ الْأَوَّلَ

بَلْ يَضْرِبُهُمْ الْغَارُّ ابْتِدَاءً وَإِذَا مَاتَ الْحَيَوَانُ الْمَغْصُوبُ فَضَمِنَهُ الْغَاصِبُ مُجَلَّدَةً إذَا قُلْنَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لِلْمَالِكِ وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ وَيَتَخَرَّجُ أَنَّهُ لِلْغَاصِبِ وَإِذَا كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ مَالٌ مُشْتَرَكٌ فَغُصِبَ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا مَشَاعًا مِنْ عَقَارٍ أَوْ مَنْقُولٍ فَأَصَحُّ قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ النِّصْفَ الْآخَرَ حَلَالٌ لَلشَّرِيكِ الْآخَرِ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُحْكَى رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الظَّالِمُ يَكُونُ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ الظَّالِمَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْقِسْمَةِ. وَإِنْ وَقَفَ الرَّجُلُ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ مَثَلًا ثُمَّ بَاعَهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَدْ وَقَفَهُ فَهَلْ يَكُونُ سُكُوتُهُمْ عَنْ الْإِعْلَامِ تَغْرِيرًا مَعَ أَنَّهُمْ هُمْ الْمُسْتَحِقُّونَ فَهَذَا يُسْتَمَدُّ مِنْ السُّكُوتِ هَلْ هُوَ إذْنٌ وَهُوَ مَا إذَا رَأَى عَبْدَهُ أَوْ وَلَدَهُ يَتَصَرَّفُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَكُونُ إذْنًا لَكِنْ هَلْ يَكُونُ تَغْرِيرًا فَإِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السِّلْعَةِ الْمَعِيبَةِ «لَا يَحِلُّ لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَهُ» يَقْتَضِي وُجُوبَ الضَّمَانِ وَتَحْرِيمَ السُّكُوتِ فَيَكُونُ قَدْ فَعَلَ فِعْلًا مُحَرَّمًا تَلِفَ بِهِ مَالٌ مَعْصُومٌ فَهَذَا قَوِيٌّ جِدًّا لَكِنْ قَدْ يُقَالُ فَطَرْدُهُ أَنَّ مَنْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ غَيْرُ الْبَائِعِ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ فَقَدْ غَرَّ الْمُشْتَرِيَ فَيَضْمَنُ فَيُقَالُ هَذَا يَنْبَنِي أَنَّ الْغُرُورَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَوْلَادُ أَوْ غَيْرُهُمْ قَدْ عُرِفَ فَإِذَا وَجَبَ الرُّجُوعُ عَلَى الْوَاقِفِ بِمَا قَبَضَهُ مِنْ الثَّمَنِ وَبِمَا ضَمِنَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْأُجْرَةِ وَنَقْصِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ قَدْ مَاتَ مُعْسِرًا أَوْ هُوَ مُعْسِرًا فِي حَيَاتِهِ فَهَلْ يُؤْخَذُ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ الثَّمَنُ الَّذِي غَرِمَهُ الْمُشْتَرِي لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا بَعِيدٌ فِي الظَّاهِرِ لِأَنَّ رِيعَ الْوَقْفِ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ لَمْ يُقِرَّ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ مَا يُقْضَى بِهِ دَيْنُ غَيْرِهِ لَكِنْ بِاعْتِبَارِهِ هَذَا الدَّيْنَ عَلَى الْوَاقِفِ بِسَبَبِ تَغْرِيرِهِ بِالْوَقْفِ كَانَ الْوَاقِفُ هُوَ الْآكِلَ لِرِيعِ وَقْفِهِ وَقَدْ يُتَوَجَّهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْوَاقِفُ قَدْ احْتَالَ بِأَنْ وَقَفَ ثُمَّ بَاعَ، فَإِنَّ قَصْدَ الْحِيلَةَ إذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْوَقْفِ لَا يَنْفَعُ فِي الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ أَكَلُ مَالِ الْمُشْتَرِي الْمَظْلُومِ، وَلَوْ وَاطَأَ الْمَالِكُ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَبِيعَ دَارِهِ وَيُظْهِرَ أَنَّهَا لِلْبَائِعِ لَا أَنَّهُ يَبِيعُهَا بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ فَهَلْ تُجْعَلُ هَذِهِ الْمُوَاطَأَةُ وَكَالَةً. وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِي بَيْعِهَا لِنَفْسِهِ أَمْ يُجْعَلُ غُرُورًا فَإِنَّهُ مَا أَذِنَ فِي بَيْعٍ فَاسِدٍ لَكِنْ قَصَدَ

التَّغْرِيرَ، فَهَلْ يُعَاقَبُ بِجَعْلِ الْبَيْعِ صَحِيحًا أَمْ بِضَمَانِ التَّقْرِيرِ. وَلَوْ اشْتَرَى مَغْصُوبًا مِنْ غَاصِبِهِ رَجَعَ بِنَفَقَتِهِ وَعَمَلِهِ عَلَى بَائِعٍ غَارٍّ لَهُ، وَمَنْ زَرَعَ بِلَا إذْنِ شَرِيكِهِ وَالْعَادَةُ بِأَنَّ مَنْ زَرَعَ فِيهَا لَهُ نَصِيبٌ مَعْلُومٌ وَلِرَبِّهَا نَصِيبٌ قَسَمَ مَا زَرَعَهُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ كَذَلِكَ وَلَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ أَنْ يَزْرَعَ مَعَهُ أَوْ يُهَايِئَهُ فَأَتَى فَلِلْأَوَّلِ الزَّرْعُ فِي قَدْرِ حَقِّهِ بِلَا أُجْرَةٍ. وَاعْتَبَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إذْنَ وَلِيِّ الْأَمْرِ، وَيَضْمَنُ الْمَغْصُوبَ بِمِثْلِهِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ غَيْرَهُمَا حَيْثُ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَالْقِيمَةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَبِي مُوسَى وَقَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَإِذَا تَغَيَّرَ السِّعْرُ وَفُقِدَ الْمِثْلُ فَيُنْتَقَلُ إلَى الْقِيمَةِ وَقْتَ الْغَصْبِ، وَهُوَ أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ، وَلَوْ شَقَّ ثَوْبَ شَخْصٍ خُيِّرَ مَالِكُهُ بَيْنَ تَضْمِينِ الشَّاقِّ نَقْصَهُ وَبَيْنَ شَقِّ ثَوْبِهِ، وَنَقَلَهُ إسْمَاعِيلُ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ غُصُوبٌ وَوَدَائِعُ وَغَيْرُهَا لَا يَعْرِفُ أَرْبَابَهَا صَرَفَ فِي الْمَصَالِحِ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ وَلَوْ قُصِدَتْ بِهَا جَازَ وَلَهُ الْأَكْلُ مِنْهَا وَلَوْ كَانَ عَاصِيًا إذَا تَابَ وَكَانَ فَقِيرًا، وَمَنْ تَصَرَّفَ بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ لَمْ يَضْمَنْ كَمَنْ مَاتَ وَلَا وَلِيَّ لَهُ وَلَا حَاكِمَ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ إذَا عَرَفَ رَدُّ الْمُعَارَضَةِ كَثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا شَرْعًا وَمَنْ غَرِمَ مَالًا بِسَبَبِ كَذِبٍ عَلَيْهِ عِنْدَ وَلِيِّ الْأَمْرِ فَلَهُ تَضْمِينُ الْكَاذِبِ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَهُ وَلَوْ طَرَقَ فَحْلُ غَيْرِهِ عَلَى فَرَسِ نَفْسِهِ فَنَقَصَ الْفَحْلُ ضَمِنَهُ. وَلَا يَجُوزُ لِوَكِيلِ بَيْتِ الْمَالِ لَا غَيْرِهِ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ النَّافِذِ وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِصِحَّتِهِ وَمَا لِبَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْمُقَاسَمَةِ أَوْ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ لَا يُبَاعُ لِمَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا بِإِمْسَاكِ دَابَّةٍ ضَارِيَةٍ فَجَنَتْ عَلَيْهِ ضَمِنَهُ إنْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهَا، وَيَضْمَنُ جِنَايَةَ وَلَدِ الدَّابَّةِ إنْ فَرَّطَ نَحْوُ أَنْ يَعْرِفَهُ شَمُوصًا وَالدَّابَّةُ إذَا أَرْسَلَهَا صَاحِبُهَا بِاللَّيْلِ كَانَ مُفَرِّطًا فَهُوَ كَمَا إذَا أَرْسَلَهَا قُرْبَ زَرْعٍ، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا قَائِدٌ أَوْ رَاكِبٌ أَوْ سَائِقٌ فَمَا أَفْسَدَتْ بِفَمِهَا أَوْ يَدِهَا فَهُوَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَفْرِيطٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَمِنْ الْعُقُوبَةِ الثَّالِثَةِ إتْلَافُ الثَّوْبَيْنِ الْمُعَصْفَرَيْنِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَإِرَاقَةُ عُمَرَ اللَّبَنَ الَّذِي شِيبَ بِالْمَاءِ لِلْبَيْعِ، وَالصَّدَقَةُ بِالْمَغْشُوشِ أَوْلَى مِنْ إتْلَافِهِ.

وَمَنْ نَدِمَ وَرَدَّ الْمَغْصُوبَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ مُطَالَبَتُهُ بِالْأُجْرَةِ لِتَفْوِيتِهِ الِانْتِفَاعَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ، كَمَا لَوْ مَاتَ الْغَاصِبُ فَرَدَّهُ وَارِثُهُ وَلَوْ حَبَسَ الْمَغْصُوبَ وَقْتَ حَاجَةِ مَالِكِهِ إلَيْهِ كَمُدَّةِ شَبَابِهِ ثُمَّ رَدَّهُ فِي مَشِيبِهِ فَتَفْوِيتُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ ظُلْمٌ يُفْتَقَرُ إلَى جَزَاءٍ، وَمَنْ مَاتَ مُعْدِمًا يُرْجَى أَنَّ اللَّهَ يَقْضِي عَنْهُ مَا عَلَيْهِ. وَلِلْمَظْلُومِ الِاسْتِعَانَةُ بِمَخْلُوقٍ فَإِذَا خَالَفَهُ فَالْأَوْلَى لَهُ الدُّعَاءُ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَيَجُوزُ الدُّعَاءُ بِقَدْرِ مَا يُوجِبُهُ أَلَمُ ظُلْمِهِ لَا عَلَى مَنْ شَتَمَهُ أَوْ أَخَذَ مَالَهُ بِالْكُفْرِ وَلَوْ كَذِبَ عَلَيْهِ لَمْ يَفْتَرِ عَلَيْهِ بَلْ يَدْعُو إلَيْهِ بِمَنْ يَفْتَرِي عَلَيْهِ نَظِيرَهُ، وَكَذَا إنْ أَفْسَدَ عَلَيْهِ دِينَهُ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَيُمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ فَلَمْ يَسْتَوْفِهِ حَتَّى مَاتَ طَالَبَ بِهِ وَرَثَتَهُ فَإِنْ عَجَزَ هُوَ وَوَرَثَتُهُ فَالْمُطَالَبَةُ فِي الْأَشْبَهِ كَمَا فِي الْمَظَالِمِ لِلْخَبَرِ، وَإِذَا كَانَ لِلنَّاسِ عَلَى إنْسَانٍ دُيُونٌ أَوْ مَظَالِمُ يُقَدَّرُ مَالُهُ عَلَى أَسَاسٍ مِنْ الدُّيُونِ وَالْمَظَالِمِ كَانَ يُسَوَّغُ أَنْ يُقَالَ يُحَاسَبُ بِذَلِكَ فِيهِ بِقَدْرِ حَقِّهِ مِنْ هَذَا وَيَصْرِفُ إلَى غَرِيمِهِ كَمَا يَفْعَلُ فِي الدُّنْيَا بِالْمُدَبَّرِ الَّذِي لَهُ وَعَلَيْهِ يَسْتَوْفِي مَالَهُ وَيُوَفِّي مَا عَلَيْهِ. وَقَدْرُ الْمُتْلَفِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَحْدِيدُهُ عُمِلَ فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ كَمَا يُفْعَلُ فِي قَدْرِ قِيمَتِهِ بِالِاجْتِهَادِ فِي مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ ثَمَنِهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ بِالْخَرْصِ أَسْهَلُ وَكِلَاهُمَا يَجُوزُ مَعَ الْحَاجَةِ، وَلَوْ بَايَعَ الرَّجُلُ مُبَايَعَاتٍ يَعْتَقِدُ حِلَّهَا ثُمَّ صَارَ الْمَالُ إلَى وَارِثٍ أَوْ مُتَّهَبٍ أَوْ مُشْتَرٍ يَعْقِدُ تِلْكَ الْعُقُودَ مُحَرَّمَةً، فَالْمِثَالُ الْأَصْلِيُّ لِهَذَا اقْتِدَاءُ الْمَأْمُومِ بِصَلَاةِ إمَامٍ أَخَلَّ بِمَا هُوَ فَرْضٌ عِنْدَ الْمَأْمُومِ دُونَهُ وَالصَّحِيحُ الصِّحَّةُ، وَمَا قَبَضَهُ الْإِنْسَانُ بِعَقْدٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ رَدُّهُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ. وَمَنْ كَسَبَ مَالًا حَرَامًا بِرِضَاءِ الدَّافِعِ ثُمَّ مَاتَ كَثَمَنِ الْخَمْرِ وَمَهْرِ الْبَغْيِ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، فَاَلَّذِي يَتَلَخَّصُ مِنْ كَلَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّ الْقَاضِيَ إنْ لَمْ يَعْلَمْ التَّحْرِيمَ ثُمَّ عَلِمَ جَازَ لَهُ أَكْلُهُ، وَإِنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ أَوَّلًا ثُمَّ تَابَ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي حَامِلِ الْخَمْرِ، وَلِلْفَقِيرِ أَكْلُهُ وَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُعْطِيَهُ أَعْوَانَهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ فَقِيرٌ أَخَذَ كِفَايَتَهُ، وَفِيمَا إذَا عَرَفَ رَبَّهُ هَلْ يَلْزَمُهُ رَدُّهُ إلَيْهِ أَمْ لَا قَوْلَانِ: وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّ نَفْسَ الْمُصِيبَةِ لَا يُؤَجَّرُ عَلَيْهَا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: بَلَى إنْ صَبَرَ أُثِيبَ عَلَى صَبْرِهِ. قَالَ وَكَثِيرًا مَا يُفْهَمُ مِنْ الْأَجْرِ غُفْرَانُ الذُّنُوبِ فَيَكُونُ فِيهَا أَجْرٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.

باب الشفعة

[بَابُ الشُّفْعَةِ] ِ وَتَثْبُتُ فِي كُلِّ عَقَارٍ يَقْبَلُ قِسْمَةَ الْأَخْيَارِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا فَرِوَايَتَانِ الصَّوَابُ الثُّبُوتُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتِيَارُ ابْنِ شُرَيْحٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو الْوَفَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَتَثْبُتُ شُفْعَةُ الْجِوَارِ مَعَ الشَّرِكَةِ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ مِنْ طَرِيقٍ أَوْ مَاءٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي الطَّرِيقِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا يَحِلُّ الِاحْتِيَالُ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُسَلِّمَ الشِّقْصَ الْمَشْفُوعَ بِالثَّمَنِ الَّذِي تَرَاضَيَا عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ إذَا طَالَبَهُ الشَّرِيكُ. وَإِذَا حَابَى الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ مُحَابَاةً خَارِجَةً عَنْ الْعَادَةِ، يُتَوَجَّهُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُشْتَرِي أَخْذُهُ إلَّا بِالْقِيمَةِ أَوْ أَنْ لَا شُفْعَةَ لَهُ، فَإِنَّ الْمُحَابَاةَ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَلَا شُفْعَةَ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ إذَا نَقَصَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ قَالَ الْقَاضِي لِأَنَّ أَخْذَ الشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ يُسْقِطُ حَقَّ الْبَائِعِ مِنْ الْخِيَارِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالشُّفْعَةِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ مِنْ الْقَاضِي يَقْتَضِي أَنَّ الْخِيَارَ إذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ فَلِلشَّفِيعِ الْأَخْذُ كَمَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَوْلَى مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الشِّقْصُ لِمُسْلِمٍ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ، أَوْ لِذِمِّيٍّ فَتَجِبُ، وَحِينَئِذٍ فَهَلْ الْعِبْرَةُ بِالْبَائِعِ أَوْ الْمُشْتَرِي أَوْ كِلَاهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا أَرْبَعُ احْتِمَالَاتٍ. [بَابُ الْوَدِيعَةِ] ِ وَلَوْ أَوْدَعَ الْمُودَعُ بِلَا عُذْرٍ ضَمِنَ وَالْمُودَعُ الثَّانِي لَا يَضْمَنُ إنْ جَهِلَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَكَذَا الْمُرْتَهَنُ مِنْهُ وَهُوَ وَجْهٌ فِي الْمَذْهَبِ، وَلَوْ قَالَ الْمُودَعُ: أَوْدَعَنِيهَا الْمَيِّتُ وَقَالَ هِيَ لِفُلَانٍ وَقَالَ وَرَثَتُهُ بَلْ هِيَ لَهُ وَلَيْسَتْ لِفُلَانٍ وَلَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ لِلْمَيِّتِ وَلَا عَلَى الْإِيدَاعِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: أَفْتَيْت أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُودَعِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ الْيَدُ،

فصل في اللقطة

وَإِذَا تَلِفَتْ الْوَدِيعَةُ فَلِلْمُودِعِ قَبْضُ الْبَدَلِ لِأَنَّ مَنْ يَمْلِكُ قَبْضَ الْعَيْنِ يَمْلِكُ قَبْضَ الْبَدَلِ كَالْوَكِيلِ وَأَوْلَى. فَصْلٌ وَتَحْرِيمُ الْبِئْرِ الْعَادِيَةِ وَهِيَ الَّتِي اعْتَدَتْ خَمْسِينَ ذِرَاعًا وَلَوْ تُرِكَ جَمْدًا فِي حَرٍّ شَدِيدٍ حَتَّى ذَابَ وَتَقَاطَرَ مَاؤُهُ فَقَصَدَ إنْسَانٌ إلَى ذَلِكَ الْقَطْرِ وَاسْتَلْقَاهُ فِي إنَاءٍ وَجَمَعَهُ وَشَرِبَهُ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ تَرَكَهُ لَضَاعَ ذِكْرُهُ أَوْ طَالَبَ فِي الِانْتِصَارِ وَفِيهِ نَظَرٌ. وَمَنْ اسْتَنْقَذَ مَالَ غَيْرِهِ مِنْ الْمَهْلَكَةِ وَرَدَّهُ اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَلَوْ بِغَيْرِ شَرْطٍ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا اسْتَنْقَذَ فَرَسًا لِلْعِيرِ وَمَرِضَ الْفَرَسُ بِحَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَشْيِ فَيَجُوزُ بَلْ يَجِبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَبِيعَهُ الَّذِي اسْتَنْقَذَهُ وَيَحْفَظَ الثَّمَنَ لِصَاحِبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَكِيلَهُ فِي الْبَيْعِ وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَظَائِرِهَا. [فَصْلٌ فِي اللُّقَطَة] فَصْلٌ وَتُعَرَّفُ اللُّقَطَةُ سَنَةً قَرِيبًا مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي وَجَدَهَا فِيهِ، وَلَا يُلْتَقَطُ الطَّيْرُ وَالظِّبَاءُ وَنَحْوَهَا إذْ أَمْكَنَ صَاحِبَهَا إدْرَاكُهَا، وَلَا تُمْلَكُ لُقَطَةُ الْحَرَمِ بِحَالٍ، وَيَجِبُ تَعْرِيفُهَا أَبَدًا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَتُضْمَنُ اللُّقَطَةُ بِالْمِثْلِ كَبَدَلِ الْقَرْضِ، وَإِذَا قُلْنَا الْقِيمَةُ فَالْقِيمَةُ يَوْمَ مَلَكَهَا الْمُلْتَقِطُ قَطَعَ بِهِ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُ خِلَافًا لِلْقَاضِي أَبِي الْبَرَكَاتِ، بَاعَ الْمُلْتَقِطُ اللُّقَطَةَ بَعْدَ الْحَوْلِ ثُمَّ جَاءَ رَبُّهَا فَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْمَالِكَ لَا يَمْلِكُ انْتِزَاعَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي.

كتاب الوقف

[كِتَابُ الْوَقْفِ] ِ وَيَصِحُّ الْوَقْفُ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ عُرْفًا كَجَعْلِ أَرْضِهِ مَسْجِدًا أَوْ أَذَّنَ لِلنَّاسِ لِصَلَاةٍ فِيهِ أَوْ أَذَّنَ فِيهِ، وَأَقَامَ وَنَقَلَهُ أَبُو طَالِبٍ وَجَعْفَرٌ وَجَمَاعَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، أَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً وَأَذِنَ بِالدَّفْنِ فِيهَا وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَمَنْ قَالَ قَرْيَتِي الَّتِي بِالثَّغْرِ لِمَوَالِيَّ الَّذِينَ بِهَا وَلِأَوْلَادِهِمْ صَحَّ وَقْفًا، وَنَقَلَهُ يَعْقُوبُ بْنُ حِبَّانَ عَنْ أَحْمَدَ وَإِذَا قَالَ وَاحِدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ: جَعَلْنَا هَذَا الْمَكَانَ مَسْجِدًا أَوْ وَقْفًا صَارَ مَسْجِدًا وَوَقْفًا بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُكْمِلُوا عِمَارَتَهُ، وَإِذَا قَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ جَعَلْت مِلْكِي لِلْمَسْجِدِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ وَنَحْوَ ذَلِكَ صَارَ بِذَلِكَ حَقًّا لِلْمَسْجِدِ، وَلَوْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ تَصَدَّقْت بِهَذَا الدُّهْنِ عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ لِيُوقَدَ فِيهِ جَازَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْوَقْفِ، وَتَسْمِيَتُهُ وَقْفًا بِمَعْنَى أَنَّهُ وَقْفٌ عَلَى تِلْكَ الْجِهَةِ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي غَيْرِهَا لَا تَأْبَاهُ اللُّغَةُ وَهُوَ جَائِزٌ فِي الشَّرْعِ، وَوَقْفُ الْهَازِلِ كَوَقْفِ التَّلْجِئَةِ إنْ غَلَبَ عَلَى الْوَقْفِ شَبَهُ التَّحْرِيمِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ كَالْعِتْقِ وَالْإِتْلَافِ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَبَهُ التَّمْلِيكِ فَيُشْبِهُ الْهِبَةَ وَالتَّمْلِيكَ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنْ الْهَازِلِ عَلَى الصَّحِيحِ وَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى النَّفْسِ وَهُوَ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَيَصِحّ الْوَقْفُ عَلَى الصُّوفِيَّةِ فَمَنْ كَانَ جَمَّاعًا لِلْمَالِ وَلَمْ يَتَخَلَّقْ بِالْأَخْلَاقِ الْمَحْمُودَةِ وَلَا تَأَدَّبَ بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ الْآدَابُ الْوَضِيعَةُ أَوْ فَاسِقًا لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَجُوزُ لِلْغَنِيِّ مُجَرَّدُ السُّكْنَى وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْوَاقِفِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُمْكِنُ مِنْ وَقْفِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ، فَلَوْ أَرَادَ الْكَافِرُ أَنْ يَقِفَ مَسْجِدًا مَنَعَ مِنْهُ وَلَوْ قَالَ الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ عَلَى قَرْضِ الْمُحْتَاجِينَ لَمْ يَكُنْ جَوَازُ هَذَا بَعِيدًا وَإِذَا أَطْلَقَ وَقْفًا لِنَقْدَيْنِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِبَدَلِهِ فَإِنَّ مَنْعَ صِحَّةِ هَذَا الْوَقْفِ فِيهِ نَظَرٌ، خُصُوصًا عَلَى أَصْلِنَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا بَيْعُ الْوَقْفِ إذَا تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَتُهُ،

وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي الَّذِي حَبَسَ فَرَسًا عَلَيْهَا حِلْيَةٌ مُحَرَّمَةٌ. أَنَّ الْحِلْيَةَ تُبَاعُ وَيُنْفَقُ عَلَيْهَا، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِجَوَازِ وَقْفِ مِثْلِ هَذَا وَلَوْ وَقَفَ مَنْفَعَةً يَمْلِكُهَا كَالْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ، أَوْ مَنْفَعَةَ أُمِّ وَلَدِهِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ مَنْفَعَةً بِعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا لَا يَصِحُّ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَعِنْدِي هَذَا لَيْسَ فِيهِ فِقْهٌ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ وَقْفِ هَذَا وَوَقْفِ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وَقْفِ ثَوْبٍ عَلَى الْفُقَرَاءِ يَلْبَسُونَهُ أَوْ فَرَسٍ يَرْكَبُونَهُ أَوْ رَيْحَانٍ يَشُمُّهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، وَطِيبُ الْكَعْبَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ كُسْوَتِهَا، فَعُلِمَ أَنَّ الطِّيبَ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، لَكِنْ قَدْ يَطُولُ بَقَاءُ مُدَّةِ التَّطَيُّبِ وَقَدْ يُقْصَدُ وَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ. وَيَصِحُّ وَقْفُ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَالْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَأَقْرَبُ الْحُدُودِ فِي الْوُقُوفِ أَنَّهُ كُلُّ عَيْنٍ تَجُوزُ عَارِيَّتُهَا قَالَ فِي " الرِّعَايَةِ " وَإِنْ وَقَفَ نِصْفَ عَبْدٍ صَحَّ وَإِنْ لَمْ يَسْرِ إلَى بَقِيَّةٍ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ أَعْتَقَ مَا وَقَفَهُ مِنْهُ أَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ عِتْقُهُ وَلَمْ يَسْرِ، وَإِنْ أَعْتَقَ مَا وَقَفَهُ مِنْهُ أَوْ أَعْتَقَهُ شَرِيكُهُ فَقَدْ صَحَّ عِتْقُ نَفْسِهِ وَلَمْ يَسْرِ إلَى الْمَوْقُوفِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: هَذَا ضَعِيفٌ وَلَا يَصِحُّ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ قَالَ فِي " الْمُحَرَّرِ ": وَلَا يَصِحُّ وَقْفُ الْمَجْهُولِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: الْمَجْهُولُ نَوْعَانِ مُبْهَمٌ وَمُعَيَّنٌ مِثْلُ دَارٍ لَمْ يَرَهَا فَمَنْعُ هَذَا بَعِيدٌ، وَكَذَلِكَ هِبَتُهُ فَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى الْمُبْهَمِ فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْوَصِيَّةِ لَهُ، وَفِي الْوَصِيَّةِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ مِثْلُ أَنْ يُوصِيَ لِأَحَدِ هَذَيْنِ أَوْ لِجَارِهِ مُحَمَّدٍ وَلَهُ جَارَانِ بِهَذَا الِاسْمِ، وَوَقْفُ الْمُبْهَمِ مُفَرَّعٌ عَلَى هِبَتِهِ وَبَيْعِهِ وَلَيْسَ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا مَنْعٌ وَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى أُمِّ وَلَدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْ وَقَفَ عَلَى غَيْرِهَا عَلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا مُدَّةَ حَيَاتِهِ أَوْ يَكُونَ الرُّبْعُ لَهَا مُدَّةَ حَيَاتِهِ صَحَّ، فَإِنَّ اسْتِثْنَاءَ الْغَلَّةِ لِأُمِّ وَلَدِهِ كَاسْتِثْنَائِهَا لِنَفْسِهِ وَإِنْ وَقَفَ عَلَيْهَا مُطْلَقًا، فَيَنْبَغِي فِي الْحَالِ أَنَّا إذَا صَحَّحْنَا وَقْفَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ صَحَّ لِأَنَّ مِلْكَ أُمِّ وَلَدِهِ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مِلْكِهِ وَإِنْ لَمْ نُصَحِّحْهُ، فَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ هُوَ كَالْوَقْفِ عَلَى الْعَبْدِ الْقِنِّ فَإِنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ، فَيَكُونُ مِلْكًا لِعَبْدِ الْغَيْرِ. وَأَمَّا إذَا مَاتَ السَّيِّدُ فَقَدْ تَخْرُجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى مَسْأَلَةِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ يَعُمُّ حَالَ رَقِّهَا وَعِتْقِهَا فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ فِي أَحَدِ الْحَالَيْنِ خَرَجَ فِي الْحَالِ الْأُخْرَى وَجْهَانِ.

وَإِذَا قُلْنَا: إنَّ الْوَقْفَ الْمُنْقَطِعَ الِابْتِدَاءِ يَصِحُّ فَيَجِبُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ وَإِنْ قُلْنَا يَصِحُّ فَهَذَا كَذَلِكَ، وَمَأْخَذُهُ الْوَقْفُ الْمُنْقَطِعُ أَنَّ الْوَقْفَ هَلْ يَصِحُّ تَوْقِيتُهُ بِغَايَةٍ مَجْهُولَةٍ أَوْ غَيْرِ مَجْهُولَةٍ فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ لَا يَزَالُ وَقْفًا لَا يَصِحُّ تَوْقِيتُهُ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ يَعُودُ مِلْكًا يَصِحُّ تَوْقِيتُهُ، فَإِنْ غَلَبَ جَانِبُ التَّحْرِيمِ فَالتَّحْرِيمُ لَا يَتَوَقَّتُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ، وَإِنْ غَلَبَ جَانِبُ التَّمْلِيكِ فَتَوْقِيتُ جَمِيعِهِ قَرِيبٌ مِنْ تَوْقِيتِهِ عَلَى بَعْضِ الْبُطُونِ، كَمَا لَوْ قَالَ هَذَا وَقْفٌ عَلَى زَيْدٍ سَنَةً ثُمَّ عَلَى عَمْرٍو سَنَةً ثُمَّ عَلَى بَكْرٍ سَنَةً وَضَابِطُ الْأَقْوَالِ فِي الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ إمَّا عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ وَإِمَّا عَلَى الْعَصَبَةِ وَإِمَّا عَلَى الْمَصَالِحِ وَإِمَّا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنْهُمْ، وَعَلَى الْأَقْوَالِ الْأَرْبَعَةِ فَإِمَّا وَقْفٌ وَإِمَّا مِلْكٌ، فَهَذِهِ ثَمَانِيَةٌ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ فِي الْأَقَارِبِ وَهَلْ يَخْتَصُّ بِهِ فُقَرَاؤُهُمْ فَيَصِيرُ فِيهِمْ ثَمَانِيَةٌ؛ وَالثَّالِثَ عَشَرَ تَفْصِيلُ ابْنِ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ إذَا رَجَعَ إلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ يَكُونُ مِلْكًا بَيْنَهُمْ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ بِخِلَافِ رُجُوعِهِ إلَى الْعُصَاةِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَهَذَا أَصَحُّ وَأَشْبَهُ بِكَلَامِ أَحْمَدَ وَإِذَا اشْتَرَطَ الْقَبُولَ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْمُعَيَّنِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ الْمَجْلِسَ بَلْ يُلْحَقُ بِالْوَصِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ فَيَصِحُّ مُعَجَّلًا أَوْ مُؤَجَّلًا فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَأَخْذُ رِيعِهِ مَقْبُولٌ، وَيَنْبَغِي أَنَّهُ لَوْ رَدَّهُ بَعْدَ قَبُولِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ مُحَقِّقُو الْفُقَهَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الْوَقْفِ عَلَى الْمُعَيَّنِ إذَا لَمْ يَقْبَلْ أَوْ رَدَّهُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَالْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ الِابْتِدَاءِ بَلْ الْوَقْفُ هُنَا صَحِيحٌ قَوْلًا وَاحِدًا ثُمَّ إنْ قِيلَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ وَإِلَّا انْتَقَلَ إلَى مَنْ بَعْدَهُ كَمَا لَوْ مَاتَ أَوْ تَعَذَّرَ اسْتِحْقَاقُهُ لِفَوَاتٍ فِيهِ إذْ الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ تَتَلَقَّى مِنْ الْوَاقِفِ لَا مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ. وَمِنْ شَرَطَ النَّظَرَ لِرَجُلٍ ثُمَّ لِغَيْرِهِ إنْ مَاتَ فَعَزَلَ نَفْسَهُ أَوْ فَسَقَ فَكَمَوْتِهِ؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ لِلْغَالِبِ وَلَا نَظَرَ لِغَيْرِ النَّاظِرِ الْخَاصِّ مَعَهُ، وَلِلْحَاكِمِ النَّظَرُ الْعَامُّ فَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ إنْ فَعَلَ مَا لَا يَشْرَعُ، وَلَهُ ضَمُّ أَمِينٍ إلَيْهِ مَعَ تَفْرِيطِهِ أَوْ تُهْمَتِهِ يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ، وَمَنْ ثَبَتَ فِسْقُهُ أَوْ أَضَرَّ فِي تَصَرُّفِهِ مُخَالِفًا لِلشِّرَاءِ الصَّحِيحِ عَالِمًا بِتَحْرِيفِهِ فَإِمَّا أَنْ يَنْعَزِلَ أَوْ يُعْزَلَ، أَوْ يُضَمَّ إلَيْهِ أَمِينٌ عَلَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ، ثُمَّ إنْ صَارَ هُوَ أَوْ الْوَصِيُّ أَهْلًا عَادَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ، وَكَالْمَوْصُوفِ وَمَنْ شَرَطَ النَّظَرَ لِحَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ شَمَلَ أَيَّ حَاكِمٍ كَانَ سَوَاءٌ كَانَ مَذْهَبُهُ مَذْهَبَ حَاكِمِ الْبَلَدِ زَمَنَ الْوَاقِفِ أَوْ لَا، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ النَّظَرُ لَوْ انْفَرَدَ وَهُوَ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا، وَلَوْ فَرَضَهُ حَاكِمٌ لَمْ يَكُنْ لِحَاكِمٍ آخَرَ نَقْضُهُ وَلَوْ وَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحُكَّامِ شَخْصًا قَدَّمَ وَلِيُّ الْأَمْرِ أَحَقَّهُمَا.

وَلَا يَجُوزُ لِوَاقِفٍ شَرْطُ النَّظَرُ لِذِي مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ دَائِمًا وَمَنْ وَقَفَ مَدْرَسَةً عَلَى مُدَرِّسٍ وَفُقَهَاءَ فَلِلنَّاظِرِ ثُمَّ الْحَاكِمِ تَقْدِيرُ أُعْطِيَتْهُمْ، فَلَوْ زَادَ النَّمَاءُ فَهُوَ لَهُمْ، وَالْحُكْمُ بِتَقْدِيرِ مُدَرِّسٍ أَوْ غَيْرِهِ بَاطِلٌ وَلَوْ نَفَّذَهُ حُكَّامٌ، وَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْمُدَرِّسَ لَا يَزْدَادُ وَلَا يَنْقُصُ بِزِيَادَةِ النَّمَاءِ وَنَقْصُهُ كَانَ بَاطِلًا لِأَنَّهُ لَهُمْ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ وَلَوْ تَعَاوَنُوا فِي الْمَنْفَعَةِ كَالْإِمَامِ وَالْجَيْشِ فِي الْمَغْنَمِ، لَكِنْ دَلَّ الْعُرْفُ عَلَى التَّفْضِيلِ وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْقَيِّمَ لِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ أَجْرُهُ وَلِهَذَا يَحْرُمُ أَخْذُهُ فَوْقَ أُجْرَةِ مِثْلِهِ فَلَا شَرْطَ وَالْإِمَامُ وَالْمُؤَذِّنُ كَالْقَيِّمِ بِخِلَافِ الْمُدَرِّسِ وَالْمُتَعَبِّدِ وَالْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَإِذَا وَقَفَ عَلَى إمَامٍ وَمُؤَذِّنٍ وَقَدَّرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ جُزْءًا مَعْلُومًا وَزَادَ الْوَقْفُ خَمْسَةَ أَمْثَالِهِ مَثَلًا جَازَ أَنْ يَصْرِفَ إلَى الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ مِنْ الزَّائِدِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَصْرِفٌ بَعْدَ تَمَامِ كِفَايَتِهِمَا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَقْدِيرَ الْوَاقِفِ دَرَاهِمَ مُقَدَّرَةً قَدْ يُزَادُ لَهُ بِالنِّسْبَةِ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُ عَشَرَةً، وَالْمُغَلُّ مِائَةٌ فَيُزَادُ بِهِ الْعُشْرُ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى هَذَا عُمِلَ بِهَا، وَمِنْ الْمَعْلُومِ فِي الْعُرْفِ إذَا كَانَ الْوَقْفُ مَغْلَةَ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَشَرَطَ لَهُ سِتَّةً ثُمَّ صَارَ خَمْسَمِائَةٍ فَإِنَّ الْعَادَةَ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَشْتَرِطَ أَضْعَافَ ذَلِكَ مِثْلَ خَمْسَةِ أَمْثِلَةٍ، وَلَمْ يَجُزْ عَادَةً مَنْ شَرَطَ سِتَّمِائَةٍ أَنْ يَشْتَرِطَ سِتَّةً مِنْ خَمْسِمِائَةٍ فَيُحْمَلُ كَلَامُ النَّاسِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ فِي خِطَابِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ هَذَا فَزَائِدُ الْوَقْفِ يُصْرَفُ لِلْمَصَالِحِ الَّتِي هِيَ نَظِيرُ مَصَالِحِهِ، وَمَنْ قُدِّرَ لَهُ الْوَقْفُ بِسَافِلِهِ أَكْثَرَ مِنْهُ إنْ اسْتَحَقَّهُ بِمُوجِبِ الشَّرْعِ. وَلَوْ عَطَّلَ وَقْفَ مَسْجِدٍ سَنَةً تَسْقُطُ الْأُجْرَةُ الْمُسْتَقْبَلَةُ عَلَيْهَا وَعَلَى السَّنَةِ الْأُخْرَى لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ التَّعْطِيلِ، وَلَا يَنْقُضْ الْإِمَامُ بِسَبَبِ تَعْطِيلِ الزَّرْعِ الْعَامَ، وَمَنْ لَمْ يَقُمْ بِوَظِيفَتِهِ غَيْرُهُ فَلِمَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ أَنْ يُوَلِّيَ مَنْ يَقُومُ بِهَا إلَى أَنْ يَتُوبَ الْأَوَّلُ وَيَلْتَزِمَ بِالْوَاجِبِ. وَيَجِبُ أَنْ يُوَلَّى فِي الْوَظَائِفِ وَإِمَامَةِ الْمَسَاجِدِ الْأَحَقُّ شَرْعًا وَأَنْ يَعْمَلَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلِ الْوَاجِبِ، وَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يُوَلُّوا عَلَيْهِمْ الْفَاسِقَ، وَإِنْ نَفَذَ حُكْمُهُ أَوْ صَحَّتْ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ. وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّتِهَا وَلَمْ يَتَنَازَعُوا أَنَّهُ

لَا يَنْبَغِي تَوْلِيَتُهُ، وَلِلنَّاظِرِ إنْسَاخُ كِتَابِ الْوَقْفِ وَالسُّؤَالُ عَنْ حَالِهِ وَأَجْرِهِ وَتَسْجِيلُ كِتَابِ الْوَقْفِ مِنْ الْوَقْفِ كَالْعَادَةِ، وَيَجِبُ عِمَارَةُ الْوَقْفِ بِحَسَبِ الْبُطُونِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ عِمَارَةِ الْوَقْفِ وَأَرْبَابِ الْوَظَائِفِ حَسَبَ الْإِمْكَانِ أَوْلَى بَلْ قَدْ يَجِبُ وَلَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ إلَّا إذَا كَانَ مُسْتَحَبًّا خَاصَّةً وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ أَحْمَدَ فِي اعْتِبَارِ الْقُرْبَةِ فِي أَصْلِ الْجِهَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهَا، وَإِذَا شَرَطَ فِي اسْتِحْقَاقِ رِيعِ الْوَقْفِ الْعُزُوبَةَ فَالْمُتَأَهِّلُ أَحَقُّ مِنْ الْمُتَعَزِّبِ إذَا اسْتَوَيَا فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ، وَلَوْ شَرَطَ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى أَهْلِ مَدْرَسَةٍ فِي الْقُدْسِ كَانَ الْأَفْضَلُ لِأَهْلِهَا أَنْ يُصَلُّوا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْأَقْصَى، وَلَا يَقِفُ اسْتِحْقَاقُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ فِي الْمَدْرَسَةِ. وَكَانَ يُفْتِي بِهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَغَيْرُهُ. وَيَجُوزُ تَغْيِيرُ شَرْطِ الْوَاقِفِ إلَى مَا هُوَ أَصْلَحُ مِنْهُ وَإِنْ اخْتَلَفَ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ، حَتَّى لَوْ وَقَفَ عَلَى الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَاحْتَاجَ النَّاسُ إلَى الْجِهَادِ صُرِفَ إلَى الْجُنْدِ، وَإِذَا وَقَفَ عَلَى مَصَالِحِ الْحَرَمِ وَعِمَارَتِهِ فَالْقَائِمُونَ بِالْوَظَائِفِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْمَسْجِدُ مِنْ التَّنْظِيفِ وَالْحِفْظِ وَالْفَرْشِ وَفَتْحِ الْأَبْوَابِ وَإِغْلَاقِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ، وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ نُصُوصُ الْوَاقِفِ كَنُصُوصِ الشَّارِعِ، يَعْنِي فِي الْفَهْمِ وَالدَّلَالَةِ لَا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ. مَعَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ لَفْظَ الْوَاقِفِ وَالْمُوصِي وَالنَّاذِرِ وَالْحَالِفِ وَكُلِّ عَاقِدِ يُحْمَلُ عَلَى مَذْهَبِهِ وَعَادَتِهِ فِي خِطَابِهِ وَلُغَتِهِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا وَافَقَ لُغَةَ الْعَرَبِ أَوْ لُغَةَ الشَّارِعِ أَوْ لَا. وَالْعَادَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ وَالْعُرْفُ الْمُسْتَقِرُّ فِي الْوَقْفِ يَدُلُّ عَلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ أَكْثَرَ مِمَّا يَدُلُّ لَفْظُ الِاسْتِفَاضَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ فَاسِقًا فِي جِهَةٍ دِينِيَّةٍ كَمَدْرَسَةٍ وَغَيْرِهَا مُطْلَقًا لِأَنَّهُ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَعُقُوبَتُهُ، فَكَيْفَ يُنَزَّلُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ خِلَافُ ذَلِكَ وَإِنْ نُزِّلَ تَنْزِيلًا شَرْعِيًّا لَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ بِلَا مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ، وَكُلُّ مُتَصَرِّفٍ بِوِلَايَةٍ إذَا قِيلَ لَهُ: افْعَلْ مَا تَشَاءُ فَإِنَّمَا هُوَ لِمَصْلَحَةٍ شَرْعِيَّةٍ، حَتَّى لَوْ صَرَّحَ الْوَاقِفُ بِفِعْلِ مَا يَهْوَاهُ أَوْ مَا يَرَاهُ مُطْلَقًا فَهُوَ شَرْطٌ بَاطِلٌ لِمُخَالَفَتِهِ الشَّرْعَ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا مُبَاحًا وَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، حَتَّى لَوْ تَسَاوَى فِعْلَانِ عُمِلَ بِالْقُرْعَةِ، وَإِذَا قِيلَ هُنَا بِالتَّخْيِيرِ فَلَهُ وَجْهٌ وَعَلَى النَّاظِرِ بَيَانُ الْمَصْلَحَةِ فَيَعْمَلُ بِمَا ظَهَرَ وَمَعَ الِاسْتِنْبَاهِ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا عَادِلًا سَاغَ لَهُ الِاجْتِهَادُ.

قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ مَنْ قَسَمَ شَيْئًا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهِ الْعَدْلَ وَيَتَّبِعَ مَا هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ، وَسَوَاءٌ اسْتَفَادَ الْقِسْمَةَ بِوِلَايَةٍ كَالْإِمَامِ الْحَاكِمِ أَوْ بِعَقْدٍ كَالنَّاظِرِ وَالْوَصِيِّ، وَإِذَا وَقَفَ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَأَقَارِبُ الْوَاقِفِ الْفُقَرَاءُ أَحَقُّ مِنْ الْفُقَرَاءِ الْأَجَانِبِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْحَاجَةِ، وَإِذَا قَدَّرَ وُجُودَ فَقِيرٍ مُضْطَرٍّ كَانَ دَفْعُ ضَرُورَتِهِ وَاجِبًا، وَإِذَا لَمْ تَنْدَفِعْ ضَرُورَتُهُ إلَّا بِتَنْقِيصِ كِفَايَةِ أَقَارِبِ الْوَاقِفِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ تَحْصُلُ لَهُمْ تَعَيَّنَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ شَيْءٌ لَيْسَ لَهُ إلَّا مَا يُقَابِلُ عَمَلَهُ لَا الْعَادَةَ. وَاعْتَبَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فِي مَوْضِعٍ جَوَازَ أَخْذِ النَّاظِرِ أُجْرَةَ عَمَلِهِ مَعَ فَقْرِهِ كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ، وَلَا يُقَدَّمُ النَّاظِرُ بِمَعْلُومِهِ بِلَا شَرْطٍ، وَمَا يَأْخُذُهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ الْوَاقِفِ هَلْ هُوَ إجَارَةٌ أَوْ جَعَالَةٌ أَوْ كَرِزْقٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فِيهِ أَقْوَالٌ، ثَالِثُهَا الْمُخْتَارُ وَالْمُكُوسُ إذَا أَقْطَعَهَا الْإِمَامُ الْحَيِّدُ فَهِيَ حَلَالٌ لَهُمْ إذَا جَهِلَ مُسْتَحَقَّهَا، وَكَذَلِكَ إذَا رَتَّبَهَا لِلْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ، وَاَلَّذِي يُتَوَجَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَسَلَّفُوا الْأُجْرَةَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوا الْمَنْفَعَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ وَلَا الْأُجْرَةَ عَلَيْهَا. وَعَلَى هَذَا فَلَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا الْأُجْرَةَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ فَرَّطَ، وَلَهُمْ أَنْ يُطَالِبُوا النَّاظِرَ، وَيَدُ الْوَاقِفِ ثَابِتَةٌ عَلَى الْمُتَّصِلِ بِالْوَقْفِ مَا لَمْ تَأْتِ حُجَّةٌ تَدْفَعُ مُوجِبَهَا، كَمَعْرِفَةِ كَوْنِ الْغَارِسِ غَرَسَهَا بِمَالِهِ بِحُكْمِ إجَارَةٍ أَوْ إعَارَةٍ أَوْ غَصْبٍ. وَمِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ قَوْمٌ لَهُمْ رَوَاتِبُ أَضْعَافُ حَاجَاتِهِمْ وَقَوْمٌ لَهُمْ جِهَاتٌ مَعْلُومُهَا كَثِيرٌ يَأْخُذُونَهُ وَيَسْتَشِبُّونَ يَسِيرًا، وَالنِّيَابَةُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوطَةِ جَائِزَةٌ وَلَوْ عَيَّنَهُ الْوَاقِفُ إذَا كَانَ مِثْلَ مُسْتَشِيبِهِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ، كَالْأَعْمَالِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ، وَيَسْتَحِقُّ حَمْلَ مَوْجُودٍ عِنْدَ تَأْبِيرِ النَّخْلِ أَوْ بُدُوِّ صَلَاحِ الثَّمَرِ مِنْ حِينِ مَوْتِ أَبِيهِ وَلَوْ لَمْ يَتَفَصَّلْ. وَإِذَا زَرَعَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ فِي الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ، ثُمَّ مَاتَ وَانْتَقَلَ إلَى الْبَطْنِ الثَّانِي كَانَ مُبْقًى إلَى أَوَانِ حَدِّهِ بِأَجْرِهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فِي مَوْضِعٍ آخَرَ تُجْعَلُ مُزَارَعَةً بَيْنَ الزَّارِعِ وَرَبِّ الْأَرْضِ لِنُمُوِّهِ مِنْ أَرْضِ أَحَدِهِمَا، وَبَذْرِ الْآخَرِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْإِقْطَاعِ الْمَزْرُوعِ إذَا انْتَقَلَ إلَى

مُقْطِعٍ آخَرَ وَالزَّرْعُ قَائِمٌ فِيهَا، وَشَجَرُ الْجَوْزِ الْمَوْقُوفِ إنْ أَدْرَكَ، وَإِنْ قَطَعَهُ فِي حَيَاةِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ لَهُ، فَإِنْ مَاتَ وَبَقِيَ فِي الْأَرْضِ مُدَّةً حَتَّى زَادَ كَانَتْ الزِّيَادَةُ حَادِثَةً مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ الَّتِي لِلْبَطْنِ الثَّانِي. وَالْأَصْلُ الَّذِي وَرِثَ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَقْسِمَ الزِّيَادَةَ عَلَى قَدْرِ الْقِسْمَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يُعْطِيَ الْوَرَثَةَ أُجْرَةَ الْأَرْضِ إلَى الْبَطْنِ الثَّانِي، وَإِنْ غَرَسَهُ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ وَلَمْ يُدْرِكْ إلَّا بَعْدَ انْتِقَالِهِ إلَى الْبَطْنِ الثَّانِي فَهُوَ لَهُمْ، وَلَيْسَ لِوَرَثَةِ الْأَوَّلِ فِيهِ شَيْءٌ وَمَنْ وَقَفَ وَقْفًا مُسْتَقِلًّا، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يُمْكِنْ وَفَاءُ الدَّيْنِ إلَّا بِبَيْعِ شَيْءٍ مِنْ الْوَقْفِ وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ بِيعَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ فِي الصِّحَّةِ فَهَلْ يُبَاعُ لِوَفَاءِ الدَّيْنِ فِيهِ خِلَافٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَمَنْعُهُ قَوِيٌّ. قُلْت: وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ حَادِثًا بَعْدَ الْوَقْفِ، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا بِأَبْلَغَ مِنْ التَّدْبِيرِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعَ عَلَى الْمُدَبَّرِ فِي الدَّيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا وَقَفَ الْوَاقِفُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ، وَأَثْبَتَ عِنْدَ حَاكِمٍ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ، وَلَمْ يُعْلَمْ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ مَاتَ الْوَاقِفُ فَرَدَّ الْمَوْقُوفَ إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ وَطَلَبَ أَرْبَابَ الدُّيُونِ دِينَهُمْ وَرُفِعَتْ الْقِصَّةُ إلَى حَاكِمٍ يَرَى بُطْلَانَ هَذَا الْوَقْفِ مِنْ جِهَةِ شَرْطِ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَكَوْنِهِ يَسْتَغْرِقُ الذِّمَّةَ بِالدَّيْنِ وَكَوْنِهِ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ يَدِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ نَقْضُهُ فَيُقَالُ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِمَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ وَالْقَضَاءُ بِمُوجِبِهِ وَالْإِلْزَامُ بِمُقْتَضَاهُ لَا يَمْنَعُ الْحَاكِمَ الثَّانِيَ الَّذِي عِنْدَهُ أَنَّ الْوَاقِفَ كَانَتْ ذِمَّتُهُ مَشْغُولَةً بِالدُّيُونِ حِينَ الْوَقْفِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِهِ فِي بُطْلَانِ هَذَا الْوَاقِفِ وَصَرْفِ الْمَالِ إلَى الْغُرَمَاءِ الْمُسْتَحَقِّينَ لِلْوَفَاءِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ الْأَوَّلَ فِي وُجُوهِ هَؤُلَاءِ الْخُصُومِ وَنُوَّابِهِمْ لَا يُضَمِّنُ حُكْمَهُ عَمَلَهُ بِهَذَا الْفَصْلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَإِذَا صَادَفَ حُكْمَهُ مُخْتَلَفًا فِيهِ لَمْ يَعْلَمْهُ وَلَمْ يَحْكُمْ فِيهِ جَازَ نَقْضُهُ. وَمَنْ نَزَلَ فِي مَدْرَسَةٍ وَنَحْوِهَا اسْتَحَقَّ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْمُغَلِّ وَمَنْ جَعَلَهُ كَالْوَلَدِ فَقَدْ أَخْطَأَ وَلِوَرَثَةِ إمَامِ مَسْجِدٍ أُجْرَةُ عَمَلِهِ فِي أَرْضِ الْمَسْجِدِ كَمَا لَوْ كَانَ الْفَلَّاحُ غَيْرَهُ، وَلَهُمْ مِنْ مُغَلِّهِ بِقَدْرِ مَا بَاشَرَ مُوَرِّثُهُمْ وَيَسْتَحِقُّ وَلَدُ الْوَلَدِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ أَبُوهُ شَيْئًا وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْوَقْفَ كَالْإِرْثِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَالِدُهُ أَخَذَ شَيْئًا لَمْ يَأْخُذْ هُوَ فَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ.

وَلِهَذَا لَوْ انْتَفَتْ الشُّرُوطُ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى أَوْ بَعْضٌ لَمْ تَحْرُمْ الثَّانِيَةُ مَعَ وُجُودِ الشُّرُوطِ فِيهِمْ إجْمَاعًا وَلَا فَرْقَ وَالْأَظْهَرُ فِيمَنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدَيْهِ نِصْفَيْنِ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمَا وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمَا وَعَقِبِهِمَا بَعْدَهُمَا بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ نَصِيبُ كُلٍّ إلَى وَلَدِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْقَرِضْ جَمِيعُ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَقَوْلُ الْوَاقِفِ: مَنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ يَشْتَمِلُ الْأَصْلَ لَا الْعَائِدَ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ، وَلَوْ قَالَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ الذُّكُورِ وَإِنْ سَفَلُوا فَإِنَّ أَحَدَ الطَّبَقَةِ الْأُولَى لَوْ كَانَتْ بِنْتًا فَمَاتَتْ وَلَهَا أَوْلَادٌ فَمَا اسْتَحَقَّتْهُ قَبْلَ مَوْتِهَا فَلَهُمْ وَلَوْ قَالَ وَمَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ فَنَصِيبُهُ لِأَخَوَيْهِ ثُمَّ نَسْلِهِمْ وَعَقِبِهِمْ عَمَّنْ لَمْ يُعْقِبْ وَمَنْ أَعْقَبَ ثُمَّ انْقَطَعَ عَقِبُهُ. وَقَوْلُ الْوَاقِفِ: وَمَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ نَسْلٍ يَعُودُ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ عَلَى مَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ وَذَوِي طَبَقَتِهِ يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ إلَى الْمُتَوَفَّى فَالْأَقْرَبُ وَهُوَ حِرْمَانُ الطَّبَقَةِ السُّفْلَى فَقَطْ لَا حِرْمَانُ الْعُلْيَا وَإِذَا وُجِدَ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ وَقَفَ عَلَى بَنِيهِ وَبَنِي بَنِيهِ وَالْأَمَارَةُ تَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَمَذْهَبُنَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُمَا كَإِقْرَارِهِ بِمَا فِي يَدِهِ لِأَحَدِ الشَّخْصَيْنِ لَا يُعْلَمُ عَيْنُهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُرَجَّحَ بَنُو الْبَنِينَ وَالْوَاوُ كَمَا لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ لَا تَنْفِيه فَهِيَ سَالِبَةٌ عَنْهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَلَكِنْ تَدُلُّ عَلَى التَّشْرِيكِ وَهُوَ الْجَمْعُ الْمُطْلَقُ فَإِنْ كَانَ فِي الْوَقْفِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ مِثْلُ أَنْ رَتَّبَ أَوْ لَا عُمِلَ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِمُقْتَضَى الْوَاوِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّشْرِيكِ التَّسْوِيَةُ بَلْ يُعْطِي بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَلَوْ طَلَبَ الْمُدَرِّسُ الْخُمُسَ فَقُلْنَا لَهُ: فَأَعْطِ الْقَيِّمَ الْخُمُسَ لِأَنَّهُ نَظِيرُ الْمُدَرِّسِ لَظَهَرَ بُطْلَانُ حُجَّتِهِ وَلَوْ وَقَفَ مَسْجِدًا وَشَرَطَ إمَامًا وَأَثْبَتَ قُرَّاءَ وَقَيِّمًا وَمُؤَذِّنًا وَعَجَزَ الْوَقْفُ عَنْ تَكْمِيلِ حَقِّ الْجَمِيعِ وَلَمْ يَرْضَ الْإِمَامُ وَالْمُؤَذِّنُ وَالْقَيِّمُ إلَّا بِأَخْذِ جَامَكِيَّةَ مِثْلِهِمْ صُرِفَ إلَى الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ وَالْقَيِّمِ جَامَكِيَّةُ مِثْلِهِمْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْقُرَّاءِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ وَلَوْ وَقَفَ عَلَى آلِ جَعْفَرَ وَآلِ عَلِيٍّ فَهَلْ يَسْتَوِي بَيْنَ أَفْرَادِهِمْ أَوْ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ نِصْفَيْنِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: أَفْتَيْت أَنَا وَطَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَ أَعْيَانِ الطَّائِفَتَيْنِ وَأَفْتَى طَائِفَةٌ أَنَّهُ يُقْسَمُ نِصْفَيْنِ فَيَأْخُذُ آلُ جَعْفَرٍ النِّصْفَ وَإِنْ كَانُوا وَاحِدًا وَهُوَ مُقْتَضَى

أَحَدِ قَوْلَيْ أَصْحَابِنَا وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ فِي هَذَا الْوَقْفِ إلَّا مِقْدَارًا مَعْلُومًا ثُمَّ ظَهَرَ شَرْطُ الْوَاقِفِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ حُكِمَ لَهُ بِمُقْتَضَى شَرْطِ الْوَاقِفِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ إقْرَارُهُ الْمُتَقَدِّمُ وَلَوْ وَقَفَ عَلَى ابْنَيْ أَخِيهِ يُوسُفَ وَأَيُّوبَ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ أَيُّوبَ اسْمُهُ صَالِحٌ فَشَكَّ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَخِيهِ ابْنَانِ سِوَاهُمَا، فَحَقُّ أَيُّوبَ ثَابِتٌ وَلَا يَضُرُّ الْغَلَطُ فِي اسْمِهِ وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي عَيْنِ الثَّالِثِ أُخْرِجَ بِالْقُرْعَةِ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ. وَمَنْ عَمَّرَ وَقْفًا بِالْمَعْرُوفِ لِيَأْخُذَ عِوَضَهُ فَلَهُ أَخْذُهُ مِنْ غَلَّتِهِ، وَالْيَتِيمُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ ثَلَاثًا لَكِنْ يُعْطَى مَنْ لَيْسَ لَهُ أَبٌ يُعْرَفُ فِي بَلَدِ الْإِسْلَامِ وَلَا يُعْطَى كَافِرٌ وَإِذَا مَاتَ شَخْصٌ مِنْ مُسْتَحَقِّي الْوَقْفِ وَجُهِلَ شَرْطُ الْوَاقِفِ صُرِفَ إلَى جَمِيعِ الْمُسْتَحَقِّينَ بِالتَّسْوِيَةِ. وَجَوَّزَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ تَغْيِيرَ صُورَةِ الْوَقْفِ لِلْمَصْلَحَةِ كَجَعْلِ الدُّورِ حَوَانِيتَ وَالْحُكُورَةِ مَشْهُورَةً، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ بِنَاءٍ بِبِنَاءٍ وَعَرْصَةٍ بِعَرْصَةٍ أَوَّلًا وَلَوْ وَقَفَ كُرُومًا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَيَحْصُلُ عَلَى جِيرَانِهَا ضَرَرٌ يُعَوَّضُ عَنْهَا بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْجِيرَانِ وَيَعُودُ الْأَوَّلُ مِلْكًا، وَالثَّانِي وَقْفًا وَمَعَ الْحَاجَةِ يَجِبُ إبْدَالُ الْوَقْفِ بِمِثْلِهِ وَبِلَا حَاجَةٍ يَجُوزُ بِخَيْرٍ مِنْهُ لِظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ وَهُوَ قِيَاسُ الْهَدْيِ وَهُوَ وَجْهٌ فِي الْمُنَاقَلَةِ وَمَالَ إلَيْهِ أَحْمَدُ وَنَقَلَ صَالِحٌ يَنْتَقِلُ الْمَسْجِدُ لِمَنْفَعَةِ النَّاسِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَدَّلَ الْوَقْفُ بِمِثْلِهِ لِفَوَاتِ التَّعْيِينِ بِلَا حَاجَةٍ وَمَا حَصَلَ لِلْأَسِيرِ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ فَإِنَّهُ يَتَسَلَّمُهُ وَيَحْفَظُهُ وَكِيلُهُ وَمَنْ يَنْتَقِل إلَيْهِ بَعْدَهُ جَمِيعًا وَمَا فَضَلَ عَنْ حَاجَةِ الْمَسْجِدِ صُرِفَ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ لِأَنَّ الْوَاقِفَ لَهُ غَرَضٌ فِي الْجِنْسِ وَالْجِنْسُ وَاحِدٌ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ حَضَّ النَّاسَ عَلَى إعْطَاءِ الْمُكَاتَبِ فَلَوْ صُرِفَ إلَى الْمَسْجِدِ الثَّانِي فَفَضَلَ شَيْءٌ عَنْ حَاجَتِهِ فَصَرَفَهُ فِي الْمُكَاتَبِينَ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَيَجُوزُ صَرْفُهُ فِي سَائِرِ الْمَصَالِحِ وَبِنَاءِ مَسَاكِنَ لِمُسْتَحِقِّي رَيْعِهِ الْقَائِمِينَ بِمَصَالِحِهِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ وَقْفَهُ يَبْقَى دَائِمًا وَجَبَ صَرْفُهُ لِأَنَّ بَقَاءَ صَرْفِهِ بَقَاءُ فَسَادٍ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ النَّاظِرِ صَرْفُ الْفَاضِلِ، وَإِذَا وَقَفَ مَدْرَسَةً

باب الهبة

عَلَى الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ الْفُلَانِيَّةِ تُرْسَمُ سُكْنَاهُمْ وَاشْتِغَالُهُمْ فِيهَا فَلَا تَخْتَصُّ السُّكْنَى بِالْمُرْتَزِقَةِ مِنْ الْمَالِ بَلْ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ السُّكْنَى وَالرِّزْقِ مِنْ الْمَالِ بَلْ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ السُّكْنَى وَالِارْتِزَاقِ لِلشَّخْصِ الْوَاحِدِ وَيَجُوزُ السُّكْنَى مِنْ غَيْرِ ارْتِزَاقٍ كَمَا يَجُوزُ الِارْتِزَاقُ مِنْ غَيْرِ سُكْنَى وَلَا يَجُوزُ قَطْعُ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ إلَّا بِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ إذَا كَانَ السَّاكِنُ مُشْتَغِلًا سَوَاءٌ كَانَ يَحْضُرُ الدَّرْسَ أَمْ لَا. وَالْأَرْزَاقُ الَّتِي يُقَدِّرُهَا الْوَاقِفُونَ ثُمَّ يَتَغَيَّرُ النَّقْدُ فِيمَا بَعْدُ نَحْوُ أَنْ يَشْتَرِطَ مِائَةَ دِرْهَمٍ نَاصِرِيَّةً ثُمَّ يَحْرُمُ التَّعَامُلُ بِهَا وَتَصِيرُ الدَّرَاهِمُ ظَاهِرِيَّةً فَإِنَّهُ يُعْطَى الْمُسْتَحَقُّ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ مَا قِيمَتُهُ قِيمَةَ الْمَشْرُوطِ وَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُنَصِّبَ دِيوَانًا مُسْتَوْفِيًا لِحِسَابِ أَمْوَالِ الْأَوْقَافِ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ وَلَهُ أَنْ يَفْرِضَ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِثْلُهُ مِنْ كُلِّ مَالٍ يَعْمَلُ فِيهِ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ الْمَالِ وَإِذَا قَامَ الْمُسْتَوْفِي بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ اسْتَحَقَّ مَا فُرِضَ لَهُ. [بَابُ الْهِبَةِ] ِ وَإِعْطَاءُ الْمَرْءِ الْمَالَ لِيُمْدَحَ وَيُثْنَى عَلَيْهِ مَذْمُومٌ وَإِعْطَاؤُهُ لِكَفِّ الظُّلْمِ وَالشَّرِّ عَنْهُ وَلِئَلَّا يُنْسَبَ إلَى الْبُخْلِ مَشْرُوعٌ بَلْ هُوَ مَحْمُودٌ مَعَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ، وَالْإِخْلَاصُ فِي الصَّدَاقَةِ أَنْ لَا يَسْأَلَ عِوَضَهَا مِنْ الْمُعْطِي وَلَا يَرْجُو بَرَكَتَهُ وَخَاطِرَهُ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان: 9] . وَتُصْبِحُ هِبَةُ الْمَعْدُومِ كَالثَّمَرِ وَاللَّبَنِ بِالسَّنَةِ وَاشْتِرَاطُ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ هُنَا فِيهِ نَظَرٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَتَصِحُّ هِبَةُ الْمَجْهُولِ كَقَوْلِهِ مَا أَخَذْتَ مِنْ مَالِي فَهُوَ لَك أَوْ مَنْ وَجَدَ شَيْئًا مِنْ مَالِي فَهُوَ لَهُ. وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ يَحْصُلُ الْمِلْكُ بِالْقَبْضِ وَنَحْوِهِ وَلِلْمُبِيحِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا قَالَ قَبْلَ التَّمَلُّكِ وَهَذَا نَوْعُ الْهِبَةِ يَتَأَخَّرُ الْقَبُولُ فِيهِ عَنْ الْإِيجَابِ كَثِيرًا وَلَيْسَ بِإِبَاحَةٍ، وَتَجْهِيزُ الْمَرْأَةِ بِجَهَازِهَا إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا تَمْلِيكٌ. قَالَ الْقَاضِي قِيَاسُ قَوْلِنَا فِي بَيْعِ الْمُعْطَاةِ أَنَّهُ تَمْلِكُهُ بِذَلِكَ وَأَفْتَى بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَيَظْهَرُ لِي صِحَّةُ هِبَةِ الصُّوفِ عَلَى الظَّهْرِ قَوْلًا وَاحِدًا وَقَاسَهُ أَبُو الْخَطَّابِ

عَلَى الْبَيْعِ. وَالصَّدَقَةُ أَفْضَلُ مِنْ الْهِبَةِ إلَّا لِقَرِيبٍ يَصِلُ بِهَا رَحِمَهُ أَوْ أَخٍ لَهُ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ تَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الصَّدَقَةِ وَمِنْ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ مَنْ لَهُ يَدٌ أَوْ نِعْمَةٌ أَنْ يُجْزِئَهُ بِهَا وَالْهِبَةُ تَقْتَضِي عِوَضًا مَعَ الصَّرْفِ. وَلَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقْبَلَ هَدِيَّةً مِنْ شَخْصٍ لِيَشْفَعَ لَهُ عِنْدَ ذِي أَمْرٍ أَوْ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ مَظْلِمَةً أَوْ يُوصِلَ إلَيْهِ حَقَّهُ أَوْ يُوَلِّيَهُ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهَا، أَوْ يَسْتَخْدِمَهُ فِي الْجُنْدِ الْمُقَاتِلَةِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ. وَيَجُوزُ لِلْمُهْدِي أَنْ يَبْذُلَ فِي ذَلِكَ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ أَوْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَكَابِرِ وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، وَنَقَلَ يَعْقُوبُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِلْخَاطِبِ إذَا خَطَبَ لِقَوْمٍ أَنْ يَقْبَلَ لَهُمْ هَدِيَّةً. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: هَذَا خَاطِبُ الرَّجُلِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَبْذُلُ وَإِنَّمَا الزَّوْجُ يَبْذُلُ، وَتَصِحُّ الْعُمْرَى وَيَكُونُ لِلْمُعَمِّرِ وَلِوَرَثَتِهِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُعَمِّرُ عَوْدَهَا إلَيْهِ فَيَصِحُّ الشَّرْطُ - وَهُوَ بِقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَلَا يَدْخُلُ الزَّوْجَانِ فِي قَوْلِهِ وَلِعَقِبِك وَإِذَا تَفَاسَخَا عَقْدَ الْهِبَةِ صَحَّ وَلَا يُفْتَقَرُ إلَى قَبْضِ الْمَوْهُوبِ وَتَكُونُ الْعَيْنُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُتَّهِبِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فِي وَجْهٍ وَيَجِبُ التَّعْدِيلُ فِي عَطِيَّةِ أَوْلَادِهِ عَلَى حَسَبِ مِيرَاثِهِمْ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ مُسْلِمًا كَانَ الْوَلَدُ أَوْ ذِمِّيًّا وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا يَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ سَائِرِ الْأَقَارِبِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ كَالْأَعْمَامِ وَالْإِخْوَةِ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ وَيُتَوَجَّهُ فِي الْبَنِينَ التَّسْوِيَةُ كَآبَائِهِمْ، فَإِنْ فَضَلَ حَيْثُ مَنَعْنَاهُ فَعَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ أَوْ الرَّدُّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ وَإِذَا سَوَّى بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطَاءِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَطِيَّةِ بَعْضِهِمْ وَالْحَدِيثُ وَالْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّعْدِيلِ بَيْنَهُمْ فِي غَيْرِ التَّمْلِيكِ أَيْضًا وَهُوَ فِي مَالِهِ وَمَنْفَعَتِهِ الَّتِي مَلَّكَهُمْ وَاَلَّذِي أَبَاحَهُمْ كَالْمَسْكَنِ وَالطَّعَامِ ثُمَّ هُنَا نَوْعَانِ نَوْعٌ يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ النَّفَقَةِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَتَعْدِيلُهُ فِيهِ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ وَاحِدٍ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مُحْتَاجِ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، وَنَوْعٌ تَشْتَرِكُ حَاجَتُهُمْ إلَيْهِ مِنْ عَطِيَّةٍ أَوْ نَفَقَةٍ أَوْ تَزْوِيجٍ فَهَذَا لَا رَيْبَ فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِ وَيَنْشَأُ مِنْ بَيْنِهِمَا نَوْعٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَنْفَرِدَ

أَحَدُهُمَا بِحَاجَةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ مِثْلُ أَنْ يَقْضِيَ عَنْ أَحَدِهِمَا دَيْنًا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ أَرْشِ جِنَايَةٍ أَوْ يُعْطِيَ عَنْهُ الْمَهْرَ أَوْ يُعْطِيَهُ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَفِي وُجُوبِ إعْطَاءِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ نَظَرٌ وَتَجْهِيزُ الْبَنَاتِ بِالنِّحَلِ أَشْبَهُ وَقَدْ يُلْحَقُ بِهَذَا وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا أَنَّهُ يَكُونُ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ زَادَ عَلَى الْمَعْرُوفِ فَهُوَ مِنْ بَابِ النِّحَلِ وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُحْتَاجًا دُونَ الْآخَرِ أَنْفَقَ عَلَيْهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ. وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَمِنْ النِّحَلِ فَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْأَوْلَادِ فَاسِقًا فَقَالَ وَالِدُهُ: لَا أُعْطِيك نَظِيرَ إخْوَتِك حَتَّى تَتُوبَ فَهَذَا حَسَنٌ يَتَعَيَّنُ اسْتِثْنَاؤُهُ وَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ التَّوْبَةِ فَهُوَ الظَّالِمُ فَإِنْ تَابَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ. وَأَمَّا إنْ امْتَنَعَ مِنْ زِيَادَةِ الدَّيْنِ لَمْ يَجُزْ مَنْعُهُ فَلَوْ مَاتَ الْوَالِدُ قَبْلَ التَّسْوِيَةِ الْوَاجِبَةِ فَلِلْبَاقِينَ الرُّجُوعُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَاخْتِيَارُ ابْنِ بَطَّةَ وَأَبِي حَفْصٍ وَأَمَّا الْوَلَدُ الْمُفَضَّلُ يَنْبَغِي لَهُ الرَّدُّ بَعْدَ الْمَوْتِ قَوْلًا وَاحِدًا وَهَلْ يَطِيبُ لَهُ الْإِمْسَاكُ إذَا قُلْنَا لَا يُجْبَرُ عَلَى الرَّدِّ. كَلَامُ أَحْمَدَ يَقْتَضِي رِوَايَتَيْنِ فَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ وَإِذَا مَاتَ الَّذِي فَضَّلَ لَمْ أُطَيِّبْهُ لَهُ وَلَمْ أُجْبِرْ عَلَى رَدِّهِ وَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ وَنُقِلَ عَنْهُ أَيْضًا. قُلْت: فَتَرَى الَّذِي فَضَّلَ أَنْ يَرُدَّهُ قَالَ إنْ فَعَلَ فَهُوَ أَجْوَدُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَمْ أُجْبِرْهُ وَظَاهِرُهُ الِاسْتِحْبَابُ وَإِذَا قُلْنَا يَرُدُّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَالْوَصِيُّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلَوْ مَاتَ الثَّانِي قَبْلَ الرَّدِّ وَالْمَالُ بِحَالِهِ رَدَّهُ أَيْضًا لَكِنْ لَوْ قُسِمَتْ تَرِكَةُ الثَّانِي قَبْلَ الرَّدِّ أَوْ بِيعَتْ أَوْ وُهِبَتْ فَهَا هُنَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ وَالْقَبْضَ بِقُرْبِ الْعُقُودِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهَذَا فِيهِ تَأْوِيلٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَصَرَّفَ الْمُفَضَّلُ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ وَاتَّصَلَ بِهِمَا الْقَبْضُ فَفِي الرَّدِّ نَظَرٌ إلَّا أَنَّ هَذَا مُتَّصِلٌ بِالْقَبْضِ فِي الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَلِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ أَوْ رَغْبَةٌ فَلَا يَرْجِعُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ وَقَدْرِ الرَّغْبَةِ وَيَرْجِعُ فِيمَا زَادَ. وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيمَا إذَا تَصَدَّقَ عَلَى وَلَدِهِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ رِوَايَتَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ نَوْعٌ مِنْ الْهِبَةِ أَوْ نَوْعٌ مُسْتَقِلٌّ وَعَلَى ذَلِكَ يَبْنِي مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ فَتَصَدَّقَ هَلْ يَجِبُ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَالصَّدَقَةُ أَفْضَلُ مِنْ الْهِبَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْهَدِيَّةِ مَعْنًى تَكُونُ بِهِ أَفْضَلَ مِثْلُ الْإِهْدَاءِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحَبَّةً لَهُ وَمِثْلُ الْإِهْدَاءِ لِقَرِيبٍ يَصِلُ بِهِ الرَّحِمَ أَوْ أَخٍ لَهُ فِي اللَّهِ

فَهَذَا قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الصَّدَقَةِ وَيَرْجِعُ الْأَبُ فِيمَا أَبْرَأَ مِنْهُ ابْنَهُ مِنْ الدُّيُونِ عَلَى قِيَاسِ الْمَذْهَبِ كَمَا لِلْمَرْأَةِ عَلَى أَحَدِ الرِّوَايَتَيْنِ الرُّجُوعُ عَلَى زَوْجِهَا فِيمَا أَبْرَأَتْهُ مِنْ الصَّدَاقِ وَيَمْلِكُ الْأَبُ إسْقَاطَ دَيْنِ الِابْنِ عَنْ نَفْسِهِ. وَلَوْ قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا لَزِمَتْهُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَكَذَا لَوْ جَنَى عَلَى طَرَفِهِ لَزِمَتْهُ دِيَتُهُ وَإِذَا أَخَذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ شَيْئًا ثُمَّ انْفَسَخَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ بِحَيْثُ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى الَّذِي كَانَ مَالِكَهُ مِثْلُ أَنْ يَأْخُذَ صَدَاقَهَا فَتَطْلُقَ أَوْ يَأْخُذَ الثَّمَنَ ثُمَّ تُرَدُّ السِّلْعَةُ بِعَيْبٍ أَوْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ ثُمَّ يُفْلِسُ الْوَلَدُ بِالثَّمَنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَالْأَقْوَى فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ أَنَّ لِلْمَالِكِ الْأَوَّلِ الرُّجُوعَ عَلَى الْأَبِ وَلِلْأَبِ أَنْ يَتَمَلَّكَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ كَالرَّهْنِ وَالْفَلَسِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ رَغْبَةٌ كَالْمُدَايَنَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ وَقُلْنَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ فَفِي التَّمْلِيكِ نَظَرٌ. وَلَيْسَ لِلْأَبِ الْكَافِرِ تَمَلُّكُ مَالِ وَلَدِهِ الْمُسْلِمِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ كَافِرًا فَأَسْلَمَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَطِيَّتِهِ إذَا كَانَ وَهَبَهُ فِي حَالِ الْكُفْرِ فَأَسْلَمَ الْوَلَدُ فَأَمَّا إذَا وَهَبَهُ فِي حَالِ إسْلَامِ الْوَلَدِ فَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَأَمَّا الْأَبُ وَالْأُمُّ الْكَافِرَةُ فَهَلْ لَهُمَا أَنْ يَتَمَلَّكَا مَالَ الْوَلَدِ الْمُسْلِمِ أَوْ يَرْجِعَا فِي الْهِبَةِ يُتَوَجَّهُ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِ وَجْهَانِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ بَلْ يُقَالُ: إنْ قُلْنَا: لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ فَالتَّمَلُّك أَبْعَدُ وَإِنْ قُلْنَا: تَجِبُ النَّفَقَةُ فَالْأَشْبَهُ لَيْسَ لَهُمَا التَّمَلُّكُ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَبِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ الْكَافِرِ شَيْئًا فَإِنَّ أَحْمَدَ عَلَّلَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَبِ وَغَيْرِهِ وَبِأَنَّ الْأَبَ يَجُوزُ أَخْذُهُ مِنْ مَالِ ابْنِهِ وَمَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ لَا يَجُوزُ وَالْأَشْبَهُ فِي زَكَاةِ دَيْنِ الِابْنِ عَلَى الْأَبِ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ التَّاوِي كَالضَّالِّ فَيَخْرُجُ فِيهِ مَا خَرَجَ فِي ذَلِكَ وَهَلْ يَمْنَعُ دَيْنُ الْأَبِ وُجُوبَ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَدَقَةَ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَةَ الْمَالِيَّةَ وَشِرَاءَهُ الْعَتِيقَ. يَتَوَجَّهُ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ لِقُدْرَتِهِ عَلَى إسْقَاطِهِ وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَمْنَعَ لِأَنَّ وَفَاءَهُ قَدْ يَكُونُ خَيْرًا لَهُ وَلِوَلَدِهِ وَعُقُوبَةُ الْأُمِّ وَالْجَدِّ عَلَى مَالِ الْوَلَدِ قِيَاسُ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ لَا يُعَاقِبُ عَلَى الدَّمِ وَالْعِرْضِ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِمَا حَبْسٌ وَلَا ضَرْبٌ لِلِامْتِنَاعِ مِنْ الْأَدَاءِ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» يَقْتَضِي إبَاحَةَ نَفْسِهِ كَإِبَاحَةِ مَالِهِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة: 25] . وَهُوَ يَقْتَضِي جَوَازَ اسْتِخْدَامِهِ وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ خِدْمَةُ أَبِيهِ وَيُقَوِّيه

جَوَازُ مَنْعِهِ مِنْ الْجِهَادِ وَالسَّفَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِيمَا يُفَوِّتُ انْتِفَاعَهُ بِهِ. لَكِنَّ هَذَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَبَوَانِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ خَصَّ الْأَبَ بِالْمَالِ وَأَمَّا مَنْفَعَةُ الْبَدَنِ فَيَشْتَرِكَانِ فِيهَا وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ أَنْ يُؤَجِّرَ وَلَدَهُ لِنَفْسِهِ مَعَ فَائِدَةٍ فَيَشْتَرِكَانِ فِيهَا وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ لِنَفْسِهِ مَعَ فَائِدَةِ الْوَلَدِ مِثْلُ أَنْ يَتَعَلَّمَ صَنْعَةً أَوْ حَاجَةَ الْأَبِ وَإِلَّا فَلَا وَيُسْتَثْنَى مَا لِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ سُرِّيَّةِ الِابْنِ إنْ لَمْ تَكُنْ أُمَّ وَلَدٍ فَإِنَّهَا تُلْحَقُ بِالزَّوْجَةِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَعَنْهُ أَلْحَقْنَا سُرِّيَّةَ الْعَبْدِ بِزَوْجَتِهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي أَنَّ السَّيِّدَ لَا يَنْتَزِعُهَا وَلَا يَبْطُلُ إبْرَاءُ الزَّوْجَةِ الزَّوْجَ بِدَعْوَاهَا السَّفَهَ وَلَوْ مَعَ بَيِّنَةِ أَنَّهَا سَفِيهَةٌ وَلَمْ يَجِبْ الْحَجْرُ وَلَوْ أَبْرَأَتْهُ وَوَلَدَتْ عِنْدَهُ وَمَالُهَا بِيَدِهَا تَتَصَرَّفُ فِيهِ لَمْ يُصَدَّقْ أَبُوهَا أَنَّهَا كَانَتْ سَفِيهَةً يَجِبُ حَجْرُهَا بِلَا بَيِّنَةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

كتاب الوصية

[كِتَابُ الْوَصِيَّةِ] ِ وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهَا إقْرَارَ كَاتِبٍ أَوْ إنْشَاءٌ لِقِصَّةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ الَّتِي نَقَضَهَا الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْكَشْفِ هَلْ هُوَ طَرِيقٌ لِلْأَحْكَامِ فَنَفَاهُ ابْنُ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ الْقَاضِي إنَّ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ فِي ذَمِّ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى الْوَسْوَاسِ وَالْخَطَرَاتِ إشَارَةٌ إلَى هَؤُلَاءِ وَأَثْبَتَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّصَرُّفَ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ الرُّجُوعُ إلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ لِأَنَّ عُمْدَةَ التَّصَرُّفِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ بِخِلَافِ الْأَحْكَامِ فَإِنَّ طُرُقَهَا مَضْبُوطَةٌ. وَقَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ صَحِيحَةٌ إذَا أَصَابَ الْحَقَّ يَحْتَمِلُ بَادِئَ الرَّأْيِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِمَا يَجُوزُ لِلْبَائِعِ لَكِنَّ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ كُلِّ مُوصٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَخْصِيصِ الصَّبِيِّ بِهِ وَالثَّانِي أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُوصِيَ بِهِ مِثْلُ أَنْ يُوصِيَ لِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ فَعَلَى هَذَا فَلَوْ أَوْصَى لِبَعِيدٍ دُونَ الْقَرِيبِ الْمُحْتَاجِ لَمْ تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ بِخِلَافِ الْبَائِعِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَمَّا كَانَ قَاصِرَ التَّصَرُّفِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُنَظِّمَ إلَيْهِ نَظَرُ الشَّرْعِ كَمَا إذَا احْتَاجَ بَيْعُهُ إلَى إذْنِ الْوَلِيِّ وَكَذَلِكَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَصْحَابَنَا عَلَّلُوا الصِّحَّةَ بِأَنَّهُ إنْ مَاتَ كَانَ صَرْفُ مَا أَوْصَى بِهِ إلَى جِهَةِ الْقُرَبِ وَمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ الثَّوَابُ أَوْلَى مَتَى صَرَفَهُ إلَى وَرَثَتِهِ وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ فِي الْوَصِيَّةِ الْمُسْتَحَبَّةِ فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَالُ قَلِيلًا وَالْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ فَتَرْكُ الْمَالِ أَفْضَلُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَمَا أَظُنُّهُمْ قَصَدُوا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَّا هَذَا وَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ بِالْخَطِّ الْمَعْرُوفِ وَكَذَا الْإِقْرَارُ إذَا وُجِدَ فِي دَفْتَرِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ

باب تبرعات المريض

لِوَارِثِ بِغَيْرِ رِضَى الْوَرَثَةِ وَيَدْخُلُ وَارِثُهُ فِي الْوَصِيَّةِ الْعَامَّةِ بِالْأَوْصَافِ دُونَ الْأَعْيَانِ وَلَكِنْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْوَصِيَّةِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِخِلَافِ هَذَا. وَأَفْتَى أَبُو الْعَبَّاسِ لِمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثِيَابِهِ وَلَهُ أَبٌ فَقِيرٌ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَوْ أَوْصَى بِوَقْفِ ثُلُثِهِ فَأَخَّرَ الْوَقْفَ حَتَّى نَمَا فَنَمَاؤُهُ يُصْرَفُ مَصْرِفَ نَمَاءِ الْوَقْفِ وَلَوْ وَصَّى أَنْ يُصَلِّيَ عَنْهُ بِدَرَاهِمَ لَمْ تَنْفُذْ وَصِيَّتُهُ وَتُصْرَفُ الدَّرَاهِمُ فِي الصَّدَقَةِ وَيَخُصُّ أَهْلَ الصَّلَاةِ وَلَوْ وَصَّى أَنْ يَشْتَرِيَ مَكَانًا مُعَيَّنًا وَيُوقِفَ عَلَى جِهَةِ بِرٍّ فَلَمْ يُبَعْ ذَلِكَ الْمَكَانَ اشْتَرَى مَكَانًا آخَرَ وَوَقَفَ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي وَصَّى بِهَا الْمُوصِي. وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا قَالَ بِيعُوا غُلَامِي مِنْ زَيْدٍ وَتَصَدَّقُوا بِثَمَنِهِ فَامْتَنَعَ زَيْدٌ مِنْ شِرَائِهِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ مِنْ غَيْرِهِ وَيُتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ وَلَوْ وَصَّى بِمَالٍ يُنْفَقُ عَلَى وَجْهٍ مَكْرُوهٍ صُرِفَ فِي الْقُرَبِ وَلَوْ وَصَّى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ زَيْدٌ تَطَوُّعًا بِأَلْفٍ فَيُتَوَجَّهُ أَنَّهُ إذَا أَبَى الْمُعَيَّنُ الْحَجَّ حَجَّ عَنْهُ غَيْرُهُ. وَكَذَا إذَا مَاتَ أَوْ مَاتَ الْفَرَسُ الْحَبِيسُ صُرِفَ مَا وَصَّى لِلنَّفَقَةِ عَلَيْهِ فِي مِثْلِهِ وَلَوْ اسْتَغْنَى الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ لِفَقْرِهِ رَدَّ الْفَضْلَ فِي مِثْلِهِ وَقَدْ يُتَوَجَّهُ فِي الْوَصِيَّةِ لِمُعَيَّنٍ يَقْصِدُ وَصْفَهُ لِفَقْرٍ إنْ عَلِمَ وَنَحْوُ ذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ إلَى مِثْلِهِ وَلَوْ جَمَعَ كَفَنَ مَيِّتٍ فَكُفِّنَ وَفَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْءٌ صُرِفَ فِي تَكْفِينِ الْمَوْتَى أَوْ رُدَّ إلَى الْمُعْطِي. وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَقْتَضِيه فِي رِوَايَةٍ وَيَقْبَلُ فِي تَفْسِيرِ الْمُوصِي مُرَادَهُ وَافَقَ ظَاهِرَ اللَّفْظِ أَوْ خَالَفَهُ. وَفِي الْوَقْفِ يَقْبَلُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ وَالْمُتَعَارِضَةِ وَلَوْ فَسَّرَهُ بِمَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ فَقَدْ يَحْتَمِلُ الْقَبُولَ كَمَا لَوْ قَالَ عَبْدِي أَوْ جُبَّتِي أَوْ ثَوْبِي وَقْفٌ وَفَسَّرَهُ بِمُعَيَّنٍ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْعُمُومَ وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْإِنْشَاءَاتِ الَّتِي يَسْتَقِلُّ بِهَا دُونَ الَّتِي لَا يَسْتَقِلُّ بِهَا كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ. [بَابُ تَبَرُّعَاتِ الْمَرِيضِ] ِ لَيْسَ مَعْنَى الْمَرَضِ الْمَخُوفِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الْقَلْبِ الْمَوْتُ مِنْهُ أَوْ يَتَسَاوَى فِي الظَّنِّ جَانِبُ الْبَقَاءِ وَالْمَوْتِ لِأَنَّ أَصْحَابَنَا جَعَلُوا ضَرْبَ الْمُحَاصِّ مِنْ الْأَمْرَاضِ الْمَخُوفَةِ وَلَيْسَ الْهَلَاكُ غَالِبًا وَلَا مُسَاوِيًا لِلسَّلَامَةِ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا صَالِحًا لِلْمَوْتِ فَيُضَافُ إلَيْهِ وَيَجُوزُ حُدُوثُهُ عِنْدَهُ، وَأَقْرَبُ مَا يُقَالُ مَا يَكْثُرُ حُصُولُ الْمَوْتِ مِنْهُ فَلَا عِبْرَةَ بِمَا يَنْدُرُ وُجُودُ الْمَوْتِ مِنْهُ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ السَّلَامِ لَكِنْ يَبْقَى مَا لَيْسَ

مَخُوفًا عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ وَالْمَرِيضُ قَدْ يَخَافُ مِنْهُ أَوْ هُوَ مَخُوفٌ وَالرَّجُلُ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى ذَلِكَ فَيُخْلَطُ مَا هُوَ مَخُوفٌ لِلْمُتَبَرِّعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا عِنْدَ جُمْهُورِ النَّاسِ، ذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ لَا يَقْبِضُ الْهِبَةَ وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا مَعَ كَوْنِهَا مَوْقُوفَةً عَلَى الْإِجَازَةِ وَهَذَا ضَعِيفٌ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ تَسْلِيمَ الْمَوْهُوبِ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ لَمْ يَذْهَبْ لِعِلَّةٍ حَيْثُ شَاءَ. وَإِرْسَالُ الْعَبْدِ الْمُعْتَقِ أَوْ إرْسَالُ الْمُحَابِي لَا يَجُوزُ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُوقَفَ أَمْرُ التَّبَرُّعَاتِ عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ الْوَارِثُ مِنْ رَدِّهَا بَعْدَ الْمَوْتِ إذَا شَاءَ وَلِتِلْكَ الْوَرَثَةِ أَنْ يَحْجُرُوا عَلَى الْمَرِيضِ إذَا اتَّهَمُوهُ بِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِثْلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ وَيَهَبَ وَيُحَابِيَ وَلَا يَحْسِبُ ذَلِكَ أَوْ يَخَافُونَ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ الْمَالِ لِإِنْسَانٍ يَمْتَنِعُ عَطِيَّتُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَالُ بِيَدِ وَكِيلٍ أَوْ شَرِيكٍ أَوْ مُضَارِبٍ وَأَرَادُوا الِاحْتِيَاطَ عَلَى مَا بِيَدِهِ بِأَنْ يَجْعَلُوا مَعَهُ يَدًا أُخْرَى لَهُمْ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ ذَلِكَ أَيْضًا وَهَكَذَا يُقَالُ فِي كُلِّ عَيْنٍ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْعَبْدِ كَالْعَبْدِ الْجَانِي وَالتَّرِكَةِ فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يُثْبِتَ يَدَهُ عَلَى مَالِهِ فَيُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا بِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ ائْتَمَنَهُ بِدُخُولِهِ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ بِخِلَافِ الْمَرِيضِ وَوَكِيلِهِ فَإِنَّ الْوَرَثَةَ لَمْ يَأْتَمِنُوهُ وَدَعْوَى الْمَرِيضِ فِيمَا خَرَجَ مِنْ الْعَادَةِ يَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ، وَمَنَافِعُهُ لَا تُحْسَبُ مِنْ الثُّلُثِ وَإِسْرَافُ الْمَرِيضِ فِي الْمَلَاذِّ وَالشَّهَوَاتِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَجَوَازُهُ مَحَلُّ وِفَاقٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ يَا سَالِمُ إذَا أَعْتَقْتُ غَانِمًا فَأَنْتَ حُرٌّ وَقَالَ أَنْت حُرٌّ فِي حَالِ إعْتَاقِي إيَّاهُ ثُمَّ أَعْتَقَ غَانِمًا فِي مَرَضِهِ وَلَمْ يَحْتَمِلْهُمَا الثُّلُثُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ وَهُوَ الْأَوْجَهُ أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُمَا وَإِذَا خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لِسَالِمٍ عَتَقَ دُونَ غَانِمٍ نَعَمْ لَوْ قَالَ إذَا أَعْتَقْتُ سَالِمًا فَغَانِمٌ حُرٌّ أَوْ قَالَ إذَا أَعْتَقْتُ سَالِمًا فَغَانِمٌ حُرٌّ بَعْدَ حُرِّيَّتِهِ فَبِهَذَا يَعْتِقُ سَالِمٌ وَحْدَهُ لِأَنَّ عِتْقَ غَانِمٍ مُعَلَّقٌ بِوُجُودِ عِتْقِهِ لَا بِوُجُودِ إعْتَاقِهِ وَلَوْ وَصَّى لِوَارِثٍ أَوَّلًا حِينَ يُزَايِدُ عَلَى الثُّلُثِ فَأَجَازَ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي صَحَّتْ الْإِجَازَةُ بِلَا نِزَاعٍ وَكَذَا قَبْلَهُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَخَرَّجَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ رِوَايَةً مِنْ سُقُوطِ الشُّفْعَةِ بِإِسْقَاطِهَا قَبْلَ الْبَيْعِ، وَإِنْ أَجَازَ الْوَارِثُ الْوَصِيَّةَ وَقَالَ: ظَنَنْت قِيمَتَهُ أَلْفًا فَبَانَتْ أَكْثَرَ قُبِلَ وَكَذَا لَوْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ أَصْلَ الْوَصِيَّةِ.

باب الموصى له

[بَابُ الْمُوصَى لَهُ] وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ وَقِيَاسُ الْمَنْصُوصِ فِي الطَّلَاقِ أَنَّهَا إذَا وَضَعَتْهُ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ اسْتَحَقَّ الْوَصِيَّةَ وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ يَطَأُ وَلِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ إنْ اعْتَزَلَا وَهُوَ الصَّوَابُ وَإِنْ وَصَفَ الْمُوصَى لَهُ أَوْ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ صِفَتِهِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ عَلَى أَوْلَادِي السُّودِ وَهُمْ بِيضٌ أَوْ الْعَشْرِ وَهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ فَهَا هُنَا الْأَوْجَهُ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ أَنْ يَعْتَبِرَ الْمَوْصُوفَ دُونَ الصِّفَةِ وَقَدْ يُقَالُ بِبُطْلَانِ الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ كَمَسْأَلَةِ الْإِبْهَامِ وَقَدْ يُقَالُ فِي مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ وَيُعْطِي الْعَشَرَةَ إمَّا بِتَعْيِينِ الْوَرَثَةِ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْقُرْعَةِ فِي الْوَقْفِ وَاَلَّذِي يَقْتَضِيه الْمَذْهَبُ أَنَّ الْغَلَطَ فِي الصِّفَةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ وَلَوْ وَصَّى بِفِكَاكِ الْأَسْرَى أَوْ وَقَفَ مَالًا عَلَى فِكَاكِهِمْ صُرِفَ مِنْ يَدِ الْمُوصِي وَيَدِ وَكِيلِهِ وَلِوَلِيِّهِ أَنْ يَقْتَرِضَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُوَفِّيَهُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْجِهَاتِ. وَمَنْ افْتَكَّ أَسِيرًا غَيْرَ شَرْعِيٍّ جَازَ صَرْفُ الْمَالِ إلَيْهِ وَكَذَا لَوْ اقْتَرَضَ غَيْرُ الْوَصِيِّ مَالًا فَكَّ بِهِ أَسِيرًا جَازَتْ تَوْفِيَتُهُ مِنْهُ وَمَا احْتَاجَ إلَيْهِ الْوَصِيُّ فِي افْتِكَاكِهِمْ مِنْ أُجْرَةٍ صُرِفَ مِنْ الْمَالِ وَلَوْ تَبَرَّعَ بَعْضُ أَهْلِ الثُّغُورِ بِفِدَائِهِ وَاحْتَاجَ الْأَسِيرُ إلَى نَفَقَةِ الْإِيَابِ صُرِفَ مِنْ مَالِ الْأَسْرَى وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى مِنْ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ عَلَى افْتِكَاكِهِمْ أَنْفَقَ مِنْهُ عَلَيْهِ إلَى بُلُوغِ مَحَلِّهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَوْ قَالَ الْمُوصِي: أَعْتِقْ عَبْدًا نَصْرَانِيًّا فَأَعْتَقَ مُسْلِمًا أَوْ ادْفَعْ ثُلُثِي إلَى نَصْرَانِيٍّ فَدَفَعَهُ إلَى مُسْلِمٍ ضَمِنَ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَفِيهِ نَظَرٌ. بَابُ الْمُوصَى بِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فِي تَعَالِيقِهِ الْقَدِيمَةِ: وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْحَمْلِ نَظَرًا إلَى عِلَّةِ التَّفْرِيقِ إذْ لَيْسَ التَّفْرِيقُ يَخْتَصُّ بِالْبَيْعِ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ تَفْرِيقٍ إلَّا الْعِتْقَ وَافْتِدَاءَ الْأَسْرَى، وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالنَّفَقَةِ أَبَدًا وَيَكُونُ تَمْلِيكًا لِلرَّقَبَةِ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْوَرَثَةُ مِنْهُ شَيْئًا وَإِنْ قَصَدَ مَعَ ذَلِكَ مِلْكَ الْوَرَثَةِ لِلرَّقَبَةِ وَالِانْتِفَاعَ لِلْآخَرِ تَبْطُلْ لِامْتِنَاعِ أَنْ تَكُونَ الْمَنَافِعُ كُلُّهَا لِشَخْصٍ، وَالرَّقَبَةُ لِآخَرَ وَلَا يَسْأَلُ عَنْ تَرْجِيحِ إحْدَى الْأَمْرَيْنِ فَيَبْطُلَانِ أَمَّا إنْ وَصَّى فِي وَقْتٍ بِالرَّقَبَةِ لِشَخْصٍ وَفِي وَقْتٍ آخَرَ بِالْمَنَافِعِ لِغَيْرِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ وَصَّى بِعَيْنٍ لِاثْنَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ.

باب الموصي إليه

[بَابُ الْمُوصِي إلَيْهِ] وَمَنْ أَوْصَى بِإِخْرَاجِ حُجَّةٍ فَوِلَايَةُ الدَّفْعِ وَالتَّعْيِينِ لِلْوَصِيِّ الْخَاصِّ إجْمَاعًا وَإِنَّمَا لِلْوَلِيِّ الْعَامِّ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ أَوْ فِعْلِهِ مُحَرَّمًا وَمَا أَنْفَقَهُ وَصِيٌّ مُتَبَرِّعٌ بِالْمَعْرُوفِ فِي شُؤُونِ الْوَصِيَّةِ فَمِنْ مَالِ الْيَتِيمِ وَمَنْ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ وَهُوَ مِمَّنْ يُعَامِلُ النَّاسَ نَظَرَ الْوَصِيُّ إلَى مَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ وَدَفَعَ إلَيْهِ وَإِلَّا فَيَحْرُمُ الْإِعْطَاءُ حَتَّى يُثْبِتَ عِنْدَ الْقَاضِي غَيْرِ الْمُخَالِفِ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَاظِرُ الْوَقْفِ وَوَالِي بَيْتِ الْمَالِ وَكُلَّ وَالٍ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ صِدْقُ الطَّالِبِ دَفَعَ إلَيْهِ وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ إنْ أَمِنَ التَّبَعَةَ وَإِنْ خَافَ التَّبَعَةَ فَلَا. وَلَوْ وَصَّى بِإِعْطَاءِ مُدَّعٍ بِيَمِينِهِ دَيْنًا نَفَّذَهُ الْوَصِيُّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لَا مِنْ الثُّلُثِ وَلَوْ قَالَ: يُدْفَعُ هَذَا إلَى يَتَامَى فُلَانٍ فَإِقْرَارٌ بِقَرِينَةٍ وَإِلَّا وَصِيَّةٌ، وَيَجِبُ عَلَى الْوَصِيِّ تَقْدِيمُ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُتَبَرَّعِ بِهِ فَلَوْ وَصَّى بِتَبَرُّعَاتٍ لِمُعَيِّنٍ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَمَنَعَ الْوَرَثَةُ بَعْضَ التَّرِكَةِ أَوْ جَحَدُوا الدَّيْنَ؛ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: أَفْتَيْت بِأَنَّ الْوَصِيَّ يُخْرِجُ الدَّيْنَ مِمَّا قَدِرَ عَلَيْهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْوَصِيَّةِ وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ نَصِيبُ الْوَصِيَّةِ وَلَيْسَ هَذَا مِثْلُ غَصْبِ الْمَشَاعِ وَإِذَا قَالَ: اصْنَعْ فِي مَالِي مَا شِئْت أَوْ هُوَ بِحُكْمِك افْعَلْ فِيهِ مَا شِئْت وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِهِ وَلَهُ أَنْ لَا يُخْرِجَهُ فَلَا يَكُونُ الْإِخْرَاجُ وَاجِبًا وَلَا مُحَرَّمًا بَلْ مَوْقُوفٌ عَلَى اخْتِيَارِ الْوَصِيِّ فَلَهُ صَرْفُ الْوَصِيَّةِ فِيمَا هُوَ أَصْلَحُ مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا الْوَصِيُّ.

كتاب الفرائض

[كِتَابُ الْفَرَائِضِ] ِ أَسْبَابُ التَّوَارُثِ رَحِمٌ وَنِكَاحٌ وَوَلَاءُ عِتْقٍ إجْمَاعًا وَذَكَرَ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ كُلِّهِ مُوَالَاتَهُ وَمُعَاقَدَتَهُ وَإِسْلَامَهُ عَلَى يَدَيْهِ وَالْتِقَاطَهُ وَكَوْنَهُمَا مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَيَرِثُ مَوْلًى مِنْ أَسْفَلَ عِنْدَ عَدَمِ الْوَرَثَةِ وَقَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَيُتَوَجَّهُ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَى الْمُنْعِمِ وَمُنْقَطِعِ السَّبَبِ عَصَبَةُ عَصَبَةِ أُمِّهِ وَإِنْ عَدِمَتْهُ فَعَصَبَتُهَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ. وَلَا يَرِثُ غَيْرُ ثَلَاثِ جَدَّاتٍ أُمُّ الْأُمِّ وَأُمُّ الْأَبِ وَأُمُّ أَبِي الْأَبِ وَإِنْ عَلَوْنَ أُمُومَةً وَأُبُوَّةً إلَّا الْمُدْلِيَةَ بِغَيْرِ وَارِثٍ كَأُمِّ أَبِي الْأُمِّ وَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ الْفُرُوضُ الْمَالَ سَقَطَتْ الْعَصَبَةُ وَلَوْ فِي الْحِمَارِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَلَوْ مَاتَ مُتَوَارِثَانِ وَجُهِلَ أَوَّلُهُمَا مَوْتًا لَمْ يَرِثْ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْأَمْرُ بِقَتْلِ مُوَرِّثِهِ لَا يَرِثُهُ وَلَوْ الْتَقَى عَنْهُ الضَّمَانَ وَلَوْ تَزَوَّجَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ مُضَارَّةً لِتَنْقِيصِ إرْثِ غَيْرِهَا وَأَقَرَّتْ بِهِ وَرِثَتْهُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ وَلَوْ وَصَّى بِوَصَايَا أَجْزَاءَ وَتَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ بِزَوْجٍ يَأْبَى أَخْذَ النِّصْفِ فَهَذَا الْمَوْضِعُ فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ الْمَفْسَدَةُ فِي هَذَا هُوَ الْمُسْلِمُ مِنْ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ الذِّمِّيِّ بِخِلَافِ الْعَكْسِ لِئَلَّا يَمْتَنِعَ قَرِيبُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ وَلِوُجُودِ نَظَرِهِ وَلَا يَنْظُرُونَنَا، وَالْمُرْتَدُّ إنْ قُتِلَ فِي رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ عَلَيْهَا فَمَالُهُ لِوَارِثِهِ الْمُسْلِمِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَلِأَنَّ رِدَّتَهُ كَمَرَضِ مَوْتِهِ وَالزِّنْدِيقُ مُنَافِقٌ يَرِثُ وَيُورَثُ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَأْخُذْ مِنْ تَرِكَةِ مُنَافِقٍ شَيْئًا وَلَا جَعَلَهُ فَيْئًا فَعُلِمَ أَنَّ التَّوَارُثَ مَدَارُهُ عَلَى النَّظْرَةِ الظَّاهِرَةِ وَاسْمُ الْإِسْلَامِ يَجْرِي عَلَيْهِ الظَّاهِرُ إجْمَاعًا. إذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: أَنْت حُرٌّ مَعَ مَوْتِ أَبِيك وَرِثَهُ لِسَبْقِ الْحُرِّيَّةِ الْإِرْثَ وَإِنْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ عَقِبَ مَوْتِهِ أَوْ إذَا مَاتَ أَبُوك فَأَنْتَ حُرٌّ فَهَذَا يَتَخَرَّجُ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ

فصل الإخوة لا يحجبون الأم من الثلث إلى السدس

الْأَهْلِيَّةَ إذَا حَدَثَتْ مَعَ الْحُكْمِ هَلْ يَكْفِي ذَلِكَ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِهَا. [فَصْلٌ الْإِخْوَةُ لَا يَحْجُبُونَ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ] فَصْلٌ وَالْإِخْوَةُ لَا يَحْجُبُونَ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ إلَّا إذَا كَانُوا وَارِثِينَ غَيْرَ مَحْجُوبِينَ بِالْأَبِ فَلِلْأُمِّ فِي مِثْلِ أَبَوَيْنِ وَأَخَوَيْنِ الثُّلُثِ. وَالْجَدُّ يُسْقِطُ الْإِخْوَةَ مِنْ الْأُمِّ إجْمَاعًا وَكَذَا مِنْ الْأَبَوَيْنِ أَوْ الْأَبِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَاخْتَارَهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الصِّدِّيقِ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَوْ خَلَفَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجًا وَبِنْتًا وَأُمًّا فَهَذِهِ الْفَرِيضَةُ تُقْسَمُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ لِلْبِنْتِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْأُمِّ سَهْمَانِ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالرَّدِّ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَنْ لَا يَقُولُ بِالرَّدِّ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ يَنْقَسِمُ عِنْدَهُمْ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا لِلْبِنْتِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُمِّ سَهْمَانِ وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ. قُلْت: أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَقُولُ بِالرَّدِّ عَلَى الزَّوْجَيْنِ فَلِلزَّوْجِ عِنْدَهُ الرُّبْعُ وَالثَّلَاثَةُ أَرْبَاعٍ الْبَاقِيَةِ تُقَسَّمُ أَرْبَاعًا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا لِلْبِنْتِ وَرُبْعُهَا لِلْأُمِّ فَتَصِحُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَهُ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ لِلزَّوْجِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْبِنْتِ تِسْعَةٌ وَلِلْأُمِّ ثَلَاثَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ يَقْصِدُ حِرْمَانَهَا مِنْ الْمِيرَاثِ] فَصْلٌ وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ يَقْصِدُ حِرْمَانَهَا مِنْ الْمِيرَاثِ وَرَثَتُهُ إذَا كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا إجْمَاعًا وَكَذَا إنْ كَانَ بَائِنًا عِنْدَ جُمْهُورِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يُعْرَفْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ذَكَرَ خِلَافًا وَإِنَّمَا ظَهَرَ الْخِلَافُ فِي خِلَافَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ فَهَلْ تَعْتَدُّ عِدَّةَ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ أَوْ أَطْوَلَهُمَا فِيهَا أَقْوَالٌ أَظْهَرُهَا الثَّالِثُ وَهَلْ يُكْمَلُ لَهَا الْمَهْرُ فِيهِ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ يُكْمَلُ. [فَصْلٌ أَقَرَّ وَاحِدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ بِالْوَلَاءِ أَوْ النَّسَبِ وَالْبَاقُونَ لَا صَدَّقُوهُ وَلَا كَذَّبُوهُ] فَصْلٌ وَلَوْ أَقَرَّ وَاحِدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ بِالْوَلَاءِ أَوْ النَّسَبِ وَالْبَاقُونَ لَا صَدَّقُوهُ وَلَا كَذَّبُوهُ ثَبَتَ الْوَلَاءُ أَوْ النَّسَبُ وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ قَالَ: إذَا أَقَرَّ وَحْدَهُ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَدْفَعُ قَوْلَهُ وَعَلَى هَذَا فَلَوْ رَدَّ هَذَا النَّسَبَ مَنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ قُبِلَ مِنْهُ وَارِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِهِ وَنِكَاحُ الْمَرِيضِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ صَحِيحٌ وَتَرِثُ الْمَرْأَةُ فِي قَوْلَيْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا تَسْتَحِقُّ إلَّا مَهْرَ الْمِثْلِ لَا الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ.

كتاب العتق

[كِتَابُ الْعِتْقِ] ِ وَمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَةً وَنَبَّهَ يَعْتِقُهَا أَنْ تَكُونَ مُسْتَقِيمَةً لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ بَيْعُهَا إذَا كَانَتْ زَانِيَةً وَإِذَا أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ عَتَقَ نَصِيبُهُ وَيَعْتِقُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا عَتَقَ كُلُّهُ وَاسْتَسْعَى فِي بَاقِي قِيمَتِهِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَالْمَالِكُ إذَا اسْتَكْرَهَ عَبْدَهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ عَتَقَ عَلَيْهِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يُبْنَى عَلَى الْقَوْلِ بِالْعِتْقِ بِالْمَثُلَةِ وَإِذَا اسْتَكْرَهَ أَمَةَ امْرَأَتِهِ عَلَى الْفَاحِشَةِ عَتَقَتْ وَغَرِمَ مِثْلَهَا لِسَيِّدَتِهَا وَقَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ لِخَبَرِ سُلَيْمَةَ بْنِ الْمُحِيفِ وَكَذَا أَمَةُ غَيْرِ امْرَأَتِهِ إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ أَمَةِ امْرَأَتِهِ وَغَيْرِهَا فَرْقٌ شَرْعِيٌّ وَإِلَّا فَمُوجِبُ الْقِيَاسِ التَّسْوِيَةُ وَلَوْ مَثَّلَ بِعَبْدِ غَيْرِهِ يَجِبُ أَنْ يَعْتِقَ عَلَيْهِ وَيَضْمَنَ قِيمَتَهُ لِسَيِّدِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْمُسْتَكْرَهِ لِأَمَةِ امْرَأَتِهِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِكْرَاهَ تَمْثِيلٌ وَأَنَّ التَّمْثِيلَ يُوجِبُ الْعِتْقَ وَلَوْ بِعَبْدِ الْغَيْرِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِقِيمَتِهِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: مَا أَعْرِفُ لِلْحَدِيثِ وَجْهًا إلَّا هَذَا وَالْأَشْبَهُ بِالْمَذْهَبِ صِحَّةُ شَرْطِ الْخِيَارِ وَالْكِتَابَةِ وَلَوْ قِيلَ بِصِحَّةِ شَرْطِ الْخِيَارِ فِي الْكِتَابَةِ لَمْ يَبْعُدْ وَأَمَّا شَرْطُ الْخِيَارِ فِي التَّعْلِيقَاتِ فَفِيهِ نَظَرٌ وَيَجُوزُ شَرْطُ وَطْءِ الْمُكَاتَبَةِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَيُتَوَجَّهُ عَلَى هَذَا جَوَازُ وَطْئِهَا بِلَا شَرْطٍ بِإِذْنِهَا وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ الرَّاهِنُ وَطْءَ الْمُرْتَهِنِ وَمَنْ أَعْتَقَ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وَالْمَصَالِحِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ بِمَنْزِلَةِ عَبْدِ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ وَهَاجَرَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ الْوَلَاءُ عَلَيْهِ لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا اشْتَرَى السُّلْطَانُ رَقِيقًا وَنَقَدَ ثَمَنَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ كَانَ الْمِلْكُ فِيهِ ثَابِتًا لِلْمُسْلِمِينَ

فصل ولا تعتق أم الولد إلا بموت سيدها

اسْتِحْقَاقًا أَوْ لِكَوْنِهِ لَا وَارِثَ لَهُ فَيُوضَعُ مَالُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَيْسَ مِيرَاثُهُ لِوَرَثَةِ السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِحُكْمِ الْمُلْكِ لَا بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَلَوْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ وَأَنْ يَكُونَ اشْتَرَاهُ لِلْمُسْلِمِينَ حَرُمَ فَإِنَّهُ شِرَاءٌ لِنَفْسِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَلَوْ عَرَفَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ حُكِمَ بِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُسْلِمِينَ لَا لَهُ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الشِّرَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ فَإِذَا اشْتَرَى بِمَالِهِمْ شَيْئًا كَانَ لَهُمْ دُونَهُ وَنِيَّةُ الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ بِمَالِهِمْ مُحَرَّمَةٌ فَتَلْغُو وَتَصِيرُ كَأَنَّ الْعَقْدَ عَرِيَ عَنْهَا. [فَصْلٌ وَلَا تَعْتِقُ أُمُّ الْوَلَدِ إلَّا بِمَوْتِ سَيِّدِهَا] فَصْلٌ وَلَا تَعْتِقُ أُمُّ الْوَلَدِ إلَّا بِمَوْتِ سَيِّدِهَا وَيَجُوزُ لِسَيِّدِهَا بَيْعُهَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَهَلْ لِلْخِلَافِ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا شُبْهَةٌ، فِيهِ نِزَاعٌ وَالْأَقْوَى أَنَّ لَهُ شُبْهَةً وَيَبْنِي عَلَيْهِ لَوْ وَطِئَ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ هَلْ يَلْحَقُهُ النَّسَبُ أَوْ يُرْجَمُ رَجْمَ الْمُحْصَنِ أَمَّا التَّعْزِيرُ فَوَاجِبٌ.

كتاب النكاح

[كِتَابُ النِّكَاحِ] ِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ لَيْسَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا هُوَ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] وَالنِّكَاحُ فِي الْآيَاتِ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ وَالنَّهْيُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا وَلَيْسَ لِلْأَبَوَيْنِ إلْزَامُ الْوَلَدِ بِنِكَاحِ مَنْ لَا يُرِيدُ فَلَا يَكُونُ عَاقًّا كَأَكْلِ مَا لَا يُرِيدُ وَيَحْرُمُ النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ إلَى النِّسَاءِ وَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ اسْتَحَلَّهُ كَفَرَ إجْمَاعًا وَيَحْرُمُ النَّظَرُ مَعَ وُجُودِ ثَوَرَانِ الشَّهْوَةِ وَهُوَ مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ. وَمَنْ كَرَّرَ النَّظَرَ إلَى الْأَمْرَدِ وَنَحْوِهِ وَقَالَ لَا أَنْظُرُ بِشَهْوَةٍ كَذَبَ فِي دَعْوَاهُ وَقَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْخَيْلِ وَالْبَهَائِمِ وَالْأَشْجَارِ عَلَى وَجْهِ اسْتِحْسَانِ الدُّنْيَا وَالرِّئَاسَةِ وَالْمَالِ فَهُوَ مَذْمُومٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه: 131] وَأَمَّا إنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُنْقِصُ الدِّينَ وَإِنَّمَا فِيهِ رَاحَةُ النَّفْسِ فَقَطْ كَالنَّظَرِ إلَى الْأَزْهَارِ فَهَذَا مِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْحَقِّ وَكُلُّ قِسْمٍ مَتَى كَانَ مَعَهُ شَهْوَةٌ كَانَ حَرَامًا بِلَا رَيْبٍ سَوَاءٌ كَانَتْ شَهْوَةَ تَمَتُّعٍ بِالنَّظَرِ أَوْ كَانَتْ شَهْوَةُ الْوَطْءِ وَاللَّمْسِ كَالنَّظَرِ وَأَوْلَى وَتَحْرُمُ الْخَلْوَةُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ وَلَوْ بِحَيَوَانٍ يَشْتَهِي الْمَرْأَةَ أَوْ تَشْتَهِيهِ كَالْقِرْدِ. وَذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَتَحْرُمُ الْخَلْوَةُ بِأَمْرَدَ غَيْرِ حَسَنٍ وَمُضَاجَعَتُهُ كَالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَلَوْ لِمَصْلَحَةِ التَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ، وَالْمُقِرُّ مُوَلِّيهِ عِنْدَ مَنْ يُعَاشِرُهُ لِذَلِكَ مَلْعُونٌ دَيُّوثٌ. وَمَنْ عُرِفَ بِمَحَبَّتِهِمْ أَوْ مُعَاشَرَةٍ بَيْنَهُمْ مُنِعَ مِنْ تَعْلِيمِهِمْ، وَإِنْ احْتَاجَ الْإِنْسَانُ إلَى النِّكَاحِ

فصل ما ينعقد به النكاح

وَخَشِيَ الْعَنَتَ بِتَرْكِهِ قَدَّمَهُ عَلَى الْحَجِّ الْوَاجِبِ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ قَدَّمَ الْحَجَّ وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَغَيْرِهِ وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ وَإِنْ كَانَتْ الْعِبَادَاتُ فَرْضَ كِفَايَةٍ كَالْعِلْمِ وَالْجِهَادِ قُدِّمَتْ عَلَى النِّكَاحِ إنْ لَمْ يَخْشَ الْعَنَتَ. قُلْت: وَمَا قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ظَاهِرٌ إنْ قُلْنَا: إنَّ النِّكَاحَ سُنَّةٌ وَأَمَّا إنْ قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا فَرْضَ كِفَايَةٍ كَمَا قَالَهُ أَبُو يَعْلَى الصَّغِيرُ وَابْنُ الْمُنَى فِي تَعْلِيقِهِمَا فَقَدْ تَعَارَضَ مَعَ فَرْضِ كِفَايَةٍ فَفِيهِ نَظَرٌ وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ النِّكَاحَ وَاجِبٌ قَدَّمَهُ لِأَنَّ فُرُوضَ الْأَعْيَانِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُبَاحُ التَّصْرِيحُ وَالتَّعْرِيضُ مِنْ صَاحِبِ الْعِدَّةِ فِيهَا إنْ كَانَا مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ التَّزْوِيجُ بِهَا فِي الْعِدَّةِ كَالْمُخْتَلِعَةِ فَأَمَّا إنْ كَانَا مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَالْمَزْنِيِّ بِهَا وَالْمَوْطُوءَةِ شُبْهَةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَالْمُعْتَدَّةُ بِاسْتِبْرَاءٍ كَأُمِّ الْوَلَدِ أَوْ مَاتَ سَيِّدُهَا أَوْ أَعْتَقَهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فِي حُكْمِ الْأَجْنَبِيَّةِ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَالْمُنْفَسِخِ نِكَاحُهَا بِرَضَاعٍ أَوْ لِعَانٍ فَيَجُوزُ التَّعْرِيضُ دُونَ التَّصْرِيحِ، وَالتَّعْرِيضُ أَنْوَاعٌ تَارَةً يَذْكُرُ صِفَاتِ نَفْسِهِ مِثْلُ مَا ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَتَارَةً يَذْكُرُ لَهَا صِفَاتِ نَفْسِهَا، وَتَارَةً يَذْكُرُهَا طَلَبًا لَا يُعَيِّنُهُ: كَرُبَّ رَاغِبٍ فِيك، وَطَالِبٍ لَك، وَتَارَةً يَذْكُرُ أَنَّهُ طَالِبٌ لِلنِّكَاحِ وَلَا يُعَيِّنُهَا، وَتَارَةً يَطْلُبُ مِنْهَا مَا يَحْتَمِلُ النِّكَاحَ، وَغَيْرَهُ كَقَوْلِهِ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ وَلَوْ خَطَبَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ وَلِيُّهَا الرَّجُلَ ابْتِدَاءً فَأَجَابَهُمَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجْعَلَ لِرَجُلٍ آخَرَ خِطْبَتَهَا إلَّا أَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْخَاطِبَ وَكَذَا لَوْ خَطَبَتْهُ أَوْ وَلِيُّهَا بَعْدَ أَنْ خَطَبَ هُوَ امْرَأَةً فَالْأَوَّلُ أَبْدَى لِلْخَاطِبِ وَالثَّانِي أَبْدَى لِلْمَخْطُوبِ. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ قَبْلَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ وَمَنْ خَطَبَ تَعْرِيضًا فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا فَلَا يَنْهَى غَيْرَهُ عَنْ الْخِطْبَةِ وَلَوْ أَذِنَتْ الْمَرْأَةُ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ احْتَمَلَ أَنْ يَحْرُمَ عَلَى غَيْرِهِ خِطْبَتُهَا كَمَا لَوْ خُطِبَتْ فَأَجَابَتْ وَاحْتُمِلَ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْطُبْهَا أَحَدٌ، كَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَهَذَا دَلِيلٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّ سُكُوتَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْخِطْبَةِ لَيْسَ بِإِجَابَةٍ بِحَالٍ. [فَصْلٌ مَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ] فَصْلٌ وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِمَا عَدَّهُ النَّاسُ نِكَاحًا بِأَيِّ لُغَةٍ وَلَفْظٍ وَفِعْلٍ كَانَ وَمِثْلُهُ كُلُّ عَقْدٍ وَالشَّرْطُ بَيْنَ النَّاسِ مَا عَدُّوهُ شَرْطًا.

نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي رَجُلٍ مَشَى إلَيْهِ قَوْمُهُ فَقَالُوا: زَوِّجْ فُلَانًا فَقَالَ: زَوَّجْته عَلَى أَلْفٍ فَرَجَعُوا إلَى الزَّوْجِ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ قَدْ قَبِلْت هَلْ يَكُونُ هَذَا نِكَاحًا قَالَ نَعَمْ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ هَذَا يُعْطِي أَنَّ النِّكَاحَ الْمَوْقُوفَ صَحِيحٌ. وَقَدْ أَحْسَنَ ابْنُ عَقِيلٍ فِيمَا قَالَهُ وَهُوَ طَرِيقَةُ أَبِي بَكْرٍ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ تَرَاخِيًا لِلْقَبُولِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي وَإِنَّمَا هُوَ تَرَاخٍ لِلْإِجَازَةِ وَمَسْأَلَةُ أَبِي طَالِبٍ وَكَلَامُ أَبِي بَكْرٍ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِ الْإِيجَابِ وَهَذَا أَحْسَنُ أَمَّا إذَا تَفَرَّقَا عَنْ مَجْلِسِ الْإِيجَابِ فَلَيْسَ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ وَأَبِي بَكْرٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْعَاقِدَ الْآخَرَ إنْ كَانَ حَاضِرًا اُعْتُبِرَ قَبُولُهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا جَازَ تَرَاخِي الْقَبُولِ عَنْ الْإِيجَابِ كَمَا قُلْنَا فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ مَعَ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا فِي الْوَكَالَةِ: إنَّهُ يَجُوزُ قَبُولُهَا عَلَى الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي وَإِنَّمَا الْوِلَايَةُ نَوْعٌ مِنْ جِنْسِ الْوَكَالَةِ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ فِي تَتِمَّةِ رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ الزَّوْجُ قَبِلْت صَحَّ إذَا حَضَرَ شَاهِدَانِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَهُوَ يَقْضِي بِأَنَّ إجَازَةَ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ إذَا قُلْنَا بِانْعِقَادِهِ تَفْتَقِرُ إلَى شَاهِدَيْنِ وَهُوَ مُسْتَقِيمٌ حَسَنٌ. وَصَرَّحَ الْأَصْحَابُ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْأَخْرَسِ إذَا فُهِمَتْ إشَارَتُهُ قَالَ فِي الْمُجَرَّدِ وَالْفُصُولِ يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَخْرَسِ لِنَفْسِهِ إذَا كَانَتْ لَهُ إشَارَةٌ تُفْهَمُ وَمَفْهُومُ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَخْرَسُ وَلِيًّا وَلَا وَكِيلًا فِي النِّكَاحِ وَهُوَ مُقْتَضٍ لَهُ تَعْلِيلُ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ لِأَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لَا وَكِيلًا وَهُوَ أَقْيَسُ وَالْجَدُّ كَالْأَبِ فِي الْإِجْبَارِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَلَيْسَ لِلْأَبِ إجْبَارُ بِنْتِ التِّسْعِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَرِضَا الثَّيِّبِ الْكَلَامُ وَالْبِكْرِ الصُّمَاتُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: بَعْدَ ذِكْرِهِ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ تُزَوَّجُ الْمُثَابَةُ بِالْجَبْرِ كَمَا تُزَوَّجُ الْبِكْرُ هَذَا قَوْلٌ قَوِيٌّ وَإِذَا تَعَذَّرَ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ النِّكَاحِ انْتَقَلَتْ الْوِلَايَةُ إلَى أَصْلَحِ مَنْ يُوجَدُ مِمَّنْ لَهُ نَوْعُ وِلَايَةٍ فِي غَيْرِ النِّكَاحِ كَرَئِيسِ الْقَرْيَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالدُّهْقَانِ وَأَمِيرِ الْقَافِلَةِ وَنَحْوِهِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ فِي الْبَلَدِ يَكُونُ فِيهِ الْوَالِي، وَلَيْسَ فِيهِ

قَاضٍ يُزَوِّجُ: إنَّ الْوَلِيَّ يَنْظُرُ فِي الْمَهْرِ وَإِنَّ أَمْرَهُ لَيْسَ مُفَوَّضًا إلَيْهَا وَحْدَهَا كَمَا أَنَّ أَمْرَ الْكُفْءِ لِكُفْءٍ لَيْسَ مُفَوَّضًا إلَيْهَا وَحْدَهَا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَصَالِحٍ وَأَبِي الْحَارِثِ عَنْ الْمَهْرِ لَا نَجِدُ فِيهِ حَدًّا هُوَ مَا تَرَاضَوْا عَلَيْهِ الْأَهْلُونَ، وَهُوَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الْأَهْلُونَ فِي النِّكَاحِ جَائِزٌ. وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ لِلْأَهْلِينَ نَظَرًا فِي الصَّدَاقِ وَلَوْ كَانَ أَمْرُهُ إلَيْهَا فَقَطْ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْأَهْلِينَ مَعْنًى وَتَزْوِيجُ الْأَيَامَى فَرْضُ كِفَايَةٍ إجْمَاعًا فَإِنْ أَبَاهُ حَاكِمٌ أَنْ لَا يَظْلِمَ كَطَلَبِهِ جُعْلًا لِتَسْتَحِقَّهُ صَارَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ وَيُزَوِّجُ وَصِيُّ الْمَالِ الصَّغِيرَ وَاشْتَرَطَ الْجَدُّ فِي الْمُحَرَّرِ فِي الْوَلِيِّ رُشْدًا وَالرُّشْدُ فِي الْوَلِيِّ هُنَا هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِالْكُفْءِ وَمَصَالِحُ النِّكَاحِ لَيْسَ حِفْظَ الْمَالِ وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَلِيَّ كُلُّ وَارِثٍ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيبٍ وَلِغَيْرِ الْعَصَبَةِ مِنْ الْأَقَارِبِ التَّزْوِيجُ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَةِ وَيُخَرَّجُ ذَلِكَ مِمَّا إذَا قَدَّمْنَا التَّوْرِيثَ لِذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى التَّوْرِيثِ بِالْوَلَاءِ. وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ يَهُودِيَّةً وَوَلِيُّهَا نَصْرَانِيٌّ أَوْ بِالْعَكْسِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ لِذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى التَّوْرِيثِ فِي تَوَارُثِهِمَا وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ عَلَيْهَا إذَا قُلْنَا تُقْبَلُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَكَذَلِكَ فِي وِلَايَةِ الْمَالِ وَالْعَقْلِ وَيُضَمُّ لِلْوَلِيِّ الْفَاسِقِ أَمِينٌ كَالْوَصِيِّ فِي رِوَايَةٍ، وَلَوْ قِيلَ: إنَّ الِابْنَ وَالْأَبَ سَوَاءٌ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ كَمَا إذَا أَوْصَى لِأَقْرَبِ قَرَابَتِهِ لَكَانَ مُتَوَجِّهًا وَيُتَخَرَّجُ لَنَا أَنَّ الِابْنَ أَوْلَى مِنْ الْأَبِ إذَا قُلْنَا الْأَخُ أَوْلَى مِنْ الْجَدِّ. وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُغَنِّي فِي تَعَالِيقِهِ فَقَالَ يُقَدَّمُ الِابْنُ عَلَى الْأَبِ عَلَى قَوْلٍ عِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وُجُودَ الْأَقْرَبِ فِي الْكُلِّ حَتَّى زَوَّجَ الْأَبْعَدُ فَقَدْ يُقَالُ بِطَرْدِ الْقَاعِدَةِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ النِّكَاحُ كَالْجَهْلِ الشَّرْعِيِّ مِثْلُ أَنْ يَعْتَقِدَ صِحَّةَ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ أَوْ بِالْوَلِيِّ الْأَبْعَدِ أَوْ بِلَا شُهُودٍ وَقَدْ يُقَالُ يَصِحُّ النِّكَاحُ. كَمَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الشُّهُودِ وَالْوَلِيِّ هُوَ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ عَلَى الصَّحِيحِ فَلَوْ ظَهَرَ فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُمْ كَانُوا فَاسِقِينَ وَقْتَ الْعَقْدِ فَفِيهِ وَجْهَانِ ثَابِتَانِ يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الْوَلِيَّ الْأَقْرَبَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ إذَا أَمْكَنَ فَأَمَّا تَعَذُّرُهُ فَيُسْقِطُهُ كَمَا لَوْ عَضَلَ أَوْ غَابَ وَبِهَذَا قَيَّدَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُ قَوْلَ الْجَمَاعَةِ إذَا زَوَّجَ الْأَبْعَدُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَقْرَبِ لَمْ يَصِحَّ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فَهُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ فَيَسْقُطُ بِعَدَمِ الْعِلْمِ كَمَا يَسْقُطُ بِالْبُعْدِ وَهَذَا إذَا لَمْ

يَنْتَسِبْ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ إلَى تَفْرِيطٍ وَمَعَ هَذَا لَوْ زُوِّجَتْ بِنْتُ الْمُلَاعِنِ ثُمَّ اسْتَلْحَقَهَا الْأَبُ فَلَوْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ لَكَانَ يَتَعَيَّنُ أَنْ لَا يَصِحَّ النِّكَاحُ وَهُوَ بَعِيدٌ بَلْ الصَّوَابُ أَنَّهُ يَصِحُّ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: لَا يَعْقِدُ نَصْرَانِيٌّ وَلَا يَهُودِيٌّ عُقْدَةَ نِكَاحٍ لِمُسْلِمٍ وَلَا مُسْلِمَةٍ وَلَا يَكُونَانِ وَلِيَّيْنِ بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا مُسْلِمًا وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُزَوِّجُ مُسْلِمَةً بِوِلَايَةٍ وَلَا وَكَالَةٍ وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا وِلَايَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى ابْنِهِ الْكَافِرِ مُتَوَلِّيًا لِنِكَاحٍ وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ بُطْلَانُ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى بُطْلَانِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي الْأَخَوَيْنِ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ فِي الْأَخَوَيْنِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ كِلَاهُمَا سَوَاءٌ إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ فِي ذَلِكَ إلَى الْفَضْلِ وَالرَّأْيِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ هَذَا لِأَنَّهُ أَثَرٌ لِلَّبْسِ هُنَا وَاعْتَبَرَهُ أَصْحَابُنَا. وَلَوْ زَوَّجَ الْمَرْأَةَ وَلِيَّانِ وَجُهِلَ أَسْبَقُ الْعَقْدَيْنِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا يَتَمَيَّزُ الْأَسْبَقُ بِالْقُرْعَةِ وَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ: إنَّ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ فَهِيَ زَوْجَتُهُ بِحَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا وَسُكْنَاهَا وَوَرِثَتْهُ لَكِنْ لَا يَطَأُ حَتَّى يُجَدِّدَ الْعَقْدَ لِحِلِّ الْوَطْءِ فَقَطْ هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَوْ يُقَالُ إنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِالزَّوْجِيَّةِ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ وَيَكُونُ التَّجْدِيدُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا كَمَا كَانَ الطَّلَاقُ وَاجِبًا عَلَى الْآخَرِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ يُفْسَخُ النِّكَاحَانِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُمَا يُطَلِّقَانِهَا فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ الطَّلَاقُ وَاقِعًا بِحَيْثُ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ وَلَوْ بِزَوْجِهَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِهِ فَإِنْ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ قَبْلَ الْفَسْخِ وَالطَّلَاقِ فَذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ احْتِمَالَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَحَدِهِمَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ وَرُبْعُ النَّفَقَةِ حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهَا وَالثَّانِي يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا فَمَنْ قَرَعَ حَلَفَ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ وَوَرِثَ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا يَخْرُجُ عَلَى الْمَذْهَبِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَا يَتَّفِقُ الْخَصْمَانِ وَأَمَّا الثَّانِي فَكَيْفَ يَحْلِفُ مَنْ قَالَ لَا: أَعْرِفُ الْحَالَ وَإِنَّمَا الْمَذْهَبُ عَلَى رِوَايَةِ أَنَّهُ قَرَعَ فَلَهُ الْمِيرَاثُ بِلَا يَمِينٍ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا لَا يُقْرِعُ فَإِذَا قُلْنَا: إنَّهَا تَأْخُذُ مِنْ أَحَدِهِمَا نِصْفَ الْمَهْرِ بِالْقُرْعَةِ فَكَذَلِكَ يَرِثُهَا أَحَدُهُمَا بِالْقُرْعَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا لَا مَهْرَ فَهُنَا قَدْ يُقَالُ بِالْقُرْعَةِ أَيْضًا. وَإِذَا قَالَ قَدْ جَعَلْت عِتْقَ أَمَتِي صَدَاقَهَا أَوْ قَدْ أَعْتَقْتهَا وَجَعَلْت عِتْقَهَا صَدَاقَهَا صَحَّ

بِذَلِكَ الْعِتْقُ وَالنِّكَاحُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَيُتَوَجَّهُ أَنْ لَا يَصِحَّ الْعِتْقُ إذَا قَالَ قَدْ جَعَلْت عِتْقَكِ صَدَاقَكِ فَلَمْ تَقْبَلْ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَصِرْ صَدَاقًا وَهُوَ لَمْ يُوقِعْ غَيْرَ ذَلِكَ وَيُتَوَجَّهُ أَنْ لَا يَصِحَّ، وَإِنْ قَبِلَتْ لِأَنَّ هَذَا الْقَبُولَ لَا يَصِيرُ بِهِ الْعِتْقُ صَدَاقًا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَا قَالَ وَيُتَوَجَّهُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهَا إنْ قَبِلَتْ صَارَتْ زَوْجَةً وَإِلَّا عَتَقَتْ مَجَّانًا أَوْ لَمْ تَعْتِقْ بِحَالٍ وَإِذَا قُلْنَا: إلْحَاقُ الشَّرْطِ لَا يُغَيِّرُ الطَّلَاقَ فَإِلْحَاقُ الْعَطْفِ فِي النِّكَاحِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَتَجِبُ قِيمَةُ نَفْسِهَا وَيَتَخَرَّجُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ أَوْ اعْتِبَارُ إذْنِهَا مِنْ عِتْقِهَا بِجَنْبِ حُرٍّ فَإِنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ لَهَا فِي رِوَايَةٍ. وَكَذَلِكَ إذَا عَتَقَا مَعًا فَإِذَا كَانَ حُدُوثُ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْعِتْقِ يَثْبُتُ الْفَسْخُ فَالْمُقَارِنَةُ أَوْلَى أَنْ تُثْبِتَ الْفَسْخَ وَلَوْ أَعْتَقَهَا وَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِهِ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ صِحَّتُهُ لِأَنَّهُمْ قَالُوا الْوَقْتُ الَّذِي جَعَلَ فِيهِ الْعِتْقَ صَدَاقًا كَانَ يَمْلِكُ إجْبَارَهَا فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ مَلَكَ بَعْضًا وَقْتَ حُرِّيَّتِهَا وَهَذَا لَا يُؤَثِّرُ كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْمُتَزَوِّجَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: إذَا قَالَ: زَوَّجْتُك هَذِهِ عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ صَحَّ وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ أَنَّهُ أَعْتَقَهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَيَكُونُ هُوَ الْمُصَدِّقَ لَهَا عَنْ الزَّوْجِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ السَّيِّدُ خَاصَّةً لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَهِيَ رَقِيقَةٌ وَعَلَى هَذَا فَسَوَاءٌ قَالَ أَعَتَقْتهَا وَزَوَّجْتهَا مِنْك أَوْ زَوَّجْتهَا مِنْك وَأَعْتَقْتهَا وَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْت أَمَتِي وَزَوَّجْتُكَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُهُ فَهُوَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَعْتَقْتهَا وَأَكْرَيْتُهَا مِنْك سَنَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِثْنَاءِ الْخِدْمَةِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَعْتِقُك عَلَى خِدْمَةِ سَنَةٍ وَلَوْ قَالَ عَتَقْتُكِ وَتَزَوَّجْتُكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ صَحَّ هَذَا النِّكَاحُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ الْعِتْقَ صَدَاقًا وَلَوْ قَالَ وَهَبْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ وَزَوَّجْتهَا مِنْ فُلَانٍ أَوْ وَهَبْتُك وَأَكْرَيْتُهَا مِنْ فُلَانٍ أَوْ بِعْتُكهَا وَزَوَّجْتهَا أَوْ أَكَرَيْتهَا مِنْ فُلَانٍ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ صِحَّتُهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى اسْتِثْنَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَحَاصِلُهُ. إنَّا كَمَا جَوَّزْنَا الْعِتْقَ وَالْوَقْفَ وَالْهِبَةَ وَالْبَيْعَ مَعَ اسْتِثْنَاءِ مَنْفَعَةِ الْخِدْمَةِ جَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ الْإِعْتَاقُ وَالْإِنْكَاحُ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ وَجَعَلْنَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْكَاحِ قَبْلَ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهَا حِينَ الْإِعْتَاقِ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ وَاَلَّذِي يَقْتَضِيه كَلَامُ أَحْمَدَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ لَيْسَ بِكُفْءٍ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ الْمَرْأَةَ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ وَلَا لِلزَّوْجِ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَلَا لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ وَأَنَّ الْكَفَاءَةَ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ الْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ مِثْلُ مَهْرِ الْمَرْأَةِ إنْ أَحَبَّتْ

باب المحرمات في النكاح

الْمَرْأَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ طَلَبُوهُ وَإِلَّا تَرَكُوهُ وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ يَنْبَغِي لَهُمْ اعْتِبَارُهُ وَإِنْ كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ تَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِمْ وَفَقْدُ النَّسَبِ وَالدِّينِ لَا يُقِرُّ مَعَهُمَا النِّكَاحَ بِغَيْرِ خِلَافٍ عَنْ أَحْمَدَ وَفَقْدُ الْجِزْيَةِ غَيْرُ مُبْطِلٍ بِغَيْرِ خِلَافٍ عَنْهُ بَلْ يَثْبُتُ بِهَا الْخِيَارُ بَعْدَ الْكَفَاءَةِ لِلْمَرْأَةِ أَوْ لِوَلِيِّهَا وَعَلَى هَذَا التَّرَاخِي فِي ظَاهِرٍ. فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ خِيَارُهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَى مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَأَمَّا الْأَوْلِيَاءُ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْقَوْلِ وَيَفْتَقِرُ الْفَسْخُ بِهِ إلَى حَاكِمٍ فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ كَالْفَسْخِ لِلْعُيُوبِ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ نَاقِصًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مِثْلُ أَنْ كَانَ دُونَهَا فِي النَّسَبِ فَرَضَوْا بِهِ ثُمَّ بَانَ فَاسِقًا وَهِيَ عَدْلٌ فِيهَا يَنْبَغِي ثُبُوتُ الْخِيَارِ كَمَا رَضِيَتْ بِهِ لِعِلَّةٍ مِثْلِ الْجُذَامِ فَظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ آخَرُ كَالْجُنُونِ وَالْعُنَّةِ، فَأَمَّا إنْ رَضَوْا بِفِسْقِهِ مِنْ وَجْهٍ فَبَانَ فَاسِقًا مِنْ آخَرَ مِثْلُ أَنْ ظَنُّوهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَظَهَرَ أَنَّهُ يَلُوطُ أَوْ يَشْهَدُ بِالزُّورِ أَوْ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَبَيَّضَ لِذَلِكَ أَبُو الْعَبَّاسِ. وَإِنْ حَدَثَتْ لَهُ الْكَفَاءَةُ مُقَارِنَةً بِأَنْ يَقُولَ سَيِّدُ الْعَبْدِ بَعْدَ إيجَابِ النِّكَاحِ لَهُ قَبِلْت لَهُ النِّكَاحَ وَأَعْتَقْته فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ صِحَّةُ ذَلِكَ وَتُخَرَّجُ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَلَى مَسْأَلَةِ إذَا أَعْتَقَهُمَا مَعًا وَعَلَى مَسْأَلَةِ أَعْتَقْتُك وَجَعَلْت عِتْقَك صَدَاقَك لَا رَيْبَ فِي أَنَّ النِّكَاحَ مَعَ الْإِعْلَانِ يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ شَاهِدَانِ مَعَ الْكِتْمَانِ وَالْإِشْهَادِ فَهَذَا بِمَا يُنْظَرُ فِيهِ وَإِذَا انْتَفَى الْإِشْهَادُ وَالْإِعْلَانُ فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ قُدِّرَ فِيهِ خِلَافٌ فَهُوَ قَلِيلٌ وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. [بَابُ الْمُحَرَّمَاتِ فِي النِّكَاحِ] ِ وَتُحَرَّمُ بِنْتُهُ مِنْ الزِّنَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي الرَّجُلِ يَزْنِي بِامْرَأَةٍ فَتَلِدُ مِنْهُ ابْنَةً فَيَتَزَوَّجُهَا فَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ وَقَالَ يَتَزَوَّجُ ابْنَتَهُ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ لَهُ الْخِلَافُ فَاعْتَقَدَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ إجْمَاعٌ أَوْ عَلَى أَنَّ هَذَا فِيمَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ وَلَا مُقَلِّدٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: كَلَامُ أَحْمَدَ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَوْجَبَ حَدَّ الْمُرْتَدِّ لِاسْتِحْلَالِ ذَلِكَ لَا حَدَّ الزِّنَى وَذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الْبَرَاءَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِحْلَالَ هَذَا كُفْرٌ عِنْدَهُ. قَالَ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ وَالشَّيْخُ فِي " الْمُغْنِي " يَكْفِي فِي التَّحْرِيمِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا بِنْتُهُ ظَاهِرًا وَإِنْ كَانَ النَّسَبُ لِغَيْرِهِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الشُّبْهَةَ تَكْفِي فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ: أَلَيْسَ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوْدَةَ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْ ابْنِ زَمْعَةَ؟ وَقَالَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» وَقَالَ: «إنَّمَا حَجَبَهَا لِلشَّيْءِ الَّذِي رَأَى بِعَيْنِهِ» . قَالَ الْقَاضِي: وَالْخَلْوَةُ إنْ تَجَرَّدَتْ عَنْ نَظَرٍ أَوْ مُبَاشَرَةٍ دُونَ الْفَرْجِ فَرِوَايَتَانِ قَالَ وَفِيمَا أُطْلِقَ الْقَوْلُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ إذَا خَلَا بِهَا وَجَبَ الصَّدَاقُ، وَالْعِدَّةُ وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا وَبِنْتَهَا وَلَا تَحِلُّ الْمَرْأَةُ لِأَبِيهِ وَابْنِهِ. قَالَ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ مَعَ الْخَلْوَةِ نَظَرًا أَوْ مُبَاشَرَةً فَيُخَرَّجُ كَلَامُهُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا الْخَلْوَةُ هُنَا إنْ اتَّصَلَتْ بِعَقْدِ النِّكَاحِ قَامَتْ مَقَامَ الْوَطْءِ، فَأَمَّا الْخَلْوَةُ بِالْأَمَةِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ فَلَا أَثَرَ لَهَا، وَسِحَاقُ النِّسَاءِ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ الْمَنْصُوصِ أَنَّهُ يُخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي مُبَاشَرَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ بِشَهْوَةٍ، وَيُحَرَّمُ بِنْتُ الرَّبِيبَةِ لِأَنَّهَا رَبِيبَةٌ وَبِنْتُ الرَّبِيبِ أَيْضًا نَصَّ عَلَيْهِمَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَلَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ نِزَاعًا وَتُحَرَّمُ زَوْجَةُ الرَّبِيبِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مُشَيْشٍ. وَكَذَا فِي الرَّبِيبِ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةَ رَابِّهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَبْنَاءِ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مَسْأَلَةِ التَّلَوُّطِ إنَّمَا هُوَ أَنَّ الْفَاعِلَ لَا يَتَزَوَّجُ بِنْتَ الْمَفْعُولِ وَكَذَلِكَ أُمُّهُ وَهَذَا قِيَاسٌ جَيِّدٌ، فَأَمَّا تَزَوُّجُ الْمَفْعُولِ بِأُمِّ الْفَاعِلِ وَابْنَتِهِ فَفِيهِ [خِلَافٌ] ، وَلَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا تَمَتَّعَ بِأَصْلٍ وَفَرْعٍ وَالْأَصْلُ أَنَّهُ

يَتَمَتَّعُ بِالرَّجُلِ أَصْلٌ وَفَرْعٌ أَوْ يَتَمَتَّعُ بِالْمَرْأَةِ أَصْلٌ وَفَرْعٌ وَهَذَا الْمَفْعُولُ بِهِ يَتَمَتَّعُ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ يَتَمَتَّعُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ وَالْوَطْءُ الْحَرَامُ لَا يُثِيرُ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ. وَاعْتَبَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فِي مَوْضِعٍ آخَرَ التَّوْبَةَ حَتَّى فِي اللِّوَاطِ وَيَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَقَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَقِيلَ لِأَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَمْلُوكَتَيْنِ أَتَقُولُ إنَّهُ حَرَامٌ؟ قَالَ: لَا أَقُولُ إنَّهُ حَرَامٌ وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْهُ قَالَ الْقَاضِي ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَمْ يَقُلْ لَيْسَ هَذَا حَرَامًا، وَإِنَّمَا قَالَ لَا أَقُولُ هُوَ حَرَامٌ وَكَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَقُولُوا هُوَ فَرْضٌ وَيَقُولُونَ يُؤْمَرُ بِهِ وَهَذَا الْأَدَبُ فِي الْفَتْوَى مَأْثُورٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَذَلِكَ إمَّا لِتَوَقُّفٍ فِي التَّحْرِيمِ أَوْ اسْتِهَابَةً لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ كَمَا يُسْتَهَبُ لَفْظُ الْفَرْضِ إلَّا فِيمَا عُلِمَ وُجُوبُهُ فَإِذَا كَانَ الْمُفْتِي يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ هُوَ فَرْضٌ إمَّا لِتَوَقُّفِهِ أَوْ لِكَوْنِ الْفَرْضِ مَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِالْقَاطِعِ أَوْ مَا بُيِّنَ وُجُوبُهُ فِي الْكِتَابِ فَكَذَلِكَ الْحَرَامُ وَأَمَّا أَنْ يُجْعَلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ بَلْ يُكْرَهُ فَهَذَا غَلَطٌ عَلَيْهِ وَمَأْخَذُهُ الْغَفْلَةُ عَنْ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ وَمَرَاتِبِ الْكَلَامِ وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي هَذَا فِي الْعِدَّةِ بِعَيْنِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْفَرْضِ هَلْ هُوَ أَعْلَى مِنْ الْوَاجِبِ وَذَكَرَ لَفْظَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَفْظَهُ فِي الْمِيقَاتِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا فَلَوْ وَطِئَ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ الْأُخْرَى حَتَّى يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ الْأُولَى بِإِخْرَاجٍ عَنْ مِلْكِهِ أَوْ تَزْوِيجٍ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَلَا يَكْفِي فِي إبَاحَتِهَا مُجَرَّدُ إزَالَةِ الْمِلْكِ حَتَّى تَمْضِيَ حَيْضَةَ الِاسْتِبْرَاءِ وَتَنْقَضِيَ فَتَكُونَ الْحَيْضَةُ كَالْعِدَّةِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَلَيْسَ هَذَا الْقَيْدُ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ وَجَمَاعَةِ الْأَصْحَابِ، وَلَيْسَ هُوَ فِي كَلَامِ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ مَعَ أَنَّ عَلِيًّا لَا يُجَوِّزُ وَطْءَ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا وَلَوْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ بَعْضِهَا كَفَى وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا، فَإِنْ حَرَّمَ إحْدَاهُمَا بِنَقْلِ الْمِلْكِ فِيهَا عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ اسْتِرْجَاعُهُ مِثْلُ أَنْ يَهَبَهُمَا لِوَلَدِهِ أَوْ يَبِيعَهَا بِشَرْطٍ. فَقَدْ ذَكَرَ الْجَدُّ الْأَعْلَى فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَجْهَيْنِ، فَإِنْ أَخْرَجَ الْمِلْكَ لَازِمًا ثُمَّ عَرَضَ لَهُ الْمُبِيحُ لِلْفَسْخِ أَنْ يَبِيعَهَا سِلْعَةً فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ مَبِيعَةً أَوْ يُفْلِسَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ أَوْ يَظْهَرَ فِي الْعِوَضِ تَدْلِيسٌ أَوْ يَكُونَ مَغْبُونًا فَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَالَ فِي

هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَنَّهُ يُبَاحُ وَطْءُ الْأُخْتِ بِكُلِّ حَالٍ عَلَى عُمُومِ كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَالْبَيْعُ وَالْهِبَةُ يُوجِبَانِ التَّفْرِيقَ بَيْنَ ذَوِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ بَيْنَ الصِّغَارِ، وَفِي جَوَازِهِ بَيْنَ الْكِبَارِ رِوَايَتَانِ. وَقَدْ أَطْلَقَ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ وَالْفُقَهَاءُ أَحْمَدَ وَغَيْرُهُ أَنْ يَبِيعَهَا أَوْ يَهَبَهَا مَعَ أَنَّ عَلِيًّا هُوَ الَّذِي رَوَى النَّهْيَ عَنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِهَذَا الْأَصْلِ فَإِنْ بَنَى عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ رِوَايَةً وَاحِدَةً قَبْلَ الْبُلُوغِ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْعِتْقُ أَوْ التَّزْوِيجُ وَفِي جَوَازِهِمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ رِوَايَتَانِ أَوْ يَجُوزُ لَهُ التَّفْرِيقُ هُنَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ الْجَمْعُ فِي النِّكَاحِ وَيَحْرُمُ التَّفْرِيقُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا. وَكَلَامُ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ بِعُمُومِهِ يَقْتَضِي هَذَا وَلَوْ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنْهَا بِغَيْرِ الْعِتْقِ مِثْلُ أَنْ يَبِيعَهَا أَوْ يَهَبَهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا فِي مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ إلَّا أَنَّ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ عَلَى تَزَوُّجِهِ بِأُخْتِهَا مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ لِإِمْكَانِ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُشْتَرِي وَالْمُتَّهَبُ وَلَدَهَا بِخِلَافِ الْمُعْتَقَةِ، وَشُبْهَةُ الْمِلْكِ حَقِيقَةٌ لَا كَالنِّكَاحِ فَعَلَى هَذَا إذَا وَطِئَ أَمَةً بِشُبْهَةِ مِلْكٍ فَفِي تَزَوُّجِ أُخْتِهَا فِي مُدَّةِ اسْتِبْرَائِهَا مَا فِي تَزَوُّجِ أُخْتِهَا الْمُسْتَبْرَأَةِ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهَا. وَمَنْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ حَرُمَ نِكَاحُهَا عَلَى غَيْرِ الْوَاطِئِ فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ لَا عَلَيْهِ فِيهَا إنْ لَمْ تَكُنْ لَزِمَتْهَا عِدَّةٌ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ وَاخْتَارَهَا الْمَقْدِسِيُّ وَلِلْأَبِ تَزْوِيجُ ابْنَتِهِ فِي عِدَّةِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَتَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ لَا يَثْبُتُ بِالرَّضَاعِ فَلَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ نِكَاحُ أُمِّ زَوْجَتِهِ وَابْنَتِهَا مِنْ الرَّضَاعِ وَلَا عَلَى الْمَرْأَةِ نِكَاحُ أَبِي زَوْجِهَا وَأُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُغْنِي إذَا تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ وَدَخَلَ بِهِمَا ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَتَا مَعَهُ فَاخْتَارَ إحْدَاهُمَا لَمْ يَطَأْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ أُخْتِهَا لِئَلَّا يَكُونَ وَاطِئًا لِإِحْدَى الْأُخْتَيْنِ فِي عِدَّةِ الْأُخْرَى. وَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ قَدْ دَخَلَ بِهِنَّ فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ وَكُنَّ ثَمَانِيًا

فَاخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ وَفَارَقَ أَرْبَعًا لَمْ يَطَأْ وَاحِدَةً مِنْ الْمُخْتَارَاتِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْمُفَارَقَات لِئَلَّا يَكُونَ وَاطِئًا لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ فَإِنْ كُنَّ خَمْسًا فَفَارَقَ إحْدَاهُنَّ لَمْ يَطَأْ وَاحِدَةً مِنْ الْمُخْتَارَاتِ قَالُوا هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ فَإِنَّ ظَاهِرَ السُّنَّةِ يُخَالِفُ ذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا هَذَا الشَّرْطَ وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا وَتَأَمَّلْت كَلَامَ أَحْمَدَ وَعَامَّةِ أَصْحَابِنَا فَوَجَدْتُهُمْ قَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ يُمْسِكُ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا وَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِي جَوَازِ وَطْئِهِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ لَا فِي جَمْعِ الرَّهْمِ وَلَوْ كَانَ لِهَذَا أَصْلٌ عِنْدَهُمْ لَمْ يُغْفِلُوهُ فَإِنَّهُمْ دَائِمًا فِي مِثْلِ هَذَا يُنَبِّهُونَ عَلَى اعْتِزَالِ الزَّوْجَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا إذَا وَطِئَ أُخْتَ امْرَأَتِهِ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ زَنَى بِهَا وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ الْعِدَّةَ تَابِعَةٌ لِنِكَاحِهَا وَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْ جَمِيعِ نِكَاحِهَا فَكَذَلِكَ يَعْفُو عَنْ تَوَابِعِ ذَلِكَ النِّكَاحِ لَكِنْ قِيَاسُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ سُرِّيَّتَانِ أُخْتَانِ فَحَرَّمَ وَاحِدَةً عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ جَازَ وَطْءُ الْأُخْرَى قَبْلَ اسْتِبْرَاءِ تِلْكَ فَأَمَّا لَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ وَتَحْرِيرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْعِدَّةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَلَا يَجُوزُ تَزَوُّجُ أُخْتِهَا وَلَا وَطْؤُهَا بِمِلْكٍ وَإِنْ كَانَ مِلْكَ يَمِينٍ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَلَا تُوطَأُ بِنِكَاحٍ وَلَا بِمِلْكِ يَمِينٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَلَا يَجُوزُ فِي عِدَّةِ النِّكَاحِ تَزَوُّجُ أَرْبَعٍ سِوَاهَا قَوْلًا وَاحِدًا وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ مِلْكِ الْيَمِينِ وَإِنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ شِبْهِ نِكَاحٍ فَهِيَ كَحَقِيقَةِ النِّكَاحِ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذَاهِبِ وَإِنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ شُبْهَةِ مِلْكٍ فَإِنَّمَا الْوَاجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ وَذَلِكَ لَا يَزِيدُ عَلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ. وَتَحْرُمُ الزَّانِيَةُ حَتَّى تَتُوبَ وَتَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَصِفَةُ تَوْبَتِهَا أَنْ يُرَاوِدَهَا عَنْ نَفْسِهَا فَإِنْ أَجَابَتْ لَمْ تَتُبْ وَإِنْ لَمْ تُجِبْهُ فَقَدْ تَابَتْ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْصُوصِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ أَرَادَ مُخَالَطَةَ إنْسَانٍ اتَّهَمَهُ حَتَّى يَعْرِفَ بِرَّهُ وَفُجُورَهُ أَوْ تَوْبَتَهُ وَيَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ مَنْ يَعْرِفُهُ وَيُمْنَعُ الزَّانِي مِنْ تَزْوِيجِ الْعَفِيفَةِ حَتَّى يَتُوبَ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: بَعْدَ أَنْ حَكَى عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ وَقَدْ زَنَى قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا

وَيُؤَيِّدُ هَذَا مِنْ أَصْلِنَا أَنَّهُ يُعْضِلُ الزَّانِيَةَ لِتَخْتَلِعَ مِنْهُ وَأَنَّ الْكَفَاءَةَ إذَا زَالَتْ فِي أَثْنَاءِ الْعَقْدِ فَإِنَّ لَهَا الْفَسْخَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَزْنِي لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ بَلْ يُفَارِقُهَا وَإِلَّا كَانَ دَيُّوثًا وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَامَّةً يَقْتَضِي تَحْرِيمَ التَّزْوِيجِ بِالْحَرْبِيَّاتِ وَلَهُ فِيمَا إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ رِوَايَتَانِ، وَالْمَنْعُ مِنْ النِّكَاحِ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ عَامٌّ فِي الْمُسْلِمَةِ وَالْكَافِرَةِ وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمُرْتَدُّ كَافِرَةً مُرْتَدَّةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا أَوْ تَزَوَّجَ الْمُرْتَدَّةَ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَا فَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ هُنَا أَنَّا نُقِرُّهُمْ عَلَى نِكَاحِهِمْ أَوْ مُنَاكَحَتِهِمْ كَالْحَرْبِيِّ إذَا نَكَحَ نِكَاحًا فَاسِدًا ثُمَّ أَسْلَمَا فَإِنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهَذَا جَيِّدٌ فِي الْقِيَاسِ إذَا قُلْنَا: إنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُؤْمِنُ بِفِعْلِ مَا تَرَكَهُ فِي الرِّدَّةِ مِنْ الْعِبَادَاتِ لَكِنْ طَرْدُهُ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ عَلَى مَا ارْتَكَبَهُ فِي الرِّدَّةِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَفِيهِ خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ وَإِنْ كَانَ الْمَنْصُوصُ أَنَّهُ يُحَدُّ فَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ يُؤْمِنُ بِقَضَاءِ مَا تَرَكَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَيَضْمَنُ وَيُعَاقَبُ عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَفِيهِ نَظَرٌ وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ عُقُودِ الْمُرْتَدِّينَ إذَا أَسْلَمُوا قَبْلَ التَّقَابُضِ أَوْ بَعْدَهُ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَدْخُلُ فِيهِ خَمْسَةُ أَحْكَامٍ: أَهْلُ الشِّرْكِ فِي النِّكَاحِ وَتَوَابِعِهِ، وَالْأَمْوَالِ وَتَوَابِعِهَا أَوْ تَمَالَئُوا عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ أَوْ تَقَاسَمُوا مِيرَاثًا ثُمَّ أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَالدِّمَاءِ وَتَوَابِعِهَا وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ فَإِنْ كَانَ الْحُرُّ كِتَابِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ الْكِتَابِيَّةَ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: مَفْهُومُ كَلَامِ الْجَدِّ أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْكَافِرِ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ وَتُبَاحُ الْأَمَةُ لِوَاجِدِ الطَّوْلِ غَيْرِ خَائِفِ الْعَنَتِ إذَا شَرَطَ عَلَى السَّيِّدِ عِتْقَ كُلِّ مَنْ يُولَدُ مِنْهَا وَهُوَ مَذْهَبُ اللَّيْثِ لِامْتِنَاعِ مَفْسَدَةِ إرْقَاقِ وَلَدِهِ وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً كِتَابِيَّةً شَرَطَ لَهُ عِتْقَ وَلَدِهَا مِنْهُ وَالْآيَةُ إنَّمَا دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ غَيْرِ الْمُؤْمِنَاتِ بِالْمَفْهُومِ وَلَا عُمُومَ لَهُ بَلْ يُصَدَّقُ بِصُورَةٍ وَلَوْ خَشِيَ الْقَادِرُ عَلَى الطَّوْلِ عَلَى نَفْسِهِ الزِّنَا بِأَمَةِ غَيْرِهِ لِمَحَبَّتِهِ لَهَا وَلَمْ يَبْذُلْهَا سَيِّدُهَا لَهُ بِمِلْكٍ أُبِيحَ لَهُ نِكَاحُهَا. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَلَوْ تَزَوَّجَ الْأَمَةَ فِي عِدَّةِ الْحُرَّةِ جَازَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا إذَا كَانَتْ الْعِدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ وَكَانَ خَائِفًا لَلَعَنَتْ عَادِمًا لِطَوْلِ حُرَّةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ لَيْسَتْ هِيَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحُرَّةِ وَيَخْرُجُ الْمَنْعُ إذَا مَنَعْنَا مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ خَرَّجَ الْجَدُّ فِي الشَّرْحِ. ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ الزَّوْجَ إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ انْفَسَخَ النِّكَاحُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ لِلْعِتْقِ فَأَعْتَقَهَا حِينَ مَلَكَهَا فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا

باب الشروط والعيوب في النكاح

وَهَذَا قَوِيٌّ فِيمَا إذَا قَالَ إذَا مَلَكْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ وَصَحَّحْنَا الصِّفَةَ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَهَا فَالْمِلْكُ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ لَا تُنَافِيه وَإِنَّمَا التَّنَافِي أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَتُهُ زَوْجَتَهُ فَإِذَا زَالَ الْمِلْكُ عَقِبَ ثُبُوتِهِ لَمْ يُجَامِعْ النِّكَاحَ فَلَا يُبْطِلُهُ لِأَنَّهُ حِينَ زَالَ كَانَ يَنْبَغِي زَوَالُ النِّكَاحِ، وَالْمِلْكُ فِي حَالِ زَوَالِهِ لَا ثُبُوتَ لَهُ وَهَذَا الَّذِي لَحَظَهُ الْحَسَنُ فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَاهَا لِيُعْتِقَهَا فَأَعْتَقَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْمِلْكِ قُوَّةٌ تَفْسَخُ النِّكَاحَ وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ أَنَّ حُدُوثَ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَإِذَا لَمْ يَدُمْ تَغَيُّرُ الدِّينِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا فَكَذَلِكَ هُنَا إذْ النِّكَاحُ يَقَعُ سَابِقًا وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الْعِتْقُ حَصَلَ بَعْدَ الْمِلْكِ هَاهُنَا لَمْ يَتَقَدَّمْ الِانْفِسَاخُ عَلَى الْعِتْقِ وَيُكْرَهُ نِكَاحُ الْحَرَائِرِ الْكِتَابِيَّاتِ مَعَ وُجُودِ الْحَرَائِرِ الْمُسْلِمَاتِ قَالَهُ الْقَاضِي وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ ذَبَّاحِينَ مَعَ كَثْرَةِ ذَبَّاحِينَ مُسْلِمِينَ وَلَكِنْ لَا يَحْرُمُ وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ حُرِّمَتْ عَلَى الْقَاتِلِ مَعَ حِلِّهَا لِغَيْرِهِ وَلَوْ جَبَرَ امْرَأَتَهُ عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى طَلَّقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَجَبَ أَنْ يُعَاقَبَ هَذَا عُقُوبَةً بَلِيغَةً وَهَذَا النِّكَاحُ بَاطِلٌ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا وَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ هَذَا الظَّالِمِ الْمُعْتَدِي وَبَيْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الظَّالِمَةِ وَإِذَا أَحَبَّ امْرَأَةً فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتَزَوَّجْهَا وَتَصَدَّقَ بِمَهْرِهَا وَطَلَبَهَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ تَكُونَ لَهُ زَوْجَةً فِي الْآخِرَةِ رُجِيَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَحْرُمُ فِي الْآخِرَةِ مَا يَحْرُمُ فِي الدُّنْيَا مِنْ التَّزْوِيجِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبِنْتِهَا. [بَابُ الشُّرُوطِ وَالْعُيُوبِ فِي النِّكَاحِ] ِ إذَا شَرَطَ الزَّوْجُ لِلزَّوْجَةِ فِي الْعَقْدِ أَوْ اتَّفَقَا قَبْلَهُ أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ دِيَارِهَا أَوْ بَلَدِهَا أَوْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ لَا يَتَسَرَّى أَوْ إنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا فَلَهَا تَطْلِيقُهَا صَحَّ الشَّرْطُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَلَوْ خَدَعَهَا فَسَافَرَ بِهَا ثُمَّ كَرِهَتْهُ لَمْ يُكْرِهْهَا وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ يَتَسَرَّى وَقَدْ شَرَطَ لَهَا عَدَمَ ذَلِكَ فَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ إطْلَاقِ أَصْحَابِنَا جَوَازُهُ بِدُونِ إذْنِهَا لِكَوْنِهِمْ إنَّمَا ذَكَرُوا أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْمَنْعِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَمَا أَظُنُّهُمْ قَصَدُوا ذَلِكَ، وَظَاهِرُ الْأَثَرِ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي مَنْعَهُ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَبْلَ أَنْ تَفْسَخَ طَلَّقَ أَوْ بَاعَ فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الْفَسْخَ وَأَمَّا إنْ شَرَطَ إنْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ أَوْ سُرِّيَّةٌ فَصَدَاقُهَا أَلْفَانِ ثُمَّ طَلَّقَ

الزَّوْجَةَ أَوْ أَعْتَقَ السُّرِّيَّةَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ أَنْ تُطَالِبَهُ فَفِي إعْطَائِهَا ذَلِكَ نَظَرٌ وَمَنْ شَرَطَ لَهَا أَنْ يُسْكِنَهَا مَنْزِلَ أَبِيهِ فَسَكَنَتْ ثُمَّ طَلَبَتْ سُكْنَى مُنْفَرِدَةً وَهُوَ عَاجِزٌ لَمْ يَلْزَمْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ بَلْ لَوْ كَانَ قَادِرًا فَلَيْسَ لَهَا عِنْدَ مَالِكٍ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ غَيْرُ مَا شَرَطَ لَهَا. وَعَلَيْهِ بُطْلَانُ نِكَاحِ الشِّغَارِ مِنْ اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْمَهْرِ فَإِنْ سَمَّوْا مَهْرًا صَحَّ وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ شَرْطٌ لَازِمٌ لِأَنَّهُ شَرْطٌ اسْتَحَلَّ بِهِ الْفَرْجَ وَلَوْلَا لُزُومُهُ لَمْ يَكُ قَوْلُ الْمُجِيبِ وَالْقَابِلِ مُصَحِّحًا لِنِكَاحِ الْأَوَّلِ وَإِنْ شَرَطَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا فِيهِ خِيَارًا صَحَّ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ وَإِنْ شَرَطَهَا بِكْرًا أَوْ جَمِيلَةً أَوْ ثَيِّبًا فَبَانَتْ بِخِلَافِهِ مَلَكَ الْفَسْخَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَقَوْلُ مَالِكٍ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهَا أَنْ تُحَافِظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَوْ تَلْزَمَ الصِّدْقَ وَالْأَمَانَةَ فِيمَا بَعْدَ الْعَقْدِ فَتَرَكَتْهُ فِيمَا بَعْدُ مَلَكَ الْفَسْخَ كَمَا لَوْ شَرَطَتْ عَلَيْهِ تَرْكَ التَّسَرِّي فَتَسَرَّى فَيَكُونَ فَوَاتُ الصِّفَةِ إمَّا مُقَارِنًا وَإِمَّا حَادِثًا كَمَا أَنَّ الْعَنَتَ إمَّا مُقَارِنٌ أَوْ حَادِثٌ. وَقَدْ يَتَخَرَّجُ فِي فَوَاتِ الصِّفَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَوْلَانِ كَمَا فِي فَوَاتِ الْكَفَاءَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَحُدُوثِ الْعَنَتِ لَكِنَّ الْمَشْرُوطَ هُنَا فِعْلٌ تُحْدِثُهُ أَوْ تَرْكُهَا فِعْلًا لَيْسَ هُوَ صِفَةً ثَابِتَةً لَهَا وَلَوْ شَرَطَتْ مَقَامَ وَلَدِهَا عِنْدَهَا وَنَفَقَتَهُ عَلَى الزَّوْجِ فَهُوَ مِثْلُ اشْتِرَاطِ الزِّيَادَةِ فِي الصَّدَاقِ وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ كَالْأَجِيرِ بِطَعَامِهِ وَكُسْوَتِهِ وَلَوْ شَرَطَتْ أَنَّهُ يَطَؤُهَا فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ مِنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْأَمَةِ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ أَهْلُهَا أَنْ تَخْدُمَهُمْ نَهَارًا وَيُرْسِلُوهَا لَيْلًا يُتَوَجَّهُ مِنْهُ صِحَّةُ هَذَا الشَّرْطِ إنْ كَانَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهَا بِالنَّهَارِ عَمَلٌ فَتَشْتَرِطَ أَنْ لَا يَسْتَمْتِعَ بِهَا إلَّا لَيْلًا وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَشَرْطُ عَدَمِ النَّفَقَةِ فَاسِدٌ وَيُتَوَجَّهُ صِحَّتُهُ لَا سِيَّمَا إذَا قُلْنَا: إنَّهُ إذَا أَعْسَرَ الزَّوْجُ وَرَضِيَتْ الزَّوْجَةُ بِهِ لَمْ تَمْلِكْ الْمُطَالَبَةَ بَعْدُ وَإِذَا شَرَطَتْ أَنْ لَا تُسَلِّمَ نَفْسَهَا إلَّا فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ نَظِيرُ تَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ صِحَّتُهُ وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَلَوْ شَرَطَتْ زِيَادَةً فِي النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ وُجُوبُ الزِّيَادَةِ. وَكَذَلِكَ إذَا شَرَطَتْ زِيَادَةً عَلَى الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ مِثْلُ أَنْ تَشْتَرِطَ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْوَطْءَ إلَّا شَهْرًا أَوْ أَنْ لَا يُسَافِرَ عَنْهَا أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ فَإِنَّ أَصْحَابَنَا

الْقَاضِيَ وَغَيْرَهُ قَالَ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّهَا شَرَطَتْ عَلَيْهِ شَرْطًا لَا يَمْنَعُ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَلَهَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَيَلْزَمُ الزَّوْجَ الْوَفَاءُ بِهِ كَمَا لَوْ شَرَطَتْ مِنْ غَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَهَذَا التَّعْلِيلُ يَقْتَضِي صِحَّةَ كُلِّ شَرْطٍ لَهَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَلَا يَمْنَعُ مَقْصُودَ النِّكَاحِ وَلَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ وَنِيَّةُ ذَلِكَ كَشَرْطِهِ وَأَمَانِيه الِاسْتِمْتَاعُ وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. وَمَنْ نِيَّتُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي وَقْتٍ أَوْ عِنْدَ سَفَرِهِ فَلَمْ يَذْكُرْهَا الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَلَا الْجَامِعِ وَلَا ذَكَرَهَا أَبُو الْخَطَّابِ. وَذَكَرَهَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ وَقَالَ النِّكَاحُ صَحِيحٌ لَا بَأْسَ بِهِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ إلَّا الْأَوْزَاعِيَّ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا ذَكَرَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ تَصْرِيحًا إلَّا أَبَا مُحَمَّدٍ وَأَمَّا الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ فَسَوَّى بَيْنَ نِيَّتِهِ عَلَى طَلَاقِهَا فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ وَبَيْنَ التَّحْلِيلِ وَكَذَلِكَ الْجَدُّ وَأَصْحَابُ الْخِلَافِ وَإِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ الثَّانِي أَنَّهُ نَوَى التَّحْلِيلَ أَوْ الِاسْتِمْتَاعَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ فِي بُطْلَانِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ إلَّا أَنْ تُصَدِّقَهُ أَوْ تَقُومَ بَيِّنَةُ إقْرَارٍ عَلَى التَّوَاطُؤِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَتَحِلُّ فِي الظَّاهِرِ بِهَذَا النِّكَاحِ إلَّا أَنْ يُصَدَّقَ عَلَى إفْسَادِهِ فَأَمَّا إنْ كَانَ الزَّوْجُ الثَّانِي مِمَّنْ يُعْرَفُ بِالتَّحْلِيلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَقَدُّمِ اشْتِرَاطِهِ إلَّا أَنْ يُصَرِّحَ لَهُ قَبْلَ الْعَقْدِ بِأَنَّهُ نِكَاحُ رَغْبَةٍ. وَأَمَّا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُ الزَّوْجِ الثَّانِي حُرِّمَتْ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ تَقَدَّمَ شَرْطٌ عُرْفِيٌّ أَوْ لَفْظِيٌّ بِنِكَاحِ التَّحْلِيلِ وَادَّعَى أَنَّهُ قَصَدَ إلَى نِكَاحِ الرَّغْبَةِ قُبِلَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ إنْ صَحَّحْنَا هَذَا الْعَقْدَ وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ ادَّعَاهُ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ فَفِيهِ نَظَرٌ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ خِلَافُهُ وَلَوْ صُدِّقَتْ الزَّوْجَةُ أَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِيَ كَانَ فَاسِدًا فَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ لِاعْتِرَافِهَا بِالتَّحْرِيمِ عَلَيْهِ. وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ بِأَمَةٍ حُرٌّ بِفِدْيَةِ وَالِدَةٍ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ ضَمَانُ جِنَايَةٍ مَحْضَةٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ضَمَانَ جِنَايَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ بِحَالٍ لِانْتِفَاءِ كَوْنِهِ ضَمَانَ عَقْدٍ أَوْ ضَمَانَ يَدٍ فَيُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ ضَمَانَ إتْلَافٍ أَوْ مَنْعٍ لِمَا كَانَ يَنْعَقِدُ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ كَضَمَانِ الْجَنِينِ وَفَارَقَ مَا لَوْ اسْتَدَانَ الْعَبْدُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ قَبَضَ الْمَالَ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ وَهُنَا قَبَضَ مَالِيَّةَ الْأَوْلَادِ بِدُونِ إذْنِ السَّيِّدِ فَهِيَ جِنَايَةٌ مَحْضَةٌ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي نِكَاحِ حُرَّةٍ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي الْإِتْلَافِ أَوْ الِاسْتِدَانَةِ عَلَى رِوَايَةٍ.

فصل في العيوب المثبتة للفسخ

[فَصْلٌ فِي الْعُيُوبِ الْمُثْبَتَةِ لِلْفَسْخِ] فَصْلٌ فِي الْعُيُوبِ الْمُثْبَتَةِ لِلْفَسْخِ وَالِاسْتِحَاضَةُ عَيْبٌ يَثْبُتُ بِهِ فَسْخُ النِّكَاحِ فِي أَظْهَرْ الْوَجْهَيْنِ وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا أَوْ بِهِ جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ فَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي فِي الرَّضَاعِ تَقْتَضِي أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ فِي الْحَالِ وَلَا يَنْتَظِرُ وَقْتَ إمْكَانِ الْوَطْءِ وَعَلَى قِيَاسِهِ الزَّوْجَةُ إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ عَقْلَاءَ أَوْ قَرْنَاءَ وَيُتَوَجَّهُ أَنْ لَا فَسْخَ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ إمْكَانِ الْوَطْءِ فِي الْحَالِ وَإِذَا لَمْ يُقِرَّ بِالْعُنَّةِ وَلَمْ يُنْكِرْ أَوْ قَالَ لَسْت أَدْرِي أَعِنِّينٌ أَنَا أَمْ لَا. فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ أَنْكَرَ الْعُنَّةَ وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَإِنَّ النُّكُولَ عَنْ الْجَوَابِ كَالنُّكُولِ عَنْ الْيَمِينِ فَإِنْ قُلْنَا يُحْبَسُ النَّاكِلُ عَنْ الْجَوَابِ فَالتَّأْجِيلُ أَيْسَرُ مِنْ الْحَبْسِ وَلَوْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِيمَا إذَا ادَّعَى الْوَطْءَ قَبْلَ التَّأْجِيلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَجَّلَ هُنَا كَمَا لَوْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِي الْعُنَّةِ، وَالسُّنَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي التَّأْجِيلِ هِيَ الْهِلَالِيَّةُ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ لَكِنَّ تَعْلِيلَهُمْ بِالْفُصُولِ يُوهِمُ خِلَافَ ذَلِكَ لَكِنْ مَا بَيْنَهُمَا مُتَقَارِبٌ وَيُتَخَرَّجُ إذَا عَلِمَتْ بِعُنَّتِهِ أَوْ اخْتَارَتْ الْمَقَامَ مَعَهُ عَلَى عُسْرَتِهِ هَلْ لَهَا الْفَسْخُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَلَوْ خَرَجَ هَذَا فِي جَمِيعِ الْعُيُوبِ لَتَوَجَّهَ وَتُرَدُّ الْمَرْأَةُ بِكُلِّ عَيْبٍ يُنَفِّرُ عَنْ كَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ وَلَوْ بَانَ الزَّوْجُ عَقِيمًا فَقِيَاسُ قَوْلِنَا بِثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمَرْأَةِ أَنَّ لَهَا حَقًّا فِي الْوَلَدِ وَلِهَذَا قُلْنَا لَا يُعْزَلُ عَنْ الْحُرَّةِ إلَّا بِإِذْنِهَا وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِيه. وَرُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا وَتَعْلِيلُ أَصْحَابِنَا تَوَقُّفُ الْفَسْخِ عَلَى الْحَاكِمِ بِاخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ كُلُّ خِيَارٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ قَوْمُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْحَاكِمِ فَخِيَارُ الْمُعْتَقَةِ يَجِبُ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَخِيَارُهَا بَعْدَ الثَّلَاثِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُمَا لَا يَتَوَقَّفَانِ عَلَى الْحَاكِمِ ثُمَّ خِيَارُ امْرَأَةِ الْمَجْبُوبِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْعُيُوبِ الَّتِي قَالَ: لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْحَاكِمِ وَلَا لِمَا يَعْنِي الِاعْتِذَارَ فَإِنَّ أَصْلَ خِيَارِ الْعَنَتِ الشَّرْطُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بِخِلَافِ أَصْلِ خِيَارِ الْمُعْتَقَةِ لِأَنَّ أَصْلَ خِيَارِ الْعَيْبِ ثُمَّ خِيَارَاتُ الْبَيْعِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْحَاكِمِ مَعَ الِاخْتِلَافِ وَالْوَاجِبُ أَوَّلًا التَّفْرِيقُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ ثُمَّ لَوْ عَلَّلَ بِخَفَاءِ الْفَسْخِ وَظُهُورِهِ فَإِنَّ الْعُيُوبَ وَفَوَاتَ الشَّرْطِ قَدْ تَخْفَى وَقَدْ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا بِخِلَافِ إعْتَاقِ السَّيِّدِ لَكَانَ أَوْلَى مِنْ تَعْلِيلِهِ بِالِاخْتِلَافِ. وَلَوْ قِيلَ بِأَنَّ الْفَسْخَ يَثْبُتُ بِتَرَاضِيهِمَا تَارَةً وَبِحُكْمِ الْحَاكِمِ أُخْرَى أَوْ بِمُجَرَّدِ فَسْخِ الْمُسْتَحِقِّ ثُمَّ الْآخَرُ إنْ أَمْضَاهُ وَإِلَّا أَمْضَاهُ الْحَاكِمُ لَتَوَجَّهَ وَهُوَ الْأَقْوَى وَمَتَى أَذِنَ الْحَاكِمُ

أَوْ حَكَمَ لِأَحَدٍ بِاسْتِحْقَاقِ عَقْدٍ أَوْ فَسْخٍ مَأْذُونٍ لَمْ يَحْتَجْ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى حُكْمٍ بِصِحَّتِهِ بِلَا نِزَاعٍ لَكِنْ لَوْ عَقَدَ الْحَاكِمُ أَوْ فَسَخَ فَهُوَ فِعْلُهُ وَإِلَّا صَحَّ أَنَّهُ حَكَمَ وَإِذَا اُعْتُبِرَ تَفْرِيقُ الْحَاكِمِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَوْضِعِ حَاكِمٌ، فَالْأَشْبَهُ أَنَّ لَهَا الِامْتِنَاعَ، وَكَذَلِكَ تَمْلِكُ الِانْتِقَالَ مِنْ مَنْزِلِهِ، فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ الْفَسْخَ مَلَكَ الِامْتِنَاعَ مِنْ التَّسْلِيمِ وَيَنْبَغِي أَنْ تَمْلِكَ النَّفَقَةَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْهُ وَإِذَا أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ تَحْتَ عَبْدٍ ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ اتِّفَاقًا وَكَذَلِكَ تَحْتَ حُرٍّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا لِمِلْكِهَا رِفْقَهَا وَبُضْعَهَا وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهَا سَيِّدُهَا دَوَامَ النِّكَاحِ تَحْتَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ فَرَضِيَتْ لَزِمَهَا ذَلِكَ وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَقْتَضِيه فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْعِتْقُ بِشَرْطٍ. ذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ إذَا أَسْلَمَتْ الْأَمَةُ أَوْ ارْتَدَّتْ أَوْ أَرْضَعَتْ مَنْ يَفْسَخُ نِكَاحَهَا إرْضَاعُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ الْمَهْرُ وَجَعَلَهُ أَصْلًا قَائِمًا عَلَيْهِ مَا إذَا أَعْتَقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَاخْتَارَتْ الْفِرَاقَ مَعَهُ أَنَّ الْمَهْرَ يَسْقُطُ عَلَى رِوَايَةٍ لَنَا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَالتَّنْصِيفُ فِي مَسْأَلَةِ الْإِسْلَامِ وَنَظَائِرِهَا أَوْلَى فَإِنَّهَا إنَّمَا فُسِخَتْ لِإِعْتَاقِهِ لَهَا فَالْإِعْتَاقُ سَبَبٌ لِلْفَسْخِ وَمَنْ أَتْلَفَ حَقَّهُ مُتَسَبِّبًا سَقَطَ وَإِنْ كَانَ الْمُبَاشِرُ غَيْرَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ السَّبَبُ وَالْمُبَاشَرَةُ مِنْ الْغَيْرِ فَإِذَا قِيلَ فِي مَسْأَلَةِ الْعِتْقِ بِالتَّنْصِيفِ فَالرِّدَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالرَّضَاعُ أَوْلَى بِلَا شَكٍّ وَإِذَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى الزَّوْجِ بِالْمَرْأَةِ وَفَوَاتِ صِفَةٍ أَوْ شَرْطٍ صَحِيحٍ أَوْ بَاطِلٍ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ الْمُسَمَّى بِنِسْبَةِ مَا نَقَصَ وَهَذَا النَّقْصُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَوْ لَمْ يُسَلِّمْ لَهَا مَا شَرَطَتْهُ أَوْ كَانَ الزَّوْجُ مَعِيبًا فَيُقَالُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَإِذَا أَسْلَمَ لَهَا ذَلِكَ أَوْ كَانَ الزَّوْجُ سَلِيمًا فَيُقَالُ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَيَكُونُ فَوَاتُ الصِّفَةِ وَالْعَيْبِ قَدْ صَارَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ الْخُمُسُ فَيَنْقُصُهَا مِنْ الْمُسَمَّى بِحَسَبِ ذَلِكَ فَيَكُونُ بِقِيمَتِهِ مَالٌ ذَهَبَ مِنْهُ فَيُزَادُ عَلَيْهِ مِثْلُ رُبْعِهِ فَإِذَا كَانَ أَلْفَيْنِ اسْتَحَقَّ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ وَهَذَا هُوَ الْمَهْرُ الَّذِي رَضِيَتْ بِهِ وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ مَعِيبًا أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ صِفَةً وَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ الْمَغْرُورُ بِالصَّدَاقِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ مِنْ الْمَرْأَةِ أَوْ الْوَلِيِّ فِي أَصَحِّ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ.

باب نكاح الكفار

[بَابُ نِكَاحِ الْكُفَّارِ] وَالصَّوَابُ أَنَّ أَنْكِحَتَهُمْ الْمُحَرَّمَةَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ حَرَامًا مُطْلَقًا إذَا لَمْ يُسْلِمُوا عُوقِبُوا عَلَيْهَا وَإِنْ أَسْلَمُوا عُفِيَ لَهُمْ ذَلِكَ لِعَدَمِ اعْتِقَادِهِمْ تَحْرِيمَهُ وَاخْتُلِفَ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ وَالصَّوَابُ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ فَإِنْ أُرِيدَ بِالصِّحَّةِ إبَاحَةُ التَّصَرُّفِ فَإِنَّمَا يُبَاحُ لَهُمْ بِشَرْطِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ أُرِيدَ نُفُوذُهُ وَتَرْتِيبُ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَيْهِ مِنْ حُصُولِ الْجُمَلِ بِهِ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهِ وَثُبُوتِ الْإِحْصَانِ بِهِ فَصَحِيحٌ وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي طَرِيقَةَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ لِغَيْرِ الْمَرْأَةِ أَوْ لِوَصْفٍ لِأَنَّ تَرْتِيبَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ عَلَى نِكَاحِ الْمَحَارِمِ بَعِيدٌ جِدًّا وَقَدْ أَطْلَقَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُمَا صِحَّةَ أَنْكِحَتِهِمْ مِنْ تَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْإِحْسَانِ بِنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَلَوْ قِيلَ إنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ التَّحْرِيمَ فَهُوَ فِي مِلْكِ الْمُحَرَّمَاتِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا قُلْنَا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ الْوَاجِبَاتِ فَهُوَ فِيهَا كَأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ. كَذَلِكَ أُولَئِكَ تَكُونُ عُقُودُهُمْ وَفِعْلُهُمْ بِمَنْزِلَةِ عُقُودِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِذَا اعْتَقَدُوا أَنَّ النِّكَاحَ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ وَفِي الْعِدَّةِ صَحِيحٌ كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَيُحْمَلُ مَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ الْمُعَانِدَ لَمْ يُعْذَرْ لِتَرْكِهِ تَعَلُّمَهُ الْعِلْمَ مَعَ تَقْصِيرِهِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالْحَدِيثِ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ وَمَنْ قَلَّدَ فَقِيهًا فَيَتَوَارَثُونَ بِهَذِهِ الْأَنْكِحَةِ وَلَوْ تَقَاسَمُوا مِيرَاثًا جَهْلًا فَهَذَا شَبِيهٌ بِقَسْمِ مِيرَاثِ الْمَفْقُودِ إذَا ظَهَرَ حَيًّا لَا يَضْمَنُونَ مَا أَنْفَقُوا لِأَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ وَأَمَّا الْبَاقِي فَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ كَمَا فَرَّقْنَا فِي أَمْوَالِ الْقِتَالِ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْكَافِرَ لَا يَرُدُّ بَاقِيًا وَلَا يَضْمَنُ تَالِفًا وَالْمُسْلِمُ يَرُدُّ الْبَاقِيَ وَيَضْمَنُ التَّالِفَ وَعَلَى قِيَاسِهِ كُلُّ مُتْلِفٍ مَعْذُورٍ فِي إتْلَافِهِ لِتَأْوِيلٍ أَوْ جَهْلٍ وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَتَحْتَهُ مُعْتَدَّةٌ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا مُنِعَ مِنْ وَطْئِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا لَمْ يُمْنَعْ الْوَطْءُ إلَّا أَنْ تَكُونَ قَبْلَ وَطْئِهِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ فِي أَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ الَّتِي نَقْضِي بِفَسَادِهَا إنْ كَانَ حَصَلَ بِهَا دُخُولٌ اسْتَقَرَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ وَقَبَضَتْهُ فُرِضَ لَهَا مِثْلُ الْمَهْرِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ لِأَنَّا إنَّمَا نُقَرِّرُ تَقَابُضَ الْكُفَّارِ فِي الْمَشْهُورِ إذَا كَانَ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ.

فَإِذَا قَبَضَتْ الْخَمْرَ أَوْ الْخِنْزِيرَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَحْصُلْ التَّقَابُضُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَ خَمْرًا بِثَمَنٍ وَقَبَضَهَا ثُمَّ أَسْلَمَا فَإِنَّا لَا نَحْكُمُ لَهُ بِالثَّمَنِ فَكَذَا هُنَا وَإِذَا لَمْ يَقْبِضْهُ فَرَضَ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ، فَإِنْ كَانَ عَيَّنَ لَهَا مُحَرَّمًا مِثْلُ إنْ كَانَ عَادَتُهُمْ التَّزْوِيجُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ دَرَاهِمَ مَعَ خَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُجْعَلُ ذَلِكَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ وَيَكُونُ كَمَنْ لَا أَقَارِبَ لَهَا فَيَنْظُرُ فِي عَادَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ وَإِلَّا فَأَقْرَبُ الْبِلَادِ. وَالثَّانِي: تُعْتَبَرُ قِيمَةُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا فَيَتَخَرَّجُ أَنَّ لَهَا فِي الْخِنْزِيرِ مَهْرَ الْمِثْلِ وَفِي الْخَمْرِ الْقِيمَةُ وَحَيْثُ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ اخْتَلَفَا فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْقِيمَةِ عِنْدَهُمْ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُسْلَمُ يُعْرَفُ بِسُعْرِ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ قَضَى بِهِ وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا صَدَاقًا فَرَضَ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ وَيُتَوَجَّهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالتَّرَافُعَ إنْ كَانَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا ذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى مُحَرَّمٍ وَأَوْلَى وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ. فَإِيجَابُ مَهْرِهَا فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بَعْضُ أَنْكِحَتِهِمْ ذَلِكَ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدَهُمْ بِإِعْطَاءِ مَهْرٍ وَإِذَا أَسْلَمَتْ الزَّوْجَةُ وَالزَّوْجُ كَافِرٌ ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَ الدُّخُولِ فَالنِّكَاحُ بَاقٍ مَا لَمْ تَنْكِحْ غَيْرَهُ وَالْأَمْرُ إلَيْهَا وَلَا حُكْمَ لَهُ عَلَيْهَا وَلَا حَقَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُفَصِّلْ وَهُوَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ وَكَذَا إنْ أَسْلَمَ قَبْلَهَا، وَلَيْسَ لَهُ حَبْسُهَا فَمَتَى أَسْلَمَتْ وَلَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ إنْ اخْتَارَ. وَكَذَا إنْ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَحَدُهُمَا وَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ سَبَقَ أَحَدُهُمَا بِالْإِسْلَامِ وَلَمْ يُعْلَمْ عَيْنُهُ فَلِلزَّوْجَةِ نِصْفُ الْمَهْرِ قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ تَغْرِيمًا عَلَى رِوَايَةِ أَنَّ لَهَا نِصْفَ الْمَهْرِ إنْ كَانَ هُوَ الْمُسْلِمَ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ لَمْ تَكُنْ قَبَضَتْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُطَالِبَهُ بِشَيْءٍ وَإِنْ كَانَتْ قَبَضَتْهُ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَيْهَا فِيمَا فَوْقَ النِّصْفِ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ هُنَا الْقُرْعَةُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ فِيمَا أَرَاهُ أَنَّ الزَّوْجَةَ إذَا أَسْلَمَتْ قَبْلَ الزَّوْجِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ سَبَبٌ يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ وَالْأَصْلُ عَدَمُ السَّلَامَةِ فِي الْعِدَّةِ فَإِذَا لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الْبَيْنُونَةِ بِالْإِسْلَامِ وَلَا نَفَقَةَ عِنْدَنَا لِلْبَائِنِ، وَإِنْ أَسْلَمَ

باب الصداق

الْكَافِرُ وَلَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ تَبِعَهُ فِي الْإِسْلَامِ فَإِذَا كَانَ تَحْتَ الصَّغِيرِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، فَقَالَ الْقَاضِي لَيْسَ لِوَلِيِّهِ الِاخْتِيَارُ مِنْهُنَّ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الشَّهْوَةِ وَالْإِرَادَةِ ثُمَّ قَالَ فِي " الْجَامِعِ ": يُوقَفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَبْلُغَ فَيَخْتَارَ وَقَالَ فِي الْمُحَرَّرِ حَتَّى يَبْلُغَ عَشْرَ سِنِينَ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ حَتَّى يُرَاهِقَ وَيَبْلُغَ أَرْبَعَةَ عَشْرَ سَنَةً. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: الْوَقْفُ هُنَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْفَسْخَ وَاجِبٌ فَيَقُومُ الْوَلِيُّ مَقَامَهُ فِي التَّعْيِينِ، كَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي تَعْيِينِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ مِنْ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا. أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ اخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا وَفَارَقَ سَائِرَهُنَّ وَلَيْسَ طَلَاقُ إحْدَاهُنَّ اخْتِيَارًا لَهَا فِي الْأَصَحِّ. [بَابُ الصَّدَاقِ] وَلَا يَجُوزُ كِتَابَةُ الصَّدَاقِ عَلَى الْحَرِيرِ وَقَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْيَسَارِ فَيُسْتَحَبُّ بُلُوغُهُ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ. وَكَلَامُ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ بَلْ يَكُونُ بُلُوغُهُ مُبَاحًا وَلَوْ قِيلَ إنَّهُ يُكْرَهُ جَعْلُ الصَّدَاقِ دَيْنًا سَوَاءٌ كَانَ مُؤَخَّرَ الْوَفَاءِ وَهُوَ حَالٌّ أَوْ كَانَ مُؤَجَّلًا لَكَانَ مُتَوَجِّهًا لِحَدِيثِ الْوَاهِبَةِ وَالصَّدَاقُ الْمُقَدَّمُ إذَا كَثُرَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُكْرَهْ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِذَلِكَ مَا يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ مِنْ مَعْنَى الْمُبَاهَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَأَمَّا إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ ذَلِكَ كُرِهَ بَلْ يَحْرُمُ إذَا لَمْ يَتَوَصَّلْ إلَيْهِ إلَّا بِمَسْأَلَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْوُجُوهِ الْمُحَرَّمَةِ فَأَمَّا إنْ كَثُرَ وَهُوَ مُؤَخَّرٌ فِي ذِمَّتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَهَ هَذَا كُلُّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِشَغْلِ الذِّمَّةِ وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ بِنِيَّةِ أَنْ يُعْطِيَهَا صَدَاقًا مُحَرَّمًا أَوْ لَا يُوفِيَهَا الصَّدَاقَ أَنَّ الْفَرْجَ لَا يَحِلُّ لَهُ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَسْتَحِلَّ الْفَرْجَ بِمَالِهِ فَلَوْ تَابَ مِنْ هَذِهِ النِّيَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ حُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ تَزَوَّجَهَا يَعْنِي بِحُرْمَةٍ وَالْمَرْأَةُ لَا تُحَرِّرُ مُحَرَّمًا قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ كُلُّ مَا صَحَّ عِوَضًا فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ صَحَّ مَهْرًا إلَّا مَنَافِعَ الزَّوْجِ الْحُرِّ الْمُقَدَّرَةِ بِالزَّمَانِ فَإِنَّهَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَأَمَّا الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ فَأَطْلَقَ الْخِلَافَ فِي مَنَافِعِ

الْحُرِّ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدِهِ بِزَوْجٍ وَكَذَلِكَ ابْنُ عَقِيلٍ. وَأَمَّا أَبُو الْخَطَّابِ وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي الْمُقْنِعِ فَلَفْظُهُمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى مَنَافِعِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ فَاعْتَبَرَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ الْقَيْدَيْنِ الزَّوْجِيَّةَ وَالْحُرِّيَّةَ وَلَعَلَّ مَأْخَذَ الْمَنْعِ أَنَّهَا لَيْسَ بِمَالٍ كَقَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ وَسَلَّمَهُ الْقَاضِي وَلَمْ يَمْنَعْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ هَذَا مَمْنُوعٌ بَلْ هِيَ مَالٌ وَتَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ فِي تَعْلِيلِ رِوَايَةِ الْمَنْعِ أَنَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ كَوْنِ كُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْآخَرِ فَكَأَنَّهُ يَقْضِي إلَى تَنَافِي الْأَحْكَامِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ عَبْدَهَا وَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ فَيَنْبَغِي إذَا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ لِغَيْرِهَا أَنْ تَصِحَّ وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ قِصَّةُ شُعَيْبٍ وَمُوجِبُ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَسْتَأْجِرُ زَوْجَهَا إجَارَةً مُعَيَّنَةً مُقَدَّرَةً بِالزَّمَانِ وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَجِيرَيْنِ لَا يَسْتَأْجِرُ الْآخَرَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ مُخْتَصًّا بِمَنْفَعَةِ الْخِدْمَةِ خَاصَّةً لِمَا فِيهِ مِنْ الْمِهْنَةِ وَالْمُنَاجَاةِ وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الْمَنَافِعُ صَدَاقًا فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ تَجِبُ قِيمَةُ الْمَنْفَعَةِ الْمَشْرُوطَةِ إلَّا إذَا عَلِمَا أَنَّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ لَا تَكُونُ صَدَاقًا فَيُشْبِهُ مَا لَوْ أَصْدَقَهَا مَالًا مَغْصُوبًا فِي أَنَّ الْوَاجِبَ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا أَوْ يُعَلِّمَ غُلَامَهَا صَنْعَةً صَحَّ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَالْأَشْبَهُ جَوَازُهُ أَيْضًا وَلَوْ كَانَ الْمُعَلَّمُ أَخَاهَا أَوْ ابْنَهَا أَوْ أَجْنَبِيًّا وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمَرْأَةِ مَا أَصْدَقَهَا لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ لَازِمًا وَلَوْ أُعْطِيت بَدَلَهُ كَالْبَيْعِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مَا أَلْزَمَ الشَّارِعُ بِهِ أَوْ الْتَزَمَهُ الْمُكَلَّفُ وَمَا خَالَفَ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ. فَإِذَا نُقِلَ بِامْتِنَاعِ الْعَقْدِ يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تَمْلِكَ الْمَرْأَةُ الْفَسْخَ فَإِذَا أَصْدَقَهَا شَيْئًا مُعَيَّنًا وَتَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ ثَبَتَ لِلزَّوْجَةِ فَسْخُ النِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِطُ بِبُطْلَانِهِ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ لَازِمًا بَلْ إنْ رَضِيَ بِدُونِ الشَّرْطِ وَإِلَّا فَلَهُ الْفَسْخُ وَإِذَا تَزَوَّجَهَا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا عَبْدَ زَيْدٍ فَامْتَنَعَ زَيْدٌ مِنْ بَيْعِهِ فَأَعْطَاهَا قِيمَتَهُ ثُمَّ بَاعَهُ زَيْدٌ الْعَبْدَ فَهَلْ لَهَا رَدُّ الْبَدَلِ وَأَخْذُ الْعَبْدِ، تَرَدَّدَ فِيهِ أَبُو الْعَبَّاسِ وَلَوْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا بِشَرْطِ أَنْ تَعْتِقَهُ. فَقِيَاسُ الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَصِحُّ كَالْبَيْعِ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي فِي أَصْنَافِ سَائِرِ الْمَالِ كَالْعَبْدِ وَالشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِهِمَا أَنَّهُ إذَا أَصْدَقَهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ إلَى مُسَمَّى ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي عُرْفِهَا كَمَا نَقُولُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمُطْلَقَةِ فِي الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ غَالِبًا أَخَذَ بِهِ كَالْبَيْعِ أَوْ كَانَ مِنْ عَادَتِهَا اقْتِنَاؤُهُ أَوْ لِبْسُهُ فَهُوَ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ.

وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرٍ، وَالنَّسَائِيُّ: أَنَّهُ إذَا أَصْدَقَهَا عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ أَنَّهُ يَصِحُّ وَلَهَا الْوَسَطُ عَلَى قَدْرِ مَا يَخْدُمُهَا وَنَقْلُهَا دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ الْخَادِمَ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ مَا يُنَاسِبُهَا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فِي الْخُلْعِ وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ مُطْلَقٍ لَوْ قِيلَ يَجِبُ مَا يُجْزِئُ عِتْقُهُ فِي الْكَفَّارَةِ وَمَا يَجِبُ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ لَكَانَ أَقْرَبَ إلَى الْقِيَاسِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْإِيمَانُ. أَطْلَقَ الْقَاضِي أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى بَيْتٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَاسْتَدَلَّ بِمَسْأَلَةِ تَفَاوُتِهَا فِي الْحَضَرِ وَمَفْهُومُهَا أَنَّ الْبَدَوِيَّةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَهَذَا أَشْبَهُ لِأَنَّ بُيُوتَ الْبَادِيَةِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْخَادِمِ بِخِلَافِ الْحَضَرِ فَإِنَّ بُيُوتَهُمْ تَخْتَلِفُ جِنْسًا وَقَدْرًا وَصِفَةً اخْتِلَافًا مُتَفَاوِتًا. وَلَوْ عَلَّمَ السُّورَةَ أَوْ الْقَصِيدَةَ غَيْرُ الزَّوْجِ يَنْوِي بِالتَّعْلِيمِ أَنَّهُ عَنْ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلِمَ الزَّوْجَةَ فَهَلْ يَقَعُ عَنْ الزَّوْجِ فَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ: إنْ قُلْنَا لَا يُجْبَرُ الْغَرِيمُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمَدِينِ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى نِيَّتِهِ إذْ لَمْ يُظْهِرْهَا لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِيفَاءَ شُرِطَ بِالرِّضَا وَالْغَرِيمُ الْمُسْتَحِقُّ لَمْ يَرْضَ أَنَّهُ يَسْتَوْفِي دَيْنَهُ مِنْ غَيْرِ الْمَدِينِ وَإِنْ قُلْنَا يُجْبَرُ الْمُسْتَحِقُّ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ الْغَرِيمِ فَيُتَوَجَّهَ أَنْ يُؤَثِّرَ مُجَرَّدُ دَيْنِهِ الْمُوَفَّى وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا بَعْدُ. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مِائَةٍ مُقَدَّمًا وَمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ صَحَّ وَلَا تَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِالْمُؤَجَّلَةِ إلَّا بِمَوْتٍ أَوْ فُرْقَةٍ. وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ، وَاخْتَارَهُ شُيُوخُ الْمَذْهَبِ كَالْقَاضِي وَغَيْرِهِ جَاءَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً عَلَى عَاجِلٍ وَآجِلٍ إلَى الْمَيْسَرَةِ فَقَدَّمَتْهُ إلَى شُرَيْحٍ فَقَالَ دُلَّنَا عَلَى مَيْسَرَةٍ فَآخُذُهُ لَك وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ هَذَا شَرْطٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ جَهَالَةِ الْفُرْقَةِ وَكَانَ فِي الْحَقِيقَةِ هَذَا الشَّرْطُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَلَوْ قِيلَ بِصِحَّتِهِ فِي جَمِيعِ الْآجَالِ لَكَانَ مُتَّجَهًا صَرَّحَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْقَاضِي وَأَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُمْ بِأَنَّهُ إذَا أَطْلَقَ الصَّدَاقَ كَانَ حَالًّا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: إنْ كَانَ الْفَرْقُ جَارِيًا بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَكُونُ مُؤَجَّلًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُمْ عَلَى مَا يَعْرِفُونَهُ وَلَوْ كَانُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ لَفْظِ الْمَهْرِ وَالصَّدَاقِ

فَالْمَهْرُ عِنْدَهُمْ مَا يُعَجَّلُ وَالصَّدَاقُ مَا يُؤَجَّلُ كَانَ حُكْمُهُمْ عَلَى مُقْتَضَى عُرْفِهِمْ وَلَوْ امْرَأَةً اتَّفَقَ مَعَهَا عَلَى صَدَاقٍ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَأَنَّهُ يَظْهَرُ عِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ أَشْهَدَ عَلَيْهَا بِقَبْضِ عَشَرَةٍ فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَغْدِرَ بِهِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ وَلَا يَجُوزُ تَحْلِيفُ الرَّجُلِ عَلَى وُجُودِ الْقَبْضِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ بِالْقَبْضِ فِي مِثْلِ هَذَا يَتَضَمَّنُ الْإِبْرَاءَ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ تَبْقَى مَعَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ هَذِهِ تَسْمِيَةٌ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ الْمُسَمَّى وَتَتَوَجَّهُ صِحَّتُهُ بَلْ هُوَ الْأَشْبَهُ بِأُصُولِنَا كَمَا لَوْ بَاعَهُ الصُّبْرَةَ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمِ، أَوْ أَكْرَاهُ الدَّارَ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ، وَلِأَنَّ تَقْدِيرَ الْمَهْرِ بِمُدَّةِ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ تَأْجِيلِهِ بِمُدَّةِ النِّكَاحِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ جَهَالَةِ الْقَدْرِ وَجَهَالَةِ الْأَجَلِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَخِيطَ لَهَا كُلَّ شَهْرٍ ثَوْبًا صَحَّ أَيْضًا إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَنْفَعَةِ دَارِهِ أَوْ عَبْدِهِ مَا دَامَتْ زَوْجَتُهُ وَفِيهَا قَدْ تَبْطُلُ الْمَنْفَعَةُ قَبْلَ زَوَالِ النِّكَاحِ فَإِنْ شَرَطَ لَهَا مَثَلًا إذَا تَلِفَتْ فَهُنَا يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فَفِيهِ نَظَرٌ، وَلَوْ قِيلَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَبَرَّعَتْ الْمَرْأَةُ بِالصَّدَاقِ ثُمَّ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَهُوَ بَاقٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ عَلَى مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ. وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْفُسُوخِ لَمْ يَبْعُدْ بِخِلَافِ مَا لَوْ خَرَجَ بِمُعَاوَضَةٍ وَلَوْ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّ الصَّدَاقَ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ تَكَرَّرَ، وَقَالَتْ بَلْ هُوَ عَقْدَانِ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَلَهَا الْمَهْرَانِ هَذَا قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ وَالْجَدِّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِمَّا زَادَ عَلَى الْمَهْرِ الثَّانِي وَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا نِصْفَهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الدُّخُولِ وَلَمْ يَثْبُتْ بَيِّنَةٌ وَلَا إقْرَارٌ، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ إنْ أَنْكَرَ الدُّخُولَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يُنْكِرْهُ وَلَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي وُجُودِ الدُّخُولِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَهَكَذَا يَحِقُّ فِي كُلِّ صُورَةٍ ادَّعَتْ عَلَيْهِ صَدَاقًا فِي نِكَاحٍ فَأَنْكَرَ الزَّوْجُ وَقَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ وَوَقَعَ مِنْهُ الطَّلَاقُ هَلْ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْمُسَمَّى أَوْ بِنِصْفِهِ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ ادِّعَائِهِ الْمُسْقِطَ وَعَدَمِهِ عَلَى الْأَوْجَهِ وَمَأْخَذُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الصَّدَاقَ إذَا تَبَيَّنَ بِالْعَقْدِ وَحَصَلَتْ الْفُرْقَةُ فَهَلْ يُحْكَمُ بِهِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَدَّعِ عَدَمَ الدُّخُولِ وَلَوْ صَالَحَتْ عَنْ صَدَاقِهَا الْمُسَمَّى بِأَقَلَّ جَازَ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لِبَعْضِ حَقِّهَا وَلَوْ صَالَحَتْهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بَطَلَ الْفَضْلُ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ رِبًا لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى حَقِّهَا وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُهُ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْمَهْرِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَصَحَّحْنَا أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَصْطَلِحَا عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ

بِأَقَلَّ مِنْهُ وَأَكْثَرَ مَعَ أَنَّهُ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ، وَالزِّيَادَةُ فِي الْمَهْرِ هَلْ يَفْتَقِرُ لُزُومُهَا إلَى قَبُولِ الزَّوْجَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَإِتْيَانِهِ الْفَرْضَ بَعْدَ الْفَرْضِ فَلَوْ فَرَضَ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَهَلْ يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ فَرْضِهِ كَلَامُ أَحْمَدَ زَادَهَا فِي مَهْرِهَا مُطْلَقٌ لَمْ يُفَصِّلْ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ قَبِلَتْهَا أَمْ لَا. وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُغَيِّرَ الْمَهْرَ مِثْلُ تَبْدِيلِ نَقْدٍ بِنَقْدٍ، أَوْ تَأْجِيلِ الْحَالِّ أَوْ إحْلَالِ الْمُؤَجَّلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَمُوجِبُ تَعْلِيلِ أَصْحَابِنَا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ أَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ تَبْدِيلَ فَرْضٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَغْيِيرٌ لِذَلِكَ الْفَرْضِ، وَقَدْ يَحْتَمِلُ كَلَامُهُمْ صِحَّتَهُ أَيْضًا لِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَهُوَ أَشْبَهُ بِكَلَامِهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَقَدْ كَتَبْت عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيمَا إذَا أَهْدَى لَهَا هَدِيَّةً بَعْدَ الْعَقْدِ فَإِنَّهَا تَرُدُّ ذَلِكَ إلَيْهِ إذَا زَالَ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَا وَهَبَهُ لَهَا سَبَبُهُ النِّكَاحُ، فَإِنَّهُ يَبْطُلُ إذَا زَالَ النِّكَاحُ وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ. وَهَذَا الْمَنْصُوصُ جَارٍ عَلَى أُصُولِ الْمَذْهَبِ الْمُوَافِقَةِ لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أُهْدِيَ أَوْ وُهِبَ لَهُ شَيْءٌ بِسَبَبٍ يَثْبُتُ بِثُبُوتِهِ وَيَزُولُ بِزَوَالِهِ وَيَحْرُمُ بِحُرْمَتِهِ وَيَحِلُّ بِحِلِّهِ حَيْثُ جَازَ فِي تَوَلِّي الْهَدِيَّةِ مِثْلُ مَنْ أَهْدَى لَهُ لِلْفَرْضِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ بَدَلِ الْفَرْضِ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَهْدَى لَهُ لِوِلَايَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَالْإِمَامِ وَأَمِيرِ الْجَيْشِ وَسَاعِي الصَّدَقَاتِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي الْهَدِيَّةِ حُكْمُ ذَلِكَ الِاشْتِرَاكِ وَلَوْ كَانَتْ الْهَدِيَّةُ قَبْلَ الْعَقْدِ وَقَدْ وَعَدُوهُ بِالنِّكَاحِ فَزَوَّجُوا غَيْرَهُ رَجَعَ بِهَا. وَالنَّقْدُ الْمُقَدَّمُ مَحْسُوبٌ مِنْ الصَّدَاقِ وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ فِي الصَّدَاقِ إذَا تَوَاطَئُوا عَلَيْهِ وَيُطَالِبُ بِنِصْفِهِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ لِأَنَّهُ كَالشَّرْطِ الْمُقَدَّمِ إلَّا أَنْ يُفْتُوا بِخِلَافِ ذَلِكَ وَإِذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَهُ نَفْسَهَا وَيَكُونُ عِتْقُهَا صَدَاقَهَا قَالَ الْقَاضِي هِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ تَزَوَّجَتْهُ وَإِنْ شَاءَ لَمْ تَتَزَوَّجْهُ وَتَابَعَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُمَا لِأَنَّهُ سَلَفٌ فِي النِّكَاحِ فَلَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ وَيُتَوَجَّهُ صِحَّةُ السَّلَفِ فِي الْعُقُودِ كُلِّهَا كَمَا يَصِحُّ فِي الْعِتْقِ، وَيَصِيرُ الْعِتْقُ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْمُسْلِفِ إنْ فَعَلَهُ وَإِلَّا قَامَ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فِي تَوْفِيَةِ الْعَقْدِ الْمُسْتَحَقِّ كَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي تَوْفِيَةِ الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَنْفَعَةٌ مِنْ الْمَنَافِعِ فَجَازَ السَّلَمُ فِيهِ كَالصِّنَاعَاتِ. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهَا الثَّوَابُ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي اشْتِرَاطِ التَّزْوِيجِ عَلَى الْأَمَةِ إذَا أَعْتَقَهَا لُزُومُ

هَذَا الشَّرْطِ قَبِلَتْ أَمْ لَمْ تَقْبَلْ كَاشْتِرَاطِ الْهَدِيَّةِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلِ يُعْتِقُ الْجَارِيَةَ عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا يَقُولُ: قَدْ أَعْتَقْتُك وَجَعَلْت عِتْقَك صَدَاقَك أَوْ يَقُولُ: قَدْ أَعْتَقْتُك عَلَى أَنْ أَتَزَوَّجَك قَالَ: هُوَ جَائِزٌ وَهُوَ سَوَاءٌ أَعْتَقْتُكِ وَتَزَوَّجْتُكِ، وَعَلَى أَنْ أَتَزَوَّجَك إذَا كَانَ كَلَامًا وَاحِدًا إذَا تَكَلَّمَ بِهِ وَهُوَ جَائِزٌ. وَهَذَا نَصٌّ مِنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ أَنْ أَتَزَوَّجَك بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَتَزَوَّجْتُك. وَكَلَامُهُ يَقْتَضِي أَنَّهَا تَصِيرُ زَوْجَةً بِنَفْسِ هَذَا الْكَلَامِ، وَعَلَى قَوْلِ الْأَوَّلَيْنِ إذَا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا ذَكَرُوا أَنَّهُ يَلْزَمُهَا قِيمَةُ نَفْسِهَا سَوَاءٌ كَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ أَوْ مِنْهَا وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ إذَا كَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّهَا تُعْتَقُ مُجَّانًا وَيَتَخَرَّجُ أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى بَدَلِ الْعِوَضِ لَا إلَى بَدَلِ الْعِتْقِ وَهُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ وَأَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ إذْ الرَّجُلُ طَابَتْ نَفْسُهُ بِالْعِتْقِ إذَا أَخَذَ هَذَا الْعِوَضَ وَأَخْذُ بَدَلِهِ قَائِمٌ مَقَامَهُ. وَمَنْ أَعْتَقَتْ عَبْدَهَا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا أَوْ بِسِوَاهَا أَوْ بِدُونِهِ عَتَقَ وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا وَعَلَّلَهُ ابْنُ عَقِيلٍ بِأَنَّهَا اشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ تَمْلِيكَ الْبُضْعِ وَهُوَ لَا قِيمَةَ لَهُ وَعَلَّلَهُ الْقَاضِي بِأَنَّهُ سَلَفٌ فِي النِّكَاحِ وَالْحَظُّ فِي النِّكَاحِ لِلزَّوْجِ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْحَظَّ فِي النِّكَاحِ لِلْمَرْأَةِ، وَلِهَذَا مَلَكَ الْأَوْلِيَاءُ أَنْ يُجْبِرُوهَا عَلَيْهِ دُونَ الرَّجُلِ وَمَلَكَ الْوَلِيُّ فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَلَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ مِنْ الصَّغِيرَةِ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا اشْتَرَطَتْ نَفَقَةً وَمَهْرًا أَوْ اسْتِمْتَاعًا وَهَذَا مَقْصُودٌ كَمَا أَنَّهُ إذَا أَعْتَقَهَا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا شَرَطَ عَلَيْهَا اسْتِمْتَاعًا تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، وَأَمَّا إذَا خُيِّرَ بَيْنَ الزَّوَاجِ وَعَدَمِهِ فَيُتَوَجَّهُ أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ نَفْسِهِ وَإِذَا بَدَّلَ التَّزْوِيجَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا مَهْرُ الْمِثْلِ فَإِنَّهُ مُقْتَضَى النِّكَاحِ الْمُطْلَقِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ بِالْمُفَارَقَةِ قِيمَةَ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْعِوَضَ الْمَشْرُوطَ فِي الْعَقْدِ هُوَ تَزَوُّجُهُ بِهَا وَلَا قِيمَةَ لَهُ فِي الشَّرْعِ فَيَكُونُ كَمَنْ أَعْتَقَ عَلَى عِوَضٍ لَمْ يُسَمِّ لَهَا وَيُتَوَجَّهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا يُعْطِيهَا مَهْرَ الْمِثْلِ أَوْ نِصْفَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ إذَا تَزَوَّجَهَا فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَجِبُ لَهَا بِالْعَقْدِ مَهْرُ الْمِثْلِ وَهَذَا الْبَحْثُ يَجْرِي فِيمَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ أُخْتَهُ أَوْ يُعْتِقَهَا وَإِذَا لَمْ نُصَحِّحْ الطَّلَاقَ مَهْرًا. فَذَكَرَ الْقَاضِي فِي " الْجَامِعِ " وَأَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ مَهْرًا بِضِدِّهِ وَقَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَهُوَ أَجْوَدُ فَإِنَّ الصَّدَاقَ وَإِنْ كَانَ لَهُ بَدَلٌ عَنْهُ تَعَذُّرُهُ فَلَهُ بَدَلٌ عِنْدَ فَسَادِ تَسْمِيَتِهِ هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ وَلَوْ قِيلَ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ لَمْ يَبْعُدْ لِأَنَّ الْمُسَمَّى فَاسِدٌ لَا بَدَلَ لَهُ فَهُوَ

كَالْخَمْرِ وَكَنِكَاحِ السِّفَاحِ وَإِذَا صَحَّحْنَا إصْدَاقَ الطَّلَاقِ فَمَاتَتْ الضِّرَّةُ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَقَدْ يُقَالُ حَصَلَ مَقْصُودُهَا مِنْ الْفُرْقَةِ بِأَبْلَغِ الطُّرُقِ فَيَكُونُ كَمَا لَوْ وَفَّى عَنْهُ الْمَهْرَ أَجْنَبِيٌّ وَفِيهِ نَظَرٌ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي فِي الطَّلَاقِ أَنَّهُ إذَا كَانَ السَّائِلُ لَهُ لِيُخَلِّصَ الْمَرْأَةَ جَازَ لَهُ بَدَلَ عِوَضِهِ سَوَاءٌ كَانَ نِكَاحًا أَوْ مَالًا كَأَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ يَضْرِبُهَا وَيُؤْذِيهَا فَقَالَ طَلِّقْ امْرَأَتَك عَلَى أَنْ أُزَوِّجَك بِنْتِي فَهَذَا سَلَفٌ فِي النِّكَاحِ، أَوْ قَالَ: زَوَّجْتُك بِنْتِي عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِك فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ إصْدَاقِ الطَّلَاقِ وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ هَذَا: إنَّ الطَّلَاقَ يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَالَ خُذْ هَذَا الْأَلْفَ عَلَى أَنْ تُطَلِّقَ امْرَأَتَك وَهَذَا سَلَفٌ فِي الطَّلَاقِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا إنْ كَانَ بَاذِلَ الْعِوَضِ لِغَرَضِ ضَرَرِ الْمَرْأَةِ فَهَا هُنَا لَا يَجُوزُ لِلْحَدِيثِ فَعَلَى هَذَا فَلَوْ خَالَعَتْ الضَّرَّةُ عَنْ ضَرَّتِهَا بِمَالٍ أَوْ خَالَعَ أَبُوهَا فَهُنَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ هَذَا كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَالِعَ الرَّجُلُ أَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ التَّزْوِيجَ بِالْمَرْأَةِ فَالْأَجْنَبِيُّ يَنْظُرُ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ إنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً فَلَهُ حُكْمٌ وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً أَوْ مُسْتَحَقَّةً فَلَهُ حُكْمٌ وَإِذَا كَانَ الْأَجْنَبِيُّ قَدْ حُرِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ الطَّلَاقَ فَهَلْ يَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُجِيبَهُ وَيَأْخُذَ الْعِوَضَ وَهَذَا نَظِيرُ بَيْعِهِ إيَّاهُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَوْ زَوَّجَ مُوَلِّيَتَهُ بِدُونِ مَهْرِ مِثْلِهَا وَلَمْ يَكُنْ أَبًا لَزِمَ الزَّوْجَ الْمُسَمَّى وَالتَّمَامُ عَلَى الْوَلِيِّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ كَالْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ. وَيَتَحَرَّرُ لِأَصْحَابِنَا فِيمَا إذَا زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَزْيَدَ رِوَايَاتٌ. إحْدَاهُنَّ: أَنَّهُ عَلَى الِابْنِ مُطْلَقًا إلَّا أَنْ يَضْمَنُهُ الْأَبُ فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَضْمَنَهُ فَيَكُونَ عَلَيْهِ وَحْدَهُ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ عَلَى الْأَبِ ضَمَانًا. الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ أَصَالَةً. الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ إذَا كَانَ الِابْنُ مُقِرًّا فَهُوَ عَلَى الْأَبِ أَصَالَةً. السَّادِسَةُ: الْفَرْقُ بَيْنَ رِضَا الِابْنِ وَعَدَمِ رِضَاهُ وَضَمَانُ الْأَبِ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةُ عَلَى الِابْنِ قَدْ يَكُونُ بِلَفْظِ الضَّمَانِ وَقَدْ يَكُونُ بِلَفْظٍ آخَرَ. مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الَّذِي لِي لِابْنِي أَوْ أَنَا وَابْنِي شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهَلْ يَتْرُكُ وَالِدٌ وَلَدَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَغُرُّهُمْ حَتَّى يُزَوِّجُوا ابْنَهُ، وَقَدْ يَكُونُ بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ وَقَدْ يَذْكُرُ الْأَبُ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ مَلَّكَ ابْنَهُ مَالًا أَوْ يُخْبِرَهُمْ بِذَلِكَ فَيُزَوِّجُوهُ عَلَى ذَلِكَ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَنَا أَعْطَيْته عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ لَهُ

عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ مَالِ الْأَبِ وَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ قَبْلَ بُلُوغِ الزَّوْجِ أَوْ قَبْلَ رِضَاهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كَالْمَهْرِ قَالَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ إذَا مَاتَ الْأَبُ الَّذِي عَلَيْهِ مَهْرُ ابْنِهِ فَأَخَذَ مِنْ تَرِكَتِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الِابْنِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَالْبَرْزَلِيِّ قَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ أَثْبَتَ لَهُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يَحْصُلْ الْقَبْضُ مِنْهُ وَعَلَى هَذَا حَمَلَهُ أَبُو حَفْصٍ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَلَا يَتِمُّ الْجَوَابُ إلَّا بِالْمَأْخَذَيْنِ جَمِيعًا وَذَلِكَ أَنَّ الْأَبَ قَائِمٌ مَقَامَ ابْنِهِ فَلَوْ ضَمِنَهُ أَجْنَبِيٌّ بِإِذْنِهِ صَحَّ فَإِذَا ضَمِنَهُ هُوَ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ ضَمَانًا لَازِمًا لِلِابْنِ وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُثْبِتَ الْمَالَ فِي ذِمَّتِهِ بِدُونِ ضَمَانِهِ فَضَمَانُهُ وَقَضَاؤُهُ أَوْلَى قَالَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ إذَا ضَمِنَهُ الْأَبُ لَزِمَهُ كَمَا لَوْ ضَمِنَهُ أَجْنَبِيٌّ وَإِذَا أَقَبَضَهَا إيَّاهُ فَهَلْ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى الْأَبِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ أَصْلُهُمَا ضَمَانُ الْأَجْنَبِيِّ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: بَلْ يَرْجِعُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ ابْنِهِ فِي الْإِذْنِ لِنَفْسِهِ كَمَا لَوْ ضَمِنَ أَجْنَبِيٌّ بِإِذْنِ نَفْسِهِ وَإِذَا وَفَّى الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ دَيْنًا مِنْ صَدَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ كَانَ لِلْمُسْتَوْفِي أَخْذُهُ لَهُ وَفَاءٌ عَنْ دَيْنِهِ وَبَدَلًا عَنْهُ وَأَمَّا الْمُوَفَّى عَنْهُ إذَا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ فَهُوَ مُتَبَرِّعُ عَلَيْهِ ثُمَّ هَلْ يُقَالُ لَوْ انْفَسَخَ يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ أَوْ بَعْضُهُ كَالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَفَسْخِ الْبُيُوعِ لِلْمُوَفَّى عَنْهُ أَوْ لَمْ يَمْلِكْ فَيَعُودُ إلَى الْمُوَفَّى. الرَّاجِحُ أَنْ لَا يَجِبَ انْتِقَالُهُ وَيَتَقَرَّرُ الْمَهْرُ بِالْخَلْوَةِ وَإِنْ مَنَعَتْهُ الْوَطْءَ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ، وَقِيلَ لَهُ فَإِنْ أَخَذَهَا وَعِنْدَهَا نِسْوَةٌ وَقَبَضَ عَلَيْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا قَالَ: إذَا نَالَ مِنْهَا شَيْئًا لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ، وَإِنْ قُلْنَا لَا مَهْرَ بِالْخَلْوَةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ عَلَى قَوْلِنَا بِوُجُوبِ الْعِدَّةِ فِيهِ وَالْفَسْخُ لِاعْتِبَارِ الزَّوْجِ بِالْمَهْرِ أَوْ النَّفَقَةِ نَظِيرُ الْفَسْخِ لِعُنَّةٍ بِالزَّوْجِ فَيَتَخَرَّجُ مِنْهُ التَّنْصِيفُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَنْصُوصَةِ عَنْهُ فِيهِ فَإِنَّ لَهَا نِصْفَ الْمَهْرِ لِكَوْنِهَا مَعْذُورَةً فِي الْفَسْخِ وَيَتَخَرَّجُ ذَلِكَ وَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ إنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ يَتَقَوَّمُ وَتَجِبُ الْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ نَقَلَهَا حَنْبَلٌ وَهُوَ ظَاهِرُ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ. وَاخْتَارَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي " الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ": أَنَّ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةً إلَّا الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَقَدْ فَرَضَ لَهَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَقَالَهُ عُمَرُ وَإِذَا أَوْجَبْنَا

الْمُتْعَةَ لِلْمَدْخُولِ بِهَا وَكَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا فَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ لَهَا أَيْضًا مَعَ نَفَقَةِ الْعَقْدِ حَيْثُ أَوْجَبْنَاهَا وَتَكُونُ نَفَقَةُ الرَّجْعِيَّةِ مُتَعَيِّنَةً عَنْ مَتَاعٍ آخَرَ بِحَيْثُ لَا تَجِبُ لَهَا كُسْوَتَانِ. وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَصْرِ فِي مَهْرِ الْمِثْلِ فَإِنَّ الزَّمَانَ إنْ كَانَ زَمَانَ رُخْصٍ رُخِّصَ وَإِنْ زَادَتْ الْمُهُورُ، وَإِنْ كَانَ زَمَنَ غَلَاءٍ وَخَوْفِ نَقْصٍ وَقَدْ تُعْتَبَرُ عَادَةُ الْبَلَدِ وَالْقَبِيلَةِ فِي زِيَادَةِ الْمَهْرِ وَنَقْصِهِ وَيَنْبَغِي أَيْضًا اعْتِبَارُ الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْكَفَاءَةِ فَإِذَا كَانَ أَبُوهَا مُوسِرًا ثُمَّ افْتَقَرَ أَوْ ذَا صَنْعَةٍ جَيِّدَةٍ ثُمَّ تَحَوَّلَ إلَى دُونِهَا أَوْ كَانَتْ لَهُ رِئَاسَةٌ أَوْ مِلْكٌ ثُمَّ زَالَتْ عَنْهُ تِلْكَ الرِّئَاسَةُ وَالْمِلْكُ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ مِثْلِ هَذَا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَهْلُهُمَا لَهُمْ عِزٌّ فِي أَوْطَانِهِمْ وَرِئَاسَةٌ فَانْقَلَبُوا إلَى بَلَدٍ لَيْسَ لَهُمْ عِزٌّ فِيهِ وَلَا رِئَاسَةٌ فَإِنَّ الْمَهْرَ يَخْتَلِفُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهُمْ يُسَمُّونَ مَهْرًا وَلَكِنْ لَا يَسْتَوْفُونَهُ قَطُّ مِثْلُ عَادَةِ أَهْلِ الْجَفَاءِ مِثْلُ الْأَكْرَادِ وَغَيْرِهِمْ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ وَالشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ كَالْمُقَارِنِ وَالْإِطْرَادُ الْعُرْفِيُّ كَالْمَقْضِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَقَدْ سُئِلْت عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنْ هَذَا وَقِيلَ لِي مَا مَهْرُ مِثْلِ هَذِهِ فَقُلْت مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ الزَّوْجِ فَقَالُوا إنَّمَا يُؤْخَذُ الْمُنْحَلُّ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقُلْت هُوَ مَهْرُ مِثْلِهَا. وَالْأَبُ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَقَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ عَفْوَهُ صَحِيحٌ لِأَنَّ بِيَدِهِ عُقْدَةَ النِّكَاحِ بَلْ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهَا مَا شَاءَ وَتَعْلِيلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِالْأَخْذِ مِنْ مَالِهَا مَا شَاءَ يَقْتَضِي جَوَازَ الْعَفْوِ بَعْدَ الدُّخُولِ عَنْ الصَّدَاقِ كُلِّهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الدُّيُونِ وَالْأَشْبَهُ فِي مَسْأَلَةِ الزَّوْجَةِ الصَّغِيرَةِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ وَلِيُّهَا الْمُطَالَبَةَ لَهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَا يُطَالِبُ بِهِ إلَّا إذَا مَكَّنَتْ مِنْ نَفْسِهَا لِأَنَّ النِّصْفَ مُسْتَحَقٌّ بِإِزَاءِ الْحَبْسِ وَهُوَ حَاصِلٌ بِالْعَقْدِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بِإِزَاءِ الدُّخُولِ فَلَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِبَذْلِهِ وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي قَبْضِ الْمَهْرِ فَالْمُتَوَجَّهُ إنْ كَانَتْ الْعَادَةُ الْغَالِبَةُ جَارِيَةً بِحُصُولِ الْقَبْضِ فِي هَذِهِ الدُّيُونِ أَوْ الْأَعْيَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يُوَافِقُ الْعَادَةَ وَهُوَ جَارٍ عَلَى أُصُولِنَا وَأُصُولِ مَالِكٍ فِي تَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالْعَادَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَجَّحُ وَفُرِّقَ بَيْنَ دَلَالَةِ الْحَالِ الْمُطْلَقَةِ الْعَامَّةِ وَبَيْنَ دَلَالَةِ الْحَالِ الْمُقَيَّدَةِ الْمَخْصُوصَةِ فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ وَقْتَ الْعَقْدِ فَقِيرَةً ثُمَّ وُجِدَ مَعَهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ هَذَا هُوَ الصَّدَاقُ وَقَالَتْ أَخَذْته مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ تُعَيِّنْ وَلَمْ يَحْدُثْ لَهَا قَبْضُ مِثْلِهِ فَهُوَ نَظِيرُ تَعْلِيمِ السُّورَةِ الْمَشْرُوطَةِ وَفِيهَا وَجْهَانِ، وَنَظِيرُهُ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهَا وَالْكُسْوَةُ وَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا إذَا أَبْدَتْ جِهَةَ

باب الوليمة

الْقَبْضِ الْمُمْكِنِ مِنْهَا كَالْمُمْكِنِ مِنْ الزَّوْجِ فَيَنْبَغِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا وَإِلَّا فَلَا. قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ لِلْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ وَيَنْبَغِي أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ مُسَمًّى فَيَكُونُ هُوَ الْوَاجِبَ فَإِنَّ الشُّبْهَةَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: شُبْهَةُ عَقْدٍ وَشُبْهَةُ اعْتِقَادٍ وَشُبْهَةُ مِلْكٍ. فَأَمَّا عَقْدُ النِّكَاحِ فَلَا رَيْبَ فِيهِ وَأَمَّا عَقْدُ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ إذَا وَطِئَ الْمَرْأَةَ الْمُشْتَرَاةَ شِرَاءً فَاسِدًا فَالْأَشْبَهُ أَنْ لَا مَهْرَ وَلَا أُجْرَةَ لِمَنَافِعِهَا وَأَمَّا شُبْهَةُ الِاعْتِقَادِ فَإِنْ كَانَ الِاشْتِبَاهُ عَلَيْهِ فَقَطْ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ لَهَا مَهْرٌ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا فَقَطْ فَإِنْ اعْتَقَدَتْ أَنَّهُ زَوْجُهَا فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَجِبَ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى. وَأَمَّا شُبْهَةُ الْمِلْكِ مِثْلُ مُكَاتَبَتِهِ وَأَمَةِ مُكَاتَبَتِهِ وَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ فَإِنْ كَانَ قَدْ اتَّفَقَ مَعَ مُسْتَحِقِّ الْمَهْرِ عَلَى شَيْءٍ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ سِوَاهُ وَهَذَا قِيَاسُ ضَمَانِ الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ فَإِنَّهَا تُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ قَدْ اتَّفَقَ مَعَ الْمُتْلِفِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ الْإِتْلَافُ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا وَإِذَا تَكَرَّرَ الْوَطْءُ فِي نِكَاحِ الشُّبْهَةِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْوَاجِبَ مَهْرٌ وَاحِدٌ كَمَا تَجِبُ عِدَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ لِلْمُكْرَهَةِ عَلَى الزِّنَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتِيَارُ أَبِي الْبَرَكَاتِ. وَذَكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: عَنْ أَبِي بَكْرٍ التَّفْرِقَةَ فَأَوْجَبَهُ الْبِكْرَ دُونَ الثَّيِّبِ وَرَوَاهُ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لَكِنَّ الْأَمَةَ الْبِكْرَ إذَا وُطِئَتْ مُكْرَهَةً أَوْ شُبْهَةً أَوْ مُطَاوِعَةً فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِي وُجُوبِ أَرْشِ الْبَكَارَةِ وَهُوَ مَا نَقَصَ قِيمَتُهَا بِالثُّيُوبَةِ وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْقِيمَةِ أَضْعَافَ مَهْرِ مِثْلِ الْأَمَةِ وَمَتَى خَرَجَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ بِإِفْسَادِهَا أَوْ بِإِفْسَادِ غَيْرِهَا أَوْ بِيَمِينِهِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَهُ فَلَهُ مَهْرُهَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ كَالْمَفْقُودِ بِنَاءً عَلَى الصَّحِيحِ أَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْفُرْقَةُ إذَا كَانَتْ مِنْ وُجْهَتِهَا فَهِيَ كَإِتْلَافِ الْبَائِعِ فَيُخَيَّرُ عَلَى الْمَشْهُورِ بَيْنَ مُطَالَبَتِهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَضَمَانِ الْمُسَمَّى لَهَا وَبَيْنَ إسْقَاطِ الْمُسَمَّى. [بَابُ الْوَلِيمَةِ] ِ وَتَخْتَصُّ بِطَعَامِ الْعُرْسِ فِي مُقْتَضَى كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ وَقِيلَ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ طَعَامٍ لِسُرُورٍ حَادِثٍ وَقَالَهُ فِي " الْجَامِعِ ": وَقِيلَ: تُطْلَقُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ فِي

الْعُرْسِ أَظْهَرُ وَوَقْتُ الْوَلِيمَةِ فِي حَدِيثِ زَيْنَبَ وَصِفَتُهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَقِبَ الدُّخُولِ وَالْأَشْبَهُ جَوَازُ الْإِجَابَةِ لَا وُجُوبُهَا إذَا كَانَ فِي مَجْلِسِ الْوَلِيمَةِ مَنْ يَهْجُرُ وَأَعْدَلُ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ إذَا حَضَرَ الْوَلِيمَةَ وَهُوَ صَائِمٌ إنْ كَانَ يَنْكَسِرُ قَلْبُ الدَّاعِي بِتَرْكِ الْأَكْلِ فَالْأَكْلُ أَفْضَلُ وَإِنْ لَمْ يَنْكَسِرْ قَلْبُهُ فَإِتْمَامُ الصَّوْمِ أَفْضَلُ وَلَا يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الدَّعْوَةِ الْإِلْحَاحُ فِي الطَّعَامِ لَلْمَدْعُوِّ إذَا امْتَنَعَ فَإِنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ جَائِزٌ فَإِذَا أَلْزَمَهُ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ كَانَ مِنْ نَوْعِ الْمَسْأَلَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَلَا يَنْبَغِي لَلْمَدْعُوِّ إذَا رَأَى أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى امْتِنَاعِهِ مَفَاسِدُ أَنْ يَمْتَنِعَ فَإِنَّ فِطْرَهُ جَائِزٌ، فَإِنْ كَانَ تَرْكُ الْجَائِزِ مُسْتَلْزِمًا لِأُمُورٍ مَحْذُورَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ الْجَائِزَ وَرُبَّمَا يَصِيرُ وَاجِبًا وَإِنْ كَانَ فِي إجَابَةِ الدَّاعِي مَصْلَحَةُ الْإِجَابَةِ فَقَطْ وَفِيهَا مَفْسَدَةُ الشُّبْهَةِ فَالْمَنْعُ أَرْجَحُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: هَذَا فِيهِ خِلَافٌ فِيمَا أَظُنُّهُ وَالدُّعَاءُ إلَى الْوَلِيمَةِ إذْنٌ فِي الْأَكْلِ وَالدُّخُولِ قَالَهُ فِي الْمُغْنِي وَقَالَ فِي الْمُحَرَّرِ لَا يُبَاحُ الْأَكْلُ إلَّا بِصَرِيحِ إذْنٍ أَوْ عُرْفٍ، وَكَلَامُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ يُوَافِقُهُ وَمَا قَالَاهُ مُخَالِفٌ قَالَهُ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ: وَالْحُضُورُ مَعَ الْإِنْكَارِ الْمُزِيلِ عَلَى قَوْلِ عَبْدِ الْقَادِرِ هُوَ حَرَامٌ، وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي وَالشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ هُوَ وَاجِبٌ وَإِلَّا قِيسَ بِكَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي التَّخْيِيرِ عِنْدَ الْمُنْكَرِ الْمَعْلُومِ غَيْرِ الْمَحْسُوسِ أَنْ يَتَخَيَّرَهُمَا أَيْضًا وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ أَشْبَهَ بِكَلَامِهِ لِزَوَالِ الْمَفْسَدَةِ بِالْحُضُورِ وَالْإِنْكَارِ لَكِنْ لَا يَجِبُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْلِيفِ الْإِنْكَارِ وَلِأَنَّ الدَّاعِيَ أَسْقَطَ حُرْمَتَهُ بِاِتِّخَاذِهِ الْمُنْكَرَ وَنَظِيرُ هَذَا إذَا مَرَّ بِمُتَلَبِّسٍ بِمَعْصِيَةٍ هَلْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ أَوْ يَتْرُكُ التَّسْلِيمَ وَإِنْ خَافُوا أَنْ يَأْتُوا بِالْمُحَرَّمِ وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِمْ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ فَقَدْ تَعَارَضَ الْمُوجِبُ وَهُوَ الدَّعْوَةُ وَالْمُبِيحُ وَهُوَ خَوْفُ شُهُودِ الْخَطِيئَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَمْ يَسْلَمْ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُسَاوِي وَلَا يَحْرُمُ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ كَذَلِكَ فَيَنْتَفِي الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ وَيَنْبَغِي الْجَوَازُ. وَنُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ اللُّبْثِ فِي الْمَكَانِ الْمُضِرِّ وَقَالَهُ الْقَاضِي وَهُوَ لَازِمٌ لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ حَيْثُ جَزَمَ بِمَنْعِ اللُّبْثِ فِي مَكَان فِيهِ الْخَمْرُ وَآنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلِذَلِكَ مَأْخَذَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ إقْرَارَ ذَلِكَ فِي الْمَنْزِلِ مُنْكَرٌ فَلَا يَدْخُلُ إلَى مَكَان فِيهِ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ الدُّخُولُ إلَى دُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَكَنَائِسِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا صُوَرٌ لِأَنَّهُمْ يَقَرُّونَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا يُنْهَوْنَ عَنْ إظْهَارِ الْخَمْرِ وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ جَمِيعِ مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو مُحَمَّدٍ وَيَكُونُ مَنْعُ الْمَلَائِكَةِ سَبَبًا لِمَنْعِ كَوْنِهَا فِي الْمَنْزِلِ وَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَانَ فِي الدَّعْوَةِ كَلْبٌ لَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ لَمْ تَدْخُلْ

الْمَلَائِكَةُ أَيْضًا بِخِلَافِ الْجُنُبِ فَإِنَّ الْجُنُبَ لَا يَطُولُ بَقَاؤُهُ جُنُبًا فَلَا تَمْتَنِعُ الْمَلَائِكَةُ عَنْ الدُّخُولِ إذَا كَانَ هُنَاكَ زَمَنًا يَسِيرًا وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ نَفْسُ اللُّبْثِ مُحَرَّمًا أَوْ مَكْرُوهًا وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَوْقَاتُ الْحَاجَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ وَتَكُونُ الْعِلَّةُ مَا يَكْتَسِبُهُ الْمَنْزِلُ مِنْ الصُّورَةِ الْمُحَرَّمَةِ حَتَّى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ مَنَازِلَ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَرَجَّحَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَدَمَ الدُّخُولِ إلَى بِيعَةٍ فِيهَا صُوَرٌ وَأَنَّهَا كَالْمَسْجِدِ عَلَى الْقَبْرِ، وَالْكَنَائِسُ لَيْسَتْ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ لَيْسَ لَهُمْ مَنْعُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهَا لِأَنَّا لُحْنَاهُمْ عَلَيْهِ وَالْعَابِدُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْغَافِلِينَ أَعْظَمُ أَجْرًا وَيَحْرُمُ شُهُودُ عِيدِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَنَقَلَهُ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ وَبِيعَةٍ لَهُمْ فِيهِ وَيَخْرُجُ مِنْ رِوَايَةٍ مَنْصُوصَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مَنْعِ التِّجَارَةِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إذَا لَمْ يُلْزِمُوهُ بِفِعْلِ مُحَرَّمٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ وَيُنْكِرُ مَا يُشَاهِدُهُ مِنْ الْمُنْكَرِ بِحَسَبِهِ وَيُحَرِّمُ بَيْعَهُمْ مَا يَعْلَمُونَهُ كَنِيسَةً أَوْ تِمْثَالًا وَنَحْوَهُ وَكُلُّ مَا فِيهِ تَخَصُّصٌ لِعِيدِهِمْ أَوْ مَا هُوَ بِمَنْزِلَتِهِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّهُ مِنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ وَالتَّشَبُّهُ بِهِمْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إجْمَاعًا وَتَجِبُ عُقُوبَةُ فَاعِلِهِ وَلَا يَنْبَغِي إجَابَةُ هَذِهِ الدَّعْوَةِ. وَلَمَّا صَارَتْ الْعِمَامَةُ الصَّفْرَاءُ أَوْ الزَّرْقَاءُ مِنْ شِعَارِهِمْ حُرِّمَ لُبْسُهَا وَيُحَرَّمُ الْأَكْلُ وَالذَّبْحُ الزَّائِدُ عَلَى الْمُعْتَادِ فِي بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ وَلَوْ الْعَادَةُ فِعْلُهُ أَوْ لِتَفْرِيحِ أَهْلِهِ وَيُعَزَّرُ إنْ عَادَ وَيُكْرَهُ مَوْسِمٌ خَاصٌّ: كَالرَّغَائِبِ، وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَهُوَ بِدْعَةٌ، وَأَمَّا مَا يُرْوَى فِي الْكُحْلِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، أَوْ الْخِضَابِ أَوْ الِاغْتِسَالِ، أَوْ الْمُصَافَحَةِ، أَوْ مَسْحِ رَأْسِ الْيَتِيمِ، أَوْ أَكْلِ الْحُبُوبِ، أَوْ الذَّبْحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَكُلُّ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِثْلُ ذَلِكَ بِدْعَةٌ لَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ شَيْءٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الدِّينِ، وَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْبِدَعِ فِيهِ مِنْ النِّيَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَالْمَأْتَمِ، وَسَبِّ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هُوَ أَيْضًا مِنْ أَعْظَمِ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، هَذَا وَهَذَا وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ أَغْلَظُ مِنْ بَعْضٍ وَالْخِلَافُ فِي كُسْوَةِ الْحِيطَانِ إذَا لَمْ تَكُنْ حَرِيرًا أَوْ ذَهَبًا، فَأَمَّا الْحَرِيرُ وَالذَّهَبُ فَيَحْرُمُ كَمَا تَحْرُمُ سُيُورُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ وَالْحِيطَانِ وَالْأَثْوَابِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْمَرْأَةِ فَفِي كَوْنِ سُتُورِهَا وَكُسْوَتِهَا كَفُرُشِهَا نَظَرٌ إذْ لَيْسَ هُوَ مِنْ اللِّبَاسِ وَلَا رَيْبَ فِي تَحْرِيمِ فُرُشِ الثِّيَابِ تَحْتَ دَابَّةِ الْأَمِيرِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ خَزًّا أَوْ مَغْصُوبَةً وَرَخَّصَ أَبُو مُحَمَّدٍ سَتْرَ الْحِيطَانِ

باب عشرة النساء

لِحَاجَةٍ مِنْ وِقَايَةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْقَاضِي الْمَنْعُ لِإِطْلَاقِهِ عَلَى مُقْتَضَى كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَيُكْرَهُ تَعْلِيقُ السُّتُورِ عَلَى الْأَبْوَابِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِوُجُودِ أَغْلَاقٍ غَيْرِهَا مِنْ أَبْوَابٍ وَنَحْوِهَا. وَكَذَلِكَ السُّتُورُ فِي الدِّهْلِيزِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَإِنَّ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ فَهُوَ سَرَفٌ وَهَلْ يَرْتَقِي إلَى التَّحْرِيمِ؟ فِيهِ نَظَرٌ قَالَ الْمَرْوَزِيِّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْجَوْزِ يُنْثَرُ فَكَرِهَهُ وَقَالَ يُعْطَوْنَ أَوْ يُقْسَمُ عَلَيْهِمْ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ هَانِئٍ لَا يُعْجِبُنِي انْتِهَابُ الْجَوْزِ وَأَنْ يُوكَلَ السَّكَرُ كَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي يُكْرَهُ الْأَكْلُ الْتِقَاطًا مِنْ النِّثَارِ سَوَاءٌ أَخَذَهُ أَوْ أَخَذَهُ مِمَّنْ أَخَذَهُ، وَقَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ هَذِهِ نُهْبَةٌ تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَهُوَ قَوِيٌّ وَأَمَّا الرُّخْصَةُ الْمَحْضَةُ فَتَبْعُدُ جِدًّا وَيُكْرَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ قَائِمًا لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَيُكْرَهُ الْقِرَانُ فِيمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَنَاوُلِهِ إفْرَادًا وَاخْتَلَفَ كَلَامُ أَبِي الْعَبَّاسِ فِي أَكْلِ الْإِنْسَانِ حَتَّى يُتْخَمَ هَلْ يُكْرَهُ أَوْ يُحَرَّمُ. وَجَزَمَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِتَحْرِيمِ الْإِسْرَافِ وَفُسِّرَ بِمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ وَإِذَا قَالَ عِنْدَ الْأَكْلِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كَانَ حَسَنًا فَإِنَّهُ أَكْمَلُ بِخِلَافِ الذَّبْحِ فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ وَيَلِمُ الْإِنْسَانُ مِنْ بَيْتِ صَدِيقِهِ وَقَرِيبِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ إذَا لَمْ يَحُزْهُ عَنْهُ. [بَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ] ِ وَلَوْ شَرَطَ الزَّوْجُ أَنْ يَتَسَلَّمَ الزَّوْجَةَ وَهِيَ صَغِيرَةٌ لِيُحْصِنَهَا فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ خَرَّجَهُمَا أَبُو بَكْرٍ أَنَّهَا إذَا اسْتَثْنَتْ بَعْضَ مَنْفَعَتِهَا الْمُسْتَحَقَّةِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ أَنَّهُ يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ كَمَا لَوْ اشْتَرَطَ فِي الْأَمَةِ التَّسْلِيمَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا وَإِذَا اشْتَرَطَ فِي الْأَمَةِ أَنْ تَكُونَ نَهَارًا عِنْدَ السَّيِّدِ وَقُلْنَا: إنَّ ذَلِكَ مُوجِبُ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ أَوْ لَمْ نَقُلْ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لِلسَّيِّدِ لَا عَلَيْهِ كَاشْتِرَاطِهَا دَارَهَا وَهُوَ شَرْطٌ لَهُ وَعَلَيْهِ وَلَوْ خَرَجَ هَذَا عَلَى اشْتِرَاطِ دَارِهَا وَهُوَ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَطَتْ دَارَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أُجْرَةُ تِلْكَ الدَّارِ لَكَانَ مُتَوَجِّهًا وَإِذَا كَانَ مُوجِبُ الْعَقْدِ مِنْ التَّقَابُضِ مَرَدَّهُ إلَى الْعُرْفِ فَلَيْسَ الْعُرْفُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُسَلَّمُ إلَيْهِ صَغِيرَةً وَلَا تَسْتَحِقُّ ذَلِكَ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ. وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِي بَدَنِهَا لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا إذْ النَّفَقَةُ تَتْبَعُ الِانْتِفَاعَ. وَتَجِبُ خِدْمَةُ زَوْجِهَا بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مِثْلِهَا لِمِثْلِهِ وَيَتَنَوَّعُ ذَلِكَ

بِتَنَوُّعِ الْأَحْوَالِ فَخِدْمَةُ الْبَدْوِيَّةِ لَيْسَتْ كَخِدْمَةِ الْقَرَوِيَّةِ وَخِدْمَةُ الْقَوِيَّةِ لَيْسَتْ كَخِدْمَةِ الضَّعِيفَةِ وَقَالَهُ الْجُوزَجَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَيَتَخَرَّجُ مِنْ نَصِّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ لِحَاجَتِهِ إلَى الْخِدْمَةِ لَا إلَى الِاسْتِمْتَاعِ وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْهَى عَنْ الْإِذْنِ لِلذِّمِّيَّةِ بِالْخُرُوجِ إلَى الْكَنِيسَةِ وَالْبِيعَةِ بِخِلَافِ الْإِذْنِ لِلْمُسْلِمَةِ إلَى الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ وَكَذَا قَالَ فِي الْمُغْنِي إنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ ذِمِّيَّةً فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْكَنِيسَةِ وَلِلزَّوْجِ مَنْعُ الزَّوْجَةِ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ فَإِذَا نَهَاهَا لَمْ تَخْرُجْ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ مَحْرَمٍ لَهَا أَوْ شُهُودِ جِنَازَتِهِ فَأَمَّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَهَلْ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ لِذَلِكَ إذَا لَمْ يَأْذَنْ وَلَمْ يَمْنَعْ كَعَمَلِ الصِّنَاعَةِ أَوْ لَا تَفْعَلَ إلَّا بِإِذْنٍ كَالصِّيَامِ، تَرَدَّدَ فِيهِ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَكَلَامُ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ يَقْتَضِي أَنَّ التَّمْكِينَ مِنْ الْقُبْلَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الزَّوْجَةِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَمَا أَرَاهُ صَحِيحًا بَلْ تُجْبَرُ عَلَى تَمْكِينِهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ الْمُبَاحَةِ وَلَوْ تَطَاوَعَ الزَّوْجَانِ عَلَى الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَقَالَهُ أَصْحَابُنَا وَعَلَى قِيَاسِهِ الْمُطَاوَعَةُ عَلَى الْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ. وَتَهْجُرُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِي الْمَضْجَعِ لِحَقِّ اللَّهِ بِدَلِيلِ قِصَّةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَيَنْبَغِي أَنْ تَمْلِكَ النَّفَقَةَ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ كَمَا لَوْ امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ الصَّدَاقِ وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ وَطْءُ امْرَأَتِهِ بِقَدْرِ كِفَايَتِهَا مَا لَمْ يُنْهِكْ بَدَنَهُ أَوْ تَشْغَلْهُ عَنْ مَعِيشَتِهِ غَيْرَ مُقَدَّرٍ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَالْأَمَةِ فَإِنْ تَنَازَعَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَفْرِضَهُ الْحَاكِمُ كَالنَّفَقَةِ وَكَوَطْئِهِ إذَا زَادَ وَيُتَوَجَّهُ أَنْ لَا يَتَقَدَّرَ قَسْمُ الِابْتِدَاءِ الْوَاجِبِ كَمَا لَا يَتَقَدَّرُ الْوَطْءُ بَلْ يَكُونُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ جَوَازُ التَّزَوُّجِ بِأَرْبَعٍ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ بِوَاحِدَةٍ يَكُونُ لَهَا حَالَ الِانْفِرَادَ مَا لَهَا حَالَ الِاجْتِمَاعِ وَعَلَى هَذَا فَتُحْمَلُ قِصَّةُ كَعْبِ بْنِ سَوْرٍ عَلَى أَنَّهُ تَقْدِيرُ شَخْصٍ لَا يُرَاعَى كَمَا لَوْ فَرَضَ النَّفَقَةَ وَقَوْلُ أَصْحَابِنَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ الْمَبِيتُ عِنْدَ امْرَأَتِهِ لَيْلَةً مِنْ أَرْبَعٍ وَهَذَا الْمَبِيتُ يَتَضَمَّنُ سُنَّتَيْنِ إحْدَاهُمَا الْمُجَامَعَةُ فِي الْمَنْزِلِ وَالثَّانِيَةُ فِي الْمَضْجَعِ وقَوْله تَعَالَى {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَلَا يَهْجُرُ إلَّا فِي الْمَضْجَعِ» دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْمَبِيتِ فِي الْمَضْجَعِ وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَهْجُرُ الْمَنْزِلَ. وَنَصُّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْمَبِيتِ فِي الْمَضْجَعِ وَكَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي النُّشُوزِ إذَا نَشَزَتْ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ بِدُونِ ذَلِكَ وَحُصُولُ الضَّرَرِ لِلزَّوْجَةِ بِتَرْكِ الْوَطْءِ مُقْتَضٍ لِلْفَسْخِ بِكُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ

كَانَ بِقَصْدٍ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَلَوْ مَعَ قُدْرَتِهِ وَعَجْزِهِ كَالنَّفَقَةِ وَأَوْلَى لِلْفَسْخِ بِتَعَذُّرِهِ فِي الْإِيلَاءِ إجْمَاعًا وَعَلَى هَذَا فَالْقَوْلُ فِي امْرَأَةِ الْأَسِيرِ وَالْمَحْبُوسِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ تَعَذَّرَ انْتِفَاعُ امْرَأَتِهِ بِهِ إذَا طَلَبَتْ فُرْقَتَهُ كَالْقَوْلِ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ قَالَ أَصْحَابُنَا وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ لَيْلَةً مِنْ أَرْبَعٍ وَعِنْدَ الْأَمَةِ لَيْلَةً مِنْ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ وَيُتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّهُ يَجِبُ لِلْأَمَةِ لَيْلَةٌ مِنْ أَرْبَعٍ لِأَنَّ التَّنْصِيفَ إنَّمَا هُوَ فِي قَسْمِ الِابْتِدَاءِ فَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ بِأَرْبَعِ إمَاءٍ فَهُنَّ فِي غَايَةِ عَدَدِهِ فَتَكُونُ الْأَمَةُ كَالْحُرَّةِ فِي قَسْمِ الِابْتِدَاءِ وَأَمَّا قَسْمُ التَّسْوِيَةِ فَيَخْتَلِفَانِ إذَا جَوَّزْنَا لِلْحُرِّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ ثَلَاثِ حَرَائِرَ وَأَمَةٍ فِي رِوَايَةٍ وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْعَبْدُ فَقِيَاسُ قَوْلِهِمْ إنَّهُ يَقْسِمُ لِلْحُرَّةِ لَيْلَةً مِنْ لَيْلَتَيْنِ وَالْأَمَةِ لَيْلَةً مِنْ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعٍ وَلَا يُتَصَوَّرُ. أَنْ يَجْمَعَ عِنْدَهُ أَرْبَعًا عَلَى قَوْلِنَا وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ يُتَصَوَّرُ. قَالَ أَصْحَابُنَا وَيَجِبُ لِلْمَعِيبَةِ كَالْبَرْصَاءِ وَالْجَذْمَاءِ إذَا لَمْ يَجُزْ الْفَسْخُ وَكَذَلِكَ عَلَيْهِمَا تَمْكِينُ الْأَبْرَصِ وَالْأَجْذَمِ وَالْقِيَاسُ وُجُوبُ ذَلِكَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ إذْ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يُقَالَ عَلَيْهَا وَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ لَكِنْ إذَا لَمْ تُمَكِّنْهُ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَإِذَا لَمْ يَسْتَمْتِعْ بِهَا فَلَهَا الْفَسْخُ وَيَكُونُ الْمُثْبِتُ لِلْفَسْخِ هُنَا عَدَمَ وَطْئِهِ فَهَذَا يَقُودُ إلَى وُجُوبِهِ وَيُنْفِقُ عَلَى الْمَجْنُونِ الْمَأْمُونِ وَلِيُّهُ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ مَنْ يَمْلِكُ الْوِلَايَةَ عَلَى بَدَنِهِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْحَضَانَةَ فَاَلَّذِي يَمْلِكُ تَعْلِيمَهُ وَتَأْدِيبَهُ الْأَبُ ثُمَّ الْوَصِيُّ. قَالَ أَصْحَابُنَا وَيَأْثَمُ إنْ طَلَّقَ إحْدَى زَوْجَتَيْهِ وَقْتَ قَسْمِهَا وَتَعْلِيلُهُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ مَجِيءِ نَوْبَتِهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَيُتَوَجَّهُ أَنَّ لَهُ الطَّلَاقَ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْقَسْمَ إنَّمَا يَجِبُ مَا دَامَتْ زَوْجَةً كَالنَّفَقَةِ وَلَيْسَ هُوَ شَيْءٌ هُوَ مُسْتَقَرٌّ فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ مُضِيِّ وَقْتِهِ حَتَّى يُقَالَ هُوَ دَيْنٌ. نَعَمْ لَوْ لَمْ يَقْسِمْ لَهَا حَتَّى خَرَجَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي لَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَهُ كَانَ عَاصِيًا وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَهَا عَنْ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الشِّتَاءِ لَيْلَةً مِنْ لَيَالِيِ الصَّيْفِ كَانَ لَهَا الِامْتِنَاعُ لِأَجْلِ تَفَاوُتٍ بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي النَّفَقَةِ وَكَلَامُ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَكَذَا الْكُسْوَةُ. قَالَ أَصْحَابُنَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَأْخُذَ الزَّوْجَةُ عِوَضًا عَنْ حَقِّهَا مِنْ الْمَبِيتِ وَكَذَا الْوَطْءُ وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الْقَاضِي مَا يَقْتَضِي جَوَازَهُ.

قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ عِنْدِي جَوَازُ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنْ سَائِرِ حُقُوقِهَا مِنْ الْقَسْمِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ الْعِوَضَ عَنْ حَقِّهِ مِنْهَا جَازَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْعِوَضَ عَنْ حَقِّهَا مِنْهُ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ بَدَنِيَّةٌ. وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَبْذُلَ الْمَرْأَةُ الْعِوَضَ لِيَصِيرَ أَمْرُهَا بِيَدِهَا، وَلِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الزَّوْجَ كَمَا يَسْتَحِقُّ الزَّوْجُ حَبْسَهَا وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الرِّقِّ فَيَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ وَقَدْ تُشْبِهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الصُّلْحَ عَنْ الشُّفْعَةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَلَوْ سَافَرَ بِإِحْدَاهُنَّ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ قَالَ أَصْحَابُنَا يَأْثَمُ وَيَقْضِي وَالْأَقْوَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَإِذَا ادَّعَتْ الزَّوْجَةُ أَوْ وَلِيُّهَا أَنَّ الزَّوْجَ يَظْلِمُهَا، وَكَانَ الْحَاكِمُ وَلِيَّهَا وَخَافَ ذَلِكَ، نَصَّبَ الْحَاكِمُ مُشْرِفًا وَفِيهِ نَظَرٌ، وَمَسْأَلَةُ نَصْبِ الْمُشْرِفِ لَمْ يَذْكُرْ الْخِرَقِيِّ وَالْقُدَمَاءُ وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ إذَا وَقَعَتْ الْعَدَاوَةُ وَخِيفَ الشِّقَاقُ بُعِثَ الْحَكَمَانِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى نَصْبِ مُشْرِفٍ قَالَ أَصْحَابُنَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكَمَاءُ أَجْنَبِيَّيْنِ وَيَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِهِمَا وَوُجُوبُ كَوْنِهِمَا مِنْ أَهْلِهِمَا هُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ فَإِنَّهُ اشْتَرَطَهُ كَمَا اشْتَرَطَ الْأَمَانَةَ وَهَذَا أَصَحُّ فَإِنَّهُ نَصُّ الْقُرْآنِ وَلِأَنَّ الْأَقَارِبَ أَخْبَرُ بِالْعِلَلِ الْبَاطِنَةِ وَأَقْرَبُ إلَى الْأَمَانَةِ وَالنَّظَرِ فِي الْمَصْلَحَةِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ نَظَرٌ فِي الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ وِلَايَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ لَا سِيَّمَا إنْ جَعَلْنَاهُمَا حَاكِمَيْنِ كَمَا هُوَ الصَّوَابُ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَهَلْ لِلْحَكَمَيْنِ إذَا قُلْنَا هُمَا حَاكِمَانِ لَا وَكِيلَانِ أَنْ يُطَلِّقَا ثَلَاثًا أَوْ يَفْسَخَا كَمَا فِي الْمُوَلَّى قَالُوا هُنَاكَ لَمَّا قَامَ مَقَامَ الزَّوْجِ فِي الطَّلَاقِ مَلَكَ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ وَاحِدَةٍ وَثَلَاثٍ فَيُتَوَجَّهُ هُنَا كَذَلِكَ إذَا قُلْنَا هُمَا حَاكِمَانِ وَإِنْ قُلْنَا وَكِيلَانِ لَمْ يَمْلِكَا إلَّا مَا وُكِّلَا فِيهِ وَأَمَّا الْفَسْخُ، فَلَا يُتَوَجَّهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَاكِمًا أَصْلِيًّا.

كتاب الخلع

[كِتَابُ الْخُلْعِ] ِ اخْتَلَفَ كَلَامُ أَبِي الْعَبَّاسِ فِي وُجُوبِ الْخُلْعِ لِسُوءِ الْعِشْرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ مُبْغِضَةً لَهُ لِخُلُقِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ وَهُوَ يُحِبُّهَا فَكَرَاهَةُ الْخُلْعِ فِي حَقِّهِ تَتَوَجَّهُ وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ تُبْغِضُ زَوْجَهَا وَهُوَ يُحِبُّهَا لَا آمُرُهَا بِالْخُلْعِ، وَيَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَصْبِرَ. وَحَمَلَهُ الْقَاضِي عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لَا الْكَرَاهَةِ لِنَصِّهِ عَلَى جَوَازِهِ فِي مَوَاضِعَ وَلَوْ عَضَلَهَا لِتَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ وَلَمْ تَكُنْ تَزْنِي حُرِّمَتْ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: الْعِوَضُ مَرْدُودٌ وَالزَّوْجَةُ بَائِنٌ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَلَهُ وَجْهٌ حَسَنٌ وَوَجْهٌ قَوِيٌّ إذَا قُلْنَا الْخُلْعُ يَصِحُّ بِلَا عِوَضٍ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ خَلَعَ عَلَى مَغْصُوبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَنَحْوِهِ وَتَخْرِيجُ الرِّوَايَتَيْنِ هُنَا قَوِيٌّ جِدًّا وَخُلْعُ الْحُبْلَى لَا يَصِحُّ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا لَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودَ بِهِ الْقُرْبَةُ وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ بَقَاءُ الْمَرْأَةِ تَبَعَ زَوْجِهَا كَمَا يُقْصَدُ بِنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَطْؤُهَا لِتَعُودَ إلَى الْأَوَّلِ وَالْعَقْدُ لَا يُقْصَدُ بِهِ بَعْضُ مَقْصُودِهِ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ لَمْ تَبِنْ بِهِ الزَّوْجَةُ وَيَجُوزُ الْخُلْعُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْجُمْهُورِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، فَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِعَهَا كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَفْتَدِيَ الْأَسِيرُ وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَبْذُلَ الْأَجْنَبِيُّ لِسَيِّدِهَا الْعَبْدَ عِوَضًا لِعِتْقِهِ وَلِهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا بِمَا إذَا كَانَ قَصْدُهُ تَخْلِيصًا مِنْ رِقِّ الزَّوْجِ لِمَصْلَحَتِهَا فِي ذَلِكَ وَنَقَلَ مُهَنَّا عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ طَلِّقْ امْرَأَتَك حَتَّى أَتَزَوَّجَهَا وَلَك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَخَذَ مِنْهُ الْأَلْفَ ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْت طَالِقٌ. فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ رَجُلٌ يَقُولُ لِرَجُلٍ طَلِّقْ امْرَأَتَك حَتَّى أَتَزَوَّجَهَا لَا يَحِلُّ هَذَا. وَفِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ: إذَا قِيلَ إنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ لَا يَصِحُّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ قَالُوا لِأَنَّهُ إقَالَةٌ وَالْإِقَالَةُ لَا تَصِحُّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ ذَكَرَهُ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ

الطَّرِيقَةِ الْخَرَسَانِيَّةِ وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ فَسْخٌ هُوَ فَسْخٌ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ مَنْ صَرَّحَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبَيْنِ وَإِنْ كَانَ شَارِحُ الْوَجِيزِ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ الْعِرَاقِيِّينَ كَأَبِي إِسْحَاقَ فِي خِلَافِهِ وَغَيْرِهِ وَفِي مَعْنَى الْخُلْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ الْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَالٍ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ كَمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْغَارِمِ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ لِكُلٍّ مِنْ الطَّرَفَيْنِ مَالًا مِنْ عِنْدِهِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يَصِحُّ مِمَّنْ طَلَاقُهُ بِالْمِلْكِ أَوْ الْوَكَالَةِ وَالْوِلَايَةِ كَالْحَاكِمِ فِي الشِّقَاقِ، وَكَذَا لَوْ فَعَلَهُ الْحَاكِمُ فِي الْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ أَوْ الْإِعْسَارِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَمْلِكُ الْحَاكِمُ الْفُرْقَةَ؛ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ وَالسَّفِيهَ يَصِحُّ طَلَاقُهُمَا بِلَا عِوَضٍ فَبِالْعِوَضِ أَوْلَى لَكِنْ قَدْ يُقَالُ فِي قَبُولِهِمَا لِلْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ بِلَا إذْنِ الْوَلِيِّ وَجْهَانِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ صَحِيحٌ فَلَا يَخْرُجُ الْخِلَافُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ تَحْتَ حِجْرِ الْأَبِ أَنَّ لَهُ أَنْ يُخَالِعَ إذَا كَانَ لَهَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَيُوَافِقُ ذَلِكَ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ عَنْ مَالِكٍ وَتُخَرَّجُ أُصُولٌ لِأَحْمَدَ وَالْخُلْعُ بِعِوَضٍ فَسْخٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ وَلَوْ وَقَعَ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَلَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ. وَهَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَلَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَلَا قُدَمَاءُ أَصْحَابِهِ فِي الْخُلْعِ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ لَا لَفْظِ الطَّلَاقِ وَلَا غَيْرِهِ بَلْ أَلْفَاظُهُمْ كُلُّهَا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ فَسْخٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَأَيْت أَبِي يَذْهَبُ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كُلُّ مَا أَجَازَهُ الْمَالُ فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ وَاَلَّذِي يَقْتَضِيه الْقِيَاسُ أَنَّهُمَا إذَا طَلَّقَهَا لِنِكَاحٍ ثَبَتَ صَدَاقُ الْمِثْلِ فَهَكَذَا الْخُلْعُ وَأَوْلَى وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ هَلْ لِلزَّوْجِ إبَانَةُ امْرَأَتِهِ بِلَا عِوَضٍ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبِينَهَا إلَّا بِعِوَضٍ وَإِنْ كَانَ طَلَاقٌ وَقَعَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِلَا عِوَضٍ فَرَجْعِيٌّ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي إبَانَتُهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ مُطْلَقًا بِاخْتِيَارِهَا وَغَيْرِ اخْتِيَارِهَا وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: لَهُ إبَانَتُهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ دُونَ بَعْضٍ فَإِذَا اخْتَارَتْ الْإِبَانَةَ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَهُ أَنْ يُبِينَهَا وَيَصِحُّ الْخُلْعُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَيَقَعُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ إمَّا طَلَاقًا وَإِمَّا فَسْخًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ الْمَشْهُورُ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْقَاسِمِ

وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا الْخِرَقِيِّ وَهَذَا الْقَوْلُ لَهُ مَأْخَذَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الرَّجْعَةَ حَقٌّ لِلزَّوْجَيْنِ فَإِذَا تَرَاضَيَا عَلَى إسْقَاطِهَا سَقَطَتْ وَالثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ فُرْقَةٌ بِعِوَضٍ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِتَرْكِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَرَضِيَ هُوَ بِتَرْكِ ارْتِجَاعِهَا وَكَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْعِوَضَ إسْقَاطَ مَا كَانَ ثَابِتًا لَهَا مِنْ الْحُقُوقِ كَالدَّيْنِ فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ إسْقَاطَ مَا ثَبَتَ لَهُمَا بِالطَّلَاقِ كَمَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى نَفَقَةِ الْوَلَدِ وَهَذَا قَوْلٌ قَوِيٌّ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي النَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَوْ شَرَطَ الرَّجْعَةَ فِي الْخُلْعِ فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ صِحَّةُ هَذَا الشَّرْطِ كَمَا لَوْ بَذَلَتْ لَهُ مَالًا عَلَى أَنْ تَمْلِكَ أَمْرَهَا فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ الشَّرْطِ فِي الْعُقُودِ قَالَ الْقَاضِي فِي الْخُلْعِ وَلَوْ طَلَّقَهَا فَشَرَعَتْ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ بَذَلَتْ لَهُ مَا لَا يُزِيلُ عَنْهَا الرَّجْعَةَ لَمْ تَزُلْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مَحَلُّ وِفَاقٍ وَفِيهِ نَظَرٌ وَإِذَا خَالَعَتْهُ عَلَى الْإِبْرَاءِ مِمَّا يَعْتَقِدُ أَنَّ وُجُوبَهُ اجْتِهَادٌ أَوْ تَقْلِيدٌ مِثْلُ أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى قِيمَةِ كَلْبٍ أَتْلَفَتْهُ مُعْتَقِدَيْنِ وُجُوبَ الْقِيمَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى قِيمَةِ كَلْبٍ لَهُ فِي ذِمَّتِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا نَوْعُ غَرَرٍ، وَالْغَرَرُ يَصِحُّ عَلَى الْغَرَرِ، بِخِلَافِ الصَّدَاقِ. نَقَلَ مُهَنَّا عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ خَلَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ لَهَا عَلَى أَبِيهِ أَنَّهُ جَائِزٌ فَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ أَبُوهُ شَيْئًا رَجَعَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَتَرْجِعُ الْمَرْأَةُ عَلَى الْأَبِ وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ صَحِيحٌ عَلَى ظَاهِرٍ وَهُوَ خُلْعٌ عَلَى الدَّيْنِ، وَالدَّيْنُ مِنْ الْغَرَرِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخُلْعِ عَلَى الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَلَمَّا لَمْ يَحْصُلْ الْعِوَضُ بِعَيْنِهِ رَجَعَ فِي بَدَلِهِ كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ اشْتَرَى مَغْصُوبًا يَقْدِرُ عَلَى تَخْلِيصِهِ فَلَمْ يَقْدِرْ وَلَوْ خَالَعَتْهُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا ثُمَّ أَحَالَتْهُ بِهِ عَلَى أَبِيهِ لَكَانَ تَأْوِيلُ الْقَاضِي مُتَوَجِّهًا وَهُوَ أَنَّ الْقَاضِيَ تَأَوَّلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَنَّهَا حَوَالَةٌ وَأَنَّ الزَّوْجَ لَمَّا قَبِلَ الْحَوَالَةَ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ الْأَبِ اعْتِرَافٌ بِالدَّيْنِ فَلِهَذَا مَلَكَ الرُّجُوعَ عَلَيْهَا بِمَالِ الْخُلْعِ وَكَانَ لَهَا مُخَاصَمَةُ الْأَبِ فِيمَا تَدَّعِيهِ فَأَمَّا إنْ كَانَ قَدْ حَصَلَ مِنْ جِهَتِهِ اعْتِرَافٌ بِالدَّيْنِ ثُمَّ جَحَدَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ انْتَقَلَ وَجُحُودٌ لَا يَثْبُتُ لَهُ الرُّجُوعُ.

كتاب الطلاق

[كِتَابُ الطَّلَاقِ] ِ وَيَصِحُّ الطَّلَاقُ مِنْ الزَّوْجِ وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ: وَمِنْ الْعَبْدِ، الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَسَيِّدِهِمَا، وَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يُسَوَّى فِي هَذَا الْبَابِ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْفَسْخِ فَكُلُّ مَنْ مَلَكَ الْعَقْدَ عَلَيْهِ فَإِنَّ هَذَا قِيَاسُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ مُوجِبُ شَهَادَةِ الْأُصُولِ وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْوَصِيُّ الْمُزَوِّجُ وَالْأَوْلِيَاءُ إذَا زَوَّجُوا الْمَجْنُونَ فَإِنَّا إذَا جَوَّزْنَا لِلْوَلِيِّ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ وَجَوَّزْنَا لَهُ الْكِتَابَةَ وَالْعِتْقَ لِمَصْلَحَةٍ وَجَوَّزْنَا لَهُ الْمُقَابَلَةَ فِي الْبَيْعِ وَفَسْخِهِ لِمَصْلَحَةٍ فَقَدْ أَقَمْنَاهُ مَقَامَ نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ الَّذِي لَهُ التَّزْوِيجُ وَهَذَا فِيمَنْ يَمْلِكُ جِنْسَ النِّكَاحِ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ السَّكْرَانِ، وَلَوْ بِسُكْرٍ مُحَرَّمٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَنَقَلَ الْمَيْمُونِيُّ عَنْ أَحْمَدَ الرُّجُوعَ عَمَّا سِوَاهَا فَقَالَ: كُنْت أَقُولُ يَقَعُ طَلَاقُ السَّكْرَانِ حَتَّى تَبَيَّنْت، فَغَلَبَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ وَقَصْدُ إزَالَةِ الْعَقْلِ بِلَا سَبَبٍ شَرْعِيٍّ مُحَرَّمٌ، وَلَوْ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ حِينَ الطَّلَاقِ زَائِلُ الْعَقْلِ لِمَرَضٍ أَوْ غَشْيٍ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: أَفْتَيْت أَنَّهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ سَبَبٌ يُمْكِنُ صِدْقُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَمْرُ زَوْجَتِهِ بِالصَّلَاةِ فَإِنْ لَمْ تُصَلِّ وَجَبَ عَلَيْهِ فِرَاقُهَا فِي الصَّحِيحِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إذَا دُعِيَتْ إلَى الصَّلَاةِ وَامْتَنَعَتْ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَلَا يَنْفَسِخُ فِي الْآخَرِ إذْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِرَاقُهَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا بِلَا فِعْلِهِ فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ طَلَاقِهَا لِثِقَلِ مَهْرِهَا كَانَ مُسِيئًا بِتَزَوُّجِهِ بِمَنْ لَا تُصَلِّي وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَيَتُوبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ وَيَنْوِي أَنَّهُ إذَا قَدَرَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَهُ وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَالْإِكْرَاهُ يَحْصُلُ إمَّا بِالتَّهْدِيدِ أَوْ بِأَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَضُرُّهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ بِلَا تَهْدِيدٍ. `

وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فِي مَوْضِعٍ آخَرَ كَوْنُهُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ تَحَقُّقَ تَهْدِيدِهِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ بَلْ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَوْ اسْتَوَى الطَّرَفَانِ لَكَانَ إكْرَاهًا وَأَمَّا إنْ خَافَ وُقُوعَ التَّهْدِيدِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُهُ فَهُوَ مُحْتَمَلٌ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَلَوْ أَرَادَ لِلْكُرْهِ وَإِيقَاعِ الطَّلَاقِ وَتَكَلَّمَ بِهِ وَقَعَ وَهُوَ رِوَايَةٌ حَكَاهَا أَبُو الْخَطَّابِ فِي الِانْتِصَارِ وَإِنْ سَحَرَهُ لِيُطَلِّقَ فَإِكْرَاهٌ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: تَأَمَّلْت الْمَذْهَبَ فَوَجَدْت الْإِكْرَاهَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ الْإِكْرَاهُ الْمُعْتَبَرُ فِي كَلِمَةِ الْكُفْرِ كَالْإِكْرَاهِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْهِبَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّ أَحْمَدَ قَدْ نَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْكُفْرِ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَعْذِيبٍ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ قَيْدٍ وَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ إكْرَاهًا. وَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ وَهَبَتْ زَوْجَهَا صَدَاقَهَا أَوْ مَسْكَنَهَا فَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَا تَهَبُ لَهُ إلَّا إذَا خَافَتْ أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ يُسِيءَ عِشْرَتَهَا فَجَعَلَ خَوْفَ الطَّلَاقِ أَوْ سُوءَ الْعِشْرَةِ إكْرَاهًا فِي الْهِبَةِ وَلَفْظُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ أَكْرَهَهَا وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ إكْرَاهًا عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّ الْأَسِيرَ إذَا خَشِيَ مِنْ الْكُفَّارِ أَنْ لَا يُزَوِّجُوهُ وَأَنْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ لَمْ يُبَحْ لَهُ التَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ وَمِثْلُ هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ حَقٌّ مِنْ دَيْنٍ أَوْ وَدِيعَةٍ فَقَالَ لَا أُعْطِيك حَتَّى تَبِيعَنِي أَوْ تَهَبَنِي فَقَالَ مَالِكٌ هُوَ إكْرَاهٌ وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ وَمَنْصُوصُهُ فِي مَسْأَلَةِ مَا إذَا مَنَعَهَا حَقَّهَا لِتَخْتَلِعَ مِنْهُ. وَقَالَ الْقَاضِي تَبَعًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَيْسَ إكْرَاهًا وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي وُجُوبِ طَلَاقِ الزَّوْجَةِ بِأَمْرِ الْأَبِ مُقَيَّدٌ بِصَلَاحِ الْأَبِ. وَالطَّلَاقُ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ مُحَرَّمٌ لِاقْتِضَاءِ النَّهْيِ الْفَسَادَ وَلِأَنَّهُ خِلَافُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ أَصَابَهَا فِيهِ حَرُمَ وَلَا يَقَعُ وَيَقَعُ مِنْ ثَلَاثٍ مَجْمُوعَةٍ أَوْ مُفَرَّقَةٍ بَعْدُ لِدُخُولِ وَاحِدَةٍ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا فَرَّقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ وَالرَّجْعِيَّةُ لَا يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ إرْسَالَ طَلَاقِهِ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ فِي عِدَّتِهَا قَبْلَ أَنْ يُرَاجِعَهَا مُحَرَّمٌ وَلَوْ قَالَ: أَنْت طَالِقٌ فِي آخِرِ طُهْرِك وَلَمْ يَطَأْ فِيهِ فَهُوَ مُبَاحٌ إلَّا عَلَى رِوَايَةِ: الْقُرُوءُ الْأَطْهَارُ وَقَالَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الْجَعْدُ تَبَعًا لِلْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ هُوَ بِدْعَةٌ وَمَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ كَاذِبًا يَعْلَمُ كَذِبَ نَفْسِهِ لَا تَطْلُقُ زَوْجَتُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ: امْرَأَةُ فُلَانٍ طَالِقٌ فَقَالَ ثَلَاثًا فَهَذِهِ تُشْبِهُ مَا لَوْ قَالَ لِي عَلَيْك أَلْفٌ فَقَالَ صِحَاحٌ وَفِيهِ وَجْهَانِ وَهَذَا أَصْلُهُ فِي الْكَلَامِ مِنْ اثْنَيْنِ إذَا أَتَى الثَّانِي بِالصِّفَةِ وَنَحْوِهَا هَلْ يَكُونُ مُتَمِّمًا

لِلْأَوَّلِ؟ وَعَقْدُ النِّيَّةِ فِي الطَّلَاقِ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهَا إنْ أَسْقَطَتْ شَيْئًا مِنْ الطَّلَاقِ لَمْ تُقْبَلْ مِثْلُ قَوْلِهِ أَنْت طَالِقٌ ثَلَاثًا وَقَالَ نَوَيْت إلَّا وَاحِدَةً فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَإِنْ لَمْ تَسْقُطْ مِنْ الطَّلَاقِ وَإِنَّمَا عَدَلَ بِهِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ مِثْلُ أَنْ يَنْوِيَ مِنْ وَثَاقٍ وَعِقَالٍ وَدُخُولِ الدَّارِ إلَى سَنَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: يُقْبَلُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْت طَالِقٌ، أَنْت طَالِقٌ. وَقَالَ: نَوَيْت بِالثَّانِيَةِ التَّأْكِيدَ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَأَنْتِ طَالِقٌ، وَمُطَلَّقَةٌ، وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ مِنْ الصِّيَغِ هِيَ إنْشَاءٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا هِيَ إثْبَاتٌ لِلْحُكْمِ وَشَهَادَتُهُمْ وَهِيَ إخْبَارٌ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي فِي النَّفْسِ وَمَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ بِطَلَاقِ ثَلَاثٍ ثُمَّ أَفْتَى بِأَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِإِقْرَارِهِ لِمَعْرِفَةِ أَنَّ مُسْتَنَدَهُ فِي إقْرَارِهِ ذَلِكَ مِمَّا يَجْهَلُهُ وَإِذَا صَرَفَ الزَّوْجُ لَفْظَهُ إلَى مُمْكِنٍ يَتَخَرَّجُ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ إذَا كَانَ عَدْلًا كَمَا قَالَهُ أَحْمَدُ فِيمَنْ أَخْبَرَتْ أَنَّهَا نَكَحَتْ مَنْ أَصَابَهَا وَفِي الْمُخْبِرِ بِالثَّمَنِ إذَا ادَّعَى الْغَلَطَ عَلَى رِوَايَةٍ. وَلَوْ قِيلَ بِمِثْلِ هَذَا فِي الْمُخْبِرَةِ بِحَيْضِهَا إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِهِ يُتَوَجَّهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ إذَا خَالَفَ خَبَرُهُ الْأَصْلَ اُعْتُبِرَ فِيهِ الْعَدَالَةُ. وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْكِنَايَةِ إلَّا بِنِيَّةٍ إلَّا مَعَ قَرِينَةِ إرَادَةِ الطَّلَاقِ فَإِذَا قَرَنَ الْكِنَايَاتِ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى أَحْكَامِ الطَّلَاقِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: فَسَخْت النِّكَاحَ وَقَطَعْت الزَّوْجِيَّةَ وَرَفَعْت الْعَلَاقَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجَتِي وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى فِي ضِمْنِ مَسْأَلَةِ الْقِيَاسِ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْكِنَايَةِ حَتَّى يَنْوِيَهُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: هَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ عَلَى الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا فَإِنَّهُمْ مَهَّدُوا فِي كِتَابِ الْوَقْفِ أَنَّهُ إذَا قَرَنَ بِالْكِنَايَةِ بَعْضَ أَحْكَامِهِ صَارَتْ كَالصَّرِيحِ وَيَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِ الزَّوْجِ لَسْت لِي بِامْرَأَةٍ وَمَا أَنْت لِي بِامْرَأَةٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ لَيْسَ لِي امْرَأَةٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إذَا قِيلَ لَهُ لَك امْرَأَةٌ فَقَالَ لَا فَإِنَّ الْفَرْقَ ثَابِتٌ بَيْنَهُمَا وَصْفًا وَعَدَدًا إذْ الْأَوَّلُ نَفْيٌ لِنِكَاحِهَا وَنَفْيُ النِّكَاحِ عَنْهَا كَإِثْبَاتِ طَلَاقِهَا وَيَكُونُ إنْشَاءً وَيَكُونُ إخْبَارًا بِخِلَافِ نَفْيِ الْمَنْكُوحَاتِ عُمُومًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَعْمِل إلَّا إخْبَارًا وَفِي الْمُغْنِي وَالْكَافِي وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَوْ بَاعَ زَوْجَتَهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَعِنْدِي أَنَّهُ كِنَايَةٌ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ إذَا قَصَدَ الْخُلْعَ لَا بَيْعَ الرَّقَبَةِ. قَالَ الْقَاضِي: إنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَكِ، فَذَكَرَتْ أَنَّهَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا، فَأَنْكَرَ الزَّوْجُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ مِمَّا يُمْكِنُهَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي اخْتِيَارِهَا.

باب ما يختلف به عدد الطلاق

قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: يُتَوَجَّهُ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهَا كَالْوَكِيلِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّ الْوَكِيلَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ وُكِّلَ فِيهِ وَلَوْ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ رَجَعَ قَبْلَ إيقَاعِ الْوَكِيلِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ إنْ أَبْرَأْتِينِي فَأَنْتَ طَالِقٌ فَقَالَتْ أَبْرَأَك اللَّهُ مِمَّا تَدَّعِي النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ إذَا كَانَتْ رَشِيدَةً. [بَابُ مَا يَخْتَلِفُ بِهِ عَدَدُ الطَّلَاقِ] وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ يَلْزَمُنِي الطَّلَاقُ وَلَهُ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجَةٍ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ نِيَّةٌ أَوْ سَبَبٌ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ أَوْ التَّخْصِيصَ عُمِلَ بِهِ وَمَعَ فَقْدِ النِّيَّةِ وَالسَّبَبِ فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِذَلِكَ عَلَى الزَّوْجَةِ الْوَاحِدَةِ لِأَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ فِي الطَّلَاقِ يَكُونُ تَارَةً فِي نَفْسِهِ وَتَارَةً فِي مَحَلِّهِ وَقَدْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ عُمُومَ الْمَصْدَرِ لِأَفْرَادِهِ أَقْوَى مِنْ عُمُومِهِ الْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ إذَا كَانَ عَامًّا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عُمُومِهِ لِأَفْرَادِهِ وَأَنْوَاعِهِ عُمُومَهُ لِمَفْعُولَاتِهِ. وَقَوَّى أَبُو الْعَبَّاسِ: فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ لِجَمِيعِ الزَّوْجَاتِ دُونَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِالزَّوْجَةِ الْوَاحِدَةِ وَفَرَّقَ بِأَنَّ وُقُوعَ الثَّلَاثِ بِالْوَاحِدَةِ مُحَرَّمٌ بِخِلَافِ الْمُتَعَدِّدَاتِ وَإِذَا قُلْنَا بِالْعُمُومِ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ لَمْ نَقُلْ بِهِ فَهَلْ تَتَعَيَّنُ وَاحِدَةٌ بِالْقُرْعَةِ أَوْ يَخْرُجُ بِتَعْيِينِهِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِكَلَامِ الْغَيْرِ وَالسُّكُوتِ لَا يَكُونُ فَصْلًا مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ وَالشَّرْطُ إذَا كَانَ سُؤَالٌ سَايَرَ أَثَرٌ، وَكُلُّ هَذَا يُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى وَهُوَ أَنَّهُمَا مَا دَامَا فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ فَلَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ مَا يُغَيِّرُهُ فَيَكُونُ اتِّصَالُ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ كَاتِّصَالِ الْقَبُولِ وَالْإِيجَابِ وَلَا يُشْتَرَطُ الِاسْتِثْنَاءُ وَالشَّرْطُ وَالْعَطْفُ الْمُغَيِّرُ وَالِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ حَيْثُ يُوَثِّرُ فِي ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُسْمَعَ نَفْسَهُ إذَا لَفَظَ بِهِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: تَأَمَّلْت نُصُوصَ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَوَجَدْته يَأْمُرُ بِاعْتِزَالِ الرَّجُلِ

زَوْجَتَهُ فِي كُلِّ يَمِينٍ حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَيْهَا بِالطَّلَاقِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَبَارٌّ هُوَ فِيهَا أَوْ حَانِثٌ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ بَارٌّ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ بَارٌّ فِي وَقْتٍ وَشَكَّ فِي وَقْتٍ اعْتَزَلَهَا وَقْتَ الشَّكِّ نَصَّ عَلَى فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ فِي مَوَاضِعَ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ كُنْت حَامِلًا فَأَنْتَ طَالِقٌ. فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَعْتَزِلُهَا حَتَّى تَتَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَامِلٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي خِلَافًا فِي أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ إنْ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا قَبْلَ الْيَمِينِ وَتَلَخَّصَ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي أَنَّهَا إذَا لَمْ تَحِضْ وَلَمْ يَظْهَرْ بِهَا حَمْلٌ فَهَلْ يُحْكَمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ بِحَيْثُ يَجُوزُ وَطْؤُهَا وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ بِمُضِيِّ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ عَلَى وَجْهَيْنِ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ تَحِيضُ وَتَحْمِلُ وَأَمَّا الْآيِسَةُ وَالصَّغِيرَةُ فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُسْتَبْرَآ بِمِثْلِ الْحَيْضَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ أَوْ شَهْرٌ وَاحِدٌ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ أَوْ يُقَالُ يَجُوزُ وَطْءُ هَذِهِ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الشَّرْطُ أَمْرًا عَدَمِيًّا يَتَبَيَّنُ فِيمَا بَعْدُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إنْ لَمْ يَقْدَمْ زَيْدٌ أَوْ إنْ لَا يَقْدَمُ فِي هَذَا الشَّهْرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ الْوَطْءُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ. وَمِنْهَا إذَا وَكَّلَ وَكِيلًا فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ فَإِنَّهُ يَعْتَزِلُهَا حَتَّى يَدْرِي مَا فَعَلَ وَحَمَلَهُ الْقَاضِي عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْوُجُوبُ مُتَوَجِّهٌ. وَمِنْهَا إذَا قَالَ: أَنْت طَالِقٌ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَإِنَّهُ يَعْتَزِلُهَا إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ لِإِمْكَانِ أَنْ تَكُونَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ وَحَمَلَهُ الْقَاضِي عَلَى الْمَنْعِ. وَمِنْهَا إذَا قَالَ: أَنْت طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ فَإِنَّهُ يَعْتَزِلُهَا أَبَدًا وَحَمَلَهُ الْقَاضِي عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ إنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ ثَلَاثًا قَالَ آخَرُ: إنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ ثَلَاثًا وَطَارَ وَلَمْ يُعْلَمْ مَا هُوَ فَإِنَّهُمَا يَعْتَزِلَانِ نِسَاءَهُمَا حَتَّى يَتَيَقَّنَا وَحَمَلَهُ الْقَاضِي عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ مِمَّا يَئِسَا مِنْ اسْتِبَانَتِهِ فَفِيهِ مَعَ الْعِلْمِ وُقُوعُهُ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَسْأَلَةِ الطَّائِرِ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ إيقَاعُ الْحِنْثِ وَتَعْلِيلُ الْقَاضِي فِي مَسْأَلَةِ أَنْت طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ جَعَلَ الشَّرْطَ الَّذِي لَا يُعْلَمْ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ الِاشْتِرَاطِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي قَوْلِ أَحْمَدَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ فُلَانٌ فَلَوْ لَمْ يَشَأْ تَطْلُقُ لِأَنَّ مَشِيئَةَ الْعِبَادِ وَمَشِيئَةَ اللَّهِ لَا تُدْرَكُ مُغَيَّبَةً عَنْهُ فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ مُغَيَّبٍ لَا يُدْرَكُ يَقَعُ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِهِ.

باب تعلق الطلاق بالشروط

وَعَلَى هَذَا مَنْ حَلَفَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ مُغَيَّبٌ لَا يُدْرَكُ لَكِنَّ كَلَامَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ إنَّمَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالِاعْتِزَالِ فَقَطْ وَهَذَا فِقْهٌ حَسَنٌ فَإِنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَلِفِ بِاَللَّهِ وَلَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ عَلَى أَمْرٍ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي يَمِينِهِ كَانَ آثِمًا بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهُ كَاذِبٌ فَكَذَلِكَ يَمِينُ الطَّلَاقِ وَأَشَدُّ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا شَكَّ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلِاعْتِزَالِ فَيَنْتَظِرُ هَلْ يُؤْمَرُ بِاعْتِزَالٍ هُنَا أَمْ يُفَرَّقَ بِأَنَّ هَذَا لَمْ يَحْلِفْ يَمِينًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ شَكَّ هَلْ حَلَفَ أَمْ لَا؟ قَالَ فِي " الْمُحَرَّرِ ": وَتَمَامُ التَّوَرُّعِ فِي الشَّكِّ قَطْعُهُ بِرَجْعَةٍ أَوْ عَقْدٍ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَفُرْقَةٌ مُتَيَقَّنَةٌ بِأَنْ يَقُولَ: إنْ لَمْ يَكُنْ طَلَّقْت فَهِيَ طَالِقٌ وَقَالَ الْقَاضِي: أَمَّا فِي الْوَرَعِ فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مَتَى طَلَّقَ فَإِنَّمَا يُطَلِّقُ وَاحِدَةً لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا بِدْعَةٌ أَلْزَمَ نَفْسَهُ طَلْقَةً وَرَاجَعَهَا فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وُجِدَ فَقَدْ رَاجَعَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ فَمَا ضَرَّهُ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مَتَى طَلَّقَ فَإِنَّمَا يُطَلِّقُ ثَلَاثًا أَلْزَمَ نَفْسَهُ ثَلَاثًا وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُوقِعُ عَدَدَ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ فَتَحِلُّ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَزْوَاجِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَتَى أَوْقَعَ الشَّكَّ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَالْأَوْلَى اسْتِيفَاءُ النِّكَاحِ بَلْ يُكْرَهُ أَوْ يَحْرُمُ إيقَاعُهُ لِأَجْلِ الشَّكِّ إنَّ الطَّلَاقَ بَغِيضٌ إلَى الرَّحْمَنِ حَبِيبٌ إلَى الشَّيْطَانِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِصَّةُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّكَاحَ دَوَامُهُ آكَدُ مِنْ ابْتِدَائِهِ كَالصَّلَاةِ وَإِذَا شَكَّ فِي الصَّلَاةِ هَلْ أَحْدَثَ أَمْ لَا لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْهَا بِالشَّكِّ بِنَصِّ الْحَدِيثِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الصَّلَاةِ بِالشَّكِّ فَكَذَلِكَ إبْطَالُ النِّكَاحِ بَلْ الصَّلَاةُ إذَا أَبْطَلَهَا أَمْكَنَ ابْتِدَاؤُهَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ، وَإِنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ مُعَيَّنَةً ثُمَّ نَسِيَهَا أَوْ مُبْهَمَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ أُخْرِجْت بِالْقُرْعَةِ عَلَى الصَّحِيحِ [بَابُ تَعَلُّقِ الطَّلَاقِ بِالشُّرُوطِ] . بَابُ تَعَلُّقِ الطَّلَاقِ بِالشُّرُوطِ وَالْمُعَلَّقُ مِنْ الطَّلَاقِ عَلَى شَرْطِ إيقَاعٍ لَهُ عِنْدَ الشَّرْطِ وَلِهَذَا يَقُولُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إنَّ التَّعْلِيقَ يَصِيرُ إيقَاعًا فِي ثَانِي الْحَالِ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ إنَّهُ مُتَهَيِّئٌ لَأَنْ يَصِيرَ إيقَاعًا وَإِذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِالنِّكَاحِ فَالْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَلَوْ قَالَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ إذْ

هُوَ الْتِزَامٌ لِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ الزَّوْجَةُ حَالَ التَّعْلِيقِ فِي نِكَاحِهِ فَإِنْ كَانَتْ فِي نِكَاحِهِ حِينَئِذٍ وَعَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى طَلَاقٍ يُوجَدُ. فَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ هَذَا التَّعْلِيقُ وَحَكَاهُ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ " عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَقِيلٍ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ هُنَا فِي نِكَاحٍ. وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الصِّفَةَ الْمُطْلَقَةَ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَنْكِحَةِ بِإِطْلَاقِهَا وَتَقَيُّدَ الصِّفَةِ فِيهَا فَكَيْفَ إذَا اقْتَرَنَتْ بِنِكَاحٍ مُعَيَّنٍ وَلَوْ قَالَ كَمَا وَتَعْلِيقُ النَّذْرِ بِالْمِلْكِ، مِثْلُ إنْ رَزَقَنِي اللَّهُ مَالًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ فَيَصِحُّ اتِّفَاقًا وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75] الْآيَةَ. وَتَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ صَحِيحٌ وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ. وَالْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ لَا يَحْكِيَانِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا وَابْنُ حَامِدٍ وَالْقَاضِي يَحْكِيَانِ رِوَايَتَيْنِ. قَالَ: جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إذَا قَالَ الْمُعَلِّقُ عَجَّلْت مَا عَلَّقْته لَمْ يَتَعَجَّلْ وَفِيمَا قَالُوهُ نَظَرٌ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ تَعْجِيلَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ. وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقُ الْعِبَادِ فِي الْجُمْلَةِ سَوَاءٌ تَأَجَّلَتْ شَرْعًا أَوْ شَرْطًا. وَلَوْ قِيلَ زَنَتْ امْرَأَتُك أَوْ خَرَجَتْ مِنْ الدَّارِ فَغَضِبَ وَقَالَ فَهِيَ طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقْ، وَأَفْتَى بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى، وَخَالَفَ فِيهِ الْقَاضِي إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْت طَالِقٌ أَنْ دَخَلْت الدَّارَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ إنَّهَا لَا تَطْلُقُ إذَا لَمْ تَكُنْ دَخَلَتْ لِأَنَّهُ إنَّمَا طَلَّقَهَا لِعِلَّةٍ فَلَا يَثْبُتُ الطَّلَاقُ بِدُونِهَا وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ كَثِيرٌ مِثْلُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ غَيْرَهُ أَخَذَ مَالَهُ فَيَحْلِفُ لَيَرُدَّنَّهُ أَوْ يَقُولَ إنْ لَمْ يَرُدَّهُ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهُ أَوْ يَقُولَ لَيَحْضُرَنَّ زَيْدٌ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ مَوْتُهُ أَوْ لَتُعْطِيَنِّي مِنْ الدَّرَاهِمِ الَّتِي مَعَك وَلَا دَرَاهِمَ مَعَهُ. ثُمَّ هَذَا قِسْمَانِ: الْأَوَّلُ: مِنْهُ مَا يَتَبَيَّنُ حُصُولُ غَرَضِهِ بِدُونِ الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا إذَا ظَنَّ أَنَّهَا سَرَقَتْ لَهُ مَالًا فَيَحْلِفُ لَيَرُدَّنَّهُ فَوَجَدَهَا لَمْ تَسْرِقْهُ.

وَالثَّانِي: مَا لَمْ يَحْصُلْ مَعَهُ غَرَضُهُ مِثْلُ أَنْ يَحْلِفَ لَيُعْطِيَنِّي أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ هَذَا الْكِيسِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَرَاهِمُ. فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ يَظْهَرُ فِيهِ جِدًّا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ لَتَرُدَّنَّهُ إنْ كُنْت أَخَذْته وَهَذَا الشَّرْطُ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي اللَّفْظِ فَهُوَ قَطْعٌ. وَالثَّانِي: فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ غَرَضُهُ لَكِنْ لَا غَرَضَ لَهُ مَعَ وُجُودِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ وَفِي الْأَوَّلِ يَحْصُلُ غَرَضُهُ مِنْهُ فَيَصِيرُ أَنَّهُ بِرٌّ بِالْفِعْلِ. وَلَوْ قَالَ أَنْت طَالِقٌ الْيَوْمَ إذَا جَاءَ غَدًا وَأَنَا مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى مَا رَأَيْته لِأَنَّهُ مَا جَعَلَ هَذَا شَرْطًا يَتَعَلَّقُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْت طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مَوْتَهُ شَرْطًا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا قَبْلَ شَهْرٍ وَإِنَّمَا رَتَّبَهُ فَوَقَعَ عَلَى مَا رَتَّبَ وَمَنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى شَرْطٍ أَوْ الْتَزَمَهُ لَا يَقْصِدُ بِذَلِكَ إلَّا الْحَضَّ أَوْ الْمَنْعَ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إنْ حَنِثَ وَإِنْ أَرَادَ الْجَزَاءَ بِتَعْلِيقِهِ طَلُقَتْ كُرِهَ الشَّرْطُ أَوَّلًا، وَكَذَا الْحَلِفُ بِعِتْقٍ وَظِهَارٍ وَتَحْرِيمٍ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ أَحْمَدَ فِي نَذْرِ الْحَجِّ وَالْغَصْبِ. وَقَوْلُهُ: هُوَ يَهُودِيٌّ إنْ فَعَلْت كَذَا، وَالطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي وَنَحْوُهُ يَمِينٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْأُمَمِ وَيَتَوَجَّهُ إذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا أَنَّ مُطْلَقَهُ يُوجِبُ فِعْلَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عَلَى الْفَوْرِ مَا لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي التَّأْخِيرَ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ كَالْأَمْرِ فِي الشَّرِيعَةِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح: 27] وَقَوْلُهُ {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] فَإِنَّ مَقْصُودَهُ الْخَبَرُ لَا الْحَضُّ، وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْفَوْرَ مَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ بَلْ مِنْ جِهَةِ حُكْمِ الْأَمْرِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: سُئِلْت عَمَّنْ قَالَ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي مَا دَامَ فُلَانٌ فِي هَذَا الْبَلَدِ فَأَجَبْت أَنَّهُ إنْ قَصَدَ بِهِ الطَّلَاقَ إلَى حِينِ خُرُوجِهِ فَقَدْ وَقَعَ وَلَغَا التَّوْقِيتُ، وَهَذَا هُوَ الْوَضْعُ اللُّغَوِيُّ وَإِنْ قَصَدَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَامَ فُلَانٌ فَإِنْ خَرَجَ عَقِبَ الْيَمِينِ لَمْ يَحْنَثْ وَإِلَّا حَنِثَ وَهَذَا نَظِيرُ أَنْت طَالِقٌ إلَى شَهْرٍ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ سُئِلْت عَنْ رَجُلٍ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ قَالَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَهُوَ مُوَاجِهٌ لَهَا: مَنْ بَدَأْت بِطَلَاقِهَا مِنْكُنَّ فَعَبْدِي حُرٌّ، وَقَالَ لِلثَّانِيَةِ: إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدَانِ حُرَّانِ وَقَالَ لِلثَّالِثَةِ: إنْ طَلَّقْتُك فَثَلَاثٌ مِنْ عَبِيدِي أَحْرَارٌ وَقَالَ إنْ طَلَّقْت الرَّابِعَةَ فَأَرْبَعَةٌ

مِنْ عَبِيدِي أَحْرَارٌ ثُمَّ طَلَّقَهُنَّ كَمْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَجَبْت عَلَى مَا حَضَرَ مِنْ الْحِسَابِ أَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِطَلَاقِهِ لَهُنَّ عَشَرَةُ أَعْبُدٍ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَمْ تَجْمَعْ الصِّفَاتِ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّ طَلَاقَ كُلِّ وَاحِدَةٍ صِفَةٌ عَلَى انْفِرَادِهَا وَهَذَا اللَّفْظُ إذَا كَانَ قَدْ طَلَّقَهُنَّ مُتَفَرِّقَاتٍ فَالْمُتَوَجَّهُ أَنْ يَعْتِقَ عَشَرَةَ أَعْبُدٍ كَمَا قَالَ أَبُو الْحَسَنِ وَإِنْ طَلَّقَهُنَّ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تَوَجَّهَ أَنْ يَعْتِقَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَبْدًا وَأَصَحُّ الطُّرُقِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِبَعْضِ الصِّفَةِ أَنَّ الصِّفَةَ إنْ كَانَتْ حَضًّا وَمَنْعًا أَوْ تَصْدِيقًا أَوْ كَذِبًا فَهِيَ كَالْيَمِينِ وَإِلَّا فَهِيَ عِلَّةٌ مَحْضَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا بِكَمَالِهَا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: سُئِلْت عَمَّنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْت طَالِقٌ ثَلَاثًا غَيْرَ الْيَوْمِ قَالَ فَقُلْت ظَاهِرُهُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الْغَدِ لَكِنَّ كَثِيرًا مَا يَعْنِي بِهِ سِوَى هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ الْحَالِفُ فَإِنَّهُ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَعَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ أَوْ فِي سِوَى هَذِهِ الْمُدَّةِ وَنَوَى التَّأْخِيرَ فَإِنْ عَيَّنَ وَقْتًا بِعَيْنِهِ مِثْلَ وَقْتِ مَرَضٍ أَوْ فَقْرٍ أَوْ غَلَاءٍ أَوْ رُخْصٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَقَيَّدَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي زَمَانٍ مُتَرَاخٍ عَنْ هَذَا الْوَقْتِ فَيُشْبِهُ الْحِينَ إلَّا أَنَّ الْمُغَايَرَةَ قَدْ يُرَادُ بِهَا الْمُغَايَرَةُ الزَّمَانِيَّةُ وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْمُغَايِرَةُ الْحَالِيَّةُ وَاَلَّذِي عَنَاهُ الْحَالِفُ لَيْسَ مُعَيَّنًا فَهُوَ مُطْلَقٌ فَمَتَى تَغَيَّرَتْ الْحَالُ تَغَيُّرًا يُنَاسِبُ الطَّلَاقَ وَقَعَ وَإِنْ قَالَ أَنْت طَالِقٌ فِي أَوَّلِ شَهْرِ كَذَا طَلُقَتْ بِدُخُولِهِ وَقَالَهُ أَصْحَابُنَا وَكَذَا فِي غُرَّتِهِ وَرَأْسِهِ وَاسْتِقْبَالِهِ وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ مَوْتِي أَوْ مَعَ مَوْتِك فَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، نَقَلَهُ مُهَنَّا عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَجَزَمَ بِهِ الْأَصْحَابُ. وَلَكِنْ يُتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ أَنْ تَطْلُقَ لِأَنَّ صِفَةَ الطَّلَاقِ وَالْبَيْنُونَةِ إذَا وُجِدَتْ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَعَلَّ ابْنَ حَامِدٍ يُفَرِّقُ بِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ مَعَ الْبَيْنُونَةِ لَهُ فَائِدَةٌ وَهُوَ التَّحْرِيمُ أَوْ نَقْصُ الْعَدَدِ بِخِلَافِ الْبَيْنُونَةِ بِالْمَوْتِ. وَلَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى صِفَاتٍ ثَلَاثٍ فَاجْتَمَعْنَ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ لَا تَطْلُقُ إلَّا طَلْقَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهُ الْأَظْهَرُ فِي مُرَادِ الْحَالِفِ، وَالْعُرْفُ يَقْتَضِيه إلَّا أَنْ يَنْوِيَ خِلَافَهُ، وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْت طَالِقٌ طَلْقَةً إنْ وَلَدْتِ ذَكَرًا أَوْ طَلْقَتَيْنِ إنْ وَلَدْت أُنْثَى فَوَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى أَنَّهُ عَلَى مَا نَوَى إنَّمَا أَرَادَ وِلَادَةً وَاحِدَةً. وَأَنْكَرَ قَوْلَ سُفْيَانَ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهَا بِالْأَوَّلِ مَا عَلَّقَ بِهِ وَتَبِينُ بِالثَّانِي وَلَا تَطْلُقُ بِهِ قَالَ

أَصْحَابُنَا إذَا قَالَ: أَنْت طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ إنْ شَاءَ زَيْدٌ لَمْ يَقَعْ إلَّا بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ لَهَا إذْ لَمْ يَنْوِ غَيْرَهُ وَيُتَوَجَّهُ أَنْ تَعُودَ الْمَشِيئَةُ إلَيْهِمَا إمَّا جَمِيعًا وَإِمَّا مُطْلَقًا بِحَيْثُ لَوْ شَاءَ أَحَدُهُمَا وَقَعَ مَا شَاءَ وَكَذَلِكَ نَظِيرُهَا فِي الْخُلْعِ أَنْتُمَا طَالِقَانِ وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ لَا مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ فَكُنْ إنْ شَاءَ اللَّهُ الْجَمِيعَ فَيَنْتَفِي الشَّرْطُ وَلَمْ يَفْعَلْ جَمِيعَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَيَحْنَثَ. قَالَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ: فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ يَشَأْ زَيْدٌ فَقَدْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِصِفَةٍ هِيَ عَدَمُ الْمَشِيئَةِ فَمَتَى لَمْ يَشَأْ وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ عَدَمُ الْمَشِيئَةِ مِنْ جِهَتِهِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَالْقِيَاسُ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ حَتَّى تَفُوتَ الْمَشِيئَةُ إلَّا أَنْ تَكُونَ نِيَّةٌ أَوْ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي الْفَوْرِيَّةَ وَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْت طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ قَصَدَ أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَثْبِيتًا لِذَلِكَ وَتَأْكِيدًا لِإِيقَاعِهِ وَقَعَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ لَا يَقَعُ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَقَعُ مُطْلَقًا وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الصَّوَابُ وَتَعْلِيقٌ إنْ كَانَ تَعْلِيقًا مَحْضًا لَيْسَ فِيهِ تَحْقِيقُ خَبَرٍ وَلَا حَضٍّ عَلَى فِعْلٍ كَقَوْلِهِ إنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَهَذَا يُفِيدُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءَ وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا هَلْ هَذَا يَمِينٌ أَمْ لَا؟ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَوْقِيتُهُ بِحَادِثٍ يَتَعَلَّقُ بِالطَّلَاقِ مَعَهُ غَرَضٌ كَقَوْلِهِ إنْ مَاتَ أَبَاك فَأَنْتَ طَالِقٌ أَوْ إنْ مَاتَ أَبِي هَذَا فَأَنْتَ طَالِقٌ وَنَحْوُ هَذَا. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يُؤَثِّرُ فِي مِثْلِ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ بِاَللَّهِ، وَالطَّلَاقُ فَرْعُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَإِنْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ أَوْ الشَّرْطُ خَبَرًا عَنْ مُسْتَقْبَلٍ لَا طَلَبًا كَقَوْلِهِ لَيَقْدَمَنَّ الْحَاجُّ أَوْ السُّلْطَانُ فَهُوَ كَالْيَمِينِ يَنْفَعُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ أَمْرًا عَدَمِيًّا كَقَوْلِهِ: إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَأَنْتَ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَالثُّبُوتِ كَمَا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَيُفِيدُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي النَّذْرِ كَمَا فِي لَأَتَصَدَّقَنَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّهُ يَمِينٌ وَيُفِيدُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْحَرَامِ وَالظِّهَارِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِمَا. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ النَّافِعِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يَنْفَعُهُ حَتَّى يَنْوِيَهُ قَبْلَ فَرَاغِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَمَنْ تَبِعَهُ. وَالثَّانِي: يَنْفَعُهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ حَتَّى لَوْ

قَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ قُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ نَفَعَهُ وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ وَعَلَيْهِ مُتَقَدِّمُو أَصْحَابِهِ وَاخْتِيَارُ أَبِي مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَهُوَ الصَّوَابُ وَلَا يُعْتَبَرُ قَصْدُ الِاسْتِثْنَاءِ فَلَوْ سَبَقَ عَلَى لِسَانِهِ عَادَةً أَوْ أَتَى بِهِ تَبَرُّكًا رَفَعَ حُكْمَ الْيَمِينِ وَكَذَا قَوْلُهُ إنْ أَرَادَ اللَّهُ وَقَصَدَ بِالْإِرَادَةِ مَشِيئَتَهُ لَا مَحَبَّتَهُ وَأَمْرَهُ وَمَنْ شَكَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ الِاسْتِثْنَاءُ فَهُوَ كَمَا لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ اسْتَثْنَى كَالْمُسْتَحَاضَةِ تَعْمَلُ بِالْعَادَةِ وَالتَّمْيِيزِ وَلَمْ تَجْلِسْ أَقَلَّ الْحَيْضِ وَالْأَصْلُ وُجُوبُ الْعِبَادَةِ فِي ذِمَّتِهَا. قَالَ فِي " الْمُحَرَّرِ ": إذَا قَالَ إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتَ طَالِقٌ أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ إلَّا بِتَطْلِيقٍ يُنَجِّزُهُ أَوْ يُعَلِّقُهُ بَعْدَهُمَا بِشَرْطٍ فَيُؤَاخَذُ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: يُتَوَجَّهُ إذَا كَانَ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ قَبْلَ عَقْدِ هَذِهِ الصِّفَةِ أَوْ مَعَهَا مُعَلَّقًا بِفِعْلِهِ، فَعَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ لَهُ تَطْلِيقًا وَأَنَّ التَّطْلِيقَ يَفْتَقِرُ إلَى أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ مِنْ فِعْلِهِ أَيْضًا فَإِذَا عَلَّقَهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ تَطْلِيقًا وَإِلَّا حَلَفَ لَا يُطَلِّقُ فَجَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا أَوْ خَيَّرَهَا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا فَالْمُتَوَجَّهُ أَنْ تَخْرُجَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي تَنْصِيفِ الصَّدَاقِ إنْ قُلْنَا يَتَنَصَّفُ جَعَلْنَاهُ تَطْلِيقًا وَإِنْ قُلْنَا يَسْقُطُ لَمْ نَجْعَلْهُ تَطْلِيقًا وَإِنَّمَا هُوَ تَمْكِينٌ مِنْ التَّطْلِيقِ وَإِذَا قَالَ إذَا طَلَّقْتُك أَوْ إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتَ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا فَتَعْلِيقُهُ بَاطِلٌ وَلَا يَقَعُ سِوَى الْمُنَجَّزَةِ وَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ يَنْحَسِمُ بَابُ الطَّلَاقِ وَمَا قَالَهُ مُحْدَثٌ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُفْتِ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَأَنْكَرَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَنْ أَفْتَى بِهَا وَمَنْ قَلَّدَ فِيهَا شَخْصًا وَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ بِهَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ طَلَاقٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَنْ أَوْقَعَهُ فِيمَنْ يَعْتَقِدُهَا أَجْنَبِيَّةً وَكَانَتْ فِي الْبَاطِنِ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ عَلَى الصَّحِيحِ وَإِنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ لَيُكَلِّمَنَّ فُلَانًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَبَرَّ إلَّا بِالْكَلَامِ الطَّيِّبِ كَالْكَلَامِ وَنَحْوِهِ دُونَ السَّبِّ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ الْيَمِينَ فِي جَانِبِ النَّفْيِ أَعَمُّ مِنْ اللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ وَفِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ أَخَصُّ كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ حَلَفَ لَيَتَزَوَّجَنَّ وَنَظَائِرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَبَرُّ إلَّا بِكَمَالِ الْمُسَمَّى وَلَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى كَلَامِ زَيْدٍ فَهَلْ كِتَابَتُهُ أَوْ رِسَالَتُهُ الْحَاضِرَةُ كَالْإِشَارَةِ فَيَجِيءُ فِيهَا الْوَجْهَانِ أَوْ يَحْنَثُ بِكُلِّ حَالٍ. تَرَدَّدَ فِيهِ أَبُو الْعَبَّاسِ، قَالَ: وَأَصْلُ ذَلِكَ الْوَجْهَانِ انْعِقَادُ النِّكَاحِ بِكِتَابَةِ الْقَادِرِ

باب جامع الأيمان

عَلَى النُّطْقِ وَإِذَا قَالَ: إنْ عَصَيْت أَمْرِي فَأَنْتَ طَالِقٌ ثُمَّ أَمَرَهَا بِشَيْءٍ أَمْرًا مُطْلَقًا فَخَالَفَتْ حَنِثَ وَإِنْ تَرَكَتْهُ نَاسِيَةً أَوْ جَاهِلَةً أَوْ عَاجِزَةً يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّرْكَ لَيْسَ عِصْيَانًا وَإِنْ أَمَرَهَا أَمْرًا بَيَّنَ أَنَّهُ نَدْبٌ بِأَنْ يَقُولَ أَنَا آمُرُك بِالْخُرُوجِ وَأُبِيحُ لَك الْقُعُودَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ لِحَمْلِ الْيَمِينِ عَلَى الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عَلَى مُطْلَقِ الْأَمْرِ وَالْمَنْدُوبُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ أَمْرًا مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ أَمْرًا مُقَيَّدًا وَلَوْ عَلَّقَ عَلَى خُرُوجِهَا بِغَيْرِ إذْنٍ ثُمَّ أَذِنَ لَهَا مَرَّةً فَخَرَجَتْ أُخْرَى بِغَيْرِ إذْنٍ طَلُقَتْ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ لِأَنَّ خَرَجَتْ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ وَهِيَ تَقْتَضِي الْعُمُومَ وَإِنْ أَذِنَ لَهَا فَقَالَتْ: لَا أَخْرُجُ ثُمَّ خَرَجَتْ الْخُرُوجَ الْمَأْذُونَ فِيهِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: سُئِلْت عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَيُتَوَجَّهُ فِيهَا أَنْ لَا يَحْنَثَ لِأَنَّ امْتِنَاعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ لَا يَخْرُجُ الْإِذْنُ عَنْ أَنْ يَكُونَ إذْنًا لَكِنْ هُوَ إذَا قَالَتْ: لَا أَخْرُجُ فَاطْمَأَنَّ إلَى أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ فَخَرَجَتْ وَلَمْ تُشْعِرُهُ بِالْخُرُوجِ، فَقَدْ خَرَجَتْ بِلَا عِلْمٍ؛ وَالْإِذْنُ عِلْمٌ وَإِبَاحَةٌ. وَيُقَالُ أَيْضًا: إنَّهَا رَدَّتْ الْإِذْنَ عَلَيْهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك إذَا أَرَدْتِ ذَلِكَ وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ هَذَا الْبَابَ نَوْعَانِ: تَوْكِيلٌ وَإِبَاحَةٌ، فَإِذَا قَالَ لَهُ: بِعْ هَذَا فَقَالَ لَا أَبِيعُ. إنَّ النَّفْيَ يَرُدُّ الْقَبُولَ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْمُوصَيْ إلَيْهِ لَمْ يَمْلِكْهُ بَعْدُ وَإِذَا أَبَاحَهُ شَيْئًا فَقَالَ: لَا أَقْبَلُ فَهَلْ لَهُ أَخْذُهُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فِيهِ نَظَرٌ وَيُتَوَجَّهُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ كَالْخَبَرِ فِي التَّكْرَارِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّ لَتَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ فِي وَقْتٍ عَيَّنَهُ فَأَبْرَأَهُ قَبْلَهُ لَا يَحْنَثُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. [بَابُ جَامِعِ الْأَيْمَانِ] ِ وَإِذَا حَلَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ فَبَانَ مَوْصُوفًا بِغَيْرِهَا كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ فَتَبَيَّنَ شَيْخًا أَوْ لَا أَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْخَمْرِ فَتَبَيَّنَ خَلًّا أَوْ كَانَ الْحَالِفُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُخَاطَبَ يَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مِمَّنْ لَا يُحَالِفُهُ إذَا أَكَّدَ عَلَيْهِ وَلَا يُحَنِّثُهُ أَوْ لِكَوْنِ الزَّوْجَةِ قَرِيبَتَهُ وَهُوَ لَا يَخْتَارُ تَطْلِيقَهَا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ غَالِطًا فِي اعْتِقَادِهِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَشَبَهُهَا فِيهَا نِزَاعٌ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ كَمَا لَوْ لَقِيَ امْرَأَةً ظَنَّهَا أَجْنَبِيَّةً فَقَالَ أَنْت طَالِقٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ عَلَى الصَّحِيحِ إذْ الِاعْتِبَارُ بِمَا قَصَدَهُ فِي قَلْبِهِ وَهُوَ قَصَدَ مُعَيَّنًا مَوْصُوفًا لَيْسَ هُوَ هَذَا الْعَيْنُ وَكَذَا لَا حِنْثَ عَلَيْهِ إذَا حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ لَيَفْعَلَنَّهُ

فَخَالَفَهُ إذَا قَصَدَ إكْرَامَهُ لَا إلْزَامَهُ بِهِ لِأَنَّهُ كَالْأَمْرِ إذَا فَهِمَ مِنْهُ الْإِكْرَامَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ بِالْوُقُوفِ فِي الصَّفِّ وَلَمْ يَقِفْ. وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُخَالَفَةِ فِي الذَّاتِ وَالْمُخَالَفَةِ فِي الصِّفَاتِ كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِهِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ فَأَدْخَلَ بَعْضَ جَسَدِهِ فَهَلْ يَحْنَثُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ تَحْرِيمَ الْبُقْعَةِ عَلَى الرَّجُلِ فَيَحْنَثُ بِإِدْخَالِ بَعْضِ جَسَدِهِ إلَى بَعْضِهَا لِمُبَاشَرَتِهِ بَعْضَ الْمُحَرَّمِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ الْتِزَامَهُ بُقْعَةً فَإِذَا أَخْرَجَ بَعْضَهُ لَمْ يَحْنَثْ كَمَا فِي الْمُعْتَكِفِ وَلَوْ حَلَفَ لَا آكُلُ الرِّبَا، وَلَا أَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَلَا أَزْنِي فَشَرِبَ النَّبِيذَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ أَوْ أَقْرَضَ قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَةً أَوْ نَكَحَ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ فَيَحْنَثُ عِنْدَنَا إنْ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ اعْتِقَادٌ وَحَدَدْنَاهُ وَإِنْ اعْتَقَدَ حِلَّهُ أَوْ لَمْ نُحِدَّهُ فَفِي تَحْنِيثِهِ تَرَدُّدٌ وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا يُسَوَّغُ فِيهِ الْخِلَافُ كَالْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ وَكَمَسْأَلَةِ النَّبِيذِ وَلَوْ حَلَفَ لَا أُشَارِكُ فُلَانًا فَفَسَخَا الشَّرِكَةَ وَبَقِيَتْ بَيْنَهُمَا دُيُونٌ مُشْتَرَكَةٌ أَوْ أَعْيَانٌ. قَالَ: أَفْتَيْت أَنَّ الْيَمِينَ تَنْحَلُّ بِانْفِسَاخِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشُمُّ وَرْدًا وَلَا بَنَفْسَجًا فَشَمَّ دُهْنَهُمَا أَوْ مَاءَ الْوَرْدِ حَنِثَ وَقَالَ الْقَاضِي لَا يَحْنَثُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يَحْنَثَ بِالْمَاءِ دُونَ الدُّهْنِ وَكَذَلِكَ مَاءُ اللِّبَانِ وَالنَّيْلُوفَرِ لِأَنَّ الْمَاءَ هُوَ الْحَامِلُ لِرَائِحَةِ الْوَرْدِ وَرَائِحَتَهُ فِيهِ بِخِلَافِ الدُّهْنِ فَإِنَّهُ مُضَافٌ إلَى الْوَرْدِ وَلَا تَظْهَرُ فِيهِ الرَّائِحَةُ كَثِيرًا وَفِي دُخُولِ الْفَاكِهَةِ الْيَابِسَةِ فِي مُطْلَقِ الْحَلِفِ عَلَى الْفَاكِهَةِ نَظَرٌ، وَكَذَلِكَ اسْتَثْنَى أَبُو مُحَمَّدٍ بَعْضَ ثَمَرِ الشَّجَرِ كَالزَّيْتُونِ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلَ دَارًا أَوْصَى لَهُ بِمَنْفَعَتِهَا فَهِيَ كَالْمُسْتَأْجَرَةِ وَكَذَلِكَ الْمَوْقُوفَةُ عَلَى عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَتْ وَقْفًا عَلَى الْجِنْسِ فَهِيَ أَقْوَى مِنْ الْمُعَارَةِ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْجِنْسِ، وَلَا يَدْخُلُ الْعَقِيقُ وَالسُّبَحُ فِي مُطْلَقِ الْحَلِفِ عَلَى لُبْسِ الْحُلِيِّ إلَّا مِمَّنْ عَادَتُهُ التَّحَلِّي بِهِ وَإِذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُزَوِّجُكَهَا أَوْ مَا بَقِيت أُزَوِّجُكَهَا فَهُنَا التَّزْوِيجُ اسْمٌ لِلتَّسْلِيمِ الَّذِي هُوَ الدُّخُولُ. وَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا حِينًا وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَقْتَضِي أَصْلًا وَهُوَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُطْلَقَ الَّذِي لَهُ حَدٌّ فِي الْعُرْفِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَزْدَدْ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ فَإِنَّهُ يَنْزِلُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ

اتِّفَاقِيًّا كَمَا يَقُولُهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَإِذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَهُ نَاسِيًا لِيَمِينِهِ أَوْ جَاهِلًا بِأَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَلَوْ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِمَا وَيَمِينُهُ بَاقِيَةٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَرُوَاتُهَا بِقَدْرِ رُوَاةِ التَّفْرِقَةِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا مَنْ فَعَلَهُ مُتَأَوِّلًا إمَّا تَقْلِيدًا لِمَنْ أَفْتَاهُ أَوْ مُقَلِّدًا لِعَالِمٍ مَيْتٍ مُصِيبًا كَانَ أَوْ مُخْطِئًا وَيَدْخُلُ فِي هَذَا إذَا خَالَعَ وَفَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ الْفِعْلَ بَعْدَ الْخُلْعِ لَمْ تَتَنَاوَلْهُ يَمِينُهُ أَوْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا. وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى أَمْرِ مُعْتَقَدِهِ كَمَا حَلَفَ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ أَنَّهُ يَحْنَثُ قَوْلًا وَاحِدًا وَهَذَا خَطَأٌ بَلْ الْخِلَافُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَلَوْ حَلَفَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا فَجَهِلَهُ أَوْ نَسِيَهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَعَذَّرَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ أَوْ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ وَيُتَوَجَّهُ فِيمَا إذَا نَسِيَ الْيَمِينَ بِالْكُلِّيَّةِ أَنْ يَقْضِيَ الْفِعْلَ إنْ أَمْكَنَ قَضَاؤُهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِيَمِينِ الْحَالِفِ فَكَالنَّاسِي وَلَوْ حَلَفَ لَا يُزَوِّجُ بِنْتَه فَزَوَّجَهَا الْأَبْعَدُ أَوْ الْحَاكِمُ حَنِثَ إنْ تَسَبَّبَ فِي التَّزْوِيجِ وَإِنْ لَمْ يَتَسَبَّبْ فَلَا حِنْثَ إلَّا أَنَّهُ تَقْتَضِي النِّيَّةُ أَوْ التَّسَبُّبُ أَنَّ مَقْصُودَهُ أَنَّهُ لَا يُمَكِّنُهَا مِنْ التَّزْوِيجِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ يَمْنَعْهَا حَنِثَ وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ أَنَّهَا لَا تَتَزَوَّجُ حَنِثَ بِكُلِّ حَالٍ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُعَامِلُ زَيْدًا وَلَا يَبِيعُهُ فَعَامَلَ وَكِيلَهُ أَوْ بَاعَهُ حَنِثَ وَمَتَى فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَى تَزْوِيجِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ حَنِثَ. قَالَ فِي الْمُجَرَّدِ وَالْفُصُولِ فَإِنْ كَانَ بِيَدِ زَوْجَتِهِ تَمْرَةٌ، فَقَالَ إنْ أَكَلْتِيهَا فَأَنْتَ طَالِقٌ وَإِنْ لَمْ تَأْكُلِيهَا فَأَنْتَ طَالِقٌ فَأَكَلَتْ بَعْضَهَا حَنِثَ بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا فِيمَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ هَذَا الرَّغِيفَ فَأَكَلَ بَعْضَهُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْيَمِينِ مِثْلُ قَوْلِهِ فَفِي مَسْأَلَةِ السُّلَّمِ وَهِيَ إنْ نَزَلَتْ أَوْ صَعِدَتْ أَوْ أَقَمْتِ فِي الْمَاءِ أَوْ خَرَجْت أَنْ يَحْنَثَ بِكُلِّ حَالٍ لِمَنْعِهِ لَهَا مِنْ الْأَكْلِ وَمِنْ تَرْكِهِ، فَكَأَنَّ الطَّلَاقَ مُعَلَّقٌ بِوُجُودِ الشَّيْءِ وَبِعَدَمِهِ فَوُجُودُ بَعْضِهِ وَعَدَمُ الْبَعْضِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الصِّفَتَيْنِ كَمَا إذَا عَلَّقَ بِحَالِ الْوُجُودِ فَقَطْ أَوْ بِحَالِ الْعَدَمِ فَقَطْ.

كتاب الرجعة

[كِتَابُ الرَّجْعَةِ] ِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: أَبُو حَنِيفَةَ يَجْعَلُ الْوَطْءَ رَجْعَةً، وَهُوَ أَحَدُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَجْعَلُهُ رَجْعَةً وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَمَالِكٌ يَجْعَلُهُ رَجْعَةً مَعَ النِّيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ فَيُبِيحُ وَطْءَ الرَّجْعِيَّةِ إذَا قَصَدَ بِهِ الرَّجْعَةَ وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَأَشْبَهُهَا بِالْأُصُولِ، وَكَلَامُ أَبِي مُوسَى فِي " الْإِرْشَادِ " يَقْتَضِيه وَلَا تَصْلُحُ الرَّجْعَةُ مَعَ الْكِتْمَانِ بِحَالٍ وَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي الشَّافِي. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَرَاجَعَهَا وَاسْتَكْتَمَ الشُّهُودَ حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ قَالَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا وَيَلْزَمُ إعْلَانُ التَّسْرِيحِ وَالْخُلْعِ وَالْإِشْهَادِ كَالنِّكَاحِ دُونَ ابْتِدَاءِ الْفُرْقَةِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ جَحَدَ تُفْدِي نَفْسَهَا مِنْهُ بِمَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ فَإِنْ أُجْبِرَتْ عَلَى ذَلِكَ فَلَا تَتَزَيَّنُ لَهُ وَلَا تَقْرَبُهُ وَتَهْرُبُ إنْ قَدَرَتْ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ تَهْرُبُ وَلَا تَتَزَوَّجُ حَتَّى يَظْهَرَ طَلَاقُهَا وَيُعْلَمَ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِطَلَاقِهَا وَمَاتَ لَا تَرِثُ؛ لِأَنَّهَا تَأْخُذُ مَا لَيْسَ لَهَا وَتَفِرُّ مِنْهُ وَلَا تَخْرُجُ مِنْ الْبَلَدِ وَلَكِنْ تَخْتَفِي فِي بَلَدِهَا قِيلَ لَهُ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ تَقْتُلُهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ فَإِنْ قَالَ اسْتَحْلَلْت وَتَزَوَّجْتهَا قَالَ تُقْبَلُ مِنْهُ قَالَ الْقَاضِي لَا تَقْتُلُهُ مَعْنَاهُ لَا تَقْصِدُ قَتْلَهُ وَإِنْ قَصَدَتْ دَفَعَهُ فَأَدَّى ذَلِكَ إلَى قَتْلِهِ فَلَا ضَمَانَ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: كَلَامُ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُهُ بِالْقَتْلِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُعْجِبْهُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مُتَعَدِّيًا فِي الظَّاهِرِ وَالدَّفْعُ بِالْقَتْلِ إنَّمَا يَجُوزُ لِمَنْ ظَهَرَ اعْتِدَاؤُهُ وَقَطَعَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا بِحِلِّ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا بِوَطْءِ الْمُرَاهِقِ وَالذِّمِّيِّ إنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: النِّكَاحُ الَّذِي يُقِرَّانِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَالْمَجِيءِ بِهِ إلَيْنَا لِلْحُكْمِ

باب الإيلاء

صَحِيحٌ فَعَلَى هَذَا يَحِلُّهَا النِّكَاحُ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أُخْتٍ ثُمَّ مَاتَتْ الْأُخْتُ قَبْلَ مُفَارَقَتِهَا فَأَمَّا لَوْ تَزَوَّجَهَا فِي عِدَّةٍ أَوْ عَلَى أُخْتٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا مَعَ قِيَامِ الْمُفْسِدِ فَهُنَا مَوْضِعُ نَظَرٍ فَإِنَّ هَذَا النِّكَاحَ لَا يَثْبُتُ بِهِ التَّوَارُثُ وَلَا يَحْكُمُ فِيهِ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَحِلَّ لَهُ قَالَ أَصْحَابُنَا وَمَنْ غَابَتْ مُطَلَّقَتُهُ الْمُحَرَّمَةُ ثُمَّ ذَكَرَتْ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ مَنْ أَصَابَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ وَأَمْكَنَ ذَلِكَ فَلَهُ نِكَاحُهَا إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهَا وَإِلَّا فَلَا. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ذَكَرَتْ أَنَّهُ كَانَ لَهَا زَوْجٌ فَطَلَّقَهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَزَوُّجُهَا وَتَزْوِيجُهَا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَلَا يُقَالُ إنَّ ثُبُوتَ إقْرَارِهَا بِالنِّكَاحِ يُوجِبُ تَعَلُّقَ حَقِّ الزَّوْجِ بِهَا فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا حَتَّى يَثْبُتَ زَوَالُهُ وَنَصُّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الطَّلَاقِ إذَا كَتَبَ إلَيْهَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا لَمْ تَتَزَوَّجْ حَتَّى يَثْبُتَ الطَّلَاقُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِلْمَرْأَةِ زَوْجٌ فَادَّعَتْ أَنَّهُ طَلَّقَهَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّا نَقُولُ الْمَسْأَلَةُ هُنَا فِيمَا إذَا ادَّعَتْ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ مَنْ أَصَابَهَا وَطَلَّقَهَا وَلَمْ تُعَيِّنْهُ فَإِنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَثْبُتْ لِمُعَيَّنٍ بَلْ لِمَجْهُولٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ عِنْدِي مَالٌ لِشَخْصٍ وَسَلَّمْته إلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ قَوْلُهَا كَانَ لِي زَوْجٌ وَطَلَّقَنِي وَسَيِّدِي أَعْتَقَنِي وَلَوْ قَالَتْ تَزَوَّجَنِي فُلَانٌ وَطَلَّقَنِي فَهُوَ كَالْإِقْرَارِ بِالْمَالِ وَادِّعَاءِ الْوَفَاءِ وَالْمَذْهَبُ لَا يَكُونُ إقْرَارًا. [بَابُ الْإِيلَاءِ] وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ وَغَيَّا بِغَايَةٍ لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ خُلُوُّ الْمُدَّةِ مِنْهَا فَخَلَتْ مِنْهَا فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا هَلْ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِالْغَايَةِ وَقْتَ الْيَمِينِ أَوْ يَكْفِي ثُبُوتُهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِذَا لَمْ يَفِئْ وَطَلَّقَ بَعْدَ الْمُدَّةِ أَوْ طَلَّقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ لَمْ يَقَعْ إلَّا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فَإِذَا رَاجَعَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَطَأَ عَقِبَ هَذِهِ الرَّجْعَةِ إذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا يُمْكِنُ مِنْ الرَّجْعَةِ إلَّا بِهَذَا الشَّرْطِ وَلِأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا جَعَلَ الرَّجْعَةَ لِمَنْ أَرَادَ إصْلَاحًا بِقَوْلِهِ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] .

كتاب الظهار

[كِتَابُ الظِّهَارِ] ِ وَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُوَ ظِهَارٌ؛ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَالْعَوْدُ هُوَ الْوَطْءُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَلَوْ عَزَمَ عَلَى الْوَطْءِ فَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ لَا تَسْتَقِرُّ الْكَفَّارَةُ إلَّا بِالْوَطْءِ وَلَا ظِهَارَ مِنْ أَمَتِهِ وَلَا أُمِّ وَلَدِهِ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ. وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ كَفَّارَةَ ظِهَارٍ وَيُتَوَجَّهُ عَلَى هَذَا أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ حَتَّى يُكَفِّرَ كَأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ قَالَ أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ وَأَوْلَى قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ وَلَوْ وَطِئَ فِي حَالِ جُنُونِهِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ نَصَّ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الطَّلَاقِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ فَإِنْ تَوَجَّهَ فَرْقٌ وَإِلَّا كَانَ الْمَنْصُوصُ الْحِنْثَ فِي الْجُنُونِ مُطْلَقًا وَفِيهِ نَظَرٌ وَمَا يَخْرُجُ فِي الْكَفَّارَةِ الْمُطْلَقَةِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِالشَّرْعِ بَلْ بِالْعُرْفِ قَدْرًا أَوْ نَوْعًا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ وَلَا تَمْلِيكٍ وَهُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ فِي الزَّوْجَةِ وَالْأَقَارِبِ وَالْمَمْلُوكِ وَالضَّيْفِ وَالْأَجِيرِ الْمُسْتَأْجَرِ بِطَعَامِهِ وَالْإِدَامُ يَجِبُ إنْ كَانَ يُطْعِمُ أَهْلَهُ بِإِدَامٍ وَإِلَّا فَلَا وَعَادَةُ النَّاسِ تَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ فِي الرُّخْصِ وَالْغَلَاءِ وَالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَتَخْتَلِفُ بِالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. وَالْوَاجِبَاتُ الْمُقَدَّرَاتُ فِي الشَّرْعِ مِنْ الصَّدَقَاتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ تَارَةً تُقَدَّرُ الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ وَلَا يُقَدَّرُ مَنْ يُعْطَاهَا كَالزَّكَاةِ وَتَارَةً يُقَدَّرُ الْمُعْطَى وَلَا يُقَدَّرُ الْمَالُ كَالْكَفَّارَاتِ وَتَارَةً يُقَدَّرُ هَذَا وَهَذَا كَفِدْيَةِ الْأَذَى وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ هُوَ الْمَالُ فَقُدِّرَ الْمَالُ الْوَاجِبُ وَأَمَّا الْكَفَّارَاتُ فَسَبَبُهَا فِعْلُ بَدَلِهِ كَالْجِمَاعِ وَالْيَمِينِ وَالظِّهَارِ فَقُدِّرَ فِيهَا الْمُعْطَى كَمَا قُدِّرَ الْعِتْقُ وَالصِّيَامُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ فِيهِ بَدَنٌ وَمَالٌ فَعِبَادَتُهُ بَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ فَلِهَذَا قُدِّرَ فِيهِ هَذَا وَهَذَا.

كتاب اللعان

[كِتَابُ اللِّعَانِ] ِ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ الزَّوْجُ فِي أَيْمَانِهِ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ صِحَّتُهُ كَمَا إذَا اقْتَصَرَ الزَّوْجُ فِي النِّكَاحِ عَلَى قَوْلِهِ: قَبِلْت وَإِذَا جَوَّزْنَا إبْدَالَ لَفْظِ الشَّهَادَةِ وَالسَّخَطِ وَاللَّعْنِ فَلَأَنْ تُجَوِّزَهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ أَوْلَى وَإِنْ لَاعَنَ الزَّوْجُ وَامْتَنَعَتْ الزَّوْجَةُ عَنْ اللِّعَانِ حَدَثَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَفْظُهُ عَلَّقَ هَلْ هِيَ صَرِيحٌ أَوْ تَعْرِيضٌ. اخْتَلَفَ فِيهِ كَلَامُ أَبِي الْعَبَّاسِ. وَلَوْ شَتَمَ شَخْصًا فَقَالَ: أَنْت مَلْعُونٌ وَلَدُ زِنًا وَجَبَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ إنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ الْمَشْتُومَ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْخَبِيثِ أَوْ كَفِعْلِ وَلَدِ الزِّنَا وَلَا يُحَدُّ الْقَذْفَ إلَّا بِالطَّلَبِ إجْمَاعًا، وَالْقَاذِفُ إذَا تَابَ قَبْلَ عِلْمِ الْمَقْذُوفِ هَلْ تَصِحُّ تَوْبَتُهُ الْأَشْبَهُ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إنْ عَلِمَ بِهِ الْمَقْذُوفُ لَمْ تَصِحَّ تَوْبَتُهُ وَإِلَّا صَحَّتْ وَدَعَا لَهُ وَاسْتَغْفَرَ وَعَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَجِبُ لَهُ الِاعْتِرَافُ لَوْ سَأَلَهُ فَعَرَضَ وَلَوْ مَعَ اسْتِحْلَافِهِ لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ وَتَصِحُّ تَوْبَتُهُ وَفِي تَجْوِيزِ التَّصْرِيحِ بِالْكَذِبِ الْمُبَاحِ هَاهُنَا نَظَرٌ وَمَعَ عَدَمِ تَوْبَتِهِ وَإِحْسَانِ تَعْرِيضِهِ كَذِبٌ وَيَمِينُهُ غَمُوسٌ وَاخْتِيَارُ أَصْحَابِنَا لَا يَعْلَمُهُ بَلْ يَدْعُو لَهُ فِي مُقَابَلَةِ مَظْلِمَتِهِ وَزِنَاهُ بِزَوْجَةِ غَيْرِهِ كَغَيْبَتِهِ، وَوَلَدُ الزِّنَا مَظِنَّةُ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا خَبِيثًا كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا وَأَكْرَمُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

باب ما يلحق من النسب

[بَابُ مَا يُلْحَقُ مِنْ النَّسَبِ] ِ وَلَا تَصِيرُ الزَّوْجَةُ فِرَاشًا إلَّا بِالدُّخُولِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ وَتَتَبَعَّضُ الْأَحْكَامُ لِقَوْلِهِ: " احْتَجِبِي يَا سَوْدَةُ " وَعَلَيْهِ نُصُوصُ أَحْمَدَ وَإِنْ اسْتَلْحَقَ وَلَدَهُ مِنْ الزِّنَا وَلَا فِرَاشَ لَحِقَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَلَوْ أَقَرَّ بِنَسَبٍ أَوْ شَهِدَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ فَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أُخْرَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ نَوْعِ هَذَا بَلْ هَذَا رُومِيٌّ وَهَذَا فَارِسِيٌّ فَهَذَا فِي وَجْهِ نَسَبِهِ تَعَارَضَ الْقَافَةُ أَوْ الْبَيِّنَةُ وَمِنْ وَجْهِ كِبَرِ السِّنِّ فَهَذَا الْمُعَارِضُ الْبَاقِي لِلنَّسَبِ هَلْ يَقْدَحُ فِي الْمُقْتَضِي لَهُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ حَدَثَتْ وَسُئِلْت عَنْهَا وَكَانَ الْجَوَابُ أَنَّ التَّغَايُرَ بَيْنَهُمَا إنْ أَوْجَبَ الْقَطْعَ بِعَدَمِ النَّسَبِ فَهُوَ كَالسِّنِّ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا حَبَشِيًّا وَالْآخَرُ رُومِيًّا وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهُنَا يَنْتَفِي النَّسَبُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا مُحْتَمَلًا لَمْ يَنْفِهِ لَكِنْ إنْ كَانَ الْمُقْتَضِي لِلنَّسَبِ الْفِرَاشَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى الْمُعَارَضَةِ وَإِنْ كَانَ الْمُثْبِتُ لَهُ مُجَرَّدَ الْإِقْرَارِ أَوْ الْبَيِّنَةِ فَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ مُعَارِضٌ ظَاهِرٌ فَإِنْ كَانَ النَّسَبُ بُنُوَّةً فَثُبُوتُهَا أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهَا إذْ لَا بُدَّ لِلِابْنِ مِنْ أَبٍ غَالِبًا وَظَاهِرًا قَالَ فِي الْكَافِي وَلَوْ أَنْكَرَ الْمَجْنُونُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إنْكَارِهِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُقْبَلَ لِأَنَّهُ إيجَابُ حَقٍّ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ غَيْرِهِ مَعَ مُنَازَعَتِهِ كَمَا لَوْ حَكَمْنَا لِلَّقِيطِ بِالْحُرِّيَّةِ فَإِذَا بَلَغَ فَأَقَرَّ بِالرِّقِّ قَبِلْنَا إقْرَارَهُ وَلَوْ أَدْخَلَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا أَمَتَهَا إنْ ظَنَّ جَوَازَهُ لَحِقَهُ الْوَلَدُ وَإِلَّا فَرِوَايَتَانِ وَيَكُونُ حَرَامًا عَلَى الصَّحِيحِ إنْ ظَنَّ حِلَّهَا بِذَلِكَ وَإِذَا وَطِئَ الْمُرْتَهَنُ الْأَمَةَ الْمَرْهُونَةَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ، وَظَنَّ جَوَازَ ذَلِكَ لَحِقَهُ الْوَلَدُ وَانْعَقَدَ حُرًّا وَإِذَا تَدَاعَيَا بَهِيمَةً أَوْ فَصِيلًا فَشَهِدَ الْقَائِفُ أَنَّ دَابَّةَ هَذَا تُنْتِجُهَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَتُقَدَّمُ عَلَى الْيَدِ الْحِسِّيَّةِ وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يَحْكُمَ بِالْقِيَافَةِ فِي الْأَمْوَالِ كُلِّهَا كَمَا حَكَمْنَا بِذَلِكَ فِي الْجِذْعِ وَالْمَقْلُوعِ إذَا كَانَ لَهُ مَوْضِعٌ فِي الدَّارِ وَكَمَا حَكَمْنَا فِي الِاشْتِرَاكِ فِي الْيَدِ الْحِسِّيَّةِ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ الْيَدِ الْعُرْفِيَّةِ فَأَعْطَيْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ

الزَّوْجَيْنِ مَا يُنَاسِبُهُ فِي الْعَادَةِ وَكُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الصَّانِعِينَ مَا يُنَاسِبُهُ. وَكَمَا حَكَمْنَا بِالْوَصْفِ فِي اللُّقَطَةِ إذَا تَدَاعَاهَا اثْنَانِ وَهَذَا نَوْعُ قِيَافَةٍ أَوْ شَبِيهٍ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَنَازَعَا غِرَاسًا أَوْ تَمْرًا فِي أَيْدِيهِمَا فَشَهِدَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّهُ مِنْ هَذَا الْبُسْتَانِ وَيُرْجَعُ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ حَيْثُ يَسْتَوِي الْمُتَدَاعِيَانِ كَمَا رُجِعَ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِالنَّسَبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ لِبَاسًا أَوْ بَغْلًا مِنْ لِبَاسِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ أَوْ تَنَازَعَا دَابَّةً تَذْهَبُ مِنْ بَعِيدٍ إلَى إصْطَبْلِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ أَوْ تَنَازَعَا زَوْجَ خُفٍّ أَوْ مِصْرَاعٍ مَعَ الْآخَرِ شَكْلُهُ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ عَلَامَةٌ لِأَحَدِهِمَا كَالزُّرْبُولِ الَّتِي لِلْجُنْدِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعِي فِي أَيْدِيهِمَا أَوْ فِي يَدِ ثَالِثٍ. أَمَّا إنْ كَانَتْ الْيَدُ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَالْقِيَافَةُ الْمُعَارِضَةُ لِهَذَا كَالْقِيَافَةِ الْمُعَارِضَةِ لِلْفِرَاشِ فَإِذَا قُلْنَا بِتَقْدِيمِ الْقِيَافَةِ فِي صُورَةِ الرُّجْحَانِ فَقَدْ نَقُولُ هَاهُنَا كَذَلِكَ، وَمِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ ذَهَبَ مِنْ مَالِهِ شَيْءٌ وَيَثْبُتُ ذَلِكَ فَيَقُصُّ الْقَائِفُ أَثَرَ الْوَطْءِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان آخَرَ فَشَهَادَةُ الْقَائِفِ أَنَّ الْمَالَ دَخَلَ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ تُوجِبُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ إمَّا الْحَاكِمَ بِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِهِ مَعَ الْيَمِينِ لِلْمُدَّعِي وَهُوَ الْأَقْرَبُ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَمَارَةَ تُرَجِّحُ جَانِبَ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ مَشْرُوعَةٌ فِي أَقْوَى الْجَانِبَيْنِ وَلَوْ مَاتَ الطِّفْلُ قَبْلَ أَنْ تَرَاهُ الْقَافَةُ قَالَ الْمُزَنِيّ: يُوقَفُ مَالُهُ وَمَا قَالَهُ ضَعِيفٌ وَإِنَّمَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ لِلْقُرْعَةِ وَيَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرِثَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا.

كتاب العدد

[كِتَابُ الْعِدَدِ] ِ وَيُتَوَجَّهُ فِي الْمُعْتَقِ بَعْضُهَا إذَا كَانَ الْحُرُّ يَلِيهَا أَنْ لَا تَجِبَ الْأَقْرَاءُ فَإِنَّ تَكْمِيلَ الْقُرُوءِ مِنْ الْأَمَةِ إنَّمَا كَانَ لِلضَّرُورَةِ فَيُؤْخَذُ لِلْمُعْتَقِ بَعْضُهَا بِحِسَابِ الْأَصْلِ وَيُكَمَّلُ قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ وَإِذَا ادَّعَتْ الْمُعْتَدَّةُ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِالْأَقْرَاءِ أَوْ الْوِلَادَةِ قُبِلَ قَوْلِهَا إذَا كَانَ مُمْكِنًا إلَّا أَنْ تَدَّعِيَهُ بِالْحَيْضِ فِي شَهْرٍ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إلَّا بِبَيِّنَةٍ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَبِلَهُ الْخِرَقِيِّ مُطْلَقًا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ الْمَنْصُوصِ أَنَّهَا إذَا ادَّعَتْ مَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ كُلِّفَتْ الْبَيِّنَةَ وَإِذَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهَا الْبَيِّنَةَ فِيمَا إذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِحَيْضِهَا فَقَالَتْ حِضْت فَإِنَّ التُّهْمَةَ فِي الْخَلَاصِ مِنْ الْعِدَّةِ كَالتُّهْمَةِ فِي الْخَلَاصِ مِنْ النِّكَاحِ فَيُتَوَجَّهُ أَنَّهَا إذَا ادَّعَتْ الِانْقِضَاءَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كُلِّفَتْ الْبَيِّنَةَ وَإِنْ ادَّعَتْ الِانْقِضَاءَ بِالْوِلَادَةِ فَهُوَ كَمَا لَوْ ادَّعَتْ أَنَّهَا وَلَدَتْ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ فِيمَا إذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى الْوِلَادَةِ وَفِيهَا وَجْهَانِ وَإِذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ أَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ مِنْ مُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَى الْعِدَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ فَاسِقًا أَوْ مَجْهُولَ الْحَالِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ الَّتِي فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ عَدْلًا غَيْرَ مُتَّهَمٍ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ غَائِبًا فَلَمَّا حَضَرَ أَخْبَرَهَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا مِنْ مُدَّةِ كَذَا وَكَذَا. فَهَلْ الْعِدَّةُ حِينَ بَلَغَهَا الْخَبَرُ إذْ لَمْ تَقُمْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ أَوْ مِنْ حِينِ الطَّلَاقِ؟ كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ هُوَ الثَّانِي. وَالصَّوَابُ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَهُوَ أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ وَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهِيَ زَوْجَةُ الثَّانِي ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا ثُمَّ إذَا قَدِمَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ بَعْدَ تَزَوُّجِهَا خُيِّرَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ مَهْرِهَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَعَلَى الْأَصَحِّ لَا يُعْتَبَرُ الْحَاكِمُ فَلَوْ مَضَتْ الْمُدَّةُ وَالْعِدَّةُ تَزَوَّجَتْ بِلَا حُكْمٍ.

قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَكُنْت أَقُولُ إنَّ هَذَا شَبَهُ اللُّقَطَةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ثُمَّ رَأَيْت ابْنَ عَقِيلٍ قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ وَمِثْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَجْهُولَ فِي الشَّرْعِ كَالْمَعْدُومِ وَإِذَا عُلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ التَّصَرُّفُ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ مَوْقُوفًا عَلَى إذْنِهِ وَوَقْفُ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ عَلَى إذْنِهِ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ عِنْدَنَا بِلَا نِزَاعٍ وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ كَمَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي اللُّقَطَةِ بِعَدَمِ الْعِلْمِ لِصَاحِبِهَا فَإِذَا جَاءَ الْمَالِكُ كَانَ تَصَرُّفُ الْمُلْتَقِطِ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ وَكَانَ تَرَبُّصُ أَرْبَعِ سِنِينَ كَالْحَوْلِ فِي اللُّقَطَةِ وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ صُورَةٍ فُرِّقَ فِيهَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ بِسَبَبٍ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ ثُمَّ تَبَيَّنَ انْتِفَاءُ ذَلِكَ السَّبَبِ فَهُوَ شَبِيهُ الْمَفْقُودِ، وَالتَّخْيِيرُ فِيهِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالْمَهْرِ هُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ. وَلَوْ ظَنَّتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَتْ فَهُوَ كَمَا لَوْ ظَنَّتْ مَوْتَهُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهَا كَتَمَتْ الزَّوْجَ فَتَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ الْأَوَّلُ حَتَّى دَخَلَ بِهَا الثَّانِي فَهُنَا الزَّوْجَانِ مَشْهُورَانِ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ لَكِنْ إذَا اعْتَقَدَتْ جَوَازَ ذَلِكَ بِأَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ حَقِّهَا أَوْ مُفَرِّطٌ فِيهِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا الْفَسْخُ وَالتَّزْوِيجُ بِغَيْرِهِ فَتُشْبِهُ امْرَأَةَ الْمَفْقُودِ، وَأَمَّا إذَا عَلِمَتْ التَّحْرِيمَ فَهِيَ زَانِيَةٌ لَكِنَّ الْمُتَزَوِّجَ بِهَا كَالْمُتَزَوِّجِ بِامْرَأَةِ الْمَفْقُودِ وَكَأَنَّهَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا فَأَجَازَهُ وَإِذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ امْرَأَتَيْهِ مُبْهَمَةً وَمَاتَ قَبْلَ الْإِقْرَاعِ فَأَحَدُهُمَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَالْأُخْرَى عِدَّةُ الطَّلَاقِ فَالْأَظْهَرُ هُنَا وُجُوبُ الْعِدَّتَيْنِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا وَالْوَاجِبُ أَنَّ الشُّبْهَةَ إنْ كَانَتْ شُبْهَةَ نِكَاحٍ فَتَعْتَدُّ الْمَوْطُوءَةُ عِدَّةَ الْمُزَوَّجَةِ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً وَإِنْ كَانَتْ شُبْهَةَ مِلْكٍ فَعِدَّةُ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَاةِ، وَأَمَّا الزِّنَا فَالْعِبْرَةُ بِالْمَحَلِّ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ - فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ وَهُوَ وَجْهٌ فِي الْمَذْهَبِ وَتَعْتَدُّ الْمَزْنِيُّ بِهَا بِحَيْضَةٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَالْمُخْتَلِعَةُ يَكْفِيهَا الِاعْتِدَادُ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَمَذْهَبُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَغَيْرِهِ وَالْمَفْسُوخُ نِكَاحُهَا كَذَلِكَ وَأَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ عِدَّتُهَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ. قُلْت: عَلَّقَ أَبُو الْعَبَّاسِ مِنْ " الْفَوَائِدِ " بِذَلِكَ عَنْ ابْنِ اللَّبَّانِ وَمَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا وَلَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ إنْ عَلِمَتْ عَدَمَ عَوْدِهِ فَتَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ وَإِلَّا اعْتَدَّتْ بِسَنَةٍ وَالْمُطَلَّقَةُ الْبَائِنُ وَإِنْ لَمْ تَلْزَمْهُ نَفَقَتُهَا إنْ شَاءَ أَسْكَنَهَا فِي مَسْكَنِهِ وَغَيْرِهِ إنْ صَلُحَ لَهَا وَلَا مَحْذُورَ تَحْصِينًا لِمَائِهِ وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا فَلَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ أَوْ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يَجِبُ

فصل في الاستبراء

عَلَى الْوَاطِئِ نَفَقَتُهَا إنْ قُلْنَا بِالنَّفَقَةِ لَهَا إلَّا أَنْ يُسْكِنَهَا فِي مَنْزِلٍ يَلِيقُ بِهَا تَحْصِينًا لِمَائِهِ فَيَلْزَمُهَا ذَلِكَ وَتَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الِاسْتِبْرَاءِ] ِ وَلَا يَجِبُ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ الْبِكْرِ سَوَاءٌ كَانَتْ كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَاخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْأَشْبَهُ وَلَا مَنْ اشْتَرَاهَا مِنْ رَجُلٍ صَادِقٍ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَطَأْ أَوْ وَطِئَ وَاسْتَبْرَأَ انْتَهَى.

كتاب الرضاع

[كِتَابُ الرَّضَاعِ] ِ وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَعْرُوفَةً بِالصِّدْقِ وَذَكَرَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْ طِفْلًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ قُبِلَ قَوْلُهَا وَيَثْبُتُ حُكْمُ الرَّضَاعِ عَلَى الصَّحِيحِ وَرَضَاعُ الْكَبِيرَةِ تَنْتَشِرُ بِهِ الْحُرْمَةُ بِحَيْثُ لَا يَحْتَشِمُونَ مِنْهُ لِلْحَاجَةِ لِقِصَّةِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَائِشَةَ وَعَطَاءٍ وَاللَّيْثِ وَدَاوُد مِمَّنْ يَرَى أَنَّهُ يَنْشُرُ الْحُرْمَةُ مُطْلَقًا وَالِارْتِضَاعُ بَعْدَ الْفِطَامِ لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ وَإِنْ كَانَ دُونَ الْحَوْلِ وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُ مَالِكٍ. وَإِذَا اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي وَطْءِ امْرَأَةٍ فَحُكْمُ الْمُرْتَضِعِ مِنْ لَبَنِهَا حُكْمُ وَلَدِهَا مِنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ وَأَوْلَادِهِمَا فَإِنْ لَمْ يُلْحَقْ بِأَحَدِهِمَا، فَالْوَاجِبُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى أَوْلَادِهِمَا لِأَنَّهُ أَخٌ لِأَحَدِ الصِّنْفَيْنِ وَقَدْ اشْتَبَهَ أَوْ يُقَالُ كَمَا قِيلَ فِي الطَّلَاقِ بِحِلٍّ مِنْهُمَا فَإِنَّ الِاشْتِبَاهَ فِي حَقِّ اثْنَيْنِ لَا وَاحِدٍ.

كتاب النفقات

[كِتَابُ النَّفَقَاتِ] ِ وَعَلَى الْوَلَدِ الْمُوسِرِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَبِيهِ الْمُعْسِرِ وَزَوْجَةِ أَبِيهِ وَعَلَى إخْوَتِهِ الصِّغَارِ وَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ تَمْلِيكُ الزَّوْجَةِ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ بَلْ يُنْفِقُ وَيَكْسُو بِحَسَبِ الْعَادَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «إنَّ حَقَّهَا عَلَيْك أَنْ تُطْعِمَهَا إذَا طَعِمْت وَتَكْسُوَهَا إذَا اكْتَسَيْت» كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْمَمْلُوكِ، ثُمَّ الْمَمْلُوك لَا يَجِبُ لَهُ التَّمْلِيكُ إجْمَاعًا وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ يُمْلَكُ بِالتَّمْلِيكِ، وَيَتَخَرَّجُ هَذَا أَيْضًا مِنْ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْفَقِيرِ بَلْ هُنَا أَوْلَى لِلْعُسْرِ وَالْمَشَقَّةِ. وَإِذَا انْقَضَتْ السَّنَةُ وَالْكُسْوَةُ صَحِيحَةٌ. قَالَ أَصْحَابُنَا: عَلَيْهِ كُسْوَةُ السَّنَةِ الْأُخْرَى، وَذَكَرُوا احْتِمَالًا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ عِنْدَنَا فَإِذَا كَفَتْهَا الْكُسْوَةُ عِدَّةَ سِنِينَ، لَمْ يَجِبْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُتَوَجَّهُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهَا مُقَدَّرَةً وَكَذَلِكَ عَلَى قِيَاسِ هَذَا لَوْ اسْتَبْقَتْ مِنْ نَفَقَةِ أَمْسِ لِلْيَوْمِ وَذَلِكَ أَنَّهَا وَإِنْ وَجَبَتْ مُعَاوَضَةٌ فَالْعِوَضُ الْآخَرُ لَا يُشْتَرَطُ الِاسْتِبْقَاءُ فِيهِ وَلَا التَّمْلِيكُ بَلْ التَّمْكِينُ مِنْ الِانْتِفَاعِ فَكَذَلِكَ عِوَضُهُ وَنَظِيرُ هَذَا الْأَجِيرِ بِطَعَامِهِ وَكُسْوَتِهِ وَيُتَوَجَّهُ عَلَى مَا قُلْنَا: إنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ أَنَّ الزَّوْجَةَ إذَا اقْتَضَتْ النَّفَقَةَ ثُمَّ تَلِفَتْ أَوْ سُرِقَتْ أَنَّهُ يَلْزَمُ الزَّوْجَ عِوَضُهَا وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِنَا فِي الْحَاجِّ عَنْ الْغَيْرِ إذَا كَانَ مَا أَخَذَهُ نَفَقَةً تَلِفَ فَإِنَّهُ يَتْلَفُ مِنْ ضَمَانِ مَالِكِهِ قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ وَلَوْ أَنْفَقَتْ مِنْ مَالِهِ وَهُوَ غَائِبٌ فَتَبَيَّنَ مَوْتُهُ فَهَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَا أَنْفَقَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَعَلَى قِيَاسِهِ كُلُّ مَنْ أُبِيحَ لَهُ شَيْءٌ وَزَالَتْ الْإِبَاحَةُ بِفِعْلِ اللَّهِ أَوْ بِفِعْلِ الْمُبِيحِ كَالْمُعِيرِ إذَا مَاتَ أَوْ رَجَعَ وَالْمَانِحُ وَأَهْلُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ

الْجَدَّ هَاهُنَا إذَا طَلَّقَ فَلَعَلَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ فَإِنَّ التَّفْرِيطَ فِي الطَّلَاقِ مِنْهُ، وَالْقَوْلُ فِي دَفْعِ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ قَوْلُ مَنْ شَهِدَ لَهُ الْعُرْفُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَيُخَرَّجُ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ فِي تَقْدِيمِهِ الظَّاهِرَ عَلَى الْأَصْلِ وَعَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ قَصِيدَةٍ وَوُجِدَتْ حَافِظَةً لَهَا، وَقَالَتْ تَعَلَّمْتهَا مِنْ غَيْرِهِ. قَالَ بَلْ مِنِّي إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ وَإِذَا خَلَا بِزَوْجَتِهِ اسْتَقَرَّ الْمَهْرُ عَلَيْهِ وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ عَدَمَ عِلْمِهِ بِهَا وَلَوْ كَانَ أَعْمَى نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَدْ قُدِّمَتْ هُنَا الْعَادَةُ عَلَى الْأَصْلِ. فَكَذَا دَعْوَاهُ الْإِنْفَاقَ فَإِنَّ الْعَادَةَ هُنَاكَ أَقْوَى وَلَوْ أَنْفَقَ الزَّوْجُ عَلَى الزَّوْجَةِ وَكَسَاهَا مُدَّةً ثُمَّ ادَّعَى الْوَلِيُّ عَدَمَ إذْنِهِ وَأَنَّهَا تَحْتَ حِجْرِهِ لَمْ يُسْمَعْ قَوْلُهُ إذَا كَانَ الزَّوْجُ قَدْ تَسَلَّمَهَا التَّسْلِيمَ الشَّرْعِيَّ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ وَخَالَفَ فِيهِ شُذُوذٌ مِنْ النَّاسِ وَإِقْرَارُ الْوَلِيِّ لَهَا عِنْدَهُ مَعَ حَاجَتِهَا إلَى النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ إذْنٌ عُرْفِيٌّ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا مِنْ الصُّوَرِ الْمُسْقِطَةِ لِنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ صَوْمَ النَّذْرِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ وَالصَّوْمَ لِلْكَفَّارَةِ وَقَضَاءَ رَمَضَانَ قَبْلَ ضِيقِ وَقْتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي إذْنِهِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: قَضَاءُ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا عَلَى الْفَوْرِ فَهُوَ كَالْمُعَيَّنِ، وَصَوْمُ الْقَضَاءِ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ يَنْبَغِي فِي جَمِيعِ صُوَرِ الصَّوْمِ أَنْ تَسْقُطَ نَفَقَةُ النَّهَارِ فَقَطْ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا تَنْشِزُ يَوْمًا وَتَجِيءُ يَوْمًا فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا كَمَا قِيلَ فِي الْإِجَارَةِ إنَّ مَنْعَ تَسْلِيمِ بَعْضِ الْمَنْفَعَةِ يُسْقِطُ الْجَمِيعَ إذْ مَا مَضَى مِنْ النَّفَقَةِ لَا يَسْقُطُ وَلَوْ أَطَاعَتْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ اسْتَحَقَّتْ وَالزَّوْجَةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى إلَّا إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَرِوَايَتَانِ وَإِذَا لَمْ تُوجِبْ النَّفَقَةَ فِي التَّرِكَةِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ لَهَا النَّفَقَةُ فِي مَالِ الْحَمْلِ أَوْ فِي مَالِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ إذَا قُلْنَا تَجِبُ لِلْحَمْلِ كَمَا تَجِبُ أُجْرَةُ الرَّضَاعِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فِي مَوْضِعٍ آخَرَ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى تَجِبُ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا فِي عِدَّتِهَا وَيُشْتَرَطُ فِيهَا مَقَامُهَا فِي بَيْتِ الزَّوْجِ فَإِنْ خَرَجَتْ فَلَا جُنَاحَ إذَا كَانَ أَصْلَحَ لَهَا، وَالْمُطَلَّقَةُ الْبَائِنُ الْحَامِلُ يَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ وَلِلْحَمْلِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ وَلَهَا وَلَدٌ فَغَضِبَ الْوَلَدُ، وَذَهَبَتْ بِهِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ

تُطَالِبَ الْأَبَ بِنَفَقَةِ الْوَلَدِ. وَإِرْضَاعُ الطِّفْلِ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمِّ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ مَعَ الزَّوْجِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَلَا تَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ زِيَادَةً عَلَى نَفَقَتِهَا وَكِسْوَتِهَا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ، وَقَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] فَلَمْ يُوجِبْ لَهُنَّ إلَّا الْكِسْوَةَ وَالنَّفَقَةَ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ الْوَاجِبُ بِالزَّوْجِيَّةِ وَمَا عَسَاهُ يَتَجَرَّدُ مِنْ زِيَادَةٍ خَاصَّةٍ لِلْمُرْتَضِعِ كَمَا قَالَ فِي الْحَامِلِ: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] . فَدَخَلَتْ نَفَقَةُ الْوَلَدِ فِي نَفَقَةِ أُمِّهِ لِأَنَّهُ يَتَغَذَّى بِهَا. وَكَذَلِكَ الْمُرْتَضِعُ وَتَكُونُ النَّفَقَةُ هُنَا وَاجِبَةً بِشَيْئَيْنِ حَتَّى لَوْ سَقَطَ الْوُجُوبُ فَأَحَدُهُمَا ثَبَتَ الْآخَرُ. كَمَا لَوْ نَشَزَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ لِلْإِرْضَاعِ لَا لِلزَّوْجِيَّةِ. فَأَمَّا إذَا كَانَتْ بَائِنًا وَأَرْضَعَتْ لَهُ وَلَدَهُ فَإِنَّهَا تَسْتَحِقُّ أَجْرَهَا بِلَا رَيْبٍ. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَهَذَا الْأَجْرُ هُوَ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ وَقَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ. وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ قَلِيلَةَ اللَّبَنِ وَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا فَلَهُ أَنْ يَكْتَرِيَ مُرْضِعَةً لِوَلَدِهِ وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا فَرْضَ لِلْمَرْأَةِ بِسَبَبِ الْوَلَدِ وَلَهَا حَضَانَتُهُ، وَيَجِبُ عَلَى الْقَرِيبِ افْتِكَاكُ قَرِيبِهِ مِنْ الْأَسْرِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ اسْتِنْقَاذُهُ مِنْ الرِّقِّ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِ الْعَقْلِ. وَتَجِبُ النَّفَقَةُ لِكُلِّ وَارِثٍ وَلَوْ كَانَ مُقَاطِعًا مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَغَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ وَهُوَ عَامٌّ كَعُمُومِ الْمِيرَاثِ فِي ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَالْأَوْجَهُ وُجُوبُهَا مُرَتَّبًا وَإِنْ كَانَ الْمُوسِرُ الْقَرِيبُ مُمْتَنِعًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَالْمُعْسِرِ كَمَا لَوْ كَانَ لِلرَّجُلِ مَالٌ وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ لِغَصْبٍ أَوْ بُعْدٍ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ هُنَا الْقَرْضُ رَجَاءَ الِاسْتِرْجَاعِ وَعَلَى هَذَا فَمَتَى وَجَبَتْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَرْضُ إذَا كَانَ لَهُ وَفَاءٌ. وَذَكَرَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُمَا فِي أَبٍ وَابْنٍ الْقِيَاسَ أَنَّ عَلَى الْأَبِ

باب الحضانة

السُّدُسَ إلَّا أَنَّ الْأَصْحَابَ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَالْآيَةُ إنَّمَا هِيَ فِي الرَّضِيعِ وَلَيْسَ لَهُ ابْنٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّ مَنْ لَهُ ابْنٌ يَبْعُدُ أَنْ لَا تَكُونَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ بَلْ تَكُونَ عَلَى الْأَبِ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ وَهَذَا جَيِّدٌ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ حَيْثُ ذَكَرَ فِي التَّذْكِرَةِ أَنَّ الْوَلَدَ يَنْفَرِدُ بِنَفَقَةِ وَالِدَيْهِ. [بَابُ الْحَضَانَةِ] ِ لَا حَضَانَةَ إلَّا لِرَجُلٍ مِنْ الْعَصَبَةِ أَوْ لِامْرَأَةٍ وَارِثَةٍ أَوْ مُدْلِيَةٍ بِعَصَبَةٍ أَوْ بِوَارِثٍ فَإِنْ عَدِمُوا فَالْحَاكِمُ وَقِيلَ: إنْ عَدِمُوا ثَبَتَتْ لِمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْأَقَارِبِ ثُمَّ لِلْحَاكِمِ وَيُتَوَجَّهُ عِنْدَ الْعَدَمِ أَنْ تَكُونَ لِمَنْ سَبَقَتْ إلَيْهِ الْيَدُ كَاللَّقِيطَةِ فَإِنَّ كُفَّالَ الْيَتَامَى لَمْ يَكُونُوا يَسْتَأْذِنُونَ الْحَاكِمَ وَالْوَجْهُ أَنْ يَتَرَدَّدَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمِيرَاثِ وَالْمَالِ، وَالْعَمَّةُ أَحَقُّ مِنْ الْخَالَةِ، وَكَذَا نِسَاءُ الْأَبِ أَحَقُّ يُقَدَّمْنَ عَلَى نِسَاءِ الْأُمِّ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِلْأَبِ، وَكَذَا أَقَارِبُهُ وَإِنَّمَا قُدِّمَتْ الْأُمُّ عَلَى الْأَبِ لِأَنَّهُ لَا يَقُومُ مَقَامَهَا هُنَا فِي مَصْلَحَةِ الطِّفْلِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الشَّارِعُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَالَةَ بِنْتِ حَمْزَةَ عَلَى عَمَّتِهَا صَفِيَّةَ لِأَنَّ صَفِيَّةَ لَمْ تَطْلُبْ وَجَعْفَرٌ طَلَب نَائِبًا عَنْ خَالَتِهَا فَقَضَى لَهَا بِهَا فِي غَيْبَتِهَا وَضَعْفُ الْبَصَرِ يَمْنَعُ مِنْ كَمَالِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمَحْضُونُ مِنْ الْمَصَالِحِ. وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْأُمُّ فَلَا حَضَانَةَ لَهَا وَعَلَى عَصَبَةِ الْمَرْأَةِ مَنْعُهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنْ لَمْ تَمْتَنِعْ إلَّا بِالْحَبْسِ حَبَسُوهَا وَإِنْ احْتَاجَتْ إلَى الْقَيْدِ قَيَّدُوهَا. وَمَا يَنْبَغِي لِلْمَوْلُودِ أَنْ يَضْرِبَ أُمَّهُ وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ مُقَاطَعَتُهَا بِحَيْثُ تَتَمَكَّنُ مِنْ السُّوءِ بَلْ يُلَاحِظُونَهَا بِحَسَبِ قُدْرَتِهِمْ وَإِنْ احْتَاجَتْ إلَى رِزْقٍ وَكِسْوَةٍ كَسَوْهَا وَلَيْسَ لَهُمْ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

كتاب الجنايات

[كِتَابُ الْجِنَايَاتِ] ِ الْعُقُوبَاتُ الشَّرْعِيَّةُ إنَّمَا شُرِعَتْ رَحْمَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ فَهِيَ صَادِرَةٌ عَنْ رَحْمَةِ الْخَلْقِ وَإِرَادَةِ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَلِهَذَا يَنْبَغِي لِمَنْ يُعَاقِبُ النَّاسَ عَلَى ذُنُوبِهِمْ أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ الْإِحْسَانَ إلَيْهِمْ وَالرَّحْمَةَ لَهُمْ كَمَا يَقْصِدُ الْوَالِدُ تَأْدِيبَ وَلَدِهِ وَكَمَا يَقْصِدُ الطَّبِيبُ مُعَالَجَةَ الْمَرِيضِ. وَتَوْبَةُ الْقَاتِلِ لِلنَّفْسِ عَمْدًا مَقْبُولَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا تُقْبَلُ، وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ وَإِذَا اُقْتُصَّ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا فَهَلْ لِلْمَقْتُولِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فِي الْآخِرَةِ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ بَعْدَ الْجَرْحِ أَوْ بَعْدَ الرَّمْيِ قَبْلَ الْإِصَابَةِ مَانِعَةً مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا مِنْ صُوَرِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْمُوجِبِ لِلْقَوَدِ مَنْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالرِّدَّةِ فَقُتِلَ بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعُوا وَقَالُوا عَمَدْنَا قَتْلَهُ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ إنَّمَا يُقْتَلُ إذَا لَمْ يَتُبْ فَيُمْكِنُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ كَمَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ إذَا أُلْقِيَ فِي الْغَارِ. وَالدَّوْلُ عَلَى مَنْ يُقْتَلُ بِغَيْرِ حَقٍّ يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ وَالدِّيَةُ إذَا تَعَمَّدَ، وَإِمْسَاكُ الْحَيَّاتِ جِنَايَةٌ مُحَرَّمَةٌ قَالَ فِي " الْمُحَرَّرِ " : لَوْ أَمَرَ بِهِ يَعْنِي الْقَتْلَ سُلْطَانٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٍ ظُلْمًا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ ظُلْمَهُ فِيهِ فَقَتَلَهُ فَالْقَوَدُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْآمِرِ خَاصَّةً. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: هَذَا بِنَاءٌ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ السُّلْطَانِ فِي الْقَتْلِ الْمَجْهُولِ وَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ لَا يُطَاعُ حَتَّى يَعْلَمَ جَوَازَ قَتْلِهِ وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ الطَّاعَةُ لَهُ مَعْصِيَةً لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالظُّلْمِ فَهُنَا الْجَهْلُ بِعَدَمِ الْحِلِّ كَالْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ مِمَّنْ يُطِيعُهُ غَالِبًا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ الْقَتْلُ عَلَيْهِمَا وَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْحَاكِمِ

وَالشُّهُودُ سَبَبٌ يَقْتَضِي غَالِبًا فَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْمُكْرَهِ وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِذِمِّيٍّ إلَّا أَنْ يَقْتُلَهُ غِيلَةً لِأَخْذِ مَالِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ قَالَ أَصْحَابُنَا وَلَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الْعَبْدِ نُصُوصٌ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ كَمَا فِي الذِّمِّيِّ بَلْ أَجْوَدُ مَا رُوِيَ «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ» . وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا قَتَلَهُ ظُلْمًا كَانَ الْإِمَامُ وَلِيَّ دَمِهِ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ وَالْآثَارِ أَنَّهُ إذَا مَثَّلَ بِعَبْدِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا وَقَتْلُهُ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْمُثْلَةِ فَلَا يَمُوتُ إلَّا حُرًّا لَكِنَّ حُرِّيَّتَهُ لَمْ تَثْبُتْ حَالَ حَيَاتِهِ حَتَّى تَرِثَهُ عَصَبَتُهُ بَلْ حُرِّيَّتُهُ ثَبَتَتْ حُكْمًا وَهُوَ إذَا عَتَقَ كَانَ وَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الْإِمَامُ هُوَ وَلِيَّهُ فَلَهُ قَتْلُ قَاتِلِ عَبْدِهِ وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَذَا مَنْ يَقُولُ: إنَّ قَاتِلَ عَبْدِ غَيْرِهِ لِسَيِّدِهِ قَتْلُهُ وَإِذَا دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الرَّاجِحَ وَهَذَا قَوِيٌّ عَلَى قَوْلِ أَحْمَدَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ كَالْحُرِّ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ فَلِمَاذَا لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» وَمَنْ قَالَ لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ يَقُولُ إنَّهُ لَا يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة: 221] ، فَالْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ خَيْرٌ مِنْ الذِّمِّيِّ الْمُشْرِكِ فَكَيْفَ لَا يُقْتَلُ بِهِ وَالسُّنَّةُ إنَّمَا جَاءَتْ لَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدٍ فَإِلْحَاقُ الْجَدِّ أَبِي الْأُمِّ بِذَلِكَ بَعِيدٌ وَيُتَوَجَّهُ أَنْ لَا يَرِثَ الْقَاتِلُ دَمًا مِنْ وَارِثٍ كَمَا لَا يَرِثُ هُوَ الْمَقْتُولَ وَهُوَ يُشْبِهُ حَدَّ الْقَذْفِ الْمُطَالَبَ بِهِ إذَا كَانَ الْقَاذِفُ هُوَ الْوَارِثَ أَوْ وَارِثَ الْوَارِثِ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَتَلَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ أَبَاهُ وَالْآخَرُ أُمَّهُ وَهِيَ فِي زَوْجِيَّةِ الْأَبِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ قَتْلَ الْآخَرِ فَيَتَقَاصَّانِ لَا سِيَّمَا إذَا قِيلَ إنَّهُ مُسْتَحِقُّ الْقَوَدِ بِمِلْكٍ نَقَلَهُ إلَى غَيْرِهِ، إمَّا بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ بِلَا رَيْبٍ، وَإِمَّا بِالتَّمْلِيكِ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ. وَإِذَا كَانَ الْمَقْتُولُ رَضِيَ بِالِاسْتِيفَاءِ أَوْ بِالذِّمَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَعَيَّنَ كَمَا لَوْ عَفَا وَعَلَيْهِ تُخَرَّجُ قِصَّةُ عَلِيٍّ إذَا لَمْ تُخَرَّجْ عَلَى كَوْنِهِ مُرْتَدًّا أَوْ مُفْسِدًا فِي الْأَرْضِ أَوْ قَاتِلٌ الْأَئِمَّةَ، وَإِذَا قَالَ أَنَا قَاتِلُ غُلَامِ زَيْدٍ فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ إنْ كَانَ نَحْوِيًّا لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ نَحْوِيٍّ

باب استيفاء القود والعفو عنه

كَانَ مُقِرًّا كَمَا لَوْ قَالَهُ بِالْإِضَافَةِ، وَمَنْ رَأَى رَجُلًا يَفْجُرُ بِأَهْلِهِ جَازَ لَهُ قَتْلُهُمَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَسَوَاءٌ كَانَ الْفَاجِرُ مُحْصَنًا أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ أَمْ لَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْأَصْحَابِ وَفَتَاوَى الصَّحَابَة وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ دَفْعِ الصَّائِلِ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ بَلْ هُوَ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُعْتَدِينَ الْمُؤْذِينَ. وَأَمَّا إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَفْعَلْ بَعْدُ فَاحِشَةً وَلَكِنْ دَخَلَ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَالْأَحْوَطُ لِهَذَا أَنْ يَتُوبَ مِنْ الْقَتْلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ وَمَنْ طُلِبَ مِنْهُ الْفُجُورُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ الصَّائِلَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِالْقَتْلِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. فَإِنْ ادَّعَى الْقَاتِلُ أَنَّهُ صَالَ عَلَيْهِ وَأَنْكَرَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ فَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مَعْرُوفًا بِالْبِرِّ وَقَتَلَهُ فِي مَحَلٍّ لَا رِيبَةَ فِيهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْقَاتِلِ، وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ وَالْقَاتِلُ مَعْرُوفًا بِالْبِرِّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاتِلِ مَعَ يَمِينِهِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالتَّعَرُّضِ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ. [بَابُ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ] ُ وَالْجَمَاعَةُ الْمُشْتَرِكُونَ فِي اسْتِحْقَاقِ دَمِ الْمَقْتُولِ الْوَاحِدِ، إمَّا أَنْ يَثْبُتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ بَعْضُ الِاسْتِيفَاءِ فَيَكُونُونَ كَالْمُشْتَرِكِينَ فِي عَقْدٍ أَوْ خُصُومَةٍ وَتَعْيِينُ الْإِمَامِ قَوِيٌّ كَمَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِمْ لِنِيَابَتِهِ عَنْ الْمُمْتَنِعِ. وَالْقُرْعَةُ إنَّمَا شُرِعَتْ فِي الْأَصْلِ إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُسْتَحِقًّا أَوْ كَالْمُسْتَحِقِّ وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَدَّمَ الْأَكْثَرُ حَقًّا أَوْ الْأَفْضَلُ لِقَوْلِهِ كَبِرَ وَكَالْأَوْلِيَاءِ فِي النِّكَاحِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا -: هُنَا مَنْ تَقَدَّمَ بِالْقُرْعَةِ قَدَّمَتْهُ وَلَمْ تَسْقُطْ حُقُوقُهُمْ وَيُتَوَجَّهُ إذَا قُلْنَا لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَخْذُ الدِّيَةِ إلَّا بِرِضَا الْجَانِي أَنْ يَسْقُطَ حَقَّهُ بِمَوْتِهِ كَمَا لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ الْجَانِي أَوْ الْمَكْفُولُ بِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ثَوَابٍ وَأَبِي الْقَاسِمِ وَأَبِي طَالِبٍ وَيُتَوَجَّهُ ذَلِكَ وَإِنْ قُلْنَا لِوَاجِبِ الْقَوَدِ عَيْنًا أَوْ أَحَدِ شَيْئَيْنِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ عَدِيلُ الْعَفْوِ. فَأَمَّا الدِّيَةُ مَعَ الْهَلَاكِ فَلَا، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعَاقَبَ الْمَجْنُونُ بِقَتْلٍ وَلَا قَطْعٍ لَكِنْ يُضْرَبُ عَلَى مَا فَعَلَ لِيُزْجَرَ. وَكَذَا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ يُعَاقَبُ عَلَى الْفَاحِشَةِ تَعْزِيرًا بَلِيغًا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنْ وَجَبَ لِعَبْدٍ قِصَاصٌ أَوْ تَعْزِيرُ قَذْفٍ فَطَلَبُهُ وَإِسْقَاطُهُ إلَيْهِ دُونَ سَيِّدِهِ وَيُتَوَجَّهُ أَنْ لَا يَمْلِكَ إسْقَاطَهُ مَجَّانًا كَالْمُفْلِسِ وَالْوَرَثَةُ مَعَ الدُّيُونِ الْمُسْتَغْرِقَةِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْأَصْلُ فِي الْوَصِيِّ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَمْلِكَ السَّيِّدُ تَعْزِيرَ الْقَذْفِ إذَا مَاتَ الْعَبْدُ إلَّا إذَا طَالَبَ كَالْوَارِثِ وَيُفْعَلُ بِالْجَانِي عَلَى النَّفْسِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ

مَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا فِي نَفْسِهِ أَوْ يَقْتُلَهُ بِالسَّيْفِ إنْ شَاءَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَلَوْ كَوَى شَخْصًا بِمِسْمَارٍ كَانَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَكْوِيَهُ مِثْلَ مَا كَوَاهُ إنْ أَمْكَنَ وَيَجْرِي الْقِصَاصُ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعْدٍ الشَّالَنْجِيِّ وَلَا يُسْتَوْفَى الْقَوَدُ فِي الطُّرُقِ إلَّا بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ وَمَنْ أَبْرَأَ جَانِيًا حُرًّا جِنَايَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إنْ قُلْنَا تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَوْ تُحْمَلُ عَنْهُ ابْتِدَاءً أَوْ عَبْدًا إنْ قُلْنَا جِنَايَتُهُ فِي ذِمَّتِهِ مَعَ أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ الصِّحَّةُ مُطْلَقًا وَهُوَ وَجْهٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ هَذَا اللَّفْظِ فِي عُرْفِ النَّاسِ الْعَفْوُ مُطْلَقًا وَالتَّصَرُّفَاتُ تُحْمَلُ مُوجِبَاتُهَا عَلَى عُرْفِ النَّاسِ فَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الِاصْطِلَاحَاتِ وَإِذَا عَفَا أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ عَنْ الْقَاتِلِ بِشَرْطِ أَلَّا يُقِيمَ فِي هَذَا الْبَلَدِ وَلَمْ يَفِ بِهَذَا الشَّرْطِ لَمْ يَكُنْ الْعَفْوُ لَازِمًا بَلْ لَهُمْ أَنْ يُطَالِبُوهُ بِالدِّيَةِ فِي قَوْلِ الْعُلَمَاءِ وَبِالدَّمِ فِي قَوْلٍ آخَرَ. وَسَوَاءٌ قِيلَ هَذَا الشَّرْطُ صَحِيحٌ أَمْ فَاسِدٌ يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ أَمْ لَا. وَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ فِي قَتْلِ الْغَفْلَةِ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ كَالْقَتْلِ فِي الْمُحَارَبَةِ وَوِلَايَةِ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ لَيْسَتْ عَامَّةً لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ بَلْ تَخْتَصُّ بِالْعَصَبَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَتُخَرَّجُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ وَإِذَا اتَّفَقَ الْجَمَاعَةُ عَلَى قَتْلِ شَخْصٍ فَلِأَوْلِيَاءِ الدَّمِ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ وَلَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا بَعْضَهُمْ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ عَيْنُ الْقَاتِلِ فَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى وَاحِدٍ بِقَتْلِهِ أَنَّهُ قَتَلَهُ وَيُحْكَمَ لَهُمْ بِالدَّمِ انْتَهَى.

كتاب الديات

[كِتَابُ الدِّيَاتِ] ِ الْمَعْرُوفُ أَنَّ الْحُرَّ يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ لَا بِالْيَدِ إلَّا الصَّغِيرَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ فِي سَرِقَتِهِ فَإِنْ كَانَ الْحُرُّ قَدْ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَقُّ قَوَدٍ أَوْ فِي ذِمَّتِهِ مَالٌ أَوْ مَنْفَعَتُهُ أَوْ عِنْدَهُ أَمَانَاتٌ أَوْ غُصُوبٌ تَلِفَتْ بِتَلَفِهِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا عَلَيْهَا وَإِذَا تَلِفَ زَالَ الْحِفْظُ فَيَنْبَغِي أَنَّهُ إنْ أَتْلَفَ فَمَا ذَهَبَ لِإِتْلَافِهِ مِنْ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ مَضْمُونَةٍ ضُمِنَتْ كَالْقَوَدِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ لَكِنْ هَلْ يَنْتَقِلُ الْحَقُّ إلَى الْقَاتِلِ فَيُخَيَّرُ الْأَوْلِيَاءُ بَيْنَ قَتْلِهِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ أَوْ إلَى تَرْكِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَأَمَّا إذَا تَلِفَ تَحْتَ الْيَدِ الْعَادِيَةِ فَالْمُتَوَجَّهُ أَنْ يَضْمَنَ مَا تَلِفَ بِذَلِكَ مِنْ مَالٍ أَوْ بَدَلِ قَوَدٍ بِحَيْثُ يُقَالُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ قَوَدٌ فَحَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْقَوَدِ حَتَّى مَاتَ ضَمِنَ لَهُمْ الدِّيَةَ وَمَنْ جَنَى عَلَى سِنِّهِ اثْنَانِ وَاخْتَلَفُوا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي قَدْرِ مَا أَتْلَفَهُ كُلٌّ مِنْهُمَا. قَالَهُ أَصْحَابُنَا وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يَقْتَرِعَا عَلَى الْقَدْرِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ كَمَا لَوْ ثَبَتَ الْحَقُّ لِأَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ. وَإِذَا أَخَذَ مِنْ لِحْيَتِهِ مَا لَا جَمَالَ فِيهِ فَهَلْ يَجِبُ الْقِسْطُ أَوْ الْحُكُومَةُ. فَصْلٌ وَأَبُو الرَّجُلِ وَابْنُهُ مِنْ عَاقِلَتِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَتُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِنْ الْجَانِي خَطَأً عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَاقِلَةِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَلَا يُؤَجَّلُ عَلَى الْعَاقِلَةِ إذَا رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يَعْقِلَ ذَوُو الْأَرْحَامِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَةِ إذَا قُلْنَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ وَالْمُرْتَدُّ يَجِبُ أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ مِنْ يَرِثُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ.

باب القسامة

[بَابُ الْقَسَامَةِ] ِ نَقَلَ الْمَيْمُونِيُّ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: أَذْهَبُ إلَى الْقَسَامَةِ إذَا كَانَ ثَمَّ لَطْخٌ وَإِذَا كَانَ ثَمَّ سَبَبٌ بَيِّنٌ وَإِذَا كَانَ ثَمَّ عَدَاوَةٌ وَإِذَا كَانَ مِثْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَفْعَلُ هَذَا فَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ: اللَّطْخُ وَهُوَ التَّكَلُّمُ فِي عِرْضِهِ كَالشَّهَادَةِ الْمَرْدُودَةِ وَالسَّبَبُ الْبَيِّنُ كَالتَّعَرُّفِ عَنْ قَتِيلٍ. وَالْعَدَاوَةُ كَوْنُ الْمَطْلُوبِ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ بِالْقَتْلِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، ثُمَّ لَوْثٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ قَتَلَ مَنْ اُتُّهِمَ بِقَتْلِهِ جَازَ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ أَنْ يَحْلِفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّوا دَمَهُ، وَأَمَّا ضَرْبُهُ لِيُقِرَّ فَلَا يَجُوز إلَّا مَعَ الْقَرَائِن الَّتِي تَدُلّ عَلَى أَنَّهُ قَتَلَهُ فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ جَوَّزَ تَقْرِيرًا بِالضَّرْبِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَبَعْضُهُمْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا.

كتاب الحدود

[كِتَابُ الْحُدُودِ] ِ قَوْله تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] قَدْ يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُذْنِبَ إذَا لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ حُكْمُ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ يُمْسَكُ فَيُحْبَسُ حَتَّى يُعْرَفَ فِيهِ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فَيُنَفَّذَ فِيهِ وَإِذَا زَنَى الذِّمِّيُّ بِالْمُسْلِمَةِ قُتِلَ وَلَا يَصْرِفُ عَنْهُ الْقَتْلَ الْإِسْلَامُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْمُسْلِمِ، بَلْ يَكْفِي اسْتِفَاضَتُهُ وَاشْتِهَارُهُ، وَإِنْ حَمَلَتْ امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا وَلَا سَبَبَ حُدَّتْ إنْ لَمْ تَدَّعِ الشُّبْهَةَ. وَكَذَا مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِمَا وَغِلَظُ الْمَعْصِيَةِ وَعِقَابُهَا بِقَدْرِ فَضِيلَةِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْكَبِيرَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ لَكِنْ قَدْ تُحْبِطُ مَا يُقَابِلُهَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ مُطَالَبَةُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ بِمَالِهِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ كَإِقْرَارِهِ بِالزِّنَا بِأَمَةِ غَيْرِهِ وَمَنْ سَرَقَ تَمْرًا أَوْ مَاشِيَةً مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ أُضْعِفَتْ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَكَذَا غَيْرُهَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ. وَاللِّصُّ الَّذِي غَرَضُهُ سَرِقَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَلَا غَرَضَ لَهُ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّ قَطْعَ يَدِهِ وَاجِبٌ وَلَوْ عَفَا عَنْهُ رَبُّ الْمَالِ. [فَصْلٌ وَالْمُحَارِبُونَ حُكْمُهُمْ فِي الْمِصْرِ وَالصَّحْرَاءِ وَاحِدٌ] ٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَالشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا قَالَ الْقَاضِي الْمَذْهَبُ عَلَى مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي عَدَمِ التَّفْرِقَةِ وَلَا نَصَّ فِي الْخِلَافِ بَلْ هُمْ فِي الْبُنْيَانِ أَحَقُّ بِالْعُقُوبَةِ مِنْهُمْ فِي الصَّحْرَاءِ وَالزِّوَى

فصل والأفضل ترك قتال أهل البغي

فَالْمُبَاشَرَةُ فِي الْخَرَابِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَكَذَا فِي السَّرِقَةِ وَالْمَرْأَةُ الَّتِي تُحْضِرُ النِّسَاءَ لِلْقَتْلِ تُقْتَلُ. وَالْعُقُوبَاتُ الَّتِي تُقَامُ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ إذَا ثَبَتَتْ بِالْبَيِّنَةِ فَإِذَا أَظْهَرَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ التَّوْبَةَ لَمْ يُوثَقْ مِنْهُ بِهَا فَيُقَامُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ تَائِبًا فِي الْبَاطِنِ كَانَ الْحَدُّ مُكَفِّرًا وَكَانَ مَأْجُورًا عَلَى صَبْرِهِ وَإِنْ جَاءَ تَائِبًا بِنَفْسِهِ فَاعْتَرَفَ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ فِي الْمُحَارِبِينَ وَإِنْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا شَهِدَ بِهِ مَاعِزٌ وَالْغَامِدِيَّةُ وَاخْتَارَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ أُقِيمَ وَإِلَّا لَا، وَتَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى آخَرَ إذَا كَانَ الْمُقْتَضِي لِلتَّوْبَةِ مِنْهُ أَقْوَى مِنْ الْمُقْتَضِي لِلتَّوْبَةِ مِنْ الْآخَرِ أَوْ كَانَ الْمَانِعُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَشَدَّ هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَيَلْزَمُ الدَّفْعُ عَنْ مَالِ الْغَيْرِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَدْفُوعُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي جُنْدٍ قَاتَلُوا عَرَبًا نَهَبُوا أَمْوَالَ تُجَّارٍ لِيَرُدُّوهَا إلَيْهِمْ فَهُمْ مُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ بِقَوَدِ وِلَايَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ وَمَنْ أَمَّنَ لِلرِّئَاسَةِ وَالْمَالِ لَمْ يُثَبْ وَيَأْثَمُ عَلَى فَسَادِ نِيَّتِهِ كَالْمُصَلِّي رِيَاءً وَسُمْعَةً. [فَصْلٌ وَالْأَفْضَلُ تَرْكُ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ] ِ حَتَّى يَبْدَأَ الْإِمَامُ وَقَالَهُ مَالِكٌ وَلَهُ قَتْلُ أَهْلِ الْخَوَارِجِ ابْتِدَاءً أَوْ مُتَمِّمَةً تَخْرِيجَهُمْ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرِ الْمُصَنِّفِينَ لِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ يَرَى الْقِتَالَ مِنْ نَاحِيَةِ عَلِيٍّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْإِمْسَاكَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ مَعَ رُؤْيَتِهِمْ لِقِتَالِ مَنْ خَرَجَ عَنْ الشَّرِيعَةِ كَالْحَرُورِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ وَأَنَّهُ يَجِبُ، وَالْأَخْبَارُ تُوَافِقُ هَذَا فَاتَّبِعُوا النَّصَّ الصَّحِيحَ وَالْقِيَاسَ الْمُسْتَقِيمَ، وَعَلِيٌّ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ اسْتَحَلَّ أَذَى مَنْ أَمَرَهُ وَنَهَاهُ بِتَأْوِيلٍ فَكَالْمُبْتَدِعِ وَنَحْوِهِ يَسْقُطُ بِتَوْبَتِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ الْعَبْدِ. وَاحْتَجَّ أَبُو الْعَبَّاسِ لِذَلِكَ بِمَا أَتْلَفَهُ الْبُغَاةُ لِأَنَّهُ مِنْ الْجِهَادِ الَّذِي يَجِبُ الْأَجْرُ فِيهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقِتَالُ التَّتَارِ وَلَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ هُوَ قِتَالُ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَانِعِي الزَّكَاةِ وَيَأْخُذُ مَالَهُمْ وَذُرِّيَّتَهُمْ وَكَذَا الْمَقْفَزُ إلَيْهِمْ وَلَوْ ادَّعَى إكْرَاهًا، وَمَنْ أَجْهَزَ عَلَى جَرِيحٍ

فصل وإذا شككت في المطعوم والمشروب هل يسكر أو لا

لَمْ يَأْثَمْ وَلَوْ تَشَهَّدَ وَمَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ شَيْئًا خُمِّسَ وَبَقِيَّتُهُ لَهُ وَالرَّافِضَةُ وَالْجَبَلِيَّةُ يَجُوزُ أَخْذُ أَمْوَالِهِمْ وَسَبْيُ حَرِيمِهِمْ يَخْرُجُ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ قَالَ أَصْحَابُنَا وَإِنْ اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ لِعَصَبِيَّةٍ أَوْ طَلَبِ رِئَاسَةٍ فَهُمَا ظَالِمَتَانِ ضَامِنَتَانِ فَأَوْجَبُوا الضَّمَانَ عَلَى مَجْمُوعِ الطَّائِفَةِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ عَيْنُ الْمُتْلِفِ وَإِنْ تَقَاتَلَا تَقَاصَّا لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ وَالْمُعَيَّنَ سَوَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَإِنْ جُهِلَ قَدْرُ مَا نَهَبَهُ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ الْأُخْرَى تَسَاوَيَا كَمَنْ جَهِلَ قَدْرَ الْحَرَامِ الْمُخْتَلَطِ بِمَالِهِ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ النِّصْفَ وَالْبَاقِي لَهُ وَمَنْ دَخَلَ لِصُلْحٍ فَقُتِلَ فَجُهِلَ قَاتِلُهُ ضَمِنَهُ الطَّائِفَتَانِ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَنْ شَرِيعَةِ مُتَوَاتِرَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهَا حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ كَالْمُحَارِبِينَ وَأَوْلَى. [فَصْلٌ وَإِذَا شَكَكْت فِي الْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ هَلْ يُسْكِرُ أَوْ لَا] لَمْ يَحْرُمْ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ وَلَمْ يُقَمْ الْحَدُّ عَلَى شَارِبِهِ وَلَا يَنْبَغِي إبَاحَتُهُ لِلنَّاسِ إذْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْكِرًا لِأَنَّ إبَاحَةَ الْحَرَامِ مِثْلُ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ فَتُكْشَفُ عَنْ هَذَا شَهَادَةُ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ طَعِمَهُ ثُمَّ تَابَ مِنْهُ أَوْ طَعِمَهُ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ تَحْرِيمَهُ أَوْ مُعْتَقِدًا حِلَّهُ لِتَدَاوٍ وَنَحْوِهِ أَوْ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فِي تَحْلِيلِ يَسِيرِ النَّبِيذِ فَإِنْ شَهِدَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ يَتَأَوَّلُهُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ فَيَنْبَغِي إذَا أَخْبَرَ عَدَدٌ كَثِيرٌ لَا يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ أَنْ يُحْكَمَ بِذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا مِثْلُ التَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ كَمَا اسْتَفَاضَ بَيْنَ الْفُسَّاقِ وَالْكُفَّارِ الْمَوْتُ وَالنَّسَبُ وَالنِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ فَيَكُونُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إمَّا الْحُكْمُ بِذَلِكَ لِأَنَّ التَّوَاتُرَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَالْعَدَالَةُ. وَإِمَّا الشَّهَادَةُ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الِاسْتِفَاضَةِ فَلَا يَحْصُلُ بِهَا التَّوَاتُرُ وَلَنَا أَنْ نَمْتَحِنَ بَعْضَ الْعُدُولِ بِتَأَوُّلِهِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَحْرِيمَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّأْوِيلِ فَيَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى تَنَاوُلِهِ وَكَرَاهَةِ الْإِقْدَامِ عَلَى الشُّبْهَةِ تُعَارِضُهَا مَصْلَحَةُ بَيَانِ الْحَالِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ قَدْ تُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةُ إلَى الْبَيَانِ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ فَيَجُوزُ تَنَاوُلُهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ وَالْحَشِيشَةُ الْقُنَّبِيَّةُ نَجِسَةٌ فِي الْأَصَحِّ وَهِيَ حَرَامٌ سَكِرَ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَسْكَرْ وَالْمُسْكِرُ مِنْهَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَضَرَرُهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ الْخَمْرِ وَلِهَذَا أَوْجَبَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا الْحَدَّ كَالْخَمْرِ وَتَوَقَّفَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي

الْحَدِّ بِهَا وَأَنَّ أَكْلَهَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ بِمَا دُونَ الْحَدِّ فِيهِ نَظَرٌ إذْ هِيَ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَكَلَتُهَا يَتَبَشُّونَ عَنْهَا وَيُشَبِّهُونَهَا بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْثَرَ وَتَصُدُّهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي خُصُوصِهَا لِأَنَّهَا إنَّمَا حَدَثَ أَكْلُهَا فِي أَوَاخِرِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ ظُهُورُهَا مَعَ ظُهُورِ سَيْفِ بْنِ بخشخا. لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وَلَا بِغَيْرِهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَيَجُوزُ شُرْبُ لَبَنِ الْخَيْلِ إذْ لَمْ يَصِرْ مُسْكِرًا. وَالصَّحِيحُ فِي حَدِّ الْخَمْرِ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ الْمُوَافِقَةُ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ إلَى الثَّمَانِينَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ يَرْجِعُ فِيهَا إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ كَمَا جَوَّزْنَا لَهُ الِاجْتِهَادَ فِي صِفَةِ الضَّرْبِ فِيهِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ فِي بَقِيَّةِ الْحُدُودِ. وَمِنْ التَّعْزِيرِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ: نَفْيُ الْمُخَنَّثِ، وَحَلَقَ عُمَرُ رَأْسَ نَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ وَنَفَاهُ لَمَّا اُفْتُتِنَ بِهِ النِّسَاءُ، فَكَذَا مَنْ اُفْتُتِنَ بِهِ الرِّجَالُ مِنْ الْمُرْدَانِ وَلَا يُقَدَّرُ التَّعْزِيرُ، بَلْ بِمَا يَرْدَعُ الْمُعَزَّرَ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْعَمَلِ وَالنَّيْلِ مِنْ عِرْضِهِ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: يَا ظَالِمُ يَا مُعْتَدِي وَبِإِقَامَتِهِ مِنْ الْمَجْلِسِ، وَاَلَّذِينَ قَدَّرُوا التَّعْزِيرَ مِنْ أَصْحَابِنَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا كَانَ تَعْزِيرًا عَلَى مَا مَضَى مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ فَإِنْ كَانَ تَعْزِيرًا لِأَجْلِ تَرْكِ مَا هُوَ فَاعِلٌ لَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَالْحَرْبِيِّ وَقِتَالِ الْبَاغِي وَالْعَادِي وَهَذَا التَّعْزِيرُ لَيْسَ يُقَدَّرُ بَلْ يَنْتَهِي إلَى الْقَتْلِ، كَمَا فِي الصَّائِلِ لِأَخْذِ الْمَالِ يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ الْأَخْذِ وَلَوْ بِالْقَتْلِ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ دَفْعَ الْفَسَادِ وَلَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ. وَحِينَئِذٍ فَمَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ فِعْلُ الْفَسَادِ وَلَمْ يَرْتَدِعْ بِالْحُدُودِ الْمُقَدَّرَةِ بَلْ اسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ الْفَسَادِ فَهُوَ كَالصَّائِلِ الَّذِي لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِالْقَتْلِ فَيُقْتَلُ قِيلَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُخَرَّجَ شَارِبُ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ عَلَى هَذَا، وَيُقْتَلُ الْجَاسُوسُ الَّذِي يُكَرِّرُ التَّجَسُّسَ وَقَدْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي صَلَاحِ النَّاسِ. وَكَذَلِكَ تَارِكُ الْوَاجِبِ فَلَا يَزَالُ يُعَاقَبُ حَتَّى يَفْعَلَهُ، وَمَنْ قَفَزَ إلَى بِلَادِ الْعَدُوِّ أَوْ لَمْ يَنْدَفِعْ ضَرَرُهُ إلَّا بِقَتْلِهِ قُتِلَ وَالتَّعْزِيرُ بِالْمَالِ سَائِغٌ إتْلَافًا وَأَخْذًا وَهُوَ جَارٍ عَلَى أَصْلِ أَحْمَدَ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُهُ أَنَّ الْعُقُوبَاتِ فِي الْأَمْوَالِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ كُلُّهَا وَقَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيَّ وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ مَالِ الْمُعَزَّرِ فَإِشَارَةٌ مِنْهُ إلَى مَا يَفْعَلُهُ الْوُلَاةُ الظَّلَمَةُ.

وَمَنْ وَطِئَ امْرَأَةً مُشْرِكَةً قَدَحَ ذَلِكَ فِي عَدَالَتِهِ وَأُدِّبَ وَالتَّعْزِيرُ يَكُونُ عَلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ فَمِنْ جِنْسِ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ مَنْ كَتَمَ مَا يَجِبُ بَيَانُهُ كَالْبَائِعِ الْمُدَلِّسِ وَالْمُؤَجِّرِ وَالنَّاكِحِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعَامِلِينَ وَكَذَا الشَّاهِدُ وَالْمُخْبِرُ وَالْمُفْتِي وَالْحَاكِمُ وَنَحْوُهُمْ فَإِنَّ كِتْمَانَ الْحَقِّ مُشَبَّهٌ بِالْكَذِبِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلضَّمَانِ كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ سَبَبٌ لِلضَّمَانِ فَإِنَّ الْوَاجِبَاتِ عِنْدَنَا فِي الضَّمَانِ كَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ حَتَّى قُلْنَا لَوْ قَدَرَ عَلَى إنْجَاءِ شَخْصٍ بِإِطْعَامٍ أَوْ سَقْيٍ فَلَمْ يَفْعَلْ فَمَاتَ ضَمِنَهُ فَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَتَمَ شَهَادَةً كِتْمَانًا أَبْطَلَ بِهَا حَقَّ مُسْلِمٍ ضَمِنَهُ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَقٌّ بَيْنَهُ وَقَدْ أَدَّاهُ حَقَّهُ وَلَهُ بَيِّنَةٌ بِالْأَدَاءِ فَكَتَمَ الشَّهَادَةَ حَتَّى يَغْرَمَ ذَلِكَ الْحَقَّ. وَكَمَا لَوْ كَانَتْ وَثَائِقُ لِرَجُلٍ فَكَتَمَهَا أَوْ جَحَدَهَا حَتَّى فَاتَ الْحَقُّ وَلَوْ قَالَ أَنَا أَعْلَمُهَا وَلَا أُؤَدِّيهَا فَوُجُوبُ الضَّمَانِ ظَاهِرٌ. وَظَاهِرُ نَقْلِ ابْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِ مَنْصُورٍ سَمَاعُ الدَّعْوَى مِنْ الْأَعْدَاءِ وَالتَّحْلِيفُ فِي الشَّهَادَةِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَوْ كَانَ فِي الْقَرْيَةِ أَوْ الْمَحَلَّةِ أَوْ الْبَلْدَةِ رَجُلٌ ظَالِمٌ فَسَأَلَ الْوَالِي أَوْ الْغَرِيمُ عَنْ مَكَانِهِ لِيَأْخُذَ مِنْهُ الْحَقَّ فَإِنَّهُ يَجِبُ دَلَالَتُهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ قَصْدُهُ أَكْثَرَ مِنْ الْحَقِّ فَعَلَى هَذَا إذَا كَتَمُوا ذَلِكَ حَتَّى تَلِفَ الْحَقُّ ضَمِنُوهُ وَيَمْلِكُ السُّلْطَانُ تَعْزِيرَ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهُ كَتَمَ الْخَبَرَ الْوَاجِبَ كَمَا يَمْلِكُ تَعْزِيرَ الْمُقِرِّ قَرَارًا مَحْمُولًا حَتَّى يُفَسِّرَهُ أَوْ مَنْ كَتَمَ الْإِقْرَارَ وَقَدْ يَكُونُ التَّعْزِيرُ بِتَرْكِهِ الْمُسْتَحَبَّ كَمَا يُعَزَّرُ الْعَاطِسُ الَّذِي لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ بِتَرْكِ تَشْمِيتِهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَالتَّعْزِيرُ عَلَى الشَّيْءِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ مِنْ قَتْلِ الدَّاعِيَةِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ كَمَا قُتِلَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ وَالْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَغَيْلَانُ الْقَدَرِيُّ وَقَتْلُ هَؤُلَاءِ لَهُ مَأْخَذَانِ. أَحَدُهُمَا: كَوْنُ ذَلِكَ كُفْرًا كَقَتْلِ الْمُرْتَدِّ أَوْ جُحُودًا أَوْ تَغْلِيظًا وَهَذَا الْمَعْنَى يَعُمُّ الدَّاعِيَ إلَيْهَا وَغَيْرَ الدَّاعِي وَإِذَا كَفَرُوا فَيَكُونُ قَتْلُهُمْ مِنْ بَابِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ. وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي: لِمَا فِي الدُّعَاءِ إلَى الْبِدْعَةِ مِنْ إفْسَادِ دِينِ النَّاسِ وَلِهَذَا كَانَ أَصْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَعُلَمَائِهِمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الدَّاعِي إلَى الْبِدْعَةِ وَغَيْرِ الدَّاعِي فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ وَتَرْكِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ وَالصَّلَاةِ خَلْفَهُ وَهَجْرِهِ، وَلِهَذَا تُرِكَ فِي

الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَمُسْنَدِ أَحْمَدَ الرِّوَايَةُ عَنْ مِثْلِ عُمَرَ وَابْنِ عُبَيْدٍ وَنَحْوِهِ وَلَمْ يُتْرَكْ عَنْ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِدُعَاةٍ وَعَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ فَقَتْلُهُمْ مِنْ بَابِ قَتْلِ الْمُفْسِدِينَ الْمُحَارِبِينَ لِأَنَّ الْمُحَارَبَةَ بِاللِّسَانِ كَالْمُحَارَبَةِ بِالْيَدِ وَيُشْبِهُ قَتْلَ الْمُحَارَبِينَ لِلسُّنَّةِ بِالرَّأْيِ قَتْلَ الْمُحَارِبِينَ لَهَا بِالرِّوَايَةِ وَهُوَ قَتْلُ مَنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَتَلَ النَّبِيُّ الَّذِي كَذَبَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ سُنَّتِهِ. وَقَدْ قَرَّرَ أَبُو الْعَبَّاسِ هَذَا مَعَ نَظَائِرَ لَهُ فِي " الصَّارِمِ الْمَسْلُولِ " كَقَتْلِ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لِحُرَمِهِ أَوْ يَسُبُّهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ بِقَتْلِ الْمُفَرِّقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الْجَمَاعَةِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ الَّذِي يُخْبِرُ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْهُ الَّذِي يَكْذِبُ بِلِسَانِهِ أَوْ بِخَطِّهِ أَوْ يَأْمُرُ بِذَلِكَ حَتَّى يَقْتُلَ بِهِ أَعْيَانَ الْأُمَّةِ عُلَمَاءَهَا وَأُمَرَاءَهَا فَتَحْصُلُ أَنْوَاعٌ مِنْ الْفَسَادِ كَثِيرَةٌ فَهَذَا مَتَى لَمْ يَنْدَفِعْ فَسَادُهُ إلَّا بِقَتْلِهِ فَلَا رَيْبَ فِي قَتْلِهِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَنْدَفِعَ وَجَازَ أَنْ لَا يَنْدَفِعَ قُتِلَ أَيْضًا وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْله تَعَالَى {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 32] وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] وَأَمَّا إنْ انْدَفَعَ الْفَسَادُ الْأَكْبَرُ بِقَتْلِهِ لَكِنْ قَدْ بَقِيَ فَسَادٌ دُونَ ذَلِكَ فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَأَفْتَيْت أَمِيرًا مُقَدَّمًا عَلَى عَسْكَرٍ كَبِيرٍ فِي الْحَرْبِيَّةِ إذْ نَهَبُوا أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَنْزَجِرُوا إلَّا بِالْقَتْلِ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ يَكُفُّونَ بِقَتْلِهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ عَشَرَةٌ إذْ هُوَ مِنْ بَابِ دَفْعِ الصَّائِلِ قَالَ وَأَمَّرَ أَمِيرًا خَرَجَ لِتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ الثَّائِرَةِ بَيْنَ قَيْسِ يَمَنَ وَقَدْ قُتِلَ بَيْنَهُمْ أَلْفَانِ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ يَحْصُلُ بِقَتْلِهِ كَفُّ الْفِتْنَةِ وَلَوْ أَنَّهُمْ مِائَةٌ. قَالَ: وَأَفْتَيْت وُلَاةَ الْأُمُورِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ بِقَتْلِ مَنْ أُمْسِكَ فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ سَكْرَانُ وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ مَعَ بَعْضِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَهُوَ مُجْتَازٌ بِشُقَّةِ لَحْمٍ يَذْهَبُ بِهَا إلَى نُدَمَائِهِ وَكُنْت أَفْتَيْتُهُمْ قَبْلَ هَذَا بِأَنَّهُ يُعَاقَبُ عُقُوبَتَيْنِ: عُقُوبَةً عَلَى الشُّرْبِ وَعُقُوبَةً عَلَى الْفِطْرِ فَقَالُوا مَا مِقْدَارُ التَّعْزِيرِ فَقُلْت هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الذَّنْبِ وَحَالِ الْمُذْنِبِ وَحَالِ النَّاسِ. وَتَوَقَّفْت عَنْ الْقَتْلِ فَكَبُرَ هَذَا عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالنَّاسِ حَتَّى خِفْت أَنَّهُ إنْ لَمْ يُقْتَلْ يَنْحَلُّ نِظَامُ الْإِسْلَامِ عَلَى انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَأَفْتَيْت بِقَتْلِهِ

فَقُتِلَ ثُمَّ ظَهَرَ فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا وَأَنَّهُ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَالْمَطْلُوبُ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: بَرَاءَتُهُ فِي الظَّاهِرِ فَهَلْ يَحْضُرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَذَكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ حَيْثُ ظَهَرَ كَذِبُهُ فِي دَعْوَاهُ بِمَا يُؤْذِي بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عُزِّرَ لِكَذِبِهِ وَلِأَذَاهُ وَأَنَّ طَرِيقَةَ الْقَاضِي رَدُّ هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُمْكِنَةً. وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ فِيمَا إذَا عَلِمَ بِالْعُرْفِ الْمُطَّرِدِ أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِلدَّعْوَى لَا يُعَذِّبُهُ وَفِيمَا لَمْ يُعْرَفْ وَاحِدٌ مِنْ الْأَمْرَيْنِ يُعَذِّبُهُ. كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَهَذَا التَّفْرِيقُ حَسَنٌ. وَالْحَالُ الثَّانِي: احْتِمَالُ الْأَمْرَيْنِ وَأَنَّهُ يَحْضُرُهُ بِلَا خِلَافٍ. وَالْحَالُ الثَّالِثُ: تُهْمَتُهُ وَهُوَ قِيَاسُ سَبَبٍ يُوهِمُ أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَهُ فَإِنَّ الِاتِّهَامَ افْتِعَالٌ مِنْ الْوَهْمِ وَحَبْسُهُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ حَبْسِهِ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَقَبْلَ التَّعْزِيرِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ حَبْسِهِ بَعْدَ شَهَادَةِ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ فَأَمَّا امْتِحَانُهُ بِالضَّرْبِ كَمَا يَجُوزُ ضَرْبُهُ لِامْتِنَاعِهِ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا فَفِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد لَمَّا قَالَ: «إنْ شِئْتُمْ ضَرَبْته، فَإِنْ ظَهَرَ الْحَقُّ عِنْدَهُ وَإِلَّا ضَرَبْتُكُمْ» . وَقَالَ: هَذَا قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهَذَا يُشْبِهُ تَحْلِيفَ الْمُدَّعِي إذَا كَانَ مَعَهُ لَوْنٌ فَإِنَّ اقْتِرَانَ اللَّوْنِ بِالدَّعْوَى جَعَلَ جَانِبَهُ مُرَجَّحًا فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكُونَ اقْتِرَانُهُ بِالتُّهْمَةِ يُبِيحُ مِثْلَ ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ إذَا اسْتَحَقَّ التَّعْزِيرَ وَكَانَ مُتَّهَمًا بِمَا يُوجِبُ حَقًّا وَاحِدًا مِثْلُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَيْهِ هَتْكُ الْحِرْزِ وَدُخُولُهُ وَلَمْ يُقِرَّ بِأَخْذِ الْمَالِ وَإِخْرَاجِهِ وَيُثْبِتُ عَلَيْهِ الْحِرَابَ خُرُوجُهُ بِالسِّلَاحِ وَشَهْرُهُ لَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ الْقَتْلُ وَالْأَخْذُ فَهَذَا يُعَزَّرُ لِمَا فَعَلَهُ مِنْ الْمَعَاصِي وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ أَيْضًا امْتِحَانًا لَا غَيْرُ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ؟ . هَذَا قَوِيٌّ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. فَأَمَّا فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى إقَامَتِهَا فَيُحْتَمَلُ وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنْ يُعَاقِبَ الْإِمَامُ مِنْ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ بِقَتْلٍ وَتَوَهَّمَ الْعَامَّةُ أَنَّهُ عَاقَبَهُ عَلَى بَعْضِ الذُّنُوبِ الَّتِي يُرِيدُ الْحَذَرَ عَنْهَا وَهَذَا شَبَهُ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ غَزْوًا وَرَّى بِغَيْرِهَا وَاَلَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا عَلِمَ كِتْمَانَهُ الْحَقَّ عَاقَبَهُ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ كَمَا يُعَاقِبُ كَاتِمَ الْمَالِ الْوَاجِبِ أَدَاؤُهَا فَأَمَّا إذَا

اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ كَاتِمًا فَهَذَا كَالْمُتَّهَمِ سَوَاءٌ، وَخَبَرُ مَنْ قَالَ لَهُ جِنِّيٌّ بِأَنَّ فُلَانًا سَرَقَ كَذَا كَخَبَرِ إنْسِيٍّ مَجْهُولٍ فَيُفِيدُ تُهْمَةً، وَإِذَا طَلَبَ الْمُتَّهَمُ بِحَقٍّ فَمَنْ عَرَفَ مَكَانَهُ دَلَّ عَلَيْهِ. وَالْقَوَّادَةُ الَّتِي تُفْسِدُ النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا الضَّرْبُ الْبَلِيغُ وَيَنْبَغِي شُهْرَةُ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَسْتَفِيضُ هَذَا فِي النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ وَإِذَا رَكِبَتْ دَابَّةً وَضَمَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا وَنُودِيَ عَلَيْهَا هَذَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْجَرَائِمِ إذْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ عَجُوزِ السُّوءِ امْرَأَةِ لُوطٍ وَقَدْ أَهْلَكَهَا اللَّهُ تَعَالَى مَعَ قَوْمِهَا. وَمَنْ قَالَ لِمَنْ لَامَهُ النَّاسُ تَقْرَءُونَ تَوَارِيخَ آدَمَ وَظَهَرَ مِنْهُ قَصْدُ مَعْرِفَتِهِمْ بِخَطِيئَتِهِ عُزِّرَ وَلَوْ كَانَ صَادِقًا وَكَذَا مَنْ يَمْسِكُ الْجَنَّةَ وَيَدْخُلُ النَّارَ وَنَحْوُهُ وَكَذَا مَنْ يُنَقِّصُ مُسْلِمًا بِأَنَّهُ مُسْلِمَانِيٌّ أَوْ أَبَاهُ مَعَ حُسْنِ إسْلَامِهِ وَمَنْ غَضِبَ فَقَالَ مَا نَحْنُ مُسْلِمُونَ إنْ أَرَادَ ذَمَّ نَفْسِهِ لِنَقْصِ دِينِهِ فَلَا حَرَجَ فِيهِ وَلَا عُقُوبَةَ وَمَنْ قَالَ لِذِمِّيٍّ يَا حَاجُّ عُزِّرَ لِأَنَّ فِيهِ تَشْبِيهَ قَاصِدِ الْكَنَائِسِ بِقَاصِدِ بَيْتِ اللَّهِ، وَفِيهِ تَعْظِيمُ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُشَبِّهَ أَعْيَادَ الْكُفَّارِ بِأَعْيَادِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَا يُعَزَّرُ مَنْ يُسَمِّي مَنْ زَارَ الْقُبُورَ وَالْمَشَاهِدَ حَاجًّا إلَّا أَنْ يُسَمَّى حَاجًّا بِقَيْدٍ كَحَاجِّ الْكُفَّارِ وَالضَّالِّينَ وَمَنْ سَمَّى زِيَارَةَ ذَلِكَ حَجًّا أَوْ جَعَلَ لَهُ مَنَاسِكَ فَإِنَّهُ ضَالٌّ مُضِلٌّ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ حَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ. وَإِنْ اشْتَرَى الْيَهُودِيُّ نَصْرَانِيًّا فَجَعَلَهُ يَهُودِيًّا عُزِّرَ عَلَى جَعْلِهِ يَهُودِيًّا وَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا وَلَا يَجُوزُ لِلْجَذْمَاءِ مُخَالَطَةُ النَّاسِ عُمُومًا وَلَا مُخَالَطَةُ النَّاسِ لَهُمْ بَلْ يَسْكُنُونَ فِي مَكَان مُفْرَدٍ لَهُمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَمَا جَاءَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ وَخُلَفَائِهِ وَكَمَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ. وَإِذَا امْتَنَعَ وَلِيُّ الْأَمْرِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ الْمَجْذُومُ أَثِمَ بِذَلِكَ وَإِذَا أَصَرَّ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ فَسَقَ وَمَنْ دَعَا عَلَيْهِ ظُلْمًا لَهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى ظَالِمِهِ بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ عَلَيْهِ نَحْوُ أَخْزَاك اللَّهُ أَوْ لَعَنَك أَوْ يَشْتُمَهُ بِغَيْرِ فِرْيَةٍ نَحْوُ يَا كَلْبُ يَا خِنْزِيرُ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْمَخْلُوقِ مِنْ وَكِيلٍ وَوَالٍ وَغَيْرِهِمَا فَاسْتِعَانَتُهُ بِخَالِقِهِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِقَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ يَسْقُطُ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ كَقَوْلِهِمْ هُوَ وَاجِبٌ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ. وَذَكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ سَاغَ تَعْزِيرُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ.

فصل ويقام الحد ولو كان من يقيمه شريكا لمن يقيمه عليه في المعصية

[فَصْلٌ وَيُقَامُ الْحَدُّ وَلَوْ كَانَ مَنْ يُقِيمُهُ شَرِيكًا لِمَنْ يُقِيمُهُ عَلَيْهِ فِي الْمَعْصِيَةِ] ِ أَوْ عَوْنًا لَهُ وَلِهَذَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ لَا يَسْقُطُ بِذَلِكَ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ مَعْصِيَتَيْنِ وَالرَّقِيقُ إنْ زَنَى عَلَانِيَةً وَجَبَ عَلَى السَّيِّدِ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَإِنْ عَصَى سِرًّا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ إقَامَتُهُ بَلْ يُخَيَّرُ بَيْنَ سَتْرِهِ أَوْ اسْتِتَابَتِهِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ كَمَا يُخَيَّرُ الشُّهُودُ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بَيْنَ إقَامَتِهَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَبَيْنَ السَّتْرِ عَلَيْهِ وَاسْتِتَابَتِهِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ فَإِنَّهُ يُرَجَّحُ أَنْ يَتُوبَ إنْ سَتَرُوهُ وَإِنْ كَانَ فِي تَرْكِ إقَامَةِ الْحَدِّ ضَرَرٌ عَلَى النَّاسِ كَانَ الرَّاجِحُ فِعْلَهُ وَيَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ بَيْعُ الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ وَيَجْتَمِعُ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا شُيُوخُ الْمَذْهَبِ. [بَابُ حُكْمِ الْمُرْتَدِّ] ِّ وَالْمُرْتَدُّ مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ كَانَ مُبْغِضًا لِلرَّسُولِ وَلِمَا جَاءَ بِهِ أَوْ تَرَكَ إنْكَارَ مُنْكَرٍ بِقَلْبِهِ أَوْ تَوَهَّمَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ التَّابِعِينَ أَوْ تَابِعِيهِمْ قَاتَلَ مَعَ الْكُفَّارِ أَوْ أَجَازَ ذَلِكَ أَوْ أَنْكَرَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ إجْمَاعًا قَطْعِيًّا أَوْ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ وَسَائِطَ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِمْ وَيَدْعُوهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ وَمَنْ شَكَّ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِثْلُهُ لَا يَجْهَلُهَا فَمُرْتَدٌّ وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ يَجْهَلُهَا فَلَيْسَ بِمُرْتَدٍّ، وَلِهَذَا لَمْ يُكَفِّرْ النَّبِيُّ الرَّجُلَ الشَّاكَّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ، وَإِعَادَتِهِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الرِّسَالَةِ وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " مَهْمَا يَكْتُمْ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ "، قَالَ: نَعَمْ. وَإِذَا أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ عَصَمَ دَمَهُ وَمَالَهُ وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّةِ إسْلَامِهِ حَاكِمٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ بَلْ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَنْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ فَأَنْكَرَ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَفِيَ بِمَا شَهِدَ عَلَيْهِ بِهِ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَتُوبُ عَنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ الَّذِينَ هُمْ أَعْظَمُ مِنْ أَئِمَّةِ الْبِدَعِ وَمَنْ شُفِعَ عِنْدَهُ فِي رَجُلٍ فَقَالَ لَوْ جَاءَ النَّبِيُّ يَشْفَعُ فِيهِ مَا قَبِلْت مِنْهُ إنْ تَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ قُتِلَ لَا قَبْلَهَا فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فِيهِمَا، وَلَا يَضْمَنُ الْمُرْتَدُّ مَا أَتْلَفَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي جَمَاعَةٍ مُرْتَدَّةٍ مُمْتَنِعَةٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ.

وَالتَّنْجِيمُ كَالِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ الْفَلَكِ عَلَى الْحَوَادِثِ الْأَرْضِيَّةِ هُوَ مِنْ السِّحْرِ وَيَحْرُمُ إجْمَاعًا، وَأَقْوَالُ الْمُنَجِّمِينَ إنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ عَنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَالدُّعَاءِ بِبَرَكَةِ ذَلِكَ مَا زَعَمُوا أَنَّ الْأَفْلَاكَ تُوجِبُهُ وَأَنَّ لَهُمْ مِنْ ثَوَابِ الدَّارَيْنِ مَا لَا تَقْوَى الْأَفْلَاكُ أَنْ تَجْلِبَهُ. وَأَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ إجْمَاعًا وَأَمَّا أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ فَأَصَحُّ الْأَجْوِبَةِ فِيهِمْ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» فَلَا نَحْكُمُ عَلَى مُعَيَّنٍ مِنْهُمْ لَا بِجَنَّةٍ وَلَا نَارٍ. وَيُرْوَى أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ أَطَاعَ مِنْهُمْ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَى دَخَلَ النَّارَ. وَقَدْ دَلَّتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَبَعْضَهُمْ فِي النَّارِ، وَالصَّحِيحُ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ.

كتاب الجهاد

[كِتَابُ الْجِهَادِ] ِ وَمَنْ عَجَزَ عَنْ الْجِهَادِ بِبَدَنِهِ وَقَدَرَ عَلَى الْجِهَادِ بِمَالِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ بِمَالِهِ وَهُوَ نَصُّ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَكَمِ وَهُوَ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْقَاضِي فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ عِنْدَ قَوْلِهِ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41] فَيَجِبُ عَلَى الْمُوسِرِينَ النَّفَقَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ الْجِهَادُ فِي أَمْوَالِهِنَّ إنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ وَكَذَلِكَ فِي أَمْوَالِ الصِّغَارِ وَإِذَا اُحْتِيجَ إلَيْهَا كَمَا تَجِبُ النَّفَقَاتُ وَالزَّكَاةُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي وَاجِبِ الْكِفَايَةِ فَأَمَّا إذَا هَجَمَ الْعَدُوُّ فَلَا يَبْقَى لِلْخِلَافِ وَجْهٌ فَإِنَّ دَفْعَ ضَرَرِهِمْ عَنْ الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَالْحُرْمَةِ وَاجِبٌ إجْمَاعًا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: سُئِلْت عَمَّنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ مَا يُوفِيه وَقَدْ تَعَيَّنَ الْجِهَادُ فَقُلْت مِنْ الْوَاجِبَاتِ مَا يُقَدَّمُ عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ كَنَفَقَةِ النَّفْسِ وَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ الْفَقِيرِ وَمِنْهَا مَا يُقَدَّمُ وَفَاءُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ كَالْعِبَادَاتِ مِنْ الْحَجِّ وَالْكَفَّارَاتِ، وَمِنْهَا مَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ إلَّا إذَا طُولِبَ بِهِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، فَإِنْ كَانَ الْجِهَادُ الْمُتَعَيِّنُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ كَمَا إذَا حَضَرَهُ الْعَدُوُّ أَوْ حَضَرَ الصَّفَّ قُدِّمَ عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ كَالنَّفَقَةِ وَأَوْلَى وَإِنْ كَانَ اسْتِنْفَارٌ فَقَضَاءُ الدَّيْنِ أَوْلَى إذْ الْإِمَامُ لَا يَنْبَغِي لَهُ اسْتِنْفَارُ الْمَدِينِ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ وَلِذَلِكَ قُلْت لَوْ ضَاقَ الْمَالُ عَنْ إطْعَامِ جِيَاعٍ وَالْجِهَادِ الَّذِي يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِهِ قَدَّمْنَا الْجِهَادَ وَإِنْ مَاتَ الْجِيَاعُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ التَّتَرُّسِ وَأَوْلَى فَإِنَّ هُنَاكَ نَقْتُلُهُمْ بِفِعْلِنَا وَهُنَا يَمُوتُونَ بِفِعْلِ اللَّهِ. وَقُلْت أَيْضًا: إذَا كَانَ الْغُرَمَاءُ يُجَاهِدُونَ بِالْمَالِ الَّذِي يَسْتَوْفُونَهُ فَالْوَاجِبُ وَفَاؤُهُمْ

لِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَتَيْنِ : الْوَفَاءِ وَالْجِهَادِ. وَنُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ تُوَافِقُ مَا كَتَبْتُهُ وَقَدْ ذَكَرَهَا الْخَلَّالُ قَالَ الْقَاضِي إذَا تَعَيَّنَ فَرْضُ الْجِهَادِ عَلَى أَهْلِ بَلَدٍ وَكَانَ عَلَى مَسَافَةٍ يُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ فَمِنْ شَرْطِ وُجُوبِهِ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ كَالْحَجِّ وَمَا قَالَهُ الْقَاضِي مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْحَجِّ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ ضَعِيفٌ فَإِنَّ وُجُوبَ الْجِهَادِ قَدْ يَكُونُ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْعَدُوِّ فَيَكُونُ أَوْجَبَ مِنْ الْهِجْرَةِ ثُمَّ الْهِجْرَةُ لَا تُعْتَبَرُ فِيهَا الرَّاحِلَةُ فَبَعْضُ الْجِهَادِ أَوْلَى. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ وَمَنْشَطِهِ وَمَكْرَهِهِ» وَأَثَرِهِ عَلَيْهِ فَأَوْجَبَ الطَّاعَةَ الَّتِي عِمَادُهَا الِاسْتِنْفَارُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَهُنَا نَصٌّ فِي وُجُوبِهِ مَعَ الْإِعْسَارِ بِخِلَافِ الْحَجِّ. هَذَا كُلُّهُ فِي قِتَالِ الطَّلَبِ. وَأَمَّا قِتَالُ الدَّفْعِ فَهُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَنْ الْحُرْمَةِ وَالدِّينِ فَوَاجِبٌ إجْمَاعًا فَالْعَدُوُّ الصَّائِلُ الَّذِي يُفْسِدُ الدِّينَ وَالدُّنْيَا لَا شَيْءَ أَوْجَبَ بَعْدَ الْإِيمَانِ مِنْ دَفْعِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ شَرْطٌ بَلْ يُدْفَعُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ فَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ دَفْعِ الصَّائِلِ الظَّالِمِ الْكَافِرِ وَبَيْنَ طَلَبِهِ فِي بِلَادِهِ، وَالْجِهَادُ مِنْهُ مَا هُوَ بِالْيَدِ وَمِنْهُ مَا هُوَ بِالْقَلْبِ وَالدَّعْوَةِ وَالْحُجَّةِ وَاللِّسَانِ وَالرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ وَالصِّنَاعَةِ فَيَجِبُ بِغَايَةِ مَا يُمْكِنُهُ وَيَجِبُ عَلَى الْقَعَدَةِ لِعُذْرٍ أَنْ يَخْلُفُوا الْغُزَاةَ فِي أَهْلِيهِمْ وَمَالِهِمْ قَالَ الْمَرْوَزِيِّ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْغَزْوِ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ فِي مِثْلِ الْكَانُونَيْنِ فَيَتَخَوَّفُ الرَّجُلُ إنْ خَرَجَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنْ يُفَرِّطَ فِي الصَّلَاةِ فَتَرَى لَهُ أَنْ يَغْزُوَ أَوْ يَقْعُدَ قَالَ لَا يَقْعُدُ الْغَزْوُ خَيْرٌ لَهُ وَأَفْضَلُ. فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِالْخُرُوجِ مَعَ خَشْيَةِ تَضْيِيعِ الْفَرْضِ لِأَنَّ هَذَا مَشْكُوكٌ فِيهِ أَوْ لِأَنَّهُ إذَا أَخَّرَ الصَّلَاةَ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ عَنْ وَقْتِهَا كَانَ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ فَضْلِ الْغَزْوِ مُرْبِيًا عَلَى مَا فَاتَهُ وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ ثَوَابُ بَعْضِ الْمُسْتَحَبَّاتِ أَوْ وَاجِبَاتِ الْكِفَايَةِ أَعْظَمُ مِنْ ثَوَابِ وَاجِبٍ كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَزَكَّى بِدِرْهَمٍ قَالَ ابْنُ بَخْتَانَ سَأَلَتْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَغْزُو قَبْلَ الْحَجِّ قَالَ نَعَمْ إلَّا أَنَّهُ بَعْدَ الْحَجِّ أَجْوَدُ. وَسُئِلَ أَيْضًا عَنْ رَجُلٍ قَدِمَ يُرِيدُ الْغَزْوَ وَلَمْ يَحُجَّ فَنَزَلَ عَلَى قَوْمٍ مُثَبِّطُوهُ عَنْ

الْغَزْوِ وَقَالُوا إنَّك لَمْ تَحُجَّ تُرِيدُ أَنْ تَغْزُوَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَغْزُو وَلَا عَلَيْهِ فَإِنْ أَعَانَهُ اللَّهُ حَجَّ وَلَا نَرَى بِالْغَزْوِ قَبْلَ الْحَجِّ بَأْسًا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: هَذَا مَعَ أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَهُ لَكِنَّ تَأْخِيرَهُ لِمَصْلَحَةِ الْجِهَادِ كَتَأْخِيرِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْفَوْرِ لِانْتِظَارِ قَوْمٍ أَصْلَحَ مِنْ غَيْرِهِمْ أَوْ لِضَرَرِ أَهْلِ الزَّكَاةِ وَتَأْخِيرِ الْفَوَائِتِ لِلِانْتِقَالِ عَنْ مَكَانِ الشَّيْطَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا أَجْوَدُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي تَأْخِيرِ النَّبِيِّ إنْ كَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ مُتَقَدِّمًا. وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَقْتَضِي الْغَزْوَ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مَالٌ لِلْحَجِّ لِأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ أَعَانَهُ اللَّهُ حَجَّ مَعَ أَنَّ عِنْدَهُ تَقْدِيمَ الْحَجِّ أَوْلَى كَمَا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْجِهَادُ بِالشُّرُوعِ وَعِنْدَ اسْتِنْفَارِ الْإِمَامِ لَكِنْ لَوْ أَذِنَ الْإِمَامُ لِبَعْضِهِمْ لِنَوْعِ مَصْلَحَةٍ فَلَا بَأْسَ، وَإِذَا دَخَلَ الْعَدُوُّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجِبُ دَفْعُهُ عَلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ إذْ بِلَادُ الْإِسْلَامِ كُلُّهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَلْدَةِ الْوَاحِدَةِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ النَّفِيرُ إلَيْهِ بِلَا إذْنِ وَالِدٍ وَلَا غَرِيمٍ، وَنُصُوصُ أَحْمَدَ صَرِيحَةٌ بِهَذَا وَهُوَ خَيْرٌ مِمَّا فِي الْمُخْتَصَرَاتِ. لَكِنْ هَلْ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَكَانِ النَّفِيرُ إذَا نَفَرَ إلَيْهِ الْكِفَايَةُ كَلَامُ أَحْمَدَ فِيهِ مُخْتَلِفٌ وَقِتَالُ الدَّفْعِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ كَثِيرًا لَا طَاقَةَ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ لَكِنْ يُخَافُ إنْ انْصَرَفُوا عَنْ عَدُوِّهِمْ عَطَفَ الْعَدُوُّ عَلَى مَنْ يُخَلَّفُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَهُنَا قَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَبْذُلُوا مُهَجَهُمْ وَمُهَجَ مَنْ يُخَافُ عَلَيْهِمْ فِي الدَّفْعِ حَتَّى يَسْلَمُوا وَنَظِيرُهَا أَنْ يَهْجُمَ الْعَدُوُّ عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَتَكُونَ الْمُقَاتِلَةُ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ فَإِنْ انْصَرَفُوا اسْتَوْلَوْا عَلَى الْحَرِيمِ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ قِتَالُ دَفْعٍ لَا قِتَالُ طَلَبٍ لَا يَجُوزُ الِانْصِرَافُ فِيهِ بِحَالٍ وَوَقْعَةُ أُحُدٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي أُمُورِ الْجِهَادِ وَتَرَامِي أَهْلِ الدِّينِ الصَّحِيحِ الَّذِينَ لَهُمْ خِبْرَةٌ بِمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الدُّنْيَا دُونَ الدِّينِ الَّذِينَ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ النَّظَرُ فِي ظَاهِرِ الدِّينِ فَلَا يُؤْخَذُ بِرَأْيِهِمْ وَلَا يُرَاءَا أَهْلُ الدِّينِ الَّذِينَ لَا خِبْرَةَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالرِّبَاطُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَقَامِ بِمَكَّةَ إجْمَاعًا. وَلَا يُسْتَعَانُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي عِمَالَةٍ وَلَا كِتَابَةٍ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ مَفَاسِدُ أَوْ يُفْضِي إلَيْهَا وَسُئِلَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي مِثْلِ الْخَرَاجِ فَقَالَ لَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ فِي شَيْءٍ وَمَنْ تَوَلَّى مِنْهُمْ دُيُونًا لِلْمُسْلِمِينَ أَيُنْقَضُ عَهْدُهُ وَمَنْ ظَهَرَ مِنْهُ أَذًى لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ سَعَى فِي فَسَادِهِ لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهُ وَغَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ بِكُلِّ حَالٍ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

باب قسمة الغنائم وأحكامها

عَهِدَ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ أَحَدًا وَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ لِمَا يَخَافُ مِنْ فَسَادِ دِيَانَتِهِمْ وَلِلْإِمَامِ عَمَلُ الْمَصْلَحَةِ فِي الْمَالِ وَالْأَسْرَى لِعَمَلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَهْلِ مَكَّةَ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فِي رَدِّهِ عَلَى الرَّافِضِيِّ يَقَعُ مِنْهَا التَّأْوِيلُ فِي الدَّمِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ ثُمَّ ذَكَرَ قَتْلَ أُسَامَةَ لِلرَّجُلِ الَّذِي أَسْلَمَ بَعْدَ أَنْ عَلَاهُ بِالسَّيْفِ وَخَبَرَ الْمِقْدَادِ فَقَالَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ يَحْرُمُ قَتْلُهُمْ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُضْمَنُ الْمَقْتُولُ بِقَوَدٍ وَلَا كَفَّارَةٍ وَلَا دِيَةٍ لِأَنَّ الْقَاتِلَ كَانَ مُتَأَوِّلًا، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ مَثَّلَ الْكُفَّارُ بِالْمُسْلِمِينَ فَالْمُثْلَةُ حَقٌّ لَهُمْ فَلَهُمْ فِعْلُهَا لِلِاسْتِيفَاءِ وَأَخْذِ الثَّأْرِ وَلَهُمْ تَرْكُهَا، وَالصَّبْرُ أَفْضَلُ وَهَذَا حَيْثُ لَا يَكُونُ فِي التَّمْثِيلِ السَّائِغِ لَهُمْ دُعَاءٌ إلَى الْإِيمَانِ وَحِرْزٌ لَهُمْ عَنْ الْعُدْوَانِ فَإِنَّهُ هُنَا مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْجِهَادِ وَلَمْ تَكُنْ الْقَضِيَّةُ فِي أُحُدٍ كَذَلِكَ، فَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ أَفْضَلَ فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْمُثْلَةُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فَالصَّبْرُ هُنَاكَ وَاجِبٌ كَمَا يَجِبُ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِصَارُ وَيَحْرُمُ الْجَزَعُ انْتَهَى. [بَابُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَأَحْكَامِهَا] لَمْ يَنُصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَهْرِ وَلَا عَلَى عَدَمِهِ وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى أَحْكَامٍ أَخَذَ مِنْهَا ذَلِكَ فَالصَّوَابُ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا مِلْكًا مُقَيَّدًا لَا يُسَاوِي مِلْكَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِذَا أَسْلَمُوا وَفِي أَيْدِيهِمْ أَمْوَالُ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ لَهُمْ، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ لَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ اخْتِلَافٌ فِي ذَلِكَ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى أَنَّ كُلَّ مَا قَبَضَهُ الْكُفَّارُ مِنْ الْأَمْوَالِ قَبْضًا يَعْتَقِدُونَ جَوَازَهُ فَإِنَّهُ يَسْتَقِرُّ لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ كَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَنْكِحَةِ وَالْمَوَارِيثِ وَغَيْرِهَا، وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْإِجْمَاعِ وَمَا بَاعَهُ الْإِمَامُ مِنْ الْغَنِيمَةِ أَوْ قَسَمَهُ وَقُلْنَا لَمْ يَمْلِكُوهُ ثُمَّ عُرِفَ رَبُّهُ فَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْمَالِكَ لَا يَمْلِكُ انْتِزَاعَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي مَجَّانًا؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْإِمَامِ بِحَقٍّ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَيُشْبِهُ هَذَا مَا يَبِيعُهُ الْوَكِيلُ وَالْوَصِيُّ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ مُودَعًا أَوْ مَغْصُوبًا أَوْ مَرْهُونًا، وَكَذَا الْقَبْضُ، وَالْقَبْضُ مِنْهُ وَاجِبٌ وَمِنْهُ مُبَاحٌ، وَكَذَلِكَ صَرْفُهُ، مِنْهُ وَاجِبٌ، وَمِنْهُ مُبَاحٌ قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ وَكُلُّ مَا قُلْنَا قَدْ مَلَكُوهُ مَا عَدَا أُمَّ الْوَلَدِ فَإِذَا اغْتَنَمْنَاهُ وَعَرَفَهُ رَبُّهُ قَبْلَ قِسْمَتِهِ رُدَّ إلَيْهِ إنْ شَاءَ وَإِلَّا بَقِيَ غَنِيمَةً.

قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: يَظْهَرُ الْفَرْقُ إذَا قُلْنَا قَدْ مَلَكُوهُ يَكُونُ الرَّدُّ ابْتِدَاءَ مِلْكٍ وَإِلَّا كَانَ كَالْمَغْصُوبِ، وَإِذَا كَانَ ابْتِدَاءَ مِلْكٍ فَلَا يَمْلِكُهُ رَبُّهُ إلَّا بِالْأَخْذِ فَيَكُونُ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ، وَلِهَذَا قَالَ وَإِلَّا بَقِيَ غَنِيمَةً وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْغَانِمِينَ فِي الْغَنِيمَةِ وَهَلْ يَمْلِكُونَهَا بِالظُّهُورِ أَوْ بِالْقِيمَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَعَلَيْهِمَا مَنْ تَرَكَ حَقَّهُ صَارَ غَنِيمَةً وَمِثْلُهُ لَوْ تَرَكَ الْعَامِلُ حَقَّهُ فِي الْمُضَارَبَةِ أَوْ تَرَكَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ حَقَّهُ أَوْ أَحَدُ أَهْلِ الْوَقْفِ الْمُعَيَّنِ حَقَّهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَعَلَى ذَلِكَ إجَازَةُ الْوَرَثَةِ وَمِثْلُهُ عَفْوُ الْمَرْأَةِ أَوْ الزَّوْجِ عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ، قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ رَبُّهُ بِعَيْنِهِ قَسَمَ ثَمَنَهُ وَجَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: أَمَّا إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِلْكُ الْمُسْلِمِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يَرُدُّهُ، وَأَمَّا إذَا عُلِمَ فَهَلْ يَكُونُ كَاللُّقَطَةِ أَوْ كَالْخُمُسِ وَالْفَيْءِ وَاحِدًا أَوْ يَصِيرُ مَصْرِفًا فِي الْمَصَالِحِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِهِ وَلَيْسَ لِلْغَانِمِينَ إعْطَاءُ أَهْلِ الْخُمُسِ قَدْرَهُ مِنْ غَيْرِ الْغَنِيمَةِ، وَتَحْرِيقُ رِجْلِ الْغَالِّ مِنْ بَابِ التَّعْزِيرِ لَا الْحَدِّ الْوَاجِبِ فَيَجْتَهِدُ الْإِمَامُ فِيهِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَمِنْ الْعُقُوبَةِ الْمَالِيَّةِ حِرْمَانُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - السَّلْبَ لِلْمَدَدِيِّ لَمَّا كَانَ فِي أَخْذِهِ عُدْوَانًا عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ. وَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ أَوْ فَضَّلَ بَعْضَ الْغَانِمِينَ عَلَى بَعْضٍ وَقُلْنَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى رِوَايَةٍ هَلْ تُبَاحُ لِمَنْ لَا يَعْتَقِدُ جَوَازَ أَخْذِهِ وَيُقَالُ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا إذَا حَكَمَ بِإِبَاحَةِ شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ الْمَحْكُومُ لَهُ حَرَامًا. وَقَدْ يُقَالُ يَجُوزُ هُنَا قَوْلًا وَاحِدًا لَا بِالتَّفَرُّقِ وَإِنَّا فِي تَصَرُّفَاتِ السُّلْطَانِ بَيْنَ الْجَوَازِ وَبَيْنَ النُّفُوذِ لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا تَبْطُلُ وِلَايَتُهُ وَقَسْمُهُ وَحُكْمُهُ لَمَا أَمْكَنَ إزَالَةُ هَذَا الْفَسَادِ إلَّا بِأَشَدَّ فَسَادًا مِنْهُ فَيَنْفُذُ دَفْعًا لِاحْتِمَالِهِ وَلِمَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ فِي الْوَفَاءِ. وَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ يُبَاحُ الْأَخْذُ مُطْلَقًا لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَظْلِمَ غَيْرَهُ إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمَأْخُوذَ أَكْثَرُ مِنْ حَقِّهِ فَفِيهِ نَظَرٌ، وَالتَّحْرِيمُ فِي الزِّيَادَةِ أَقْرَبُ وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ وَاحِدٌ مِنْ الْأَمْرَيْنِ فَالْحِلُّ أَقْرَبُ. وَلَوْ تَرَكَ قِسْمَةَ الْغَنِيمَةِ وَتَرَكَ هَذَا الْقَوْلَ وَسَكَتَ سُكُوتَ الْإِذْنِ فِي الِانْتِهَابِ وَأَقَرَّ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ إذْنٌ، فَإِنَّ الْإِذْنَ مِنْهُ تَارَةً يَكُونُ بِالْقَوْلِ، وَتَارَةً بِالْفِعْلِ، وَتَارَةً بِالْإِقْرَارِ عَلَى ذَلِكَ. فَالثَّلَاثُ فِي هَذَا الْبَابِ سَوَاءٌ كَمَا فِي إبَاحَةِ الْمَالِكِ فِي أَكْلِ طَعَامِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بَلْ لَوْ عَرَفَ أَنَّهُ رَاضٍ بِذَلِكَ فِيمَا يَرَوْنَ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ قَوْلٌ ظَاهِرٌ أَوْ فِعْلٌ ظَاهِرٌ أَوْ إقْرَارٌ، فَالرِّضَا مِنْهُ بِتَغْيِيرِ إذْنِهِ بِمَنْزِلَةِ إذْنِهِ الدَّالِّ

باب الهدنة

عَلَى ذَلِكَ إذْ الْأَصْلُ رِضَاهُ حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْحَدَّ وَعَقَدَ الْأَنْكِحَةَ مَنْ رَضِيَ الْإِمَامُ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ إذْنِهِ عَلَى أَكْثَرِ أُصُولِنَا فَإِنَّ الْإِذْنَ الْعُرْفِيَّ عِنْدَنَا كَاللَّفْظِيِّ، وَالرِّضَا الْخَاصُّ كَالْإِذْنِ الْعَامِّ. فَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْكُلَ طَعَامَ مَنْ يَعْلَمُ رِضَاهُ بِذَلِكَ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمَوَدَّةِ، وَهَذَا أَصْلٌ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْوِلَايَاتِ لَكِنْ لَوْ تَرَكَ الْقِسْمَةَ وَلَمْ يَرْضَ بِالِانْتِهَابِ إمَّا لِعَجْزِهِ أَوْ لَأَخْذِهِ الْمَالَ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ أَجَازَ الْقِسْمَةَ فَهُنَا مَنْ قَدَرَ عَلَى أَخْذِ مَبْلَغِ حَقِّهِ مِنْ هَذَا الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فَلَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ مَالِكِيهِ مُتَعَيِّنُونَ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْوَرَثَةِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ انْتِفَاءُ الْمَفْسَدَةِ مِنْ فِتْنَةٍ أَوْ نَحْوِهَا. وَتُرْضَخُ الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ، وَهُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ وَالْأُصُولِ كَمَنْ يَرْضَخُ لِمَنْ لَا سَهْمَ لَهُ مِنْ النِّسَاءِ أَوْ الْعَبِيدِ وَالصِّبْيَانِ وَتَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي الْجِهَادِ إذَا كَانَ النَّائِبُ مِمَّنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ وَالطِّفْلُ إذَا سُبِيَ يَتْبَعُ سَابِيَهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ أَبَوَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَلِأَحْمَدَ نَصٌّ يُوَافِقُهُ وَيَتْبَعُهُ أَيْضًا إذَا اشْتَرَاهُ وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الطِّفْلِ إذَا مَاتَ أَبَوَاهُ أَوْ كَانَ نَسَبُهُ مُنْقَطِعًا مِثْلُ كَوْنِهِ وَلَدَ زِنًا أَوْ مَنْفِيًّا بِلِعَانٍ وَقَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ [بَابُ الْهُدْنَةِ] ِ وَيَجُوزُ عَقْدُهَا مُطْلَقًا وَمُؤَقَّتًا وَالْمُؤَقَّتُ لَازِمٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مَا لَمْ يَنْقُضْهُ الْعَدُوُّ وَلَا يُنْقَضُ بِمُجَرَّدِ خَوْفِ الْخِيَانَةِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَهُوَ عَقْدٌ جَائِزٌ يَعْمَلُ الْإِمَامُ فِيهِ بِالْمَصْلَحَةِ. وَسُئِلَ أَبُو الْعَبَّاسِ: عَنْ سَبْيِ مَلَطِيَّةَ مُسْلِمِيهَا وَنَصَارَاهَا فَحَرَّمَ مَالَ الْمُسْلِمِينَ وَأَبَاحَ سَبْيَ النَّصَارَى وَذُرِّيَّتَهُمْ وَمَالَهُمْ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ إذْ لَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ لِأَنَّهُمْ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ السَّابِقَ مِنْ الْأَئِمَّةِ بِالْمُحَارَبَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَمَا فِيهِ الْغَضَاضَةُ عَلَيْنَا وَالْإِعَانَةُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَعْقِدُ لَهُمْ إلَّا مَنْ عَنَّ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. وَهَؤُلَاءِ التَّتَرُ لَا يُقَاتِلُونَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَلْ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ لَا يُقَاتِلُونَ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا وَجَبَ قِتَالُ التَّتَرِ حَتَّى يَلْتَزِمُوا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ مِنْهَا الْجِهَادُ وَالْتِزَامُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ، وَنُوَّابُ التَّتَرِ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ الْمُلُوكَ لَا يُجَاهِدُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَهُمْ تَحْتَ حُكْمِ التَّتَرِ وَنَصَارَى مَلَطِيَّةَ وَأَهْلُ الْمَشْرِقِ وَيَهُودُهُمْ لَوْ كَانَ لَهُمْ ذِمَّةٌ وَعَهْدٌ

باب عقد الذمة وأخذ الجزية

مِنْ مَلِكٍ مُسْلِمٍ يُجَاهِدُهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ كَأَهْلِ الْمَغْرِبِ وَالْيَمَنِ لَمَّا لَمْ يُعَامِلُوا أَهْلَ مِصْرَ وَالشَّامِ مُعَامَلَةَ أَهْلِ الْعَهْدِ جَازَ لِأَهْلِ مِصْرَ وَالشَّامِ غَزْوُهُمْ وَاسْتِبَاحَةُ دَمِهِمْ وَمَالِهِمْ لِأَنَّ أَبَا جَنْدَلٍ وَأَبَا نُصَيْرٍ حَارَبَا أَهْلَ مَكَّةَ مَعَ أَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَهْدًا، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ لِأَنَّ الْعَهْدَ وَالذِّمَّةَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَالسَّبْيُ الْمُشْتَبَهُ يَحْرُمُ اسْتِرْقَاقَهُ وَمَنْ كَسَبَ شَيْئًا فَادَّعَاهُ رَجُلٌ وَأَخَذَهُ فَعَلَى الْأَخِذِ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ مَا غَرِمَهُ عَلَيْهِ مِنْ نَفَقَةٍ وَغَيْرِهَا إنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ مِلْكُهُ أَوْ مِلْكُ الْغَيْرِ أَوْ عَرَفَ وَأَنْفَقَ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ] ِ وَالْكِتَابَةُ الَّذِي بِأَيْدِي الْخَيَابِرَةِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُ بِخَطِّ عَلِيٍّ فِي إسْقَاطِ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ بَاطِلٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ كَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ شُرَيْحٍ وَالْقَاضِي ابْن يَعْلَى وَالْقَاضِي الْمَاوَرْدِيِّ وَذَكَرَ أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَصَدَقَ فِي ذَلِكَ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: ثُمَّ إنَّهُ عَامُ إحْدَى وَسَبْعِمِائَةٍ جَاءَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ يَهُودِ دِمَشْقَ بِعُهُودٍ فِي كُلِّهَا أَنَّهُ بِخَطِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي إسْقَاطِهِ الْجِزْيَةَ عَنْهُمْ وَقَدْ لَبَّسُوهَا مَا يَقْتَضِي تَعْظِيمَهَا وَكَانَتْ قَدْ نَفَقَتْ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ فَأُسْقِطَتْ عَنْهُمْ الْجِزْيَةُ بِسَبَبِهَا وَبِيَدِهِمْ تَوَاضُعُ وُلَاةِ الْأُمُورِ فَلَمَّا وَقَفْت عَلَيْهَا تَبَيَّنَ لِي فِي نَقْشِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهَا مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ جِدًّا. إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ زِنْدِيقٌ يُبْطِنُ جُحُودَ الصَّانِعِ أَوْ جُحُودَ الرُّسُلِ أَوْ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ أَوْ الشَّرَائِعِ أَوْ الْمَعَادِ وَيُظْهِرُ التَّدَيُّنَ بِمُوَافَقَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَهَذَا يَجِبُ قَتْلُهُ بِلَا رَيْبٍ كَمَا يَجِبُ قَتْلُ مَنْ ارْتَدَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَى التَّعْطِيلِ فَإِنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ فَهَلْ يُقَالُ إنَّهُ يُقْتَلُ أَيْضًا كَمَا يُقْتَلُ مُنَافِقُ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ مَا زَالَ يُظْهِرُ الْإِقْرَارَ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ أَوْ يُقَالُ بَلْ دِينُ الْإِسْلَامِ فِيهِ مِنْ الْهُدَى وَالنُّورِ مَا يُزِيلُ شُبْهَتَهُ بِخِلَافِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ وَيُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ إظْهَارِ الْأَكْلِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْمُنْكَرِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ وَيُمْنَعُونَ مِنْ تَعْلِيَةِ الْبُنَيَّانِ عَلَى جِيرَانِهِمْ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَوْ فِي مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَاجِبٌ. وَالْكَنَائِسُ الْعَتِيقَةُ إذَا كَانَتْ بِأَرْضِ الْعَنْوَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ إبْقَاءَهَا وَيَجُوزُ هَدْمُهَا مَعَ عَدَمِ الضَّرَرِ عَلَيْنَا، وَإِذَا صَارَتْ الْكَنِيسَةُ فِي مَكَان قَدْ صَارَ فِيهِ مَسْجِدٌ لِلْمُسْلِمِينَ يُصَلَّى فِيهِ وَهُوَ أَرْضُ عَنْوَةٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ هَدْمُ الْكَنِيسَةِ الَّتِي بِهِ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ قِبْلَتَانِ بِأَرْضٍ» وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: «لَا يَجْتَمِعُ بَيْتُ رَحْمَةٍ وَبَيْتُ عَذَابٍ» . وَلِهَذَا أَقَرَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ فِي أَوَّلِ الْفَتْحِ عَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ كَنَائِسِ الْعَنْوَةِ بِأَرْضِ مِصْرَ وَالشَّامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَبُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْكَنَائِسَ فَأَقْطَعُوهَا وَبَنَوْهَا مَسَاجِدَ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي كَنَائِسِ الصُّلْحِ إذَا اسْتُهْدِمَتْ هَلْ لَهُمْ إعَادَتُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَلَوْ انْقَرَضَ أَهْلُ مِصْرَ وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ الْمُبْتَدَإِ فَإِنْ انْتَقَضَ فَكَالْمَفْتُوحِ عَنْوَةً وَيُمْنَعُونَ مِنْ أَلْقَابِ الْمُسْلِمِينَ كَعِزِّ الدِّينِ وَنَحْوِهِ وَمِنْ حَمْلِ السِّلَاحِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَتَعَلُّمِ الْمُقَاتِلَةِ الدِّفَاف وَالرَّمْيَ وَغَيْرَهُ وَرُكُوبَ الْخَيْل وَيَسْتَطِبُّ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا بُقْعَةً عِنْدَهُ كَمَا يُودِعُهُ وَيُعَامِلُهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ وَيُكْرَهُ الدُّعَاءُ بِالْبَقَاءِ لِكُلِّ أَحَدٍ لِأَنَّهُ شَيْءٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي أَصْرَمَ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ جَمَعَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ فِي مُسْتَقَرِّ رَحْمَتِهِ فَقَالَ لَا تَقُلْ هَذَا. وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ: يَمِيلُ إلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الدُّعَاءُ بِذَلِكَ وَيَقُولُ: إنَّ الرَّحْمَةَ هَهُنَا الْمُرَادُ بِهَا الرَّحْمَةُ الْمَخْلُوقَةُ وَمُسْتَقَرُّهَا الْجَنَّةُ وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ. وَاخْتَلَفَ كَلَامُ أَبِي الْعَبَّاسِ فِي رَدِّ تَحِيَّةِ الذِّمِّيِّ هَلْ تُرَدُّ مِثْلُهَا أَوْ وَعَلَيْكُمْ فَقَطْ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَهْلًا وَسَهْلًا وَيَجُوزُ عِيَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَتَهْنِئَتُهُمْ وَتَعْزِيَتُهُمْ وَدُخُولُهُمْ

باب قسمة الفيء

الْمَسْجِدَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ كَرَجَاءِ الْإِسْلَامِ وَقَالَ الْعُلَمَاءُ يُعَادُ الذِّمِّيُّ وَيُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَلَيْسَ لَهُمْ إظْهَارُ شَيْءٍ مِنْ شِعَارِ دِينِهِمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا وَقْتَ الِاسْتِسْقَاءِ وَلَا عِنْدَ لِقَاءِ الْمُلُوكِ وَيُمْنَعُونَ مِنْ الْمَقَامِ فِي الْحِجَازِ وَهُوَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَنْبُعُ وَفَدَكُ وَتَبُوكُ وَنَحْوُهَا وَمَا دُونَ الْمُنْحَنَى وَهُوَ عَقَبَةُ الصَّوَابِ وَالشَّامُ كَمَعَانٍ، وَالْعُشُورُ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الْحَرْبِ تَدْخُلُ فِي أَحْكَامِ الْجِزْيَةِ وَتَقْدِيرُهَا عَلَى الْخِلَافِ وَاخْتَارَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي رَدِّهِ عَلَى الرَّافِضِي أَخْذَ الْجِزْيَةِ فِي جَمِيعِ الْعَقَارِ وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بَعْدُ، بَلْ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا وَقَالَ فِي الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَنْ أَخَذَهَا مِنْ الْجَمِيعِ أَوْ سَوَّى بَيْنَ الْمَجُوسِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فَقَدْ خَالَفَ ظَاهِرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَبْقَى فِي يَدِ الرَّاهِبِ مَالٌ إلَّا بُلْغَتُهُ فَقَطْ وَيَجِبُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ مَالٌ كَالْوَرِقِ الَّتِي فِي الدُّيُورَةِ وَالْمَزَارِعِ إجْمَاعًا وَمَنْ لَهُ تِجَارَةٌ مِنْهُمْ أَوْ زِرَاعَةٌ وَهُوَ مُخَالِطُهُمْ أَوْ مُعَاوِنُهُمْ عَلَى دِينِهِمْ كَمَنْ يَدْعُو إلَيْهِ مِنْ رَاهِبٍ وَغَيْرِهِ تَلْزَمُهُ الْجِزْيَةُ وَحُكْمُهُ حُكْمُهُمْ بِلَا نِزَاعٍ وَإِذَا أَبَى الذِّمِّيُّ بَذْلَ الْجِزْيَةِ أَوْ الصَّغَارَ أَوْ الْتِزَامَ حُكْمِنَا يُنْقَضُ عَهْدُهُ. وَسَابُّ الرَّسُولِ يُقْتَلُ وَلَوْ أَسْلَمَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَمَنْ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ تَجَسَّسَ عَلَيْهِمْ أَوْ أَعَانَ أَهْلَ الْحَرْبِ عَلَى سَبْيِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَسْرِهِمْ وَذَهَبَ بِهِمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهَذَا يُقْتَلُ وَلَوْ أَسْلَمَ وَلَوْ قَالَ الذِّمِّيُّ: هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ الْكِلَابُ أَبْنَاءُ الْكِلَابِ يُنَغِّصُونَ عَلَيْنَا إنْ أَرَادَ طَائِفَةً مُعَيَّنِينَ عُوقِبَ عُقُوبَةً تَزْجُرُهُ وَأَمْثَالُهُ وَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ قَصْدُ الْعُمُومِ يُنْقَضُ عَهْدُهُ وَوَجَبَ قَتْلُهُ. [بَابُ قِسْمَةِ الْفَيْءِ] ِ وَلَا حَقَّ لِلرَّافِضَةِ فِي الْفَيْءِ وَلَيْسَ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنْ يَسْتَأْثِرُوا مِنْهُ فَوْقَ الْحَاجَةِ كَالْإِقْطَاعِ يَصْرِفُونَهُ فِيمَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَيُقَدَّمُ الْمُحْتَاجُ عَلَى غَيْرِهِ فِي الْأَصَحِّ عَنْ أَحْمَدَ. وَعُمَّالُ الْفَيْءِ إذَا خَانُوا فِيهِ وَقَبِلُوا هَدِيَّةً أَوْ رِشْوَةً فَمَنْ فُرِضَ لَهُ دُونَ أُجْرَتِهِ أَوْ دُونَ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ لَمْ يُسْتَخْرَجْ مِنْهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَإِنْ قُلْنَا لَا يَجُوزُ لَهُمْ الْأَخْذُ

خِيَانَةً فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْإِمَامَ الْإِعْطَاءُ كَأَخْذِ الْمُضَارِبِ حِصَّتَهُ أَوْ الْغَرِيمِ دَيْنَهُ بِلَا إذْنٍ فَلَا فَائِدَةَ فِي اسْتِخْرَاجِهِ وَرَدِّهِ إلَيْهِمْ بَلْ إنْ لَمْ يَصْرِفْهُ الْإِمَامُ مَصَارِفَهُ الشَّرْعِيَّةَ لَمْ يُعَنْ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ شَاطَرَ عُمَّالَهُ سَعْدًا وَخَالِدًا وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَلَمْ يَتَّهِمْهُمْ بِخِيَانَةٍ بَيِّنَةٍ بَلْ بِمُحَابَاةٍ اقْتَضَتْ أَنْ جَعَلَ أَمْوَالَهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ مَا وَزَنَهُ أَوْ غَيْرَهُ وَجَهِلَ قَدْرَهُ قَسَمَهُ نِصْفَيْنِ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ مِنْ أَمْوَالِ الْفَيْءِ كُلَّ طَائِفَةٍ بِصِنْفٍ وَكَذَلِكَ فِي الْمَغَانِمِ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ إطْلَاقُ الْفَيْءِ دَائِمًا وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَفْضِيلُ بَعْضِ الْغَانِمِينَ لِزِيَادَةِ مَنْفَعَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ انْتَهَى.

كتاب الأطعمة

[كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ] ِ وَالْأَصْلُ فِيهَا الْحِلُّ لِمُسْلِمٍ يَعْمَلُ صَالِحًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ لِمَنْ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى طَاعَتِهِ لَا مَعْصِيَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93] الْآيَةَ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَانَ بِالْمُبَاحِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ كَمَنْ يُعْطِي اللَّحْمَ وَالْخُبْزَ لِمَنْ يَشْرَبُ عَلَيْهِ الْخَمْرَ وَيَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْفَوَاحِشِ وَمَنْ أَكَلَ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَلَمْ يَشْكُرْ فَهُوَ مَذْمُومٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] أَيْ عَنْ الشُّكْرِ عَلَيْهِ. وَمَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ الْجَلَّالَةُ، وَعَامَّةُ أَجْوِبَةِ أَحْمَدَ لَيْسَ فِيهَا تَحْرِيمٌ وَلَا أَثَرَ لِاسْتِحْبَابِ الْعَرَبِ فَمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ الشَّرْعُ فَهُوَ حِلٌّ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ وَيَحْرُمُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ وَلَوْ تَغَيَّرَ كَحَيَوَانٍ مِنْ نَعْجَةٍ نِصْفُهُ خَرُوفٌ وَنِصْفُهُ كَلْبٌ. وَالْمُضْطَرُّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ لَا السُّؤَالُ وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173] . قَدْ قِيلَ إنَّهُمَا صِفَةٌ لِلشَّخْصِ مُطْلَقًا فَالْبَغْيُ كَالْبَاغِي عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْعَدْلِ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ} [الحجرات: 9] وَالْعَادِي كَالصَّائِلِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ الَّذِي يُرِيدُ النَّفْسَ وَالْمَالَ. وَقَدْ قِيلَ إنَّهُمَا صِفَةٌ لِضَرُورَتِهِ فَالْبَاغِي الَّذِي يَبْغِي الْمُحَرَّمَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْحَلَالِ وَالْعَادِي الَّذِي يَتَجَاوَزُ قَدْرَ الْحَاجَةِ كَمَا قَالَ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] .

وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَهُوَ الصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ لَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَلَا يَقْصُرُ بَلْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَامَّةٌ مُطْلَقَةٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالْمُضْطَرُّ إلَى طَعَامِ الْغَيْرِ إنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَا يَلْزَمُهُ عِوَضٌ إذْ إطْعَامُ الْجَائِعِ وَكِسْوَةُ الْعَارِي فَرْضُ كِفَايَةٍ وَيَصِيرَانِ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْمُعَيَّنِ إذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ إلَّا مَالٌ لِغَيْرِهِ كَوَقْفٍ وَمَالِ يَتِيمٍ وَوَصِيَّةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ صَرْفُهُ فِي ذَلِكَ أَوْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْجِهَةِ فَيُصْرَفُ وَبَيْنَ مَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا فَلَا. تَرَدَّدَ نَظَرُ أَبِي الْعَبَّاسِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لَزِمَهُ الْعِوَضُ إذْ الْوَاجِبُ مُعَاوَضَتُهُ وَإِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ طَعَامًا لَا يَعْرِفُ مَالِكَهُ وَمَيْتَةً فَإِنَّهُ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ مَالِكَ الطَّعَامِ وَأَمْكَنَ رَدَّهُ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ أَمَّا إذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ إلَى مَالِكِهِ بِحَيْثُ يَجِبُ أَنْ يُصْرَفَ إلَى الْفُقَرَاءِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْأَمَانَاتِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ مَالِكُهَا فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ ذَلِكَ عَلَى الْمَيْتَةِ وَإِذَا كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى عَيْنٍ قَدْ بِيعَتْ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبْضِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَيَّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْإِمْضَاءِ وَالْفَسْخِ كَمَا لَوْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ لِأَنَّهَا فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ أُخِذَتْ ثُمَّ اخْتِيَارُهُ عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ عِوَضِهَا إلَّا أَنَّ الْأَخْذَ كَانَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ بِحَقٍّ وَفِي الْآخَرَ بِبَاطِلٍ وَهَذَا إنَّمَا تَأْثِيرُهُ فِي الْأَخْذِ لَا فِي الْمَأْخُوذِ مِنْهُ لَكِنْ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ اسْتِحْقَاقِ أَخْذِ التَّنْقِيصِ بِالشُّفْعَةِ فَيُقَالُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُنَاكَ يَعْلَمُ أَنَّ الشَّرِيكَ يَسْتَحِقُّ الِانْتِزَاعَ فَقَدْ رَضِيَ بِهَذَا الِاسْتِحْقَاقِ بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي لِغَيْرِ اضْطِرَارٍ ثُمَّ يَحْدُثُ اضْطِرَارٌ إلَيْهَا. وَلَوْ كَانَتْ الضَّرُورَةُ إلَى مَنَافِعَ مُؤَجَّرَةٍ ثُمَّ ظَهَرَتْ دَابَّةٌ وَسُكْنَى أَوْ دَارٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُؤَجِّرُ أَوْ الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقِيمَةِ فَهِيَ كَالْأَعْيَانِ وَإِنْ قُلْنَا تُؤْخَذُ مَجَّانًا فَإِنَّهَا تَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ لَا الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ أَخْذَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَلَفِهَا بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ وَلَوْ تَلِفَتْ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ وَحَيْثُ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ فَالْوَاجِبُ الْمَعْرُوفُ عَادَةً كَالزَّوْجَةِ وَالْقَرِيبِ وَالرَّقِيقِ وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ بِلَا سَبَبٍ شَرْعِيٍّ فَمُبْتَدِعٌ مَذْمُومٌ وَمَا نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْبِطِّيخِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِكَيْفِيَّةِ أَكْلِ النَّبِيِّ لَهُ فَكَذِبٌ وَيُكْرَهُ ذَبْحُ الْفَرَسِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْجِهَادِ بِلَا نِزَاعٍ.

كتاب الذكاة

[كِتَابُ الذَّكَاةِ] ِ وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ الْمُذَكِّي الْأَكْلَ بَلْ قَصَدَ مُجَرَّدَ حِلِّ مَيْتَةٍ لَمْ تُبَحْ الذَّبِيحَةُ وَمَا أَصَابَهُ بِسَبَبِ الْمَوْتِ كَأَكِيلَةِ السَّبْعِ وَنَحْوِهَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَتَّقِيَ مَوْتَهَا بِذَلِكَ السَّبَبِ أَوْ أَنْ يَبْقَى مُعْظَمَ الْيَوْمِ أَوْ أَنْ يَبْقَى فِيهَا حَيَاةً بِقَدْرِ حَيَاةِ الْمَذْبُوحِ أَوْ أَزْيَدَ مِنْ حَيَاتِهِ أَوْ يُمْكِنُ أَنْ يَزِيدَ؛ فِيهِ خِلَافٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ مَتَى ذُبِحَ فَخَرَجَ مِنْهُ الدَّمُ الْأَحْمَرُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ الْمُذَكَّى الْمَذْبُوحِ فِي الْعَادَةِ لَيْسَ هُوَ دَمَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَتَحَرَّكْ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَتُقْطَعُ الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَالْوَدَجَانِ، وَالْأَقْوَى أَنَّ قَطْعَ ثَلَاثَةٍ مِنْ الْأَرْبَعِ يُبِيحُ سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا الْحُلْقُومُ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّ قَطْعَ الْوَدَجَيْنِ أَبْلُغُ مِنْ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَأَبْلُغُ مِنْ إنْهَارِ الدَّمِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ هُمْ مَنْ كَانَ أَبُوهُ وَأَجْدَادُهُ فِي ذَلِكَ الدِّينِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ بَلْ الْمَقْطُوعُ بِهِ بِأَنَّ كَوْنَ الرَّجُلِ كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ هُوَ حُكْمٌ يَسْتَفِيدُهُ بِنَفْسِهِ لَا بِنَسَبِهِ فَكُلُّ مَنْ تَدَيَّنَ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ مِنْهُمْ سَوَاءٌ كَانَ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ قَدْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ وَسَوَاءٌ كَانَ دُخُولُهُ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْ أَحْمَدَ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ وَهُوَ الثَّابِتُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَهُمْ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ قَدِيمٌ وَالْمَأْخَذُ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي تَحْرِيمِ ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَدَيَّنُوا بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي وَاجِبَاتِهِمْ وَمَحْظُورَاتِهِمْ بَلْ أَخَذُوا مِنْهُمْ حِلَّ الْمُحَرَّمَاتِ فَقَطْ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ إنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ لَا أَنَّا لَمْ نَعْلَمْ أَنَّ آبَاءَهُمْ دَخَلُوا فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، فَإِذَا شَكَكْنَا فِيهِمْ هَلْ كَانَ أَجْدَادُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَمْ لَا، فَأَخَذْنَا

فصل الصيد لحاجة

بِالِاحْتِيَاطِ فَحَقَنَّا دِمَاءَهُمْ بِالْجِزْيَةِ وَحَرَّمْنَا ذَبِيحَتَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ احْتِيَاطًا. وَهَذَا مَا أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةِ وَإِذَا ذَبَحَتْهُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ» . وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِحْسَانَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ حَتَّى فِي إزْهَاقِ النَّفْسِ نَاطِقِهَا وَبَهِيمِهَا فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُحْسِنَ الْقِتْلَةَ لِلْآدَمِيِّينَ وَالذَّبِيحَةَ لِلْبَهَائِمِ وَيَحْرُمُ مَا ذَبَحَهُ الْكِتَابِيُّ لِعِيدِهِ أَوْ لِيَتَقَرَّبَ بِهِ إلَى شَيْءٍ يُعَظِّمُهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَالذَّبِيحِ إسْمَاعِيلَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى وَذَلِكَ أَمْرٌ قَطْعِيٌّ. [فَصْلٌ الصَّيْدُ لِحَاجَةٍ] فَصْلٌ وَالصَّيْدُ لِحَاجَةٍ جَائِزٌ وَأَمَّا الصَّيْدُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إلَّا اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ فَمَكْرُوهٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ظُلْمٌ لِلنَّاسِ بِالْعُدْوَانِ عَلَى زَرْعِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَحَرَامٌ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي تَعْلِيمِ الْفَهْدِ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ، فَإِنْ قَالُوا: إنَّهُ مِنْ جِنْسِ تَعْلِيمِ الصَّقْرِ بِالْأَكْلِ أُلْحِقَ بِهِ وَإِنْ قَالُوا إنَّهُ تَعَلَّمَ بِتَرْكِ الْأَكْلِ كَالْكَلْبِ أُلْحِقَ بِهِ وَإِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ لَمْ يَحْرُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَيْدِهِ وَلَمْ يُبَحْ مَا أَكَلَ مِنْهُ.

كتاب الأيمان

[كِتَابُ الْأَيْمَانِ] ِ الْحَالِفُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ شَيْئَيْنِ مِنْ كَرَاهَةِ الشَّرْطِ وَكَرَاهَةِ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا سَوَاءٌ كَانَ قَصْدُهُ الْحَضَّ وَالْمَنْعَ أَوْ لَمْ يَكُنْ قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ حَلَفَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي قَدْ يُسَمَّى بِهَا غَيْرُهُ وَإِطْلَاقُهُ يَنْصَرِفُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ يَمِينٌ إنْ نَوَى بِهِ اللَّهَ أَوْ أَطْلَقَ وَإِنْ نَوَى غَيْرَهُ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: هَذَا مِنْ التَّأْوِيلِ لِأَنَّهُ نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ فَإِنْ كَانَ ظَالِمًا لَمْ تَنْفَعْهُ وَتَنْفَعُ الْمَظْلُومَ، وَفِي غَيْرِهِمَا وَجْهَانِ إذْ الْكَلَامُ الْمَحْلُوفُ بِهِ كَالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَأَظُنُّ أَنَّ كَلَامَ أَحْمَدَ فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ نَصًّا قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ فَإِنْ قَالَ اسْمُ اللَّهِ مَرْفُوعًا مَعَ الْوَاوِ أَوْ عَدَمِهِ أَوْ مَنْصُوبًا مَعَ الْوَاوِ وَيَعْنِي فِي الْقَسَمِ بِاسْمٍ فَهُوَ يَمِينٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَا يُرِيدُ الْيَمِينَ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: يُتَوَجَّهُ فِيمَنْ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ إذَا أَطْلَقَ وَجْهَانِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَاسِبِ وَالنَّحْوِيِّ فِي الطَّلَاقِ كَقَوْلِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي اثْنَيْنِ وَيُتَوَجَّهُ أَنَّ هَذَا يَمِينٌ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّ رَبْطَهُ جُمْلَةَ الْقَسَمِ يُوجِبُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا لِأَنَّهُ لَحَنَ لَحْنًا لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ. قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ: وَإِنْ قَالَ أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ لَازِمٌ لِي أَوْ لَمْ يَلْزَمْ لِي إنْ فَعَلْت كَذَا فَهَذِهِ يَمِينٌ رَتَّبَهَا الْحَجَّاجُ تَتَضَمَّنُ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَصَدَقَةَ الْمَالِ فَإِنْ عَرَفَهَا الْحَالِفُ وَنَوَاهَا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ بِمَا فِيهَا وَإِلَّا فَلَا وَقِيلَ تَنْعَقِدُ إذَا نَوَاهَا وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا وَقِيلَ لَا تَنْعَقِدُ الْأَيْمَانُ بِاَللَّهِ بِشَرْطِ النِّيَّةِ (قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ) قِيَاسُ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ

تَلْزَمُنِي أَنَّهُ إذَا عَرَفَ أَيْمَانَ الْبَيْعَةِ انْعَقَدَتْ بِلَا نِيَّةٍ وَيُتَوَجَّهُ أَيْضًا أَنَّهَا تَلْزَمُهُ بِكُلِّ حَالٍ يَعْرِفُهَا وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ وَابْنِ بَطَّةَ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ وَلَوْ قَالَ أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ تَلْزَمُنِي إنْ فَعَلْت كَذَا أُلْزِمُهُ يَمِينُ الظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ وَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ نَوَى ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَنْوِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَقِيلَ لَا يَتَنَاوَلُ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: قِيَاسُ أَيْمَانِ الْبَيْعَةِ تَلْزَمُنِي أَنْ لَا تَنْعَقِدَ أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ تَلْزَمُنِي إلَّا بِالنِّيَّةِ وَجَمْعِ الْمُسْلِمِينَ. كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ كَأَنَّهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ. وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ لَأَفْعَلَنَّ فَيَمِينٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ لَامُ الْقَسَمِ فَلَا تُذْكَرُ إلَّا مَعَهُ مُظْهَرًا أَوْ مُقَدَّرًا. قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ وَإِنْ عَقَدَهَا يَظُنُّ صِدْقَ نَفْسِهِ فَبَانَ بِخِلَافِهِ فَهُوَ كَمَنْ حَلَفَ عَلَى عَدَمِ فِعْلِ شَيْءٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَفَعَلَهُ نَاسِيًا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَهَذَا ذُهُولٌ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا يُحَنِّثَانِ النَّاسِيَ وَلَا يُحَنِّثَانِ هَذَا لِأَنَّ تِلْكَ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ بِلَا شَكٍّ وَهَذِهِ لَمْ تَنْعَقِدْ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ الْيَمِينَ عَلَى شَيْءٍ تُغَيِّرُهُ عَنْ صِفَتِهِ بِحَيْثُ تُوجِبُ إيجَابًا أَوْ تُحَرِّمُ تَحْرِيمًا لَا تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ وَيَجِبُ إبْرَارُ الْقَسَمِ عَلَى مُعَيَّنٍ. وَيَحْرُمُ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: لِأَنَّ حَسَنَةَ التَّوْحِيدِ أَعْظَمُ مِنْ حَسَنَةِ الصِّدْقِ وَسَبَبُ الْكَذِبِ أَسْهَلُ مِنْ سَبَبِ الشِّرْكِ. وَاخْتَلَفَ كَلَامُ أَبِي الْعَبَّاسِ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ فَاخْتَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَأَنَّهُ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ بِمَخْلُوقٍ وَلَمْ يَلْتَزِمْ لِغَيْرِ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّمَا الْتَزَمَ لِلَّهِ كَمَا يَلْتَزِمُ بِالنَّذْرِ وَالِالْتِزَامُ لِلَّهِ أَبْلَغُ مِنْ الِالْتِزَامِ بِهِ بِدَلِيلِ النَّذْرِ لَهُ وَالْيَمِينِ بِهِ وَلِهَذَا لَمْ تُنْكِرْ الصَّحَابَةُ عَلَى مَنْ حَلَفَ بِذَلِكَ كَمَا أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ حَلَفَ بِالْكَعْبَةِ. وَالْعُهُودُ وَالْعُقُودُ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى أَوْ مُتَّفِقَةٌ فَإِذَا قَالَ أُعَاهِدُ اللَّهَ أَنِّي أَحُجُّ الْعَامَ فَهُوَ نَذْرٌ وَعَهْدٌ وَيَمِينٌ وَإِنْ قَالَ لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا فَيَمِينٌ وَعَهْدٌ لَا نَذْرٌ فَالْأَيْمَانُ تَضَمَّنَتْ مَعْنَى النَّذْرِ وَهُوَ أَنْ يَلْتَزِمَ لِلَّهِ قُرْبَةً لَزِمَهُ الْوَفَاءُ وَهِيَ عَقْدٌ وَعَهْدٌ وَمُعَاهَدَةٌ لِلَّهِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ لِلَّهِ مَا يَطْلُبُهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَإِنْ تَضَمَّنَتْ مَعْنَى الْعُقُودِ الَّتِي بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ أَنْ يَلْتَزِمَ كُلٌّ مِنْ

باب النذر

الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِلْآخَرِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ فَمُعَاقَدَةٌ وَمُعَاهَدَةٌ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا إنْ كَانَ الْعَقْدُ لَازِمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا خُيِّرَ وَهَذِهِ أَيْمَانٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَعْرِضْ لَهَا مَا يَحِلُّ عُقْدَتَهَا إجْمَاعًا وَلَوْ حَلَفَ لَا يَغْدِرُ فَغَدَرَ كَفَّرَ لِلْقَسَمِ إلَّا لِعُذْرٍ مَعَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَرْفَعُ إثْمَهُ وَمَنْ كَرَّرَ أَيْمَانًا قَبْلَ التَّكْفِيرِ فَرِوَايَتَانِ ثَالِثُهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ كَانَتْ عَلَى فِعْلٍ فَكَفَّارَةٌ وَإِلَّا فَكَفَّارَتَانِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ الْحَلِفُ بِنُذُورٍ مُكَفِّرَةٍ وَطَلَاقٍ مُكَفِّرٍ وَلَا يَجُوزُ التَّعْرِيضُ لِغَيْرِ ظَالِمٍ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاء كَمَا لِظَالِمٍ بِلَا حَاجَةٍ وَلِأَنَّهُ تَدْلِيسٌ كَتَدْلِيسِ الْمَبِيعِ وَقَدْ كَرِهَ أَحْمَدُ التَّدْلِيسَ وَقَالَ لَا يُعْجِبُنِي وَنَصُّهُ لَا يَجُوزُ التَّعْرِيضُ مَعَ الْيَمِينِ وَلَوْ حَلَفَ لَيَتَزَوَّجَنَّ عَلَى امْرَأَتِهِ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ لَا يَبَرَّ حَتَّى يَتَزَوَّجَ وَيَدْخُلَ بِهَا وَلَا يُشْتَرَطُ مُمَاثَلَتُهَا. وَالْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ فِعْلًا كَالْحَرَكَةِ وَيَتَضَمَّنُ مَا يَقْتَرِنُ بِالْفِعْلِ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي وَلِهَذَا يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَسِيمًا لِلْفِعْلِ تَارَةً وَقِسْمًا مِنْهُ أُخْرَى وَبَنَى عَلَيْهِ مَنْ حَلَفَ لَا يَعْمَلُ عَمَلًا فَقَالَ قَوْلًا كَالْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهَا هَلْ يَحْنَثُ وَفِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَالزِّيَارَةُ لَيْسَتْ سِكِّين اتِّفَاقًا وَلَوْ طَالَتْ مُدَّتُهَا. [بَابُ النَّذْرِ] ِ تَوَقَّفَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي تَحْرِيمِهِ وَحَرَّمَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَمَّا مَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ إذَا الْعَبْدُ أَوْ عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ أَوْ بَايَعَ عَلَيْهِ الرَّسُولَ أَوْ الْإِمَامَ أَوْ تَحَالَفَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ وَالْمَوَاثِيقَ تَقْتَضِي لَهُ وُجُوبًا ثَانِيًا غَيْرَ الْوُجُوبِ الثَّابِتِ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ وَاجِبًا مِنْ وَجْهَيْنِ وَكَانَ تَرْكُهُ مُوجِبًا لِتَرْكِ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ وَالْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَنَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ فِعْلِ مَا نَذَرَهُ وَالتَّكْفِيرِ. وَلَا يَضُرُّ قَوْلُهُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُلْزِمُ بِذَلِكَ وَلَا أُقَلِّدُ مَنْ نَوَى الْكَفَّارَةَ وَنَحْوَهُ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَوْكِيدٍ وَإِنْ قَصَدَ الْجَزَاءَ عِنْدَ الشَّرْطِ لَزِمَهُ مُطْلَقًا عِنْدَ أَحْمَدَ وَلَوْ قَالَ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ أَصُومُ كَذَا فَهَذَا نَذْرٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا وَمَنْ قَالَ هَذَا لَيْسَ بِنَذْرٍ فَقَدْ أَخْطَأَ وَقَوْلُ الْقَائِلِ لَئِنْ ابْتَلَانِي اللَّهُ لَأَصْبِرَنَّ وَلَئِنْ لَقِيت عَدُوًّا لَأُجَاهِدَنَّ وَلَوْ عَلِمْت أَيَّ الْعَمَلِ أَحَبُّ

إلَى اللَّهِ لَعَمِلْتُهُ فَهُوَ نَذْرٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 75] الْآيَةَ. وَلَوْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمَالٍ صَرَفَهُ مَصْرِفَ الزَّكَاةِ وَمَنْ أَسْرَجَ بِئْرًا أَوْ مَقْبَرَةً أَوْ جَبَلًا أَوْ شَجَرَةً أَوْ نَذَرَ لَهَا أَوْ لِسُكَّانِهَا أَوْ الْمُصَافِّينَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ لَمْ يَجُزْ وَلَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ إجْمَاعًا وَيُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ مَا لَمْ يَعْلَمْ رَبُّهُ وَمِنْ الْجَائِزِ صَرْفُهُ فِي نَظِيرِهِ مِنْ الْمَشْرُوعِ وَفِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ خِلَافٌ وَمَنْ نَذَرَ قِنْدِيلًا يُوقَدُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صُرِفَتْ قِيمَتُهُ لِجِيرَانِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْخَتْمَةِ وَالصَّوَابُ عَلَى أَصْلِنَا أَنْ يُقَالَ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ بَلْ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ الْجَائِزِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا إذَا وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَلَا يَتَقَدَّمُ عَلَى سَبَبِهِ فَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ فَلَهُ تَعْجِيلُ الصَّوْمِ قَبْلَ الشِّفَاءِ لِوُجُودِ النَّذْرِ وَمَنْ نَذَرَ صَوْمًا مُعَيَّنًا فَلَهُ الِانْتِفَالُ إلَى زَمَنٍ أَفْضَلَ مِنْهُ وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ الدَّهْرِ أَوْ صَوْمَ الْخَمِيسِ أَوْ الِاثْنَيْنِ فَلَهُ صَوْمُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ وَاسْتَحَبَّ أَحْمَدُ لِمَنْ نَذَرَ الْحَجَّ مُفْرَدًا أَوْ قَارِنًا أَنْ يَتَمَتَّعَ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ لِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. قَالَ فِي " الْمُحَرَّرِ ": وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ سَنَةٍ بِعَيْنِهَا لَمْ يَتَنَاوَلْ شَهْرَ رَمَضَانَ وَلَا أَيَّامَ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ الْفَرْضِ فِيهَا وَعَنْهُ يَتَنَاوَلُهَا فَيَقْضِيهَا وَفِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ وَعَنْهُ يَتَنَاوَلُ أَيَّامَ النَّهْيِ دُونَ أَيَّامِ رَمَضَانَ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: الصَّوَابُ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ رَمَضَانَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إذَا صَامَهَا لِأَنَّهُ نَذَرَ صَوْمًا وَاجِبًا وَغَيْرَ وَاجِبٍ بِخِلَافِ أَيَّامِ النَّهْيِ وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِنَّمَا تَجِبُ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُصَحِّحُ نَذْرَ الْوَاجِبِ اسْتِغْنَاءً بِإِيجَابِ الشَّارِعِ وَأَمَّا قَضَاؤُهَا مَعَ صَوْمِهَا فَبَعِيدٌ لِأَنَّ النَّظَرَ لَمْ يَقْتَضِ صَوْمًا آخَرَ كَمَسْأَلَةِ قُدُومِ زَيْدٍ قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَقَدِمَ لَيْلًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: لَوْ قِيلَ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا لَوْ نَذْرَ صَوْمَ اللَّيْلِ وَأَيَّامِ الْحَيْضِ أَوْ الْقَضَاءِ مَعَ ذَلِكَ أَوْ بِدُونِهِ لَتَوَجَّهَ وَلَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي وَقْتِ النَّهْيِ أَوْ صَوْمَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ يَفْعَلُ فِيهَا الْوَجْهَ بِالشَّرْعِ بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا وَفِعْلُ

باب القضاء

الصَّوْمِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَضَاهُ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ لِلضَّرُورَةِ وَمَا وَجَبَ لِلضَّرُورَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ مِثْلَهُ بِالنَّذْرِ وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ أَبَدًا ثُمَّ جَهِلَهُ أَفْتَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِصِيَامِ الْأُسْبُوعِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: بَلْ يَصُومُ يَوْمًا مِنْ الْأَيَّامِ مُطْلَقًا أَيَّ يَوْمٍ كَانَ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَإِنَّهَا لَا تُجْزِئُ إلَّا بِتَعَيُّنِ النِّيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالتَّعْيِينُ يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ إلَى كَفَّارَةٍ أَوْ إلَى غَيْرِ كَفَّارَةٍ كَالتَّعْيِينِ فِي رَمَضَانَ، وَالْوَاجِبَاتُ غَيْرُ الصَّلَاةِ الْمَنْذُورَةِ أَيْضًا. قَالَ أَصْحَابُنَا وَمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مَوْضِعٍ مِنْ الْحَرَمِ لَزِمَهُ أَنْ يَمْشِيَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَإِنْ تَرَكَ الْمَشْيَ وَرَكِبَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَعَنْهُ دَمٌ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: أَمَّا لِغَيْرِ عُذْرٍ فَالْمُتَوَجَّهُ لُزُومُ الْإِعَادَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ التَّتَابُعَ فِي الصَّوْمِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ التَّتَابُعُ أَوْ يَتَخَرَّجُ لُزُومُ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ الْبَدَلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُبْدَلِ وَلَوْ نَذَرَ الطَّوَافَ عَلَى أَرْبَعٍ طَافَ طَوَافَيْنِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَوْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ ذَبْحُ وَلَدِي أَوْ مَعْصِيَةٌ غَيْرَ ذَلِكَ أَوْ نَحْوُهُ وَقَصَدَ الْيَمِينَ فَيَمِينٌ وَإِلَّا فَنَذْرُ مَعْصِيَةٍ فَيَذْبَحُ فِي مَسْأَلَةِ الذَّبْحِ كَبْشًا وَلَوْ فَعَلَ الْمَعْصِيَةَ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ وَلَوْ فِي الْيَمِينِ. وَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَيُخَرَّجُ رِوَايَةٌ عَنْهُ مِنْ تَعْجِيلِ الْعَارِيَّةِ وَالصُّلْحِ عَنْ عِوَضِ الْمُتْلَفِ بِمُؤَجَّلٍ وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَهَبَ بَرَّ بِالْإِيجَابِ لِيَمِينِهِ وَقَدْ يُحْمَلُ عَلَى الْكَمَالِ. انْتَهَى. [بَابُ الْقَضَاءِ] ِ وَقَدْ أَوْجَبَ النَّبِيُّ تَأْمِيرَ الْوَاحِدِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْقَلِيلِ الْعَارِضِ فِي السَّفَرِ فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنْوَاعِ الِاجْتِمَاعِ. وَالْوَاجِبُ اتِّخَاذُهُ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ دِينًا وَقُرْبَةً فَإِنَّهَا مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ وَإِنَّمَا فَسَدَ حَالُ الْأَكْثَرِ لِطَلَبِ الرِّئَاسَةِ وَالْمَالِ بِهَا وَمَنْ فَعَلَ مَا يُمْكِنُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ وَمَا يَسْتَفِيدُهُ الْمُتَوَلِّي بِالْوِلَايَةِ لَا حَدَّ لَهُ شَرْعًا بَلْ يَتَلَقَّى مِنْ اللَّفْظِ وَالْأَحْوَالِ وَالْعُرْفِ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الْحُكْمِ وَالْفُتْيَا بِالْهَوَى وَبِقَوْلٍ أَوْ وَجْهٍ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي التَّرْجِيحِ وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِمُوجِبِ اعْتِقَادِهِ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ إجْمَاعًا وَالْوِلَايَةُ لَهَا رُكْنَانِ الْقُوَّةُ وَالْأَمَانَةُ فَالْقُوَّةُ فِي الْحُكْمِ تَرْجِعُ إلَى الْعِلْمِ بِالْعَدْلِ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ وَالْأَمَانَةُ تَرْجِعُ إلَى خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى

وَيُشْتَرَطُ فِي الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ وَرِعًا. وَالْحَاكِمُ فِيهِ صِفَاتٌ ثَلَاثٌ فَمِنْ جِهَةِ الْإِثْبَاتِ هُوَ شَاهِدٌ وَمِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هُوَ صِفَةٌ وَمِنْ جِهَةِ الْإِلْزَامِ بِذَلِكَ هُوَ ذُو سُلْطَانٍ وَأَقَلُّ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ صِفَاتُ الشَّاهِدِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَحْكُمَ بِعَدْلٍ وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِفْتَاءُ إلَّا مِمَّنْ يُفْتِي بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ وَشُرُوطُ الْقَضَاءِ تُعْتَبَرُ حَسَبَ الْإِمْكَانِ وَيَجِبُ تَوْلِيَةُ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ كَلَامُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فَيُوَلِّي لِعَدَمِهِ أَنْفَعَ الْفَاسِقِينَ وَأَقَلَّهُمَا شَرًّا وَأَعْدَلَ الْمُقَلَّدِينَ وَأَعْرَفَهُمَا بِالتَّقْلِيدِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَعْلَمَ وَالْآخَرُ أَوْرَعَ قُدِّمَ فِيمَا قَدْ يَظْهَرُ حُكْمُهُ وَيُخَافُ الْهَوَى فِيهِ الْأَوْرَعُ وَفِيمَا نَدَرَ حُكْمُهُ وَيُخَافُ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ الْأَعْلَمُ. وَأَكْثَرُ مَنْ يُمَيِّزُ فِي الْعِلْمِ مِنْ الْمُتَوَسِّطِينَ إذَا نَظَرَ وَتَأَمَّلَ أَدِلَّةَ الْفَرِيقَيْنِ بِقَصْدٍ حَسَنٍ وَنَظَرٍ تَامٍّ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَحَدُهُمَا لَكِنْ قَدْ لَا يَثِقُ بِنَظَرِهِ بَلْ يَحْتَمِلُ أَنَّ عِنْدَهُ مَا لَا يَعْرِفُ جَوَابَهُ فَالْوَاجِبُ عَلَى مِثْلِ هَذَا مُوَافَقَتُهُ لِلْقَوْلِ الَّذِي تَرَجَّحَ عِنْدَهُ بِلَا دَعْوَى مِنْهُ لِلِاجْتِهَادِ كَالْمُجْتَهِدِ فِي أَعْيَانِ الْمُفْتِينَ وَالْأَئِمَّةِ إذَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَحَدُهُمَا قَلَّدَهُ وَالدَّلِيلُ الْخَاصُّ الَّذِي يُرَجَّحُ بِهِ قَوْلٌ عَلَى قَوْلٍ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ مِنْ دَلِيلٍ عَامٍّ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا أَعْلَمُ وَأَدْيَنُ وَعِلْمُ النَّاسِ بِتَرْجِيحِ قَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ أَيْسَرُ مِنْ عِلْمِ أَحَدِهِمْ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَعْلَمُ وَأَدْيَنُ لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَلَا بُدَّ وَيَجِبُ أَنْ يُنَصِّبَ عَلَى الْحُكْمِ دَلِيلًا وَأَدِلَّةُ الْأَحْكَامِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَتَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ فِيهَا وَإِلَى الْيَوْمِ بِقَصْدٍ حَسَنٍ بِخِلَافِ الْإِمَامِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: النَّبِيهُ الَّذِي سَمِعَ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ وَأَدَاءَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ وَعِنْدَهُ مَا يُعْرَفُ بِهِ رُجْحَانُ الْقَوْلِ وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ أَنْ يَبْتَدِئَ النَّاسَ بِقَهْرِهِمْ عَلَى تَرْكِ مَا يَشْرَعُ وَإِلْزَامِهِمْ بِرَأْيِهِ اتِّفَاقًا وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ لِغَيْرِهِ مِثْلُهُ وَأَفْضَى إلَى التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ وَفِي لُزُومِ التَّمَذْهُبِ بِمَذْهَبٍ وَامْتِنَاعِ الِانْتِقَالِ إلَى غَيْرِهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَفِي الْقَوْلِ بِلُزُومِ طَاعَةِ غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَجَوَازُهُ فِيهِ مَا فِيهِ. وَمَنْ أَوْجَبَ تَقْلِيدَ إمَامٍ بِعَيْنِهِ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَإِنْ قَالَ يَنْبَغِي كَانَ جَاهِلًا ضَالًّا وَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لِإِمَامٍ فَخَالَفَهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ لِقُوَّةِ الدَّلِيلِ أَوْ لِكَوْنِ أَحَدِهِمَا أَعْلَمَ وَأَتْقَى فَقَدْ أَحْسَنَ.

وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي عَدَالَتِهِ بِلَا نِزَاعٍ. وَكَرِهَ الْعُلَمَاءُ الْأَخْذَ بِالرُّخَصِ وَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ مَعَ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ اتِّفَاقًا وَقَبْلَهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمَشْهُورِ إلَّا أَنْ يَضِيقَ الْوَقْتُ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَوْ يَعْجِزَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ فَهَذِهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ وَالْعَجْزُ قَدْ يَعْنِي بِهِ الْعَجْزَ الْحَقِيقِيَّ وَقَدْ يَعْنِي بِهِ الْمَشَقَّةَ الْعَظِيمَةَ وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ. وَالْقَضَاءُ نَوْعَانِ إخْبَارٌ هُوَ إظْهَارٌ وَإِبْدَاءٌ؛ وَأَمْرٌ هُوَ إنْشَاءٌ وَابْتِدَاءٌ. فَالْخَبَرُ ثَبَتَ عِنْدِي وَيَدْخُلُ فِيهِ خَبَرُهُ عَنْ حِكْمَةٍ وَعَنْ عَدَالَةِ الشُّهُودِ وَعَنْ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ. وَالْآخَرُ وَهُوَ حَقِيقَةُ الْحُكْمِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَإِبَاحَةٌ وَيَحْصُلُ بِقَوْلِهِ: أَعْطِهِ وَلَا تُكَلِّمْهُ أَوْ الْزَمْهُ وَبِقَوْلِهِ حَكَمْت وَأَلْزَمْت. قَالَ الْحَاكِمُ: ثَبَتَ عِنْدِي بِشَهَادَتِهِمَا فَهَذَا فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ. وَفِعْلُ الْحَاكِمِ حُكْمٌ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَالْوَكَالَةُ يَصِحُّ قَبُولُهَا عَلَى الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْوِلَايَةِ نَوْعٌ مِنْهَا قَالَ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ إذَا اسْتَأْذَنَ امْرَأَةً فِي غَيْرِ عَمَلِهِ لِيُزَوِّجَهَا فَأَذِنَتْ لَهُ فَزَوَّجَهَا فِي عَمَلِهِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِأَنَّ إذْنَهَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ وَحُكْمُهُ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ لَا يَنْفُذُ، فَإِنْ قَالَتْ إذَا حَصَلْت فِي عَمَلِك فَقَدْ أَذِنْت لَك فَزَوَّجَهَا فِي عَمَلِهِ صَحَّ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ وَمَنْ شَرَطَ جَوَازَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ فِي عَمَلِهِ حِينَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا فَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لَمْ يَصِحَّ عَقْدُهُ لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى مَنْ لَيْسَ فِي عَمَلِهِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَقُولَ زَوِّجْنِي إذَا صِرْت فِي عَمَلِك أَوْ إذَا صِرْت فِي عَمَلِك فَزَوِّجْنِي لِأَنَّ تَقْيِيدَ الْوَكَالَةِ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ تَعْلِيقِهَا نَعَمْ لَوْ قَالَتْ زَوِّجْنِي الْآنَ أَوْ فَهِمَ ذَلِكَ مِنْ إذْنِهَا فَهُنَا أَذِنَتْ لِغَيْرِ قَاضٍ وَهَذَا هُوَ مَقْصُودُ الْقَاضِي. قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ قَاضِيَيْنِ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ وَقِيلَ إنْ وَلَّاهُمَا فِيهِ عَمَلًا وَاحِدًا لَمْ يَجُزْ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: تَوْلِيَةُ قَاضِيَيْنِ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ بِحَيْثُ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ كَالْوَصِيَّيْنِ وَالْوَكِيلَيْنِ وَإِمَّا عَلَى طَرِيقِ الِانْفِرَادِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَيْسَ هُوَ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ وَلَا مَانِعَ مِنْهُ إذَا كَانَ فَوْقَهُمَا مِنْ يَرُدُّ مَوَاضِعَ تَنَازُعِهِمَا وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ. وَتَثْبُتُ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ بِالْأَخْبَارِ وَقِصَّةُ وِلَايَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ هَكَذَا كَانَتْ. وَإِذَا اسْتَنَابَ الْحَاكِمُ فِي الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ مَذْهَبِهِ إنْ كَانَ لِكَوْنِهِ أَرْجَحَ فَقَدْ

أَحْسَنَ وَإِلَّا لَمْ تَجُزْ الِاسْتِنَابَةُ. وَإِذَا حَكَمَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ خَصْمَهُ جَازَ لِقِصَّةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكَذَا مُفْتٍ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ وَهَلْ يَفْتَقِرُ ذَلِكَ إلَى تَعْيِينِ الْخَصْمَيْنِ أَوْ حُضُورِهِمَا أَوْ يَكْفِي وَصْفُ الْقِصَّةِ لَهُ الْأَشْبَهُ أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ بَلْ إذَا تَرَاضَيَا بِقَوْلِهِ فِي قَضِيَّةٍ مَوْصُوفَةٍ مُطَابِقَةٍ لِقَضِيَّتِهِمْ فَقَدْ لَزِمَهُ فَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا الِامْتِنَاعَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فَيَنْبَغِي جَوَازُهُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الشُّرُوعِ لَمْ يَمْلِكْ الِامْتِنَاعَ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَشْعَرَ بِالْغَلَبَةِ امْتَنَعَ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ. قَالَ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ وَعَلَى أَنَّ الْحُدُودَ تَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ فَمَنْ لَا يَصْلُحُ لِبَعْضِ مَا تَتَضَمَّنُهُ الْوِلَايَةُ لَا يَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْهَا وَلَا تَنْعَقِدُ الْوِلَايَةُ لَهُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي تَزْوِيجِ الدُّهْقَانِ وَتَزْوِيجِ الْوَالِي صَاحِبَ الْحَسِيرِ يُخَالِفُ هَذَا وَوِلَايَةُ الْقَضَاءِ يَجُوزُ تَبْعِيضُهَا وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا فِي وِلَايَتِهِ فَإِنَّ مَنْصِبَ الِاجْتِهَادِ يَنْقَسِمُ حَتَّى لَوْ وَلَّاهُ فِي الْمَوَارِيثِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَعْرِفَ إلَّا الْفَرَائِضَ وَالْوَصَايَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ وَإِنْ وَلَّاهُ عَقْدَ الْأَنْكِحَةِ وَفَسْخَهَا لَمْ يَجِبْ أَنْ يَعْرِفَ إلَّا ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا فَقُضَاةُ الْأَطْرَافِ يَجُوزُ أَنْ لَا يَقْضِيَ فِي الْأُمُورِ الْكِبَارِ وَالدِّمَاءِ وَالْقَضَايَا الْمُشْكِلَةِ وَعَلَى هَذَا فَلَوْ قَالَ اقْضِ فِيمَا تَعْلَمُ كَمَا يَقُولُ لَهُ أَفْتِ فِيمَا تَعْلَمُ جَازَ وَيَبْقَى مَا لَا يَعْلَمُ خَارِجًا عَنْ وِلَايَتِهِ كَمَا يَقُولُ فِي الْحَاكِمِ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَى حُكْمِهِ الْكُفَّارُ وَفِي الْحَاكِمِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ وَيُشْتَرَطُ فِي الْقَاضِي عَشْرُ صِفَاتٍ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: هَذَا الْكَلَامُ إنَّمَا اشْتَرَطْت هَذِهِ الصِّفَاتِ فِيمَنْ يُوَلَّى لَا فِيمَنْ يَحْكُمُهُ الْخَصْمَانِ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْأَعْمَى لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ وَذِكْرُهُ مَحَلُّ وِفَاقٍ قَالَ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ إذَا تَحَاكَمَا بِهِ وَرَضِيَا بِهِ جَازَ حُكْمُهُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: هَذَا الْوَجْهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ كَمَا يَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى إذْ لَا يَعُوزُهُ إلَّا مَعْرِفَةُ عَيْنِ الْخَصْمِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ بَلْ يَقْضِي عَلَى مَوْصُوفٍ كَمَا قَضَى دَاوُد بَيْنَ الْمَالِكَيْنِ وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يَصِحَّ مُطْلَقًا وَيُعْرَفُ بِأَعْيَانِ الشُّهُودِ وَالْخُصُومِ كَمَا يُعْرَفُ بِمَعَانِي كَلَامِهِمْ فِي التَّرْجَمَةِ إذْ مَعْرِفَةُ كَلَامِهِ وَعَيْنِهِ سَوَاءٌ وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَى غَائِبٍ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَأَصْحَابُنَا قَاسُوا شَهَادَةَ الْأَعْمَى عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى الْغَائِبِ وَالْمَيِّتِ وَأَكْثَرُ مَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ عِنْدَ الرِّوَايَةِ، وَالْحُكْمُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الرُّؤْيَةِ بَلْ هَذَا فِي الْحَاكِمِ

أَوْسَعُ مِنْهُ فِي الشَّاهِدِ بِدَلِيلِ التَّرْجَمَةِ وَالتَّعْرِيفِ بِالْحُكْمِ دُونَ الشَّهَادَةِ وَمَا بِهِ يَحْكُمُ أَوْسَعُ مِمَّا بِهِ يَشْهَدُ وَلَا تُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ فِي الْحَاكِمِ وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ قَالَ وَفِي الْمُحَرَّرِ وَفِي الْعَزْلِ حَيْثُ قُلْنَا بِهِ قَبْلَ الْعِلْمِ وَجْهَانِ كَالْوَكِيلِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: الْأَصْوَبُ أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ هُنَا وَإِنْ قُلْنَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْوِلَايَةِ لِلَّهِ وَإِنْ قُلْنَا هُوَ وَكِيلٌ وَالنَّسْخُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْعِلْمِ كَمَا قُلْنَا عَلَى الْمَشْهُورِ إنَّ نَسْخَ الْحُكْمِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَكِيلِ بِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْوَكِيلِ ثُبُوتُ الضَّمَانِ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي الْجَهْلَ بِخِلَافِ الْحُكْمِ فَإِنَّ فِيهِ الْإِثْمَ وَذَلِكَ يُنَافِي الْجَهْلَ كَذَلِكَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ. وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَكِيلِ وَجَعْلًا لَهُ كَالْوَصِيِّ إلَّا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلْحَاكِمِ شِرَاءُ مَا يَحْتَاجُهُ فِي مَظِنَّةِ الْمُحَابَاةِ وَالِاسْتِغْلَالِ وَالتَّبَدُّلِ، قَالَ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ قَاسَهُ الْمُخَالِفُ عَلَى الْوَصِيِّ فِي مُبَاشَرَةِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يُحَابِي فِي الْعَادَةِ وَالْقَاضِي بِخِلَافِهِ وَلَا يُكْرَهُ لَهُ الْبَيْعُ فِي مَجْلِسِ فُتْيَاهُ وَلَا يُكْرَهُ لَهُ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ بِخِلَافِ الْقَاضِي. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: هَذَا فِيهِ نَظَرٌ وَتَفْصِيلٌ، فَإِنَّ الْعَالِمَ فِي هَدِيَّتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ شَبِيهٌ بِالْقَاضِي، وَفِيهِ حِكَايَاتٌ عَنْ أَحْمَدَ وَالْعَالِمُ لَا يَعْتَاضُ عَلَى تَعْلِيمِهِ. وَالْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ مَنْ يَصْلُحُ وَمَنْ لَا يَصْلُحُ وَالْمَجْهُولُ فَلَا يُرَدُّ مِنْ أَحْكَامِ مِنْ يَصْلُحُ إلَّا مَا عُلِمَ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَلَا يَنْفُذُ مِنْ أَحْكَامِ مِنْ لَا يَصْلُحُ إلَّا مَا عُلِمَ أَنَّهُ حَقٌّ وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَغَيْرُهُ إنْ كَانَ تَوْلِيَتُهُ ابْتِدَاءً، وَأَمَّا الْمَجْهُولُ فَيُنْظَرُ فِيمَنْ وَلَّاهُ، وَإِنْ كَانَ يُوَلِّي هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً نَفَذَ مَا كَانَ حَقًّا وَرُدَّ الْبَاطِلُ، وَالْبَاقِي مَوْقُوفٌ، وَبَيِّنٌ لَا يَصْلُحُ إذًا لِلضَّرُورَةِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: إحْدَاهُمَا: عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَنْ لَا يَصْلُحُ تُنْقَضُ جَمِيعُ أَحْكَامِهِ هَلْ تُرَدُّ أَحْكَامُ هَذَا كُلُّهَا أَمْ يُرَدُّ مَا لَمْ يَكُنْ صَوَابًا. وَالثَّانِي الْمُخْتَارُ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ. وَالثَّانِيَةُ: هَلْ تَنْفُذُ الْمُجْتَهِدَاتُ مِنْ أَحْكَامِهِ أَمْ يَتَعَقَّبُهَا الْعَالِمُ الْعَادِلُ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ. وَإِنْ أَمْكَنَ الْقَاضِي أَنْ يُرْسِلَ إلَى الْغَائِبِ رَسُولًا وَيَكْتُبَ إلَيْهِ الْكِتَابَ وَالدَّعْوَى وَيُجَابَ عَنْ الدَّعْوَى بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ بِمُكَاتَبَةِ الْيَهُودِ لَمَّا ادَّعَى الْأَنْصَارِيُّ، عَلَيْهِمْ قَتْلَ صَاحِبِهِمْ وَكَاتِبِهِمْ وَلَمْ يُحْضِرُوهُ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي

باب الحكم وصفته

أَنَّ فِي كُلِّ غَائِبٍ طَلَبَ إقْرَارَهُ أَوْ إنْكَارَهُ إذَا لَمْ يُقِمْ الطَّالِبُ بَيِّنَةً وَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً فَمِنْ الْمُمْكِنِ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ إذَا كَانَ الْخَصْمُ فِي الْبَلَدِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حُضُورُ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ بَلْ يَقُولُ أَرْسِلُوا إلَى مَنْ يُعْلِمُنِي بِمَا يَدَّعِي بِهِ عَلَيَّ، وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ لِلْقَاضِي مِنْ رَسُولٍ إلَى الْخَصْمِ يُبَلِّغُهُ الدَّعْوَى بِحُضُورِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ رَسُولٌ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حُضُورِ الْخَصْمِ سَمَاعُ الدَّعْوَى وَرَدُّ الْجَوَابِ بِإِقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ بِالْمُرَاسَلَةِ مَعَ أَنَّهُ فِي الْحُضُورِ لَا يَجُوزُ تَرَاخِي الْقَبُولِ عَنْ الْإِيجَابِ تَرَاخِيًا كَثِيرًا فَفِي الدَّعْوَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا لِأَنَّهُ نَائِبُ الْحَاكِمِ كَمَا كَانَ أُنَيْسٌ نَائِبَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إقَامَةِ الْحَدِّ بَعْدَ سَمَاعِ الِاعْتِرَافِ أَوْ يَخْرُجَ عَلَى الْمُرَاسَلَةِ مِنْ الْحَاكِمِ إلَى الْحَاكِمِ، وَفِيهِ رِوَايَتُنَا فَيَنْظُرُ فِي قَضِيَّتِهِ خَبِيرًا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فَمَا وَجَدْت إلَّا وَاحِدًا، ثُمَّ وَجَدْت هَذَا مَنْصُوصًا عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّهُ نَصَّ فِيهَا عَلَى أَنَّهُ قَامَ بَيِّنَةٌ بِالْعَيْنِ الْمُودَعَةِ عِنْدَ رَجُلٍ سُلِّمَتْ إلَيْهِ وَقَضَى عَلَى الْغَائِبِ قَالَ: وَمَنْ قَالَ بِغَيْرِ هَذَا يَقُولُ لَهُ أَنْ يَنْتَظِرَ بِقَدْرِ مَا يَذْهَبُ لِلْكِتَابِ وَيَجِيءُ فَإِنْ جَاءَ وَإِلَّا أَخَذَ الْغُلَامَ الْمُودَعَ وَكَلَامُهُ مُحْتَمِلٌ تَخْيِيرَ الْحَاكِمِ بَيْنَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَى الْغَائِبِ، وَبَيْنَ أَنْ يُكَاتِبَهُ فِي الْجَوَابِ. [بَابُ الْحُكْمِ وَصِفَتُهُ] ُ وَمَسْأَلَةُ تَحْرِيرِ الدَّعْوَى وَفُرُوعِهَا ضَعِيفَةٌ لِحَدِيثِ الْحَضْرَمِيِّ فِي دَعْوَاهُ عَلَى الْآخَرِ أَرْضًا غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ، وَإِذَا قِيلَ لَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى إلَّا مُحَرَّرَةً فَالْوَاجِبُ أَنَّ مَنْ ادَّعَى مُجْمَلًا اسْتَفْصَلَهُ الْحَاكِمُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ صِحَّةُ الدَّعْوَى عَلَى الْمُهِمِّ كَدَعْوَى الْأَنْصَارِ قَتْلَ صَاحِبِهِمْ وَدَعْوَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ عَلَى بَنِي أُبَيْرِقَ وَغَيْرِهِمْ. ثُمَّ الْمُبْهَمُ قَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا وَقَدْ يَنْحَصِرُ فِي قَوْمٍ كَقَوْلِهَا أَنْكِحْنِي أَحَدَهُمَا وَزَوِّجْنِي أَحَدَهُمَا، وَالثُّبُوتُ الْمَحْضُ يَصِحُّ بِلَا مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ قَوْمٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَفَعَلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْقُضَاةِ. وَسَمِعْت الدَّعْوَى فِي الْوَكَالَةِ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ الْخَصْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَنَقَلَهُ هَهُنَا عَنْ أَحْمَدَ وَلَوْ كَانَ الْخَصْمُ فِي الْبَلَدِ وَتُسْمَعُ دَعْوَى الِاسْتِيلَادِ وَقَالَهُ أَصْحَابُنَا وَفَسَّرَهُ الْقَاضِي بِأَنْ يَدَّعِيَ اسْتِيلَادَ أَمَةٍ فَتُنْكِرَهُ.

وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: بَلْ هِيَ الْمُدَّعِيَةُ وَمَنْ ادَّعَى عَلَى خَصْمِهِ أَنَّ بِيَدِهِ عَقَارًا اسْتَغَلَّهُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً وَعَيَّنَهُ وَإِنَّهُ اسْتَحَقَّهُ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِاسْتِيلَائِهِ لَا بِاسْتِحْقَاقِهِ لَزِمَ الْحَاكِمَ إثْبَاتُهُ وَالشَّهَادَةُ بِهِ، كَمَا يَلْزَمُ الْبَيِّنَةَ أَنْ تَشْهَدَ بِهِ لِأَنَّهُ كَفَرْعٍ مَعَ أَصْلٍ وَمَا لَزِمَ أَصْلًا الشَّهَادَةُ بِهِ لَزِمَ فَرْعَهُ حَيْثُ يُقْبَلُ، وَلَوْ لَمْ تَلْزَمْ إعَانَةُ مُدَّعٍ بِإِثْبَاتٍ وَشَهَادَاتٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِهِ لَزِمَ الدَّوْرُ بِخِلَافِ الْحُكْمِ ثُمَّ إنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ أُمِرَ بِإِعْطَائِهِ مَا ادَّعَاهُ وَإِلَّا فَهُوَ كَمَالٍ مَجْهُولٍ يُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ. وَمَنْ بِيَدِهِ عَقَارٌ فَادَّعَى رَجُلٌ بِثُبُوتِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهُ كَانَ لِجَدِّهِ إلَى مَوْتِهِ ثُمَّ إلَى وَرَثَتِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مُخَلَّفٌ عَنْ مُوَرِّثِهِ لَا يُنْزَعُ مِنْهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَيْنِ تَعَارَضَا وَأَسْبَابُ انْتِقَالِهِ أَكْثَرُ مِنْ الْإِرْثِ وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِسُكُوتِهِمْ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ وَلَوْ فَتَحَ هَذَا الْبَابَ لَانْتُزِعَ كَثِيرٌ مِنْ عَقَارِ النَّاسِ بِهَذَا الطَّرِيقِ. وَلَوْ شَهِدَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِمِلْكِهِ إلَى حِينِ وَقْفِهِ وَأَقَامَ وَارِثٌ بَيِّنَةً أَنَّ مُوَرِّثَهُ اشْتَرَاهُ مِنْ الْوَاقِفِ قَبْلَ وَقْفِهِ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْوَارِثِ أَنَّ مُوَرِّثَهُ اشْتَرَاهُ مِنْ الْوَاقِفِ قَبْلَ وَقْفِهِ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ كَتَقْدِيمِ مَنْ شَهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ أَبِيهِ عَلَى مَنْ شَهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ، قَالَ الْقَاضِي إذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفًا مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ فَقَالَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا وَلَمْ أَغْصِبْهُ فَهَلْ يَكُونُ جَوَابًا يَحْلِفُ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ جَوَابٌ صَحِيحٌ يَحْلِفُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: لَيْسَ بِجَوَابٍ صَحِيحٍ يَحْلِفُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَصَبَهُ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ أَوْ أَقْرَضَهُ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ أَوْ بَاعَهُ ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: إنَّمَا يُتَوَجَّهُ الْوَجْهَانِ فِي أَنَّ الْحَاكِمَ هَلْ يَلْزَمُهُ بِهَذَا الْجَوَابِ أَمْ لَا، وَأَمَّا صِحَّتُهُ فَلَا رَيْبَ فِيهَا وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْإِجْمَالَ لَيْسَ بِجَوَابٍ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ قَدْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ الْجَهْلُ أَوْ تَأْوِيلٌ وَيَكُونُ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ فِي مَذْهَبِ الْحَاكِمِ، وَيَمِينُ الْمُدَّعِي بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ وَكَمَا لَا يَشْهَدُ بِتَأْوِيلٍ أَوْ جَهْلٍ وَمِنْ أَصْلِنَا إذَا كَانَ لَهُ عَلَيَّ ثُمَّ أَوْفَيْتُهُ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا فَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إلَّا إذَا قُلْنَا بِالرِّوَايَةِ الضَّعِيفَةِ فَقَدْ أَطْلَقَ أَحْمَدُ التَّعْدِيلَ لِي فِي مَوْضِعٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ سَأَلْت أَبِي عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ الْعَبْدِيِّ فَقَالَ ثِقَةٌ، قَالَ دَاوُد لِأَحْمَدَ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ فَقَالَ ثِقَةٌ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَكُلُّ لَفْظٍ يَحْصُلُ بِهِ تَعْدِيلُ الشُّهُودِ مِثْلُ أَنْ

يَقُولَ النَّاسُ فِيهِ لَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا، كَمَا نُقِلَ عَنْ شُرَيْحٍ وَسَوَّارٍ وَغَيْرِهِمَا ثُمَّ وَجَدْت الْقَاضِيَ قَدْ احْتَجَّ فِي الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ عُمَرَ سَأَلَ رَجُلًا عَنْ رَجُلٍ فَقَالَ لَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا وَعَلَى هَذَا فَلَا يُعْتَبَرُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَإِنْ أَوْجَبْنَا اثْنَيْنِ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ؛ بِمَنْزِلَةِ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِ وَالْقَائِفِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَسْمُوعِ وَمِثْلُهُ الْمُزَكِّي وَالتَّفْلِيسُ وَالرُّشْدُ وَنَحْوُهَا فَإِنَّ هَذَا كُلُّهُ إثْبَاتُ صِفَاتٍ اجْتِهَادِيَّةٍ وَيُقْبَلُ فِي التَّرْجَمَةِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالتَّعْرِيفِ وَالرِّسَالَةِ قَوْلُ عَدْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَيُقْبَلُ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ بِاسْتِفَاضَةٍ وَمُقْتَضَى تَعْلِيلِ الْقَاضِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْمُزَكِّي هُوَ عَدْلٌ لَكِنْ لَيْسَ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ مُطْلَقًا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عَدُوَّ الْمُعَدِّلِ، وَشَهَادَةُ الْعَدُوِّ لِعَدُوِّهِ مَقْبُولَةٌ فَوُجُودُ الْعَدَاوَةِ لَا يَمْنَعُ التَّزْكِيَةَ وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُزَكِّي وَإِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِمَّا يَعْلَمُهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَطْ مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ الْوَرَثَةُ أَوْ الْوَصِيُّ عَلَى غَرِيمٍ لِلْمَيِّتِ فَيُزَكِّي قَضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَعْلَمُهُ الْمُدَّعِي كَالدَّعْوَى عَلَى وَرَثَةِ مَيِّتٍ حَقًّا عَلَيْهِ يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ وَطَلَبَ مِنْ الْمُدَّعِي الْيَمِينَ عَلَى الْبَتَاتِ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ يَأْخُذْ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَدَّعِي الْعِلْمَ أَوْ طَلَبَ مِنْ الْمَطْلُوبِ الْيَمِينَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ فَهُنَا يُتَوَجَّهُ الْقَوْلَانِ. وَالْقَوْلُ بِالرَّدِّ أَرْجَحُ وَأَصْلُهُ أَنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى جِهَةِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ الْمُتَجَاحِدَيْنِ وَلَوْ وَصَّى لِطِفْلَةٍ صَغِيرَةٍ تَحْتَ نَظَرِ أَبِيهَا بِمَبْلَغٍ دُونَ الثُّلُثِ وَتُوُفِّيَتْ الْمُوصِيَةُ وَقُتِلَ وَالِدُ الطِّفْلَةِ فَيُحْكَمُ لِلطِّفْلَةِ بِمَا يَثْبُتُ لَهَا فِي الْوَصِيَّةِ وَلَا يَحْلِفُ وَالِدُهَا وَلَا يُوقَفُ الْحُكْمُ إلَى بُلُوغِهَا وَحَلِفِهَا بِلَا نِزَاعٍ بَلْ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا لَوْ ثَبَتَ لِلصَّبِيِّ أَوْ الْمَجْنُونِ حَقٌّ عَلَى غَائِبٍ بِمَا لَوْ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ بَالِغًا عَاقِلًا لَحَلَفَ عَلَى عَدَمِ الْإِبْرَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ يُحْكَمُ بِهِ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَلَا يَحْلِفُ وَلِيُّهُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ. وَلَمْ يَذْكُرْ الْعُلَمَاءُ تَحْلِيفَ الْبَالِغِ الْمُوصَى لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَإِنَّمَا أَخَذَ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فِي الرَّجُلِ يُقِيمُ الشُّهُودَ أَيَسْتَقِيمُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقُولَ: احْلِفْ فَقَالَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ وَيُقِيمُ ذَلِكَ قَالَ: إنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ فِي رَجُلٍ جَاءَ بِشُهُودٍ عَلَى حَقٍّ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اسْتَحْلِفْهُ لَمْ يَلْزَمْ الْمُدَّعِي الْيَمِينُ فَحَمَلَ الْقَاضِي الرِّوَايَةَ الْأُولَى عَلَى مَا إذَا لَوْ ادَّعَى عَلَى صَبِيٍّ أَوْ

مَجْنُونٍ أَوْ غَائِبٍ وَالثَّانِيَةَ عَلَى مَا إذَا ادَّعَى عَلَى غَيْرِهِ. وَحَمَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ الرِّوَايَةَ الْأُولَى عَلَى أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إذَا أَرَادَ مَصْلَحَةً لِظُهُورِ رِيبَةٍ فِي الشُّهُودِ لِأَنَّهُ يَجِبُ مُطْلَقًا، وَالثَّانِيَةَ لَا يَجِبُ مُطْلَقًا فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، كَمَا قُلْنَا فِي تَفْرِيقِ الشُّهُودِ بَيْنَ أَيْنَ وَحَتَّى وَكَيْفَ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ عِنْدَ الرِّيبَةِ وَلَا يَجِبُ فِعْلُهُ فِي كُلِّ شَهَادَةٍ، وَكَذَلِكَ تَغْلِيظُ الْيَمِينِ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْعَلَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ. اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَا لَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِمَا يَرَى الْمَحْكُومُ لَهُ تَحْرِيمَهُ فَهَلْ يُبَاحُ بِالْحُكْمِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ الْإِمَامِ مَا يَرَى أَنَّهُ حَرَامٌ وَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ فَعَلَ مَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ لَكِنْ لَوْ كَانَ الطَّالِبُ غَيْرَهُ أَوْ ابْتَدَأَ الْإِمَامُ بِحُكْمِهِ أَوْ قَسْمِهِ فَهُنَا يُتَوَجَّهُ الْقَوْلُ بِالْحِلِّ قَالَ أَصْحَابُنَا، وَلَا يَنْقُضُ الْحَاكِمُ حُكْمَ نَفْسِهِ وَلَا غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يُخَالِفَ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: يُفَرَّقُ فِي هَذَا بِمَا إذَا اسْتَوْفَى الْمَحْكُومُ لَهُ الْحَقَّ الَّذِي ثَبَتَ لَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ لَمْ يَسْتَوْفِ فَإِنْ اسْتَوْفَى فَلَا كَلَامَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ فَاَلَّذِي يَنْبَغِي نَقْضُ حُكْمِ نَفْسِهِ وَالْإِشَارَةُ عَلَى غَيْرِهِ بِالنَّقْضِ وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ فِيمَا لَهُ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ فِيمَا عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إذَا كَانَ جَارًا اسْتَحَقَّ شُفْعَةَ الْجِوَارِ وَإِذَا كَانَ مُشْتَرِيًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شُفْعَةُ الْجِوَارِ وَالْقَضِيَّةُ الْوَاحِدَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى أَشْخَاصٍ أَوْ أَعْيَانٍ فَهَلْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى شَخْصٍ أَوْ لَهُ بِخِلَافِ مَا حَكَمَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ لِشَخْصٍ آخَرَ أَوْ عَلَيْهِ أَوْ عَيَّنَ مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ فِي مَسْأَلَةِ الْحِمَارِيَّةِ بَعْضَ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ فَيَقْضِي لَهُ بِالتَّشْرِيكِ ثُمَّ يُدَّعَى عِنْدَهُ فَيَقْضِي عَلَيْهِ بِنَفْيِ التَّشْرِيكِ أَوْ يَكُونَ حَاكِمٌ غَيْرُهُ قَدْ حَكَمَ بِنَفْيِ التَّشْرِيكِ لِشَخْصٍ أَوْ عَلَيْهِ فَيَحْكُمُ هُوَ بِخِلَافِهِ فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَوْ الْحُكْمَ عَلَيْهِ حُكْمٌ عَلَيْهِ وَلَهُ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ لَكِنْ هُنَاكَ يُتَوَجَّهُ أَنْ يَبْقَى حَقُّ الْغَائِبِ فِيمَا طَرِيقُهُ الثُّبُوتُ لِتَمْلِيكِهِ مِنْ قَدْحِ الشُّهُودِ وَمُعَارَضَتِهِ. أَمَّا إذَا كَانَ طَرِيقُهُ الْفِقْهَ الْمَحْضَ فَهُنَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَصْمِ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ ثُمَّ لَوْ تَدَاعَيَا فِي عَيْنٍ مِنْ الْمِيرَاثِ فَهَلْ يَقُولُ أَحَدٌ إنَّ الْحُكْمَ بِاسْتِحْقَاقِ عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ لَا يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ الْأُخْرَى مَعَ اتِّخَاذِ حُكْمِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ هَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ

يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَّةَ اخْتَلَفَتْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ قَائِلٌ يَقُولُ يَسْتَحِقُّ جَمِيعُ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ جَمِيعَ التَّرِكَةِ، وَقَائِلٌ يَقُولُ لَا حَقَّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ فِي وَقْتَيْنِ أَوْ حَاكِمَانِ بِاسْتِحْقَاقِ الْبَعْضِ أَوْ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِلْبَعْضِ لَكَانَ قَدْ حَكَمَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ وَهَذَا قَدْ يَفْعَلُهُ بَعْضُ قُضَاةِ زَمَانِنَا لَكِنْ هُوَ ظَنِينٌ فِي عِلْمِهِ وَدِينِهِ بَلْ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ تَوْلِيَتُهُ الْقَضَاءَ وَيُشْبِهُ هَذَا طَبَقَاتُ الْوَقْفِ أَوْ أَزْمِنَةُ الطَّبَقَةِ فَإِذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِأَنَّ هَذَا الشَّخْصَ مُسْتَحِقٌّ لِهَذَا الْمَكَانِ مِنْ الْوَقْفِ وَمُسْتَحِقٌّ السَّاعَةَ بِمُقْتَضَى شَرْطٍ شَامِلٍ لِجَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ فَهُوَ كَالْمِيرَاثِ. وَأَمَّا إنْ حَكَمَ بِاسْتِحْقَاقِ تِلْكَ الطَّبَقَةِ فَهَلْ يَحْكُمُ لِلطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ إذَا اقْتَضَى الشَّرْطَ لَهُمَا، وَأَخْذُ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ تَلَقِّيَ كُلِّ طَبَقَةٍ مِنْ الْوَاقِفِ فِي زَمَنِ حُدُوثِهَا شَبِيهٌ بِمَا لَوْ مَاتَ عَتِيقُ شَخْصٍ فَحَكَمَ حَاكِمٌ بِمِيرَاثِهِ الْمَالَ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ طَبَقَةٍ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ تَسْتَحِقُّ مَا حَدَثَ لَهَا مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ يَسْتَحِقُّ مَا حَدَثَ لَهَا مِنْ الْوَقْفِ عِنْدَ وُجُودِهَا مَعَ أَنَّ كُلَّ عَصَبَةٍ تَسْتَحِقُّ مِيرَاثَ الْمُعْتَقِينَ عِنْدَ مَوْتِهِمْ وَالْأَشْبَهُ بِالْمَسْأَلَتَيْنِ مَا لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ فِي عَتِيقٍ بِأَنَّ مِيرَاثَهُ لِلْأَكْبَرِ ثُمَّ تُوُفِّيَ ابْنُ ذَلِكَ الْعَتِيقِ الَّذِي كَانَ مَحْجُوبًا عَنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ فَهَلْ لِحَاكِمٍ آخَرَ أَنْ يَحْكُمَ بِمِيرَاثِهِ لِغَيْرِ الْأَكْبَرِ هَذَا يُتَوَجَّهُ هُنَا وَفِي الْوَقْفِ مِمَّا يَتَرَتَّبُ الِاسْتِحْقَاقُ فِيهِ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَقَعُ مُشْتَرَكًا فِي الزَّمَانِ. نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي الْكَافِي عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ أَنَّ الشُّهُودَ إذَا بَانُوا بَعْدَ الْحُكْمِ كَافِرِينَ أَوْ فَاسِقِينَ وَكَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ إتْلَافًا فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِمْ دُونَ الْمُزَكِّينَ، وَالْحَاكِمُ قَالَ لِأَنَّهُمْ فَوَّتُوا الْحَقَّ عَلَى مُسْتَحِقِّهِ بِشَهَادَتِهِمْ الْبَاطِلَةِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: هَذَا يُبْنَى عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ الصَّادِقَ إذَا كَانَ فَاسِقًا أَوْ مُتَّهَمًا بِحَيْثُ لَا يَحِلُّ لِلْحَاكِمِ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ إنْ جَازَ لَهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ بَطَلَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ كَانَ مُتَوَجِّهًا لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ حِينَئِذٍ فِعْلُ مُحَرَّمٍ وَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ كَالْقَاذِفِ الصَّادِقِ. وَإِذَا جَوَّزْنَا لِلْفَاسِقِ أَنْ يَشْهَدَ جَوَّزْنَا لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَسْتَشْهِدَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَيَكْتُمَ فِسْقَهُ وَإِلَّا فَلَا وَعَلَى هَذَا فَلَوْ امْتَنَعَ الشَّاهِدُ الصَّادِقُ الْعَدْلُ أَنْ يُؤَدِّيَ الشَّهَادَةَ إلَّا بِجُعْلٍ هَلْ يَجُوزُ إعْطَاؤُهُ الْجُعْلَ إنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ فِسْقًا فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا قَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ وَعَنْهُ لَا يُنْتَقَضُ الْحُكْمُ إذَا كَانَا فَاسِقَيْنِ وَيَغْرَمُ الشَّاهِدَانِ الْمَالَ لِأَنَّهُمَا سَبَبُ الْحُكْمِ بِشَهَادَةٍ ظَاهِرُهَا اللُّزُومُ.

قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ أَبِي الْخَطَّابِ وَلَا فَرْقَ إلَّا فِي تَسْمِيَتِهِ ضَمَانَهُمَا نَقْضًا وَهَذَا لَا أَثَرَ لَهُ لَكِنْ أَبُو الْخَطَّابِ يَقُولُهُ فِي الْفَاسِقِ وَغَيْرِ الْفَاسِقِ عَلَى مَا حُكِيَ عَنْهُ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَتَوَجَّهُ عَلَى أَصْلِنَا إذَا قُلْنَا: الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ لَا يَنْقُضُ وَكَانَ جَرْحُ الْبَيِّنَةِ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ اجْتِهَادٌ فَلَا يُنْتَقَضُ بِهِ اجْتِهَادٌ وَرِوَايَةُ عَدَمِ النَّقْضِ أَخَذَهَا الْقَاضِي مِنْ رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلَيْنِ شَهِدَا هَهُنَا أَنَّهُمَا دَفَنَا فُلَانًا بِالْبَصْرَةِ فَقُسِمَ مِيرَاثُهُ ثُمَّ إنَّ الرَّجُلَ جَاءَ بَعْدُ وَقَدْ تَلِفَ مَالُهُ قَدْ بَيَّنَ لِلْحَاكِمِ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى زُورٍ أَيُضَمِّنُهُمَا مَالَهُ قَالَ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَنْقُضْ الْحُكْمَ لِأَنَّهُ لَمْ يُغَرِّمْ الْوَرَثَةَ قِيمَةَ مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ الْمَالِ بَلْ أَغْرَمَ الشَّاهِدَيْنِ وَلَوْ نَقَضَهُ لَأَغْرَمَ الْوَرَثَةَ وَرَجَعُوا بِذَلِكَ عَلَى الشُّهُودِ لِأَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ يُضَمِّنُهُمَا يَعْنِي الْوَرَثَةَ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: النَّقْضُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا خِلَافَ فِيهِ فَإِنَّ تَبَيُّنَ كَذِبِ الشَّاهِدِ غَيْرُ تَبَيُّنِ فِسْقِهِ فَقَوْلُ أَحْمَدَ إمَّا أَنْ يَكُونَ ضَمَانًا فِي الْجُمْلَةِ كَسَائِرِ الْمُتَسَبِّبِينَ أَوْ يَكُونَ اسْتِقْرَارًا كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ النُّصُوصِ مِنْ أَنَّ الْمَعْذُورَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَوْ زَكَّى الشُّهُودَ ثُمَّ ظَهَرَ فِسْقُهُمْ ضَمِنَ الْمُزَكُّونَ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْوِلَايَةِ لَوْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُوَلِّيَ قَاضِيًا أَوْ وَالِيًا لَا يَعْرِفُهُ فَسَأَلَ عَنْهُ فَزَكَّاهُ أَقْوَامٌ وَوَصَفُوهُ بِمَا يَصْلُحُ مَعَهُ لِلْوِلَايَةِ ثُمَّ رَجَعُوا أَوْ ظَهَرَ بُطْلَانُ تَزْكِيَتِهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنُوا مَا أَفْسَدَهُ الْوَالِي وَالْقَاضِي. وَكَذَلِكَ لَوْ أَشَارُوا عَلَيْهِ وَأَمَرُوا بِوِلَايَتِهِ لَكِنَّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي ضَمَانِهِ مَنْ تُعْهَدُ الْمَعْصِيَةُ مِنْهُ مِثْلُ الْخِيَانَةِ أَوْ الْعَجْزِ وَيُخْبِرُ عَنْهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ أَوْ يَأْمُرُ بِوِلَايَتِهِ أَوْ يَكُونُ لَا يَعْلَمُ وَيُزَكِّيه أَوْ يُشِيرُ لَهُ فَأَمَّا إنْ اعْتَقَدَ صَلَاحَهُ وَأَخْطَأَ فَهَذَا مَعْذُورٌ وَالسَّبَبُ لَيْسَ مُحَرَّمًا وَعَلَى هَذَا فَالْمُزَكِّي لِلْعَامِلِ مِنْ الْمُقْتَرِضِ وَالْمُشْتَرِي وَالْوَكِيلِ كَذَلِكَ. وَإِخْبَارُ الْحَاكِمِ أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ إخْبَارِهِ أَنَّهُ حَكَمَ بِهِ أَمَّا إنْ قَالَ شَهِدَ عِنْدِي فُلَانٌ أَوْ أَقَرَّ عِنْدِي فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ سَوَاءٌ فَإِنَّهُ فِي الْأَوَّلِ تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: " ثَبَتَ عِنْدِي " الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةَ وَالْعَدَالَةَ وَالْإِقْرَارَ وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْحُكْمِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: شَهِدَ عِنْدِي أَوْ أَقَرَّ عِنْدِي فَإِنَّمَا يَقْتَضِي الدَّعْوَى وَخَبَرُهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ كَخَبَرِهِ فِي غَيْرِهِ زَمَنَ وِلَايَتِهِ وَنَظِيرُ إخْبَارِ الْقَاضِي بَعْدَ قَوْلِهِ إخْبَارُ أَمِيرِ الْغَزْوِ أَوْ الْجِهَادِ بَعْدَ عَزْلِهِ بِمَا فَعَلَهُ. وَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ إنْسَانٍ حَقٌّ وَمَنَعَهُ إيَّاهُ جَازَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ إذَا كَانَ

سَبَبُ الْحَقِّ ظَاهِرًا لَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتٍ مِثْلُ اسْتِحْقَاقِ الْمَرْأَةِ النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا وَاسْتِحْقَاقِ الْأَقَارِبِ النَّفَقَةَ عَلَى أَقَارِبِهِمْ وَاسْتِحْقَاقِ الضَّيْفِ الضِّيَافَةَ عَلَى مَنْ نَزَلَ بِهِ وَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْحَقِّ خَفِيًّا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتٍ لَمْ يَجُزْ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ الْمَنْصُوصَةُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَهِيَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ.

كتاب القاضي إلى القاضي

[كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي] وَيُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ فِي الْحُدُودِ وَقَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْقِصَاصِ، وَالْمَحْكُومُ إذَا كَانَ عَيْنًا فِي بَلَدِ الْحَاكِمِ فَإِنَّهُ يُسَلِّمُهُ إلَى الْمُدَّعِي وَلَا حَاجَةَ إلَى كِتَابٍ وَأَمَّا إنْ كَانَ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا فِي بَلَدٍ أُخْرَى فَهُنَا يَقِفُ عَلَى الْكِتَابِ وَهَهُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ مُتَدَاخِلَاتٍ مَسْأَلَةُ إحْضَارِ الْخَصْمِ إذَا كَانَ غَائِبًا وَمَسْأَلَةُ الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ وَمَسْأَلَةُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَلَوْ قِيلَ: إنَّمَا نَحْكُمُ عَلَى الْغَائِبِ إذَا كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ حَاضِرًا لِأَنَّ فِيهِ فَائِدَةً وَهِيَ تَسْلِيمُهُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ غَائِبًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُكَاتِبَ الْحَاكِمَ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ شَهَادَةِ الشُّهُودِ حَتَّى يَكُونَ الْحُكْمُ فِي بَلَدِ التَّسْلِيمِ لَكَانَ مُتَوَجِّهًا وَهَلْ يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي بِالثُّبُوتِ أَوْ الْحُكْمِ مِنْ حَاكِمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ أَنَّ حَاكِمًا نَافِذَ الْحُكْمِ حَكَمَ بِكَذَا وَكَذَا. الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُكَاتَبُ مَعْرُوفًا لِأَنَّ مُرَاسَلَةَ الْحَاكِمِ وَمُكَاتَبَتَهُ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ لِلْفُرُوعِ وَهَذَا لَا يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ وَالشَّهَادَاتِ وَإِنْ قُبِلَ فِي الْفَتَاوَى وَالْإِخْبَارَاتِ. وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ " الْمُحَرَّرِ ": مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي مِنْ أَنَّ الْخَصْمَيْنِ إذَا أُقِرَّ بِحُكْمِ حَاكِمٍ عَلَيْهِمَا خُيِّرَ الثَّانِي بَيْنَ الْإِمْضَاءِ وَالِاسْتِئْنَافِ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْخَصْمِ شَهِدَ عَلَيَّ شَاهِدَانِ ذَوَيْ عَدْلٍ فَهُنَا قَدْ يُقَالُ بِالتَّخْيِيرِ أَيْضًا وَمَنْ عُرِفَ خَطُّهُ بِإِقْرَارِهِ أَوْ إنْشَاءٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ شَهَادَةٍ عُمِلَ بِهِ كَالْمَيِّتِ، فَإِنْ حَضَرَ وَأَنْكَرَ مَضْمُونَهُ فَكَاعْتِرَافِهِ بِالصَّوْتِ وَإِنْكَارِ مَضْمُونِهِ وَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَكْتُبَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا ثَبَتَ بَرَاءَتُهُ مَحْضَرًا بِذَلِكَ إنْ تَضَرَّرَ بِتَرْكِهِ وَلِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ أَنْ يُطَالِبَ الْحَاكِمَ عَلَيْهِ بِتَسْمِيَةِ الْبَيِّنَةِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْقَدْحِ فِيهَا بِاتِّفَاقٍ.

باب القسمة

[بَابُ الْقِسْمَةِ] ِ وَمَا لَا يُمْكِنُ قِسْمَةُ عَيْنِهِ إذَا طَلَبَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ بَيْعَهُ بِيعَ وَقُسِمَ ثَمَنُهُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ وَذَكَرَهُ الْأَكْثَرُونَ مِنْ الْأَصْحَابِ فَيُقَالُ عَلَى هَذَا إذَا وَقَفَ قِسْطًا مَشَاعًا مِمَّا لَا يُمْكِنُ قِسْمَةُ عَيْنِهِ فَأَنْتُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إمَّا بَيْعُ النَّصِيبِ الْمَوْقُوفِ وَإِمَّا إبْقَاءُ شَرِكَةٍ لَازِمَةٍ وَجَوَابُهُ إمَّا الْفَرْقُ أَوْ إمَّا الِالْتِزَامُ أَمَّا الْفَرْقُ فَيُقَالُ الْوَقْفُ مَنَعَ مِنْ نَقْلِ الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ فَلَا ضَرَرَ فِي شَرِكَةِ عَيْنِهِ وَأَمَّا الشَّرِكَةُ فِي الْمَنَافِعِ فَيَزُولُ بِالْمُحَابَاةِ أَوْ الْمُؤَاجَرَةِ عَلَيْهِمَا، وَالِالْتِزَامُ أَنْ يَجُوزَ مِثْلُ هَذَا أَوْ جَعَلَ الْوَقْفَ مُفْرِزًا تَقْدِيمًا لِحَقِّ الشَّرِيكِ كَمَا لَوْ طَلَبَ قِسْمَةَ الْعَيْنِ وَأَمْكَنَ فَإِنَّا نُقَدِّمُ حَقَّ الْإِقْرَارِ عَلَى حَقِّ الْوَقْفِ وَمَنْ قَالَ هَذَا فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقُولَ: بِقَسْمِ الْوَقْفِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْقِسْمَةُ بَيْعُ ضَرُورَةٍ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى بَيْعِ الشَّائِعَةِ فِي الْوَقْفِ وَالِاعْتِيَاضِ عَنْهَا وَمَنْ تَأَمَّلَ الضَّرَرَ النَّاشِئَ مِنْ الِاشْتِرَاكِ فِي الْأَمْوَالِ الْمَوْقُوفَةِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ هَذَا وَلَوْ طَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْإِجَارَةَ أُجْبِرَ الْآخَرُ مَعَهُ ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ فِي الْوَقْفِ. وَلَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمْ الْعُلُوَّ لَمْ يَجِبْ بَلْ يُكْرِي عَلَيْهِمَا عَلَى مَذْهَبِ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِذَا أَوْجَبْنَا عَلَى الشَّرِيكِ أَنْ يُؤَاجِرَ مَعَ صَاحِبِهِ فَأَجَّرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ بِدُونِ إذْنِ شَرِيكِهِ مُدَّةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِقَّ أَكْثَرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَالْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ إذَا كَانَتْ أَكْثَرَ فَالْمُسْتَأْجِرُ رَضِيَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا، وَعَلَى قِيَاسِ ذَلِكَ كُلُّ مَنْ اكْتَرَى مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَيَلْزَمُ إجَابَةُ مَنْ طَلَبَ الْمُحَابَاةَ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَفْسَخَ حَتَّى يَنْقَضِيَ الدَّوْرُ وَيَسْتَوْفِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقَّهُ مِنْهُ وَلَوْ اسْتَوْفَى أَحَدُهُمَا نَوْبَتَهُ ثُمَّ تَلِفَتْ الْمَنَافِعُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْأَوَّلِ بِبَدَلِ حِصَّتِهِ مِنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي اسْتَوْفَاهَا مَا لَمْ يَكُنْ قَدْ رَضِيَ بِمَنْفَعَةِ الرَّهْنِ الْمُتَأَخِّرِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَأَنْ جَعَلَا التَّالِفَ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالتَّالِفِ فِي الْإِجَارَةِ وَسَوَاءٌ قُلْنَا: الْقِسْمَةُ إفْرَازٌ أَوْ بَيْعٌ فَإِنَّ الْمُعَادَلَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِيهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ فَلِهَذَا يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الْبَيْعِ وَالتَّدْلِيسِ. وَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَشْجَارٌ فِيهَا الثَّمَرَةُ أَوْ أَغْنَامٌ فِيهَا اللَّبَنُ أَوْ الصُّوفُ فَهُوَ كَاقْتِسَامِ الْمَاءِ الْحَادِثِ وَالْمَنَافِعِ الْحَادِثَةِ وَجِمَاعُ ذَلِكَ انْقِسَامُ الْمَعْدُومِ لَكِنْ لَوْ نَقَصَ الْحَادِثُ

الْمُعْتَادُ فَلِلْآخَرِ الْفَسْخُ قَالَ الْقَاضِي رَأَيْت فِي تَعْلِيقِ أَبِي حَفْصٍ الْعُكْبَرِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ فِي قَوْمٍ بَيْنَهُمْ كُرُومٌ فِيهَا ثَمَرَةٌ لَمْ تَبْلُغْ مِثْلَيْ الْحِصْرِمِ فَأَرَادُوا قِسْمَتَهَا فَقَالَ لَا تَجُوزُ قِسْمَتُهَا وَفِيهَا غَلَّةٌ لَمْ تُقْلَعْ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا بِالْقِيمَةِ الْقِسْمَةُ كَالْبَيْعِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَذَلِكَ لَا تَجُوزُ قِسْمَتُهُ قَالَ وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهَا بَيْعٌ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: هَذَا مِنْ ابْنِ بَطَّةَ يَقْتَضِي أَنَّ بَيْعَ الشَّجَرِ الَّذِي عَلَيْهِ ثَمَرَةٌ لَمْ تَبْلُغْ لَا يَصِحُّ لِتَضَمُّنِهِ بَيْعَ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ مِنْ الْمَذْهَبِ وَخِلَافُ قَوْلِهِ مَنْ بَاعَ ثَمَرَةً قَدْ أَبْرَأَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّ الْحِصْرِمَ إذَا بَلَغَ جَازَتْ الْقِسْمَةُ مَعَ أَنَّهَا إنَّمَا تُقْسَمُ خَرْصًا كَأَنَّهُ بَيْعُ شَاةٍ ذَاتِ لَبَنٍ بِشَاةٍ ذَاتِ لَبَنٍ وَعَلَى قِيَاسِهِ يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ نَخْلَةٍ ذَاتٍ رُطَبٍ بِنَخْلَةٍ ذَاتِ رُطَبٍ لِأَنَّ الرِّبَوِيَّ تَابِعٌ وَإِذَا طَلَبَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ الْقِسْمَةَ فِيمَا يُقْسَمُ لَزِمَ الْحَاكِمَ إجَابَتُهُ وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ أَنَّهُ مِلْكُهُ كَبَيْعِ الْمَرْهُونِ وَالْجَانِي وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي بَيْعِ مَا لَا يَنْقَسِمُ وَقُسِمَ ثَمَنُهُ أَمْ فِيمَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ أَنَّهُ مِلْكُهُ وَمَا لَا يَثْبُتُ كَجَمِيعِ الْأَمْوَالِ الَّتِي تُبَاعُ وَإِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَوْ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَزَعَمَتْ أَنَّهَا خِلْفَةٌ لَا وَلِيَّ لَهَا هَلْ يُزَوِّجُهَا بِلَا بَيِّنَةٍ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ فِيمَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِسَهْمٍ مِنْ ضَيْعَةٍ بِيَدِ قَوْمٍ بُعْدًا مِنْهُ تُقْسَمُ عَلَيْهِمْ وَيُدْفَعُ إلَيْهِ حَقُّهُ فَقَدْ أَمَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الْحَاكِمَ أَنْ يَقْسِمَ عَلَى الْغَائِبِ إذَا طَلَبَ الْحَاضِرُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مِلْكُ الْغَائِبِ. وَالْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ الْمُتَسَاوِيَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إذَا قُسِمَتْ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى قُرْعَةٍ، نَعَمْ الِابْتِدَاءُ بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ لِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِالْقُرْعَةِ ثُمَّ إذَا خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لِصَاحِبِ الْأَكْثَرِ فَهَلْ يُوَفَّى جَمِيعَ حَقِّهِ أَوْ بِقَدْرِ نَصِيبِ الْأَقَلِّ. الْأَوْجَهُ أَنْ يُوَفَّى الْجَمِيعَ كَمَا يُوَفَّى مِثْلُهُ فِي الْعَقَارِ بَيْنَ أَنْصِبَائِهِ لِأَنَّ عَلَيْهِ فِي التَّفْرِيقِ ضَرَرًا وَحَقُّهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ الْحُكُومَاتِ فَإِنَّ الْخَصْمَ لَا يَقْدَمُ إلَّا بِوَاحِدَةٍ لِعَدَمِ ارْتِبَاطِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ نَعَمْ إنْ تَعَدَّدَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقٍ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ وَرِثَ ثُلُثَ صُبْرَةٍ وَابْتَاعَ ثُلُثَهَا فَهُنَا يُتَوَجَّهُ وَجْهَانِ وَإِذَا تَهَايَأَ فَلَّاحُو الْقَرْيَةِ الْأَرْضَ وَزَرَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حِصَّتَهُ فَالزَّرْعُ لَهُ؛ وَلِرَبِّ الْأَرْضِ نَصِيبُهُ إلَّا مَنْ نَزَلَ مِنْ نَصِيبِ مَالِكٍ فَلَهُ أَخْذُ أُجْرَةِ الْفَضِيلَةِ أَوْ

باب الدعاوى

مُقَاسَمَتُهَا وَأُجْرَةُ وَكِيلِ الْقُرَى وَالْأَمِينِ لِحِفْظِ الزَّرْعِ عَلَى الْمَالِكِ وَالْفَلَّاحِ كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ فَإِذَا أَخَذُوا مِنْ الْفَلَّاحِ بِقَدْرِهَا عَلَيْهِ أَوْ مَا يَسْتَحِقُّهُ الضَّيْفُ حَلَّ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ الْوَكِيلُ لِنَفْسِهِ إلَّا قَدْرَ أُجْرَةِ عَمَلِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَالزِّيَادَةُ يَأْخُذُهَا الْمُقْطِعُ، فَالْمُقْطِعُ هُوَ الَّذِي ظَلَمَ الْفَلَّاحِينَ، وَالْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لَا تُقْسَمُ عَيْنُهُ اتِّفَاقًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الدَّعَاوَى] وَيَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ فِسْقِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَعَدَالَتِهِ فَلَيْسَ كُلُّ مُدَّعًى عَلَيْهِ يُرْضَى مِنْهُ بِالْيَمِينِ وَلَا كُلُّ مُدَّعٍ يُطَالَبُ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّ الْمُدَّعَى بِهِ إذَا كَانَ كَبِيرَةً وَالْمَطْلُوبُ لَا تُعْلَمُ عَدَالَتُهُ فَمَنْ اسْتَحَلَّ أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يَسْرِقَ اسْتَحَلَّ أَنْ يَحْلِفَ لَا سِيَّمَا عِنْدَ خَوْفِ الْقَتْلِ أَوْ الْقَطْعِ وَيُرَجَّحُ بِالْيَدِ الْعُرْفِيَّةِ إذَا اسْتَوَيَا فِي الْخَشْيَةِ أَوْ عَدَمِهَا وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ بِيَدِ أَحَدِهِمَا فَمِنْ شَاهِدِ الْحَالِ مَعَهُ كَانَ ذَلِكَ لَوْنًا فَيَحْكُمُ لَهُ بِيَمِينِهِ قَالَ الْأَصْحَابُ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَى أَوْ اتَّهَبَ مِنْ زَيْدٍ عَبْدَهُ وَادَّعَى آخَرُ وَكَذَلِكَ أَوْ ادَّعَى الْعَبْدُ الْعِتْقَ وَأَقَامَ بَيِّنَتَيْنِ بِذَلِكَ صَحَّحْنَا أَسْبَقَ التَّصَرُّفَيْنِ إنْ عُلِمَ التَّارِيخُ وَإِلَّا تَعَارَضَتَا فَيَتَسَاقَطَانِ أَوْ يَقْتَسِمُ أَوْ يَقْرَعُ عَلَى الْخِلَافِ وَعَنْ أَحْمَدَ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْعِتْقِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: الْأَصْوَبُ أَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ لَمْ يَتَعَارَضَا فَإِنَّهُ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَقَعَ الْعَقْدَانِ لَكِنْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ زَوَّجَ الْوَلِيَّانِ الْمَرْأَةَ وَجُهِلَ السَّابِقُ فَإِمَّا أَنْ يُقْرَعَ أَوْ يَبْطُلَ الْعَقْدَانِ بِحُكْمٍ أَوْ بِغَيْرِ حُكْمٍ وَلَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّ الْوَلِيَّ أَجَّرَ حِصَّتَهُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا، وَبَيِّنَةٌ بِنِصْفِهَا أَخَذَ بِأَعْلَى الْبَيِّنَتَيْنِ وَقَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ صَبِيٍّ أَلْفًا وَشَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ الصَّبِيِّ أَلْفًا لَزِمَ الْوَلِيُّ أَنْ يُطَالِبَهُمَا بِالْأَلْفَيْنِ إلَّا أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى أَلْفٍ بِعَيْنِهَا فَيَطْلُبُ الْوَلِيُّ أَلْفًا مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: الْوَاجِبُ أَنْ يُقْرَعَ هُنَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُ كُلٍّ مِنْهُمَا مُضَمَّنًا نَقَلَ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ فِي عَبْدٍ شَهِدَ لَهُ رَجُلَانِ بِأَنَّ مَوْلَاهُ بَاعَهُ نَفْسَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ لِمَوْلَاهُ رَجُلٌ آخَرُ أَنَّهُ بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ يُعْتِقُ الْعَبْدَ وَيَحْلِفُ لِمَوْلَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَبِعْهُ إلَّا بِأَلْفٍ قَالَ الْقَاضِي فَقَدْ نَصَّ عَلَى الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي قَدْرِ الْعِوَضِ الَّذِي وَقَعَ الْعِتْقُ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: بَلْ اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَتَكَرَّرُ فَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ

يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ الْأَكْبَرِ لِاخْتِلَافِهِمَا كَمَا لَا يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ بِالْقِيمَةِ الْكَثِيرَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَمِنْ تَغْلِيظِ الْيَمِينِ بِالْمَكَانِ عِنْدَ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ بَلْ السُّنَّةُ أَنْ تُغَلَّظَ الْيَمِينُ فِيهَا كَمَا تُغَلَّظَ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ. وَالتَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَاللَّفْظِ لَا يُسْتَحَبُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي الْبَرَكَاتِ وَيُسْتَحَبُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ مُطْلَقًا وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ التَّغْلِيظُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَلَنَا قَوْلٌ ثَالِثٌ يُسْتَحَبُّ إذَا رَآهُ الْحَاكِمُ مَصْلَحَةً . وَمَتَى قُلْنَا التَّغْلِيظُ مُسْتَحَبٌّ إذَا رَآهُ الْحَاكِمُ مَصْلَحَةً فَيَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْهُ الْخَصْمُ صَارَ نَاكِلًا وَلَا يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ وِفَاقًا

كتاب الشهادات

[كِتَابُ الشَّهَادَاتِ] ِ الشَّهَادَةُ سَبَبٌ مُوجِبٍ لِلْحَقِّ وَحَيْثُ امْتَنَعَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ امْتَنَعَتْ كِتَابَتُهَا فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ وَالشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيَّ وَيَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَتَحَمُّلِهَا وَلَوْ تَعَيَّنَتْ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَيَحْرُمُ كَتْمُهَا وَيُقْدَحُ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ بِيَدِ إنْسَانٍ شَيْءٌ لَا يَسْتَحِقُّهُ وَلَا يَصِلُ إلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهُ بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يَلْزَمْ أَدَاؤُهَا وَإِنْ وَصَلَ إلَى مُسْتَحِقِّهِ بِشَهَادَتِهِمْ لَزِمَ أَدَاؤُهَا، وَتَعَيُّنُ الشُّهُودِ مُتَأَوَّلٌ مُجْتَهَدٌ وَالطَّلَبُ الْعُرْفِيُّ أَوْ الْحَالُ فِي طَلَبِ الشَّهَادَةِ كَاللَّفْظِيِّ عَلِمَهَا الْمَشْهُودُ لَهُ أَوْ لَا وَهُوَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ وَخَبَرُ: - يَشْهَدُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ - مَحْمُولٌ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ وَإِذَا أَدَّى الْآدَمِيُّ شَهَادَةً قَبْلَ الطَّلَبِ قَامَ بِالْوَاجِبِ أَفْضَلَ كَمَنْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ أَدَّاهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالْمَسْأَلَةُ تُشْبِهُ الْخِلَافَ فِي الْحُكْمِ قَبْلَ الطَّلَبِ. وَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الشَّاهِدِ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ فَيَدَّعِي إلَى الْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ إلَى مُحَرَّمٍ فَلَا يُسَوَّغُ لَهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ وِفَاقًا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُظْهِرَ قَوْلًا يُرِيدَ بِهِ مَصْلَحَةً عَظِيمَةً. وَيَشْهَدُ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَلَوْ عَنْ وَاحِدٍ تَسْكُنُ نَفْسُهُ إلَيْهِ، اخْتَارَهُ الْجَدُّ. قَالَ الْقَاضِي لَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ لِمَجْهُولٍ وَلَا بِمَجْهُولٍ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ بَلْ تَصِحُّ الشَّهَادَةُ بِالْمَجْهُولِ وَيُقْضَى لَهُ بِالْمُتَيَقَّنِ وَلِلْمَجْهُولِ يَصِحُّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ أَمَّا حَيْثُ يَقَعُ الْحَقُّ مَجْهُولًا فَلَا رَيْبَ فِيهَا كَمَا لَوْ شَهِدَ بِالْوَصِيَّةِ بِمَجْهُولٍ أَوْ لِمَجْهُولٍ أَوْ شَهِدَ بِاللُّقَطَةِ أَوْ اللَّقِيطِ. وَالْمَجْهُولُ نَوْعَانِ مُبْهَمٌ كَأَحَدِ هَذَيْنِ وَمُطْلَقٌ كَبُعْدٍ وَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالصَّدَاقِ كَمَا قُلْنَا فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ وَالْمُطْلَقِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَقَدْ سُئِلْت عَنْ بَيِّنَةٍ شَهِدَتْ بِوَقْفٍ مِنْ دَارٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ دُورٍ ثُمَّ تَهَدَّمَتْ وَصَارَتْ عَرْصَةً فَلَمْ تُعْرَفْ عَيْنُ تِلْكَ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا السَّهْمُ وَلَا عَدَدُ الدُّورِ

فَقُلْت يُحْتَمَلُ أَنْ يُقْرَعَ قُرْعَتَيْنِ: قُرْعَةٌ لِعَدَدِ الدُّورِ وَقُرْعَةٌ لِتَعْيِينِ ذَاتِ السَّهْمِ وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ حَقٍّ اخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ وَجَهِلْنَا الْقَدْرَ فَيَقْرَعُ لِلْقَدْرِ فَيَكْتُبُ رِقَاعًا بِأَسْمَاءِ الْعَدَدِ أُخْرِجَ لِعَدَدِ الْحَقِّ الْفُلَانِيِّ. وَالشَّاهِدُ يَشْهَدُ بِمَا يَسْمَعُ وَإِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ تُعَيِّنُ مَا دَخَلَ فِي اللَّفْظِ قُبِلَتْ. وَيُتَوَجَّهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالدَّيْنِ لَا تُقْبَلُ إلَّا مُفَسِّرَةً لِلنَّسَبِ وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ زَيْدًا يَسْتَحِقُّ مِنْ مِيرَاثِ مُوَرِّثِهِ قَدْرًا مُعَيَّنًا أَوْ مِنْ وَقْفِ كَذَا وَكَذَا جُزْءًا مُعَيَّنًا أَوْ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنْهُ نَصِيبَ فُلَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَكُلُّ هَذَا لَا تُقْبَلُ فِيهِ الشَّهَادَةُ إلَّا مَعَ إثْبَاتِ النَّسَبِ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ فِي الْمِيرَاثِ وَالْوَقْفِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يُدْرَكُ بِالْيَقِينِ تَارَةً وَبِالِاجْتِهَادِ أُخْرَى فَلَا تُقْبَلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ سَبَبُ الِانْتِقَالِ بِأَنْ يَشْهَدَا بِشَرْطِ الْوَاقِفِ وَبِمَنْ بَقِيَ مِنْ الْمُسْتَحِقِّينَ أَوْ يَشْهَدَا بِمَوْتِ الْمُوَرِّثِ وَبِمَنْ خَلَفَ مِنْ الْوَرَثَةِ وَحِينَئِذٍ فَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ أَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ يُفِيدُ الِانْتِقَالَ حَكَمَ بِهِ وَإِلَّا رُدَّتْ الشَّهَادَةُ وَقَبُولُ مِثْلِ هَذِهِ الشَّهَادَاتِ يُوجِبُ أَنْ تَشْهَدَ الشُّهُودُ بِكُلِّ حُكْمٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ أَوْ اتَّفَقَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحُكَّامِ الْحُكْمُ بِذَلِكَ فَتَصِيرُ مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ مَشْهُودًا بِهَا حَتَّى لَوْ قَالَ الشَّاهِدُ فِي مَسْأَلَةِ الْحِمَارِيَّةِ أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا يَسْتَحِقُّ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ التَّشْرِيكَ يَتَعَيَّنُ أَنْ تُرَدَّ مِثْلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ الْمُطْلَقَةُ. وقَوْله تَعَالَى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] يَقْتَضِي أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مَنْ رَضُوهُ شَهِيدًا بَيْنَهُمْ وَلَا يُنْظَرُ إلَى عَدَالَتِهِ كَمَا يَكُونُ مَقْبُولًا عَلَيْهِمْ فِيمَا ائْتَمَنُوهُ عَلَيْهِ. وقَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ الْوَصِيَّةِ {الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ} [المائدة: 106] أَيْ صَاحِبَا عَدْلٍ، الْعَدْلُ فِي الْمَقَالِ هُوَ الصِّدْقُ وَالْبَيَانُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْكَذِبِ وَالْكِتْمَانِ كَمَا بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] وَالْعَدْلُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَطَائِفَةٍ بِحَسَبِهَا فَيَكُونُ الشَّاهِدُ فِي كُلِّ قَوْمٍ مَنْ كَانَ ذَا عَدْلٍ فِيهِمْ وَإِنْ كَانَ لَوْ كَانَ فِي غَيْرِهِمْ لَكَانَ عَدْلُهُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ. وَبِهَذَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ وَإِلَّا فَلَوْ اُعْتُبِرَ فِي شُهُودِ كُلِّ طَائِفَةٍ أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِمْ إلَّا مَنْ يَكُونُ قَائِمًا بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ لَبَطَلَتْ الشَّهَادَاتُ كُلُّهَا أَوْ غَالِبُهَا. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إذَا فُسِّرَ الْفَاسِقُ فِي الشَّهَادَةِ بِالْفَاجِرِ وَبِالْمُتَّهَمِ

فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ حَالِ الضَّرُورَةِ وَعَدَمِهَا كَمَا قُلْنَا فِي الْكُفَّارِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فِي مَوْضِعٍ وَيُتَوَجَّهُ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْمَعْرُوفِينَ بِالصِّدْقِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُلْتَزِمِينَ لِلْحُدُودِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ مِثْلُ الْحَبْسِ، وَحَوَادِثِ الْبَدْوِ، وَأَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ لَا يُوجَدُ فِيهِمْ عَدْلٌ. وَلَهُ أُصُولٌ مِنْهَا: قَبُولُ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْوَصِيَّةِ وَشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ وَشَهَادَةُ الصِّبْيَانِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِالْمُحْتَضَرِ فِي السَّفَرِ إذَا حَضَرَهُ اثْنَانِ كَافِرَانِ وَاثْنَانِ مُسْلِمَانِ يُصَدَّقَانِ وَلَيْسَا بِمُلَازِمَيْنِ لِلْحُدُودِ أَوْ اثْنَانِ مُبْتَدِعَانِ فَهَذَانِ خَيْرٌ مِنْ الْكَافِرَيْنِ وَالشُّرُوطُ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ إنَّمَا هِيَ فِي اسْتِشْهَادِ التَّحَمُّلِ لَا الْأَدَاءِ وَيَنْبَغِي أَنْ نَقُولَ فِي الشُّهُودِ مَا نَقُولُ فِي الْمُحَدِّثِينَ وَهُوَ أَنَّهُ مِنْ الشُّهُودِ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي نَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ أَوْ شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ كَمَا أَنَّ الْمُحَدِّثِينَ كَذَلِكَ. وَنَبَأُ الْفَاسِقِ لَيْسَ بِمَرْدُودٍ بَلْ هُوَ مُوجِبٌ لِلتَّبَيُّنِ عِنْدَ خَبَرِ الْفَاسِقِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِهِ عِنْدَ خَبَرِ الْفَاسِقِينَ وَذَلِكَ أَنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ يُوجِبُ مِنْ الِاعْتِقَادِ مَا لَا يُوجِبُهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ. أَمَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُمَا لَمْ يَتَوَاطَآ فَهَذَا قَدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ وَتُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِالْكِذْبَةِ الْوَاحِدَةِ وَإِنْ لَمْ نَقُلْ هِيَ كَبِيرَةٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَمَنْ شَهِدَ عَلَى إقْرَارِ شَرْعِيَّةٍ قَدَحَ ذَلِكَ فِي عَدَالَتِهِ وَلَا يَسْتَرِيبُ أَحْمَد فِيمَنْ صَلَّى مُحْدِثًا أَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ أَوْ بَعْدَ الْوَقْتِ أَوْ بِلَا قِرَاءَةٍ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ. وَيَحْرُمُ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَمَا لَوْ كَانَ بِعِوَضٍ أَوْ تَضَمَّنَ تَرْكَ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلَ مُحَرَّمٍ إجْمَاعًا وَهُوَ شَرٌّ مِنْ النَّرْدِ وَقَالَهُ مَالِكٌ. وَمِنْ تَرَكَ الْجَمَاعَةَ فَلَيْسَ عَدْلًا وَلَوْ قُلْنَا هِيَ سُنَّةٌ. وَتَحْرُمُ مُحَاكَاةُ النَّاسِ الْمُضْحِكَةِ وَيُعَزَّرُ هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِهِ لِأَنَّهُ أَذًى وَمَنْ دَخَلَ قَاعَاتِ الْعِلَاجِ فَتَحَ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ الشَّرِّ وَصَارَ مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ عِنْدَ النَّاسِ لِأَنَّهُ اشْتَهَرَ عَمَّنْ اعْتَادَ دُخُولَهَا وُقُوعُهُ فِي مُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ أَوْ فِيهِ، وَالْعِشْرَةُ الْمُحَرَّمَةُ وَالنَّفَقَةُ فِي غَيْرِ الطَّاعَةِ وَعَلَى كَافِرٍ وَالْأَمْرَدُ مُنِعَ مِنْهَا وَمِنْ عِشْرَةِ أَهْلِهَا وَلَوْ بِمُجَرَّدِ خَوْفِ وُقُوعِ الصَّغَائِرِ فَقَدْ بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا يَجْتَمِعُ إلَيْهِ الْأَحْدَاثُ فَنَهَى عَنْ الِاجْتِمَاعِ بِهِ بِمُجَرَّدِ الرِّيبَةِ.

وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَلَا تُعْتَبَرُ عَدَالَتُهُمْ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُحَلِّفْهُمْ بِسَبَبِ حَقٍّ لِلَّهِ وَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِخِلَافِ آيَةِ الْوِصَايَةِ لِنَقْضِ حُكْمِهِ فَإِنَّهُ خَالَفَ نَصَّ الْكِتَابِ بِتَأْوِيلَاتِ سُمْعَةٍ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ أَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا كَانُوا فِي سَفَرٍ لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهُمْ هَذِهِ ضَرُورَةٌ يَقْتَضِي هَذَا التَّعْلِيلُ قَبُولَهَا فِي كُلِّ ضَرُورَةٍ حَضَرًا وَسَفَرًا وَصِيَّةً وَغَيْرَهَا وَهُوَ مِنْحَةٌ كَمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ إذَا اجْتَمَعْنَ فِي الْعُرْسِ وَالْحَمَّامِ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ وَنَقَلَ ابْنُ صَدَقَةَ فِي الرَّجُلِ يُوصِي بِأَشْيَاءَ لِأَقَارِبِهِ وَيَعْتِقُ وَلَا يَحْضُرُهُ إلَّا النِّسَاءُ هَلْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ فِي الْحُقُوقِ. وَالصَّحِيحُ قَبُولُ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الرَّجْعِيَّةِ فَإِنَّ حُضُورَهُنَّ عِنْدَهُ أَيْسَرُ مِنْ حُضُورِهِنَّ عِنْدَ كِتَابَةِ الْوَثَائِقِ وَعَنْ أَحْمَدَ فِي شَهَادَةِ الْكُفَّارِ فِي كُلِّ مَوْضِعِ ضَرُورَةٍ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ رِوَايَتَانِ لَكِنَّ التَّحْلِيفَ هُنَا لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَا تَحْلِيفَ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يُحَلِّفُونَ حَيْثُ تَكُونُ شَهَادَتُهُمْ بَدَلًا فِي التَّحْمِيلِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا أُصُولًا قَدْ عَلِمُوا مِنْ غَيْرِ تَحْمِيلٍ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَوْ قِيلَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَدِمَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ لَكَانَ وَجْهًا وَتَكُونُ شَهَادَتُهُمْ بَدَلًا مُطْلَقًا وَإِذَا قَبِلْنَا شَهَادَةَ الْكُفَّارِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ فَلَا يُعْتَبَرُ كَوْنُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ قِيلَ إنَّهُمْ يَحْلِفُونَ مَعَ شَهَادَتِهِمْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَمَا يَحْلِفُونَ فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي وَصِيَّةِ السَّفَرِ لَكَانَ مُتَوَجَّهًا وَشَهَادَةُ الْوَصِيِّ عَلَى الْمَيِّتِ مَقْبُولَةٌ قَالَ فِي " الْمُغْنِي ": لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: إلَّا أَنْ يُقَالَ قَدْ يَسْتَفِيدُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ نَوْعَ وِلَايَةٍ فِي تَسْلِيمِ الْمَالِ وَمِثْلُهُ شَهَادَةُ الْمُودَعِ أَوْدَعَنِيهَا فُلَانٌ وَمَالِكُهَا فُلَانٌ وَالْوَاجِبُ فِي الْعَدُوِّ أَوْ الصَّدِيقِ وَنَحْوِهِمَا أَنَّهُ إنْ عَلِمَ مِنْهُمَا الْعَدَالَةَ الْحَقِيقِيَّةَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَأَمَّا إنْ كَانَتْ عَدَالَتُهُمَا ظَاهِرَةً مَعَ إمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الْبَاطِنُ بِخِلَافِهِ لَمْ تُقْبَلْ وَيُتَوَجَّهُ مِثْلُ هَذَا فِي الْأَبِ وَنَحْوِهِ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَدْوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَبِلَ

فصل شهادة الأخرس

مُطْلَقًا أَوْ مَنَعَ مُطْلَقًا وَعَلَّلَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مَنْعَ شَهَادَةِ الْبَدْوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ أَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْقَرَوِيَّ إنَّمَا يَشْهَدُ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ دُونَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فَإِذَا كَانَ الْبَدْوِيُّ قَاطِنًا مَعَ الْمُدَّعِيَيْنِ فِي الْقَرْيَةِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لِزَوَالِ هَذَا الْمَعْنَى فَيَكُونُ قَوْلًا آخَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ مُفَصَّلًا. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: فِي قَوْمٍ أَجَّرُوا شَيْئًا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُمْ وُكَلَاءُ أَوْ أَوْلِيَاءُ وَتُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ فِي الشَّهَادَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَالشَّهَادَةُ فِي مَصْرِفِ الْوَقْفِ مَقْبُولَةٌ وَإِنْ كَانَ مُسْتَنَدُهَا الِاسْتِفَاضَةَ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ [فَصْلٌ شَهَادَة الْأَخْرَس] فَصْلٌ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ مَنْ كَانَ أَخْرَسَ فَهُوَ أَصَمُّ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ قِيلَ لَهُ فَإِنْ كَتَبَهَا قَالَ لَمْ يَبْلُغُنِي فِي هَذَا شَيْءٌ وَاخْتَارَ الْجَدُّ قَبُولَ الْكِتَابَةِ وَمَنَعَهَا أَبُو بَكْرٍ وَقَوْلُ أَحْمَدَ فَهُوَ أَصَمُّ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِعَدَمِ سَمْعِهِ فَهَذَا مُنْتَفٍ فِيمَا رَآهُ قَالَ الْأَصْحَابُ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى فِي الْمَسْمُوعَاتِ وَفِي مَا رَآهُ قَبْلَ عَمَاهُ إذَا عَرَفَ الْفَاعِلَ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ إلَّا بِعَيْنِهِ فَوَجْهَانِ. وَكَذَلِكَ الْوَجْهَانِ إذَا تَعَذَّرَ حُضُورُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ بِهِ لِمَوْتٍ أَوْ غَيْبَةٍ أَوْ حَبْسٍ يَشْهَدُ الْبَصِيرُ عَلَى حِلِّيَّتِهِ إذْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَعَذَّرَتْ الرُّؤْيَةُ مِنْ الشَّاهِدِ فَأَمَّا الشَّاهِدُ نَفْسُهُ هَلْ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ مَنْ رَآهُ وَكَتَبَ صِفَتَهُ أَوْ ضَبَطَهَا ثُمَّ رَأَى شَخْصًا بِتِلْكَ الصِّفَةِ هَذَا أَبْعَدُ وَهُوَ شَبِيهٌ بِخَطِّهِ إذَا رَآهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ. قَالَ الْقَاضِي فَإِنْ قَالَ الْأَعْمَى أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى هَذَا شَيْئًا وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ أَوْ شَهِدَ الْبَصِيرُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ وَلَمْ يَدْرِ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ لَمْ يَصِحَّ وَذِكْرُهُ مَحَلُّ وِفَاقٍ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ صَوْتَهُ صَحَّتْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ أَدَاءً كَمَا تَصِحُّ تَحَمُّلًا فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ حِينَ التَّحَمُّلِ وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا إذَا سَمَّاهُ وَنَسَبَهُ وَهُوَ لَا يُشْتَرَطُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَشَارَ إلَيْهِ لَا تُشْتَرَطُ رُؤْيَتُهُ وَعَلَى هَذَا فَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى عَلَى مَنْ سَمِعَ صَوْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ وَيُؤَدِّيهَا عَلَيْهِ إذَا سَمِعَ صَوْتَهُ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَفْظَةُ أَشْهَدُ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ أَحْمَدَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ أَقُولُ عَلَى أَنَّ الْعَشَرَةَ فِي الْجَنَّةِ، وَلَا أَشْهَدُ فَقَالَ أَحْمَدُ: مَتَى قُلْت، فَقَدْ شَهِدْت وَقَالَ ابْنُ هَانِئٍ لِأَحْمَدَ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالشَّهَادَةِ فِي أَنَّ الْعَشَرَةَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ لَا.

فصل الحكم بالشاهد في الأموال

وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَهَلْ مَعْنَى الْقَوْلِ وَالشَّهَادَةِ إلَّا وَاحِدٌ قَالَ أَبُو طَالِبٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعِلْمُ شَهَادَةٌ وَزَادَ أَبُو بَكْرِ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وَقَالَ وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا، وَقَالَ الْمَرْوَزِيِّ أَظُنُّ أَنِّي سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ هَذَا جَهْلٌ أَقُولُ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَشْهَدُ أَنَّهَا بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَلَا أَعْلَمُ نَصًّا يُخَالِفُ هَذَا وَلَا يُعْرَفُ عَنْ صَحَابِيٍّ وَلَا تَابِعِيٍّ اشْتِرَاطُ لَفْظِ الشَّهَادَةِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَأَنَّ الدَّيْنَ بَاقٍ فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ إلَى الْآنَ بَلْ يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ سَبْقُ الْحَقِّ إجْمَاعًا، وَيَعْرِضُ فِي الشَّهَادَةِ إذَا خَافَ الشَّاهِدُ مِنْ إظْهَارِ الْبَاطِنِ ظُلْمَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ التَّعْرِيضُ فِي الْحُكْمِ إذَا خَافَ الْحَاكِمُ مِنْ إظْهَارِ الْأَمْرِ وُقُوعَ الظُّلْمِ، وَكَذَلِكَ التَّعْرِيضُ فِي الْفَتْوَى، وَالرِّوَايَةُ كَالْيَمِينِ وَأَوْلَى إذْ الْيَمِينُ خَبَرٌ وَزِيَادَةٌ [فَصْلٌ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ فِي الْأَمْوَالِ] فَصْلٌ: قِصَّةُ أَبِي قَتَادَةَ وَخُزَيْمَةَ تَقْتَضِي الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ فِي الْأَمْوَالِ، وَقَالَ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ الْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مُتَّبَعٍ، كَمَا قَالَهُ الْمُخَالِفُ فِي الْهِلَالِ فِي الْغَيْمِ، وَفِي الْقَابِلَةِ عَلَى أَنَّا لَا نَعْرِفُ الرِّوَايَةَ بِمَنْعِ الْجَوَازِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَقَدْ يُقَالُ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ حَقٌّ لِلْمُسْتَحْلِفِ وَلِلْإِمَامِ فَلَهُ أَنْ يُسْقِطَهَا، وَهَذَا أَحْسَنُ وَيُعْتَبَرُ فِي شَهَادَةِ الْإِعْسَارِ بَعْدَ الْيَسَارِ ثَلَاثَةٌ وَفِي حِلِّ الْمَسْأَلَةِ، وَفِي دَفْعِ الْغُرَمَاءِ، وَكَلَامُ الْقَاضِي يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَوْ قِيلَ إنَّهُ يَحْكُمُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ فِي الْأَمْوَالِ لَكَانَ مُتَوَجِّهًا لِأَنَّهُمَا أُقِيمَا مُقَامَ الرَّجُلِ فِي التَّحَمُّلِ، وَتَثْبُتُ الْوَكَالَةُ وَلَوْ فِي الرَّضَاعِ فَإِنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ أَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمَرْأَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ فَنَهَاهُ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الرَّضَاعِ فَلَوْلَا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالشَّهَادَةِ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ مَا صَحَّتْ الْحُجَّةُ يُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ يُسَوِّغُ إلَى الْحَاكِمِ الثَّانِي أَنْ يُنَفِّذَهُ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِمَذْهَبِهِ.

وَشَاهِدُ الزُّورِ إذَا تَابَ بَعْدَ الْحُكْمِ فِيمَا لَا يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ فَهُنَا قَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ التَّعْزِيرُ، وَأَمَّا إذَا تَابَ قَبْلَ الْحُكْمِ أَوْ بَعْدَ الْحُكْمِ فِيمَا يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ فَهُنَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ ثُمَّ تَارَةً يَجِيءُ إلَى الْإِمَامِ تَائِبًا، فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ إذَا تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ وَتَارَةً يَتُوبُ بَعْدَ ظُهُورِ تَزْوِيرِهِ فَهُنَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ التَّعْزِيرُ، وَمَنْ شَهِدَ بَعْدَ الْحُكْمِ شَهَادَةً تُنَافِي شَهَادَتَهُ الْأُولَى فَكَرُجُوعِهِ عَنْ الشَّهَادَةِ وَأَوْلَى. وَأَفْتَى أَبُو الْعَبَّاسِ فِي شَاهِدٍ قَاسَ بِكَذَا وَكَتَبَ خَطَّهُ بِالصِّحَّةِ فَاسْتَخْرَجَ الْوَكِيلُ عَلَى حُكْمِهِ ثُمَّ قَاسَ وَكَتَبَ خَطَّهُ بِزِيَادَةٍ فَغَرِمَ الْوَكِيلُ الزِّيَادَةَ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: يَغْرَمُ الشَّاهِدُ مَا غَرِمَهُ الْوَكِيلُ مِنْ الزِّيَادَةِ بِسَبَبِهِ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ أَوْ أَخْطَأَ كَالرُّجُوعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

كتاب الإقرار

[كِتَابُ الْإِقْرَارِ] ِ وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمُخَبِّرَ إنْ خَبَّرَ بِمَا عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مُقِرٌّ، وَإِنْ أَخْبَرَ بِمَا عَلَى غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ فَهُوَ مُدَّعٍ، وَإِنْ أَخْبَرَ بِمَا عَلَى غَيْرِهِ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مُؤْتَمَنًا عَلَيْهِ فَهُوَ مُخَبِّرٌ وَإِلَّا فَهُوَ شَاهِدٌ فَالْقَاضِي وَالْوَكِيلُ وَالْمُكَاتَبُ وَالْوَصِيُّ وَالْمَأْذُونُ لَهُ كُلُّ هَؤُلَاءِ مَا أَدَّوْهُ مُؤْتَمَنُونَ فِيهِ فَأَخْبَارُهُمْ بَعْدَ الْعَزْلِ لَيْسَ إقْرَارًا، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ مَحْضٌ. وَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ بِبَلَدِ سُلْطَانٍ أَوْ قُطَّاعِ طَرِيقٍ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الظَّلَمَةِ فَخَافَ أَنْ يُؤْخَذَ مَالُهُ أَوْ الْمَالُ الَّذِي يَتْرُكُهُ لِوَرَثَتِهِ أَوْ الْمَالُ الَّذِي بِيَدِهِ لِلنَّاسِ، إمَّا بِحُجَّةِ أَنَّهُ مَيِّتٌ لَا وَارِثَ لَهُ أَوْ بِحُجَّةِ أَنَّهُ مَالُ غَائِبٍ أَوْ بِلَا حُجَّةٍ أَصْلًا فَيَجُوزُ لَهُ الْإِقْرَارُ بِمَا يَدْفَعُ هَذَا الظُّلْمَ وَيَحْفَظُ هَذَا الْمَالَ لِصَاحِبِهِ مِثْلُ أَنْ يُقِرَّ لِحَاضِرٍ أَنَّهُ ابْنُهُ أَوْ يُقِرَّ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ كَذَا وَكَذَا، أَوْ يُقِرَّ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي بِيَدِهِ لِفُلَانٍ، وَيَتَأَوَّلُ فِي إقْرَارِهِ بِأَنْ يَعْنِيَ بِقَوْلِهِ ابْنِي كَوْنَهُ صَغِيرًا أَوْ بِقَوْلِهِ أَخِي أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ. وَأَنَّ الْمَالَ الَّذِي بِيَدِهِ لَهُ أَيْ لَهُ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ لِكَوْنِي قَدْ وَكَّلْتُهُ فِي إيصَالِهِ أَيْضًا إلَى مُسْتَحِقِّهِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ لَهُ أَمِينًا وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ أَيْضًا أَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ مَلْجَؤُهُ تَفْسِيرُهُ كَذَا وَكَذَا وَإِنْ أَقَرَّ مَنْ شَكَّ فِي بُلُوغِهِ وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِلَا يَمِينٍ قَطَعَ بِهِ فِي الْمُغْنِي وَالْمُحَرَّرِ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَمْ يَبْلُغْ لَمْ يَضُرَّهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَ حَجَزْتُهُ فَأَقَرَّ بِالْحَقِّ. نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ إذَا قَالَ الْبَائِعُ بِعْتُكَ قَبْلَ أَنْ أَبْلُغَ وَقَالَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ بُلُوغِكَ إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، وَهَكَذَا يَجِيءُ فِي الْإِقْرَارِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ هَلْ وَقَعَتْ قَبْلَ الْبُلُوغِ أَوْ بَعْدَهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ الصِّحَّةُ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ هَذَا عَامٌّ، وَإِمَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَتَيَقَّنَ أَنَّهُ وَقْتَ التَّصَرُّفِ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ غَيْرَ مَحْكُومٍ

بِبُلُوغِهِ أَوْ لَا يَتَيَقَّنُ فَإِنَّا مَعَ تَيَقُّنِ الشَّكِّ قَدْ تَيَقَّنَّا صُدُورَ التَّصَرُّفِ مِمَّنْ لَمْ يُثْبِتْ أَهْلِيَّتَهُ وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا فَقَدْ شَكَكْنَا فِي شَرْطِ الصِّحَّةِ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ الصِّحَّةِ وَأَمَّا فِي الْحَالَةِ الْأُخْرَى فَإِنَّهُ يَجُوزُ صُدُورُهُ فِي حَالِ الْأَهْلِيَّةِ وَحَالِ عَدَمِهَا وَالظَّاهِرُ صُدُورُهُ وَقْتَ الْأَهْلِيَّةِ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ قَبْلَ وَقْتِهَا، فَالْأَهْلِيَّةُ هُنَا مُتَيَقَّنٌ وُجُودُهَا. ثُمَّ ذَكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِالْبُلُوغِ حَتَّى تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مِثْلُ إسْلَامِهِ بِإِسْلَامِ أَبِيهِ وَثُبُوتُ الذِّمَّةِ تَبَعًا لِأَبِيهِ أَوْ بَعْدَ تَصَرُّفِ الْوَلِيِّ لَهُ أَوْ تَزْوِيجِ وَلِيٍّ أَبْعَدَ مِنْهُ لِمُوَلِّيَتِهِ فَهَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى الْبُلُوغِ حِينَئِذٍ أَمْ لَا لِثُبُوتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ فِي الظَّاهِرِ قَبْلَ دَعْوَاهُ. وَأَشَارَ أَبُو الْعَبَّاسِ إلَى تَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا رَاجَعَ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجُهَا، فَقَالَتْ: قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَشَبِيهٌ أَيْضًا بِمَا ادَّعَى الْمَجْهُولُ الْمَحْكُومُ بِإِسْلَامِهِ ظَاهِرًا كَاللَّقِيطِ الْكُفْرَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَإِنَّهُ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَصَرَّفَ الْمَحْكُومُ بِحُرِّيَّتِهِ ظَاهِرًا كَاللَّقِيطِ ثُمَّ ادَّعَى الرِّقَّ فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ لِوَارِثٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ إقْرَارُهُ لِوَارِثٍ كَالشَّهَادَةِ فَتُرَدَّ فِي حَقِّ مَنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لَهُ كَالْأَبِ بِخِلَافِ مَنْ لَا تُرَدُّ ثُمَّ هَذَا هَلْ يَحْلِفُ الْمُقَرُّ لَهُ مَعَهُ كَالشَّاهِدِ وَهَلْ يُعْتَبَرُ عَدَالَةُ الْمُقِرِّ؛ ثَلَاثُ احْتِمَالَاتٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرِّقَ مُطْلَقًا بَيْنَ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْعَدْلَ مَعَهُ مِنْ الدِّينِ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْكَذِبِ وَنَحْوِهِ فِي بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ بِخِلَافِ الْفَاجِرِ وَلَوْ حَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ مَعَ هَذَا تَأَكَّدَ فَإِنَّ فِي قَبُولِ الْإِقْرَارِ مُطْلَقًا فَسَادًا عَظِيمًا. وَكَذَلِكَ فِي رَدِّهِ مُطْلَقًا وَيُتَوَجَّهُ فِيمَنْ أَقَرَّ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ كَإِقْرَارِ الْعَبْدِ بِجِنَايَةِ الْخَطَإِ وَإِقْرَارِ الْقَاتِلِ بِجِنَايَةِ الْخَطَإِ أَنْ يَجْعَلَ الْمُقِرَّ كَشَاهِدٍ وَيَحْلِفَ مَعَهُ الْمُدَّعِي فِيمَا ثَبَتَ شَاهِدٌ آخَرُ كَمَا قُلْنَا فِي إقْرَارِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ بِالنَّسَبِ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ يَنْبَنِي عَلَى ثُبُوتِ مَالِ السَّيِّدِ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ ابْتِدَاءً وَدَوَامًا وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ فِي الصَّدَاقِ وَإِقْرَارُ سَيِّدِهِ لَهُ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا قِيلَ يَمْلِكُ هَلْ يَثْبُتُ لَهُ دَيْنٌ عَلَى سَيِّدِهِ قَالَ فِي " الْكَافِي ": وَإِنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِنِكَاحٍ أَوْ قِصَاصٍ أَوْ تَعْزِيرِ قَذْفٍ صَحَّ وَإِنْ كَذَّبَهُ الْوَلِيُّ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَهَذَا فِي النِّكَاحِ فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ بِدُونِ إذْنِ

سَيِّدِهِ لِأَنَّ فِي ثُبُوتِ نِكَاحِ الْعَبْدِ ضَرَرًا عَلَيْهِ فَلَا يُقْبَلُ إلَّا بِتَصْدِيقِ السَّيِّدِ. قَالَ وَإِنْ أَقَرَّ لِعَبْدِ غَيْرِهِ بِمَالٍ صَحَّ وَكَانَ لِسَيِّدِهِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَإِذَا قُلْنَا يَصِحُّ قَبُولُ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِدُونِ إذْنِ السَّيِّدِ لَمْ يَفْتَقِرْ الْإِقْرَارُ إلَى تَصْدِيقِ السَّيِّدِ، وَقَدْ يُقَالُ بَلْ وَإِنْ لَمْ تَقُلْ بِذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ يَمْلِكُ مُبَاحًا فَأَقَرَّ بِعَيْنِهِ أَوْ تَلَفِهِ وَتُضْمَنُ قِيمَتُهُ. وَإِذَا حَجَرَ الْمَوْلَى عَلَى الْمَأْذُونِ لَهُ فَأَقَرَّ بَعْدَ الْحَجْرِ قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ لَا يُقْبَلُ وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ تَتَبَعَّضُ، وَمَتَى ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرُّ لَهُ مِنْ الْمُقِرِّ ثُمَّ رَجَعَ الْمُقِرُّ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ هَلْ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ؛ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي الْكَافِي. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: إنْ جَعَلَ النَّسَبَ فِيهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَالْجِزْيَةِ وَإِنْ جَعَلَ حَقَّ آدَمِيٍّ فَهُوَ كَالْمَالِ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ حَقُّ الْآدَمِيِّ كَالْوَلَاءِ ثُمَّ إذَا قَبِلَ الرُّجُوعَ عَنْهُ فَحَقُّ الْأَقَارِبِ الثَّابِتِ مِنْ الْمَحْرَمِيَّةِ وَنَحْوِهَا هَلْ يَزُولُ أَوْ يَكُونُ كَالْإِقْرَارِ بِالرِّقِّ، تَرَدَّدَ نَظَرُ أَبِي الْعَبَّاسِ فِي ذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ ادَّعَى نَسَبًا، وَلَمْ يَثْبُتْ لِعَدَمِ تَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ أَوْ قَالَ أَنَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ وَانْتَسَبَ إلَى غَيْرِ مَعْرُوفٍ أَوْ قَالَ لَا أَبَ لِي أَوْ لَا نَسَبَ لِي ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ هَذَا نَسَبًا آخَرَ أَوْ ادَّعَى أَنَّ لَهُ أَبًا، لَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْحَابُ فِي بَابِ مَا عُلِّقَ مِنْ النَّسَبِ أَنَّ الْأَبَ إذَا اعْتَرَفَ بِالِابْنِ بَعْدَ نَفْيِهِ قُبِلَ مِنْهُ فَكَذَلِكَ غَيْرُهُ لِأَنَّ هَذَا النَّفْيَ وَالْإِقْرَارَ بِمَحَلٍّ وَمُنْكَرٍ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ نَسَبٌ فَيَكُونُ إقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَقْبُولًا كَمَا قُلْنَا فِيمَا إذَا أَقَرَّ بِمَا لِمُكَذِّبٍ إذَا لَمْ يَجْعَلْهُ لِيُثْبِتَ الْمَالَ فَإِنَّهُ إذًا إذَا ادَّعَى الْمُقِرُّ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ مَلَكَهُ قُبِلَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ رِقَّ نَفْسِهِ فَهُوَ كَغَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ الْمُكَذَّبَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. وَهُنَاكَ عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ يَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ الضَّائِعِ أَوْ الْمَجْهُولِ فَيَحْكُمُ بِالْجِزْيَةِ وَبِالْمَالِ لِيُثْبِتَ الْمَالَ وَهُنَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَجْهُولٍ يُنْسَبُ فَيُقْبَلُ بِهِ الْإِقْرَارُ ثَانِيًا وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الدَّعْوَى مَقْبُولٌ، وَالرُّجُوعَ عَنْ الْإِقْرَارِ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَالْإِقْرَارُ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ اللَّهِ وَلَا الْآدَمِيِّ هُوَ مِنْ بَابِ الدَّعَاوَى فَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَمَنْ أَقَرَّ بِطِفْلٍ لَهُ أُمٌّ فَجَاءَتْ أُمُّهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ تَدَّعِي زَوْجِيَّتَهُ فَالْأَشْبَهُ بِكَلَامِ أَحْمَدَ ثُبُوتُ الزَّوْجِيَّةِ فَهُنَا حُمِلَ عَلَى الصِّحَّةِ وَخَالَفَ الْأَصْحَابُ فِي ذَلِكَ وَمَنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ ثَمَنٍ أَوْ

غَيْرِهِ ثُمَّ أَنْكَرَ وَقَالَ مَا قَبَضْتُ وَسَأَلَ خِلَافَ خَصْمِهِ فَلَهُ ذَلِكَ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ كَوْنُ الْمُقَرِّ بِهِ بِيَدِ الْمُقِرِّ. وَالْإِقْرَارُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ كَقَوْلِهِ (قَالُوا أَقْرَرْنَا) وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ وَأَرَادَ إنْشَاءَ تَمْلِيكِهِ صَحَّ. وَمَنْ أَنْكَرَ زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ فَأَبْرَأَتْهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا كَانَ لَهَا طَلَبُهَا بِحَقِّهَا وَمَنْ أَقَرَّ وَهُوَ مَجْهُولٌ نَسَبُهُ وَلَا وَارِثَ حَيٌّ أَخٌ أَوْ عَمٌّ فَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ وَأَمْكَنَ قُبِلَ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى أَوْ لَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَذِكْرُهُ الْحِلَّ تَخْرِيجًا وَكُلُّ صِلَةُ كَلَامٍ مُغَيِّرَةٌ لَهُ اسْتِثْنَاءٌ وَغَيْرُ الْمُتَقَارِبِ فِيهَا مُتَوَاصِلٌ وَالْإِقْرَارُ مَعَ الِاسْتِدْرَاكِ مُتَوَاصِلٌ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ وَلَوْ قَالَ فِي الطَّلَاقِ إنَّهُ سَبَقَ لِسَانُهُ لَكَانَ كَذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْبَلَ الْإِقْرَارُ الْمُتَّصِلُ وَمَنْ أَقَرَّ بِمِلْكٍ ثُمَّ ادَّعَى شِرَاءَهُ قُبِلَ إقْرَارُهُ وَلَا يُقْبَلُ مَا يُنَاقِضُ إقْرَارَهُ إلَّا مَعَ شُبْهَةٍ مُعْتَادَةٍ وَلَوْ أَبَانَ زَوْجَتَهُ فِي مَرَضِهِ فَأَقَرَّ وَارِثٌ شَافِعِيٌّ أَنَّهُ وَارِثُهُ وَأَقْبَضَهَا وَوَرِثَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِالْخِلَافِ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَعْوَى مَا يُنَاقِضُهُ وَلَا يُسَوَّغُ الْحُكْمُ لَهُ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ فِيمَا إذَا قَالَ أَنَا مُقِرٌّ فِي جَوَابِ الدَّعْوَى أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا بِالْمُدَّعِي بِهِ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ مَا فِي الدَّعْوَى كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ قَبِلْتُ أَنَّ الْقَبُولَ يَنْصَرِفُ إلَى الْإِيجَابِ لَا إلَى شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ وَجْهٌ فِي الْمَذْهَبِ. وَأَمَّا إذَا قَالَ لَا أُنْكِرُ مَا تَدَّعِيهِ فَبَيْنَ الْإِنْكَارِ وَالْإِقْرَارِ مَرْتَبَةٌ وَهِيَ السُّكُوتُ وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ أَنَا لَا أُكَذِّبُ فُلَانًا لَمْ يَكُنْ مُصَدِّقًا لَهُ فَالْمُتَوَجِّهُ أَنَّهُ مُجَرَّدُ نَفْيِ الْإِنْكَارِ إنْ لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ قَرِينَةٌ بِأَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مِمَّا يَعْلَمُهُ الْمَطْلُوبُ وَقَدْ ادَّعَى عَلَيْهِ عِلْمَهُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا. حَكَى صَاحِبُ الْكَافِي عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ قَالَ فِيمَا إذَا قَالَ الْمُدَّعِي لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَضَيْتُكَ مِنْهَا مِائَةً إنَّهُ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ لِأَنَّ الْمِائَةَ قَدْ رَفَعَهَا بِقَوْلِهِ وَالْبَاقِي لَمْ يُقِرَّ بِهِ وَقَوْلُهُ مِنْهَا يَحْتَمِلُ مَا تَدَّعِيهِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: هَذَا يُخَرَّجُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي أَبْرَأْتُهَا وَأَخَذْتُهَا وَقَبَضْتُهَا أَنَّهُ مُقِرٌّ هُنَا بِالْأَلْفِ لِأَنَّ الْهَاءَ يَرْجِعُ إلَى الْمَذْكُورِ وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا بِالْمِائَةِ عَلَى رِوَايَةٍ فِي قَوْلِهِ كَانَ لَهُ عَلَيَّ وَقَضَيْته، ثُمَّ هَلْ يَكُونُ مُقِرًّا بِهَا وَحْدَهَا أَوْ الْجَمِيعَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَالصَّوَابُ فِي الْإِقْرَارِ الْمُعَلَّقِ بِشَرْطٍ أَنَّ نَفْسَ الْإِقْرَارِ لَا يَتَعَلَّقُ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ الْمُقَرُّ بِهِ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ قَدْ يَكُونُ مُعَلَّقًا بِسَبَبٍ قَدْ يُوجِبُهُ أَوْ يُوجِبُ أَدَاءَهُ دَلِيلٌ يُظْهِرُهُ فَالْأَوَّلُ كَمَا لَوْ قَالَ مُقِرًّا إذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَعَلَيَّ لِفُلَانٍ أَلْفٌ صَحَّ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ إنْ رَدَّ عَبْدَهُ الْآبِقَ فَلَهُ أَلْفٌ ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا فَقَالَ إنْ رَدَّ عَبْدَهُ الْآبِقَ فَلَهُ أَلْفٌ صَحَّ.

وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِعِوَضِ الْخُلْعِ لَوْ قَالَتْ إنْ طَلَّقَنِي أَوْ إنْ عَفَا عَنِّي فَلَهُ عِنْدِي أَلْفٌ. وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِالشَّهَادَةِ فَقَدْ يُشْبِهُ التَّحْكِيمَ. وَلَوْ قَالَ إنْ حَكَمْتَ عَلَيَّ بِكَذَا الْتَزَمْتُهُ لَزِمَهُ عِنْدَنَا فَلِذَلِكَ قَدْ يَرْضَى بِشَهَادَتِهِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الْتِزَامٌ وَتَزْكِيَةٌ لِلشَّاهِدِ وَرَضِيَ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ وَإِذَا أَقَرَّ الْعَامِّيُّ بِمَضْمُونٍ مَحْضٍ وَادَّعَى عَدَمَ الْعِلْمِ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ وَمِثْلُهُ يَجْهَلُهُ قُبِلَ مِنْهُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِذَا أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِعَيْنٍ لَهُ فِيهَا حَقٌّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِرِضَا الْمَالِكِ كَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ وَلَا بَيِّنَةَ قَالَ الْأَصْحَابُ يُقْبَلُ وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مَا تَضَمَّنَ مَا يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ فَمَا أَقَرَّ مَا يُوجِبُ التَّسْلِيمَ كَمَا فِي قَوْلِهِ كَانَ لَهُ عَلَيَّ وَقَضَيْتُهُ وَلِأَنَّا نُجَوِّزُ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِنْشَاءَاتِ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارَاتِ، وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فِي آيَةِ الدَّيْنِ وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِفِعْلٍ وَادَّعَى إذْنَ الْمَالِكِ وَالِاسْتِثْنَاءُ يَمْنَعُ دُخُولَ الْمُسْتَثْنَى فِي اللَّفْظِ لِأَنَّهُ يُخْرِجُهُ بَعْدَ مَا دَخَلَ فِي الْأَصَحِّ. قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ جَوَازُ اسْتِثْنَاءِ النِّصْفِ لِأَنَّ أَبَا مَنْصُورٍ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ إذَا قَالَ كَانَ لَك عِنْدِي مِائَةُ دِينَارٍ فَقَضَيْتُكَ مِنْهَا خَمْسِينَ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: لَيْسَ هَذَا مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ قَضَيْتُكَ سِتِّينَ مِثْلُ خَمْسِينَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا لَزِمَهُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَإِنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا لَزِمَهُ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَإِنْ قَالَ كَذَا دِرْهَمًا لَزِمَهُ عِشْرُونَ وَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَقْرَبُ مِمَّا قَالَهُ أَصْحَابُنَا فَإِنَّ أَصْحَابَنَا بَنَوْهُ عَلَى أَنَّ كَذَا وَكَذَا تَأْكِيدًا وَهُوَ خِلَافٌ لِأَنَّهُ يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ كَذَا دِرْهَمًا لَمَّا كَانَ فِي أَرَادَ دِرْهَمًا وَأَيْضًا لَوْ لَغَتْ الْعَرَبُ هُوَ خِلَافٌ لَا النَّصْبُ ثُمَّ يَقْتَضِي الرَّفْعَ لَهُمَا وَهَذَا مِثْلُ التَّرْجَمَةِ وَأَنَّ الدِّرْهَمَ الْمَعْرُوفَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ دِرْهَمٌ وَالْوَاجِبُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الَّذِي يَتَّصِلُ أَحَدُهُمَا بِالْأَرْضِ عَادَةً كَالْقِرَابِ فِي السَّيْفِ وَالْخَاتَمِ فِي الْفَصِّ لِأَنَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ بِهِمَا وَكَذَلِكَ الزَّيْتُ فِي الزَّقِّ وَالتَّمْرَةِ فِي الْجِرَابِ وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُهُ ثَوْبًا فِي مِنْدِيلٍ كَانَ إقْرَارًا بِهِمَا لَا لَهُ عِنْدِي ثَوْبٌ فِي مِنْدِيلٍ فَإِنَّهُ إقْرَارٌ بِالثَّوْبِ خَاصَّةً وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَإِذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ أَوْ مَا بَيْنَ الدِّرْهَمِ إلَى الْعَشَرَةِ فَلِهَذَا أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: يَلْزَمُهُ تِسْعَةٌ. وَثَانِيهَا: عَشَرَةٌ. وَثَالِثُهَا: ثَمَانِيَةٌ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ مِنْ الْأَعْدَادِ، فَإِذَا قَالَ مِنْ وَاحِدٍ إلَى عَشَرَةٍ لَزِمَهُ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ، إنْ أَدْخَلْنَا الطَّرَفَيْنِ وَخَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ إنْ أَدْخَلْنَا الْمُبْتَدَأَ فَقَطْ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ إنْ أَخْرَجْنَاهُمَا وَيُعْتَبَرُ فِي الْإِقْرَارِ عُرْفُ الْمُتَكَلِّمِ فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ كَلَامِهِ عَلَى أَقَلِّ مُحْتَمَلَاتِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

كتاب إقامة الدليل على إبطال التحليل

[كِتَابُ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى إبْطَالِ التَّحْلِيلِ] [نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ حَرَامٌ بَاطِلٌ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ] ِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ الْأَوْحَدُ، الْقُدْوَةُ الْعَارِفُ، الزَّاهِدُ الْعَابِدُ الْوَرِعُ، تَقِيُّ الدِّينِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُفْتِي الْأَنَامِ، صَدْرُ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، مَفْخَرُ أَهْلِ الشَّامِ بَقِيَّةُ السَّلَفِ الْكِرَامِ، نَاشِرُ السُّنَّةِ، قَامِعُ الْبِدْعَةِ، أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ، الْعَالِمُ مَجْمُوعُ الْفَضَائِلِ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو الْمَحَاسِنِ عَبْدُ الْحَلِيمِ بْنُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ، الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ تَقِيَّةُ الْأَمْصَارِ مَجْدُ الدِّينِ أَبِي الْبَرَكَاتِ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ تَيْمِيَّةِ الْحَرَّانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَضِيَ عَنْهُ آمِينَ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يُحْصِي الْخَلْقُ ثَنَاءً عَلَيْهِ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، لَا يَبْلُغُ الْعَارِفُونَ كُنْهَ مَعْرِفَتِهِ، وَلَا يُقَدِّرُ الْوَاصِفُونَ قَدْرَ صِفَتِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا تُشْكَرُ نِعْمَتُهُ إلَّا بِنِعْمَتِهِ، وَلَا تُنَالُ كَرَامَتُهُ إلَّا بِرَحْمَتِهِ. فَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ، وَالْبَاطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَيُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْمَلَ لَنَا دِينَنَا، وَأَتَمَّ عَلَيْنَا نِعْمَتَهُ وَرَضِيَ لَنَا الْإِسْلَامَ دِينًا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَيَّنَ لَنَا آيَاتِهِ وَنَهَانَا أَنْ نَتَّخِذَهَا هُزُوًا، وَأَمَرَنَا أَنْ نَذْكُرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْنَا مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُنَا بِهِ، وَأَنْ نَتَّقِيَهُ، وَأَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. فَإِنَّهُ مَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْأَوَامِرَ، وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ فِيهَا جِمَاعَ أَمْرِ الدِّينِ كُلِّهِ، وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِهِ وَلَا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَهَا هُزُوًا،

وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَنْ أَظْهَرَ خِلَافَ مَا فِي بَاطِنِهِ، فَإِنَّ السَّرَائِرَ لَدَيْهِ بَادِيَةٌ، وَالسِّرَّ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ، فَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرِيمِ وَجْهِهِ عَنْ جَلَالِهِ. أَحْمَدُهُ حَمْدًا مُوَافِيًا لِنِعَمِهِ، وَمُكَافِيًا لِمَزِيدِهِ، وَأَسْتَعِينُهُ اسْتِعَانَةَ مُخْلِصٍ فِي تَوَكُّلِهِ صَادِقٍ فِي تَوْحِيدِهِ، وَأَسْتَهْدِيهِ إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ صَفْوَةِ عَبِيدِهِ أَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ مَنْ يَعْلَمُ أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إلَّا إلَيْهِ فِي صُدُورِهِ وَوُرُودِهِ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةَ مُقِرٍّ بِأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدُ الْأَنَامِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - الصَّفْوَةِ الْكِرَامِ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَامًا بَاقِيًا بِبَقَاءِ دَارِ السَّلَامِ. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَهَدَى بِهِ أُمَّتَهُ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَلَمَّا كَانَ الْعَبْدُ فِي كُلِّ حَالٍ مُفْتَقِرًا إلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ فِي جَمِيعِ مَا يَأْتِيهِ وَيَذَرُهُ مِنْ أُمُورٍ قَدْ أَتَاهَا عَلَى غَيْرِ الْهِدَايَةِ، فَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا، وَأُمُورٍ هُدِيَ إلَى أَصْلِهَا دُونَ تَفْصِيلِهَا، أَوْ هُدِيَ إلَيْهَا مِنْ وَجْهٍ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى تَمَامِ الْهِدَايَةِ فِيهَا لِيَزْدَادَ هُدًى، وَأُمُورٍ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مِنْ الْهِدَايَةِ فِيهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِثْلُ مَا حَصَلَ لَهُ فِي الْمَاضِي، وَأُمُورٍ هُوَ خَالٍ عَنْ اعْتِقَادٍ فِيهَا فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْهِدَايَةِ فِيهَا، وَأُمُورٍ لَمْ يَفْعَلْهَا فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى فِعْلِهَا عَلَى وَجْهِ الْهِدَايَةِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَاجَاتِ، إلَى أَنْوَاعِ الْهِدَايَاتِ، فُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ هَذِهِ الْهِدَايَةَ فِي أَفْضَلِ أَحْوَالِهِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ النِّعْمَةِ مُغَايِرُونَ لِلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " الْيَهُودِ " وَالضَّالِّينَ " النَّصَارَى ". وَكَانَ الرَّسُولُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَذِّرُ أُمَّتَهُ سُلُوكَ سَبِيلِ أَهْلِ الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ، وَيَلْعَنُهُمْ تَحْذِيرًا لِلْأُمَّةِ عَلَى مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُحَالِ. وَيَنْهَى عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِي اسْتِحْلَالِ الْمَحَارِمِ بِالِاحْتِيَالِ لِعِلْمِهِ بِمَا أَوْقَعَ اللَّهُ بِهِمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ. وَلَمَّا انْتَهَى الْكَلَامُ بِنَا فِي مُدَارَسَةِ الْفِقْهِ إلَى مَسَائِلِ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ، وَبَيَّنَ مَا

كَانَ مُوَثِّرًا فِي الْعَقْدِ مُلْحِقًا لَهُ بِالسِّفَاحِ، وَجَرَى مِنْ الْكَلَامِ فِي مَسْأَلَتَيْ الْمُتْعَةِ وَالتَّحْلِيلِ مَا تَبَيَّنَ بِهِ حُكْمُهَا بِأَرْشَدِ دَلِيلٍ، وَظَهَرَتْ الْخَاصَّةُ الَّتِي اسْتَحَقَّ بِهَا الْمُحَلِّلُ لَعْنَةَ الرَّسُولِ وَلِمَا سَمَّاهُ مِنْ بَيْنِ الْأَزْوَاجِ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ، وَتَبَيَّنَتْ مَآخِذُ الْأَئِمَّةِ تَأْصِيلًا وَتَفْصِيلًا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِبْصَارِ، وَظَهَرَتْ الْمَدَارِكُ وَالْمَسَالِكُ أَثَرًا وَنَظَرًا حَتَّى أَشْرَقَ الْحَقُّ وَأَنَارَ، فَانْتَبَهَ مَنْ كَانَ غَافِلًا مِنْ رَقْدَتِهِ، وَشَكَا مَا بِالنَّاسِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى ظُهُورِ هَذَا الْحُكْمِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَلِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ الشَّنِيعَةِ، وَغَلَبَةِ الْجَهْلِ بِدَلَائِلِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَكْثَرِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى عِلْمِ الشَّرِيعَةِ، سَأَلَ أَنْ أُعَلِّقَ فِي ذَلِكَ مَا يَكُونُ تَبْصِرَةً لِلْمُسْتَرْشِدِ، وَحُجَّةً لِلْمُسْتَنْجِدِ، وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَهَوِّرِ وَالْمُتَلَدِّدِ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيَى مَنْ حَيِيَ عَنْ بَيِّنَةٍ. فَأَجَبْتُهُ إجَابَةَ الْمُتَحَرِّجِ مِنْ كِتْمَانِ الْعِلْمِ، الْمَسْئُول الْخَائِفِ مِنْ نَقْضِ الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ عَلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَخَلَفُوا الرَّسُولَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ نِيَّتِي أَنْ أَشْفَعَ الْكَلَامَ فِيهَا بِغَيْرِهَا مِنْ الْمَسَائِلِ بَلْ أَقْتَصِرَ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ حَقُّ السَّائِلِ. فَالْتَمَسَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ مُكَرِّرًا لِلِالْتِمَاسِ تَقْرِيرَ الْقَاعِدَةِ الَّتِي هِيَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَسَاسٌ، وَهِيَ: " بَيَانُ حُكْمِ الِاحْتِيَالِ عَلَى سُقُوطِ الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ " " وَحِلِّ الْعُقُودِ " " وَحِلِّ الْمُحَرَّمَاتِ " بِإِظْهَارِ صُورَةٍ لَيْسَ لَهَا حَقِيقَةٌ عِنْدَ الْمُحْتَالِ لَكِنْ جِنْسُهَا مَشْرُوعٌ لِمَنْ قَصَدَ بِهِ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ مِنْ غَيْرِ اعْتِلَالٍ، فَاعْتَذَرْتُ بِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُفَصَّلَ فِي هَذَا يَحْتَاجُ إلَى كِتَابٍ طَوِيلٍ. وَلَكِنْ سَأُدْرِجُ فِي ضِمْنِ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الْجُمَلِيِّ مَا يُوصِلُ إلَى مَعْرِفَةِ التَّفْصِيلِ، بِحَيْثُ يَتَبَيَّنُ لِلَّبِيبِ مَوْقِعُ الْحِيَلِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَمَتَى حَدَثَتْ، وَكَيْفَ كَانَ حَالُهَا عِنْدَ السَّلَفِ الْكِرَامِ، وَمَا بَلَغَنِي مِنْ الْحُجَّةِ لِمَنْ صَارَ إلَيْهَا مِنْ الْمُفْتِينَ، وَذِكْرُ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ فِيهَا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَذَلِكَ بِكَلَامٍ فِيهِ اخْتِصَارٌ؛ إذْ الْمَقَامُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِكْثَارَ. وَاَللَّهُ يُوَفِّقُنَا وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْقَوْلِ الْجَمِيلِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، وَيَنْفَعُنَا وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يَسْتَعْمِلُنَا بِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَيَجْعَلُهُ مُوَافِقًا لِشِرْعَتِهِ خَالِصًا لِوَجْهِهِ مُوصِلًا إلَى أَفْضَلِ حَالٍ، وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ حَرَامٌ بَاطِلٌ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ وَصُورَتُهُ: أَنَّ الرَّجُلَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَكَمَا جَاءَتْ بِهِ سُنَّةُ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ أُمَّتُهُ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ بِنِيَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِتَحِلَّ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ كَانَ هَذَا النِّكَاحُ حَرَامًا بَاطِلًا، سَوَاءٌ عَزَمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى إمْسَاكِهَا، أَوْ فَارَقَهَا، وَسَوَاءٌ شُرِطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، أَوْ شُرِطَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ، أَوْ لَمْ يُشْرَطْ عَلَيْهِ لَفْظًا بَلْ كَانَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْخِطْبَةِ وَحَالِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمَهْرِ نَازِلًا بَيْنَهُمْ مَنْزِلَةَ اللَّفْظِ بِالشُّرُوطِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا لِتَحِلَّ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْلَمَ الْمَرْأَةُ وَلَا وَلِيُّهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، سَوَاءٌ عَلِمَ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، مِثْلُ أَنْ يَظُنَّ الْمُحَلِّلُ أَنَّ هَذَا فِعْلُ خَيْرٍ وَمَعْرُوفٍ مَعَ الْمُطَلِّقِ وَامْرَأَتِهِ بِإِعَادَتِهَا إلَيْهِ لِمَا أَنَّ الطَّلَاقَ أَضَرَّ بِهِمَا وَبِأَوْلَادِهِمَا وَعَشِيرَتِهِمَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. بَلْ لَا يَحِلُّ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا حَتَّى يَنْكِحَهَا رَجُلٌ مُرْتَغِبًا لِنَفْسِهِ نِكَاحَ رَغْبَةٍ لَا نِكَاحَ دُلْسَةٍ، وَيَدْخُلُ بِهَا بِحَيْثُ تَذُوقُ عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقُ عُسَيْلَتَهَا. ثُمَّ بَعْدَ هَذَا إذَا حَدَثَ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ بِمَوْتٍ، وَطَلَاقٍ أَوْ فَسْخٍ، جَازَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَلَوْ أَرَادَ هَذَا الْمُحَلِّلُ أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ اسْتَأْنَفَ النِّكَاحَ، فَإِنَّ مَا مَضَى عَقْدٌ فَاسِدٌ لَا يُبَاحُ الْمُقَامُ بِهِ مَعَهَا هَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَامَّةِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَعَامَّةِ فُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ، مِثْلُ: سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ أَرْكَانُ التَّابِعِينَ. وَمِثْلُ: أَبِي الشَّعْثَاءِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ،

وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ أَرْكَانُ تَابِعِي التَّابِعِينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، مِنْهُمْ: إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْهَاشِمِيُّ وَأَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَسَنَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - أَقْوَالَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَدِلَّةِ. وَأَمَّا أَقْوَالُ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ، وَلَا الْمَرْأَةُ قَالَ: " إنْ كَانَ إنَّمَا نَكَحَهَا لِيُحِلَّهَا فَلَا يَصْلُحُ ذَلِكَ لَهُمَا، وَلَا تَحِلُّ ". وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: " إذَا هَمَّ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ، أَوْ الْمَرْأَةُ، أَوْ الزَّوْجُ الْأَخِيرُ، بِالتَّحْلِيلِ فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ " رَوَاهُمَا حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: " أَمَّا النَّاسُ فَيَقُولُونَ حَتَّى يُجَامِعَهَا، وَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي أَنَا أَقُولُ: إذَا تَزَوَّجَهَا تَزْوِيجًا صَحِيحًا لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إحْلَالًا لَهَا، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ " رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. وَقَالَ أَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ قَالَ: " لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ إذَا كَانَ تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا ". وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَقَالَ: إنَّ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَنَدِمَ وَنَدِمَتْ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَنْطَلِقَ فَأَتَزَوَّجَهَا وَأُصْدِقَهَا صَدَاقًا، ثُمَّ أَدْخُلَ بِهَا كَمَا يَدْخُلُ الرَّجُلُ بِامْرَأَتِهِ، ثُمَّ أُطَلِّقَهَا حَتَّى تَحِلَّ لِزَوْجِهَا قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: " اتَّقِ اللَّهَ يَا فَتَى وَلَا تَكُونَنَّ مِسْمَارَ نَارٍ لِحُدُودِ اللَّهِ ". رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، يُرِيدُ الْحَسَنُ أَنَّ الْمِسْمَارَ هُوَ الَّذِي يُثَبِّتُ الشَّيْءَ الْمَسْمُورَ، فَكَذَلِكَ أَنْتَ تُثَبِّتُ تِلْكَ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا وَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ. وَعَنْ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، قَالَا: " إذَا هَمَّ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ بِالتَّحْلِيلِ فَقَدْ فَسَدَ الْعَقْدُ ". رَوَاهُمَا سَعِيدٌ. وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فَيَنْطَلِقُ الرَّجُلُ الَّذِي يَتَحَزَّنُ لَهُ فَيَتَزَوَّجُهَا مِنْ غَيْرِ مُؤَامَرَةٍ مِنْهُ فَقَالَ: إنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا لَهُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا يُرِيدُ إمْسَاكَهَا فَقَدْ أُحِلَّتْ لَهُ ".

وَعَنْ الشَّعْبِيِّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً كَانَ زَوْجُهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ ذَلِكَ قِيلَ لَهُ: أَيُطَلِّقُهَا لِتَرْجِعَ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ؟ فَقَالَ: " لَا حَتَّى يُحَدِّثَ نَفْسَهُ أَنَّهُ يَعْمُرُ مَعَهَا وَتَعْمُرُ مَعَهُ ". رَوَاهُمَا الْجُوزَجَانِيُّ هَكَذَا لَفْظُ هَذَا الْأَثَرِ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: " لَا يُحِلُّهَا إلَّا نِكَاحُ رَغْبَةٍ ". فَإِنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ لَمْ تَحِلَّ لَهُ، وَسَوَاءٌ عَلِمَا، أَوْ لَمْ يَعْلَمَا لَا تَحِلُّ. وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ مَنْ قَصَدَ إلَى التَّحْلِيلِ. وَلَا يُقَرُّ عَلَى نِكَاحِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ فِي ذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِ مَالِكٍ، نَقَلَهُ الطَّحَاوِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا، وَكَذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ فِي أَحَدِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: " إذَا تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُحَلِّلَهَا لِزَوْجِهَا، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا لَا يُعْجِبُنِي إلَّا أَنْ يُفَارِقَهَا وَيَسْتَأْنِفَ نِكَاحًا جَدِيدًا " قَالَ: " وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ". وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: قُلْت لِأَحْمَدَ: سُئِلَ سُفْيَانُ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا، قَالَ: " لَا يُعْجِبُنِي إلَّا أَنْ يُفَارِقَهَا وَيَسْتَقْبِلَ نِكَاحًا جَدِيدًا ". قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: كَمَا قَالَ: وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيُّ وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ أَصْحَابِهِ قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ، وَفِي نَفْسِهِ أَنْ يُحَلِّلَهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ وَلَمْ تَعْلَمْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ فَقَالَ: " هُوَ مُحَلِّلٌ، وَإِذَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْإِحْلَالَ فَهُوَ مَلْعُونٌ ". قَالَ: وَبِهِ قَالَ أَبُو أَيُّوبَ يَعْنِي سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد الْهَاشِمِيَّ - وَأَبُو خَيْثَمَةَ يَعْنِي - زُهَيْرَ بْنَ حَرْبٍ -، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ يَعْنِي أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي شَيْبَةَ -: " لَسْتُ أَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِهَذَا النِّكَاحِ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ ". وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الْأَثَرِيِّ وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ: " إذَا تَزَوَّجَهَا يُرِيدُ التَّحْلِيلَ، ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ أَنْ دَخَلَ بِهَا، فَرَجَعَتْ إلَى الْأَوَّلِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لَيْسَ هَذَا نِكَاحًا صَحِيحًا " وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ أَيْضًا فِي الَّذِي يُطَلِّقُ ثَلَاثًا: " لَا تَحِلُّ لَهُ

حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ نِكَاحًا صَحِيحًا نِكَاحَ رَغْبَةٍ لَيْسَ فِيهِ دُلْسَةٌ " وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ عَلَى أَنْ يُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ: " لَا تَحِلُّ وَلَا يَجُوزُ حَتَّى يَكُونَ نِكَاحًا أَثْبَتَ النِّيَّةَ فِيهِ، فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ " وَقَالَ أَيْضًا فِي رِوَايَتِهِ: " إذَا نَكَحَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْحَالِ لِتَرْجِعَ إلَى الْأَوَّلِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَالْمَهْرُ لَا بُدَّ مِنْهُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا " وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِهِ. ثُمَّ أَكْثَرُ مُحَقِّقِيهِمْ قَطَعُوا بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَوْلٌ وَاحِدٌ فِي الْمَذْهَبِ. وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْهُمْ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي كُتُبِهِ الْمُتَأَخِّرَةِ مِثْلُ الْجَامِعِ وَالْخِلَافِ، وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ مِثْلُ الْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ، وَأَبِي الْمَوَاهِبِ الْعُكْبَرِيِّ، وَابْنِ عَقِيلٍ فِي التَّذْكِرَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافًا، وَسَنَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - أَصْلَهُ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ: " وَلَوْ تَزَوَّجَهَا فَإِنْ أَعْجَبَتْهُ أَمْسَكَهَا، وَإِلَّا كَانَ قَدْ احْتَسَبَ فِي تَحْلِيلِهَا لِلْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ وَلَا يُحِلُّهَا ذَلِكَ لِمَا خَالَطَ نِكَاحَهُ مِنْ نِيَّةِ التَّحْلِيلِ، وَقِيَاسُ قَوْلِ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّ هَذَا نِكَاحٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ إنَّمَا نَوَى فِرَاقَهَا إذَا لَمْ تُعْجِبْهُ وَصَارَ التَّحْلِيلُ ضِمْنًا، وَأَمَّا مَنْ سَوَّى مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالْمُحَلِّلِ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ: إنْ جِئْتنِي بِالْمَهْرِ إلَى وَقْتِ كَذَا، وَإِلَّا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَنَا. فَإِنَّ قَوْلَهُمْ يُوَافِقُ قَوْلَ ابْنِ حَبِيبٍ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُسَوُّونَ بَيْنَ أَنْ يَشْرِطَ الْفُرْقَةَ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الْمَهْرِ ". وَلِلشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِهِ الْقَدِيمِ الْعِرَاقِيِّ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَهَا تَزْوِيجًا مُطْلَقًا لَمْ يَشْتَرِطْ وَلَا اُشْتُرِطَ عَلَيْهِ التَّحْلِيلُ إلَّا أَنَّهُ نَوَاهُ وَقَصَدَهُ، قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ الْجَدِيدِ الْمِصْرِيِّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَرَبِيعَةَ، وَأَبِي الزِّنَادِ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُمْ، وَفِي الْقَلْبِ مِنْ حِكَايَتِهِ هَذَا عَنْ هَؤُلَاءِ حَزَازَةٌ، فَإِنَّ مَالِكًا أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَذَاهِبِ الْمَدَنِيِّينَ، وَأَتْبَعُهُمْ لَهَا، وَمَذْهَبُهُ فِي ذَلِكَ شِدَّةُ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ

هَؤُلَاءِ مِنْ أَعْيَانِ الْمَدَنِيِّينَ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ الْمَدَنِيِّينَ التَّغْلِيظُ فِي التَّحْلِيلِ، قَالُوا: هُوَ عَمَلُهُمْ وَعَلَيْهِ اجْتِمَاعُ مَلَئِهِمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَدَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيِّ، وَقَدْ خَرَّجَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ: الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ، وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ وَغَيْرُهُمَا، عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعَقْدُ صَحِيحٌ، كَقَوْلِ هَؤُلَاءِ مَعَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، قَالُوا: لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: أَكْرَهُهُ، وَالْكَرَاهَةُ الْمُطْلَقَةُ مِنْهُ هَلْ تُحْمَلُ عَلَى التَّحْرِيمِ، أَوْ التَّنْزِيهِ، عَلَى وَجْهَيْنِ، وَجَعَلَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو الْخَطَّابِيِّ، وَطَائِفَةٌ مَعَهُمَا الْمَسْأَلَةَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: الْبُطْلَانُ كَمَا نَقَلَهُ حَنْبَلٌ، وَغَيْرُهُ. وَالثَّانِيَةُ: الصِّحَّةُ، لِأَنَّ حَرْبًا نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَهُ، فَظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو عَلِيِّ بْنُ الْبَنَّاءِ إلَّا هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَقَطَعَ عَنْ أَحْمَدَ بِالْكَرَاهَةِ مَعَ الصِّحَّةِ. وَهَذَا التَّخْرِيجُ ضَعِيفٌ عَلَى الْمَذْهَبِ فِي وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَرَاهَةَ الَّتِي نَقَلَهَا حَرْبٌ أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ، وَفِي نَفْسِهِ طَلَاقُهَا فَكَرِهَهُ، وَهَذَا لَيْسَ فِي نِيَّةِ التَّحْلِيلِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي نِيَّةِ الِاسْتِمْتَاعِ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ بَيِّنٌ فَإِنَّ الْمُحَلِّلَ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِي النِّكَاحِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ إعَادَتُهَا إلَى الْمُطَلِّقِ، وَالْمُسْتَمْتِعُ لَهُ رَغْبَةٌ فِي النِّكَاحِ إلَى مُدَّةٍ، وَلِهَذَا أُبِيحَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، ثُمَّ حُرِّمَ وَلَمْ يُبَحْ التَّحْلِيلُ قَطُّ. وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ: أَمَّا إذَا نَوَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، كَالرَّجُلِ يَقْدَمُ الْبَلْدَةَ فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ السَّفَرِ، فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ، وَاتَّبَعَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مَعَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ نِيَّةَ التَّحْلِيلِ تُبْطِلُ النِّكَاحَ، لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ كَرَاهَةُ هَذَا النِّكَاحِ، وَقَالَ: هُوَ مُتْعَةٌ، فَعُلِمَ أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ. عَامَّةُ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يُشْبِهُ الْمُتْعَةَ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ التَّنْزِيهَ دُونَ التَّحْرِيمِ، وَمِمَّنْ حَرَّمَهُ الْأَوْزَاعِيُّ.

وَاخْتَلَفَتْ فِيهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ الْمُسَافِرُ امْرَأَةً لِيَسْتَمْتِعَ بِهَا وَيُفَارِقَهَا إذَا سَافَرَ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. فَإِنْ شَرَطَا ذَلِكَ كَانَ فَاسِدًا وَهُوَ نِكَاحُ مُتْعَةٍ، وَاخْتُلِفَ إذَا فَهِمَتْ ذَلِكَ. أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: النِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ جَوَازَهُ، فَقَالَ: إنَّمَا يُكْرَهَ الَّتِي يَنْكِحُهَا عَلَى أَنْ لَا يُقِيمَ وَعَلَى ذَلِكَ يَأْتِي، وَرَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَخْبَرَهَا قَبْلَ أَنْ يَنْكِحَ، ثُمَّ أَرَادَ إمْسَاكَهَا فَلَا يُقِيمُ عَلَيْهَا وَلَا يُمْسِكُهَا وَلْيُفَارِقْهَا، قَالَ مَالِكٌ: إنْ تَزَوَّجَ لِعُزْبَةٍ، أَوْ هَوًى لِقَضَاءِ أَرَبِهِ وَيُفَارِقُ فَلَا بَأْسَ، وَلَا أَحْسِبُ إلَّا أَنَّ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ لَوْ عَلِمَتْ ذَلِكَ لَمَا رَضِيَتْ. الثَّانِي: أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ: إذَا تَزَوَّجَهَا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا أَكْرَهُهُ هَذِهِ مُتْعَةٌ، وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد: إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَحْمِلَهَا إلَى خُرَاسَانَ وَمِنْ رَأْيِهِ إذَا حَمَلَهَا أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهَا، فَقَالَ: لَا، هَذَا يُشْبِهُ الْمُتْعَةَ حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ مَا حَيِيَتْ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، لِأَنَّهُ جَعَلَ هَذَا مُتْعَةً، وَالْمُتْعَةُ حَرَامٌ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي، فِي خِلَافِهِ: ظَاهِرُ هَذَا إبْطَالُ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ اسْتَدْرَكَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَبِي الْخَطَّابِ يَقُولُ أَحْمَدُ هَذِهِ مُتْعَةٌ. قَالَ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، لَكِنَّ قَوْلَ أَبِي الْخَطَّابِ يَقْوَى فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، فَإِنَّهُ قَالَ: يُشْبِهُ الْمُتْعَةَ، وَالْمُشَبَّهُ بِالشَّيْءِ قَدْ يَنْقُصُ عَنْهُ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ قَالَ: حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ مَا حَيِيَتْ فِي الْجُمْلَةِ، أَمَّا إذَا نَوَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا، فَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ لَفْظٌ مُحْتَمِلٌ لِعَدَمِ التَّحْرِيمِ، وَأَمَّا إذَا نَوَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي وَقْتٍ فَقَدْ نَصَّ عَلَى التَّحْرِيمِ فِي رِوَايَةٍ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهَا مِثْلَ تِلْكَ الرِّوَايَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ تَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ دُونَ التَّحْرِيمِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: لَا بَأْسَ بِهِ. هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْخِلَافِ فِي الْمَذْهَبِ فِيمَا إذَا قَصَدَ التَّحْلِيلَ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَلَا مَعَهُ، فَأَمَّا إذَا تَوَاطَآ عَلَى التَّحْلِيلِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَعَقَدَا عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ فَهُوَ كَالْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِأَصْلِنَا إذَا قُلْنَا: إنَّ النِّيَّةَ الْمُجَرَّدَةَ لَا تُؤَثِّرُ فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْعَقْدِ إذَا لَمْ تُفْسَخْ إلَى حِينِ الْعَقْدِ، فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُقَارِنَةِ، وَهُوَ مَفْهُومُ مَا خَرَّجَهُ

أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ، فَإِنَّهُ خَصَّ الْخِلَافَ إذَا نَوَى التَّحْلِيلَ وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ نَقَلَ عَنْهُمْ الرُّخْصَةَ فِي مُجَرَّدِ نِيَّةِ التَّحْلِيلِ، وَاشْتَرَطُوا مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَعْلَمَ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ، فَرَوَى عَنْ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الزَّوْجَانِ وَهُوَ مَأْجُورٌ بِذَلِكَ "، حَكَاهُ عَنْهُمَا الطَّحَاوِيَّ، وَكَذَلِكَ قَالَ رَبِيعَةُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: " هُوَ مَأْجُورٌ " وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: " وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ مِنْهُمَا فَلَا بَأْسَ بِالنِّكَاحِ وَتَرْجِعُ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ " حَكَاهُنَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ رُخْصَةٌ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ إذَا عَلِمَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ وَالزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ فَضْلًا عَنْ اشْتِرَاطِهِ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا كَنِيَّةِ التَّحْلِيلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَخَرَّجَ فِيهِمَا وَجْهَيْنِ. وَأَمَّا إذَا شَرَطَ التَّحْلِيلَ فِي الْعَقْدِ فَهُوَ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ قَالَ: زَوَّجْتُكَ إلَى أَنْ تُحِلَّهَا، أَوْ: إلَى أَنْ تَطَأَهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ التَّأْجِيلِ، أَوْ قَالَ: بِشَرْطِ أَنَّكَ إذَا وَطِئْتَهَا، أَوْ إذَا أَحْلَلْتَهَا بَانَتْ، أَوْ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَكُمَا، أَوْ عَلَى أَنْ لَا نِكَاحَ بَيْنَكُمَا إذَا حَلَّلْتَهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُوجِبُ ارْتِفَاعَ النِّكَاحِ إذَا تَحَلَّلَتْ، أَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّكَ تُطَلِّقُهَا إذَا حَلَّلْتَهَا لِلْمُطَلِّقِ أَوْ وَطِئْتَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ تُحِلَّهَا فَقَطْ، كَمَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّ الْإِحْلَالَ إنَّمَا يَتِمُّ بِالْوَطْءِ، وَالطَّلَاقِ. فَإِذَا قِيلَ: عَلَى أَنْ تُحِلَّهَا فَقَطْ، كَانَ الْمُرَادُ مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ، وَإِذَا قِيلَ: عَلَى أَنْ تُحِلَّهَا، ثُمَّ تُطَلِّقَهَا، كَانَ الْإِحْلَالُ هُوَ الْوَطْءَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا، لِأَنَّ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ مُخْتَلِفَةٌ فِي هَذَا الشَّرْطِ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إذَا شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُحِلَّهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَنْ يُحِلَّهَا، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا، فَمَنْ قَالَ الْأَوَّلَ عَنَى بِالْإِحْلَالِ الْوَطْءَ وَالطَّلَاقَ جَمِيعًا وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى مَدْلُولِ اللَّفْظِ كَقَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَمَنْ قَالَ الثَّانِيَ كَانَ الْإِحْلَالُ عِنْدَهُ الْوَطْءَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُفْتَقَرُ فِيهِ إلَى الزَّوْجِ بِكُلِّ حَالٍ، فَإِنَّ الْفُرْقَةَ قَدْ تَحْصُلُ بِمَوْتٍ، أَوْ طَلَاقٍ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْوَطْءُ صَارَتْ الْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الزَّوْجَاتِ، وَارْتَفَعَ تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ بِهِ، فَهَذَا جَعَلَ الْوَطْءَ وَحْدَهُ هُوَ الْمُحَلِّلُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ هَؤُلَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَيُرْوَى عَنْ

أَبِي يُوسُفَ، ثُمَّ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا قَطَعُوا بِهَذَا مَعَ ذِكْرِ بَعْضِهِمْ لِلْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِ الشَّرْطِ فِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: النِّكَاحُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ فَاسِدٌ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ عِنْدَهُمْ، سَوَاءٌ قَالَ: عَلَى أَنَّهُ إذَا أَحَلَّهَا فَلَا نِكَاحَ، أَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا إذَا أَحَلَّهَا، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الثَّوْرِيِّ، وَذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ. وَفِيهِ نَظَرٌ عَنْهُ، وَعَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ أَنَّهُ أَبْطَلَ الشَّرْطَ فِي ذَلِكَ، وَأَجَازَ النِّكَاحَ، وَهَذَا يَقْتَضِي صِحَّةَ النِّكَاحِ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَقَدْ خَرَّجَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْخِلَافِ، وَأَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً بِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِ الشَّرْطِ، وَفِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ - مِنْ رِوَايَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي النِّكَاحِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ، أَوْ أَنَّهُ إنْ جِئْتَنِي بِالْمَهْرِ إلَى وَقْتِ كَذَا، وَإِلَّا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَنَا - أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ طَرَدَ التَّخْرِيجَ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ عَلَى الْمَذْهَبِ. بَلْ لَا يَجُوزُ نِسْبَةُ مِثْلِ هَذَا إلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتِلْكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ هُنَا شَرَطَ الْفُرْقَةَ الرَّافِعَةَ لِلْعَقْدِ عَيْنًا وَهُنَاكَ إنَّمَا شَرَطَ الْفُرْقَةَ إذَا لَمْ يَجِئْهُ بِالْمَهْرِ، أَوْ إذَا اخْتَارَهَا صَاحِبُ الْخِيَارِ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِاشْتِرَاطِ الْمَجِيءِ بِالْمَهْرِ تَحْصِيلُ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْخِيَارِ يَلْزَمُ الْعَقْدُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَهُنَا الشَّرْطُ مُنَافٍ لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ، وَهُوَ إمَّا مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ عَيْنًا بِحَيْثُ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ، أَوْ مُوجِبٌ لِإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ عَلَى الزَّوْجِ. الثَّالِثُ: أَنَّ تِلْكَ الْأَنْكِحَةَ مَقْصُودَةٌ يُرِيدُ بِهَا النَّاكِحُ مَا يُرَادُ بِالْمَنَاكِحِ، وَهُنَا إنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْلِيلُ الْمُحَرَّمَةِ لِزَوْجِهَا، فَالْمَقْصُودُ زَوَالُ النِّكَاحِ لَا وُجُودُهُ. ثُمَّ عَامَّةُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُبْطِلُونَ الْعَقْدَ يَكْرَهُونَ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ، وَإِنْ لَمْ يُبْطِلُوهُ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ خِلَافُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا ظَهَرَ مِنْ الزَّوْجِ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّحْلِيلَ. فَأَمَّا إذَا أَضْمَرَ ذَلِكَ، فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ التَّابِعِينَ إنْ صَحَّتْ الْحِكَايَةُ

أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ، وَصِحَّتُهَا بَعِيدَةٌ فَإِنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مَعْنٍ قَاضِيَ الْكُوفَةِ قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ لَقُلْتُ إنَّهُ مَأْجُورٌ، - يَعْنِي الْمُحَلِّلَ -، وَهَذِهِ قَالَهَا الْقَاسِمُ فِي مَعْرِضِ التَّشْنِيعِ عَلَى مَنْ قَالَهَا، فَإِنَّ سِيَاقَ كَلَامِهِ يَقْتَضِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَحْتَمِلُهُ النَّاسُ بِوَجْهٍ لَقِيلَ، فَعُلِمَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ، أَوْ قَرِيبَهُ كَانَ مِنْ أَكْبَرِ الْمُنْكَرَاتِ عِنْدَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَنَّهُ قَوْلٌ مُحْدَثٌ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ، فَكَيْفَ يُنْسَبُ إلَى أَحَدٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَهُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ مِثْلِ هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ؟ وَزَعَمَ دَاوُد بْنُ عَلِيٍّ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مُرِيدُ نِكَاحِ الْمُطَلَّقَةِ لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا مَأْجُورًا إذَا لَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ بِاشْتِرَاطِهِ فِي حِينِ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ قَصَدَ إرْفَاقَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَإِدْخَالَ السُّرُورِ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَالَ: إنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ صَحِيحٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ، قَالَ: إنَّهُ يُفِيدُ الْحِلَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَاخْتُلِفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ إذَا صَحَّحُوا النِّكَاحَ، فَمَرَّةً قَالُوا: لَا تَحِلُّ لَهُ بِهَذَا النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا، وَمَرَّةً قَالُوا: تَحِلُّ بِهِ، هَكَذَا حَكَاهُ الطَّحَاوِيَّ وَغَيْرُهُ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ قَالَ: لَا تَحِلُّ مَعَ صِحَّةِ النِّكَاحِ، لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ الشَّرْعُ، فَجُوزِيَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، كَمَا فِي مَنْعِ قَاتِلِ الْمُوَرِّثِ. فَإِذَا ظَهَرَتْ الْمَقَالَاتُ فِي مَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ، وَمَا فِيهَا مِنْ التَّفْصِيلِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَعَامَّةُ السَّلَفِ التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا، وَنَحْنُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - نَذْكُرُ الْأَدِلَّةَ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَبُطْلَانِهِ، سَوَاءٌ قَصَدَهُ فَقَطْ، أَوْ قَصَدَهُ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ، أَوْ شَرَطَ مَعَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، وَنُبَيِّنُ الدَّلَائِلَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَإِنَّ ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - عَلَى الشَّرْطِ الْخَالِي عَنْ نِيَّةٍ وَقْتَ الْعَقْدِ. وَهُنَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: الْإِشَارَةُ إلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ عُمُومًا. وَالثَّانِيَةُ: الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خُصُوصًا.

الطريق الأول بطلان الحيل وأدلة التحريم

[الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ بُطْلَانُ الْحِيَلِ وَأَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ] ِ أَنْ نَقُولَ: إنَّ - اللَّهَ سُبْحَانَهُ - حَرَّمَ أَشْيَاءَ، إمَّا تَحْرِيمًا مُطْلَقًا، كَتَحْرِيمِ الرِّبَا، أَوْ تَحْرِيمًا مُقَيَّدًا إلَى أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالٌ مِنْ الْأَحْوَالِ، كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَكَتَحْرِيمِ الْمَحْلُوفِ بِطَلَاقِهَا عِنْدَ الْحِنْثِ، وَأَوْجَبَ أَشْيَاءَ إيجَابًا مُعَلَّقًا بِأَسْبَابٍ: إمَّا حَقًّا لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ -، كَالزَّكَاةِ، وَنَحْوِهَا، أَوْ حَقًّا لِلْعِبَادِ كَالشُّفْعَةِ، ثُمَّ إنَّهُ شَرَعَ أَسْبَابًا تُفْعَلُ لِتَحْصِيلِ مَقَاصِدَ، كَمَا شَرَعَ الْعِبَادَاتِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ لِابْتِغَاءِ فَضْلِهِ وَرِضْوَانِهِ. وَكَمَا شَرَعَ عَقْدَ الْبَيْعِ لِنَقْلِ الْمِلْكِ بِالْعِوَضِ، وَعَقْدَ الْقَرْضِ لِإِرْفَاقِ الْمُقْتَرِضِ، وَعَقْدَ النِّكَاحِ لِلْأَزْوَاجِ، وَالسَّكَنِ، وَالْأُلْفَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَالْخُلْعِ لِحُصُولِ الْبَيْنُونَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ افْتِدَاءَ الْمَرْأَةِ مِنْ رِقِّ بَعْلِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ هَدَى خَلْقَهُ إلَى أَفْعَالٍ تُبَلِّغُهُمْ إلَى مَصَالِحَ لَهُمْ كَمَا شَرَعَ مِثْلَ ذَلِكَ. فَالْحِيلَةُ: أَنْ يَقْصِدَ سُقُوطَ الْوَاجِبِ، أَوْ حِلَّ الْحَرَامِ، بِفِعْلٍ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ مَا جُعِلَ ذَلِكَ الْفِعْلُ لَهُ، أَوْ مَا شُرِعَ، فَهُوَ يُرِيدُ تَغْيِيرَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِأَسْبَابٍ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا مَا جُعِلَتْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ لَهُ، وَهُوَ يَفْعَلُ تِلْكَ الْأَسْبَابَ لِأَجْلِ مَا هُوَ تَابِعٌ لَهَا، لَا لِأَجْلِ مَا هُوَ الْمَتْبُوعُ الْمَقْصُودُ بِهَا، بَلْ يَفْعَلُ السَّبَبَ لِمَا يُنَافِي قَصْدَهُ مِنْ حُكْمِ السَّبَبِ، فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَلَبَ ثَمَرَةَ الْفِعْلِ الشَّرْعِيِّ وَنَتِيجَتَهُ وَهُوَ لَمْ يَأْتِ بِقِوَامِهِ وَحَقِيقَتِهِ، فَهَذَا خِدَاعٌ لِلَّهِ، وَاسْتِهْزَاءٌ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَتَلَاعُبٌ بِحُدُودِ اللَّهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَعَامَّةُ دَعَائِمِ الْإِيمَانِ وَمَبَانِي الْإِسْلَامِ. وَدَلَائِلُ ذَلِكَ لَا تَكَادُ تَنْضَبِطُ وَلَكِنْ نُنَبِّهُ عَلَى بَعْضِهَا. مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ بِإِبْطَالِ مِثْلِ هَذِهِ الْحِيَلِ فِي الْجُمْلَةِ مَأْثُورٌ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،

وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَّامٍ، وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وَمِنْ التَّابِعِينَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَكِّيِّينَ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَبِي الشَّعْثَاءِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ وَقَتَادَةَ وَأَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَهُوَ قَوْلُ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَمَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مَعْنٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَشَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَالْفَضْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وَحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ، وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَمَنْ لَا يُحْصَى مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَكَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ يَطُولُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ سَعِيدٍ: " لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ الْحِيَلِ ". وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ: " إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ، ثُمَّ احْتَالَ بِحِيلَةٍ فَصَارَ إلَيْهِ فَقَدْ صَارَ إلَى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: مَا أَخْبَثَهُمْ؛ يَعْنِي أَصْحَابَ الْحِيَلِ ". وَقَالَ: بَلَغَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَوْ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ " مَنْ احْتَالَ بِحِيلَةٍ فَهُوَ حَانِثٌ " أَوْ كَمَا قَالَ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ وَقَدْ سَأَلَهُ عَمَّنْ احْتَالَ فِي إبْطَالِ الشُّفْعَةِ، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ الْحِيَلِ فِي إبْطَالِ حَقِّ مُسْلِمٍ ". وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ: قُلْتُ، لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ احْتَالَ لِإِبْطَالِهَا هَلْ تَجُوزُ تِلْكَ الْحِيلَةُ؟ قَالَ: " نَحْنُ لَا نَرَى الْحِيلَةَ إلَّا بِمَا يَجُوزُ " قُلْتُ: أَلَيْسَ حِيلَتُنَا فِيهَا أَنْ نَتَّبِعَ مَا قَالُوا، وَإِذَا وَجَدْنَا لَهُمْ قَوْلًا فِي شَيْءٍ اتَّبَعْنَاهُ؟ قَالَ: " بَلَى، هَكَذَا هُوَ ". قُلْتُ: وَلَيْسَ هَذَا مِنَّا - نَحْنُ - حِيلَةً، قَالَ: " نَعَمْ " قُلْتُ: بَلَغَنِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ - وَهِيَ عَلَى دَرَجَةٍ -: إنْ صَعِدْتِ، أَوْ نَزَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. قَالُوا: تُحْمَلُ حَمْلًا فَلَا تَنْزِلُ. قَالَ: " هَذَا هُوَ الْحِنْثُ بِعَيْنِهِ لَيْسَ هَذِهِ حِيلَةً هَذَا هُوَ الْحِنْثُ ". وَقَالُوا:

الوجه الأول قال تعالى في صفة أهل النفاق ومن الناس من يقول آمنا بالله

حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَ بِسَاطًا، قَالُوا: يَجْعَلُ بِسَاطَيْنِ، وَقَالُوا: حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الدَّارَ، قَالُوا: يُحْمَلُ، فَجَعَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَتَعَجَّبُ. فَبَيَّنَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَنْ اتَّبَعَ مَا شُرِعَ لَهُ وَجَاءَ عَنْ السَّلَفِ فِي مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَّقَ بِهَا الْأَحْكَامَ لَيْسَ بِمُحْتَالٍ الْحِيلَةَ الْمَذْمُومَةَ، وَإِنْ سُمِّيَتْ حِيلَةً، فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهَا. وَغَرَضُهُ بِهَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ سُلُوكِ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي شُرِعَتْ لِحُصُولِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا، كَمَا سَيَأْتِي - إنْ شَاءَ اللَّهُ - بَيَانُهُ، وَسَيَأْتِي تَشْدِيدُهُ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحِيَلِ، وَاحْتِجَاجُهُ عَلَى رَدِّهَا فِي أَثْنَاءِ الْأَدِلَّةِ. [الْوَجْهُ الْأَوَّلُ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ] فَنَقُولُ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَإِبْطَالِهَا وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قَالَ فِي صِفَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ مِنْ مُظْهِرِي الْإِسْلَامِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] إلَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وَقَالَ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال: 62] الْآيَةَ. فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُخَادِعِينَ مَخْدُوعُونَ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ، وَأَنَّ اللَّهَ خَادِعٌ مَنْ يُخَادِعُهُ وَأَنَّ الْمَخْدُوعَ يَكْفِيهِ اللَّهُ شَرَّ مَنْ خَدَعَهُ، وَالْمُخَادَعَةُ هِيَ الِاحْتِيَالُ وَالْمُرَاوَغَةُ بِإِظْهَارِ الْخَيْرِ مَعَ إبْطَالِ خِلَافِهِ لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ. يُقَالُ: طَرِيقٌ خَدِعٌ إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِلْقَصْدِ لَا يُفْطَنُ لَهُ، وَيُقَالُ: غُولٌ خَيْدَعٌ، وَيُقَالُ: لِلشَّرَابِ الْخَيْدَاعُ، وَضَبٌّ خَدِعٌ، أَيْ مُرَاوِغٌ. وَفِي الْمَثَلِ أَخْدَعُ مِنْ ضَبٍّ،

وَخُلُقٌ خَادِعٌ، وَسُوقٌ خَادِعَةٌ أَيْ مُتَلَوِّنَةٌ. وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ، وَأَصْلُهُ الْإِخْفَاءُ وَالسَّتْرُ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلْخِزَانَةِ: مِخْدَعٌ وَمُخْدَعٌ. فَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ إنْشَاءً لِلْإِيمَانِ، أَوْ إخْبَارًا بِهِ وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي هَذَا الْإِنْشَاءِ وَالْإِخْبَارِ - بِحَيْثُ يَكُونُ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِذَلِكَ، وَحُكْمُهُ أَنْ يَعْصِمَ دَمَهُ وَمَالَهُ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ مَا لِلْمُؤْمِنِينَ - كَانَ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ غَيْرَ مُبْطِنٍ لِحَقِيقَتِهَا، بَلْ مُرِيدًا لِحُكْمِهَا وَثَمَرَتِهَا فَقَطْ، مُخَادِعًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَكَانَ جَزَاؤُهُ أَنْ يُظْهِرَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - مَا يَظُنُّ أَنَّهُ كَرَامَةٌ وَفِيهِ عَذَابٌ أَلِيمٌ، كَمَا أَظْهَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا ظَنُّوا أَنَّهُ إيمَانٌ وَفِي ضِمْنِهِ الْكُفْرُ. وَهَكَذَا قَوْلُ الْقَائِلِ: بِعْتُ، وَاشْتَرَيْتُ، وَاقْتَرَضْتُ، وَأَنْكَحْتُ، وَنَكَحْتُ إنْشَاءً لِلْعَقْدِ، أَوْ إخْبَارًا بِهِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ هَذِهِ الصِّيغَةُ، وَلَا ثُبُوتَ النِّكَاحِ الَّذِي جُعِلَتْ لَهُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ، بَلْ مَقْصُودُهُ بَعْضُ أَحْكَامِهَا الَّتِي قَدْ يَحْصُلُ ضِمْنًا، وَقَدْ لَا يَحْصُلُ. أَوْ قَصَدَ مَا يُنَافِي قَصْدَ الْعَقْدِ، أَوْ قَصْدُهُ بِالْعَقْدِ شَيْءٌ آخَرُ خَارِجٌ عَنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ، وَهُوَ أَنْ تَعُودَ الْمَرْأَةُ إلَى زَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ بَعْدَ الطَّلَاقِ. أَوْ أَنْ تَعُودَ السِّلْعَةُ إلَى الْبَائِعِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ، أَوْ أَنْ تَنْحَلَّ يَمِينٌ قَدْ حَلَفَهَا كَانَ مُخَادِعًا لِمُبَاشَرَتِهِ لِلْكَلِمَاتِ الَّتِي جُعِلَتْ لَهَا حَقَائِقُ وَمَقَاصِدُ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ مَقَاصِدَهَا وَحَقَائِقَهَا. وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ النِّفَاقِ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَحُدُودِهِ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ نِفَاقٌ فِي أَصْلِ الدِّينِ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مِنْ الْأَثَرِ مَا رُوِيَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ عَمِّي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أَيُحِلُّهَا لَهُ رَجُلٌ؟ فَقَالَ: مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ. رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَسَيَجِيءُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سُئِلَ عَنْ الْعِينَةِ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُخْدَعُ، هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَمَا رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، عَنْ عُثْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ قَالُوا: «لَا نِكَاحَ إلَّا نِكَاحُ رَغْبَةٍ لَا نِكَاحُ دُلْسَةٍ» . وَقَدْ قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: الْمُدَالَسَةُ الْمُخَادَعَةُ. وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَنَاهِيكَ بِهِ فِي هَؤُلَاءِ الْمُحْتَالِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَأَنَّمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ، فَلَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عِيَانًا كَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ. وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي فِي كِتَابِ الْحِيَلِ هُوَ كِتَابُ الْمُخَادَعَةِ، وَكَذَلِكَ

الْمُعَاهِدُونَ إذَا أَظْهَرُوا لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ سِلْمَهُ وَمَقْصُودُهُمْ بِذَلِكَ الْمَكْرُ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِأَنْ يُظْهِرُوا لَهُ أَمَانًا، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَمَانٍ فَقَدْ أَبْطَنُوا خِلَافَ مَقْصُودِ الْمُعَاهَدَةِ. كَمَا يُظْهِرُ الْمُحَلِّلُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمَرْأَةِ أَنَّهُ إنَّمَا يُرِيدُ نِكَاحَهَا وَأَنَّهُ رَاغِبٌ فِي ذَلِكَ وَمَقْصُودُهُ طَلَاقُهَا بَعْدَ اسْتِفْرَاشِهَا لَا مَا هُوَ مَقْصُودُ النِّكَاحِ. وَلِهَذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِأَنَّ كُلَّ مَا فَهِمَ الْكَافِرُ أَنَّهُ أَمَانٌ كَانَ أَمَانًا لِئَلَّا يَكُونَ مَخْدُوعًا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدَ خَدْعَهُ، وَرَوَى سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: «كَانَ مُعَاوِيَةُ يَسِيرُ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَمَدٌ فَأَرَادَ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهُمْ فَإِذَا انْقَضَى الْأَمَدُ غَزَاهُمْ فَإِذَا شَيْخٌ عَلَى دَابَّةٍ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَحُلَّنَّ عُقْدَةً وَلَا يَشُدَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا أَوْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَرَجَعَ، وَإِذَا الشَّيْخُ: عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَكُونَ فِيهِ خَدِيعَةٌ بِالْمُعَاهَدِينَ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِمَا اقْتَضَاهُ لَفْظُ الْعَهْدِ فَعُلِمَ أَنَّ مُخَالَفَةَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ لَفْظًا، أَوْ عُرْفًا خَدِيعَةٌ وَأَنَّهُ حَرَامٌ. وَتَلْخِيصُ هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ مُخَادَعَةَ اللَّهِ حَرَامٌ، وَالْحِيَلُ مُخَادَعَةٌ لِلَّهِ. بَيَانُ الْأَوَّلِ: أَنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْمُنَافِقِينَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وَبِقَوْلِهِ: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9] وَلَوْلَا أَنَّ الْمُخَادَعَةَ حَرَامٌ لَمْ يَكُنْ الْمُنَافِقُ مَذْمُومًا بِهَذَا الْوَصْفِ وَأَيْضًا أَخْبَرَ أَنَّهُ خَادِعُهُمْ، وَخَدْعُ اللَّهِ الْعَبْدَ عُقُوبَةٌ لَهُ، وَالْعُقُوبَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى فِعْلِ مُحَرَّمٍ، أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ. وَبَيَانُ الثَّانِي مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَفْتَوْا أَنَّ التَّحْلِيلَ وَنَحْوَهُ مِنْ الْحِيَلِ مُخَادَعَةٌ لِلَّهِ، وَالرُّجُوعُ إلَيْهِمْ فِي مَعَانِي الْأَلْفَاظِ مُتَعَيَّنٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ لُغَوِيَّةً، أَوْ شَرْعِيَّةً. الثَّانِي: أَنَّ الْمُخَادَعَةَ إظْهَارُ شَيْءٍ مِنْ الْخَيْرِ، وَإِبْطَانُ خِلَافِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ، هَذَا

الوجه الثاني لما قال المنافقون إنما نحن مستهزئون

هُوَ حَقِيقَةُ الْحِيَلِ. وَدَلِيلُ مَسْأَلَةِ هَذَا مُطَابَقَةُ هَذَا الْمَعْنَى بِمَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ وَشَهَادَةِ الِاشْتِقَاقِ وَالتَّصْرِيفِ لَهُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُنَافِقَ لَمَّا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَمُرَادُهُ غَيْرُ الْإِسْلَامِ سُمِّيَ مُخَادِعًا لِلَّهِ، وَكَذَلِكَ الْمُرَائِي، فَإِنَّ النِّفَاقَ وَالرِّيَاءَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الَّذِي أَظْهَرَ قَوْلًا غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ. وَهَذَا الَّذِي أَظْهَرَ فِعْلًا غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِمَا شُرِعَ لَهُ مُخَادِعًا، فَالْمُحْتَالُ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ: إمَّا إظْهَارُ فِعْلٍ لِغَيْرِ مَقْصُودِهِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ، أَوْ إظْهَارُ قَوْلٍ لِغَيْرِ مَقْصُودِهِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ. وَإِذَا كَانَ مُشَارِكًا لَهُمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ سُمِّيَا مُخَادِعَيْنِ، وَجَبَ أَنْ يَشْرَكَهُمَا فِي اسْمِ الْخِدَاعِ، وَعُلِمَ أَنَّ الْخِدَاعَ اسْمٌ لِعُمُومِ الْحِيَلِ، لَا لِحُصُولِ هَذَا النِّفَاقِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْوَجْهُ الثَّانِي لَمَّا قَالَ الْمُنَافِقُونَ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] الْوَجْهُ الثَّانِي قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ، لَمَّا قَالَ الْمُنَافِقُونَ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] . بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الطَّلَاقَ وَالرَّجْعَةَ وَالْخُلْعَ وَالنِّكَاحَ الْمُحَلَّلَ وَالنِّكَاحَ بَعْدَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِدِينِ اللَّهِ مِنْ الْكَبَائِرِ - وَالِاسْتِهْزَاءُ هُوَ السُّخْرِيَةُ وَهُوَ حَمْلُ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ عَلَى الْهَزْلِ وَاللَّعِبِ لَا عَلَى الْجِدِّ وَالْحَقِيقَةِ - فَاَلَّذِي يَسْخَرُ بِالنَّاسِ هُوَ الَّذِي يَذُمُّ صِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالَهُمْ ذَمًّا يُخْرِجُهَا عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ كَمَا سَخِرُوا بِالْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ، وَاَلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا جُهْدَهُمْ بِأَنْ قَالُوا هَذَا مُرَاءٍ، وَلَقَدْ كَانَ اللَّهُ غَنِيًّا مِنْ صَاعِ فُلَانٍ، فَمَنْ تَكَلَّمَ بِالْأَقْوَالِ الَّتِي جَعَلَ الشَّارِعُ لَهَا حَقَائِقَ وَمَقَاصِدَ مِثْلِ كَلِمَةِ الْإِيمَانِ، وَكَلِمَةِ اللَّهِ الَّتِي تُسْتَحَلُّ بِهَا الْفُرُوجُ، وَالْعُهُودُ، وَالْمَوَاثِيقُ الَّتِي بَيْنَ الْمُتَعَاقِدِينَ. وَهُوَ لَا يُرِيدُ بِهَا حَقَائِقَهَا الْمُقَوَّمَةَ لَهَا، وَلَا مَقَاصِدَهَا

الوجه الثالث أخبر الله عن أهل الجنة الذين بلاهم في سورة نون

الَّتِي جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُحَصِّلَةً لَهَا، بَلْ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَجِعَ الْمَرْأَةَ لِيَضُرَّهَا، وَلَا حَاجَةَ لَهُ فِي نِكَاحِهَا، أَوْ يَنْكِحَهَا لِيُحَلِّلَهَا، أَوْ يَخْلَعَهَا لِيَلْبَسَهَا، فَهُوَ مُسْتَهْزِئٌ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ. وَسَيَأْتِي - إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي الْأَدِلَّةِ الْخَاصَّةِ، فَإِذَا كَانَ الِاسْتِهْزَاءُ بِهَا حَرَامًا وَجَبَ إبْطَالُهُ، وَإِبْطَالُ التَّصَرُّفَاتِ عَدَمُ تَرَتُّبِ أَثَرِهَا عَلَيْهَا. فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَهْزِئُ بِهَا غَرَضُهُ إنَّمَا يَتِمُّ لِصِحَّتِهَا وَجَبَ إبْطَالُ هَذِهِ الصِّحَّةِ وَالْحُكْمُ بِبُطْلَانِ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَهْزِئُ غَرَضُهُ اللَّعِبُ بِهَا دُونَ لُزُومِ حُكْمِهَا وَجَبَ إبْطَالُ لَعِبِهِ بِإِلْزَامِهِ أَحْكَامَهُ كَمَا سَيَأْتِي - إنْ شَاءَ اللَّهُ - إيضَاحُهُ. [الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَخْبَرَ اللَّه عَنْ أَهْل الْجَنَّة الَّذِينَ بَلَاهُمْ فِي سُورَة نُون] الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ بَلَاهُمْ بِمَا بَلَاهُمْ بِهِ فِي سُورَةِ (نُونٍ) وَهُمْ قَوْمٌ كَانَ لِلْمَسَاكِينِ حَقٌّ فِي أَمْوَالِهِمْ إذَا جَذُّوا نَهَارًا بِأَنْ يَلْتَقِطَ الْمَسَاكِينُ مَا يَتَسَاقَطُ مِنْ الثَّمَرِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَجُذُّوا لَيْلًا لِيَسْقُطَ ذَلِكَ الْحَقُّ، وَلِئَلَّا يَأْتِيَهُمْ مِسْكِينٌ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى جَنَّتِهِمْ طَائِفًا وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ عُقُوبَةً عَلَى احْتِيَالِهِمْ لِمَنْعِ الْحَقِّ الَّذِي كَانَ لِلْمَسَاكِينِ فِي أَمْوَالِهِمْ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ لِكُلِّ مَنْ احْتَالَ لِمَنْعِ حَقٍّ لِلَّهِ، أَوْ لِعِبَادِهِ مِنْ زَكَاةٍ، أَوْ شُفْعَةٍ، وَقَصْدُ هَؤُلَاءِ مَعْرُوفٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، عَلَى أَنَّ فِي التَّنْزِيلِ مَا يَكْفِي فِي الدَّلَالَةِ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ لَمْ يَكُونُوا أَرَادُوا مَنْعَ وَاجِبٍ لَمْ يُعَاقَبُوا بِمَنْعِ التَّطَوُّعِ، فَإِنَّ الذَّمَّ وَالْعُقُوبَةَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى فِعْلِ مُحَرَّمٍ، أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ، وَهَذِهِ خَاصَّةُ الْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُسْتَحَبِّ وَالْمَكْرُوهِ. ثُمَّ إنْ كَانُوا عُوقِبُوا عَلَى الِاحْتِيَالِ عَلَى تَرْكِ الْمُسْتَحَبِّ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْعُقُوبَةِ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعُقُوبَةُ عَلَى تَرْكِ الِاسْتِثْنَاءِ وَحْدَهُ، فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يُعَاقَبُ صَاحِبُهُ بِمَنْعِ الْفِعْلِ، بِأَنْ يُبْتَلَى بِمَا يَشْغَلُهُ عَنْهُ أَمَّا عُقُوبَتُهُ بِإِهْلَاكِ الْمَالِ فَلَا، وَلِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: 17] . بَعْدَ أَنْ قَالَ:

الوجه الرابع قال الله ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت

{وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10] {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11] {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم: 12] {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] . فَعُلِمَ أَنَّهَا عِبْرَةٌ لِمَنْ مَنَعَ الْخَيْرَ، وَلِأَنَّ اللَّهَ قَصَّ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَإِنَّهُمْ انْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ، فَعُلِمَ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الْعُقُوبَةِ، فَعُلِمَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ مَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ مَعَ الْمُؤَثِّرِ غَيْرُ جَائِزٍ، كَمَا لَوْ ذَكَرَ مَعَ هَذَا أَنَّهُمْ أَكَلُوا، أَوْ شَرِبُوا. فَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ عُوقِبُوا عَلَى قَصْدِ مَنْعِ الْخَيْرِ الْمُسْتَحَبِّ فَكَيْفَ بِمَنْ قَصَدَ مَنْعَ الْوَاجِبِ، إنْ كَانُوا إنَّمَا قَصَدُوا مَنْعَ وَاجِبٍ وَهُوَ الصَّوَابُ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ، فَهُمْ لَمْ يَمْنَعُوهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ وَجَبَ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ صَرْمِهِ بِاللَّيْلِ وَصَرْمِهِ بِالنَّهَارِ، وَإِنَّمَا قَصَدُوا بِالصَّرْمِ لَيْلًا الْفِرَارَ مِمَّا كَانَ لِلْمَسَاكِينِ فِيهِ مِنْ اللَّقَاطِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ أَنَّ حَقَّ الْمَسَاكِينِ كَانَ فِيمَا يَتَسَاقَطُ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا مُوَقَّتًا، وَوُجُوبُ هَذَا مَشْرُوطٌ بِسُقُوطِهِ وَحُضُورِ مَنْ يَأْخُذُهُ مِنْ الْمَسَاكِينِ، كَأَنَّ السَّاقِطَ عَفْوُ الْمَالِ وَفَضْلُهُ، وَحُضُورُ أَهْلِ الْحَاجَةِ بِمَنْزِلَةِ السُّؤَالِ، وَالْفَاقَةِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَالِ يَجِبُ فِيهَا مَا لَا يَجِبُ فِي غَيْرِهَا، كَمَا يَجِبُ قِرَى الضَّيْفِ، وَإِطْعَامُ الْمُضْطَرِّ، وَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ، وَحَمْلُ الْعَقْلِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَيَكُونُ هَذَا فِرَارًا مِنْ حَقٍّ قَدْ انْعَقَدَ بِسَبَبِ وُجُوبِهِ قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِهِ، فَهُوَ مِثْلُ الْفِرَارِ مِنْ الزَّكَاةِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ. وَالْفِرَارِ مِنْ الشُّفْعَةِ بَعْدَ إرَادَةِ الْبَيْعِ قَبْلَ تَمَامِهِ، وَالْفِرَارِ مِنْ قِرَى الضَّيْفِ قَبْلَ حُضُورِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْلَا أَنَّ قَصْدَنَا هُنَا الْإِشَارَةُ فَقَطْ لَبَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ. [الْوَجْهُ الرَّابِعُ قَالَ اللَّه وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْت] الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} [النساء: 47] . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164] {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165] {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166] . وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَاتٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّهُمْ احْتَالُوا عَلَى الصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ بِحِيلَةٍ تُخَيَّلُ بِهَا فِي الظَّاهِرِ أَنَّهُمْ لَمْ يَصِيدُوا فِي السَّبْتِ، حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ - وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ -: لَقَدْ مُسِخَ الْيَهُودُ قِرَدَةً بِدُونِ هَذَا. وَقَالَ قَبْلَهُ الْإِمَامُ أَبُو يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إبْطَالِ الْحِيَلِ: وَهَلْ أَصَابَ الطَّائِفَةَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ الْمَسْخُ إلَّا بِاحْتِيَالِهِمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، بِأَنْ حَظَرُوا الْحَظَائِرَ عَلَى الْحِيتَانِ فِي يَوْمِ سَبْتِهِمْ، فَمَنَعُوهَا الِانْتِشَارَ يَوْمَهَا إلَى الْأَحَدِ فَأَخَذُوهَا. وَكَذَلِكَ السِّلْسِلَةُ الَّتِي كَانَتْ تَأْخُذُ بِعُنُقِ الظَّالِمِ فَاحْتَالَ لَهَا صَاحِبُ الدِّرَّةِ؛ إذْ صَرَّهَا فِي قَصَبَةٍ، ثُمَّ دَفَعَهَا بِالْقَصَبَةِ إلَى خَصْمِهِ، وَتَقَدَّمَ إلَى السِّلْسِلَةِ لِيَأْخُذَهَا فَرُفِعَتْ. وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَزْجَرَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُتَعَاطِينَ الْحِيَلَ عَلَى الْمَنَاهِي الشَّرْعِيَّةِ مِمَّنْ يَتَلَبَّسُ بِعِلْمِ الْفِقْهِ وَلَيْسَ بِفَقِيهٍ؛ إذْ الْفَقِيهُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى فِي الرِّبَوِيَّاتِ وَالتَّحْلِيلِ بِاسْتِعَارَةِ الْمُحَلِّلِ لِلْمُطَلَّقَاتِ وَالْخُلْعِ لِحِلِّ مَا لَزِمَ مِنْ الْمُطَلَّقَاتِ الْمُعَلَّقَاتِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَظَائِمَ وَمَصَائِبَ لَوْ اعْتَمَدَ بَعْضَهَا مَخْلُوقٌ فِي حَقِّ مَخْلُوقٍ لَكَانَ فِي نِهَايَةِ الْقُبْحِ فَكَيْفَ فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى. وَقَدْ ذَكَرَ الْقِصَّةَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ مَشَاهِيرِ الْمُفَسِّرِينَ بِمَعْنًى مُتَقَارِبٍ، وَذَكَرَهَا السُّدِّيَّ فِي تَفْسِيرِهِ الَّذِي رَوَاهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَأَبِي صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: كَانَتْ الْحِيتَانُ إذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ لَمْ يَبْقَ حُوتٌ إلَّا خَرَجَ حَتَّى يُخْرِجْنَ خَرَاطِيمَهُنَّ مِنْ الْمَاءِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ لَمْ يُرَ مِنْهُنَّ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ

يَوْمُ السَّبْتِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163] . وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْيَهُودِ أَنْ تَعْمَلَ شَيْئًا يَوْمَ السَّبْتِ، فَاشْتَهَى بَعْضُهُمْ السَّمَكَ، فَجَعَلَ يَحْتَفِرُ الْحَفِيرَةَ، وَيَجْعَلُ لَهَا نَهْرًا إلَى الْبَحْرِ إذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ أَقْبَلَ الْمَوْجُ بِالْحِيتَانِ يَضْرِبُهَا حَتَّى يُلْقِيَهَا فِي الْحَفِيرَةِ، فَيُرِيدُ الْحُوتُ أَنْ يَخْرُجَ فَلَا يُطِيقُ مِنْ أَجْلِ قِلَّةِ مَاءِ النَّهْرِ، فَيَمْكُثُ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ جَاءَ فَأَخَذَهُ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَشْوِي السَّمَكَ فَيَجِدُ جَارُهُ رِيحَهُ، فَيُخْبِرُهُ فَيَصْنَعُ مِثْلَ مَا صَنَعَ جَارُهُ. وَقِيلَ: كَانُوا يَنْصِبُونَ الْحَبَائِلَ وَالشُّصُوصَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيُخْرِجُونَهَا يَوْمَ الْأَحَدِ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فَفَعَلُوا ذَلِكَ زَمَانًا فَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَلَمْ يُنْزِلْ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَتَجَرَّءُوا عَلَى الذَّنْبِ، وَقَالُوا: مَا نَرَى السَّبْتَ إلَّا أُحِلَّ لَنَا، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ صَارَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفًا أَمْسَكَ وَنَهَى، وَصِنْفًا أَمْسَكَ وَلَمْ يَنْهَ، وَصِنْفًا انْتَهَكَ الْحُرْمَةَ، وَتَمَامُ الْقِصَّةِ مَشْهُورٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ نَحْوٌ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ ذَكَرَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65] . قَالَ: رَمَوْهَا فِي السَّبْتِ، ثُمَّ أَرْجَئُوهَا فِي الْمَاءِ فَاسْتَخْرَجُوهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَطَبَخُوهَا فَأَكَلُوهَا فَأَكَلُوا - وَاَللَّهِ - أَوْخَمَ أَكْلَةٍ أُكِلَتْ أَسْرَعَتْ فِي الدُّنْيَا عُقُوبَةً وَأَسْرَعَتْ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ، وَاَللَّهِ مَا كَانَتْ لُحُومُ تِلْكَ الْحِيتَانِ بِأَعْظَمَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ دِمَاءِ قَوْمٍ مُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّهُ عَجَّلَ لِهَؤُلَاءِ وَأَخَّرَ لِهَؤُلَاءِ. فَقَوْلُ الْحَسَنِ: رَمَوْهَا فِي السَّبْتِ، يَعْنِي: احْتَالُوا عَلَى وُقُوعِهَا فِي الْمَاءِ يَوْمَ السَّبْتِ، كَمَا بَيَّنَ غَيْرُهُ أَنَّهُمْ حَفَرُوا لَهَا حِيَاضًا، ثُمَّ فَتَحُوهَا عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ، أَوْ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُمْ رَمَوْا الْحَبَائِلَ يَوْمَ السَّبْتِ، ثُمَّ أَخَّرُوهَا فِي الْمَاءِ إلَى يَوْمِ الْأَحَدِ، فَاسْتَخْرَجُوهَا بِالْحِيتَانِ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ بَاشَرُوا إلْقَاءَهَا يَوْمَ السَّبْتِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ اجْتَرَءُوا عَلَى

ذَاكَ لَاسْتَخْرَجُوهَا إلَّا أَنْ يَكُونُوا تَأَوَّلُوا أَنَّ إلْقَاءَهَا بِأَيْدِيهِمْ لَيْسَ بِصَيْدٍ، وَالْمُحَرَّمُ إنَّمَا هُوَ الصَّيْدُ. فَقَدْ رُوِيَ مِنْ تَأْوِيلِهِمْ مَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْعَنْقَرِيُّ فِي أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ وَأَظُنُّهُ الْهُزَلِيَّ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَتَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَيَبْكِي، فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى أَخَذْتُ بِلَوْحَيْ الْمُصْحَفِ. فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: يُبْكِينِي هَذِهِ الْوَرَقَاتُ. قَالَ: هَلْ تَعْرِفُ أَيْلَةَ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: إنَّ اللَّهَ أَسْكَنَهَا حَيًّا مِنْ الْيَهُودِ فَابْتَلَاهُمْ بِحِيتَانٍ حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ وَأَحَلَّهَا لَهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ قَالَ: وَكَانَ إذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ خَرَجَتْ إلَيْهِمْ، فَإِذَا ذَهَبَ السَّبْتُ غَاصَتْ فِي الْبَحْرِ حَتَّى لَا يَعْرِضَ لَهَا الطَّالِبُونَ، وَإِنَّ الْقَوْمَ اجْتَمَعُوا فَاخْتَلَفُوا فِيهَا. فَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ: إنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ يَوْمَ السَّبْتِ أَنْ تَأْكُلُوهَا، فَصِيدُوهَا يَوْمَ السَّبْتِ، وَكُلُوهَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أَنْ تَصِيدُوهَا، أَوْ تُؤْذُوهَا أَوْ تُنَفِّرُوهَا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ خَرَجَتْ إلَيْهِمْ شُرَّعًا فَتَفَرَّقَ النَّاسُ. فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَا نَأْخُذُهَا وَلَا نَقْرَبُهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَأْخُذُهَا وَلَا نَأْكُلُهَا يَوْمَ السَّبْتِ، وَكَانُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةً عَلَى إيمَانِهِمْ، وَفِرْقَةً عَلَى شَمَائِلِهِمْ، وَفِرْقَةً وَسْطَهُمْ. فَقَامَتْ الْفِرْقَةُ الْيُمْنَى فَجَعَلَتْ تَنْهَاهُمْ وَجَعَلَتْ تَقُولُ: اللَّهَ اللَّهَ نُحَذِّرُكُمْ بَأْسَ اللَّهِ. وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الْيُسْرَى فَكَفَّتْ أَيْدِيَهَا، وَأَمْسَكَتْ أَلْسِنَتَهَا، وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الْوُسْطَى فَوَثَبَتْ عَلَى السَّمَكِ تَأْخُذُهُ، وَذَكَرَ تَمَامَ الْقِصَّةِ فِي مَسْخِ اللَّهِ إيَّاهُمْ قِرَدَةً. فَهَذِهِ الْآثَارُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ إنَّمَا اصْطَادُوا لَهَا مُحْتَالِينَ مُسْتَحِلِّينَ بِنَوْعٍ مِنْ التَّأْوِيلِ، فَكَانَ أَجْوَدُهُمْ تَأْوِيلًا الَّذِي احْتَالَ عَلَى وُقُوعِهَا فِي الْحِيَاضِ وَالشُّصُوصِ يَوْمَ السَّبْتِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ مِنْهُ؛ إذْ ذَاكَ. وَبَعْدَهُ مَنْ بَاشَرَ إلْقَاءَهَا فِي الْمَاءِ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا بَعْدَ السَّبْتِ. وَبَعْدَهُ مَنْ أَخْرَجَهَا مِنْ الْمَاءِ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى خَرَجَ يَوْمُ السَّبْتِ تَأْوِيلًا مِنْهُ أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْأَكْلُ. وَكَذَلِكَ صَحَّ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163] . قَالَ: حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الْحِيتَانُ يَوْمَ السَّبْتِ، فَكَانَتْ تَأْتِيهِمْ

يَوْمَ السَّبْتِ شُرَّعًا بَلَاءً اُبْتُلُوا بِهِ، وَلَا تَأْتِيهِمْ فِي غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَطْلُبُوهَا بَلَاءً أَيْضًا بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَأَخَذُوهَا يَوْمَ السَّبْتِ اسْتِحْلَالًا وَمَعْصِيَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ اللَّهُ: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166] إلَّا طَائِفَةً مِنْهُمْ لَمْ يَعْتَدُوا وَنَهَوْهُمْ. فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ اسْتَحَلُّوهَا وَعَصَوْا اللَّهَ بِذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِلُّوهَا تَكْذِيبًا لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكُفْرًا بِالتَّوْرَاةِ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْلَالُ تَأْوِيلٍ وَاحْتِيَالٍ ظَاهِرُهُ ظَاهِرُ الِاتِّقَاءِ، وَحَقِيقَتُهُ حَقِيقَةُ الِاعْتِدَاءِ. وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مُسِخُوا قِرَدَةً، لِأَنَّ صُورَةَ الْقِرْدِ فِيهَا شَبَهٌ مِنْ صُورَةِ الْإِنْسَانِ. وَفِي بَعْضِ مَا يُذْكَرُ مِنْ أَوْصَافِهِ شَبَهٌ مِنْهُ وَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ، فَلَمَّا مَسَخَ أُولَئِكَ الْمُعْتَدُونَ دِينَ اللَّهِ بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَسَّكُوا إلَّا بِمَا يُشْبِهُ الدِّينَ فِي بَعْضِ ظَاهِرِهِ دُونَ حَقِيقَتِهِ مَسَخَهُمْ اللَّهُ قِرَدَةً يُشْبِهُونَهُمْ فِي بَعْضِ ظَاهِرِهِمْ دُونَ الْحَقِيقَةِ جَزَاءً وِفَاقًا. يُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ أَكَلُوا الرِّبَا وَأَكَلُوا أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَمَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ أَكْلِ الصَّيْدِ الْمُحَرَّمِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ ذَاكَ حَرَامٌ فِي شَرِيعَتِنَا أَيْضًا، وَالصَّيْدَ فِي السَّبْتِ لَيْسَ حَرَامًا عَلَيْنَا، ثُمَّ إنَّ أَكَلَةَ الرِّبَا وَأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ لَمْ يُعَاقَبُوا بِالْمَسْخِ، كَمَا عُوقِبَ بِهِ مُسْتَحِلُّو الْحَرَامِ بِالْحِيلَةِ، وَإِنَّمَا عُوقِبُوا بِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِ عُقُوبَاتِ غَيْرِهِمْ فَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ لَمَّا كَانُوا أَعْظَمَ جُرْمًا، فَإِنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَافِقِينَ وَهُمْ لَا يَعْتَرِفُونَ بِالذَّنْبِ. بَلْ قَدْ فَسَدَتْ عَقِيدَتُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ - كَمَا قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: لَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ - كَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ أَغْلَظَ مِنْ عُقُوبَةِ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ أَكَلَ الرِّبَا وَالصَّيْدَ الْمُحَرَّمَ عَالِمًا بِأَنَّهُ حَرَامٌ، فَقَدْ اقْتَرَنَ بِمَعْصِيَتِهِ اعْتِرَافُهُ بِالتَّحْرِيمِ وَهُوَ إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَرَجَاءِ مَغْفِرَتِهِ، وَإِمْكَانِ التَّوْبَةِ مَا قَدْ يُفْضِي بِهِ إلَى خَيْرٍ، وَمَنْ أَكَلَهُ مُسْتَحِلًّا بِنَوْعِ احْتِيَالٍ تَأَوَّلَ فِيهِ فَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الْحَرَامِ، وَقَدْ اقْتَرَنَ بِهِ اعْتِقَادُهُ الْفَاسِدُ فِي حِلِّ الْحَرَامِ. وَذَلِكَ قَدْ يُفْضِي بِهِ إلَى شَرٍّ طَوِيلٍ، وَلِهَذَا حَذَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّتَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» . ثُمَّ رَأَيْتُ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ

قَالَ: «يُحْشَرُ أَكَلَةُ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةِ الْخَنَازِيرِ وَالْكِلَابِ مِنْ أَجْلِ حِيلَتِهِمْ عَلَى الرِّبَا كَمَا مُسِخَ أَصْحَابُ دَاوُد لِاحْتِيَالِهِمْ عَلَى أَخْذِ الْحِيتَانِ يَوْمَ السَّبْتِ» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَوْلَا أَنَّ مَعْنَى الْمَسْخِ لِأَجْلِ الِاسْتِحْلَالِ بِالِاحْتِيَالِ. قَدْ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ مَعْرُوفَةٍ لَمْ نَذْكُرْ هَذَا الْحَدِيثَ. وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيِّ. قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ، أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ - وَاَللَّهِ مَا كَذَبَنِي - سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إلَى جَنْبِ عَلَمٍ تَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَةٌ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ رَجُلٌ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ ارْجِعْ إلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمْ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعَلَمَ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَرَوَاهُ الْبَرْقَانِيُّ مُسْنَدًا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مُخْتَصَرًا، وَلَفْظُهُ: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ» - وَذَكَرَ كَلَامًا - قَالَ: «يَمْسَخُ مِنْهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . إنَّمَا ذَاكَ إذَا اسْتَحَلُّوا هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ. فَإِنَّهُمْ لَوْ اسْتَحَلُّوهَا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ الرَّسُولَ حَرَّمَهَا كَانُوا كُفَّارًا، وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أُمَّتِهِ وَلَوْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّهَا حَرَامٌ لَأَوْشَكَ أَنْ لَا يُعَاقَبُوا بِالْمَسْخِ كَسَائِرِ الَّذِينَ لَمْ يَزَالُوا يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْمَعَاصِيَ، وَلِمَا قِيلَ فِيهِمْ: يَسْتَحِلُّونَ فَإِنَّ الْمُسْتَحِلَّ لِلشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يَأْخُذُهُ مُعْتَقِدًا حِلَّهُ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اسْتِحْلَالُهُمْ الْخَمْرَ يَعْنِي بِهِ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا. كَمَا جَاءَ الْحَدِيثُ، فَيَشْرَبُونَ الْأَنْبِذَةَ الْمُحَرَّمَةَ وَلَا يُسَمُّونَهَا خَمْرًا، وَاسْتِحْلَالُهُمْ الْمَعَازِفَ بِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ آلَاتِ اللَّهْوِ مُجَرَّدُ سَمْعِ صَوْتٍ فِيهِ لَذَّةٌ وَهَذَا لَا يَحْرُمُ كَأَلْحَانِ الطُّيُورِ، وَاسْتِحْلَالُ الْحَرِيرِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِهِ بِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ حَلَالٌ لِلْمُقَاتِلَةِ، وَقَدْ سَمِعُوا أَنَّهُ يُبَاحُ لُبْسُهُ عِنْدَ الْقِتَالِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، فَقَاسُوا سَائِرَ أَحْوَالِهِمْ عَلَى تِلْكَ، وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ الثَّلَاثَةُ وَاقِعَةٌ فِي الطَّوَائِفِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا ابْنُ الْمُبَارَكِ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إلَّا ... الْمُلُوكُ وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا

وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا تُغْنِي عَنْ أَصْحَابِهَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ بَلَّغَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيَّنَ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَيَانًا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَوَاضِعِهِ. ثُمَّ رَأَيْت هَذَا الْمَعْنَى قَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا يُعْزَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمْ الْأَرْضَ وَيَجْعَلُ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ» . هَذَا لَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ: وَإِسْنَادُهُمَا وَاحِدٌ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ ذِكْرُهُ فِي غَيْرِهِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِمَّا نَقَلَهُ الْعُلَمَاءُ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ كَوْنِ الْمُعْتَدِينَ فِي السَّبْتِ اعْتَدَوْا بِالِاحْتِيَالِ الَّذِي تَأَوَّلُوهُ وَلَا أَعْلَمُ شَيْئًا يُعَارِضُهُ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا قَدْ يُنْقَلُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ اصْطَادُوا يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا نُقِلَ مِنْ أَنَّهُمْ اصْطَادُوا مُتَأَوِّلِينَ بِنَوْعٍ مِنْ الْحِيلَةِ وَهَذَا النَّقْلُ الْمُفَسَّرُ يُبَيِّنُ ذَلِكَ النَّقْلَ الْمُجْمَلَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ فَعَلَتْهُ طَائِفَةٌ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْمَنْقُولَاتِ. إذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66] . قَالُوا: مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَفْعَلُونَ مِثْلَ فِعَالِهِمْ، وَقَالُوا: نَكَالًا عُقُوبَةً لِمَا قَبْلَهَا وَعِبْرَةً لِمَا بَعْدَهَا، كَمَا قَالَ فِي السَّارِقِ: {نَكَالا مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38] . وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالنَّكَالِ الْعِبْرَةَ، لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] . فَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ نَكَّلَ بِعُقُوبَةِ هَؤُلَاءِ سَائِرَ مَنْ بَعْدَهُمْ وَوَعَظَ بِهَا الْمُتَّقِينَ، فَحَقِيقٌ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْذَرَ اسْتِحْلَالَ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَشَدِّ أَسْبَابِ الْعُقُوبَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْخَطَايَا وَالْمَعَاصِي، ثُمَّ مِمَّا يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ الَّتِي احْتَالَهَا أَصْحَابُ السَّبْتِ فِي الصَّيْدِ قَدْ اسْتَحَلَّهَا طَوَائِفُ مِنْ الْمُفْتِينَ حَتَّى تَعَدَّى ذَلِكَ إلَى بَعْضِ الْحِيلَةِ، فَقَالُوا: إنَّ الرَّجُلَ إذَا نَصَبَ شَبَكَةً، أَوْ شِصًّا قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ لِيَقَعَ فِيهِ الصَّيْدُ بَعْدَ إحْرَامِهِ، ثُمَّ أَخَذَهُ بَعْدَ حِلِّهِ لَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ،

الوجه الخامس أن النبي قال إنما الأعمال بالنيات

وَهَذِهِ بِعَيْنِهَا حِيلَةُ أَصْحَابِ السَّبْتِ، وَفِي ذَلِكَ تَصْدِيقُ قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69] . وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ: فَمَنْ؟» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا تَأَمَّلَهُ اللَّبِيبُ عَلِمَ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى. [الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ] الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي إبْطَالِ الْحِيَلِ. وَبِهِ احْتَجَّ الْبُخَارِيُّ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعَامِلَ رَجُلًا مُعَامَلَةً يُعْطِيهِ فِيهَا أَلْفًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ إلَى أَجَلٍ، فَأَقْرَضَهُ تِسْعَمِائَةٍ وَبَاعَهُ ثَوْبًا بِسِتِّمِائَةٍ يُسَاوِي مِائَةً، إنَّمَا نَوَى بِاقْتِرَاضِ التِّسْعمِائَةِ تَحْصِيلَ مَا رَبِحَهُ فِي الثَّوْبِ، وَإِنَّمَا نَوَى بِالسِّتِّمِائَةِ الَّتِي أَظْهَرَ أَنَّهَا ثَمَنٌ أَنَّ أَكْثَرَهَا رِبْحُ التِّسْعِمِائَةِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ إلَّا مَا نَوَاهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا مَقْصُودٌ فَاسِدٌ غَيْرُ صَالِحٍ، وَلَا جَائِزٍ؛ لِأَنَّ إعْطَاءَ الدَّرَاهِمِ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا مُحَرَّمٌ فِعْلُهُ وَقَصْدُهُ، فَإِذَا كَانَ إنَّمَا بَاعَ الثَّوْبَ بِسِتِّمِائَةٍ مَثَلًا، لِأَنَّ الْخَمْسَمِائَةِ رِبْحُ التِّسْعِمِائَةِ الَّتِي أَعْطَاهُ إيَّاهَا بِدَرَاهِمَ فَهَذَا مَقْصُودٌ مُحَرَّمٌ، فَيَكُونُ مُهْدَرًا فِي الشَّرْعِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ الصَّالِحَةِ وَالْقَرْضِ، كَمَا أَنَّ مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ إنَّمَا كَانَ لَهُ أُمُّ قَيْسٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ أَحْكَامِ الْهِجْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ شَيْءٌ. وَكَذَلِكَ الْمُحَلِّلُ إنَّمَا نَوَى أَنْ يُطَلِّقَ الْمَرْأَةَ لِتَحِلَّ لِلْأَوَّلِ وَلَمْ يَنْوِ أَنْ يَتَّخِذَهَا زَوْجَةً فَلَا تَكُونُ لَهُ زَوْجَةً، فَلَا تَحِلُّ لَهُ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةً فَالتَّحْرِيمُ بَاقٍ، فَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ. وَهَذَا ظَاهِرٌ.

الوجه السادس قول النبي من أدخل فرسا بين فرسين

[الْوَجْه السَّادِسُ قَوْل النَّبِيّ مَنْ أَدَخَلَ فَرَسًا بَيْن فَرَسَيْنِ] الْوَجْهُ السَّادِسُ مَا رَوَى سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، وَسَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ. وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ قَدْ خَرَّجَ لَهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ: ثِقَةٌ، وَقَالَ مَرَّةً: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَلَيْسَ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَكَذَلِكَ وَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ: سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ ثِقَةٌ يُخْطِئُ فِي حَدِيثِهِ كَثِيرًا، وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَيْسَ هُوَ بِذَاكَ فِي حَدِيثِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: فِي حَدِيثِهِ ضَعْفٌ مَا رَوَى عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَهَذَا الْقَدْرُ الَّذِي قَالُوهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَرْوِي أَشْيَاءَ يُخَالِفُ فِيهَا النَّاسَ فِي الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يُوجِبُ التَّوَقُّفَ فِي رِوَايَتِهِ إذَا خَالَفَهُ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ مِنْهُ، فَأَمَّا إذَا رَوَى حَدِيثًا مُسْتَقِلًّا وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَقَدْ زَالَ الْمَحْذُورُ، وَظَهَرَ أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا مَحْفُوظًا بِمُتَابَعَةِ غَيْرِهِ لَهُ. فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ إخْرَاجَ السَّبَقِ مِنْ الْمُتَسَابِقَيْنِ مَعًا، لِأَنَّهُ قِمَارٌ؛ إذْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْآخَرِ، أَوْ يُعْطِيَهُ عَلَى السَّبْقِ، وَلَمْ يَقْصِدْ الْمُخْرِجُ أَنْ يَجْعَلَ لِلسَّابِقِ جُعْلًا عَلَى سَبْقِهِ، فَيَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْجَعَالَةِ: فَإِذَا أَدْخَلَا ثَالِثًا كَانَ لَهُمَا حَالٌ ثَانِيَةٌ، وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَا جَمِيعًا الثَّالِثَ، فَيَكُونَ الثَّالِثُ لَهُ جُعْلٌ عَلَى سَبْقِهِ، فَيَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْجَعَائِلِ حَتَّى يَكُونَ فَرَسًا يَحْصُلُ مَعَهُ مَقْصُودُ انْتِفَاءِ الْقِمَارِ بِأَنْ يَكُونَ يَخَافُ مِنْهُ أَنْ يَسْبِقَ فَيَأْخُذَ السَّبَقَيْنِ جَمِيعًا. وَمَنْ جَوَّزَ الْحِيَلَ فَإِنَّهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ؛ إمَّا أَنْ يُجَوِّزَ هَذَا فَيَكُونَ مُخَالِفًا لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ وَهُوَ مِنْ الْعَظَائِمِ، أَوْ لَا يُجَوِّزَهُ. فَمَعْلُومٌ أَنَّ قِيَاسَ قَوْلِهِ أَنْ يُحْرِزَ هَذَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَإِنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ قَصْدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْعُقُودِ، وَلَا يَعْتَبِرُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعُرْفُ فِي الْعُقُودِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الْحِيَلُ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ مَا يُسَاوِي مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّمَا ذَلِكَ لِمَا يُقَابِلُ الْمِائَةَ أَلْفٍ مِنْ دَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا أُخِذَتْ بِاسْمِ الْقَرْضِ وَهِيَ

الوجه السابع النبي صلى الله عليه وسلم قال البيع والمبتاع بالخيار

رِبًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُنْكِحَ الْوَسِيطَةَ فِي قَوْمِهَا مِنْ بَعْضِ الْأَرَاذِلِ بِعِوَضٍ يُبْذَلُ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِعْلَ مَنْ يُرِيدُ النِّكَاحَ. [الْوَجْهُ السَّابِعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْبَيِّعُ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ] الْوَجْهُ السَّابِعُ مَا رَوَى عَمْرُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْبَيِّعُ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ، حَتَّى يَتَفَرَّقَا إلَّا أَنْ يَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَالَ: فِيهِ إبْطَالُ الْحِيَلِ؛ فَلَمَّا كَانَ الشَّارِعُ قَدْ أَثْبَتَ الْخِيَارَ إلَى حِينِ التَّفَرُّقِ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمُتَعَاقِدَانِ بِشُؤْمِ طِبَاعِهِمَا حَرَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْصِدَ الْمُفَارِقُ مَنْعَ الْآخَرِ مِنْ الِاسْتِقَالَةِ، وَهِيَ طَلَبُ الْفَسْخِ سَوَاءٌ كَانَ الْعَقْدُ لَازِمًا أَوْ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِالتَّفَرُّقِ غَيْرَ مَا جُعِلَ التَّفَرُّقُ فِي الْعُرْفِ لَهُ مِنْ إسْقَاطِ حَقِّ الْمُسْلِمِ. [الْوَجْهُ الثَّامِنُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَ الْيَهُودُ] الْوَجْهُ الثَّامِنُ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّيَّاحِ الزَّعْفَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو هَذَا إسْنَادٌ جَيِّدٌ يُصَحِّحُ مِثْلَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ تَارَةً، وَيُحَسِّنُهُ تَارَةً، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورُ مَشْهُورٌ ثِقَةٌ ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ كَذَلِكَ وَسَائِرُ رِجَالِ الْإِسْنَادِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ إلَى وَصْفِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَشْهَدُ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ السَّبْتِ. وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ قِصَّةَ الشُّحُومِ

الوجه التاسع بلغ عمر أن فلانا باع خمرا

وَهَذَا نَصٌّ فِي تَحْرِيمِ اسْتِحْلَالِ مَحَارِمِ اللَّهِ بِالِاحْتِيَالِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ النَّبِيُّ أَدْنَى الْحِيَلِ، لِأَنَّ الْمُطَلِّقَ ثَلَاثًا مَثَلًا قَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ، وَمِنْ أَسْهَلِ الْحِيَلِ عَلَيْنَا أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ السُّفَهَاءِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَيَسْتَعِيرَهُ لِيَنْزُوَ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ مِنْ نِكَاحِ رَاغِبٍ، فَإِنَّ ذَاكَ يَصْعُبُ مَعَهُ عَوْدُهَا حَلَالًا؛ إذْ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ لَا يُطَلِّقَ بَلْ أَنْ يَمُوتَ الْمُطَلِّقُ أَوَّلًا قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُقْرِضَ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَمِنْ أَدْنَى الْحِيَلِ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ أَلْفًا إلَّا دِرْهَمًا بِاسْمِ الْقَرْضِ، وَيَبِيعَهُ خِرْقَةً تُسَاوِي دِرْهَمًا بِخَمْسِمِائَةٍ، وَهَكَذَا سَائِرُ أَبْوَابِ الْحِيَلِ. ثُمَّ إنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَانَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ، وَقَدْ كَانُوا احْتَالُوا فِي الِاصْطِيَادِ يَوْمَ السَّبْتِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّهُمْ حَفَرُوا خَنَادِقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَقَعُ الْحِيتَانُ فِيهَا يَوْمَ السَّبْتِ، ثُمَّ يَأْخُذُونَهَا يَوْمَ الْأَحَدِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمُحْتَالِينَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الِاصْطِيَادِ لَمْ يُوجَدْ يَوْمَ السَّبْتِ، لَكِنْ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْكَفُّ عَمَّا يُنَالُ بِهِ الصَّيْدُ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ، أَوْ الْمُبَاشَرَةِ. وَمِنْ احْتِيَالِهِمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلَ الشُّحُومِ، تَأَوَّلُوا أَنَّ الْمُرَادَ نَفْسُ إدْخَالِهِ الْفَمَ، وَأَنَّ الشَّحْمَ هُوَ الْجَامِدُ دُونَ الْمُذَابِ فَجَمَلُوهُ فَبَاعُوهُ وَأَكَلُوا ثَمَنَهُ، وَقَالُوا: مَا أَكَلْنَا الشَّحْمَ، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إذَا حَرَّمَ الِانْتِفَاعَ بِشَيْءٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ، أَوْ بِبَدَلِهِ إذْ الْبَدَلُ يَسُدُّ مَسَدَّهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَالِ جُمُودِهِ وَذَوْبِهِ فَلَوْ كَانَ ثَمَنُهُ حَلَالًا لَمْ يَكُنْ فِي التَّحْرِيمِ كَبِيرُ أَمْرٍ وَهَذَا هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ. [الْوَجْهُ التَّاسِعُ بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ فُلَانًا بَاعَ خَمْرًا] الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَهُوَ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: «بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ فُلَانًا بَاعَ خَمْرًا، قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: جَمَلُوهَا مَعْنَاهُ أَذَابُوهَا حَتَّى تَصِيرَ وَدَكًا، فَيَزُولَ

عَنْهَا اسْمُ الشَّحْمِ، يُقَالُ: جَمَلْت الشَّيْءَ وَأَجْمَلْتُهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَالُ جَمَّلْت الشَّحْمَ أُجَمِّلُهُ بِالضَّمِّ، وَالْجَمِيلُ الشَّحْمُ الْمُذَابُ، وَيُجَمِّلُ إذَا أَكَلَ الْجَمِيلَ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ اللَّه حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْأَصْنَامَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ ذَلِكَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَأَصْلُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، وَأَبِي الْحَارِثِ هَذِهِ الْحِيَلُ الَّتِي وَضَعَهَا هَؤُلَاءِ فُلَانٌ وَأَصْحَابُهُ عَمَدُوا إلَى الشَّيْءِ فَاحْتَالُوا فِي نَقْضِهَا، وَالشَّيْءُ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ: إنَّهُ حَرَامٌ احْتَالُوا عَلَيْهِ حَتَّى أَحَلُّوهُ، وَقَالَ: الرَّهْنُ لَا يَحِلُّ أَنْ يُسْتَعْمَلَ، ثُمَّ قَالُوا: نَحْتَالُ لَهُ حَتَّى يُسْتَعْمَلَ، فَكَيْفَ يَحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَأَذَابُوهَا فَبَاعُوهَا فَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» . فَإِنَّمَا أَذَابُوهَا حَتَّى أَزَالُوا عَنْهَا اسْمَ الشَّحْمِ، وَقَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ بُطْلَانِ كُلِّ حِيلَةٍ يُحْتَالُ بِهَا لِلتَّوَصُّلِ إلَى الْمُحَرَّمِ وَأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ بِتَغَيُّرِ هَيْئَتِهِ وَتَبْدِيلِ اسْمِهِ. فَوَجَدَ الدَّلَالَةَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الشُّحُومَ أَرَادُوا الِاحْتِيَالَ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُقَالُ فِي الظَّاهِرِ إنَّهُمْ انْتَفَعُوا بِالشَّحْمِ فَجَمَلُوهُ، وَقَصَدُوا بِذَلِكَ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ اسْمُ الشَّحْمِ، ثُمَّ انْتَفَعُوا بِثَمَنِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَحْصُلَ الِانْتِفَاعُ بِعَيْنِ الْمُحَرَّمِ، ثُمَّ مَعَ أَنَّهُمْ احْتَالُوا حِيلَةً خَرَجُوا بِهَا فِي زَعْمِهِمْ مِنْ ظَاهِرِ التَّحْرِيمِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَعَنَهُمْ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَذَا الِاسْتِحْلَالِ، نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ، فَإِنَّ مَا حُكْمُهُ التَّحْرِيمُ لَا يَخْتَلِفُ سَوَاءٌ كَانَ

جَامِدًا، أَوْ مَائِعًا، وَبَدَلُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ، فَإِذَا حَرَّمَ اللَّهُ الِانْتِفَاعَ بِشَيْءٍ حَرَّمَ الِاعْتِيَاضَ عَنْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، وَلِهَذَا مَا أُبِيحَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ كَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا لِمَنْفَعَةِ الظَّهْرِ الْمُبَاحَةِ لَا لِمَنْفَعَةِ اللَّحْمِ الْمُحَرَّمِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» . فَإِنَّ اللَّهَ إذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ الْمُقَابِلَ لِمَنْفَعَةِ الْأَكْلِ، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ أُخْرَى وَكَانَ الثَّمَنُ فِي مُقَابِلِهَا لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا. إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّحْرِيمُ مُعَلَّقًا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَبِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ دُونَ رِعَايَةٍ لِمَقْصُودِ الشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ، وَمَعْنَاهُ وَحَقِيقَتِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْيَهُودُ اللَّعْنَةَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّحْمَ خَرَجَ بِتَجْمِيلِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَحْمًا وَصَارَ وَدَكًا، كَمَا يَخْرُجُ الرِّبَا بِالِاحْتِيَالِ فِيهِ عَنْ لَفْظِ الرِّبَا إلَى أَنْ يَصِيرَ بَيْعًا عِنْدَ مَنْ يَسْتَحِلُّ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ إلَى أَجَلٍ فَأَعْطَاهُ حَرِيرَةً بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ، ثُمَّ أَخَذَهَا بِأَلْفٍ حَالَّةٍ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ مَعْنَى مَنْ أَعْطَى أَلْفًا بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَقْصُودُ إلَّا مَا بَيْنَ الشَّحْمِ وَالْوَدَكِ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِعَيْنِ الشَّحْمِ، وَإِنَّمَا انْتَفَعُوا بِالثَّمَنِ، فَيَلْزَمُ مَنْ رَاعَى مُجَرَّدَ الْأَلْفَاظِ وَالظَّوَاهِرِ دُونَ الْمَقَاصِدِ وَالْحَقَائِقِ أَنْ لَا يُحَرِّمَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - حَرَّمَ الثَّمَنَ تَحْرِيمًا غَيْرَ تَحْرِيمِ الشَّحْمِ، فَلَمَّا لَعَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيَهُودَ عَلَى اسْتِحْلَالِهِمْ الْأَثْمَانَ مَعَ تَحْرِيمِ الْمُثَمَّنِ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ لَهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ الثَّمَنِ، عُلِمَ أَنَّ الْوَاجِبَ النَّظَرُ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ تَحْرِيمَ الْعَيْنِ تَحْرِيمٌ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ لَا يُقْصَدَ الِانْتِفَاعُ بِهَا أَصْلًا، وَفِي أَخْذِ بَدَلِهَا أَكْثَرُ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَإِثْبَاتٌ لِخَاصَّةِ الْمَالِ، وَمَقْصُودِهِ فِيهَا، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلتَّحْرِيمِ وَصَارَ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لِرَجُلٍ: لَا تَقْرَبْ مَالَ الْيَتِيمِ، فَيَبِيعُ وَيَأْخُذُ ثَمَنَهُ وَيَقُولُ: لَمْ أَقْرَبْ مَالَ الْيَتِيمِ، أَوْ كَرَجُلٍ قِيلَ لَهُ: لَا تَضْرِبْ زَيْدًا وَلَا تَمَسَّهُ بِأَذًى، فَجَعَلَ يَضْرِبُ عَلَى فَرْوَتِهِ الَّتِي قَدْ لَبِسَهَا، وَيَقُولُ: لَمْ أَضْرِبْهُ وَلَمْ أَمَسَّهُ، وَإِنَّمَا ضَرَبْت ثَوْبَهُ.

الوجه العاشر قال صلى الله عليه وسلم ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها

وَلِمَنْ يُجَوِّزُ الْحِيَلَ فِي بَابِ الْأَثْمَانِ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ فُنُونٌ كَثِيرَةٌ يُعَلِّقُونَ الْحُكْمَ فِيهَا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إلَى الْمَقْصُودِ، فَيَقَعُونَ فِي مِثْلِ مَا وَقَعَتْ فِيهِ الْيَهُودُ سَوَاءً، إلَّا أَنَّ الْمَنْعَ هُنَاكَ مِنْ جِهَةِ الْحَالِفِ، وَالْمَنْعَ هُنَا مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَحِمَ هَذِهِ الْأُمَّةَ - بِأَنَّ نَبِيَّهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا لُعِنَتْ بِهِ الْيَهُودُ، وَكَانَ السَّابِقُونَ مِنْهَا فُقَهَاءَ أَتْقِيَاءَ عَلِمُوا مَقْصُودَ الشَّارِعِ، فَاسْتَقَرَّتْ الشَّرِيعَةُ بِتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهَا، وَإِنْ بُدِّلَتْ صُوَرُهَا، وَبِتَحْرِيمِ أَثْمَانِهَا - لَطَرَقَ الشَّيْطَانُ لِأَهْلِ الْحِيَلِ مَا طَرَقَ لَهُمْ فِي الْأَثْمَانِ وَنَحْوِهَا. إذْ الْبَابَانِ بَابٌ وَاحِدٌ عَلَى مَا لَا يَخْفَى، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَا فَعَلَتْهُ الْيَهُودُ، وَبَيْنَ أَنْ يُرِيدَ رَجُلٌ أَنْ يَهَبَ رَجُلًا شَيْئًا مِنْ مَالِهِ ثَوْبًا، أَوْ عَبْدًا، أَوْ دَارًا، فَيُرِيدَ أَنْ يَقْطَعَ عَنْهُ مِنَّتَهُ، فَيَقُولَ: وَاَللَّهِ لَا آخُذُ هَذَا الثَّوْبَ، فَيُبَاعَ ذَلِكَ الثَّوْبُ، وَيَأْخُذَ ثَمَنَهُ، أَوْ يُفَصِّلَ قَمِيصًا، ثُمَّ يَأْخُذَهُ وَيَقُولَ: مَا أَخَذْت الثَّوْبَ، وَإِنَّمَا أَخَذْت ثَمَنَهُ، أَوْ أَخَذْتُ قَمِيصًا؟ هَذَا تَأْوِيلُ الْيَهُودِ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّ الْحَالِفَ أَرَادَ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ مَنْعًا يُوجِبُ الْحِنْثَ بِتَقْدِيرِ الْفِعْلِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ مَنْعَ عِبَادِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمُحَرَّمِ مَنْعًا يُوجِبُ الْحِنْثَ بِتَقْدِيرِ الْفِعْلِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ أَكْثَرَ الْحِيَلِ وَجَدَهَا عِنْدَ الْحَقِيقَةِ تَعُودُ إلَى مَا يُشْبِهُ هَذَا. وَمِمَّا ذُكِرَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ فِعْلَ أَرْبَابِ الْحِيَلِ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْيَهُودِ الَّذِي لُعِنُوا عَلَيْهِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ. [الْوَجْهُ الْعَاشِرُ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا] الْوَجْهُ الْعَاشِرُ وَهُوَ مَا رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: دَخَلَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ، فَتَذَاكَرْنَا الطَّلَاقَ. فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا يُعْزَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمْ الْأَرْضَ وَيَجْعَلُ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ بِهَذَا الْإِسْنَادِ. لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد مِنْ عِنْدِ: " يُعْزَفُ إلَى آخِرِهِ ". وَإِسْنَادُ ابْنِ مَاجَهْ إلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ صَحِيحٌ، وَسَائِرُ إسْنَادِهِ حَسَنٌ، فَإِنَّ حَاتِمَ بْنَ حُرَيْثٍ شَيْخٌ،

وَمَالِكَ بْنَ أَبِي مَرْيَمَ مِنْ قُدَمَاءِ الشَّامِيِّينَ. وَلِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلٌ فِي الصَّحِيحِ ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ وَأَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَاَللَّهِ مَا كَذَبَنِي سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إلَى جَنْبِ عَلَمٍ تَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَةٌ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ رَجُلٌ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ ارْجِعْ إلَيْنَا غَدًا فَيُبَيِّتُهُمْ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعَلَمَ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ، وَعُرْفُهُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُعَلَّقَةِ إذَا قَالَ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا، فَهُوَ مِنْ الصَّحِيحِ الْمَشْرُوطِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُسْنِدْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ بَازِلًا أَوْ لَا يَذْكُرُ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ مَعَ عِلْمِهِ بِاشْتِهَارِ الْحَدِيثِ عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي الصَّحِيحِ، وَإِذَا قَالَ: رُوِيَ عَنْ فُلَانٍ أَوْ يَذْكُرُهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِ كِتَابِهِ لَكِنْ يَكُونُ مِنْ الْحَسَنِ وَنَحْوِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالْبَرْقَانِيُّ فِي صَحِيحَيْهِمَا الْمُخَرَّجَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ. لَكِنْ فِي لَفْظٍ لَهُمَا: «تَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَةٌ لَهُمْ وَيَأْتِيهِمْ رَجُلٌ لِحَاجَةٍ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «فَيَأْتِيهِمْ طَالِبُ حَاجَةٍ فَيَقُولُونَ» إلَى آخِرِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَلَمْ يَشُكَّ وَهَذَا مَعَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْهُمَا وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا لَفْظٌ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد كِلَا الْحَدِيثَيْنِ، لَكِنْ رَوَى الثَّانِيَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، أَوْ أَبِي عَامِرٍ، وَلَفْظُهُ: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ» . وَذَكَرَ كَلَامًا قَالَ: «يَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ، وَالْخَزُّ - بِالْخَاءِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَتَيْنِ - وَسَوَاءٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ هُنَا نَوْعٌ مِنْ الْحَرِيرِ، وَلَيْسَ هُوَ الْخَزَّ الْمَأْذُونَ فِي لُبْسِهِ الْمَنْسُوجَ مِنْ صُوفٍ وَحَرِيرٍ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ» يَعْنِي: مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَحِلِّينَ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَحِلِّينَ يَنْزِلُ مِنْهُمْ أَقْوَامٌ إلَى جَنْبِ جَبَلٍ، فَيُوَاعِدُهُمْ رَجُلٌ إلَى الْغَدِ فَيُبَيِّتُهُمْ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَيْلًا وَيَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، كَمَا ذُكِرَ الضَّمِيرُ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد حَيْثُ قَالَ: «يَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ» وَكَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، حَيْثُ قَالَ: «يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمْ الْأَرْضَ وَيَمْسَخُ مِنْهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ» - وَالْخَسْفُ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - التَّبْيِيتُ الْمَذْكُورُ فِي الْآخِرِ. فَإِنَّ التَّبْيِيتَ هُوَ الْإِتْيَانُ بِالْبَأْسِ فِي اللَّيْلِ كَتَبْيِيتِ الْعَدُوِّ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف: 97] وَهَذَا نَصٌّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا هَذِهِ الْمَحَارِمَ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ فِيهَا، حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ الشَّرَابَ الَّذِي شَرِبُوهُ لَيْسَ هُوَ الْخَمْرَ، وَإِنَّمَا لَهُ اسْمٌ آخَرُ إمَّا النَّبِيذُ أَوْ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا الْخَمْرُ عَصِيرُ الْعِنَبِ النِّيءُ خَاصَّةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ تَأْوِيلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْكُوفِيِّينَ مَعَ فَضْلِ بَعْضِهِمْ وَعِلْمِهِ وَدِينِهِ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: دَعْ الْخَمْرَ يَشْرَبْهَا الْغُوَاةُ ... فَإِنَّنِي رَأَيْتُ أَخَاهَا قَائِمًا فِي مَكَانِهَا فَإِنْ لَا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ ... أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا وَلَقَدْ صَدَقَ فِيمَا قَالَ، فَإِنَّ النَّبِيذَ إنْ لَمْ يُسَمَّ خَمْرًا فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْخَمْرِ فِي الْمَعْنَى، فَكَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ يُسَمَّى خَمْرًا. وَإِنَّمَا أَتَى هَؤُلَاءِ حَيْثُ اسْتَحَلُّوا الْمُحَرَّمَاتِ بِمَا ظَنُّوهُ مِنْ انْتِفَاءِ الِاسْمِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى وُجُودِ الْمَعْنَى الْمُحَرَّمِ وَثُبُوتِهِ. وَهَذَا بِعَيْنِهِ شُبْهَةُ الْيَهُودِ فِي اسْتِحْلَالِ بَيْعِ الشَّحْمِ بَعْدَ تَجْمِيلِهِ، وَاسْتِحْلَالِ أَخْذِ الْحِيتَانِ يَوْمَ الْأَحَدِ بِمَا أَوْقَعُوهَا بِهِ يَوْمَ السَّبْتِ فِي الشِّبَاكِ وَالْحَفَائِرِ مِنْ فِعْلِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، حَيْثُ قَالُوا: لَيْسَ هَذَا بِصَيْدٍ وَلَا عَمَلٍ فِي يَوْمِ السَّبْتِ. وَلَيْسَ هَذَا بِاسْتِبَاحَةِ الشَّحْمِ. بَلْ الَّذِي يَسْتَحِلُّ الشَّرَابَ الْمُسْكِرَ زَاعِمًا أَنَّهُ لَيْسَ خَمْرًا، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْخَمْرِ، وَمَقْصُودَهُ مَقْصُودُ الْخَمْرِ أَفْسَدُ تَأْوِيلًا، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَمْرَ اسْمٌ لِكُلِّ شَرَابٍ أَسْكَرَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ قِيَاسًا، فَلَأَنْ كَانَ مِنْ الْقِيَاسِ مَا هُوَ حَقٌّ، فَإِنَّ قِيَاسَ الْخَمْرِ الْمَنْبُوذَةِ عَلَى الْخَمْرِ الْمَعْصُورَةِ مِنْ الْقِيَاسِ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ الْمُسَمَّى بِانْتِفَاءِ الْفَارِقِ، وَهُوَ مِنْ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ الَّذِي لَا يُسْتَرَابُ فِي

صِحَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ مَا يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي التَّحْرِيمِ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى مِنْهَا مَا رَوَى النَّسَائِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ شُعْبَةَ سَمِعْت أَبَا بَكْرِ بْنَ حَفْصٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مُحَيْسِنٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَشْرَبُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا» . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ يَحْيَى الْعَبْسِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ السِّمْطِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَشْرَبُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ بِاسْمٍ يُسَمُّونَهَا إيَّاهُ» . وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَلَفْظُهُ: «لَيَسْتَحِلَّنَّ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ» وَأَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصٍ ثِقَةٌ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ، وَابْنُ مُحَيْرِيزٍ إمَامٌ سَيِّدٌ جَلِيلٌ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ الْخَلَّالِ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَذْهَبُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ حَتَّى يَشْرَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا» . وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ مُتَّصِلٌ ، فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ، إنَّمَا شَرِبُوا الْخَمْرَ اسْتِحْلَالًا لِمَا ظَنُّوا أَنَّ الْمُحَرَّمَ مُجَرَّدُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَظَنُّوا أَنَّ لَفْظَ الْخَمْرِ لَا يَقَعُ عَلَى غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ النِّيءِ. فَمَعْلُومٌ أَنَّ شُبْهَتَهُمْ فِي اسْتِحْلَالِ الْحَرِيرِ وَالْمَعَازِفِ أَظْهَرُ، فَإِنَّهُ قَدْ أُبِيحَ الْحَرِيرُ لِلنِّسَاءِ مُطْلَقًا وَلِلرِّجَالِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَكَذَلِكَ الْغِنَاءُ وَالدُّفُّ قَدْ أُبِيحَ لِلنِّسَاءِ فِي الْعُرْسِ وَنَحْوِهِ، وَقَدْ أُبِيحَ مِنْهُ الْحِدَاءُ وَغَيْرُهُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ دَلَائِلِ التَّحْرِيمِ مَا فِي الْخَمْرِ. فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ يُخْسَفُ بِهِمْ وَيُمْسَخُونَ إنَّمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمْ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ الَّذِي اسْتَحَلُّوا بِهِ الْمَحَارِمَ بِطَرِيقِ الْحِيلَةِ فَأَعْرَضُوا عَنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ وَحِكْمَتِهِ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلِذَلِكَ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، كَمَا مُسِخَ أَصْحَابُ السَّبْتِ بِمَا تَأَوَّلُوا مِنْ التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ الَّذِي اسْتَحَلُّوا بِهِ الْمَحَارِمَ، وَخُسِفَ بِبَعْضِهِمْ، كَمَا

خُسِفَ بِقَارُونَ، لِأَنَّ فِي الْخَمْرِ وَالْحَرِيرِ وَالْمَعَازِفِ مِنْ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ مَا فِي الزِّينَةِ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا قَارُونُ عَلَى قَوْمِهِ. فَلَمَّا مَسَخُوا دِينَ اللَّهِ مَسَخَهُمْ اللَّهُ، وَلَمَّا تَكَبَّرُوا عَنْ الْحَقِّ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ. وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الْمَسْخِ وَالْخَسْفِ عِنْدَ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ مِنْهَا: مَا رَوَى فَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَمْرٍو الْبَجَلِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَبِيتُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَلَهْوٍ وَلَعِبٍ، ثُمَّ يُصْبِحُونَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَيُبْعَثُ عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَائِهِمْ رِيحٌ فَتَنْسِفُهُمْ كَمَا نَسَفَتْ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِاسْتِحْلَالِهِمْ الْخُمُورَ وَضَرْبِهِمْ بِالدُّفُوفِ وَاِتِّخَاذِهِمْ الْقَيْنَاتِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَتَى ذَلِكَ؟ قَالَ: إذَا ظَهَرَتْ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ اسْتِحْلَالِ الرِّبَا بِاسْمِ الْبَيْعِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ اسْتِحْلَالِ الْخَمْرِ بِاسْمٍ آخَرَ فَجَمَعَ مِنْ الْمَطَاعِمِ مَا حَرُمَ فِي ذَاتِهِ وَمَا حَرُمَ لِلْعَقْدِ الْمُحَرَّمِ، فَرَوَى الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ» يَعْنِي الْعِينَةَ وَهَذَا الْمُرْسَلُ بَيِّنٌ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تُسَمَّى بَيْعًا فِي الظَّاهِرِ وَحَقِيقَتُهَا وَمَقْصُودُهَا حَقِيقَةُ الرِّبَا - وَالْمُرْسَلُ صَالِحٌ لِلِاعْتِضَادِ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَلَهُ مِنْ الْمُسْنَدِ مَا يَشْهَدُ لَهُ وَهِيَ الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْعِينَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ وَسَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعِينَةَ عِنْدَ مُسْتَحِلِّهَا إنَّمَا يُسَمِّيهَا بَيْعًا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّهَا رِبًا لَا بَيْعٌ، وَقَدْ رُوِيَ فِي اسْتِحْلَالِ الْفُرُوجِ حَدِيثٌ رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ، عَنْ النَّبِيِّ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَوَّلُ دِينِكُمْ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ مُلْكٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ مُلْكٌ وَجَبْرِيَّةٌ، ثُمَّ مُلْكٌ عَضُوضٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ الْحِرُّ وَالْحَرِيرُ» . يُرِيدُ اسْتِحْلَالَ الْفُرُوجِ مِنْ الْحَرَامِ وَالْحِرُّ - بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ - هُوَ الْفَرْجُ. وَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِذَلِكَ ظُهُورَ اسْتِحْلَالِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَاسْتِحْلَالِ خُلْعِ الْيَمِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ اسْتِحْلَالَ الْفُرُوجِ الْمُحَرَّمَةِ، فَإِنَّ الْأُمَّةَ لَمْ يَسْتَحِلَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ الزِّنَا الصَّرِيحَ، وَلَمْ يُرِدْ بِالِاسْتِحْلَالِ مُجَرَّدَ الْفِعْلِ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا فِي النَّاسِ، ثُمَّ لَفْظُ الِاسْتِحْلَالِ، إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَصْلِ فِيمَنْ اعْتَقَدَ الشَّيْءَ، حَلَالًا، وَالْوَاقِعُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا الْمُلْكَ الْعَضُوضَ الَّذِي كَانَ بَعْدَ الْمُلْكِ وَالْجَبْرِيَّةِ قَدْ كَانَ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ التَّابِعِينَ. وَفِي تِلْكَ الْأَزْمَانِ صَارَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَنْ يُفْتِي بِنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنَحْوِهِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ مَنْ يُفْتِي بِذَلِكَ أَصْلًا. يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَشْهُورِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ وَالْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» . وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ» . قَالَ: وَقَالَ: «مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا إلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللَّهِ تَعَالَى» فَلَمَّا لَعَنَ أَهْلَ الرِّبَا وَالتَّحْلِيلَ، وَقَالَ مَا ظَهَرَ الرِّبَا وَالزِّنَا فِي قَوْمٍ إلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللَّهِ كَانَ هَذَا كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ التَّحْلِيلَ مِنْ الزِّنَا كَمَا أَنَّ الْعِينَةَ مِنْ الرِّبَا وَأَنَّ اسْتِحْلَالَ هَذَيْنِ اسْتِحْلَالٌ لِلرِّبَا وَالزِّنَا. وَأَنَّ ظُهُورَ ذَلِكَ يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ الَّتِي ذُكِرَ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ. وَقَدْ جَاءَ حَدِيثٌ آخَرُ يُوَافِقُ هُنَا، رُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ:

يَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِأَسْمَاءٍ يُسَمُّونَهَا بِهَا وَالسُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ وَالْقَتْلَ بِالرَّهْبَةِ وَالزِّنَا بِالنِّكَاحِ وَالرِّبَا بِالْبَيْعِ» . وَهَذَا الْخَبَرُ صَدَقَ فَإِنَّ الثَّلَاثَةَ الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهَا قَدْ بُيِّنَتْ، وَأَمَّا اسْتِحْلَالُ السُّحْتِ الَّذِي هُوَ الْعَطِيَّةُ لِلْوَالِي وَالْحَاكِمِ وَالشَّافِعِ وَنَحْوِهِمْ بِاسْمِ الْهَدِيَّةِ فَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، وَأَمَّا اسْتِحْلَالُ الْقَتْلِ بِاسْمِ الْإِرْهَابِ الَّذِي يُسَمِّيهِ وُلَاةُ الظُّلْمِ سِيَاسَةً وَهَيْبَةً وَأُبَّهَةَ الْمُلْكِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَظَاهِرٌ أَيْضًا، وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَنْ يَسْتَحِلُّ الْخُمُورَ وَالرِّبَا وَالسُّحْتَ وَالزِّنَا وَغَيْرَهَا بِأَسْمَاءٍ أُخْرَى مِنْ النَّبِيذِ وَالْبَيْعِ وَالْهَدِيَّةِ وَالنِّكَاحِ، وَمَنْ يَسْتَحِلُّ الْحَرِيرَ وَالْمَعَازِفَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ فِعْلُ أَصْحَابِ الْحِيَلِ، فَإِنَّهُمْ يَعْمِدُونَ إلَى الْأَحْكَامِ فَيُعَلِّقُونَهَا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِلُّونَهُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي لَفْظِ الشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ، مَعَ أَنَّ الْعَقْلَ يَعْلَمُ أَنَّ مَعْنَاهُ مَعْنَى الشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ، وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ، وَنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا تُسْتَحَلُّ بِاسْمِ الْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَالنِّكَاحِ وَهِيَ رِبًا، أَوْ سِفَاحٌ فِي الْمَعْنَى، فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِلرَّجُلِ وَلَهُ عَلَيْهِ أَلْفٌ تَجْعَلُهَا إلَى سَنَةٍ بِأَلْفٍ، وَمِائَتَيْنِ فَقَالَ: بِعْنِي هَذِهِ السِّلْعَةَ بِالْأَلْفِ الَّتِي فِي ذِمَّتِك، ثُمَّ ابْتَعْهَا مِنِّي بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ، فَهَذِهِ صُورَةُ الْبَيْعِ وَفِي الْحَقِيقَةِ بَاعَهُ الْأَلْفَ الْحَالَّةَ بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ مُؤَجَّلَةٍ، فَإِنَّ السِّلْعَةَ قَدْ تَوَاطَئُوا عَلَى عَوْدِهَا إلَى رَبِّهَا، وَلَمْ يَأْتِيَا بِبَيْعٍ مَقْصُودٍ بَتَّةً. وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ، وَإِنْ أَتَوْا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَبِالْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ وَالْمَهْرِ فَإِنَّهُمْ قَدْ تَوَاطَئُوا عَلَى أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ لَيْلَةً، أَوْ سَاعَةً ثُمَّ تُفَارِقَهُ، وَأَنَّهَا لَا تَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا، بَلْ تُعْطِيهِ، وَهَذَا هُوَ سِفَاحُ امْرَأَةٍ تَسْتَأْجِرُ رَجُلًا لِيَفْجُرَ بِهَا لِحَاجَتِهَا إلَيْهَا. فَتَبْدِيلُ النَّاسِ لِلْأَسْمَاءِ لَا يُوجِبُ تَبْدِيلَ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّهَا أَسْمَاءٌ سَمَّوْهَا وَآبَاؤُهُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، كَتَسْمِيَةِ الْأَوْثَانِ آلِهَةً، فَإِنَّ خَصَائِصَ الْإِلَهِيَّةِ لَمَّا كَانَتْ مَعْدُومَةً فِيهَا لَمْ يَكُنْ لِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ حَقِيقَةٌ، وَكَذَلِكَ خَصَائِصُ الْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ، وَهِيَ الصِّفَاتُ وَالنُّعُوتُ الْمَوْجُودَةُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ فِي الْعَادَةِ إذَا كَانَ بَعْضُهَا مُنْتَفِيًا عَنْ هَذَا الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ بَيْعًا وَلَا نِكَاحًا، فَإِذَا كَانَتْ صِفَاتُ الْخَمْرِ، وَالرِّبَا، وَالسِّفَاحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ مَوْجُودَةً فِي شَيْءٍ كَانَ مُحَرَّمًا، وَإِنْ سَمَّاهُ النَّاسُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الِاسْمِ لِتَغْيِيرٍ أَتَوْا بِهِ فِي ظَاهِرِهِ. وَإِنْ أُفْرِدَ بِاسْمٍ، كَمَا أَنَّ الْمُنَافِقَ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْكَافِرِ فِي الْحَقِيقَةِ.

الوجه الحادي عشر قال صلى الله عليه وسلم إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة

فَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ فِي الظَّاهِرِ قَدْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُؤْمِنِ، وَمَنْ عَلِمَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ كَيْفَ كَانَ لَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ هِيَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَإِذَا حَلَّ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: إمَّا أَنْ تُوفِيَ، وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ، فَإِنْ لَمْ يُوفِهِ، وَإِلَّا زَادَهُ فِي الْمَالِ وَيَزِيدُهُ الْغَرِيمُ فِي الْأَجَلِ، وَلِهَذَا مَنْ عَلِمَ حَقِيقَةَ الدَّيْنِ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَطَعَ بِالتَّحْرِيمِ فِيمَا كَانَ مَقْصُودُهُ هَذَا، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - عَنْ الرِّبَا الَّذِي هُوَ الرِّبَا نَفْسُهُ الَّذِي فِيهِ تَغْلِيظٌ قَالَ: أَمَّا الْبَيِّنُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَك دَيْنٌ إلَى أَجَلٍ فَتَزِيدَ عَلَى صَاحِبِهِ تَحْتَالُ فِي ذَلِكَ لَا تُرِيدُ إلَّا الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ وَالشَّيْءُ مِمَّا يُكَالُ، أَوْ يُوزَنُ يَبِيعُهُ بِمِثْلِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبُو سَعِيدٍ: " أَوْ يَتِيمًا فَرْدًا " قَالَ: وَهُوَ فِي النَّسِيئَةِ أَبْيَنُ. وَبِالْجُمْلَةِ مَنْ تَأَمَّلَ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاهِيًا عَنْهُ مِمَّا سَيَكُونُ فِي الْأُمَّةِ مِنْ اسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ، بِأَنْ يَسْلُبُوا عَنْهَا الِاسْمَ الَّذِي حُرِّمَتْ بِهِ، وَمَا فَعَلَتْهُ الْيَهُودُ عَلِمَ أَنَّ هَذَيْنِ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ تَصْدِيقُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» وَعُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ أَكْثَرَ الْحِيَلِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّونَ مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى الْحَقِّ. [الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ] الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ بَلَاءً فَلَا يُرْفَعُ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ. قَالَ: أَنْبَأَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَى حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ الْمِصْرِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيِّ، أَنَّ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ حَدَّثَهُ، أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ

سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إلَى دِينِكُمْ» وَهَذَانِ إسْنَادَانِ حَسَنَانِ، أَحَدُهُمَا يَشُدُّ الْآخَرَ وَيُقَوِّيهِ - فَأَمَّا رِجَالُ الْأَوَّلِ فَأَئِمَّةٌ مَشَاهِيرُ لَكِنْ نَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَعْمَشُ سَمِعَهُ عَنْ عَطَاءٍ، فَإِنَّ عَطَاءً لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ ابْنِ عُمَرَ. وَالْإِسْنَادُ الثَّانِي يُبَيِّنُ أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا مَحْفُوظًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ، وَحَيْوَةَ بْنَ شُرَيْحٍ كَذَلِكَ وَأَفْضَلُ، وَأَمَّا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَشَيْخٌ رَوَى عَنْهُ أَئِمَّةُ الْمِصْرِيِّينَ مِثْلُ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَيَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ رَوَيْنَا مِنْ طَرِيقٍ ثَالِثٍ فِي حَدِيثِ السَّرِيِّ بْنِ سَهْلٍ الْجُنَيْدِ سَابُورِيّ بِإِسْنَادٍ مَشْهُورٍ عَالِيهِ، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَشِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ وَمَا مِنَّا رَجُلٌ يَرَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِدِينَارِهِ وَبِدِرْهَمِهِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ. وَلَقَدْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ وَتَرَكُوا الْجِهَادَ وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى يَتُوبُوا وَيُرَاجِعُوا دِينَهُمْ» . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا عَنْ عَطَاءٍ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْعِينَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ السَّلَفُ، وَالسَّلَفُ يَعُمُّ تَعْجِيلَ الثَّمَنِ وَتَعْجِيلَ الْمُثَمَّنِ، وَهُوَ الْغَالِبُ هُنَا. يُقَالُ: اعْتَانَ الرَّجُلُ وَتَعَيَّنَ إذَا اشْتَرَى الشَّيْءَ بِنَسِيئَةٍ، كَأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْعَيْنِ وَهُوَ الْمُعَجَّلُ، وَصِيغَتْ عَلَى فِعْلِهِ، لِأَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَذْلَ الْعَيْنِ الْمُعَجَّلَةِ لِلرِّبْحِ، وَأَخْذَهَا لِلْحَاجَةِ كَمَا قَالُوا فِي نَحْوِ ذَلِكَ: التَّوَرُّقُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْوَرِقَ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ: أَنَا أَظُنُّ أَنَّ الْعِينَةَ إنَّمَا اُشْتُقَّتْ مِنْ حَاجَةِ الرَّجُلِ إلَى الْعَيْنِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فَيَشْتَرِي السِّلْعَةَ وَيَبِيعُهَا بِالْعَيْنِ الَّذِي احْتَاجَ إلَيْهِ وَلَيْسَتْ بِهِ إلَى السِّلْعَةِ حَاجَةٌ وَتُطْلَقُ الْعِينَةُ عَلَى نَفْسِ السِّلْعَةِ الْمُعْتَانَةِ. وَمِنْهُ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارَ فِي النَّسَبِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ،

أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ: اُغْدُ غَدًا إلَى السُّوقِ فَخُذْ لِي عِينَةً، قَالَ: فَغَدَا عَبْدُ اللَّهِ فَتَعَيَّنَ عِينَةً مِنْ السُّوقِ لِأَبِيهِ، ثُمَّ بَاعَهَا فَأَقَامَ أَيَّامًا مَا يَبِيعُ أَحَدٌ فِي السُّوقِ طَعَامًا وَلَا زَيْتًا غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ تِلْكَ الْعِينَةِ، فَلَعَلَّ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ: كِسْرَةٌ وَمِنْحَةٌ لِلْمَكْسُورَةِ وَالْمَمْنُوحَةِ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْعِينَةِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ وَإِلَّا لَمَا أَدْخَلَهَا فِي جُمْلَةِ مَا اسْتَحَقُّوا بِهِ الْعُقُوبَةَ. وَكَذَلِكَ فِي الْأَخْذِ بِأَذْنَابِ الْبَقَرِ، وَهُوَ عَلَى مَا قِيلَ الدُّخُولُ فِي الْأَرْضِ الْخَرَاجِ بَدَلًا عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ» . يَعْنِي الْعِينَةَ. فَهَذَا شَاهِدٌ عَاضِدٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ. وَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ: «مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا» . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعِينَةِ يَعْنِي بَيْعَ الْحَرِيرَةِ فَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَا يُخْدَعُ هَذَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» . رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيُّ الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِمُطَيْنٍ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. وَالصَّحَابَةُ إذَا قَالَ حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ أَوْجَبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَنَحْوَ هَذَا، فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا لَوْ رَوَى لَفْظَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدَّالَّ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالْأَمْرِ وَالْإِيجَابِ وَالْقَضَاءِ. لَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا خِلَافٌ شَاذٌّ. لِأَنَّ رِوَايَةَ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى جَائِزَةٌ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَعْنَى مَا سَمِعَ فَلَا يُقْدِمُ عَلَى أَنْ يَقُولَ أَمَرَ، أَوْ نَهَى، أَوْ حَرَّمَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَثِقَ بِذَلِكَ، وَاحْتِمَالُ الْوَهْمِ مَرْجُوحٌ كَاحْتِمَالِ غَلَطِ السَّمْعِ. وَنِسْيَانِ الْقَلْبِ. وَقَدْ رَوَى مُطَيْنٌ أَيْضًا، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اتَّقُوا هَذِهِ الْعِينَةَ، لَا بَيْعَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ وَبَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ، وَفِي رِوَايَةٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا بَاعَ مِنْ رَجُلٍ حَرِيرَةً بِمِائَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِخَمْسِينَ، سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ مُتَفَاضِلَةٍ دَخَلَتْ بَيْنَهَا حَرِيرَةٌ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ، وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ النَّجَشِيُّ الْحَافِظُ وَغَيْرُهُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعِينَةِ يَعْنِي بَيْعَ الْحَرِيرَةِ

فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُخْدَعُ هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. ذَكَرَهُ عَنْهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي خِلَافِهِ. وَالْأَثَرُ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ امْرَأَتِهِ، أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ هِيَ، وَأُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَامْرَأَةٌ أُخْرَى، فَقَالَتْ لَهَا أُمُّ وَلَدِ زَيْدٍ: إنِّي بِعْت مِنْ زَيْدٍ غُلَامًا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً وَاشْتَرَيْته بِسِتِّمِائَةٍ نَقْدًا، فَقَالَتْ: أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنْ يَتُوبَ بِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ وَبِئْسَ مَا شَرَيْتِ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثِنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَرَوَاهُ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ فِي حَدِيثِ إسْرَائِيلَ، حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ جَدَّتِهِ الْعَالِيَةِ يَعْنِي جَدَّةَ إسْرَائِيلَ، قَالَتْ: دَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ فِي نِسْوَةٍ فَقَالَتْ: حَاجَتُكُنَّ؟ فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ سَأَلَهَا أُمَّ مَحَبَّةَ فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ تَعْرِفِينَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَإِنِّي بِعْته جَارِيَةً بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بَيْعَهَا فَابْتَعْتهَا بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا. فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهَا وَهِيَ غَضْبَى. فَقَالَتْ: بِئْسَ مَا شَرَيْتِ وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ. وَأُفْحِمَتْ صَاحِبَتُنَا فَلَمْ تُكَلِّمْ طَوِيلًا، ثُمَّ أَنَّهُ سَهُلَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْتِ إنْ لَمْ آخُذْ إلَّا رَأْسَ مَالِي؟ فَتَلَتْ عَلَيْهَا: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] . فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ تُبَيِّنُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ هَذَا. حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي فِيهِ تَغْلِيظُ الْعِينَةِ - وَقَدْ فُسِّرَتْ فِي الْحَدِيثِ الْمُرْسَلِ بِأَنَّهَا مِنْ الرِّبَا، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّهَا أَنْ يَبِيعَ حَرِيرَةً مَثَلًا بِمِائَةٍ إلَى أَجَلٍ، ثُمَّ يَبْتَاعَهَا بِدُونِ ذَلِكَ نَقْدًا. وَقَالُوا هُوَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ وَبَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ. وَحَدِيثُ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: " هَذَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ". وَالْحَدِيثُ الْمُرْسَلُ الَّذِي لَهُ مَا يُوَافِقُهُ، أَوْ الَّذِي عَمِلَ بِهِ السَّلَفُ حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ: " أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنْ يَتُوبَ ". وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا قَطْعٌ بِالتَّحْرِيمِ وَتَغْلِيظٌ لَهُ، وَلَوْلَا أَنَّ عِنْدَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عِلْمًا مِنْ

رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَسْتَرِيبُ فِيهِ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ لَمْ تَسْتَجْرِئْ أَنْ تَقُولَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ بِالِاجْتِهَادِ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ قَصَدَتْ أَنَّ الْعَمَلَ يَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ، وَاسْتِحْلَالَ مِثْلِ هَذَا كُفْرٌ، لِأَنَّهُ مِنْ الرِّبَا وَاسْتِحْلَالُ الرِّبَا كُفْرٌ، لَكِنَّ عُذْرَ زَيْدٍ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ، وَلِهَذَا أَمَرَتْ بِإِبْلَاغِهِ فَمَنْ بَلَغَهُ التَّحْرِيمُ وَتَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَصَرَّ عَلَيْهِ لَزِمَهُ هَذَا الْحُكْمُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصَدَتْ هَذَا، فَإِنَّهَا قَصَدَتْ أَنَّ هَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي يُقَاوِمُ إثْمُهَا ثَوَابَ الْجِهَادِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً وَسَيِّئَةً بِقَدْرِهَا فَمَا كَأَنَّهُ عَمِلَ شَيْئًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْثَمًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ صَغِيرَةً، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْكَبَائِرِ، فَلَمَّا قَطَعَتْ بِأَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ وَأَمَرَتْ بِإِبْلَاغِهِ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّ هَذَا لَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَمَا ذَاكَ إلَّا عَنْ عِلْمٍ، وَإِلَّا فَالِاجْتِهَادُ لَا يُحَرِّمُ الِاجْتِهَادَ، وَأَيْضًا فَكَوْنُ الْعَمَلِ يُبْطِلُ الْجِهَادَ لَا يُعْلَمُ بِالِاجْتِهَادِ. ثُمَّ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ حُجَّةٌ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةَ مِثْلَ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ أَفْتَوْا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَغَلَّظُوا فِيهِ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ بَلْ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ بَلْ عَامَّةُ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ فَيَكُونُ حُجَّةً بَلْ إجْمَاعًا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ قَدْ فَعَلَ هَذَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ إنَّ هَذَا حَلَالٌ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ جَرْيًا عَلَى الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ فِيهِ، وَلَا نَظَرٍ وَلَا اعْتِقَادٍ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَضْعَفُ الْعِلْمِ الرِّوَايَةُ، يَعْنِي أَنْ يَقُولَ: رَأَيْت فُلَانًا يَفْعَلُ كَذَا، وَلَعَلَّهُ قَدْ فَعَلَهُ سَاهِيًا وَقَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: لَا تَنْظُرْ إلَى عَمَلِ الْفَقِيهِ وَلَكِنْ سَلْهُ يَصْدُقْكَ. وَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرْ عَنْهُ أَنَّهُ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ إنْكَارِ عَائِشَةَ وَكَثِيرًا مَا قَدْ يَفْعَلُ الرَّجُلُ النَّبِيلُ الشَّيْءَ مَعَ ذُهُولِهِ عَمَّا فِي ضِمْنِهِ مِنْ مَفْسَدَةٍ، فَإِذَا نُبِّهَ انْتَبَهَ، وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ مُحْتَمِلًا لِهَذَا، وَلِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْسَبَ لِأَجْلِهِ اعْتِقَادُ حِلِّ هَذَا إلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا سِيَّمَا وَأُمُّ وَلَدِهِ إنَّمَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ تَسْتَفْتِيهَا وَقَدْ رَجَعَتْ عَنْ هَذَا الْعَقْدِ إلَى رَأْسِ مَالِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَعُلِمَ أَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا. وَقَوْلُ السَّائِلَةِ لِعَائِشَةَ أَرَأَيْتِ إنْ لَمْ آخُذْ إلَّا رَأْسَ مَالِي ثُمَّ تِلَاوَةُ عَائِشَةَ عَلَيْهَا

{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] دَلِيلٌ بَيِّنٌ أَنَّ التَّغْلِيظَ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ رِبًا، لَا لِأَجْلِ جَهَالَةِ الْأَجَلِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إنَّمَا هِيَ فِي التَّأْنِيبِ مِنْ الرِّبَا، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ إذَا قَصَدَ التَّوَسُّلَ بِهِ إلَى الثَّانِي وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا وَغَيْرِهِ. وَمَا يَشْهَدُ لِمَعْنَى الْعِينَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ صَالِحِ بْنِ رُسْتُمَ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيٌّ أَوْ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَبَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْرِكَ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مَبْسُوطًا قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَنْهَدُ الْأَشْرَارُ وَيُسْتَذَلُّ الْأَخْيَارُ وَيُبَايِعُ الْمُضْطَرُّونَ، وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَبَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تُطْعَمَ» ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي رَاوِيهِ جَهَالَةٌ فَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ رَوَاهُ سَعِيدٌ. قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ كَوْثَرِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ مَكْحُولٍ، قَالَ: بَلَغَنِي، عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ حَدَّثَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ بَعْدَ زَمَانِكُمْ هَذَا زَمَانًا عَضُوضًا يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ» . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] وَيَنْهَدُ شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ يُبَايِعُونَ كُلَّ مُضْطَرٍّ أَلَا إنَّ بَيْعَ الْمُضْطَرِّ حَرَامٌ. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ إنْ كَانَ عِنْدَك خَيْرٌ فَعُدْ بِهِ عَلَى أَخِيك وَلَا تَزِدْهُ هَلَاكًا إلَى هَلَاكِهِ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ، وَإِنْ لَمْ تَجِبْ بِهِ حُجَّةٌ فَهُوَ يُعَضِّدُ الْأَوَّلَ مَعَ أَنَّهُ خَبَرُ صِدْقٍ بَلْ هُوَ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ عَامَّةَ الْعِينَةِ إنَّمَا تَقَعُ مِنْ رَجُلٍ مُضْطَرٍّ إلَى نَفَقَةٍ يَضَنُّ عَلَيْهِ الْمُوسِرُ بِالْقَرْضِ، لَا أَنْ يَرْبَحُوا فِي الْمِائَةِ مَا أَحَبُّوا فَيَبِيعُونَهُ ثَمَنَ الْمِائَةِ بِضِعْفِهَا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ

وَلِهَذَا كَرِهَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ بَيْعِ الرَّجُلِ أَوْ عَامَّتُهُ نَسِيئَةً لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي اسْمِ الْعِينَةِ وَبَيْعِ الْمُضْطَرِّ، فَإِنْ أَعَادَ السِّلْعَةَ إلَى الْبَائِعِ، أَوْ إلَى آخَرَ يُعِيدُهَا إلَى الْبَائِعِ عَنْ احْتِيَالٍ مُهِمٍّ وَتَوَاطُؤٍ لَفْظِيٍّ، أَوْ عُرْفِيٍّ، فَهُوَ الَّذِي لَا يُشَكُّ فِي تَحْرِيمِهِ. وَأَمَّا إنْ بَاعَهَا لِغَيْرِهِ بَيْعًا ثَابِتًا وَلَمْ تَعُدْ إلَى الْأَوَّلِ بِحَالٍ، فَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي كَرَاهَتِهِ وَيُسَمُّونَهُ التَّوَرُّقَ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْوَرِقُ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَكْرَهُهُ وَقَالَ: التَّوَرُّقُ أَخْبَثُ الرِّبَا، وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ يُرَخِّصُ فِيهِ، وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ وَأَشَارَ فِي رِوَايَةِ الْكَرَاهَةِ إلَى أَنَّهُ مُضْطَرٌّ، وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ أُسَامَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، إنَّمَا هُوَ إشَارَةٌ إلَى هَذَا أَوْ نَحْوِهِ فَإِنَّ رِبَا النَّسِيئَةِ يَدْخُلُ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ بِخِلَافِ رِبَا الْفَضْلِ فَإِنَّهُ نَادِرٌ لَا يَكَادُ يُفْعَلُ إلَّا عِنْدَ صِفَةِ الْمَالَيْنِ وَهَذَا كَمَا يُقَالُ إنَّمَا الْعَالِمُ زَيْدٌ وَلَا سَيْفَ إلَّا ذُو الْفَقَارِ يَعْنِي أَنَّهُ هُوَ الْكَامِلُ فِي بَابِهِ وَكَذَلِكَ النَّسِيئَةُ هِيَ أَعْظَمُ الرِّبَا وَكُبْرُهُ. يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى مَا صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا اسْتَقَمْت بِنَقْدٍ فَبِعْت بِنَقْدٍ، فَلَا بَأْسَ، وَإِذَا اسْتَقَمْت بِنَقْدٍ فَبِعْته بِنَسِيئَةٍ فَلَا خَيْرَ فِيهِ تِلْكَ وَرِقٌ بِوَرِقٍ - رَوَاهُ سَعِيدٌ وَغَيْرُهُ - يَعْنِي إذَا قَوَّمْتهَا بِنَقْدٍ ثُمَّ بِعْتهَا نَسِيئًا كَانَ مَقْصُودُ الْمُشْتَرِي اشْتِرَاءَ دَرَاهِمَ مُعَجَّلَةٍ بِدَرَاهِمَ مُؤَجَّلَةٍ وَهَذَا شَأْنُ الْمُوَرِّقِينَ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَأْتِيهِ فَيَقُولُ أُرِيدُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَيُخْرِجُ لَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَهَذَا هُوَ الِاسْتِقَامَةُ - يَقُولُ أَقَمْت السِّلْعَةَ وَقَوَّمْتهَا وَاسْتَقَمْتهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهِيَ لُغَةٌ مَكِّيَّةٌ مَعْرُوفَةٌ بِمَعْنَى التَّقْوِيمِ - فَإِذَا قَوَّمْتهَا بِأَلْفٍ قَالَ اشْتَرَيْتهَا بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ يُوَافِقُ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ بِنَقْدٍ فَلْيُسَاوِمْهُ بِنَقْدٍ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَبْتَاعَهُ بِنَسْأٍ فَلْيُسَاوِمْهُ بِنَسْإٍ كَرِهُوا أَنْ يُسَاوِمَهُ بِنَقْدٍ ثُمَّ يَبِيعَهُ بِنَسْإٍ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ دَلِيلٍ عَلَى كَرَاهَتِهِمْ، لِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَا قَدْ حُفِظَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَرِهُوا بَيْعَ " ده بدوازده "؛ لِأَنَّ

لَفْظَهُ: أَبِيعُك الْعَشَرَةَ بِاثْنَيْ عَشَرَ، فَكَرِهُوا هَذَا الْكَلَامَ لِمُشَابَهَتِهِ الرِّبَا، وَمَا يَجُوزُ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ ذَلِكَ، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا» فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِي تَفْسِيرِ الْبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ تَفْسِيرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ هُوَ لَك بِنَقْدٍ بِكَذَا وَبِنَسِيئَةٍ بِكَذَا، كَمَا رَوَاهُ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ» قَالَ سِمَاكٌ: الرَّجُلُ يَبِيعُ الْبَيْعَ فَيَقُولُ هُوَ بِنَسْإٍ بِكَذَا وَبِنَقْدٍ بِكَذَا وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَعَلَى هَذَا فَلَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَهُ بِأَحَدِهِمَا مُبْهَمًا وَيَتَفَرَّقَا عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا تَفْسِيرُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلرِّبَا هُنَا وَلَا صَفْقَتَيْنِ هُنَا، وَإِنَّمَا هِيَ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ بِثَمَنٍ مُبْهَمٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ هِيَ بِنَقْدٍ بِكَذَا أَبِيعُكَهَا بِنَسِيئَةٍ كَذَا كَالصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، فَيَكُونُ قَدْ جَمَعَ صَفْقَتَيْ النَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ النَّقْدَ مِعْيَارًا لِلنَّسِيئَةِ وَهَذَا مُطَابِقٌ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا» . فَإِنَّ مَقْصُودَهُ حِينَئِذٍ، هُوَ بَيْعُ دَرَاهِمَ عَاجِلَةٍ بِآجِلَةٍ، فَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا رَأْسَ مَالِهِ، وَهُوَ أَوْكَسُ الصَّفْقَتَيْنِ وَهُوَ مِقْدَارُ الْقِيمَةِ الْعَاجِلَةِ فَإِنْ أَخَذَ الزِّيَادَةَ فَهُوَ مُرْبٍ. التَّفْسِيرُ الثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهُ الشَّيْءَ بِثَمَنٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ ذَلِكَ الثَّمَنَ، وَأَوْلَى مِنْهُ أَنْ يَبِيعَهُ السِّلْعَةَ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَهَا الْبَائِعُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا أَوْلَى بِلَفْظِ الْبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، فَإِنَّهُ بَاعَ السِّلْعَةَ وَابْتَاعَهَا، أَوْ بَاعَ بِالثَّمَنِ وَبَاعَهُ، وَهَذَا صَفْقَتَانِ فِي صَفْقَةٍ حَقِيقَةً، وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ الْعِينَةُ الْمُحَرَّمَةُ وَمَا أَشْبَهَهَا، مِثْلُ أَنْ يَبِيعَهُ نَسْئًا، ثُمَّ يَشْتَرِيَ بِأَقَلَّ مِنْهُ نَقْدًا، أَوْ يَبِيعَهُ نَقْدًا، ثُمَّ يَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ نَسْئًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيَعُودُ حَاصِلُ هَاتَيْنِ الصَّفْقَتَيْنِ إلَى أَنْ يُعْطِيَهُ دَرَاهِمَ وَيَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْهَا وَسِلْعَتُهُ عَادَتْ إلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ إلَّا

أَوْكَسُ الصَّفْقَتَيْنِ، وَهُوَ النَّقْدُ، فَإِنْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّهُ قَصَدَ بِالْحَدِيثِ هَذَا، وَنَحْوُهُ أَنَّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ وَعَنْ سَلَفٍ وَبَيْعٍ» - رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - وَكِلَا هَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ يُؤَوَّلَانِ إلَى الرِّبَا، وَفِي النَّهْيِ عَنْ هَذَا كُلِّهِ أَوْضَحُ دَلَالَةٍ عَنْ النَّهْيِ عَنْ الْحِيَلِ الَّتِي هِيَ فِي الظَّاهِرِ بَيْعٌ وَفِي الْحَقِيقَةِ رِبًا. وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَقْصُودٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ، أَنَّهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ وَالْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» قَالَ: «مَا ظَهَرَ الرِّبَا وَالزِّنَا فِي قَوْمٍ إلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللَّهِ» . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرِّبَا وَالزِّنَا قَرِينَانِ فِي الِاحْتِيَالِ عَلَيْهِمَا وَفِي أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى، وَالْمَعْنَى الْمَذْكُورَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ مَا رَوَى الشَّعْبِيُّ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ عُمَرَ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ. وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَهِدَ إلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ: الْجَدُّ وَالْكَلَالَةُ. وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا ". رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. فَإِنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَصَدَ بَيَانَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي فِيهَا إجْمَالٌ وَرَأَى أَنَّ مِنْهَا الْخَمْرَ وَالرِّبَا فَإِنَّ مِنْهُمَا مَا لَا يَسْتَرِيبُ أَحَدٌ فِي تَسْمِيَتِهِ رِبًا وَخَمْرًا وَمِنْهُمَا مَا قَدْ يَقَعُ فِيهِ الشُّبْهَةُ، وَكَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ يَعُمُّ كُلَّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، وَهِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ، وَأَمَّا الرِّبَا فَلَمْ يَكُنْ يَحْفَظُ فِيهِ لَفْظًا جَامِعًا فَقَالَ فِيمَا لَمْ يَتَبَيَّنْهُ: " وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا ". فَعُلِمَ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّا يَحْسَبُهُ النَّاسُ بَيْعًا هُوَ رِبًا فَإِنَّ آيَةَ الرِّبَا مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، فَلَمْ يَعْرِفْ جَمِيعَ أَبْوَابِ الرِّبَا كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَلِهَذَا قَامَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَطِيبًا فِي النَّاسِ فَقَالَ: " أَلَا إنَّ آخِرَ الْقُرْآنِ كَانَ تَنْزِيلًا آيَةُ الرِّبَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا - وَفِي لَفْظٍ قَبْلَ أَنْ يُفَسِّرَهَا لَنَا - فَدَعُوا مَا يَرِيبُكُمْ إلَى مَا لَا يَرِيبُكُمْ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ ". وَهَذَا مَشْهُورٌ

مَحْفُوظٌ صَحِيحٌ عَنْ عُمَرَ - أَيْ اتَّقُوا: مَا تَعْلَمُونَ أَنَّهُ الرِّبَا وَمَا تَسْتَرِيبُونَ فِيهِ وَهَذَا مِنْ فِقْهِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا. فَمَا اسْتُيْقِنَ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي حَدِّ الْبَيْعِ فِي الْبَيْعِ دُونَ الرِّبَا، أَوْ الرِّبَا دُونَ الْبَيْعِ فَلَا رَيْبَ فِيهِ، وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَقَدْ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ وَهُوَ الرِّيبَةُ. فَلَيْسَ هُنَا أَصْلٌ مُتَيَقَّنٌ حَتَّى يُرَدَّ إلَيْهِ الْمُشْتَبَهُ لِأَنَّا قَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّ الرِّبَا مُحَرَّمٌ، وَهُوَ اسْمٌ مُجْمَلٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ جُمْلَةِ مَا يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ بَيْعًا، وَاسْتِثْنَاءُ الْمَجْهُولِ مِنْ الْمَعْلُومِ يُوجِبُ الْجَهَالَةَ فِي الْمُسْتَثْنَى، إلَّا فِيمَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا رِبَا فِيهِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا حَدِيثٌ - لَا أَحْفَظُ الْآنَ إسْنَادَهُ - " «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى فِيهِمْ إلَّا مَنْ أَكَلَ الرِّبَا فَمَنْ لَا يَأْكُلُ مِنْهُ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ» . ثُمَّ وَجَدْت إسْنَادَهُ رَوَيْنَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حَبْرَةَ، وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ مُنْذُ نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِينَ، أَوْ خَمْسِينَ سَنَةً، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَأْكُلُونَ فِيهِ الرِّبَا» قَالَ: قِيلَ لَهُ: النَّاسُ كُلُّهُمْ؟ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُمْ نَالَهُ مِنْ غُبَارِهِ» ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِظُهُورِ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تُسْتَبَاحُ بِاسْمِ الْبَيْعِ، أَوْ الْهِبَةِ، أَوْ الْقَرْضِ، أَوْ الْإِجَارَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَمَعْنَاهَا مَعْنَى الرِّبَا. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، «عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَاتُ الْأَوَاخِرُ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَلَاهُنَّ فِي الْمَسْجِدِ وَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ» ، فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ عَقِيبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِمُنَاسَبَتِهِ بَيْنَ الْمُنَزَّلِ وَالْمُحَرَّمِ وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -، لِأَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ قَدْ حُرِّمَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ يَتَأَوَّلُ النَّاسُ فِيهَا أَنَّ الْمُحَرَّمَ عَيْنُهَا لَا ثَمَنُهَا، كَمَا تَأَوَّلَتْ الْيَهُودُ فِي الشُّحُومِ. وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَيَسْتَحِلُّونَ الْمَحَارِمَ بِنَوْعٍ مِنْ التَّأْوِيلِ وَالرِّبَا، كَذَلِكَ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَتَأَوَّلُ فِي اسْتِحْلَالِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ أَنَّهَا بَيْعٌ لَيْسَتْ رِبًا، مَعَ أَنَّ مَعْنَاهَا مَعْنَى الرِّبَا، فَكَانَ تَحْرِيمُهُ لِلتِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ؛ إذْ ذَاكَ حَسْمًا لِمَادَّةِ التَّأْوِيلِ

الوجه الثاني عشر أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعادات

فِي اسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَانَ هَذَا الْبَيَانُ عَقِيبَ آيَةِ الرِّبَا مُنَاسِبًا، لِأَنَّ الرِّبَا آخِرُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقِيبَهُ مَا دَلَّ الْأُمَّةَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي يُسْتَبَاحُ بِهَا الْخَمْرُ، وَالرِّبَا وَالزِّنَا وَغَيْرُهَا، ثُمَّ إنَّهُ أَخْبَرَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ هَذِهِ الْمَحَارِمَ يَنْحَلُونَهَا أَسْمَاءً غَيْرَ الْأَسْمَاءِ الْحَقِيقِيَّةِ يُمْسَخُونَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمَرَ بِتَرْكِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ، كُلِّهَا وَبِتَرْكِ الرِّيَبِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ أَنَّهَا بَيْعٌ حَلَالٌ، بَلْ يُمْكِنُ أَنَّهَا رِبًا، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى تَشَابُهِ مَعَانِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَتَوَافُقِهَا أَمْرًا وَإِخْبَارًا. وَهَذِهِ الْآثَارُ كُلُّهَا إذَا تَأَمَّلَهَا الْفَقِيهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مِشْكَاةٌ وَاحِدَةٌ، وَعَلِمَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَقِيقَةِ الْعُقُودِ وَمَقَاصِدِهَا الَّتِي تُؤَوَّلُ إلَيْهَا وَاَلَّتِي قُصِدَتْ بِهَا، وَأَنَّ الِاحْتِيَالَ لَا يُرْفَعُ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَهَذَا بَيِّنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّ الْمَقَاصِدَ وَالِاعْتِقَادَاتِ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَالْعَادَاتِ] الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ. أَنَّ الْمَقَاصِدَ وَالِاعْتِقَادَاتِ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَالْعَادَاتِ، كَمَا هِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّقَرُّبَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، فَيَجْعَلُ الشَّيْءَ حَلَالًا، أَوْ حَرَامًا، أَوْ صَحِيحًا، أَوْ فَاسِدًا أَوْ صَحِيحًا مِنْ وَجْهٍ، فَاسِدًا مِنْ وَجْهٍ، كَمَا أَنَّ الْقَصْدَ فِي الْعِبَادَةِ يَجْعَلُهَا وَاجِبَةً، أَوْ مُسْتَحَبَّةً أَوْ مُحَرَّمَةً، أَوْ صَحِيحَةً، أَوْ فَاسِدَةً. وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، مِنْهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] فَإِنَّ ذَلِكَ نَصٌّ فِي أَنَّ الرَّجْعَةَ إنَّمَا ثَبَتَتْ لِمَنْ قَصَدَ الصَّلَاحَ دُونَ الضِّرَارِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229]- إلَى قَوْلِهِ: - {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]- إلَى قَوْلِهِ - {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230]

فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ الْمَأْذُونَ فِيهِ إذَا خِيفَ أَنْ لَا يُقِيمَ الزَّوْجَانِ حُدُودَ اللَّهِ. وَأَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِيَ إنَّمَا يُبَاحُ إذَا ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَدَّمَ عَلَى الْمِيرَاثِ وَصِيَّةَ مَنْ لَمْ يُضَارَّ الْوَرَثَةُ بِهَا، فَإِذَا وَصَّى ضِرَارًا كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا، وَكَانَ لِلْوَرَثَةِ إبْطَالُهُ، وَحَرُمَ عَلَى الْمُوصَى لَهُ أَخْذُهُ بِدُونِ رِضَاهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء: 13] إلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا} [النساء: 14] . وَإِنَّمَا ذَكَرَ الضِّرَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ الَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ الْأُولَى تَضَمَّنَتْ مِيرَاثَ الْعَمُودَيْنِ، وَالثَّانِيَةَ تَضَمَّنَتْ مِيرَاثَ الْأَطْرَافِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ وَالْإِخْوَةِ وَالْعَادَةُ أَنَّ الْمُوصِيَ قَدْ يُضَارُّ زَوْجَتَهُ، وَإِخْوَتَهُ، وَلَا يَكَادُ يُضَارُّ وَلَدَهُ لَكِنَّ الضِّرَارَ نَوْعَانِ حَيْفٌ، وَإِثْمٌ، فَإِنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ مُضَارَّتَهُمْ وَهُوَ الْإِثْمُ وَقَدْ يُضَارُّهُمْ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَهُوَ الْحَيْفُ فَمَتَى أَوْصَى بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ فَهُوَ مُضَارٍّ قَصَدَ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ. فَتُرَدُّ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ. وَإِنْ وَصَّى بِدُونِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ قَصَدَ الضِّرَارَ فَيُمْضِيهَا. فَإِنْ عَلِمَ الْمُوصَى لَهُ إنَّمَا أَوْصَى لَهُ ضِرَارًا لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْأَخْذُ. وَلَوْ اعْتَرَفَ الْمُوصِي: إنِّي إنَّمَا أَوْصَيْتُ ضِرَارًا لَمْ تَجُزْ إعَانَتُهُ عَلَى إمْضَاءِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَوَجَبَ رَدُّهَا فِي مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ جُذَاذَ النَّخْلِ عَمَلٌ مُبَاحٌ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ صَاحِبُهُ، وَلَمَّا قَصَدَ أَصْحَابُهُ بِهِ فِي اللَّيْلِ حِرْمَانَ الْفُقَرَاءِ عَاقَبَهُمْ اللَّهُ بِإِهْلَاكِهِ، وَقَالَ: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ} [الزمر: 26] ثُمَّ جَاءَتْ السُّنَّةُ، عَنْ النَّبِيِّ عَاقَبَهُمْ بِكَرَاهَةِ الْجِذَاذِ فِي اللَّيْلِ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةً لِهَذَا الْفَسَادِ وَذَرِيعَةً إلَيْهِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنْ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي طُعْمَةَ مَوْلَاهُمْ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْغَافِقِيِّ أَنَّهُمَا سَمِعَا ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لُعِنَتْ الْخَمْرُ عَلَى عَشَرَةِ وُجُوهٍ: لُعِنَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا، وَشَارِبِهَا،

وَسَاقِيهَا، وَبَائِعِهَا، وَمُبْتَاعِهَا، وَعَاصِرِهَا، وَمُعْتَصِرِهَا، وَحَامِلِهَا، وَالْمَحْمُولَةِ إلَيْهِ، وَآكِلِ ثَمَنِهَا» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو دَاوُد، وَلَفْظُهُ: «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ» - وَلَمْ يَذْكُرْ " وَآكِلَ ثَمَنِهَا ". وَلَمْ يَقُلْ عَشَرَةً. وَقَالَ بَدَلَ أَبِي طُعْمَةَ، أَوْ عَلْقَمَةَ، وَالصَّوَابُ أَبُو طُعْمَةَ. وَأَبُو طُعْمَةَ هَذَا قَالَ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيُّ: ثِقَةٌ، وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا طَعَنَ فِيهِ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ وَوَكِيعٌ ثِقَتَانِ نَبِيلَانِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ حَدِيثٌ جَيِّدٌ، وَقَدْ رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، وَمِنْ حَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ يَزِيدَ عُفَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَهَذِهِ طُرُقٌ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَفِي الْبَابِ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا. فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ عَاصِرَ الْخَمْرِ وَمُعْتَصِرَهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا يَعْصِرُ عِنَبًا فَيَصِيرُ عَصِيرًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ يُخَمَّرُ، وَقَدْ لَا يُخَمَّرُ، وَلَكِنْ لَمَّا قَصَدَ بِالِاعْتِصَارِ تَصْيِيرَهُ خَمْرًا اسْتَحَقَّ اللَّعْنَةَ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ، فَثَبَتَ أَنَّ عَصِيرَ الْعِنَبِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا مُحَرَّمٌ، فَتَكُونُ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ بَاطِلَةً وَالْأُجْرَةُ مُحَرَّمَةً. وَإِذَا كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى مَنْفَعَتِهِ الَّتِي يُعِينُ بِهَا غَيْرَهُ فِي شَيْءٍ قَصَدَ بِهِ الْمَعْصِيَةَ إجَارَةً مُحَرَّمَةً بَاطِلَةً، فَبَيْعُ نَفْسِ الْعِنَبِ، أَوْ الْعَصِيرِ لِمَنْ يَتَّخِذْهُ خَمْرًا أَقْرَبُ إلَى التَّحْرِيمِ وَالْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْخَمْرِ مِنْ عَمَلِ الْعَاصِرِ، وَقَدْ يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: «وَبَائِعِهَا وَمُبْتَاعِهَا وَحَامِلِهَا وَالْمَحْمُولَةِ إلَيْهِ وَآكِلِ ثَمَنِهَا» يَدْخُلُ فِي هَذَا عَيْنُ الْخَمْرِ وَعَصِيرُهَا وَعِنَبُهَا، كَمَا دَخَلَ الْعِنَبُ وَالْعَصِيرُ فِي الْعَاصِرِ وَالْمُعْتَصِرِ، لِأَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَلْعُونِينَ مَنْ لَا يَتَصَرَّفُ إلَّا فِي عَيْنِ الْخَمْرِ، كَالسَّاقِي، وَالشَّارِبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَصَرَّفُ إلَّا فِي الْعِنَبِ وَالْعَصِيرِ كَالْعَاصِرِ وَالْمُعْتَصِرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا جَمِيعًا. يُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: قِيلَ لِسَعْدٍ يَعْنِي ابْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَحَدَ الْعَشَرَةِ: تَبِيعُ عِنَبًا لَكَ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ عَصِيرًا، فَقَالَ: بِئْسَ الشَّيْخُ أَنَا إنْ بِعْتُ الْخَمْرَ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَتْ لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ أَرْضٌ فِيهَا عِنَبٌ فَجَاءَ قَيِّمُهُ

عَلَيْهَا، فَقَالَ: إنَّ عِنَبَهَا قَدْ أَدْرَكَ فَمَا نَصْنَعُ بِهِ، قَالَ: بِيعُوهُ، قَالَ: إنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: اصْنَعُوهُ زَبِيبًا، قَالَ: إنَّهُ لَا يَجِيءُ زَبِيبٌ، قَالَ: فَرَكِبَ سَعْدٌ وَرَكِبَ مَعَهُ نَاسٌ حَتَّى إذَا أَتَوْا الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا الْعِنَبُ أَمَرَ بِعِنَبِهَا فَنُزِعَ مِنْ أُصُولِهِ وَحَرَثَهَا. وَعَنْ عُقَارِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ: أَتَبِيعُ عِنَبًا لِي عَصِيرًا؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ زَبِّبْهُ، ثُمَّ بِعْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الْعَصِيرِ، فَقَالَ: لَا يَصْلُحُ قَالَ: فَقُلْت: فَشُرْبُهُ، قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ» . ثُمَّ فِي مَعْنَى هَؤُلَاءِ كُلُّ بَيْعٍ، أَوْ إجَارَةٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ إعَارَةٍ تُعِينُ عَلَى مَعْصِيَةٍ إذَا ظَهَرَ الْقَصْدُ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَزُولَ قَصْدُ الْمَعْصِيَةِ، مِثْلُ بَيْعِ السِّلَاحِ لِلْكُفَّارِ، أَوْ لِلْبُغَاةِ، أَوْ لِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، أَوْ لِأَهْلِ الْفِتْنَةِ، وَبَيْعِ الرَّقِيقِ لِمَنْ يَعْصِي اللَّهَ فِيهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ. فَإِنَّ ذَلِكَ قِيَاسٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى عَاصِرِ الْخَمْرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا إنَّمَا اسْتَحَقَّ اللَّعْنَةَ وَصَارَتْ إجَارَتُهُ وَبَيْعُهُ بَاطِلًا إذَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ، أَوْ الْمُسْتَأْجِرَ يُرِيدُ التَّوَسُّلَ بِمَالِهِ وَنَفْعِهِ إلَى الْحَرَامِ فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] . وَمَنْ لَمْ يُرَاعِ الْمَقَاصِدَ فِي الْعُقُودِ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَلْعَنَ الْعَاصِرَ، وَأَنْ يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَعْصِرَ الْعِنَبَ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ قَصْدَهُ التَّخْمِيرُ لِجَوَازِ تَبَدُّلِ الْقَصْدِ، وَلِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْقَصْدِ عِنْدَهُ فِي الْعُقُودِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ، وَهَذَا مُخَالِفٌ بِنِيَّتِهِ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ حَبَسَ الْعِنَبَ أَيَّامَ الْقِطَافِ حَتَّى يَبِيعَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ، أَوْ نَصْرَانِيٍّ، أَوْ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا فَقَدْ تَقَحَّمَ النَّارَ عَلَى بَصِيرَةٍ» ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ، أَوْ يُصَادَ لَكُمْ»

رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذَا أَحْسَنُ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَقْيَسُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثُ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، أَنَّهُ أَهْدَى لَهُ لَحْمَ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ فَرَدَّهُ وَقَالَ: «إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْك إلَّا أَنَّا حُرُمٌ» . وَكَذَلِكَ صَحَّ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَصَحَّ عَنْهُ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ، لَمَّا صَادَ لَحْمَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ، فَأَذِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ الْمُحْرِمِينَ فِي الْأَكْلِ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ صَحَّ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ طَلْحَةَ وَغَيْرِهِ وَلَا مَحْمَلَ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَبَاحَهُ لِمُحْرِمٍ لَمْ يُصَدْ لَهُ، وَرَدَّهُ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ صِيدَ لَهُ. وَلِهَذَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ إلَى تَحْرِيمِ لَحْمِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ مُطْلَقًا، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى إبَاحَتِهِ لِلْمُحْرِمِ مُطْلَقًا، وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ أَقْيَسَ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ الْمَقَاصِدَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] . فَحَرَّمَ عَلَى الْمُحْرِمِ صَيْدَ الْبَرِّ دُونَ طَعَامِهِ، وَصَيْدُهُ مَا صِيدَ مِنْهُ حَيًّا وَطَعَامُهُ مَا كَانَ قَدْ مَاتَ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ أَكْلَ لَحْمِهِ لَا سِيَّمَا، وَقَدْ قَالَ: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] . وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالصَّيْدِ نَفْسَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ، فَعُلِمَ أَنَّهُ هُوَ الْمُحَرَّمُ وَلَوْ قَصَدَ تَحْرِيمَهُ مُطْلَقًا لَقَالَ: لَحْمُ الصَّيْدِ، كَمَا قَالَ: لَحْمُ الْخِنْزِيرِ، فَلَمَّا بَيَّنَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْنَى كِتَابِ اللَّهِ، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ إذَا صَادَهُ الْحَلَالُ لِلْحَرَامِ وَذَبَحَهُ لِأَجْلِهِ، كَانَ حَرَامًا عَلَى الْمُحْرِمِ، وَلَوْ أَنَّهُ اصْطَادَهُ اصْطِيَادًا مُطْلَقًا، وَذَبَحَهُ لَكَانَ حَلَالًا لَهُ، وَلِلْمُحْرِمِ مَعَ أَنَّ الِاصْطِيَادَ وَالزَّكَاةَ عَمَلٌ حِسِّيٌّ أَثَّرَتْ النِّيَّةُ فِيهِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ. عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقَصْدَ مُؤَثِّرٌ فِي تَحْرِيمِ الْعَيْنِ الَّتِي تُبَاحُ بِدُونِ الْقَصْدِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ فَفِي الْأَقْوَالِ وَالْعُقُودِ أَوْلَى، يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا صَادَ الصَّيْدَ، أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ بِدَلَالَتِهِ، أَوْ إعَارَةِ آلَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْهُ فِعْلٌ ظَهَرَ بِهِ تَحْرِيمُ

الصَّيْدِ عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ اُسْتُحِلَّ بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ، فَصَارَ كَذَكَاتِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ الْحَلْقِ. أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ وَلَمْ يَشْعُرْ، وَإِنَّمَا الْحَلَالُ قَصَدَ أَنْ يَصِيدَهُ لِيَضِيفَهُ بِهِ، أَوْ لِيَهَبَهُ لَهُ أَوْ لِيَبِيعَهُ إيَّاهُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَهُ عَلَيْهِ بِنِيَّةٍ صَدَرَتْ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَشْعُرْ بِهَا، لِئَلَّا يَكُونَ لِلْمُحْرِمِ سَبَبٌ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَلِيُتِمَّ حُرْمَةَ الصَّيْدِ وَصِيَانَتَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُحْرِمِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، فَإِذَا ذَبَحَ الصَّيْدَ بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنْهُ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَهُ ضِمْنًا وَتَبَعًا لَا أَصْلًا وَقَصْدًا. فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الصَّيْدِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَأَبَاحَهَا لَهُ إذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ الصَّيْدَ وَأَحَلَّهُ لَهُ إذَا ذَبَحَهُ غَيْرُهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ إنَّمَا قَصَدَ بِالنِّكَاحِ أَنْ تَعُودَ إلَى الْأَوَّلِ، فَهُوَ كَمَا إذَا قَصَدَ ذَلِكَ الْغَيْرُ بِالذَّبْحِ أَنْ يُحِلَّ لِلْمُحْرِمِ، فَإِنَّ الْمَنَاكِحَ وَالذَّبَائِحَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْحَظْرِ حَتَّى يَفْعَلَ السَّبَبَ الْمُبِيحَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ. وَيَتَأَيَّدُ هَذَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الذَّبْحَ لَا يُحَلِّلُ الْبَهِيمَةَ حَتَّى يَقْصِدَ بِهِ أَكْلَهَا فَلَوْ قَصَدَ بِهِ جَعْلَهَا غَرَضًا وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ وَالْبَيْعُ وَغَيْرُهُمَا إنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْمِلْكَ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْعُقُودِ لَمْ يُفِدْ حُكْمَهُ إذَا قَصَدَ الْإِحْلَالَ لِلْغَيْرِ، أَوْ إجَازَةَ قَرْضٍ بِمَنْفَعَةٍ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِصَدَاقٍ يَنْوِي أَنْ لَا يُؤَدِّيَهُ إلَيْهَا فَهُوَ زَانٍ وَمَنْ أَدَانَ دَيْنًا يَنْوِي أَنْ لَا يَقْضِيَهُ فَهُوَ سَارِقٌ» . رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ، بِإِسْنَادِهِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُشْتَرِيَ وَالْمُسْتَنْكِحَ إذَا قَصَدَا أَنْ لَا يُؤَدِّيَا الْعِوَضَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اسْتَحَلَّ الْفَرْجَ وَالْمَالَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَيَكُونُ كَالزَّانِي وَالسَّارِقِ فِي الْإِثْمِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّاهَا اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ» ، فَهَذِهِ النُّصُوصُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقَاصِدَ تُفِيدُ أَحْكَامَ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ

الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا. وَالْأَحْكَامُ تَقْتَضِي ذَلِكَ أَيْضًا، فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا اشْتَرَى، أَوْ اسْتَأْجَرَ، أَوْ اقْتَرَضَ وَنَوَى أَنَّ ذَلِكَ لِمُوَكِّلِهِ، أَوْ لِمُوَلِّيهِ كَانَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ لَهُ وَقَعَ الْمِلْكُ لِلْعَاقِدِ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَمَلَّكَ الْمُبَاحَاتِ مِنْ الصَّيْدِ وَالْحَشِيشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَنَوَى أَنَّهُ لِمُوَكِّلِهِ وَقَعَ الْمِلْكُ لَهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَعْدٍ لَمَّا اشْتَرَكَ هُوَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٌ فِي غَنِيمَةِ بَدْرٍ. نَعَمْ لَا بُدَّ فِي النِّكَاحِ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمُوَكِّلِ، لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ السِّلْعَةِ فِي الْبَيْعِ فَافْتَقَرَ الْعَقْدُ إلَى تَعْيِينِهِ لِذَلِكَ، لَا لِأَجْلِ كَوْنِهِ مَعْقُودًا لَهُ. وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ الْوَاحِدُ يُوجِبُ الْمِلْكَ لِمَالِكَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عِنْدَ تَغَيُّرِ النِّيَّةِ ثَبَتَ أَنَّ لِلنِّيَّةِ تَأْثِيرًا فِي التَّصَرُّفَاتِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَضَى عَنْ غَيْرِهِ دَيْنًا، أَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ نَفَقَةً وَاجِبَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ يَنْوِي التَّبَرُّعَ وَالْهِبَةَ لَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ بِالْبَذْلِ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَلَهُ الرُّجُوعُ إنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ بِإِذْنِهِ وِفَاقًا، وَبِغَيْرِ، إذْنِهِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ. فَصُورَةُ الْفِعْلِ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ، هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَاتِ، أَوْ مِنْ بَابِ أَكْثَرِ التَّبَرُّعَاتِ بِالنِّيَّةِ؟ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ إلَى غَيْرِهِ مَالًا رِبَوِيًّا بِمِثْلِهِ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ إلَّا أَنْ يَتَقَابَضَا، وَجَوَّزَ الدَّفْعَ عَلَى وَجْهِ الْقَرْضِ، وَقَدْ اشْتَرَكَا فِي أَنَّ هَذَا يَقْبِضُ دَرَاهِمَ، ثُمَّ يُعْطِي مِثْلَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لِلْمَقَاصِدِ، فَإِنَّ مَقْصُودَ الْقَرْضِ إرْفَاقُ الْمُقْتَرِضِ وَنَفْعُهُ لَيْسَ مَقْصُودُهُ الْمُعَاوَضَةَ وَالرِّبْحَ، وَلِهَذَا شُبِّهَ بِالْعَارِيَّةِ حَتَّى سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنِيحَةَ وَرِقٍ، فَكَأَنَّهُ أَعَارَهُ الدَّرَاهِمَ، ثُمَّ اسْتَرْجَعَهَا مِنْهُ لَكِنْ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِرْجَاعُ الْعَيْنِ فَاسْتَرْجَعَ الْمِثْلَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَبَرَّعَ لِغَيْرِهِ بِمَنْفَعَةِ حَالِهِ، ثُمَّ اسْتَعَادَ الْعَيْنَ. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ كَانَ رِبًا مُحَرَّمًا، وَلَوْ بَاعَهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ وَوَهَبَهُ دِرْهَمًا هِبَةً مُطْلَقَةً لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْبَيْعِ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا. فَلَوْلَا اعْتِبَارُ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ لَأَمْكَنَ كُلَّ مُرْبٍ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لِاخْتِلَافِ النَّقْدِ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُك أَلْفًا بِأَلْفٍ، وَوَهَبْتُك خَمْسَمِائَةٍ لَكِنْ بِاعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْهِبَةَ إنَّمَا كَانَتْ لِأَجْلِ اشْتِرَائِهِ مِنْهُ تِلْكَ الْأَلْفَ فَتَصِيرُ دَاخِلَةً

فِي الْمُعَاوَضَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاهِبَ لَا يَهَبُ إلَّا لِلْأَجْرِ فَتَكُونُ صَدَقَةً، أَوْ لِكَرَامَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَتَكُونُ هَدِيَّةً، أَوْ لِمَعْنًى آخَرَ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَمَا لَوْ وَهَبَ لِلْمُقْرِضِ، أَوْ وَهَبَ لِعَامِلِ الزَّكَاةِ شَيْئًا وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَدِيثِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ. وَالْمُقْرِضُ الْمَحْضُ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ إلَّا مِثْلُ مَالِهِ جِنْسًا وَنَوْعًا وَقَدْرًا بِخِلَافِ الْبَائِعِ، فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ يُسَاوِيهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ نَسِيئَةً، فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا غَرَضَ لَهُ فِي مِثْلِ هَذَا، وَإِنَّمَا يَبِيعُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ لِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَرْفَعَ سِكَّةً، أَوْ مَصُوغًا، أَوْ أَجْوَدَ فِضَّةً إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ، فَإِذَا قَابَلَتْ الصِّفَةُ جِنْسَهَا فِي الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ لَهَا قِيمَةٌ - فِي بَابِ الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ وَالْقَرْضِ - يَعْتَبِرُهَا الشَّارِعُ لِأَنَّ الْعِوَضَ هُنَاكَ ثَبَتَ شَرْعًا لَا شَرْطًا فَصَارَ مَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ فِي الْقَرْضِ وَالْإِتْلَافِ لَا يُقْصَدُ فِي الْبَيْعِ وَمَا يُقْصَدُ فِي الْبَيْعِ أَهْدَرَهُ الشَّارِعُ. ثُمَّ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ هَذَا التَّصَرُّفِ وَهَذَا هُوَ الْقَصْدُ وَالنِّيَّةُ، فَلَوْلَا مَقَاصِدُ الْعِبَادِ وَنِيَّاتُهُمْ لَمَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ ثُمَّ الْأَسْمَاءُ تَتْبَعُ الْمَقَاصِدَ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الْأَحْكَامَ اخْتَلَفَتْ بِمُجَرَّدِ اخْتِلَافِ أَلْفَاظٍ لَمْ تَخْتَلِفْ مَعَانِيهَا وَمَقَاصِدُهَا، بَلْ لَمَّا اخْتَلَفَتْ الْمَقَاصِدُ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا وَأَحْكَامُهَا، وَإِنَّمَا الْمَقَاصِدُ حَقَائِقُ الْأَفْعَالِ وَقِوَامُهَا، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عُقُودِ الْمُكْرَهِ وَأَقْوَالِهِ مِثْلِ: بَيْعِهِ، وَقَرْضِهِ، وَرَهْنِهِ، وَنِكَاحِهِ، وَطَلَاقِهِ، وَرَجْعَتِهِ، وَيَمِينِهِ، وَنَذْرِهِ، وَشَهَادَتِهِ، وَحُكْمِهِ، وَإِقْرَارِهِ، وَرِدَّتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا مِنْهُ مُلْغَاةٌ مُهْدَرَةٌ وَأَكْثَرُ ذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى بَعْضِهِ الْقُرْآنُ مِثْلُ قَوْلِهِ: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل: 106] وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] . وَالْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي غِلَاقٍ» - أَيْ إكْرَاهٍ، إلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ.

فَنَقُولُ: مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُكْرَهَ قَدْ أَتَى بِاللَّفْظِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ. وَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْحُكْمَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ الْأَذَى عَنْ نَفْسِهِ فَصَارَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ قَصْدِهِ، وَإِرَادَتِهِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ وَكَوْنِهِ إنَّمَا قَصَدَ بِهِ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ حُكْمِهِ. فَعُلِمَ أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ لَيْسَ مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ اقْتِضَاءَ الْفِعْلِ أَثَرَهُ. فَإِنَّهُ لَوْ قَتَلَ، أَوْ غَصَبَ، أَوْ أَتْلَفَ أَوْ بَخَسَ الْبَائِعَ مُكْرَهًا لَمْ نَقُلْ إنَّ ذَلِكَ الْقَتْلَ أَوْ الْغَصْبَ، أَوْ الْإِتْلَافَ، أَوْ الْبَخْسَ فَاسِدٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ عَقَدَ. فَكَذَلِكَ الْمُحْتَالُ لَمْ يَقْصِدْ الْحُكْمَ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ الَّذِي احْتَالَ بِهِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ مَعْنًى آخَرَ مِثْلَ الْبَيْعِ الَّذِي يَتَوَسَّلُ بِهِ إلَى الرِّبَا وَالتَّحْلِيلِ الَّذِي يَتَوَسَّلُ بِهِ إلَى رَدِّ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا لَكِنَّ الْمُكْرَهَ قَصْدُهُ دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَا قَصْدُهُ التَّوَسُّلُ إلَى غَرَضٍ رَدِيءٍ فَالْمُكْرَهُ وَالْمُحْتَالُ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا بِالسَّبَبِ حُكْمَهُ وَلَا بِاللَّفْظِ مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا قَصَدَا التَّوَسُّلَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ وَظَاهِرِ ذَلِكَ السَّبَبِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ غَيْرَ حُكْمِ السَّبَبِ لَكِنَّ أَحَدَهُمَا رَاهِبٌ - قَصْدُهُ دَفْعُ الضَّرَرِ - وَلِهَذَا يُحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ وَالْآخَرَ رَاغِبٌ - قَصْدُهُ إبْطَالُ حَقٍّ، أَوْ إثْبَاتُ بَاطِلٍ وَلِهَذَا يُذَمُّ عَلَى ذَلِكَ. فَالْمُكْرَهُ يَبْطُلُ حُكْمُ السَّبَبِ فِيمَا عَلَيْهِ وَفِيمَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَاحِدًا مِنْهُمَا. وَأَمَّا الْمُحْتَالُ فَيَبْطُلُ حُكْمُ السَّبَبِ فِيمَا احْتَالَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَقَدْ تَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهِ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُحْتَالٌ كَمَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُكْرَهٌ وَمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ كَمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ. لَكِنَّ الْمُكْرَهَ لَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ كَرَاهَةً بِخِلَافِ الْمُحْتَالِ، وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ عُقُودُ الْهَزْلِ. وَعُقُودُ التَّلْجِئَةِ. إلَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا وَخِلَافًا يَحْتَاجُ بَعْضُهُ إلَى أَنْ يُحْتَجَّ لَهُ لَا أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ. وَيَحْتَاجُ بَعْضُهُ إلَى أَنْ يُجَابَ عَنْهُ. فَنَقُولُ: الْهَازِلُ هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِالْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِمُوجَبِهِ، وَإِرَادَةٍ لِحَقِيقَةِ مَعْنَاهُ بَلْ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ، وَنَقِيضُهُ الْجَادُّ: وَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ - كَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ جَدَّ فُلَانٌ إذَا عَظُمَ وَاسْتَغْنَى وَصَارَ ذَا حَظٍّ، وَالْهَزْلُ مِنْ هَزِلَ إذَا ضَعُفَ وَضَؤُلَ. كَأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي لَهُ مَعْنَى بِمَنْزِلَةِ الَّذِي لَهُ قِوَامٌ مِنْ مَالٍ، أَوْ شَرَفٍ وَاَلَّذِي لَا مَعْنَى لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِقِ فَمَا يُقِيمُهُ وَيُمْسِكُهُ - وَالتَّلْجِئَةُ هُوَ: أَنْ يَتَوَاطَأَ اثْنَانِ عَلَى إظْهَارِ الْعَقْدِ، أَوْ صِفَةٍ فِيهِ، أَوْ الْإِقْرَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ صُورَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقِيقَةٌ. مِثْلُ الرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ ظَالِمٌ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُ فَيُوَاطِئُ بَعْضَ مَنْ يُخَافُ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهُ صُورَةً

لِيَنْدَفِعَ ذَلِكَ الظَّالِمُ وَلِهَذَا سُمِّيَ تَلْجِئَةً - وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ أَلْجَأْتُهُ إلَى هَذَا الْأَمْرِ تَلْجِئَةً -؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ أُلْجِئَ إلَى هَذَا الْأَمْرِ، ثُمَّ صَارَ كُلُّ عَقْدٍ قُصِدَ بِهِ السُّمْعَةَ دُونَ الْحَقِيقَةِ يُسَمَّى تَلْجِئَةً وَإِنْ قُصِدَ بِهِ دَفْعُ حَقٍّ، أَوْ قُصِدَ بِهِ مُجَرَّدُ السُّمْعَةِ عِنْدَ النَّاسِ، وَأَمَّا الْهَازِلُ فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَكَحَ لَاعِبًا، أَوْ طَلَّقَ لَاعِبًا، أَوْ أَعْتَقَ لَاعِبًا فَقَدْ جَازَ» . وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: أَرْبَعٌ جَائِزَاتٌ إذَا تُكُلِّمَ بِهِنَّ: الطَّلَاقُ. وَالْعَتَاقُ. وَالنِّكَاحُ. وَالنَّذْرُ، وَعَنْ عَلِيٍّ: ثَلَاثٌ لَا لَعِبَ فِيهِنَّ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنِّكَاحُ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: ثَلَاثٌ اللَّعِبُ فِيهِنَّ كَالْجِدِّ الطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالْعِتْقُ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: النِّكَاحُ جِدُّهُ وَلَعِبُهُ سَوَاءٌ. رَوَاهُنَّ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ. فَأَمَّا طَلَاقُ الْهَازِلِ فَيَقَعُ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَكَذَلِكَ نِكَاحُهُ صَحِيحٌ كَمَا هُوَ فِي مَتْنِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَحَكَاهُ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ نَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِهِ، وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ أَنَّ نِكَاحَ الْهَازِلِ لَا يَصِحُّ بِخِلَافِ طَلَاقِهِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّ هَزْلَ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ لَازِمٌ؛ فَلَوْ خَطَبَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَوَلِيُّهَا حَاضِرٌ وَكَانَتْ فَوَّضَتْ ذَلِكَ إلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ فَعَلْت. أَوْ كَانَتْ بِكْرًا وَخُطِبَتْ إلَى أَبِيهَا، فَقَالَ: قَدْ أَنْكَحْت، فَقَالَ: لَا أَرْضَى لَزِمَهُ النِّكَاحُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ فِي السُّلَيْمَانِيَّةِ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: نِكَاحُ الْهَازِلِ لَا يَجُوزُ. قَالَ سُلَيْمَانُ: إذَا عُلِمَ الْهَزْلُ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فَهُوَ جَائِزٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: فَإِنْ قَامَ دَلِيلُ الْهَزْلِ لَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقٌ وَلَا طَلَاقٌ وَلَا نِكَاحٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّدَاقِ. وَإِنْ قَامَ دَلِيلُ ذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ لَزِمَهُ نِصْفُ الصَّدَاقِ وَلَمْ يُمَكَّنْ مِنْهَا لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا.

وَأَمَّا بَيْعُ الْهَازِلِ وَنَحْوُهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ الْمَحْضَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا أَظُنُّ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ فِي خِلَافِهِ الصَّغِيرِ وَقَالَ فِي خِلَافِهِ الْكَبِيرِ وَهُوَ الِانْتِصَارُ يَصِحُّ بَيْعُهُ كَطَلَاقِهِ، وَكَذَلِكَ خَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَمَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ قَاسَ سَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ. وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ الْهَازِلَ أَتَى بِالْقَوْلِ غَيْرَ مُلْتَزِمٍ لِحُكْمِهِ، وَتَرَتُّبُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْبَابِ لِلشَّارِعِ لَا لِلْعَاقِدِ، فَإِذَا أَتَى بِالسَّبَبِ لَزِمَهُ حُكْمُهُ شَاءَ، أَوْ أَبَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقِفُ عَلَى اخْتِيَارِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلْقَوْلِ مُرِيدٌ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِمَعْنَاهُ وَمُوجَبِهِ وَقَصْدُ اللَّفْظِ الْمُتَضَمِّنِ الْمَعْنَى قَصْدٌ لِذَلِكَ الْمَعْنَى لِتَلَازُمِهِمَا إلَّا أَنْ يُعَارِضَهُ قَصْدٌ آخَرُ، كَالْمُكْرَهِ وَالْمُحَلِّلِ، فَإِنَّهُمَا قَصَدَا شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَمُوجَبِهِ. فَكَذَلِكَ جَاءَ الشَّرْعُ بِإِبْطَالِهِمَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكْرَهَ قَصَدَ دَفْعَ الْعَذَابِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَقْصِدْ الْمُسَبَّبَ ابْتِدَاءً، وَالْمُحَلِّلَ قَصْدُهُ إعَادَتُهَا إلَى الْمُطَلِّقِ، وَذَلِكَ يُنَافِي قَصْدَهُ لِمُوجَبِ السَّبَبِ، وَالْهَازِلُ قَصَدَ السَّبَبَ وَلَمْ يَقْصِدْ حُكْمَهُ وَلَا مَا يُنَافِي حُكْمَهُ، وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا بِلَغْوِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ لَمْ يَقْصِدْ اللَّفْظَ، وَإِنَّمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِكَثْرَةِ اعْتِيَادِ اللِّسَانِ لِلْيَمِينِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْهَزْلَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْعَاقِدِ الْآخَرِ. وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَبَابِهِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ وَبَابِهِ، قَالَ: الْحَدِيثُ وَالْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْعُقُودِ مَا يَكُونُ جِدُّهُ وَهَزْلُهُ سَوَاءً، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَإِلَّا لَقِيلَ: إنَّ الْعُقُودَ كُلَّهَا وَالْكَلَامَ كُلَّهُ جِدَّهُ وَهَزْلَهُ سَوَاءٌ، وَفُرِّقَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بِأَنَّ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ وَالرَّجْعَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَهَذَا فِي الْعِتْقِ ظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْبُضْعِ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ اسْتِبَاحَتُهُ، وَلِهَذَا تَجِبُ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَطْلُبْهَا الزَّوْجَةُ، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ حِلَّ مَا كَانَ حَرَامًا عَلَى وَجْهٍ لَوْ أَرَادَ الْعَبْدُ حِلَّهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ لَمْ يُمْكِنْ وَلَوْ رَضِيَ الزَّوْجَانِ بِبَذْلِ الْبُضْعِ لِغَيْرِ الزَّوْجِ لَمْ يَجُزْ وَيُفِيدُ حُرْمَةَ مَا كَانَ حَلَالًا وَهُوَ التَّحْرِيمُ الثَّابِتُ بِالْمُصَاهَرَةِ فَالتَّحْرِيمُ حَقٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَلِهَذَا لَمْ يُسْتَبَحْ إلَّا بِالْمَهْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ مَعَ تَعَاطِي

السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِهَذَا الْحُكْمِ أَنْ يَقْصِدَ عَدَمَ الْحُكْمِ، كَمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي كَلِمَاتِ الْكُفْرِ قَالَ سُبْحَانَهُ: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65] {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَضَمِّنَ لِمَعْنًى فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يُمْكِنُ قَبُولُهُ مَعَ دَفْعِ ذَلِكَ الْحَقِّ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْزِلَ مَعَ رَبَّهُ وَلَا يَسْتَهْزِئَ بِآيَاتِهِ، وَلَا يَتَلَاعَبَ بِحُدُودِهِ وَلَعَلَّ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَلْعَبُونَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِآيَاتِهِ» فِي الْهَازِلِينَ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَهَا لَعِبًا غَيْرَ مُلْتَزِمِينَ لِحُكْمِهَا، وَحُكْمُهَا لَازِمٌ لَهُمْ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَحْضُ حَقِّ الْآدَمِيِّ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ بَذْلَهُ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَلْعَبُ مَعَ الْإِنْسَانِ وَيَتَبَسَّطُ مَعَهُ، فَإِذَا تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُ الْجَادِّ؛ لِأَنَّ الْمِزَاحَ مَعَهُ جَائِزٌ. وَحَاصِلُ الْأَمْرَيْنِ اللَّعِبِ وَالْهَزْلِ وَالْمِزَاحِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ غَيْرُ جَائِزٍ فَيَكُونُ جِدُّ الْقَوْلِ فِي حُقُوقِهِ وَهَزْلُهُ سَوَاءً بِخِلَافِ جَانِبِ الْعِبَادِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَعْرَابِيٍّ يُمَازِحُهُ: «مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي الْعَبْدَ؟ فَقَالَ: تَجِدُنِي رَخِيصًا. فَقَالَ: بَلْ أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ غَالٍ» وَقَصَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَالصِّيغَةُ صِيغَةُ اسْتِفْهَامٍ، فَلَا يَضُرُّ، لِأَنَّهُ يَمْزَحُ وَلَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا، وَلَوْ أَنَّ أَحَدًا قَالَ عَلَى سَبِيلِ الْمِزَاحِ: مَنْ يَتَزَوَّجُ امْرَأَتِي، وَنَحْوَ ذَلِكَ لَكَانَ مِنْ أَقْبَحِ الْكَلَامِ، بَلْ قَدْ عَابَ اللَّهُ مَنْ جَعَلَ امْرَأَتَهُ كَأُمِّهِ. وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَضْرِبُ مَنْ يَدْعُو امْرَأَتَهُ أُخْتَهُ. وَجَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْحَاجَةِ لَا فِي الْمِزَاحِ، فَإِذَا كَانَ الْمِزَاحُ فِي الْبَيْعِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ جَائِزًا، وَفِي النِّكَاحِ وَمِثْلِهِ لَا يَجُوزُ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يُشْبِهُ الْعِبَادَاتِ فِي نَفْسِهِ بَلْ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّوَافِلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ عَقْدُهُ فِي الْمَسَاجِدِ - وَالْبَيْعُ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ فِي الْمَسْجِدِ - وَلِهَذَا اشْتَرَطَ مَنْ اشْتَرَطَ لَهُ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلْحَاقًا لَهُ بِالْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ مِثْلِ الْأَذَانِ وَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّلْبِيَةِ وَالتَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ

الْهَزْلُ فِيهِ، فَإِذَا تَكَلَّمَ الرَّجُلُ فِيهِ رَتَّبَ الشَّارِعُ عَلَى كَلَامِهِ وَحُكْمِهِ. وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ هُوَ الْحُكْمَ بِحُكْمِ وِلَايَةِ الشَّارِعِ عَلَى الْعَبْدِ، فَالْمُكَلَّفُ قَصَدَ الْقَوْلَ وَالشَّارِعُ قَصَدَ الْحُكْمَ لَهُ فَصَارَ الْجَمِيعُ مَقْصُودًا. وَفِي الْجُمْلَةِ فَهَذَا لَا يَنْقُضُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْقَصْدَ فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرٌ؛ لِأَنَّا إنَّمَا قَصَدْنَا بِذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ لَا يُصَحِّحُ بَعْضَ الْأُمُورِ إلَّا مَعَ الْعَقْدِ، وَبَعْضُ الْأُمُورِ يُصَحِّحُهَا إلَى أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا قَصْدٌ يُخَالِفُ مُوجَبَهَا، وَهَذَا صَحِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا قَدْ تَبَيَّنَ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ إمَّا بَطَلَ؛ لِأَنَّ النَّاكِحَ قَصَدَ مَا يُنَاقِضُ النِّكَاحَ، لِأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُهُ لَهَا وَسِيلَةً إلَى رَدِّهَا إلَى الْأَوَّلِ، وَالشَّيْءُ إذَا فُعِلَ لِغَيْرِهِ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ ذَلِكَ الْغَيْرَ لَا إيَّاهُ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِنِكَاحِهَا أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً لِلْغَيْرِ لَا أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً لَهُ. وَهَذَا الْقَدْرُ يُنَافِي قَصْدَ أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً لَهُ، إذْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَنَافٍ، وَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً لَهُ بِحَالٍ حَتَّى يُقَالَ: قَصَدَ أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً لَهُ فِي وَقْتٍ وَلِغَيْرِهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ يُشْبِهُ قَصْدَ الْمُتْعَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَهُ فَقَدْ قِيلَ هُوَ كَقَصْدِ التَّحْلِيلِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ إلْحَاقُهُ بِمَنْ لَمْ يَقْصِدْ مَا يُنَافِي النِّكَاحَ فِي الْحَالِ، وَلَا فِي الْمَآلِ بِوَجْهٍ، مَعَ كَوْنِهِ قَدْ أَتَى بِالْقَوْلِ الْمُتَضَمِّنِ فِي الشَّرْعِ لِقَصْدِ النِّكَاحِ، وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا التَّلْجِئَةُ: فَاَلَّذِي، عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّهُمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَتَبَايَعَا شَيْئًا بِثَمَنٍ ذَكَرَاهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ تَلْجِئَةً لَا حَقِيقَةَ مَعَهَا، ثُمَّ تَعَاقَدَا الْبَيْعَ قَبْلَ أَنْ يُبْطِلَا مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ، فَالْبَيْعُ تَلْجِئَةٌ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَقُولَا فِي الْعَقْدِ قَدْ تَبَايَعْنَاهُ تَلْجِئَةً. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ يُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ لَمْ يَصِحَّ هَذَا النِّكَاحُ. وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ عِنَبَهُ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَعْصِرُهُ خَمْرًا، وَقَالَ: وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ - إذَا أَقَرَّ لِامْرَأَةٍ بِدَيْنٍ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَمَاتَ وَهِيَ وَارِثَةٌ فَهَذِهِ قَدْ أَقَرَّ لَهَا وَلَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ تَلْجِئَةً فَيُرَدُّ، وَنَحْوَ هَذَا نَقَلَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَرْوَزِيِّ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ،

وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَكُونُ تَلْجِئَةً حَتَّى يَقُولَا فِي الْعَقْدِ قَدْ تَبَايَعْنَا هَذَا الْعَقْدَ تَلْجِئَةً. وَمَأْخَذُ مَنْ أَبْطَلَهُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا الْعَقْدَ حَقِيقَةً وَالْقَصْدُ مُعْتَبَرٌ فِي صِحَّتِهِ وَأَنَّهُمَا يُمْكِنُهُمَا أَنْ يَجْعَلَاهُ هَزْلًا بَعْدَ وُقُوعِهِ فَكَذَلِكَ إذَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ. وَمَأْخَذُ مَنْ يُصَحِّحُهُ أَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَقْدِ وَالْمُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ إنَّمَا هُوَ الشَّرْطُ الْمُقَارِنُ. وَالْأَوَّلُونَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى، وَيَقُولُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّرْطِ الْمُقَارِنِ وَالْمُتَقَدِّمِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّمَا ذَاكَ فِي الشَّرْطِ الزَّائِدِ عَلَى الْعَقْدِ بِخِلَافِ الرَّافِعِ لَهُ، فَإِنَّ التَّشَارُطَ هُنَا يَجْعَلُ الْعَقْدَ غَيْرَ مَقْصُودٍ وَهُنَاكَ هُوَ مَقْصُودٌ، وَقَدْ أَطْلَقَ عَنْ شَرْطٍ مُقَارِنٍ. فَأَمَّا نِكَاحُ التَّلْجِئَةِ فَذَكَرَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَنَّهُ صَحِيحٌ، كَنِكَاحِ الْهَازِلِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْعَقْدِ بَلْ هَازِلٌ لَهُ، وَنِكَاحُ الْهَازِلِ يَصِحُّ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ رَفْعَ مُوجَبِهِ، مِثْلُ: أَنْ يَشْرِطَ أَنْ لَا يَطَأَهَا أَوْ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ، أَوْ أَنَّهُ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ يَصِحُّ الْعَقْدُ دُونَ الشَّرْطِ فَالْإِنْفَاقُ عَلَى التَّلْجِئَةِ حَقِيقَتُهُ أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَعْقِدَا عَقْدًا لَا يَقْتَضِي مُوجَبَهُ وَهَذَا لَا يُبْطِلُهُ بِخِلَافِ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّهُ قَصَدَ رَفْعَهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَهَذَا أَمْرٌ مُمْكِنٌ فَصَارَ قَصْدُهُ مُؤَثِّرًا فِي رَفْعِ الْعَقْدِ وَهَذَا فَرْقٌ ثَانٍ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَحْقِيقٌ لِلْفَرْقِ الْأَوَّلِ بَيْنَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَالْهَازِلِ. فَإِنَّ الْهَازِلَ قَصَدَ قَطْعَ مُوجَبِ السَّبَبِ عَنْ السَّبَبِ وَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنَّ ذَلِكَ قَصْدٌ لِإِبْطَالِ حُكْمِ الشَّارِعِ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ وَلَا يَقْدَحُ هَذَا الْقَصْدُ فِي مَقْصُودِ النِّكَاحِ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ. وَالْمُحَلِّلُ قَصَدَ رَفْعَ الْحُكْمِ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَهَذَا مُمْكِنٌ فَيَكُونُ قَصْدًا مُؤَثِّرًا فَيَقْدَحُ فِي مَقْصُودِ النِّكَاحِ فَيَبْطُلُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ مُمْكِنٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْهَازِلَ يَلْزَمُهُ النِّكَاحُ فَإِنْ أَحَبَّ قَطْعَهُ احْتَاجَ إلَى قَصْدٍ ثَانٍ. وَالْمُحَلِّلُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ قَدْ عَزَمَ عَلَى رَفْعِهِ. وَيُوَضِّحُ هَذَا أَنَّهُمَا لَوْ شَرَطَا فِي الْعَقْدِ رَفْعَ الْعَقْدِ وَهُوَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ، أَوْ الْمُتْعَةِ

كَانَ بَاطِلًا. وَلَوْ شَرَطَا فِيهِ رَفْعَ حُكْمِهِ، مِثْلُ عَدَمِ الْحِيَلِ وَنَحْوِهِ لَكَانَ يُصَحِّحُهُ مَنْ لَمْ يُصَحِّحْ الْأَوَّلَ وَمَنْ قَالَ هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: لَوْ قَالَ زَوَّجْتُك هَازِلًا فَقَالَ قَبِلْت أَنْ يَصِحَّ النِّكَاحُ كَمَا لَوْ قَالَ طَلَّقْت هَازِلًا وَيَتَخَرَّجُ فِي نِكَاحِ التَّلْجِئَةِ أَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ الْمَوْجُودَ قَبْلَ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ فِي أَظْهَرِ الطَّرِيقَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَلَوْ اشْتَرَطَا فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ نِكَاحُ تَلْجِئَةٍ لَا حَقِيقَةٍ لَكَانَ نِكَاحًا بَاطِلًا، وَإِنْ قِيلَ: إنَّ فِيهِ خِلَافًا فَإِنَّ أَسْوَأَ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ شَرَطَا أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ وَهَذَا الشَّرْطُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ عَلَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْهَزْلِ فَإِنَّهُ قَصْدٌ مَحْضٌ لَمْ يَتَشَارَطَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَصَدَهُ أَحَدُهُمَا وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَهْزِلَ فِيمَا يُخَاطِبُ بِهِ غَيْرَهُ وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةٌ. وَأَمَّا إذَا اتَّفَقَا فِي السِّرِّ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفٌ وَأَظْهَرَا فِي الْعَقْدِ أَلْفَيْنِ فَقَالَ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ الْقَدِيمِ وَالشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَغَيْرُهُمَا الثَّمَنُ مَا أَظْهَرَاهُ عَلَى قِيَاسِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ فِي الْمَهْرِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا أَظْهَرَاهُ وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ التَّلْجِئَةِ فِي الثَّمَنِ وَالتَّلْجِئَةِ فِي الْبَيْعِ بِأَنَّ التَّلْجِئَةَ فِي الْبَيْعِ تَجْعَلُهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ وَالْقَصْدُ مُعْتَبَرٌ فِي صِحَّتِهِ وَهُنَا الْعَقْدُ مَقْصُودٌ وَمَا تَقَدَّمَهُ شَرْطٌ مُفْسِدٌ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَقْدِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْجَمِيعِ بِمَا أَظْهَرَاهُ، وَفِي الْمَهْرِ عَنْهُ خِلَافٌ مَشْهُورٌ، وَقَالَ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ الْجَدِيدِ هُوَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ مِثْلُ أَبِي الْخَطَّابِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ وَغَيْرِهِمْ: الثَّمَنُ مَا أَسَرَّاهُ وَالزِّيَادَةُ سُمْعَةٌ وَرِيَاءٌ بِخِلَافٍ الْمَهْرِ إلْحَاقًا لِلْعِوَضِ فِي الْبَيْعِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ، وَإِلْحَاقًا لِلْمَهْرِ بِالنِّكَاحِ، وَجَعَلَا الزِّيَادَةَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَهِيَ لَاحِقَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَكْسَ هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَسْمِيَةَ الْعِوَضِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ دُونَ النِّكَاحِ، وَقَالَ صَاحِبَاهُ: الْعِبْرَةُ فِي الْجَمِيعِ بِمَا أَسَرَّاهُ. وَإِنَّمَا يَتَحَرَّرُ الْكَلَامُ فِي هَذَا بِمَسْأَلَةِ الْمَهْرِ، وَلَهَا فِي الْأَصْلِ صُورَتَانِ؛ وَكَلَامُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ فِيهَا عَامٌّ فِيهِمَا، أَوْ مُجْمَلٌ. إحْدَاهُمَا: أَنْ يَعْقِدُوهُ فِي الْعَلَانِيَةِ بِأَلْفَيْنِ وَقَدْ اتَّفَقُوا قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ الْمَهْرَ أَلْفٌ وَأَنَّ الزِّيَادَةَ سُمْعَةٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْقِدُوهُ بِالْأَقَلِّ، فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْمَهْرَ هُوَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِنْ قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ تَصَادَقُوا عَلَيْهِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْعَلَانِيَةُ مِنْ جِنْسِ السِّرِّ، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ أَوْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، قَالُوا: وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ

أَحْمَدَ فِي مَوَاضِعَ، قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُنْذِرِ فِي الرَّجُلِ يُصْدِقُ صَدَاقًا فِي السِّرِّ وَفِي الْعَلَانِيَةِ شَيْئًا آخَرَ يُؤَاخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: إذَا تَزَوَّجَهَا فِي الْعَلَانِيَةِ عَلَى شَيْءٍ وَأَسَرَّ غَيْرَ ذَلِكَ أُوخِذَ بِالْعَلَانِيَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَشْهَرَ فِي السِّرِّ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ فِي رَجُلٍ أَصْدَقَ صَدَاقًا سِرًّا وَصَدَاقًا عَلَانِيَةً يُؤَاخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ إذَا كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِهِ قِيلَ لَهُ فَقَدْ أَشْهَدَ شُهُودًا فِي السِّرِّ بِغَيْرِهِ قَالَ: وَإِنْ؛ أَلَيْسَ قَدْ أَقَرَّ بِهَذَا أَيْضًا عِنْدَ شُهُودٍ؟ يُؤَاخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَقَرَّ بِهِ أَيْ رَضِيَ بِهِ وَالْتَزَمَهُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81] . وَهَذَا يَعُمُّ التَّسْمِيَةَ فِي الْعَقْدِ وَالِاعْتِرَافَ بَعْدَهُ وَيُقَالُ أَقَرَّ بِالْجِزْيَةِ وَأَقَرَّ لِلسُّلْطَانِ بِالطَّاعَةِ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فِي الرَّجُلِ يُعْلِنُ مَهْرًا وَيُخْفِي آخَرَ أُوخِذَ بِمَا يُعْلِنُ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَلَانِيَةِ قَدْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ وَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا لَهُ بِمَا كَانَ أَسَرَّهُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي السِّرِّ وَأَعْلَنُوا مَهْرًا آخَرَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا، وَأَمَّا هُوَ فَيُؤَاخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ. قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: قَدْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِمَهْرِ الْعَلَانِيَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا بِمَا أَسَرَّ عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ لِئَلَّا يَحْصُلَ مِنْهُمْ غُرُورٌ لَهُ فِي ذَلِكَ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَأَبِي قِلَابَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْمَشْهُورُ عَنْهُ، وَقَدْ نَصَّ فِي مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِمَهْرِ السِّرِّ، فَقِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ. وَقِيلَ: بَلْ ذَاكَ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ: إذَا عَلِمَ الْمَشْهُودُ أَنَّ الْمَهْرَ الَّذِي يُظْهِرُهُ سُمْعَةٌ، وَأَنَّ أَصْلَ الْمَهْرِ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ تَزَوَّجَ وَأَعْلَنَ الَّذِي قَالَ فَالْمَهْرُ هُوَ السِّرُّ وَالسُّمْعَةُ بَاطِلَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَالْحَكَمِ بْنِ عُتْبَةَ، وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَإِسْحَاقَ. وَعَنْ شُرَيْحٍ وَالْحَسَنِ كَالْقَوْلَيْنِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ

يَبْطُلُ الْمَهْرُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَهُوَ خِلَافُ مَا حَكَاهُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالسِّرِّ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَلَانِيَةَ تَلْجِئَةٌ، فَقَالَ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ أَظْهَرَ صَدَاقًا وَأَسَرَّ غَيْرَ ذَلِكَ نُظِرَ فِي الْبَيِّنَاتِ وَالشُّهُودِ وَكَانَ الظَّاهِرُ أَوْكَدَ إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ تَدْفَعُ الْعَلَانِيَةَ. قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ تَأَوَّلَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ هَذَا عَلَى أَنَّ بَيِّنَةَ السِّرِّ عُدُولٌ وَبَيِّنَةَ الْعَلَانِيَةِ، غَيْرُ عُدُولٍ حُكِمَ بِالْعُدُولِ قَالَ الْقَاضِي وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ حَكَمَ بِنِكَاحِ السِّرِّ إذَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ بِنِكَاحِ الْعَلَانِيَةِ، وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ: إذَا تَكَافَأَتْ الْبَيِّنَاتُ وَقَدْ شَرَطُوا فِي السِّرِّ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ فِي الْعَلَانِيَةِ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا لَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ وَلَا يُطَالِبُوهُ بِالظَّاهِرِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» فَإِنَّ الْقَاضِيَ، وَظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ أَبِي حَفْصٍ أَنَّهُ قَدْ جَعَلَ لِلسِّرِّ حُكْمًا قَالَ وَالْمَذْهَبُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. قُلْت: كَلَامُ أَبِي حَفْصٍ الْأَوَّلُ فِيمَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّ النِّكَاحَ عُقِدَ فِي السِّرِّ بِالْمَهْرِ الْقَلِيلِ وَلَمْ يَثْبُتْ نِكَاحُ الْعَلَانِيَةِ، وَكَلَامُهُ الثَّانِي فِيمَا إذَا ثَبَتَ نِكَاحُ الْعَلَانِيَةِ، وَلَكِنْ تَشَارَطُوا إنَّمَا يُظْهِرُونَ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو حَفْصٍ أَشْبَهُ بِكَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأُصُولِهِ، فَإِنَّ عَامَّةَ كَلَامِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ، وَلَمْ يَثْبُتْ بَيِّنَةٌ وَلَا اعْتِرَافٌ أَنَّ مَهْرَ الْعَلَانِيَةِ سُمْعَةٌ، بَلْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِالْأَكْثَرِ، وَادُّعِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُؤَاخَذَ بِمَا أَقَرَّ بِهِ إنْشَاءً، أَوْ إخْبَارًا. وَإِذَا أَقَامَ شُهُودًا يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ تَرَاضَوْا بِدُونِ ذَلِكَ حُكِمَ بِالْبَيِّنَةِ لِلْأُولَى؛ لِأَنَّ التَّرَاضِيَ بِالْأَقَلِّ فِي وَقْتٍ لَا يَمْنَعُ التَّرَاضِيَ بِمَا زَادَ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: " أُوخِذَ بِالْعَلَانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَلَانِيَةِ قَدْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ وَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا بِمَا كَانَ أَسَرَّهُ ". فَقَوْلُهُ: " لِأَنَّهُ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ فِي الْحُكْمِ فَقَطْ، وَإِلَّا فَمَا يَجِبُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ لَا يُعَلَّلُ بِالْإِشْهَادِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا لَهُ وَأَمَّا هُوَ فَيُؤَاخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهِ وَأَنَّ أُولَئِكَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْوَفَاءُ.

وَقَوْلُهُ " يَنْبَغِي " تُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ أَكْثَرَ مِمَّا تُسْتَعْمَلُ فِي الْمُسْتَحَبِّ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ أَيْضًا فِي امْرَأَةٍ زُوِّجَتْ فِي الْعَلَانِيَةِ عَلَى أَلْفٍ وَفِي السِّرِّ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ سَوَاءً أَخَذْنَا بِالْعَلَانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَهُوَ خَرَّجَ: يُؤَاخَذُ بِالْأَكْثَرِ وَقُيِّدَتْ الْمَسْأَلَةُ بِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا وَأَنَّ كِلَيْهِمَا قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ. وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ: وَهُوَ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا فِي السِّرِّ بِأَلْفٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعَلَانِيَةِ بِأَلْفَيْنِ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، فَهُنَا قَالَ الْقَاضِي، - فِي الْمُجَرَّدِ وَالْجَامِعِ: إنْ تَصَادَقَا عَلَى نِكَاحِ السِّرِّ لَزِمَ نِكَاحُ السِّرِّ بِمَهْرِ السِّرِّ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْمُتَقَدِّمَ قَدْ صَحَّ وَلُزُومَ النِّكَاحِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، وَحَمَلَ مُطْلَقَ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْخِرَقِيِّ: إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقَيْنِ سِرٍّ وَعَلَانِيَةٍ أَخَذْنَا بِالْعَلَانِيَةِ، وَإِنْ كَانَ السِّرُّ قَدْ انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِهِ، وَهَذَا مَنْصُوصُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي قَوْلِهِ: تَزَوَّجَتْ فِي الْعَلَانِيَةِ عَلَى أَلْفٍ وَفِي السِّرِّ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، وَعُمُومُ كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ يَشْمَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، ثُمَّ طَرِيقُهُ وَطَرِيقَةُ جَمَاعَةٍ فِي ذَلِكَ أَنْ يَجْعَلُوا مَا أَظْهَرَاهُ زِيَادَةً فِي الْمَهْرِ وَالزِّيَادَةُ فِيهِ بَعْدَ لُزُومِهِ لَازِمَةٌ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَانَ السِّرُّ هُوَ الْأَكْثَرَ، أُوخِذَ بِهِ أَيْضًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ أُوخِذَ بِالْعَلَانِيَةِ يُؤَاخَذُ بِالْأَكْثَرِ. وَلِهَذَا الْقَوْلِ طَرِيقَةٌ ثَانِيَةٌ: وَهُوَ أَنَّ نِكَاحَ السِّرِّ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَكْتُمُوهُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بَلْ أَنَصِّهِمَا. فَإِذَا تَوَاصَوْا بِكِتْمَانِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ كَانَتْ الْعِبْرَةُ إنَّمَا هِيَ بِالثَّانِي فَقَدْ تَحَرَّرَ أَنَّ أَصْحَابَنَا مُخْتَلِفُونَ، هَلْ يُؤَاخَذُ بِصَدَاقِ الْعَلَانِيَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا فَقَطْ فِيمَا إذَا كَانَ السِّرُّ تَوَاطُئًا مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ؟ وَإِنْ كَانَ السِّرُّ عَقْدًا، فَهَلْ هِيَ كَالَّتِي قَبْلَهَا أَوْ يُؤَاخَذُ هُنَا بِالسِّرِّ فِي الْبَاطِنِ بِلَا تَرَدُّدٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ ظَاهِرًا فَقَطْ. وَإِنَّهُمْ فِي الْبَاطِنِ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُؤَاخَذُوا إلَّا بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ لَمْ يُرِدْ نَقْضًا، وَهَذَا قَوْلٌ قَوِيٌّ لَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ مِنْ تَوَابِعِ النِّكَاحِ وَصِفَاتِهِ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ سُمْعَةً كَذِكْرِهِ هَزْلًا وَالنِّكَاحُ جِدُّهُ وَهَزْلُهُ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ ذِكْرُ مَا هُوَ

فِيهِ. يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ حِلَّ الْبُضْعِ مَشْرُوطٌ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْعَقْدِ وَالشَّهَادَةُ وَقَعَتْ عَلَى مَا أَظْهَرَاهُ فَيَكُونُ وُجُوبُ الْمَشْهُودِ بِهِ شَرْطًا فِي الْحِلِّ. فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ عُقُودِ الْهَزْلِ وَالتَّلْجِئَةِ قَدْ يُعَارَضُ بِمَا يَصِحُّ مِنْهَا عَلَى قَوْلِنَا: إنَّ الْمَقَاصِدَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ مَعَ عَدَمِ قَصْدِ الْحُكْمِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ تَحْقِيقُ مَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ. فَنَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ السُّنَّةَ وَأَقْوَالَ الصَّحَابَةِ فَرَّقَتْ بَيْنَ قَصْدِ التَّحْلِيلِ وَبَيْنَ نِكَاحِ الْهَازِلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَا السُّنَّةَ وَالْآثَارَ الدَّالَّةَ عَلَى صِحَّةِ نِكَاحِ الْهَازِلِ، ثُمَّ السُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ نُصُوصٌ فِي أَنَّ قَصْدَ التَّحْلِيلِ مَانِعٌ مِنْ حِلِّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ الْفَرْقُ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعَ السُّنَّةِ، وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ مِنْ أَجْوَدِ الْحِيَلِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا فَإِذَا بَطَلَ فَمَا سِوَاهُ مِنْ الْحِيَلِ أَبْطَلُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْهَزْلَ لَا يَقْدَحُ فِي اعْتِبَارِ الْقَصْدِ لِئَلَّا تَتَنَاقَضَ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ. الثَّانِي: إنَّمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَصْدَ مُعْتَبَرٌ فِي، الْعُقُودِ وَمُؤَثِّرٌ فِيهَا، وَلَمْ نَقُلْ إنَّ عَدَمَ الْقَصْدِ مُؤَثِّرٌ فِيهَا، وَالْهَازِلُ وَنَحْوُهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ قَصْدٌ يُخَالِفُ مُوجَبَ الْعَقْدِ، وَلَكِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ الْقَصْدُ إلَى مُوجَبِ الْعَقْدِ. وَفَرْقٌ بَيْنَ عَدَمِ قَصْدِ الْحُكْمِ وَبَيْنَ وُجُودِ قَصْدِ ضِدِّهِ. وَهَذَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا مِنْ قَصْدِ التَّكَلُّمِ، وَإِرَادَتِهِ. فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْكَلِمَةَ صَدَرَتْ مِنْ نَائِمٍ، أَوْ ذَاهِلٍ، أَوْ قَصَدَ كَلِمَةً فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ بِأُخْرَى، أَوْ سَبَقَ بِهَا لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَهَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى مِثْلِ هَذَا حُكْمٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَطُّ، وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَالْكَلَامُ يَكُونُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عَمَلِ اللِّسَانِ وَحَرَكَتِهِ، وَإِنْ كَانَ نَفْسُ الْحَرَكَةِ الْمُقْتَضِيَةِ تُسَمَّى كَلَامًا أَيْضًا. فَإِذَا عَمِلَهُ لَمْ يَقْصِدْ مُوجَبَهُ وَمُقْتَضَاهُ كَانَ هَازِلًا لَاعِبًا، فَإِنَّهُ عَمِلَ عَمَلًا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ شَيْئًا مِنْ فَوَائِدِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَمْ يَقْصِدْ مَا يُنَافِي فَوَائِدَهُ الشَّرْعِيَّةَ، فَهُنَا أَمْكَنَ تَرَتُّبُ الْفَائِدَةِ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْقَوْلِ الْمُقْتَضِي فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ تَرَتُّبًا شَرْعِيًّا لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ، وَإِذَا قَصَدَ الْمُنَافِيَ فَقَدْ عَارَضَ الْمُقْتَضِيَ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا، فَكَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ هَذَا الْوَجْهِ.

الثَّالِثِ: أَنَّ الْهَازِلَ لَوْ وَصَلَ قَوْلَهُ بِلَفْظِ الْهَزْلِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: طَلَّقْتُكِ هَازِلًا، أَوْ طَلَّقْتُكِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ وُقُوعُ الطَّلَاقِ. وَكَذَلِكَ عَلَى قِيَاسِهِ لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ هَازِلًا، أَوْ زَوَّجْتُكَ غَيْرَ قَاصِدٍ لَأَنْ تَمْلِكَ الْمَرْأَةَ. فَأَمَّا لَوْ قَالَ زَوَّجْتُكَ عَلَى أَنْ تُحِلَّهَا بِالطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ، أَوْ عَلَى أَنْ تُطَلِّقَهَا إذَا أَحْلَلْتهَا لَمْ يَصِحَّ، فَإِذَا ثَبَتَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَفْظًا فَثُبُوتُهُ بِالْبَيِّنَةِ مِثْلُهُ سَوَاءً بَلْ أَوْلَى، وَسِرُّ هَذَا الْفَرْقِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَبْلَهُ فَإِنَّ الْهَازِلَ مَعَ عَدَمِ قَصْدِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَالْعَدَمِ لَوْ أَظْهَرَهُ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي الْعَقْدِ، وَالْمُحَلِّلُ وَنَحْوُهُ مَعَهُ قَصْدٌ يُنَافِي الْمُقْتَضِيَ وَمَا يُنَافِي الْمُقْتَضِيَ لَوْ أَظْهَرَهُ كَانَ شَرْطًا فَالْهَازِلُ عَقَدَ عَقْدًا نَاقِصًا فَكَمَّلَهُ الشَّارِعُ. وَالْمُحَلِّلُ زَادَ عَلَى الْعَقْدِ الشَّرْعِيِّ مَا أَوْجَبَ عَدَمَهُ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ نِكَاحَ الْهَازِلِ وَنَحْوَهُ حُجَّةٌ لِاعْتِبَارِ الْقَصْدِ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ مَنَعَ أَنْ تُتَّخَذَ آيَاتُ اللَّهِ هُزُوًا، وَأَنْ يَتَكَلَّمَ الرَّجُلُ بِآيَاتِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ الْعُقُودُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْجِدِّ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ مُوجَبَاتِهَا الشَّرْعِيَّةَ. وَلِهَذَا يُنْهَى عَنْ الْهَزْلِ بِهَا، وَعَنْ التَّلْجِئَةِ، كَمَا يُنْهَى عَنْ التَّحْلِيلِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَلْعَبُونَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِآيَاتِهِ طَلَّقْتُكِ رَاجَعْتُكِ طَلَّقْتُكِ رَاجَعْتُكِ» . فَعُلِمَ أَنَّ اللَّعِبَ بِهَا حَرَامٌ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَمَعْنَى فَسَادِهِ عَدَمُ تَرَتُّبِ أَثَرِهِ الَّذِي يُرِيدُهُ الْمَنْهِيُّ، مِثْلُ نَهْيِهِ عَنْ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ الْمُحَرَّمِ، فَإِنَّ فَسَادَهُ عَدَمُ حُصُولِ الْمِلْكِ، وَالْهَازِلُ اللَّاعِبُ بِالْكَلَامِ غَرَضُهُ التَّفَكُّهُ وَالتَّلَهِّي وَالتَّمَضْمُضُ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ لُزُومِ حُكْمِهِ لَهُ، فَأَفْسَدَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ هَذَا الْغَرَضَ بِأَنْ أَلْزَمَهُ الْحُكْمَ مَتَى تَكَلَّمَ بِهَا، فَلَمْ يَتَرَتَّبْ غَرَضُهُ مِنْ التَّلَهِّي بِهَا وَاللَّعِبِ وَالْخَوْضِ، بَلْ لَزِمَهُ النِّكَاحُ وَثَبَتَ فِي حَقِّهِ النِّكَاحُ وَمَتَى ثَبَتَ النِّكَاحُ فِي حَقِّهِ تَبِعَتْهُ أَحْكَامُهُ، وَالْمُحْتَالُ كَالْمُحَلِّلِ مِثْلُ غَرَضِهِ إعَادَةُ الْمَرْأَةِ إلَى الْأَوَّلِ فَيَجِبُ فَسَادُ هَذَا الْغَرَضِ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَحِلَّ عَوْدُهَا، وَإِنَّمَا لَا يَحِلُّ عَوْدُهَا إذَا كَانَ نِكَاحُهُ فَاسِدًا فَيَجِبُ إفْسَادُ نِكَاحِهِ.

فَتَبَيَّنَ أَنَّ اعْتِبَارَ الشَّارِعِ لِلْمَقَاصِدِ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ صِحَّةَ نِكَاحِ الْهَازِلِ وَفَسَادَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ. وَإِيضَاحُ هَذَا: أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ أَنْ تُتَّخَذَ آيَاتُهُ هُزُوًا بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ النِّكَاحَ وَالْخُلْعَ وَالطَّلَاقَ، وَفَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ أَنْ يُلْعَبَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَيُسْتَهْزَأَ بِآيَاتِهِ فَيُقَالُ: طَلَّقْتُكِ، رَاجَعْتُكِ، خَلَعْتُكِ، رَاجَعْتُكِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِالْكَلَامِ الْحَقِّ الْمُعْتَبَرُ أَنْ يُقَالَ لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، إمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ مَقْصُودٌ غَيْرُ حَقِيقَةٍ كَكَلَامِ الْمُنَافِقِ، أَوْ لَا يُقْصَدَ إلَّا مُجَرَّدُ ذِكْرِهِ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ، كَكَلَامِ السُّفَهَاءِ، وَكَلَامُ الْوَجْهَيْنِ حَرَامٌ وَهُوَ كَذِبٌ وَلَعِبٌ، فَيَجِبُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ هَذَا الْفَسَادِ. فَيُمْنَعُ الْأَوَّلُ مِنْ حُصُولِ مَقْصُودِهِ الْمُبَايِنِ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ، وَيَمْنَعُ الثَّانِي مِنْ حُصُولِ مَقْصُودِهِ الَّذِي هُوَ اللَّعِبُ. ثُمَّ إنْ كَانَ مَنْعُهُ مِنْ مَقْصُودِهِ بِإِبْطَالِ الْعَقْدِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، أَوْ مِنْ بَعْضِهَا، أَوْ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ شُرِعَ ذَلِكَ، وَالْمُحَلِّلُ إنَّمَا يُمْنَعُ الْمَقْصُودَ الْبَاطِلَ بِإِبْطَالِ الْعَقْدِ مُطْلَقًا، وَإِلَّا فَتَصْحِيحُ النِّكَاحِ مُسْتَلْزِمٌ لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ، وَلَمَّا لَحَظَ بَعْضُ أَهْلِ الرَّأْيِ هَذَا رَأَى أَنْ يُصَحِّحَ النِّكَاحَ وَيَمْنَعَ حُصُولَ الْحِلِّ، كَمَا يُوقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْمَرَضِ وَيُوجَبُ الْمِيرَاثُ. لَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ هُنَا، لِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُلْعَنَ إلَّا الْمُحَلَّلُ لَهُ فَقَطْ، إذَا كَانَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ صَحِيحًا مُفِيدًا لِلْحِلِّ لِنَفْسِهِ. وَلَكَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى تَيْسًا مُسْتَعَارًا؛ لِأَنَّهُ زَوْجٌ مِنْ الْأَزْوَاجِ، غَيْرَ أَنَّ نِكَاحَهُ لَمْ يُفِدْ الْحِلَّ الْمُطْلَقَ كَالنِّكَاحِ قَبْلَ الدُّخُولِ، ثُمَّ إنَّ مَادَّةَ الْفَسَادِ إنَّمَا تَنْحَسِمُ بِتَحْرِيمِ الْعَقْدَيْنِ مَعًا، وَالطَّلَاقُ لَا يَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ. وَلِهَذَا إذَا وَقَعَ مَعَ التَّحْرِيمِ وَقَعَ كَطَلَاقِ الْبِدْعَةِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ مَعَ التَّحْرِيمِ كَانَ فَاسِدًا كَالنِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ، فَلَمَّا مَنَعَ الشَّارِعُ مَقْصُودَ الْمُحَلِّلِ مَنَعَ أَيْضًا مَقْصُودَ الْهَازِلِ وَهُوَ اللَّعِبُ بِالْعُقُودِ مِنْ غَيْرِ اقْتِضَاءٍ لِأَحْكَامِهَا فَأَوْجَبَ أَحْكَامَهَا مَعَهَا، وَهَذَا كَلَامٌ مَتِينٌ إذَا تَأَمَّلَهُ اللَّبِيبُ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ وَجَدَ الشَّرِيعَةَ مُتَنَاسِبَةً، وَأَنَّ تَصْحِيحَ نِكَاحِ الْهَازِلِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ. وَكَذَلِكَ نِكَاحُ التَّلْجِئَةِ إذَا قِيلَ بِصِحَّتِهِ، فَإِنَّ التَّلْجِئَةَ نَوْعٌ مِنْ الْحِيَلِ بِإِظْهَارِ صُورَةِ الْعَقْدِ لِسُمْعَةٍ، وَلَا يَلْتَزِمُونَ مُوجَبَهَا بِإِبْطَالِ هَذِهِ الْحِيَلِ، بِأَنْ يَلْتَزِمُوا مُوجَبَهُ حَتَّى لَا يَجْتَرِئَ أَحَدٌ أَنْ

يَعْقِدَ الْعَقْدَ إلَّا عَلَى وَجْهٍ لِرَغْبَةٍ فِي مَقْصُودِهَا دُونَ الِاحْتِيَالِ بِهَا إلَى غَيْرِ مَقَاصِدِهَا. وَمِمَّا يُقَارِبُ هَذَا أَنَّ كَلِمَتَيْ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ إذَا قَصَدَ الْإِنْسَانُ بِهِمَا غَيْرَ حَقِيقَتِهِمَا صَحَّ كُفْرُهُ وَلَمْ يَصِحَّ إيمَانُهُ. فَإِنَّ الْمُنَافِقَ قَصَدَ بِالْإِيمَانِ مَصَالِحَ دُنْيَاهُ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ لِمَقْصُودِ الْكَلِمَةِ فَلَمْ يَصِحَّ إيمَانُهُ، وَالرَّجُلُ لَوْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِمَصَالِحِ دُنْيَاهُ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةِ اعْتِقَادٍ صَحَّ كُفْرُهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ مُعْتَقِدًا لِحَقِيقَتِهَا، وَأَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ أَوْ الْكَذِبِ جَادًّا وَلَا هَازِلًا، فَإِذَا تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ أَوْ الْكَذِبِ جَادًّا، أَوْ هَازِلًا كَانَ كَافِرًا، أَوْ كَاذِبًا حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ بِهَذَا الْكَلِمَاتِ غَيْرُ مُبَاحٍ، فَيَكُونُ وَصْفُ الْهَزْلِ مُهْدَرًا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ فَتَبْقَى الْكَلِمَةُ مُوجِبَةً لِمُقْتَضَاهَا. وَنَظِيرُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ قَصْدَ اللَّفْظِ بِالْعُقُودِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ، بِحَيْثُ لَوْ جَرَى اللَّفْظُ فِي حَالِ نَوْمٍ، أَوْ جُنُونٍ، أَوْ سَبْقِ اللِّسَانِ بِغَيْرِ مَا أَرَادَهُ الْقَلْبُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، ثُمَّ إنَّ أَكْثَرَهُمْ صَحَّحُوا عُقُودَ السَّكْرَانِ مَعَ عَدَمِ قَصْدِهِ اللَّفْظَ قَالُوا: لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ أَنْ يُزِيلَ عَقْلَهُ كَانَ فِي حُكْمِ مَنْ بَقِيَ عَقْلُهُ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْهَازِلِ وَالْمُخَادِعِ لَمَّا أَخْرَجَا الْعَقْدَ عَنْ حَقِيقَتِهِ. فَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُمَا مِنْهُ مَقْصُودَ الشَّارِعِ عُوقِبَا بِنَقِيضِ قَصْدِهِمَا. وَمَقْصُودُ الْهَازِلِ نَفْيُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ فَيَثْبُتُ. وَمَقْصُودُ الْمُحَلِّلِ ثُبُوتُ الْحِلِّ لِلْمُطَلِّقِ، وَثُبُوتُ الْحِلِّ لَهُ لِيَكُونَ وَسِيلَةً فَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ بِعَكْسِ السُّنَّةِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَصَحَّحَ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ دُونَ نِكَاحِ الْهَازِلِ، نَظَرًا إلَى أَنَّ الْهَازِلَ لَمْ يَقْصِدْ مُوجَبَ الْعَقْدِ، فَصَارَ كَلَامُهُ لَغْوًا وَالْمُحَلِّلُ قَصَدَ مُوجَبَهُ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إلَى غَرَضٍ آخَرَ. وَهَذَا مُخَيَّلٌ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ، لَكِنْ يَصُدُّ عَنْ اعْتِبَارِهِ مُخَالَفَتُهُ لِلسُّنَّةِ، وَبَعْدَ إمْعَانِ النَّظَرِ يَتَبَيَّنُ فَسَادُهُ نَظَرًا كَمَا تَبَيَّنَ أَثَرًا، فَإِنَّ التَّكَلُّمَ بِالْعَقْدِ مَعَ عَدَمِ قَصْدِهِ مُحَرَّمٌ، فَإِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فَقَدْ أُعِينَ عَلَى التَّحْرِيمِ الْمُحَرَّمِ، فَيَجِبُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ إفْسَادٌ لِهَذَا الْهَزْلِ الْمُحَرَّمِ وَإِبْطَالُ اللَّعِبِ يَجْعَلُ الْهَزْلَ بِآيَاتِ اللَّهِ جِدًّا، كَمَا جُعِلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِاَللَّهِ وَبِآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ، وَقَصْدُ الْمُحَلِّلِ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِقَصْدِ

الشَّارِعِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ الرَّدَّ إلَى الْأَوَّلِ، وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْهُ الشَّارِعُ، فَقَدْ قَصَدَ مَا لَمْ يَقْصِدْهُ الشَّارِعُ، وَلَمْ يَقْصِدْ مَا قَصَدَهُ، فَيَجِبُ إبْطَالُ قَصْدِهِ بِإِبْطَالِ وَسِيلَتِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الشَّوَاهِدِ أَنَّ الْمَقَاصِدَ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِنْ الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ هَذَا يَجْتَثُّ قَاعِدَةَ الْحِيَلِ؛ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ هُوَ الَّذِي لَا يَقْصِدُ بِالتَّصَرُّفِ مَقْصُودَهَا الَّذِي جُعِلَ لِأَجْلِهِ، بَلْ يَقْصِدُ بِهِ إمَّا اسْتِحْلَالَ مُحَرَّمٍ، أَوْ إسْقَاطَ وَاجِبٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، مِثْلُ الْمُحَلِّلِ الَّذِي لَا يَقْصِدُ مَقْصُودَ النِّكَاحِ مِنْ الْأُلْفَةِ وَالسَّكَنِ الَّتِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ نَقِيضَ النِّكَاحِ وَهُوَ الطَّلَاقُ لِتَعُودَ إلَى الْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ الْمُعِينُ لَا يَقْصِدُ مَقْصُودَ الْبَيْعِ مِنْ نَقْلِ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ أَنْ يُعْطِيَ أَلْفًا حَالَّةً بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ مُؤَجَّلَةً. وَكَذَلِكَ الْمُخَالِعُ خُلْعَ الْيَمِينِ لَا يَقْصِدُ مَقْصُودَ الْخُلْعِ مِنْ الْفُرْقَةِ وَالْبَيْنُونَةِ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ حِلَّ يَمِينِهِ بِدُونِ الْحِنْثِ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا مَقْصُودَ الْخُلْعِ وَهَذَا بَيِّنٌ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ. وَهَذَا يُوجِبُ فَسَادَ الْحِيَلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِتِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ مُوجَبَاتِهَا الشَّرْعِيَّةَ، بَلْ قَصَدَ خِلَافَهَا وَنَقِيضَهَا. الثَّانِي: أَنَّهُ قَصَدَ بِهَا إسْقَاطَ وَاجِبٍ وَاسْتِحْلَالَ مُحَرَّمٍ دُونَ سَبَبِهِ الشَّرْعِيِّ. لَكِنْ مِنْ التَّصَرُّفِ مَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ كَالْعُقُودِ الَّتِي قَدْ تَوَاطَأَ الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَيْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْهُ مَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ فَيَبْطُلُ الْحُكْمُ الَّذِي اُحْتِيلَ عَلَيْهِ، مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ النِّصَابَ فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ، أَوْ يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ فِرَارًا مِنْ الْإِرْثِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي. وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَاقِعٌ لَكِنْ تَجِبُ الزَّكَاةُ وَيَثْبُتُ الْإِرْثُ إبْطَالًا لِلتَّصَرُّفِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَإِنْ صَحَّ فِي حُكْمٍ آخَرَ. كَمَا أَنَّ صَيْدَ الْحَلَالِ لِلْمُحْرِمِ وَذَبْحَهُ يَجْعَلُ اللَّحْمَ ذَكِيًّا فِي حَقِّ الْحَلَالِ مَيِّتًا فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ، وَكَمَا أَنَّ بَيْعَ الْمَعِيبِ وَالْمُدَلَّسِ إذَا صَدَرَ مِمَّنْ يَعْلَمُ بِذَلِكَ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ كَانَ حَرَامًا فِي حَقِّ الْبَائِعِ حَلَالًا فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي. وَكَذَلِكَ رِشْوَةُ الْعَامِلِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ وَمِنْ هَذَا إعْطَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ مَا لَا

الوجه الثالث عشر النبي صلى الله عليه وسلم قال من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد

يَسْتَحِقُّهُ فَيُعْطِيهِ الْعَطِيَّةَ يَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبَّطُهَا نَارًا تَأْلِيفًا لِقَلْبِهِ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّا إنَّمَا ذَكَرْنَا هُنَا اعْتِقَادَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْعَزْمُ وَالْإِرَادَةُ. فَأَمَّا اعْتِقَادُ الْحُكْمِ بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْفِعْلَ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ فَتَأْثِيرُ هَذَا فِي الْحُكْمِ فِي الْجُمْلَةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ وَطِئَ فَرْجًا يَعْتَقِدُهُ حَلَالًا لَهُ، وَلَيْسَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ حَلَالًا، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً اشْتَرَاهَا، أَوْ اتَّهَبَهَا، أَوْ وَرِثَهَا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا غَصْبٌ، أَوْ حُرَّةٌ، أَوْ يَتَزَوَّجُهَا تَزَوُّجًا فَاسِدًا لَا يَعْلَمُ فَسَادَهُ، إمَّا بِأَنْ لَا يَعْلَمَ السَّبَبَ الْمُفْسِدَ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَمْ يَعْلَمْ، أَوْ عَلِمَ السَّبَبَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُفْسِدٌ لِجَهْلٍ كَمَنْ يَتَزَوَّجُ الْمُعْتَدَّةَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ جَائِزٌ، أَوْ لِتَأْوِيلٍ، كَمَنْ يَتَزَوَّجُ بِلَا وَلِيٍّ، أَوْ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَإِنَّ حُكْمَ هَذَا الْوَطْءِ حُكْمُ الْحَلَالِ فِي دَرْءِ الْحَدِّ وَلُحُوقِ النَّسَبِ وَحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَفِي ثُبُوتِ الْمُصَاهَرَةِ وَالْعِدَّةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، أَوْ سُرِّيَّتُهُ وَلَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لِهَذَا الِاعْتِقَادِ تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِ ضَمَانِ الدَّمِ وَالْمَالِ عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ فِيمَا أَتْلَفَهُ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ حَالَ الْقِتَالِ، وَكَذَلِكَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَسُقُوطِ الْعَزْمِ فِيمَا مَلَكَهُ الْكُفَّارُ وَأَتْلَفُوهُ، ثُمَّ أَسْلَمُوا فَإِنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوهُ وِفَاقًا وَلَا يُسْلَبُونَ مَا مَلَكُوهُ عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ فِي دِيَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَغَيْرِهَا، وَلَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْأَقْوَالِ فِيمَا إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَبَانَ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ لَكِنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ لَيْسَ هُوَ الَّذِي قَصَدْنَا الْكَلَامَ فِيهِ هُنَا وَإِنْ كَانَ يُقَوِّي مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْجُمْلَةِ. [الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ] الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، رَوَتْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: «أَمَّا بَعْدُ فَأَحْسَنُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ

مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . وَفِي لَفْظٍ كَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ فَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ «مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ خَيْرُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَزَادَ: «فَكُلُّ بِدْعَةٍ فِي النَّارِ» وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَخْطُبُ بِهَذَا الْخُطْبَةِ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «إنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ الْكَلَامُ وَالْهَدْيُ فَأَحْسَنُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَأَحْسَنُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ أَلَا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ» وَفِي لَفْظٍ: «غَيْرَ أَنَّكُمْ سَتُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ فَكُلُّ مُحْدَثَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» . وَهَذَا مَشْهُورٌ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَانَ يَخْطُبُ بِهِ كُلَّ خَمِيسٍ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ بِهِ فِي الْجُمَعِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ بِأَسَانِيدَ جَيِّدَةٍ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . وَهَذَا إسْنَادٌ جَيِّدٌ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ - وَعَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] ، الْآيَةَ: قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إلَيْنَا، فَقَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي سَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ فِي لَفْظِ: «تَرَكَتْكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ - وَفِيهِ - عَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي» .

فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَغَيْرُهَا تُبَيِّنُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَذَّرَ الْأُمَّةَ الْأُمُورَ الْمُحْدَثَةَ وَبَيَّنَ أَنَّهَا ضَلَالَةٌ وَأَنَّ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِ الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَا تَنْحَصِرُ دَلَائِلُهَا وَكَثْرَةُ وَصَايَا السَّلَفِ بِمَضْمُونِهَا وَكَذَلِكَ الْأَدِلَّةُ عَلَى لُزُومِ طَرِيقَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ وَمُجَانَبَةِ مَا أُحْدِثَ بَعْدَهُمْ مِمَّا يُخَالِفُ طَرِيقَهُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْآثَارُ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذِهِ الْحِيَلُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُحْدَثَةِ وَمِنْ الْبِدَعِ الطَّارِئَةِ. أَمَّا الْإِفْتَاءُ بِهَا وَتَعْلِيمُهَا لِلنَّاسِ، وَإِنْفَاذُهَا فِي الْحُكْمِ وَاعْتِقَادُ جَوَازِهَا فَأَوَّلُ مَا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ صِغَارِ التَّابِعِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْأُولَى بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ، وَلَيْسَ فِيهَا - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - حِيلَةٌ وَاحِدَةٌ تُؤْثَرُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ الْمُسْتَفِيضُ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سُئِلُوا عَنْ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَعْظَمُوهُ وَزَجَرُوا عَنْهُ، وَفِي هَذَا الْكِتَابِ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ الْعِينَةِ وَالتَّحْلِيلِ وَغَيْرِهِمَا مَا بَيَّنَ قَوْلَهُمْ فِي هَذَا الْجِنْسِ، وَأَمَّا فِعْلُهَا مِنْ بَعْضِ الْجُهَّالِ، فَقَدْ كَانَ يَصْدُرُ الْقَلِيلُ مِنْهُ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، لَكِنَّهُ يُنْكِرُهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى مَنْ يَفْعَلُهُ كَمَا كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ الْكَذِبَ وَالرِّبَا وَسَائِرَ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَرَوْنَهَا دَاخِلَةً فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُدُوثِ الْفَتْوَى بِهَذِهِ الْحِيَلِ، وَكَوْنِهَا بِدْعَةً أَمْرٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ أَدْنَى مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِآثَارِ السَّلَفِ وَأَيَّامِ الْإِسْلَامِ وَتَرْتِيبِ طَبَقَاتِ الْمُفْتِينَ وَالْحُكَّامِ وَيُسْتَبَانُ ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ. مِنْهَا: أَنَّ الْكُتُبَ الْمُصَنَّفَةَ فِي أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقَضَايَاهُمْ لَيْسَ فِيهَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانُوا يُفْتُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ غَيْرُهُ، وَاَلَّذِينَ صَنَّفُوا فِي الْحِيَلِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ حَرَصُوا عَلَى أَثَرٍ يَقْتَدُونَ بِهِ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ التَّعْرِيضِ وَاللَّحْنِ، وَقَوْلُهُمْ إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ، وَالْكَلَامُ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يُكْذَبَ ظَرِيفٌ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْحِيَلِ الَّتِي قُلْنَا إنَّهَا مُحْدَثَةٌ وَلَا مِنْ جِنْسِهَا، فَإِنَّ الْمَعَارِيضَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالتَّأْوِيلِ فِي الْكَلَامِ، وَفِي الْحَلِفِ لِلْمَظْلُومِ بِأَنْ يَنْوِيَ بِكَلَامِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، كَمَا فَعَلَ الْخَلِيلُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَمَا فَعَلَ الصَّحَابِيُّ الَّذِي

حَلَفَ أَنَّهُ أَخُوهُ وَعَنَى أَخُوهُ فِي الدِّينِ، وَكَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " رَجُلٌ يَهْدِينِي السَّبِيلَ ". وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْكَافِرِ الَّذِي سَأَلَهُ مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: «نَحْنُ مِنْ مَاءٍ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ أَمْرٌ جَائِزٌ. وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْأَمْرِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ بِسَبِيلٍ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ كَتَمَ عَنْ الْمُخَاطَبِ مَا أَرَادَ مَعْرِفَتَهُ، أَوْ فَهَّمَهُ خِلَافَ مَا فِي نَفْسِهِ مَعَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا عَنَاهُ وَالْمُخَاطَبُ ظَالِمٌ فِي تَعَرُّفِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِحَيْثُ يَكُونُ جَهْلُهُ بِهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِهِ، وَهَذَا فِعْلُ خَيْرٍ وَمَعْرُوفٍ مَعَ نَفْسِهِ، وَمَعَ الْمُخَاطَبِ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ عَقِيبَ هَذَا الْوَجْهِ وَاَلَّذِي يَلِي هَذَا ذِكْرُ أَقْسَامِ الْحِيَلِ، وَأَنَّ هَذَا الضَّرْبَ الْمَأْثُورَ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الْمَعَارِيضِ جَائِزٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَ الْحِيَلِ الَّتِي تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا الَّتِي مَضْمُونُهَا الِاحْتِيَالُ عَلَى مُحَرَّمٍ، إمَّا بِسَبَبٍ لَا يُبَاحُ بِهِ قَطُّ، أَوْ يُبَاحُ بِهِ إذَا قُصِدَ بِذَلِكَ السَّبَبِ مَقْصُودُهُ الْأَصْلِيُّ وَكَانَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ، أَوْ الِاحْتِيَالُ عَلَى مُبَاحٍ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ أَوْ الِاحْتِيَالُ عَلَى مُحَرَّمٍ بِحَرَامٍ، وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْأُصُولَ، فَهَذِهِ الْحِيَلُ الَّتِي قُلْنَا لَمْ يَكُنْ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يُفْتِي بِهَا، أَوْ يَعْلَمُهَا بَلْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْهَا. وَأَمَّا تَعْرِيفُ الطَّرِيقِ الَّذِي يَنَالُ بِهِ الْحَلَالُ، وَالِاحْتِيَالُ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ الْمَأْثَمِ بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ يَقْصِدُ بِهِ مَا شُرِعَ لَهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانُوا يُفْتُونَ بِهِ وَهُوَ مِنْ الدُّعَاءِ إلَى الْخَيْرِ، وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبِلَالٍ: «بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» . وَكَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: " إنَّ أَوْرَاقَنَا تُزَيَّفُ عَلَيْنَا أَفَنَزِيدُ عَلَيْهَا وَنَأْخُذُ مَا هُوَ أَجْوَدُ مِنْهَا قَالَ: لَا، وَلَكِنْ ائْتِ النَّقِيعَ فَاشْتَرِي بِهَا سِلْعَةً، ثُمَّ بِعْهَا بِمَا شِئْت. وَكَمَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " إذَا كَانَ لِأَحَدِكُمْ دَرَاهِمُ لَا تُنْفَقُ فَلْيَبْتَعْ بِهَا ذَهَبًا وَلْيَبْتَعْ بِهِ مَا شَاءَ " رَوَاهُمَا سَعِيدٌ. فَهَذَا يَبِيعُ بَيْعًا بَتَاتًا مَقْصُودًا، وَيَسْتَوْفِي الثَّمَنَ، ثُمَّ يَشْتَرِي بِهِ مَا أَحَبَّ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي، فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُمْ كَرِهُوهُ حَيْثُ يَكُونُ فِي مَظِنَّةِ أَنْ يَبْتَاعَ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ، وَرَخَّصَ فِيهِ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: كَانَ يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْ الرَّجُلِ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِالدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ، وَالْبَيْعُ طَرِيقٌ مَشْرُوعٌ لِحُصُولِ الْمِلْكِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِلْبَائِعِ فِيهِ عَلَاقَةٌ فَإِذَا سَلَكَ

وَقَصَدَ بِهِ ذَلِكَ، فَهَذَا جَائِزٌ، وَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ إيضَاحُ ذَلِكَ. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ نَصَبَ الشَّارِعُ إلَى الْأَحْكَامِ أَسْبَابًا يُقْصَدُ بِهَا مَحْصُولُ تِلْكَ الْأَحْكَامِ، فَمَنْ دَلَّ عَلَيْهَا وَأَمَرَ بِهَا مَنْ لَمْ يَتَفَطَّنْ لَهَا مِمَّنْ يَقْصِدُ الْحَلَالَ لِيَقْصِدَ بِهَا الْمَقْصُودَ الَّذِي جُعِلَتْ مِنْ أَجْلِهِ، فَهَذَا مُعَلِّمُ خَيْرٍ، وَكَذَلِكَ مَا شَاكَلَ هَذَا وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ حِيلَةَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّبِعُوا مَا شُرِعَ لَهُمْ، فَيَسْلُكُوا فِي حُصُولِ الشَّيْءِ الطَّرِيقَ الَّذِي يُشْرَعُ لِتَحْصِيلِهِ دُونَ مَا لَمْ يَقْصِدْ الشَّارِعُ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءَ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَحْكِ أَحَدٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْحِيَلِ وَالْمُنْكِرِينَ لَهَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْإِفْتَاءَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الِاسْتِحْلَالُ بِالطُّرُقِ الْمُدَلَّسَةِ الَّتِي لَا يُقْصَدُ بِهَا الْمَقْصُودُ الشَّرْعِيُّ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا، وَسَنُطِيلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ الْكَلَامَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الطُّرُقِ الْمُبَيَّنَةِ وَالطُّرُقِ الْمُدَلَّسَةِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ مُخَادَعَةِ الظَّالِمِ لِلْخَلَاصِ مِنْهُ وَمُخَادَعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي دِينِهِ، لِئَلَّا يُظَنَّ بِمَا يُحْكَى عَنْهُمْ فِي أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ أَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ وَمَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يُفْتُوا بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لَهَا لَوْ كَانَتْ جَائِزَةً فَقَدْ أَفْتَوْا بِتَحْرِيمِهَا وَالْإِنْكَارِ لَهَا فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ وَأَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَأَمْصَارٍ مُتَبَايِنَةٍ يُعْلَمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ إنْكَارَهَا كَانَ مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يُخَالِفْ هَذَا الْإِنْكَارَ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى إنْكَارِهَا وَتَحْرِيمِهَا وَهَذَا أَبْلَغُ فِي كَوْنِهَا بِدْعَةً مُحْدَثَةً فَإِنَّ أَقْبَحَ الْبِدَعِ مَا خَالَفَتْ كِتَابًا، أَوْ سُنَّةً، أَوْ إجْمَاعًا. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ أَنَّهَا بِدْعَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَسْتَرِيبُ عَاقِلٌ فِي أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ مَا زَالَ وَاقِعًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ وَمَا زَالَ الْمُطَلِّقُونَ يَنْدَمُونَ، وَيَتَمَنَّوْنَ الْمُرَاجَعَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْصَحُ النَّاسِ لِأُمَّتِهِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، فَلَوْ كَانَ التَّحْلِيلُ يُحَلِّلُهَا لَأَوْشَكَ أَنْ يَدُلُّوا عَلَيْهِ وَلَوْ وَاحِدًا، فَإِنَّ الدَّوَاعِيَ إذَا تَوَافَرَتْ عَلَى طَلَبِ فِعْلٍ وَهُوَ مُبَاحٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ الزَّجْرُ عَنْهُ، عُلِمَ أَنَّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ. وَهَذِهِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهَا، وَجَعَلَتْ تَخْتَلِفُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ إلَى خَلِيفَتِهِ تَتَمَنَّى مُرَاجَعَةَ رِفَاعَةَ وَهُمْ يَزْجُرُونَهَا عَنْ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهَا كَرِهَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ فَلَا

يُطَلِّقُهَا، وَكَانَتْ رَاغِبَةً فِي رِفَاعَةَ، فَلَوْ كَانَ التَّحْلِيلُ مُمْكِنًا لَكَانَ أَنْصَحُ الْأُمَّةِ لَهَا يَأْمُرُهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِمُحَلِّلٍ، فَإِنَّهَا لَنْ تَعْدَمَ أَنْ تُبَيِّتَهُ عِنْدَهَا لَيْلَةً وَتُعْطِيَ شَيْئًا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلِمَ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ ذِكْرُ قِصَّتِهَا. وَمَنْ لَمْ تَسَعْهُ السُّنَّةُ حَتَّى تَعَدَّاهَا إلَى الْبِدْعَةِ مَرَقَ مِنْ الدِّينِ وَمَنْ أَطْلَقَ لِلنَّاسِ مَا لَمْ يُطْلِقْهُ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي لِلْإِطْلَاقِ، فَقَدْ جَاءَ بِشَرِيعَةٍ ثَانِيَةٍ وَلَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِلرَّسُولِ، فَلْيَنْظُرْ امْرُؤٌ أَيْنَ يَضَعُ قَدَمَهُ، وَكَذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ الْقَوْمَ كَانَتْ التِّجَارَةُ فِيهِمْ فَاشِيَةً وَالرِّبْحُ مَطْلُوبٌ بِكُلِّ طَرِيقٍ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتُ الَّتِي تَقْصِدُ بِهَا مَا يُقْصَدُ مِنْ رِبْحِ دَرَاهِمَ فِي دَرَاهِمَ بِاسْمِ الْبَيْعِ جَائِزٌ، وَلَا شَكَّ أَنْ يُفْتُوا بِهَا، وَكَذَلِكَ الِاخْتِلَاعُ لِحِلِّ الْيَمِينِ وَبِالْجُمْلَةِ الْأَسْبَابُ الْمُحْوِجَةُ إلَى هَذِهِ الْحِيَلِ مَا زَالَتْ مَوْجُودَةً، فَلَوْ كَانَتْ مَشْرُوعَةً لَنَبَّهَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهَا فَلَمَّا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ إلَّا الْإِنْكَارُ بِحَقِيقَتِهَا مَعَ وُجُودِ الْحَاجَةِ فِي زَعْمِ أَصْحَابِهَا إلَيْهَا، عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الدِّينِ، وَهَذَا قَاطِعٌ لَا خَفَاءَ بِهِ لِمَنْ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ، أَوْ مَا ظَهَرَ الْإِفْتَاءُ بِهَا فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ التَّابِعِينَ أَنْكَرَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ ذَلِكَ الزَّمَانِ، مِثْلُ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وَمِثْلُ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مَعْنٍ، وَحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قُضَاةِ الْكُوفَةِ. وَتَكَلَّمَ عُلَمَاءُ ذَلِكَ الْعَصْرِ مِثْلُ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَابْنِ عَوْنٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، وَالسُّفْيَانَيْنِ، وَالْحَمَّادَيْنِ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الدِّينِ، وَتَوَسَّعُوا فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ بِكَلَامٍ غَلِيظٍ لَا يُقَالُ مِثْلُهُ إلَّا عِنْدَ ظُهُورِ بِدْعَةٍ لَا تُعْرَفُ دُونَ مَنْ أَفْتَى بِمَا كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ تُفْتِي بِهِ، أَوْ بِحَقٍّ مِنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ، وَأَمْثَالَهُمْ هُمْ سُرُجُ الْإِسْلَامِ، وَمَصَابِيحُ الْهُدَى، وَأَعْلَامُ الدِّينِ، وَهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ أَهْلِ وَقْتِهِمْ، وَأَعْلَمَ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ بِالسُّنَّةِ الْمَاضِيَةِ وَأَفْقَهَ فِي الدِّينِ، وَأَرْوَعَ فِي الْمَنْطِقِ، وَقَدْ كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ، وَيَقُولُونَ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ، وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ سَلَكَ هَذِهِ السَّبِيلَ. فَلَمَّا اشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ عَلَى أَهْلِ الرَّأْيِ الَّذِي اسْتَحَلُّوا بِهِ الْحِيَلَ عُلِمَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ

هَذِهِ بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ، وَفِي كَلَامِهِمْ دَلَالَاتٌ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ وَصْفِهِمْ مَنْ كَانَ يُفْتِي بِذَلِكَ بِأَنَّهُ يَقْلِبُ الْإِسْلَامَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، وَيَتْرُكُ الْإِسْلَامَ أَرَقَّ مِنْ الثَّوْبِ السَّابِرِيِّ، وَيَنْقُضُ الْإِسْلَامَ عُرْوَةً عُرْوَةً إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَكَانَ أَعْظَمُ مَا أَنْكَرُوا عَلَى الْمُتَوَسِّعِ فِي الرَّأْيِ مُخَالَفَةَ الْأَحَادِيثِ وَالْإِفْتَاءِ بِالْحِيَلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى لَا يُخَالِفُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمْدًا، وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ، أَوْ لِنِسْيَانِهِ إيَّاهُ وَذُهُولِهِ عَنْهُ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْ وَجْهٍ يَثِقُ بِهِ، أَوْ لِعَدَمِ تَفَطُّنِهِ لِوَجْهِ الدَّلَالَةِ مِنْهُ، أَوْ لِقِلَّةِ اعْتِنَائِهِ بِمَعْرِفَتِهِ، أَوْ لِنَوْعِ تَأْوِيلٍ يَتَأَوَّلُهُ عَلَيْهِ، أَوْ ظَنِّهِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَا مِنْ الْفُقَهَاءِ أَحَدٌ إلَّا وَقَدْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ بَعْضُ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا الْمُنْكِرُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ فِي الْمَاضِينَ الْإِفْتَاءَ بِالْحِيَلِ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الرَّأْيِ تَصْرِيحٌ، أَنَّهُ قَالَ: مَا نَقَمُوا عَلَيْنَا مِنْ أَنَّا عَمَدْنَا إلَى أَشْيَاءَ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ فَاحْتَلْنَا فِيهَا حَتَّى صَارَتْ حَلَالًا. وَقَالَ آخَرَانِ: إلَّا احْتَلْنَا لِلنَّاسِ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سَنَةً احْتَالَ عَلَى هَذَا فِي قَضِيَّةٍ جَرَتْ لَهُ مَعَ رَجُلٍ وَلَمَّا وَضَعَ بَعْضُ النَّاسِ كِتَابًا فِي الْحِيَلِ اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ، لِذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ مَرْوَانَ كَانَتْ امْرَأَةٌ هَاهُنَا تَمُرُّ وَأَرَادَتْ أَنْ تَخْتَلِعَ مِنْ زَوْجِهَا فَأَبَى زَوْجُهَا عَلَيْهَا، فَقِيلَ: لَهَا لَوْ ارْتَدَدْتِ عَلَى الْإِسْلَامِ لَبِنْتِ مِنْ زَوْجِكِ، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ - وَقِيلَ لَهُ: إنَّ هَذَا كِتَابُ الْحِيَلِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَنْ وَضَعَ هَذَا الْكِتَابَ، فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ سَمِعَ بِهِ فَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ حَمَلَهُ مِنْ كُورَةٍ إلَى كُورَةٍ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنْ شَفِيقِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ إنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ قَالَ فِي قِصَّةِ بِنْتِ أَبِي رَوْحٍ حَيْثُ أُمِرَتْ بِالِارْتِدَادِ وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ أَبِي غَسَّانَ فَذَكَرَ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَهُوَ مُغْضَبٌ: " أَحْدَثُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَمَنْ كَانَ أَمَرَ بِهَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ كَانَ هَذَا الْكِتَابُ عِنْدَهُ، أَوْ فِي بَيْتِهِ لِيَأْمُرَ بِهِ، أَوْ هَوِيَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ ". ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَا " أَرَى الشَّيْطَانَ كَانَ يُحْسِنُ مِثْلَ هَذَا حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ فَأَفَادَهَا مِنْهُمْ فَأَشَاعَا حِينَئِذٍ، أَوْ كَانَ يُحْسِنُهَا وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُمْضِيهَا حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ ". وَقَالَ إِسْحَاقُ الطَّالَقَانِيُّ قِيلَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنَّ هَذَا وَضَعَهُ إبْلِيسُ يَعْنِي كِتَابَ الْحِيَلِ، فَقَالَ إبْلِيسُ مِنْ الْأَبَالِسَةِ وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: فِي كِتَابِ الْحِيَلِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ، أَوْ ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً كُلُّهَا كُفْرٌ.

وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: قَالَ شَرِيكٌ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَاضِيَ الْكُوفَةِ الْإِمَامَ الْمَشْهُورَ - وَذُكِرَ لَهُ كِتَابَ الْحِيَلِ - قَالَ: مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ. وَقَالَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ وَهُوَ كَذَلِكَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ كِتَابُ الْفُجُورِ. وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: الْقَاسِمُ بْنُ مَعْنٍ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَاضِيَ الْكُوفَةِ أَيْضًا - كِتَابُكُمْ هَذَا الَّذِي وَضَعْتُمُوهُ فِي الْحِيَلِ كِتَابُ الْفُجُورِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ سَابُورٍ: إنَّ الرَّجُلَ لَا يَأْتِي الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِ الْحِيَلِ فَيُعَلِّمُهُ الْفُجُورَ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ سَمِعْت أَيُّوبَ يَقُولُ: وَيْلَهُمْ مَنْ يَخْدَعُونَ - يَعْنِي أَصْحَابَ الْحِيَلِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ سَمِعْت يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ يَقُولُ: لَقَدْ أَفْتَى - يَعْنِي أَصْحَابَ الْحِيَلِ - فِي شَيْءٍ لَوْ أَفْتَى بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى كَانَ قَبِيحًا أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنِّي حَلَفْتُ أَنْ لَا أُطَلِّقَ امْرَأَةً بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَإِنَّهُمْ قَدْ بَذَلُوا إلَيْهِ مَالًا كَثِيرًا قَالَ فَقَبِّلْ أُمَّهَا، قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: يَأْمُرُهُ بِأَنْ يُقَبِّلَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً. وَقَالَ جَيْشُ بْنُ سِنْدِي سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الرَّجُلِ يَشْتَرِي جَارِيَةً ثُمَّ يُعْتِقُهَا مِنْ يَوْمِهِ وَيَتَزَوَّجُهَا أَيَطَؤُهَا مِنْ يَوْمِهِ، قَالَ: كَيْفَ يَطَؤُهَا مِنْ يَوْمِهِ هَذَا وَقَدْ وَطِئَهَا ذَلِكَ بِالْأَمْسِ هَذَا مِنْ طَرِيقِ الْحِيلَةِ وَغَضِبَ وَقَالَ هَذَا أَخْبَثُ قَوْلٍ. رَوَاهُنَّ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي الْعِلْمِ، عَنْ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: مَنْ كَانَ كِتَابُ الْحِيَلِ بِبَيْتِهِ يُفْتِي بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ السَّدُوسِيُّ فِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى. وَقَالَ رَجُلٌ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ: يَا أَبَا عَلِيٍّ اسْتَفْتَيْتُ رَجُلًا فِي يَمِينٍ حَلَفْت بِهَا فَقَالَ لِي: إنْ فَعَلْت ذَلِكَ حَنِثْت وَأَنَا أَحْتَالُ لَك حَتَّى تَفْعَلَ، وَلَا تَحْنَثَ فَقَالَ لَهُ الْفُضَيْلُ: تَعْرِفُ الرَّجُلَ، قَالَ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ارْجِعْ فَاسْتَثْبِتْهُ فَإِنِّي أَحْسَبُهُ شَيْطَانًا تَشَبَّهَ لَك فِي صُورَةِ إنْسَانٍ رَوَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بَطَّةَ فِي مَسْأَلَةِ خُلْعِ الْيَمِينِ. وَإِنَّمَا قَالَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فِي كِتَابِ الْحِيَلِ لِأَنَّ فِيهِ الِاحْتِيَالَ عَلَى

تَأْخِيرِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، وَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ وَحِلِّ الرِّبَا، وَإِسْقَاطِ الْكَفَّارَاتِ فِي الصِّيَامِ وَالْإِحْرَامِ وَالْأَيْمَانِ وَحِلِّ السِّفَاحِ وَفَسْخِ الْعُقُودِ وَفِيهِ الْكَذِبُ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وَإِبْطَالُ الْحُقُوقِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَمِنْ أَقْبَحِ مَا فِيهِ الِاحْتِيَالُ لِمَنْ أَرَادَتْ فِرَاقَ زَوْجِهَا بِأَنْ تَرْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَيَعْرِضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَلَا تُسْلِمَ فَتُحْبَسَ وَيَنْفَسِخَ النِّكَاحُ ثُمَّ تَعُودَ إلَى الْإِسْلَامِ، وَإِلَى أَشْيَاءَ أُخَرَ وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ بَلْ بَعْضُهَا كُفْرٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ الْأَمْرُ بِهَذِهِ الْحِيَلِ الَّتِي هِيَ مُحَرَّمَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، أَوْ هِيَ كُفْرٌ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَمَنْ يَنْسُبُ ذَلِكَ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ جَاهِلٌ بِأُصُولِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ الْحِيلَةُ قَدْ تَنْفُذُ عَلَى أَصْلِ بَعْضِهِمْ بِحَيْثُ لَا يُبْطِلُهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْحِيلَةِ شَيْءٌ وَعَدَمَ إبْطَالِهَا بِمَنْ يَفْعَلُهَا شَيْءٌ آخَرُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْفَقِيهِ لَا يُبْطِلُهَا أَنْ يُبِيحَهَا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُقُودِ يُحَرِّمُهَا الْفَقِيهُ، ثُمَّ لَا يُبْطِلُهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَرْضِيُّ عِنْدَنَا إبْطَالَ الْحِيلَةِ وَرَدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا حَيْثُ أَمْكَنَ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيلَةِ، وَإِبْطَالِهَا. وَإِنَّمَا غَرَضُنَا هُنَا أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ الَّتِي هِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي نَفْسِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى إمَامٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْحٌ فِي إمَامَتِهِ وَذَلِكَ قَدْحٌ فِي الْأُمَّةِ حَيْثُ ائْتَمُّوا بِمَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ وَفِي ذَلِكَ نِسْبَةٌ لِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ إلَى تَكْفِيرٍ، أَوْ تَفْسِيقٍ وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ. وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْأَمْرُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْحِيلَةِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْحِكَايَةُ بَاطِلَةً، أَوْ يَكُونَ الْحَاكِي لَمْ يَضْبِطْ الْأَمْرَ فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ إنْفَاذُهَا بِإِبَاحَتِهَا، وَإِنْ كَانَ أَمَرَ بِبَعْضِهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَابَ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُصِرَّ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَمْ يَمُتْ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَ الْخُرُوجُ عَنْ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالْقَوْلُ بِفِسْقِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَوْ كُفْرِهِ وَكِلَا هَذَيْنِ غَيْرُ جَائِزٍ هَذَا لَعَمْرِي فِي الْحِيَلِ الَّتِي يَكُونُ الْأَمْرُ بِهَا أَمْرًا بِمَعْصِيَةٍ أَوْ كُفْرًا بِالِاتِّفَاقِ، مِثْلُ الْمَرْأَةِ الَّتِي تُرِيدُ أَنْ تُفَارِقَ زَوْجَهَا فَتُؤْمَرَ بِالرِّدَّةِ لِيَنْفَسِخَ النِّكَاحُ وَذَلِكَ أَنَّهَا إنْ ارْتَدَّتْ. فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّكَاحَ يَنْفَسِخُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ.

وَالثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ يَقِفُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنْ عَادَتْ إلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا تَبَيَّنَّا أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، ثُمَّ إنَّ الْمُرْتَدَّةَ يَجِبُ قَتْلُهَا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، إذَا لَمْ تَعُدْ إلَى الْإِسْلَامِ، وَعِنْدَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ تُضْرَبُ وَتُحْبَسُ، وَلَا تُقْتَلُ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إذَا ارْتَدَّتْ انْفَسَخَ النِّكَاحُ وَلَا تُقْتَلُ بِمُجَرَّدِ الِامْتِنَاعِ، ثُمَّ إنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَمْرُ وَلَا الْإِذْنُ فِي التَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاضِ، بَلْ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا فَهُوَ كَافِرٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا فَيَتَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، ثُمَّ إنَّ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَشَدُّ، فَإِنَّ لَهُمْ مِنْ الْكَلِمَاتِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي يَرَوْنَ أَنَّهَا كُفْرٌ مَا هُوَ دُونَ الْأَمْرِ بِالْكُفْرِ، حَتَّى إنَّ الْكَافِرَ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُسْلِمَ، فَقَالَ: اصْبِرْ سَاعَةً فَقَدْ كَفَّرُوهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ سَاعَةً، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ غَيْرُ الْكُفْرِ، فَكَيْفَ بِالْأَمْرِ بِإِنْشَاءِ الرِّدَّةِ الَّتِي هِيَ أَغْلَظُ مِنْ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ. فَعَلِمْت أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ أَفْتَوْا بِنْتَ أَبِي رَوْحٍ بِالِارْتِدَادِ لَمْ يَكُونُوا مُقْتَدِينَ بِمَذْهَبِ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ لَا تَنْفُذُ إلَّا فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لِكَوْنِهَا لَا تُقْتَلُ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَنْفُذُ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ أَيْضًا وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ إذَا لَمْ تَظْهَرْ الْحِيلَةُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَشَدِّ الْمَذَاهِبِ تَغْلِيظًا لِمِثْلِ هَذَا وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ الْمَذَاهِبِ فِي تَكْفِيرِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْكُفْرِ. وَلَكِنْ لَمَّا رَأَى بَعْضُ الْفَسَقَةِ أَنَّهَا إذَا ارْتَدَّتْ حَصَلَ غَرَضُهَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ دَلَّهَا عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الدَّلَالَةُ مِنْ الْمَذْهَبِ، كَمَا أَنَّ الْفَاجِرَ قَدْ يَأْمُرُ الشَّخْصَ بِيَمِينٍ فَاجِرَةٍ، أَوْ شَهَادَةِ زُورٍ لِيَحْصُلَ بِهَا غَرَضُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَالْحَاكِمُ مَعْذُورٌ بِإِنْفَاذِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْإِذْنُ فِي ذَلِكَ لَا يَسْتَجِيزُهُ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ. وَهَذَا لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ قَدْ انْتَسَبَ إلَيْهِمْ فِي الْفُرُوعِ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي الْأُصُولِ مَعَ بَرَاءَةِ الْأَئِمَّةِ مِنْ أُولَئِكَ الْأَتْبَاعِ، وَهَذَا مَشْهُورٌ فَكَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَدْ انْتَسَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ، وَغَيْرِهِمْ إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفُرُوعِ مَعَ أَنَّهُ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا مِنْ أَبْرَإِ النَّاسِ مِنْ مَذَاهِبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ، حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَعَنَ اللَّهُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ هُوَ فَتَحَ عَلَى النَّاسِ الْكَلَامَ فِي هَذَا.

وَقَالَ نُوحٌ الْجَامِعُ: سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْأَعْرَاضِ وَالْأَجْسَامِ، فَقَالَ: كَلَامُ الْفَلَاسِفَةِ عَلَيْك بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَدَعْ مَا أُحْدِثَ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ، وَأَرَادَ أَبُو يُوسُفَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ لَمَّا تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنْ تَعْطِيلِ الصِّفَاتِ حَتَّى فَرَّ مِنْهُ وَهَرَبَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ عَلَى الْإِيمَانِ بِصِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهَا رَسُولُهُ وَأَنَّهَا تُمَرُّ كَمَا جَاءَتْ، وَذَكَرَ كَلَامًا فِيهِ طُولٌ لَا يَحْضُرُنِي هَذِهِ السَّاعَةَ يَرُدُّ بِهِ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ. وَمَا زَالَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِهِ يُنَابِذُونَ الْمُعْتَزِلَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَقَدْ كَانَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ رَأْسُ الْجَهْمِيَّةِ، وَأَحْمَدُ بْنُ أَبِي دَاوُد قَاضِي الْقُضَاةِ، وَنُظَرَاؤُهُمْ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرُهُمْ قَبْلَهُمْ وَبَعْدَهُمْ يَنْتَسِبُونَ فِي الْفُرُوعِ إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُمْ الَّذِينَ أَوْقَدُوا نَارَ الْحَرْبِ حَتَّى جَرَتْ فِي الْإِسْلَامِ الْمِحْنَةُ الْمَشْهُورَةُ عَلَى تَعْطِيلِ الصِّفَاتِ وَالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ. فَلَعَلَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَمَرُوا بِنْتَ أَبِي رَوْحٍ بِالِارْتِدَادِ عَنْ الْإِسْلَامِ كَانُوا مِنْ هَذَا النَّمَطِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الزَّمَانُ قَبْلَ زَمَانِ الْمِحْنَةِ بِقَلِيلٍ وَمَنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ بِأَحْوَالِ بَعْضِ الْمُتَرَائِسِينَ بِالْعِلْمِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَغَيْرِهِ، عَلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي أَشْيَاءَ لَا يَجُوزُ إضَافَتُهَا إلَى أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، فَتَكْفِيرُ السَّلَفِ يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إلَى مِثْلِ هَذَا الضَّرْبِ الَّذِينَ أَمَرُوا بِمِثْلِ هَذِهِ الْحِيَلِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّهَا فُجُورٌ وَنَحْوُ هَذَا الْكَلَامِ، فَهَذَا الْكَلَامُ كَانَ فِي بَعْضِ الْحِيَلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا مَعَ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ أَئِمَّةِ الْكُوفِيِّينَ، مِثْلِ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مَعْنٍ، وَمِثْلِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، وَهَؤُلَاءِ قُضَاةُ الْكُوفَةِ، وَحَفْصٌ بَعْدَ الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَصْلَ الْحِيَلِ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا بَيَانَ أَعْيَانِ الْحِيَلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُعْذَرُ فِيهِ الْمُفْتِي فِي الْجُمْلَةِ وَمَا لَا يُعْذَرُ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ كُلَّهَا مُحْدَثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ الْإِفْتَاءَ بِهَا إنَّمَا وَقَعَ مُتَأَخِّرًا، وَأَنَّ بَقَايَا السَّلَفِ أَعْظَمُوا الْقَوْلَ فِيمَنْ أَفْتَى بِهَا إعْظَامَهُمْ الْقَوْلَ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ وَلَوْ كَانَ جِنْسُهَا مَأْثُورًا عَمَّنْ سَلَفَ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ أَفْتَى بِاجْتِهَادِ رَأْيِهِ، فَمَا لَهَا مَسَاغٌ فِي الشَّرِيعَةِ. وَلَا يُنْكِرُونَ مَا فَعَلَتْهُ

الصَّحَابَةُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى اسْتِكْرَاهٍ شَدِيدٍ مِنَّا لِمَا يُشْبِهُ الْعِينَةَ فَضْلًا عَنْ الْوَقِيعَةِ فِي أَعْرَاضِ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَلَكِنَّ وُجُوبَ النَّصِيحَةِ اضْطَرَّنَا إلَى أَنْ نُنَبِّهَ عَلَى مَا عِيبَ عَلَى بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْحِيَلِ، وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِمَنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَسْمَعُ كَلِمَاتِ الْعُلَمَاءِ الْغَلِيظَةَ قَدْ لَا يَعْرِفُ مَخْرَجَهَا، وَكَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَرْوُونَهَا رِوَايَةَ مُتَشَفٍّ مُتَعَصِّبٍ، مَعَ أَنَّهُمْ دَائِمًا يَفْعَلُونَ فِي الْفُتْيَا أَقْبَحَ مِمَّا عِيبَ بِهِ مَنْ عِيبَ مَعَ كَوْنِ أُولَئِكَ كَانُوا أَعْلَمَ وَأَفْقَهَ وَأَتْقَى، وَلَوْ عَلِمَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ وَهَدِيَ رُشْدَهُ لَكَانَ اعْتِبَارُهُ بِمَنْ سَلَفَ يَكْفِهِ عَنْ أَنْ يَقَعَ فِي أَقْبَحَ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ أُولَئِكَ، وَلَكَانَ شُغْلُهُ بِصَلَاحِ نَفْسِهِ اسْتِغْفَارًا وَشُكْرًا شَغَلَهُ عَنْ ذِكْرِ عُيُوبِ النَّاسِ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِفَاءِ وَالِاعْتِصَابِ. وَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يُخَالِفُ الْمَشْرِقِيِّينَ فِي مَذْهَبِهِمْ، وَيَرَى أَنَّهُ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ وَالْأَثَرِ، وَآخَذُ بِالْحَدِيثِ مِنْهُمْ مَنْ يَتَوَسَّعُ فِي الْحِيَلِ وَيُرِقُّ الدِّينَ وَيَنْقُضُ عُرَى الْإِسْلَامِ، وَيَفْعَلُ فِي ذَلِكَ قَرِيبًا، أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا يُحْكَى عَنْهُمْ حَتَّى دَبَّ هَذَا الدَّاءُ إلَى كَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الطَّوَائِفِ، حَتَّى إنَّ بَعْضَ أَتْبَاعِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ هَذِهِ الْحِيَلِ تَلَطَّخُوا بِهَا، فَأَدْخَلَهَا بَعْضُهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَذَكَرُوا طَائِفَةً مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي هِيَ بِأَعْيَانِهَا مِنْ أَشَدِّ مَا أَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى الْمَشْرِقِيِّينَ، وَحَتَّى اعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ جَوَازَ خُلْعِ الْيَمِينِ وَصِحَّةَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، وَجَوَازَ بَعْضِ الْحِيَلِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَحَتَّى إنَّ بَعْضَ الْأَعْيَانِ مِنْ أَصْحَابِهِ سَوَّغَ بَعْضَ الْحِيَلِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، مَعَ رَدِّهِ عَلَى أَصْحَابِ الْحِيَلِ، وَذَلِكَ فِي مَسَائِلَ قَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى إبْطَالِ الْحِيلَةِ فِيهَا إلَى أَشْيَاءَ أُخَرَ، وَكَثُرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَتَوَسَّعَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا تَوَسُّعًا تَدُلُّ أُصُولُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى خِلَافِهِ، وَحَتَّى إنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ تَزَلْزَلَ فِيهَا تَزَلْزُلَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْقِيَاسَ جَوَازُ بَعْضِهَا، وَحَتَّى صَارَ مَنْ يُفْتِي بِهَا كَأَنَّهُ يُعَلِّمُ النَّاسَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، أَوْ صِفَةَ الصَّلَاةِ لَا يُبَيِّنُ الْمُسْتَفْتِيَ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَلْ أَكْثَرِهِمْ، وَعِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَحَتَّى أَلْقَوْا فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ الْعَامَّةِ، أَوْ أَكْثَرِهِمْ أَنَّهَا حَلَالٌ، وَأَنَّهَا مِنْ دِينِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَتَجِدُ الْمُؤْمِنَ الَّذِي شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ يَكْرَهُهَا وَيَنْفِرُ قَلْبُهُ مِنْهَا، وَالْمُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ يَقُولُ لَهُ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا جَائِزٌ، وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ وَهُوَ مُخْطِئٌ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِاتِّفَاقِ

الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ أَقَلَّ دَرَجَاتِ أَكْثَرِهَا الْكَرَاهَةُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا اتِّفَاقَهُمْ عَلَى كَرَاهَةِ التَّحْلِيلِ الْمُتَوَاطَإِ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ غَايَةَ مَا يَبْلُغُك مِنْ الْكَلِمَاتِ الشَّدِيدَةِ فِي بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّ أَصْلَ ذَلِكَ قَاعِدَةُ الْحِيَلِ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ دَائِمًا تُنْكِرُهَا لَا سِيَّمَا قُلُوبَ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَالْوِلَايَةِ وَالْهِدَايَةِ، وَيَجِدُونَ يَنْبُوعَهَا مِنْ بَعْضِ الْمُفْتِينَ، فَيَتَكَلَّمُونَ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ مَنْشَأُ هَذِهِ الْحِيَلِ مِنْ الْيَهُودِ صَارَ الْغَاوِي مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ مُتَشَبِّهًا بِهِمْ، وَصَارَ أَهْلُ الْحِيَلِ تَعْلُوهُمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ لِمُشَارَكَتِهِمْ الْيَهُودَ فِي بَعْضِ أَخْلَاقِهِمْ، ثُمَّ قَدْ اسْتِطَارَ شَرُّ هَذِهِ الْحِيَلِ حَتَّى دَخَلَتْ فِي أَكْثَرِ أَبْوَابِ الدِّينِ وَصَارَتْ مَعْرُوفَةً، وَرَدُّهَا مُنْكَرًا عِنْدَ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ أُمُورَ الْإِسْلَامِ وَأُصُولَهُ، وَكُلَّمَا رَقَّ دِينُ بَعْضِ النَّاسِ وَاسْتَخَفَّ بِآيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ الْحُكَّامِ وَالشَّرْطِيِّينَ وَالْمُفْتِي أَحْدَثَ حِيلَةً بَعْدَ حِيلَةٍ وَأَكْثَرُهَا مِمَّا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالرَّأْيِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِهَا، مِثْلُ تَلْقِينِ الشُّرَطِيِّ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُمَلِّكَ ابْنَهُ أَوْ غَيْرَهُ أَنْ يُقِرَّ بِذَلِكَ إقْرَارًا، أَوْ يَجْعَلَهُ بَيْعًا، وَيُشْهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِنَقْضِ الثَّمَنِ. وَهَذَا حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهُ كَذِبٌ يَضُرُّ الْوَرَثَةَ، وَمَقْصُودُهُمْ أَنْ لَا يُمْكِنَ فَسْخُهُمْ بِمَا تُفْسَخُ بِهِ الْهِبَاتُ، حَتَّى آلَ الْأَمْرُ بِهِمْ إلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَكْتُبُ عِنْدَهُ كَتَبَ بَعْضَهَا أَنَّهُ مِلْكٌ لِابْنِهِ، وَبَعْضَهَا أَنَّهُ مِلْكٌ لَهُمْ، وَيُخْرِجُ كُلَّ كِتَابٍ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ، وَحَتَّى إنَّ بَعْضَ مَنْ يَتَوَرَّعُ مِنْ الشُّهُودِ يَحْسَبُ أَنْ لَا مَأْثَمَ عَلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى مَا يُعْلَمُ تَحْرِيمُهُ مِنْ عَقْدٍ أَوْ إقْرَارٍ، أَوْ حُكْمٍ حَرَامٌ، فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ» . وَمِثْلُ مَا أَحْدَثَ بَعْضُ الْحُكَّامِ الدَّعْوَى الْمَرْمُوزَةَ الْمُسَخَّرَةَ. وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهَا بَعْضُ قُضَاةِ الشَّامِ قَبْلَ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ وَبَعْدَ الْخَامِسَةِ، فَصَارُوا يَقُولُونَ حَكَمَ بِكَذَا، وَثَبَتَ عِنْدَهُ كَذَا بِمَحْضَرٍ مِنْ خَصْمَيْنِ مُدَّعٍ، وَمُدَّعًى عَلَيْهِ جَازَ حُضُورُهُمَا، وَاسْتِمَاعُ الدَّعْوَى مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مَعَ الْقَطْعِ وَالْعِلْمِ الْيَقِينِ بِأَنَّ الْحَاضِرَيْنِ لَمْ يَكُونَا خَصْمَيْنِ، فَإِنَّ الْخَصْمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ إذَا سَكَتَ لَمْ يُتْرَكْ، بَلْ يُطْلَبُ مِنْهُ الْحَقُّ وَذَاكَ الْحَاضِرُ لَوْ لَمْ يُجَبْ لَادَّعَى عَلَى آخَرَ، وَآخَرَ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ مُطَالَبَتَهُ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ وَاحِدٌ يَقُولُ بِلِسَانِهِ لَا حَقَّ لَك

قِبَلِي، أَوْ لَا أَعْلَمُ صِحَّةَ مَا تَدَّعِيهِ، فَتَكُونُ صُورَتُهُ صُورَةَ الْخَصْمِ الْمَطْلُوبِ. وَكَذَلِكَ الْمُبْتَدِئُ أَوَّلًا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ صُورَتُهُ صُورَةُ الدَّعْوَى وَالطَّلَبِ، وَلَيْسَ هُوَ مُدَّعِيًا عَلَى ذَلِكَ الْآخَرِ بِشَيْءٍ، ثُمَّ قَوْلُهُمْ جَازَ اسْتِمَاعُ الدَّعْوَى مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ أَقْبَحِ الْقَوْلِ فِي دِينِ اللَّهِ، أَتَرَى اللَّهَ أَجَازَ أَنْ أَسْتَمِعَ دَعْوَى وَأَجْعَلَهَا دَعْوَى صَحِيحَةً شَرْعِيَّةً قَدْ عَلِمْت بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ قَائِلَهَا لَا يَدَّعِي شَيْئًا وَلَا يَطْلُبُ مِنْ ذَلِكَ الْخَصْمِ، وَإِنَّمَا أَتَى أَمْرُهُ بِصُورَةِ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ، وَأُعَيِّنَ لَهُ مَنْ يَدَّعِي عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ الْوُكَلَاءِ فِي الْخُصُومَاتِ وَالدَّعَاوَى، وَلَوْ سُلِكَتْ الطَّرِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ لَاسْتُغْنِيَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ بَابٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ، إلَّا وَقَدْ فَتَحَهُ الشَّارِعُ لَهُمْ. وَمِنْ أَقْبَحِ الْأَشْيَاءِ احْتِجَاجُ بَعْضِ أَهْلِ الشُّرَطِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ، بِقَوْلِ أَحَدِ الْمَلَكَيْنِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص: 23]- الْآيَةَ وَتِلْكَ لَيْسَتْ خُصُومَةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ثُبُوتٌ، أَوْ حُكْمٌ فِي دَمٍ، أَوْ مَالٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مِثْلُ ضَرْبٍ لِتَفْهِيمِ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلِلْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ الْخُصُومَاتِ الْمَضْرُوبَةِ أَمْثَالًا مَا شَاءَ. أَمَّا تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا وَذِكْرُ أَنَّ أَصْحَابَهَا خَصْمٌ مُحَقَّقٌ أَجَازَ الشَّارِعُ اسْتِمَاعَ الدَّعْوَى مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَهَذَا هُوَ الْبَاطِلُ الَّذِي لَا يَحِلُّ قَوْلُهُ. وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْكَذِبَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمَ. وَمِنْ الْحِيَلِ الْجَدِيدَةِ الَّتِي لَا أَعْلَمُ بَيْنَ فُقَهَاءِ الطَّوَائِفِ خِلَافًا فِي تَحْرِيمِهَا أَنْ يُرِيدَ الرَّجُلُ أَنْ يَقِفَ شَيْئًا عَلَى نَفْسِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى جِهَاتٍ مُتَّصِلَةٍ، فَيَقُولُونَ لِلرَّجُلِ: أَقِرَّ أَنَّ هَذَا الْمَكَانَ الَّذِي بِيَدِك وَقْفٌ عَلَيْك مِنْ غَيْرِك، وَيُعَلِّمُونَهُ الشُّرُوطَ الَّتِي يُرِيدُ إنْشَاءَهَا فَيَجْعَلُونَهَا إقْرَارًا. فَيُعَلِّمُونَهُ الْكَذِبَ فِي الْإِقْرَارِ، وَيَشْهَدُونَ عَلَيْهِ بِهِ، وَيَحْكُمُونَ بِصِحَّتِهِ، وَلَا يَسْتَرِيبُ مُسْلِمٌ فِي أَنَّ هَذَا حَرَامٌ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ شَهَادَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يُلَقَّنُ شَهَادَةَ زُورٍ، ثُمَّ إنْ كَانَ وَقْفُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ بَاطِلًا فِي دِينِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَقَدْ عَلَّمْنَاهُ حَقِيقَةَ الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ وَقْفًا قَبْلَ الْإِقْرَارِ، وَلَا صَارَ وَقْفًا بِالْإِقْرَارِ بِالْكَذِبِ، فَيَصِيرُ الْمَالُ حَرَامًا عَلَى مَنْ يَتَنَاوَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَ وَقْفُهُ صَحِيحًا، فَقَدْ أَغْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ تَكَلُّفِ الْكَذِبِ بَلْ لَوْ وَقَفَهُ

عَلَى نَفْسِهِ لَكَانَ لِصِحَّتِهِ مَسَاغٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ، وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِوَقْفِهِ مِنْ غَيْرِ إنْشَاءٍ مُتَقَدِّمٍ، فَلَا يَجْعَلُهُ وَقْفًا بِالِاتِّفَاقِ، إذْ جَعَلَ الْإِقْرَارَ إقْرَارًا حَقِيقِيًّا. وَلَهُمْ حِيلَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يُرِيدُ الْوَقْفَ يُمَلِّكُهُ لِبَعْضِ ثِقَاتِهِ، ثُمَّ يَقِفُهُ ذَلِكَ الْمُمَلَّكُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ اقْتِرَاحِهِ، وَهَذَا لَا شَكَّ فِي قُبْحِهِ وَبُطْلَانِهِ، فَإِنَّ حَدَّ التَّمْلِيكِ: أَنْ يَرْضَى الْمُمَلِّكُ بِنَقْلِ الْمِلْكِ إلَى الْمُمَلَّكِ بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِمَا يُحِبُّ مِمَّا يَجُوزُ، وَهُنَا قَدْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَخَلْقُهُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ الْمُمَلَّكُ إلَّا بِالْوَقْفِ عَلَيْهِ خَاصَّةً عَلَى شُرُوطِهِ، بَلْ قَدْ مَلَّكَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَتَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِهِ وَقْفًا، وَهَذَا تَمْلِيكٌ فَاسِدٌ. بَلْ لَيْسَ هُوَ هِبَةً وَتَمْلِيكًا أَصْلًا، فَإِنَّ أَقَلَّ دَرَجَاتِ الْهِبَةِ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمَوْهُوبِ وَلَوْ إلَى حِينٍ، وَهُنَا لَمْ يُبِحْ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ قَطُّ وَلَوْ تَصَرَّفَ مِنْهُ بِشَيْءٍ لَعَدَّهُ غَادِرًا مَاكِرًا، وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى الْمَشْرُوطِ فِيهَا الْعَوْدُ إلَى الْمُعْمِرِ، فَإِنَّ هُنَاكَ مَلَّكَهُ فِي الْجُمْلَةِ وَشَرَطَ الْعَوْدَ، وَهُنَا لَمْ يُمَلِّكْهُ شَيْئًا قَطُّ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ غَيْرَ قَاصِدٍ مَعْنَاهُ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ يُصَدِّقُهُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، بَلْ هُوَ اسْتِهْزَاءٌ بِآيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَلَاعُبٌ بِحُدُودِهِ. وَقَدْ كَانَ لَهُمْ طَرِيقَانِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا الْخِدَاعِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقِفَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَيَسْتَثْنِيَ الْمَنْفَعَةَ لِنَفْسِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ مَنْفَعَةِ الْمَمْلُوكِ مَعَ نَقْلِ الْمِلْكِ فِيهِ فَيُجَوِّزُونَ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ، أَوْ يَهَبَهُ أَوْ يُعْتِقَ الْعَبْدَ وَيَسْتَثْنِيَ بَعْضَ مَنْفَعَتِهِ. وَيُجَوِّزُونَ أَنْ يَقِفَ الشَّيْءَ وَيَسْتَثْنِيَ مَنْفَعَتَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً، أَوْ إلَى حِينِ مَوْتِهِ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ بَعِيرِ جَابِرٍ. وَبِحَدِيثِ عِتْقِ أُمِّ سَلَمَةَ، سَفِينَةً. وَبِحَدِيثِ عِتْقِ صَفِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَبِآثَارٍ عَنْ السَّلَفِ فِي الْوَقْفِ مَعَ قُوَّةِ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْقِيَاسِ. وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ، وَلَكِنَّ أَخْذَ الْإِنْسَانِ بِمِثْلِ هَذَا مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا فِيهِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ وَخِدَاعٌ وَزُورٌ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ قَدْ نُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ. وَأَمَّا هَذِهِ الْحِيَلُ فَأَمْرٌ مُحْدَثٌ أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى النَّهْيِ عَنْهَا وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا، وَإِعْظَامِ الْقَوْلِ بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْحِيَلُ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ، فَإِذَا قَلَّدَ الْإِنْسَانُ مَنْ يُفْتِي بِهَا

فَلَهُ ذَلِكَ، وَالْإِنْكَارُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ غَيْرُ سَائِغٍ، لَا سِيَّمَا عَلَى مَنْ كَانَ مُتَقَيِّدًا بِمَذْهَبِ مَنْ يُرَخِّصُ فِيهَا -، أَوْ قَدْ تَفَقَّهَ فِيهَا وَرَأَى الدَّلِيلَ يَقْتَضِي جَوَازَهَا، وَقَدْ شَاعَ الْعَمَلُ بِهَا عَنْ جَمَاعَاتٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَالْقَوْلُ بِهَا مَعْزُوًّا إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَمَا قَالَهُ مِثْلُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ لَا يَنْبَغِي الْإِنْكَارُ الْبَلِيغُ فِيهِ، لَا سِيَّمَا عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْمُجَوِّزِينَ لَهَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ مُتَابَعَةُ مَذْهَبِهِمْ إمَّا عَلَى سَبِيلِ الْأَلْفِ وَالِاعْتِيَادِ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، وَهَبْ هَذَا الِاعْتِقَادَ بَاطِلًا أَلَسْتُمْ تَعْرِفُونَ فَضْلَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَمَكَانَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالتَّقْوَى وَكَوْنَ بَعْضِهِمْ أَرْجَحَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ؟ فَإِذَا قَلَّدَ الْعَامِّيُّ، أَوْ الْمُتَفَقِّهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ إمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي أَعْيَانِ الْمُفْتِينَ، أَوْ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِهِ إذَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَنَّ مَنْ يُقَلِّلُ فِيهِمَا هُوَ الْأَفْضَلُ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ هُوَ الْمَذْهَبَ الَّذِي الْتَزَمَهُ، فَلَا وَجْهَ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ لَا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ. وَهَذَا إنْ قِيلَ كَانَ فِيهِ طَعْنٌ عَلَى الْأَئِمَّةِ لِمُخَالَفَةِ الْقَوَاطِعِ وَهَذَا قَدْحٌ فِي إمَامَتِهِمْ، وَحَاشَا اللَّهَ أَنْ يَقُولُوا مَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَ هَذَا. ثُمَّ قَدْ يَقْضِي ذَلِكَ إلَى الْمُقَابَلَةِ بِمِثْلِهِ، أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، لَا سِيَّمَا مِمَّنْ يَحْمِلُهُ هَوَى دِينِهِ، أَوْ دُنْيَاهُ عَلَى مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ خُرُوجٌ عَنْ الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَرُكُوبٌ لِلتَّفَرُّقِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَإِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَحِينَئِذٍ فَتَصِيرُ مَسَائِلُ الْفِقْهِ مِنْ بَابِ الْأَهْوَاءِ وَهَذَا غَيْرُ سَائِغٍ. وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي الْمَسَائِلِ الْفَرْعِيَّةِ، مَعَ بَقَاءِ الْأُلْفَةِ وَالْعِصْمَةِ وَصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ. قُلْنَا: نَعُوذُ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ مِمَّا يَقْضِي إلَى الْوَقِيعَةِ فِي أَعْرَاضِ الْأَئِمَّةِ، أَوْ انْتِقَاصٍ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ، أَوْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِمَقَادِيرِهِمْ وَفَضْلِهِمْ، أَوْ مُحَادَّتِهِمْ وَتَرْكِ مَحَبَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ، وَنَرْجُو مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ يُحِبُّهُمْ وَيُوَالِيهِمْ وَيَعْرِفُ مِنْ حُقُوقِهِمْ وَفَضْلِهِمْ مَا لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ الْأَتْبَاعِ، وَأَنْ يَكُونَ نَصِيبُنَا مِنْ ذَلِكَ أَوْفَرَ نَصِيبٍ وَأَعْظَمَ حَظٍّ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. لَكِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ إنَّمَا يَتِمُّ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَعْرِفَةُ فَضْلِ الْأَئِمَّةِ وَحُقُوقِهِمْ وَمَقَادِيرِهِمْ، وَتَرْكُ كُلِّ مَا يَجُرُّ إلَى ثَلْمِهِمْ.

وَالثَّانِي: النَّصِيحَةُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ، وَإِبَانَةُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى. وَلَا مُنَافَاةَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ الْقِسْمَيْنِ لِمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ، وَإِنَّمَا يَضِيقُ عَنْ ذَلِكَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ جَاهِلٌ بِمَقَادِيرِهِمْ وَمَعَاذِيرِهِمْ، أَوْ رَجُلٌ جَاهِلٌ بِالشَّرِيعَةِ وَأُصُولِ الْأَحْكَامِ. وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَتَلَخَّصُ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّجُلَ الْجَلِيلَ الَّذِي لَهُ فِي الْإِسْلَامِ قَدَمٌ صَالِحٌ وَآثَارٌ حَسَنَةٌ، وَهُوَ مِنْ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ بِمَكَانَةٍ عُلْيَا قَدْ تَكُونُ مِنْهُ الْهَفْوَةُ وَالزَّلَّةُ هُوَ فِيهَا مَعْذُورٌ، بَلْ مَأْجُورٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّبَعَ فِيهَا مَعَ بَقَاءِ مَكَانَتِهِ وَمَنْزِلَتِهِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمُنَاظَرَةِ الْإِمَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: كُنَّا بِالْكُوفَةِ فَنَاظَرُونِي فِي ذَلِكَ يَعْنِي النَّبِيذَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ، فَقُلْت لَهُمْ: تَعَالَوْا فَلْيَحْتَجَّ الْمُحْتَجُّ مِنْكُمْ عَنْ مَنْ يَشَاءُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرُّخْصَةِ، فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ الرَّدَّ عَلَيْهِ عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِشِدَّةٍ صَحَّتْ عَنْهُ، فَاحْتَجُّوا فَمَا جَاءُوا عَنْ أَحَدٍ بِرُخْصَةٍ إلَّا جِئْنَاهُمْ بِشِدَّةٍ، فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ فِي يَدِ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَلَيْسَ احْتِجَاجُهُمْ عَنْهُ فِي شِدَّةِ النَّبِيذِ بِشَيْءٍ يَصِحُّ عَنْهُ إنَّمَا يَصِحُّ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَنْبِذْ لَهُ فِي الْجَرِّ إلَّا حَذِرًا، قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: فَقُلْت لِلْمُحْتَجِّ عَنْهُ فِي الرُّخْصَةِ: يَا أَحْمَقُ عُدَّ إنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَوْ كَانَ هَاهُنَا جَالِسًا فَقَالَ هُوَ لَك حَلَالٌ وَمَا وَصَفْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ فِي الشِّدَّةِ كَانَ يَنْبَغِي لَك أَنْ تَحْذَرَ، أَوْ تَجُرَّ، أَوْ تَخْشَى، فَقَالَ قَائِلُهُمْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَسَمَّى عِدَّةً مَعَهُمَا كَانُوا يَشْرَبُونَ الْحَرَامَ فَقُلْت لَهُمْ: عُدُّوا عِنْدَ الِاحْتِجَاجِ تَسْمِيَةَ الرِّجَالِ قُرْبَ رَجُلٍ فِي الْإِسْلَامِ مَنَاقِبُهُ كَذَا وَكَذَا وَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْهُ زَلَّةٌ أَفَلِلْأَحَدِ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَا فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَمَا قَوْلُكُمْ فِي عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةَ قَالُوا: كَانُوا خِيَارًا، قُلْت: فَمَا قَوْلُكُمْ فِي الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ فَقَالُوا: حَرَامٌ، فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: إنَّ هَؤُلَاءِ رَأَوْهُ حَلَالًا فَمَاتُوا وَهُمْ يَأْكُلُونَ الْحَرَامَ.؟ ، فَبَقُوا وَانْقَطَعَتْ حُجَّتُهُمْ، قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: رَآنِي أَبِي وَأَنَا أَنْشُدُ الشِّعْرَ فَقَالَ لَا يَا بُنَيَّ لَا تُنْشِدْ الشِّعْرَ فَقُلْت لَهُ يَا أَبَتِ كَانَ الْحَسَنُ يُنْشِدُ وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يُنْشِدُ فَقَالَ لِي: أَيْ بُنَيَّ إنْ أَخَذْت بِشَرِّ مَا فِي الْحَسَنِ وَبِشَرِّ مَا فِي ابْنِ سِيرِينَ اجْتَمَعَ فِيك الشَّرُّ كُلُّهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ

الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَعْيَانِ الْأُمَّةِ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَّا لَهُمْ أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ خَفِيَ عَلَيْهِمْ فِيهَا السُّنَّةُ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَا يُحْصَى مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَغُضُّ مِنْ أَقْدَارِهِمْ وَلَا يُسَوِّغُ اتِّبَاعَهُمْ فِيهَا، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] . قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمْ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إلَّا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ إنْ أَخَذْت بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيك الشَّرُّ كُلُّهُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا إجْمَاعٌ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا يَنْبَغِي تَأَمُّلُهُ فَرَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَابْنُ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنِّي لَأَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي مِنْ أَعْمَالٍ ثَلَاثَةٍ قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ» . وَقَالَ زِيَادُ بْنُ حُدَيْرٍ: قَالَ عُمَرُ: ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ زَلَّةُ الْعَالِمِ وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إنَّ مِمَّا أَخْشَى عَلَيْكُمْ زَلَّةَ الْعَالِمِ وَجِدَالَ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ حَقٌّ وَعَلَى الْقُرْآنِ مَنَارٌ كَأَعْلَامِ الطَّرِيقِ، وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ كُلَّ يَوْمٍ - قَلَّ مَا يُخْطِيهِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ - اللَّهُ حَكَمٌ قِسْطٌ هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ، إنَّ وَرَاءَكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ حَتَّى يَقْرَأَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ الْأَسْوَدُ وَالْأَحْمَرُ فَيُوشِكُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَقُولَ قَدْ قَرَأْت الْقُرْآنَ فَمَا أَظُنُّ أَنْ يَتَّبِعُونِي حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، قَالَ: فَإِيَّاكُمْ وَمَا اُبْتُدِعَ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَإِيَّاكُمْ وَزَيْغَةَ الْحَكِيمِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ بِكَلِمَةِ الضَّلَالَةِ، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ فَتَلَقَّوْا الْحَقَّ عَمَّنْ قَدْ جَاءَ بِهِ فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا، قَالُوا: وَكَيْفَ زَيْغَةُ الْحَكِيمِ؟ قَالَ: هِيَ كَلِمَةٌ تُرَوِّعُكُمْ وَتُنْكِرُونَهَا وَتَقُولُونَ مَا هَذِهِ فَاحْذَرُوا زَيْغَتَهُ وَلَا يَصُدَّنَّكُمْ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَفِيءَ وَأَنْ يُرَاجِعَ الْحَقَّ، وَإِنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ مَكَانُهُمَا إلَى

يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَنْ ابْتَغَاهُمَا وَجَدَهُمَا وَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: كَيْفَ أَنْتُمْ عِنْدَ ثَلَاثَةٍ زَلَّةِ الْعَالِمِ وَجِدَالِ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ وَدُنْيَا تُقَطِّعُ أَعْنَاقَكُمْ، فَأَمَّا زَلَّةُ الْعَالِمِ فَإِنْ اهْتَدَى فَلَا تُقَلِّدُوهُ دِينَكُمْ تَقُولُ: نَصْنَعُ مِثْلَ مَا يَصْنَعُ فُلَانٌ وَنَنْهَى عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ فُلَانٌ إنْ أَخْطَأَ فَلَا تَقْطَعُوا إيَاسَكُمْ مِنْهُ فَتُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ. وَأَمَّا مُجَادَلَةُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ لِلْقُرْآنِ مَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَخُذُوهُ وَمَا لَمْ تَعْرِفُوهُ فَكِلُوهُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَأَمَّا دُنْيَا تُقَطِّعُ أَعْنَاقَكُمْ فَانْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ دُونَكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَيْلٌ لِلْأَتْبَاعِ مِنْ عَثَرَاتِ الْعَالِمِ قِيلَ كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ يَقُولُ الْعَالِمُ شَيْئًا بِرَأْيِهِ ثُمَّ يَجِدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَتْرُكُ قَوْلَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ يَمْضِي الْأَتْبَاعُ. وَهَذِهِ آثَارٌ مَشْهُورَةٌ رَوَاهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ فَإِذَا كُنَّا قَدْ حُذِّرْنَا مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ وَقِيلَ لَنَا: إنَّهَا أَخْوَفُ مَا يُخَافُ عَلَيْنَا وَأُمِرْنَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يُرْجَعَ عَنْهُ فَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ إذَا بَلَغَتْهُ مَقَالَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَنْ لَا يَحْكِيَهَا لِمَنْ يَتَقَلَّدُ بِهَا بَلْ يَسْكُتَ عَنْ ذِكْرِهَا إلَى أَنْ يَتَيَقَّنَ صِحَّتَهَا وَإِلَّا تَوَقَّفَ فِي قَبُولِهَا فَمَا أَكْثَرَ مَا يُحْكَى عَنْ الْأَئِمَّةِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ يُخَرِّجُهَا بَعْضُ الْأَتْبَاعِ عَلَى قَاعِدَةٍ مَتْبُوعَةٍ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْإِمَامَ لَوْ رَأَى أَنَّهَا تَقْضِي إلَى ذَلِكَ لَمَا الْتَزَمَهَا، وَالشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ، وَمَنْ عَلِمَ فِقْهَ الْأَئِمَّةِ وَوَرَعَهُمْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَوْ رَأَوْا هَذِهِ الْحِيَلَ وَمَا أَفَضْت إلَيْهِ مِنْ التَّلَاعُبِ بِالدِّينِ لَقَطَعُوا بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يَقْطَعُوا بِهِ أَوَّلًا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِينَ أَفْتَوْا مِنْ الْعُلَمَاءِ بِبَعْضِ مَسَائِلِ الْحِيَلِ، أَوْ أُخِذَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ قَوَاعِدِهِمْ لَوْ بَلَغَهُمْ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ لَرَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ يَقِينًا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْإِنْصَافِ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَرْجِعُ عَنْ رَأْيِهِ بِدُونِ مَا فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ مُجْتَمِعِينَ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ " وَهَذَا قَوْلُ لِسَانِ حَالِ الْجَمَاعَةِ، وَمِنْ أُصُولِهِمْ أَنَّ أَقْوَالَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُنْتَشِرَةَ لَا تُتْرَكُ إلَّا بِمِثْلِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّحْلِيلِ وَالْعِينَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ مَا يَقْطَعُ مَعَهُ اللَّبِيبُ أَنْ لَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ فِي مُخَالَفَتِهَا وَلَمْ تَشْتَمِلْ كُتُبُ مَنْ خَالَفَهَا مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَيْهَا حَتَّى يُقَالَ: إنَّهُمْ تَأَوَّلُوهَا فَعُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْهُمْ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَوْلَ بِتَحْرِيمِ الْحِيَلِ قَطْعِيٌّ لَيْسَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ كَمَا قَدْ

بَيَّنَّاهُ وَبَيَّنَّا إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهَا بِكَلَامٍ غَلِيظٍ يُخْرِجُهَا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَاتِّفَاقَ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ تُخَالِفُ السُّنَّةَ وَآثَارَ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ، وَهَذَا مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ يُفْتِي بِهَا وَيَجِبُ نَقْضُ حُكْمِهِ، وَلَا يَجُوزُ الدَّلَالَةُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ عَلَى مَنْ يُفْتِي بِهَا مَعَ جَوَازِ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مِثْلِ هَذَا. وَإِنْ كُنَّا نَعْذُرُ مَنْ اجْتَهَدَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي بَعْضِهَا، وَهَذَا كَمَا أَنَّ أَعْيَانَ الْمَكِّيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْمُتْعَةِ وَالصَّرْفِ وَالنَّبِيذِ وَنَحْوِهَا بَلْ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ حُدَّ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا وَاخْتَلَفُوا فِي رَدِّ شَهَادَتِهِ فَرَدَّهَا مَالِكٌ دُونَ الشَّافِعِيِّ وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، مَعَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِالْمُتْعَةِ وَالصَّرْفِ مَعَهُمْ فِيهِمَا سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، لَكِنَّ سُنَّةَ الْمُتْعَةِ مَنْسُوخَةٌ، وَحَدِيثُ الصَّرْفِ يُفَسِّرُهُ سَائِرُ الْأَحَادِيثِ، فَكَيْفَ بِالْحِيَلِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ مِنْ سُنَّةٍ وَلَا أَثَرٍ أَصْلًا بَلْ السُّنَنُ وَالْآثَارُ تُخَالِفُهَا. وَقَوْلُهُمْ مَسَائِلُ الْخِلَافِ لَا إنْكَارَ فِيهَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْإِنْكَارَ، إمَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى الْقَوْلِ بِالْحُكْمِ أَوْ الْعَمَلِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ يُخَالِفُ سُنَّةً، أَوْ إجْمَاعًا قَدِيمًا وَجَبَ إنْكَارُهُ وِفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُنْكَرُ بِمَعْنَى بَيَانِ ضَعْفِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَهُمْ عَامَّةُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَإِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ سُنَّةٍ، أَوْ إجْمَاعٍ وَجَبَ إنْكَارُهُ أَيْضًا بِحَسَبِ دَرَجَاتِ الْإِنْكَارِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ شَارِبِ النَّبِيذِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَكَمَا يُنْقَضُ حُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا خَالَفَ سُنَّةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ اتَّبَعَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلِلِاجْتِهَادِ فِيهَا مَسَاغٌ يُنْكَرُ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِهَا مُجْتَهِدًا، أَوْ مُقَلِّدًا، وَإِنَّمَا دَخَلَ هَذَا اللَّبْسُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَائِلَ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَسَائِلَ الْخِلَافِ هِيَ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ كَمَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ - وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ أَنَّ مَسَائِلَ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وُجُوبًا ظَاهِرًا، مِثْلُ حَدِيثٍ صَحِيحٍ لَا مُعَارِضَ مِنْ جِنْسِهِ فَيَسُوغُ لَهُ - إذَا عَدِمَ ذَلِكَ فِيهَا - الِاجْتِهَادُ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَارِبَةِ. أَوْ لِخَفَاءِ الْأَدِلَّةِ فِيهَا وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ كَوْنِ الْمَسْأَلَةِ قَطْعِيَّةً طَعْنٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهَا مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ كَسَائِرِ الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا السَّلَفُ. وَقَدْ تَيَقَّنَّا صِحَّةَ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ

فِيهَا. مِثْلُ كَوْنِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا تَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ. وَأَنَّ الْجِمَاعَ الْمُجَرَّدَ عَنْ إنْزَالٍ يُوجِبُ الْغُسْلَ. وَأَنَّ رِبَا الْفَضْلِ وَالْمُتْعَةَ حَرَامٌ، وَأَنَّ النَّبِيذَ حَرَامٌ، وَأَنَّ السُّنَّةَ فِي الرُّكُوعِ الْأَخْذُ بِالرُّكَبِ، وَأَنَّ دِيَةَ الْأَصَابِعِ سَوَاءٌ، وَأَنَّ يَدَ السَّارِقِ تُقْطَعُ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ رُبُعِ دِينَارٍ، وَأَنَّ الْبَائِعَ أَحَقُّ بِسِلْعَتِهِ إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي. وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالْكَافِرِ. وَأَنَّ الْحَاجَّ يُلَبِّي حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَأَنَّ التَّيَمُّمَ يَكْفِي فِيهِ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ إلَى الْكُوعَيْنِ. وَأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ جَائِزٌ حَضَرًا وَسَفْرًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكَادُ يُحْصَى. وَبِالْجُمْلَةِ مَنْ بَلَغَهُ مَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عُذْرٌ بِتَقْلِيدِ مَنْ يَنْهَاهُ عَنْ تَقْلِيدِهِ. وَنَقُولُ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَقُولَ مَا قُلْت حَتَّى تَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْت، أَوْ تَقُولَ إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَلَا تَعْبَأْ بِقَوْلِي وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ أَحَادِيثُ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُعَلِّمُ هَذِهِ الْحِيَلَ وَيُفْتِي بِهَا هُوَ وَلَا أَصْحَابُهُ، وَأَنَّهَا لَا تَلِيقُ بِدِينِ اللَّهِ أَصْلًا، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ أَكْثَرَ مِنْ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الدِّينِ. الْوَجْهِ الرَّابِعِ: إنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْحِيَلَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ - كَمَا يَخْتَارُهُ فِي بَعْضِهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ - فَإِنَّا إنَّمَا بَيَّنَّا الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى تَحْرِيمِهَا كَمَا فِي سَائِرِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، فَأَمَّا جَوَازُ تَقْلِيدِ مَنْ يُخَالِفُ فِيهَا وَيُسَوِّغُ الْخِلَافَ فِيهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاضِعِ الْكَلَامِ فِيهِ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي هَذَا مِمَّا يَخْتَصُّ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الْمَسَائِلِ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا التَّقْرِيرِ أَنْ يُجِيبَ عَنْ السُّؤَالِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَحِينَئِذٍ فَمَنْ وَضَحَ لَهُ الْحَقُّ وَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ، وَمَنْ لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ الْحَقُّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ أَحْدَثُوا حِيَلًا لَمْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِهَا عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَنَسَبُوهَا إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ غَيْرِهِ، وَهُمْ مُخْطِئُونَ فِي نَسَبِهَا لَا إلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَدَّعُونَهُ خَطَأً بَيِّنًا يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَ نُصُوصَ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَيْسَ مَعْرُوفًا بِأَنْ يَفْعَلَ الْحِيَلَ وَلَا يَدُلَّ عَلَيْهَا وَلَا يُشِيرَ عَلَى مُسْلِمٍ أَنْ يَسْلُكَهَا وَلَا يَأْمُرَ بِهَا مَنْ اسْتَنْصَحَهُ. بَلْ هُوَ يَكْرَهُهَا وَيَنْهَى عَنْهَا بَعْضَهَا كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ وَبَعْضَهَا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْحِيَلِ أَوْ أَكْثَرُ الْحِيَلِ الْمُضَافَةِ إلَى مَذْهَبِهِ مِنْ تَصَرُّفَاتِ

بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ تَلَقَّوْهَا عَنْ الْمَشْرِقِيِّينَ، نَعَمْ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُجْرِي الْعُقُودَ عَلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ بِهَا مِنْ غَيْرِ سُؤَالِ الْمُعَاقِدِ عَنْ مَقْصُودِهِ. كَمَا يُجْرِي أَمْرَ مَنْ ظَهَرَتْ زَنْدَقَتُهُ، ثُمَّ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ عَلَى ظَاهِرِ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ عَلَى بَاطِنِهِ. وَكَمَا يُجْرِي كِنَايَاتِ الْقَذْفِ وَكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا يَقُولُ الْمُتَكَلِّمُ إنَّهُ مَقْصُودُهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَرُبَّمَا أُخِذَ مِنْ كَلَامِهِ عَدَمُ تَأْثِيرِ الْعَقْدِ فِي الظَّاهِرِ بِمَا يَسْبِقُهُ مِنْ الْمُوَاطَأَةِ وَعَدَمِ فَسَادِهِ بِمَا يُقَارِنُهُ مِنْ النِّيَّاتِ عَلَى خِلَافِهِ عَنْهُ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، أَمَّا إنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَوْ مَنْ هُوَ دُونَهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْكَذِبِ وَالْخِدَاعِ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَبِشَيْءٍ يُتَيَقَّنُ بِأَنَّ بَاطِنَهُ خِلَافُ ظَاهِرِهِ فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَى هَذَا عَنْ مِثْلِ هَؤُلَاءِ. فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي كُتُبِهِمْ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ قَاعِدَتِهِمْ. فَرُبَّ قَاعِدَةٍ لَوْ عَلِمَ صَاحِبُهَا مَا تُفْضِي إلَيْهِ لَمْ يَقُلْهَا. فَمِنْ رِعَايَةِ حَقِّ الْأَئِمَّةِ أَنْ لَا يُحْكَى هَذَا عَنْهُمْ - وَلَوْ رُوِيَ عَنْهُمْ - لِفَرْطِ قُبْحِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَكْرَهُ أَنْ يَحْكِيَ عَنْ الْكُوفِيِّينَ وَالْمَدَنِيِّينَ وَالْمَكِّيِّينَ الْمَسَائِلَ الْمُسْتَقْبَحَةَ. مِثْلَ مَسْأَلَةِ النَّبِيذِ. وَالصَّرْفِ. وَالْمُتْعَةِ. وَفَحَّاشِ النِّسَاءِ. إذَا حُكِيَتْ لِمَنْ يَخَافُ أَنْ يُقَلِّدَهُمْ فِيهَا. أَوْ يَنْتَقِصَهُمْ بِسَبَبِهَا، وَفَرْقٌ بَيْنَ أَنْ آمُرَ بِشَيْءٍ. أَوْ أَفْعَلَهُ، وَبَيْنَ أَنْ أَقْبَلَ مِنْ غَيْرِي ظَاهِرَهُ. وَقَدْ كَانَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يُحْكَى عَنْهُ الْإِفْتَاءُ بِالْحِيَلِ. مِثْلُ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ سَأَلْت أَبَا بَكْرٍ الْآجُرِّيَّ - وَأَنَا وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ فِي مَكَّةَ - عَنْ هَذَا الْخُلْعِ الَّذِي يُفْتَى بِهِ النَّاسُ - وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ رَجُلٌ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ، فَيُقَالَ لَهُ: اخْلَعْ زَوْجَتَك، وَافْعَلْ مَا حَلَفْت عَلَيْهِ، ثُمَّ رَاجِعْهَا -، وَالْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثًا. وَقُلْت: إنَّ قَوْمًا يُفْتُونَ الرَّجُلَ الَّذِي يَحْلِفُ بِأَيْمَانِ الْبَيْعِ وَيَحْنَثُ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيَذْكُرُونَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَرَ عَلَى مَنْ حَلَفَ بِيَمِينِ الْبَيْعَةِ شَيْئًا. فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَعْجَبُ سُؤَالِي عَنْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. ثُمَّ قَالَ لِي: اعْلَمْ مُنْذُ كَتَبْت الْعِلْمَ وَجَلَسْت لِلْكَلَامِ فِيهِ، وَالْفَتْوَى مَا أَفْتَيْت فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِحَرْفٍ وَلَقَدْ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيَّ الضَّرِيرَ عَنْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، كَمَا سَأَلْتنِي عَنْ التَّعَجُّبِ مِمَّنْ يُقْدِمُ عَلَى الْفَتْوَى فِيهِمَا. فَأَجَابَنِي بِجَوَابٍ كَتَبْته عَنْهُ، ثُمَّ قَامَ فَأَخْرَجَ لِي كِتَابَ أَحْكَامِ الرَّجْعَةِ وَالنُّشُوزِ مِنْ كِتَابِ الشَّافِعِيِّ، وَإِذَا مَكْتُوبٌ عَلَى ظَهْرِهِ بِخَطِّ أَبِي بَكْرٍ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيَّ فَقُلْت

لَهُ الرَّجُلُ يَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثًا أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا، ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ. وَقُلْت لَهُ: إنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ يُفْتُونَ فِيهَا بِالْخُلْعِ؛ يُخَالِعُ ثُمَّ يَفْعَلُ فَقَالَ الزُّبَيْرِيُّ مَا أَعْرِفُ هَذَا مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ لَهُ فِي هَذَا قَوْلًا مَعْرُوفًا، وَلَا أَرَى مَنْ يَذْكُرُ هَذَا عَنْهُ إلَّا مُحِيلًا. وَقُلْت لَهُ الرَّجُلُ يَحْلِفُ بِأَيْمَانِ الْبَيْعَةِ، فَيَحْنَثُ وَيَبْلُغُنِي أَنَّ قَوْمًا يُفْتُونَهُمْ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، أَوْ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، فَجَعَلَ الزُّبَيْرِيُّ يَتَعَجَّبُ مِنْ هَذَا. وَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَمَا بَلَغَنِي عَنْ عَالِمٍ وَلَا بَلَغَنِي فِيهِ قَوْلٌ وَلَا فَتْوَى. وَلَا سَمِعْت أَنَّ أَحَدًا أَفْتَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِشَيْءٍ قَطُّ. قُلْت لِلزُّبَيْرِيِّ وَلَا عِنْدَك فِيهَا جَوَابٌ. فَقَالَ: إنْ أَلْزَمَ الْحَالِفُ نَفْسَهُ جَمِيعَ مَا فِي يَمِينِ الْبَيْعَةِ، وَإِلَّا فَلَا أَقُولُ غَيْرَ هَذَا - قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ. فَكَتَبْت هَذَا الْكَلَامَ مِنْ ظَهْرِ كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ وَقَرَأْته عَلَيْهِ، ثُمَّ قُلْت لَهُ: فَأَنْتَ إيشْ تَقُولُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ: هَكَذَا أَقُولُ، وَإِلَّا فَالسُّكُوتُ عَنْ الْجَوَابِ أَسْلَمُ لِمَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذَكَرَ هَذَا الْإِمَامُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ فِي جُزْءٍ صَنَّفَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يُفْتِي بِخُلْعِ الْيَمِينِ وَذَكَرَ الْآثَارَ فِيهِ عَنْ السَّلَفِ بِالرَّدِّ لَهُ وَأَنَّهُ مُحْدَثٌ فِي الْإِسْلَامِ: وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي خُلْعِ الْيَمِينِ فَكَيْفَ أَنْ يَهَبَهُ شَيْئًا لِيَقِفَهُ عَلَيْهِ وَأَمْثَالُهَا. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يَتَقَلَّدَ قَوْلَ مَنْ يُصَحِّحُ وَقْفَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِمَا. وَهُوَ مُتَوَجَّهٌ. فَإِنَّ حُجَّةَ الْمَانِعِ امْتِنَاعُ كَوْنِ الْإِنْسَانِ مُعْطِيًا مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَبِيعَ نَفْسَهُ وَلَا يَهَبَ نَفْسَهُ. فَيُقَالُ الْوَاقِفُ شَبِيهُ الْعِتْقِ وَالتَّحْرِيرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمْتَنِعُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِي رَقَبَتِهِ. وَأَشْبَهُ شَيْءٍ بِهِ أُمُّ الْوَلَدِ، وَهَذَا مَأْخَذُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ رَقَبَةَ الْوَقْفِ يَنْتَقِلُ مِلْكُهَا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى قَبُولٍ. وَإِذَا كَانَ مِثْلَ التَّحْرِيرِ لَمْ يَكُنْ مُمَلِّكًا لِنَفْسِهِ، بَلْ يَكُونُ مُخْرِجًا لِلْمِلْكِ عَنْ نَفْسِهِ وَمَانِعًا لِنَفْسِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي رَقَبَتِهِ مَعَ الِانْتِفَاعِ بِالْمَنْفَعَةِ فَيُشْبِهُ الِاسْتِيلَاءَ، وَلَوْ قِيلَ: إنَّ رَقَبَةَ الْوَقْفِ تَنْتَقِلُ إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ

فَإِنَّهُ يُنْقَلُ إلَى جَمِيعِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ الْوَاقِفِ - وَالطَّبَقَةُ الْأُولَى أَحَدُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ - وَإِذَا اشْتَرَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ، أَوْ بَاعَ جَازَ عَلَى الْمُخْتَارِ لِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْمِلْكَيْنِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِلْكُهُ الْمُخْتَصُّ إلَى طَبَقَاتِ مَوْقُوفٍ عَلَيْهَا - هُوَ أَحَدُهُمَا - أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ نَقَلَ مِلْكَهُ الْمُخْتَصَّ إلَى مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ، ثُمَّ لَهُ فِي الشَّرِكَةِ الْمِلْكُ الثَّانِي مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الرَّقَبَةِ، وَفِي الْوَقْفِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ فَيَكُونُ الْجَوَازُ فِيهِ أَوْلَى. يُؤَيِّدُ هَذَا: أَنَّهُ إذَا وَقَفَ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَكُونَ كَوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْجِهَةِ كَوَقْفِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِئْرَ رُومَةَ وَجَعْلِهِ دَلْوَهُ كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَصَلَاةِ الْمَرْءِ فِي مَسْجِدٍ وَقَفَهُ، وَدَفْنِهِ فِي مَقْبَرَةٍ سَبَّلَهَا، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ، فَإِذَا جَازَ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ فِي الْجِهَةِ الْعَامَّةِ، جَازَ مِثْلُهُ فِي الْجِهَةِ الْخَاصَّةِ الْمَحْصُورَةِ. لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى. بَلْ الْجَوَازُ هُنَا أَوْلَى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ بِالتَّعْيِينِ، وَهُنَاكَ دَخَلَ فِي الْوَقْفِ بِشُمُولِ الِاسْمِ لَهُ. وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا تَقْرِيرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا غَيْرِهَا. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ النَّاسُ، حِيَلًا وَخُدَعًا أَكْثَرَ مِمَّا أَنْكَرَهُ السَّلَفُ عَلَى مَنْ أَفْتَى بِالْحِيَلِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَغْنَاهُمْ عَنْهَا بِسُلُوكِ طَرِيقٍ إمَّا جَائِزٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، أَوْ مُخْتَلَفٍ فِيهِ اخْتِلَافًا يَسُوغُ مَعَهُ الْأَخْذُ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ اجْتِهَادًا، أَوْ تَقْلِيدًا وَهَذَا خَيْرٌ عِنْدَ مَنْ فَقِهَ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ مِنْ الْمُخَادَعَاتِ الَّتِي مَضْمُونُهَا الِاسْتِهْزَاءُ بِآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّلَاعُبُ بِحُدُودِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا مَلَّكَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ شَيْئًا لِيَقِفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَلَى جِهَةٍ مُتَّصِلَةٍ مِنْ بَعْدِهِ فَمَا حُكْمُ هَذَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَكَيْفَ حُكِمَ عَلَى مَنْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ هَذَا الْوَقْفِ؟ قِيلَ: هَذَا التَّمْلِيكُ وَالشَّرْطُ يَضْمَنُ شَيْئَيْنِ. أَحَدُهُمَا: لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَهُوَ انْتِقَالُ الْمِلْكِ إلَى الْمَالِكِ. وَالثَّانِي: الْإِذْنُ لَهُ فِي الْوَقْفِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَمُوَافَقَتُهُ عَلَيْهِ. وَهَذَا فِي الْمَعْنَى تَوْكِيلٌ لَهُ فِي الْوَقْفِ: فَحُكْمُ هَذَا الْمِلْكِ قَبْلَ التَّمْلِيكِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُمَلَّكُ. وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ وَقْفِهِ لَمْ يَحِلَّ لِوَرَثَتِهِ أَخْذُهُ. وَلَوْ أَخَذَهُ وَلَمْ يَقِفْهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَمْ يَرُدَّهُ إلَيْهِ كَانَ ظَالِمًا عَاصِيًا. وَلَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ صَاحِبُهُ بَعْدَ هَذَا التَّمْلِيكِ لَكَانَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ نَافِذًا لِنُفُوذِهِ قَبْلَ التَّمْلِيكِ - وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ إنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِمَا تَوَاطَآ

عَلَيْهِ، أَوْ اعْتَرَفَ لَهُ الْمُمَلَّكُ بِذَلِكَ، أَوْ كَانَتْ دَلَالَةُ الْحَالِ تَقْتَضِي ذَلِكَ. لَكِنَّ الْمَالِكَ قَدْ أَذِنَ لِهَذَا فِي أَنْ يَقِفَهُ وَهُوَ رَاضٍ بِذَلِكَ، وَهَذَا الْإِذْنُ وَالتَّوْكِيلُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَصَلَ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَإِنَّهُ لَا يَفْسُدُ بِفَسَادِ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ فَسَدَتْ الشَّرِكَةُ، أَوْ الْمُضَارَبَةُ، فَإِنَّ تَصَرُّفَ الشَّرِيكِ وَالْعَامِلِ صَحِيحٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ مَعَ الْإِذْنِ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ، بَلْ الْإِذْنُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْهِبَةِ الْبَاطِلَةِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا قَدْ اتَّفَقَا قَبْلَ الْعَقْدِ عَلَى أَنْ يَقِفَهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَتَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْهِبَةَ لَيْسَتْ هِبَةً بَتَاتًا بَلْ هِيَ مِثْلُ هَذِهِ التَّلْجِئَةِ فَيَكُونُ الِاتِّفَاقُ لِلْأَوَّلِ إذْنًا صَحِيحًا، وَرَدُّهُ بَعْدَهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ، وَكَانَ مَثَلُ هَذَا مِثْلَ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى بَيْعِ تَلْجِئَةٍ، أَوْ هِبَةِ تَلْجِئَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فِي الْمَبِيعِ وَالْمَوْهُوبِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ جَمِيعَ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَأْذُونِ فِيهَا تَقَعُ صَحِيحَةً؛ لِأَنَّهَا وَكَالَةٌ صَحِيحَةٌ فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَرِدْ بَعْدَهَا مَا يُنَاقِضُهَا فِي الْحَقِيقَةِ. الثَّانِي: أَنَّا إنَّمَا أَبْطَلْنَا هَذَا الْعَقْدَ لِكَوْنِهِ قَدْ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُوهَبِ لَهُ أَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ إلَّا بِالْوَقْفِ الَّذِي هُوَ فِي الظَّاهِرِ وَاهِبٌ، وَالتَّصَرُّفُ فِي الْعَيْنِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمِلْكِ، بَلْ يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ وَبِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ الْمِلْكِ بُطْلَانُ الْإِذْنِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُسْتَنَدُ غَيْرُ الْمِلْكِ وَلَا يُقَالُ: لَمَّا بَطَلَ الْمِلْكُ بَطَلَ التَّصَرُّفُ الَّذِي هُوَ مِنْ تَوَابِعِهِ التَّصَرُّفُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ مَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ مِلْكٌ لِلثَّانِي وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ مِلْكًا لِلثَّانِي، بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا كَانَ مِنْ تَوَابِعِ مَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْأَوَّلِ، وَفِي الظَّاهِرِ مِلْكٌ لِلثَّانِي فَبُطْلَانُ هَذَا الثَّانِي لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْمِلْكِ الْحَقِيقِيِّ، وَلَا بُطْلَانَ تَوَابِعِهِ. يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الْحِيَلَ الَّتِي اُسْتُحِلَّتْ بِأَسْمَاءٍ بَاطِلَةٍ يَجِبُ أَنْ تُسْلَبَ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ الْمَنْحُولَةَ وَتُعْطَى الْأَسْمَاءَ الْحَقِيقِيَّةَ كَمَا يُسْلَبُ مِنْهَا مَا يُسَمَّى بَيْعًا، أَوْ نِكَاحًا، أَوْ هَدِيَّةً وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ تُسَمَّى رِبًا وَسِفَاحًا وَرِشْوَةً، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْهِبَةُ تُسْلَبُ اسْمَ الْهِبَةِ وَتُسَمَّى تَوْكِيلًا، وَإِذْنًا، فَإِنَّ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى لَفْظٍ مَخْصُوصٍ بَلْ بِكُلِّ قَوْلٍ دَلَّ عَلَى الْإِذْنِ فِي التَّصَرُّفِ فَهُوَ وَكَالَةٌ. وَهَذِهِ الْمُوَاطَأَةُ عَلَى هَذِهِ الْهِبَةِ لَا رَيْبَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ فِي هَذَا الْوَقْفِ

فَتَكُونُ وَكَالَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ اعْتَقَدَ صِحَّةَ وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا بَيَّنَّا مَأْخَذَهُ، وَاعْتَقَدَ صِحَّةَ هَذَا الْوَقْفِ، كَانَ هَذَا الْوَقْفُ لَازِمًا إذَا وَقَفَهُ ذَلِكَ الْمَالِكُ الْمُوَكَّلُ كَلُزُومِهِ لَوْ وَقَفَهُ الْمَالِكُ نَفْسُهُ، أَوْ وَكِيلٌ مَحْضٌ، وَيَنْبَنِي، عَلَى ذَلِكَ سَائِرُ أَحْكَامِ الْوَقْفِ الصَّحِيحِ مِنْ حِلِّ التَّنَاوُلِ مِنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمَنْ اعْتَقَدَ وَقْفَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ بَاطِلًا كَانَ هَذَا وَقْفًا مُنْقَطِعَ الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِهِ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَالْوَقْفُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا، ثُمَّ عَلَى غَيْرِهِ وَالْوَقْفُ جَائِزٌ عَلَيْهِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فَقِيلَ لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ بِخِلَافِ الْمُنْقَطِعِ الِانْتِهَاءِ؛ لِأَنَّ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ تَبَعٌ لِلْأُولَى فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الْأُولَى فَمَا بَعْدَهَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْوَاقِفَ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَصِيرَ لِلثَّانِيَةِ إلَّا بَعْدَ الْأُولَى وَمَا رَضِيَ بِهِ لَمْ يَرْضَ بِهِ الشَّارِعُ فَاَلَّذِي رَضِيَهُ الشَّارِعُ لَمْ يَرْضَهُ وَاَلَّذِي رَضِيَهُ لَمْ يَرْضَهُ الشَّارِعُ، وَلَا بُدَّ فِي صِحَّةِ التَّصَرُّفِ مِنْ رِضَى الْمُتَصَرِّفِ وَمُوَافَقَةِ الشَّرْعِ، فَعَلَى هَذَا هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ، فَإِذَا مَاتَ انْبَنَى عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ هَذَا وَقْفٌ بَعْدَ مَوْتِي صَحَّ، أَوْ هُوَ كَالْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ. فَإِنْ قِيلَ: هُوَ كَالْمُعَلَّقِ بِشَرْطٍ. فَلَا كَلَامَ. وَإِنْ قِيلَ بِصِحَّتِهِ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ بِصِحَّةِ هَذَا الْوَقْفِ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ الثُّلُثِ، وَأَنَّهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى حَرْبِيٍّ، أَوْ مُرْتَدٍّ وَبَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى مَنْ يَصِحُّ لِأَنَّهُ إذَا وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى جِهَةٍ مُتَّصِلَةٍ أَمْكَنَ أَنْ يُلْغَى قَوْلُهُ " عَلَى نَفْسِي " وَيُجْعَلَ كَأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى كَذَا وَهَذَا يُصَحِّحُهُ مَنْ لَا يُصَحِّحُ الْوَقْفَ عَلَى تِلْكَ الْجِهَةِ بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ إلْحَاقًا لِلْوَقْفِ بِالْوَصِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعَطَايَا، وَالْعَطِيَّةُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا فِي الْوَصَايَا إلْحَاقًا بِالْمِيرَاثِ، وَقِيلَ إنَّ هَذَا الْوَقْفَ الْمُنْقَطِعَ الِابْتِدَاءٍ صَحِيحٌ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي الْحَالِ مَصْرِفَ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ الِابْتِدَاءِ فَإِذَا مَاتَ هَذَا الْوَاقِفُ صُرِفَ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ الْبَاطِلَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي الْحَالِ فَإِذَا مَاتَ الْوَاقِفُ صُرِفَ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ الصَّحِيحَةِ جَعْلًا لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ - وَكَذَلِكَ جُعِلَ فِي تَعْلِيقِ الْوَاقِفِ بِالشَّرْطِ وَجْهَانِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ شِبْهِ الْعِتْقِ وَالتَّحْرِيرِ وَبَيْنَ شِبْهِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ أَقَرَّ مَنْ فِي يَدِهِ عَقَارٌ أَنَّهُ وَقْفٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ عَلَى جِهَةٍ مُتَّصِلَةٍ وَكَانَ قَدْ جَعَلَ هَذَا حِيلَةً لِوَقْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَفَهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَمَا حُكْمُ ذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ وَحُكْمُ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ؟ قِيلَ: هَذَا أَيْضًا إنَّمَا قَصَدَ إنْشَاءَ الْوَقْفِ فَيَكُونُ كَمَنْ أَقَرَّ بِطَلَاقٍ، أَوْ عَتَاقٍ يَنْوِي بِهِ الْإِنْشَاءَ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يَنْعَقِدُ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ وَبِاللَّفْظِ الْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ وَيَصِحُّ أَيْضًا بِالْفِعْلِ مَعَ النِّيَّةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُهُ هُوَ الْوَقْفَ عَلَى نَفْسِهِ وَتَكَلَّمَ بِقَوْلِهِ هَذَا وَقْفٌ عَلَيَّ، ثُمَّ عَلَى كَذَا وَكَذَا وَمَيَّزَهُ بِالْفِعْلِ عَنْ مِلْكِهِ صَارَ كَمَا لَوْ قَالَ وَقَفْته عَلَى نَفْسِي، ثُمَّ عَلَى كَذَا وَكَذَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِتَابَةً فِي الْإِنْشَاءِ، يَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْإِخْبَارَ فَإِذَا قَصَدَ بِهِ دُيِّنَ. بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ إقْرَارًا مَحْضًا وَهُوَ يَعْلَمُ كَذِبَ نَفْسِهِ فِيهِ كَانَ وُجُودُ هَذَا الْإِقْرَارِ كَعَدَمِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ: فَفُرِّقَ بَيْنَ إقْرَارٍ قَصَدَ بِهِ الْإِخْبَارَ عَمَّا مَضَى. وَإِقْرَارٍ قَصَدَ بِهِ الْإِنْشَاءَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاضِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ صِيَغَ الْعُقُودِ قَدْ قِيلَ: هِيَ إنْشَاءَاتٌ. وَقِيلَ: إخْبَارَاتٌ - وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ إخْبَارٌ عَنْ الْمَعَانِي الَّتِي فِي الْقَلْبِ وَتِلْكَ الْمَعَانِي أُنْشِئَتْ فَاللَّفْظُ خَبَرٌ وَالْمَعْنَى إنْشَاءٌ إنَّمَا يَتِمُّ حُكْمُهُ بِاللَّفْظِ، فَإِذَا أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الْمَكَانَ وَقْفٌ عَلَيْهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَقِفْهُ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ كَاذِبٌ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ أَنْ يَصِيرَ هُوَ وَاقِفًا لَهُ فَقَدْ أَجْمَعَ لَفْظَ الْإِخْبَارِ، وَإِرَادَتَهُ الْوَقْفَ. فَلَوْ كَانَ أَخْبَرَ عَنْ هَذِهِ الْإِرَادَةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ رَيْبٌ أَنَّهُ إنْشَاءُ وَقْفٍ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ إخْبَارًا عَنْ غَيْرِ مَا عَنَاهُ وَاَلَّذِي عَنَاهُ لَمْ يَلْفِظْ بِهِ صَارَتْ الْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةً، لَكِنَّ هَذِهِ النِّيَّةَ مَعَ هَذَا اللَّفْظِ وَنَحْوِهِ وَمَعَ الْفِعْلِ الَّذِي لَوْ تَجَرَّدَ عَنْ لَفْظٍ لَكَانَ مَعَ النِّيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْوَقْفِ يُوجِبُ جَعْلَ هَذَا وَقْفًا، وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْبَنِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا -، وَإِذَا كَانَ هَذَا إنْشَاءٌ لِلْوَقْفِ فَحُكْمُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ مَثَلًا بُطْلَانَ وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، وَبُطْلَانَ اسْتِثْنَاءِ مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ. فَالْوَاجِبُ مَعَ هَذَا الِاعْتِقَادِ إمَّا الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، أَوْ الْوَصِيَّةُ بِالْوَقْفِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِيمَا يَسُوغُ الْوَصِيَّةُ فِيهِ وَالْإِمْسَاكُ عَمَّا زَادَ، أَوْ تَرْكُ الْوَقْفِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ اعْتَقَدَ اعْتِقَادًا يَرَى أَنَّهُ لَا يَسُوغُ لَهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِمُوجَبِهِ كَالْأُمُورِ الَّتِي لَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهَا مِنْ الرِّبَا وَالسِّفَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ

الوجه الرابع عشر الحيلة تصدر من رجل كره فعل ما أمر الله

عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِلُّ مَحَارِمَهُ بِأَدْنَى الْحِيَلِ وَلَا يَتَوَهَّمُ الْإِنْسَانُ أَنَّ فِي الْإِمْسَاكِ عَنْ الْمُحَرَّمِ ضِيقًا، أَوْ ضَرَرًا، أَوْ فِي فِعْلِ الْوَاجِبِ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وَلَا بُدَّ أَنْ يُبْتَلَى الْمَرْءُ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ تَارَةً يَتْرُكُ مَا يَهْوَى وَتَارَةً يَفْعَلُ مَا يَكْرَهُ، كَمَا يُبْتَلَى فِي الْحَوَادِثِ الْمُقَدَّرَةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {الم} [العنكبوت: 1] {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ - وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2 - 3] . وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور: 47] {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48] {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور: 49] {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور: 50] الْآيَاتِ وَمِنْ هُنَا يَنْشَأُ. [الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ الْحِيلَة تَصْدُرُ مِنْ رَجُلٍ كَرِهَ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ] الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ وَهُوَ أَنَّ الْحِيلَةَ إنَّمَا تَصْدُرُ مِنْ رَجُلٍ كَرِهَ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، أَوْ تَرْكَ مَا نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28] ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54] .

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 20] {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد: 21] . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَمَّ اللَّهُ فِيهَا مَنْ كَرِهَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْجِهَادِ وَجَعَلَهُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُرْبِينَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] . وَقَالَ: يَجِبُ أَنْ تَتَلَقَّى أَحْكَامَ اللَّهِ بِطِيبِ نَفْسٍ وَانْشِرَاحِ صَدْرٍ، وَأَنْ يَتَيَقَّنَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُ إلَّا بِمَا فِي فِعْلِهِ صَلَاحٌ، وَلَمْ يَنْهَهُ إلَّا عَمَّا فِي فِعْلِهِ فَسَادٌ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ الْعَبْدِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، أَوْ مِنْ نَفْسِ الْفِعْلِ، أَوْ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْقُوتِ الَّذِينَ هُوَ قِوَامُ الْعَبْدِ وَالْمَنْهِيَّ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ السُّمُومِ الَّتِي هِيَ هَلَاكُ الْبَدَنِ وَسَقَمُهُ، وَمَنْ يَتَيَقَّنُ هَذَا لَمْ يَطْلُبْ أَنْ يَحْتَالَ عَلَى سُقُوطِ وَاجِبٍ فِي فِعْلِهِ صَلَاحٌ لَهُ وَلَا عَلَى فِعْلِ مُحَرَّمٍ فِي تَرْكِهِ صَلَاحٌ لَهُ أَيْضًا، وَإِمَّا تَنْشَأُ الْحِيَلُ مِنْ ضَعْفِ الْإِيمَانِ، فَلِهَذَا كَانَتْ مِنْ النِّفَاقِ وَصَارَتْ نِفَاقًا فِي الشَّرَائِعِ كَمَا أَنَّ النِّفَاقَ الْأَكْبَرَ نِفَاقٌ فِي الدِّينِ، وَإِذَا كَانَتْ الْحِيلَةُ مُسْتَلْزِمَةً لِكَرَاهَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ، بَلْ نِفَاقٌ فَحُكْمُ الْمُسْتَلْزِمِ كَذَلِكَ فَتَكُونُ الْحِيَلُ مُحَرَّمَةً بَلْ نِفَاقًا، وَلَوْ فُرِضَ أَنْ يَنْشَأَ مِنْ الْحِيَلِ تَجَرُّدٌ فِي بَعْضِ حَقِّ الْأَشْخَاصِ عَنْ هَذَا الْإِلْزَامِ لَكَانَ ذَلِكَ صُوَرًا قَلِيلَةً، فَيَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْغَالِبِ، ثُمَّ أَقَلُّ مَا فِيهَا أَنَّهَا مَظِنَّةٌ لِذَلِكَ وَالْحِكْمَةُ إذَا كَانَتْ خَفِيَّةً، أَوْ مُنْتَشِرَةً عُلِّقَ الْحُكْمُ بِمَظِنَّتِهَا وَكَرَاهَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ تَخْفَى عَنْ صَاحِبِهَا وَلَا تَنْضَبِطُ الْحِيلَةُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ ذَلِكَ مِنْ الَّتِي لَا تَتَضَمَّنُهُ فَيُعَلَّقُ الْحُكْمَ بِمَظِنَّةِ ذَلِكَ وَهُوَ الْحِيلَةُ مُطْلَقًا -، وَإِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا الْوَجْهُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ بِذِكْرِ أَقْسَامِ الْحِيلَةِ وَهُوَ.

الوجه الخامس عشر ليس كل ما يسمى في اللغة حيلة

[الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ لَيْسَ كُلُّ مَا يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ حِيلَةً] الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ حِيلَةً أَوْ يُسَمِّيهِ بَعْضُ النَّاسِ حِيلَةً، أَوْ يُسَمُّونَهُ آلَةً - مِثْلُ الْحِيلَةِ الْمُحَرَّمَةِ - حَرَامًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي تَنْزِيلِهِ: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} [النساء: 98] فَلَوْ احْتَالَ الْمُؤْمِنُ الْمُسْتَضْعَفُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ بَيْنِ الْكُفَّارِ لَكَانَ مَحْمُودًا فِي ذَلِكَ وَلَوْ احْتَالَ مُسْلِمٌ عَلَى هَزِيمَةِ الْكَافِرِ، كَمَا فَعَلَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، أَوْ عَلَى أَخْذِ مَالِهِ مِنْهُمْ، كَمَا فَعَلَ الْحَجَّاجُ بْنُ علاطة وَعَلَى قَتْلِ عَدُوٍّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ كَمَا فَعَلَ النَّفَرُ الَّذِينَ احْتَالُوا عَلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ الْيَهُودِيِّ وَعَلَى قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَكَانَ مَحْمُودًا أَيْضًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْحَرْبُ خَدْعَةٌ» . وَكَانَ إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا وَلِلنَّاسِ فِي التَّلَطُّفِ وَحُسْنِ التَّحَيُّلِ عَلَى حُصُولِ مَا فِيهِ رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ دَفْعِ مَا يَكِيدُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ سَعْيٌ مَشْكُورٌ. وَالْحِيلَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّحَوُّلِ وَهُوَ النَّوْعُ مِنْ الْحَوْلِ كَالْجِلْسَةِ وَالْقِعْدَةِ مِنْ الْجُلُوسِ وَالْقُعُودِ وَالْأَكْلَةِ وَالشِّرْبَةِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمَعْنَاهَا نَوْعٌ مَخْصُوصٌ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالْعَمَلِ الَّذِي هُوَ التَّحَوُّلُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ هَذَا مُقْتَضَاهُ فِي اللُّغَةِ، ثُمَّ غُلِّبَتْ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ الطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ إلَى حُصُولِ الْغَرَضِ وَبِحَيْثُ لَا يُتَفَطَّنُ لَهُ إلَّا بِنَوْعٍ مِنْ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ أَمْرًا حَسَنًا كَانَتْ حِيلَةً حَسَنَةً، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا كَانَتْ قَبِيحَةً، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّونَ مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» . صَارَتْ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ إذَا أُطْلِقَتْ قُصِدَ بِهَا الْحِيَلُ الَّتِي يُسْتَحَلُّ بِهَا الْمَحَارِمُ كَحِيلِ الْيَهُودِ، وَكُلُّ حِيلَةٍ تَضَمَّنَتْ إسْقَاطَ حَقِّ اللَّهِ، أَوْ الْآدَمِيِّ، فَهِيَ تَنْدَرِجُ فِيمَا يُسْتَحَلُّ بِهَا الْمَحَارِمُ، فَإِنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ مِنْ الْمَحَارِمِ. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّى الْحَرْبَ خَدْعَةً؛، ثُمَّ إنَّ الْخِدَاعَ فِي الدِّينِ مُحَرَّمٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَقَالَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا، أَوْ

يَقُولُ خَيْرًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ يَعْنِي الْحَرْبَ وَالْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَحَدِيثَ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ أَنَّهُ كَذِبٌ إلَّا فِي ثَلَاثٍ. وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ سَكَنٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى أَنْ تَتَابَعُوا فِي الْكَذِبِ كَمَا يَتَتَابَعُ الْفَرَاشُ كُلُّ الْكَذِبِ يُكْتَبُ عَلَى ابْنِ آدَمَ إلَّا ثَلَاثَ خِصَالٍ رَجُلٌ كَذَبَ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا وَرَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ امْرَأَيْنِ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا وَرَجُلٌ كَذَبَ فِي خَدْعَةِ حَرْبٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِنَحْوِهِ وَلَفْظُهُ: «لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ» وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَيُرْوَى أَيْضًا، عَنْ ثَوْبَانَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا: «الْكَذِبُ كُلُّهُ إثْمٌ إلَّا مَا يُنْفَعُ بِهِ الْمُسْلِمُ أَوْ دُفِعَ بِهِ عَنْ دِينٍ» . فَلَمْ يُرَخِّصْ فِيمَا تُسَمِّيهِ النَّاسُ كَذِبًا، وَإِنْ كَانَ صِدْقًا فِي الْعِنَايَةِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ قَوْلَهُ لِسَارَةَ أُخْتِي. وَقَوْلَهُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وَقَوْلَهُ إنِّي سَقِيمٌ» وَالثَّلَاثُ مَعَارِيضُ وَمَلَاحَةٌ. فَإِنَّهُ قَصَدَ بِاللَّفْظِ مَا يُطَابِقُهُ فِي عِنَايَتِهِ لَكِنْ لَمَّا أَفْهَمَ الْمُخَاطَبَ مَا لَا يُطَابِقُهُ سُمِّيَ كَذِبًا، ثُمَّ هَذَا الضَّرْبُ قَدْ ضُيِّقَ فِيهِ كَمَا تَرَى. يُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْسِيرَ مَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَكْذِبُ امْرَأَتِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعِدُهَا وَأَقُولُ لَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا جُنَاحَ عَلَيْك» . وَسَيَجِيءُ كَلَامُ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُظْهِرَ قَوْلًا وَفِعْلًا مَقْصُودُهُ بِهِ مَقْصُودٌ صَالِحٌ، وَإِنْ ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ غَيْرَ مَا قَصَدَ بِهِ إذَا كَانَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ مِثْلُ دَفْعِ ظُلْمٍ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ عَنْ مُسْلِمٍ، أَوْ دَفْعِ الْكُفَّارِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ الِاحْتِيَالِ عَلَى إبْطَالِ حِيلَةٍ مُحَرَّمَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ حِيلَةٌ جَائِزَةٌ. وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ مِثْلُ أَنْ يَقْصِدَ بِالْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ وَنَحْوِهَا غَيْرَ مَا شُرِعَتْ الْعُقُودُ لَهُ،

أقسام الحيل

فَيَصِيرَ مُخَادِعًا لِلَّهِ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ خَادَعَ النَّاسَ وَمَقْصُودُهُ حُصُولُ الشَّيْءِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ لَوْلَا تِلْكَ الْحِيلَةُ وَسُقُوطُ الشَّيْءِ الَّذِي يُوجِبُهُ اللَّهُ تَعَالَى لَوْلَا تِلْكَ الْحِيلَةُ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ مَقْصُودُهُ إظْهَارُ دِينِ اللَّهِ وَدَفْعُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَتَأَوَّلَ الْحَالِفُ مِنْ يَمِينِهِ إذَا اسْتَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ، فَإِنَّ يَمِينَك عَلَى مَا يُصَدِّقُك بِهِ صَاحِبُك، وَالنِّيَّةُ لِلْمُسْتَحْلَفِ فِي مِثْلِ هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَنْفَعُهُ التَّأْوِيلُ وِفَاقًا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَأَوَّلَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ الْأَكْثَرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ، بَلْ الِاحْتِيَالُ فِي الْعُقُودِ أَقْبَحُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُخَادَعَ فِيهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنْ خَادَعَ اللَّهَ فَإِنَّمَا خَدَعَ نَفْسَهُ وَمَا يَشْعُرُ، وَلِهَذَا لَا يُبَارَكُ لِأَحَدٍ فِي حِيلَةٍ اسْتَحَلَّ بِهَا شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَتَبَيَّنُ الْحَالُ بِذِكْرِ أَقْسَامِ الْحِيَلِ. [أَقْسَامُ الْحِيَلِ] ِ فَنَقُولُ هِيَ أَقْسَامٌ: أَحَدُهَا: الطُّرُقُ الْخَفِيَّةُ الَّتِي يَتَوَسَّلُ بِهَا إلَى مَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ لَا تَحِلُّ بِمِثْلِ ذَلِكَ السَّبَبِ بِحَالٍ فَمَتَى كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا حَرَامًا فِي نَفْسِهِ فَهِيَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَصَاحِبُهَا يُسَمَّى دَاهِيَةً وَمَكَّارًا وَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الْحِيَلِ عَلَى هَلَاكِ النُّفُوسِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَحِيَلِ الشَّيْطَانِ عَلَى إغْوَاءِ بَنِي آدَمَ وَحِيَلِ الْمُخَادِعِينَ بِالْبَاطِلِ عَلَى إدْحَاضِ حَقٍّ، وَإِظْهَارِ بَاطِلٍ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالْخُصُومَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ فَالتَّوَسُّلُ إلَيْهِ بِالطُّرُقِ الظَّاهِرَةِ مُحَرَّمٌ فَكَيْفَ بِالطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ مِنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ مَا يُقْصَدُ بِهَا حُصُولُ الْمَقْصُودِ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ كَحِيَلِ اللُّصُوصِ وَلَا مَدْخَلَ لِهَذَا فِي الْفِقْهِ. وَمِنْهَا مَا يُقْصَدُ بِهِ مَعَ ذَلِكَ إظْهَارُ الْحِيَلِ فِي الظَّاهِرِ وَهَذِهِ الْحِيَلُ لَا يُظْهِرُ صَاحِبُهَا أَنَّ مَقْصُودَهُ بِهَا شَرٌّ وَقَدْ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَى ذَلِكَ غَالِبًا فَفِي مِثْلِ هَذَا قَدْ تُسَدُّ الذَّرَائِعُ إلَى تِلْكَ الْمَقَاصِدِ الْخَبِيثَةِ وَمِثَالُ هَذَا إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثٍ لَا شَيْءَ لَهُ عِنْدَهُ، فَيَجْعَلُهُ حِيلَةً إلَى الْوَسِيلَةِ لَهُ وَهَذَا مُحَرَّمٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَعْلِيمُهُ هَذَا الْإِقْرَارَ حَرَامٌ وَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَذِبِهِ حَرَامٌ وَالْحُكْمُ بِصِحَّتِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِبُطْلَانِهِ حَرَامٌ فَإِنَّ هَذَا كَاذِبٌ غَرَضُهُ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، فَالْحِيلَةُ نَفْسُهَا مُحَرَّمَةٌ وَالْمَقْصُودُ بِهَا

مُحَرَّمٌ، لَكِنْ لَمَّا أَمِنَ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إقْرَارِ الْمَرِيضِ لِوَارِثٍ: هَلْ هُوَ بَاطِلٌ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ وَرَدًّا لِإِقْرَارِ الَّذِي صَادَفَ حَقَّ الْمُوَرَّثِ فِيمَا هُوَ مُتَّهَمٌ فِيهِ، لِأَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُمْ فَتَرِدُ التُّهْمَةُ كَالشَّاهِدِ عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ هُوَ مَقْبُولٌ إحْسَانًا لِلظَّنِّ بِالْمُقِرِّ عِنْدَ الْخَاتِمَةِ.؟ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ احْتِيَالُ الْمَرْأَةِ عَلَى فَسْخِ نِكَاحِ الزَّوْجِ مَعَ إمْسَاكِهِ بِالْمَعْرُوفِ بِإِنْكَارِهَا لِلْإِذْنِ لِلْوَلِيِّ، أَوْ بِإِسَاءَةِ عِشْرَتِهِ بِمَنْعِ بَعْضِ حُقُوقِهِ أَوْ فِعْلِ مَا يُؤْذِيهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَاحْتِيَالُ الْبَائِعِ عَلَى فَسْخِ الْبَيْعِ بِدَعْوَاهُ أَنَّهُ كَانَ مَحْجُوزًا عَلَيْهِ، أَوْ احْتِيَالُ الْمُشْتَرِي بِدَعْوَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَ الْمَبِيعَ، وَاحْتِيَالُ الْمَرْأَةِ عَلَى مُطَالَبَةِ الرَّجُلِ بِمَالٍ بِإِنْكَارِهَا الْإِنْفَاقَ أَوْ إعْطَاءَ الصَّدَاقِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ فَهَذَا لَا يَسْتَرِيبُ أَحَدٌ فِي أَنَّ هَذَا مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَمِنْ أَقْبَحِ الْمُحَرَّمَاتِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ لَحْمِ خِنْزِيرٍ مَيِّتٍ حَرَامٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا مُحَرَّمَةٌ، لِأَنَّهَا كَذِبٌ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ فِعْلُ مَعْصِيَةٍ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تُرْسِلُ بِهَا إلَى إبْطَالِ حَقٍّ ثَابِتٍ، أَوْ إثْبَاتِ بَاطِلٍ. وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَا هُوَ مِنْ نَفْسِهِ مُبَاحٌ لَكِنْ بِقَصْدِ الْمُحَرَّمِ صَارَ حَرَامًا كَالسَّفَرِ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَصَارَ هَذَا الْقِسْمُ مُشْتَمِلًا عَلَى قِسْمَيْنِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْصِدَ بِالْحِيلَةِ أَخْذَ حَقٍّ، أَوْ دَفْعَ بَاطِلٍ لَكِنْ يَكُونُ الطَّرِيقُ فِي نَفْسِهِ مُحَرَّمًا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ مَجْحُودٌ فَيُقِيمَ شَاهِدَيْنِ لَا يَعْلَمَانِهِ فَيَشْهَدَانِ بِهِ فَهَذَا مُحَرَّمٌ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ، لِأَنَّ ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ شَهِدَا بِالزُّورِ حَيْثُ شَهِدَا بِمَا لَا يَعْلَمَانِهِ وَهُوَ حَمَلَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ دَيْنٌ وَلَهُ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ فَجَحَدَ الْوَدِيعَةَ وَحَلَفَ مَا أَوْدَعَنِي شَيْئًا، أَوْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ لَا بَيِّنَةَ بِهِ وَدَيْنٌ آخَرُ بِهِ بَيِّنَةٌ لَكِنْ قَدْ أَقْضَاهُ فَيَدَّعِي هَذَا الدَّيْنَ وَيُقِيمُ بِهِ الْبَيِّنَةَ وَيُنْكِرُ الِاقْتِضَاءَ وَيَتَأَوَّلُ: إنِّي إنَّمَا أَسْتَوْفِي ذَلِكَ الدَّيْنَ الْأَوَّلَ. فَهَذَا حَرَامٌ كُلُّهُ، لِأَنَّهَا إنَّمَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِكَذِبٍ مِنْهُ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ لَا سِيَّمَا إنْ حَلَفَ. وَالْكَذِبُ حَرَامٌ كُلُّهُ. وَهَذَا قَدْ يَدْخُلُ فِيهِ بَعْضُ مَنْ يُفْتِي بِالْحِيلَةِ لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ مِنْهُمْ لَا يُحِلُّونَهُ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَقْصِدَ حِلَّ مَا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ وَقَدْ أَبَاحَهُ عَلَى سَبِيلِ الضِّمْنِ وَالتَّبَعِ إذَا وَجَدَ بَعْضَ الْأَسْبَابِ أَوْ سُقُوطَ مَا أَوْجَبَهُ وَقَدْ أَسْقَطَهُ عَلَى سَبِيلِ الضِّمْنِ وَالتَّبَعِ

إذَا وَجَدَ بَعْضَ الْأَسْبَابِ فَيُرِيدُ الْمُحْتَالُ أَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ السَّبَبَ قَاصِدًا بِهِ ذَلِكَ الْحِيلَةَ وَالسُّقُوطَ - وَهَذَا حَرَامٌ مِنْ وَجْهَيْنِ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَقْصُودَهُ حِلُّ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الشَّارِعُ بِقَصْدِ اسْتِحْلَالِهِ، أَوْ سُقُوطُ مَا لَمْ يَأْذَنْ الشَّارِعُ بِقَصْدِ إسْقَاطِهِ. وَالثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ الِاسْتِحْلَالَ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ مَقْصُودًا يُجَامِعُ حَقِيقَتَهُ بَلْ قَصَدَ بِهِ مَقْصُودًا يُنَافِي حَقِيقَتَهُ وَمَقْصُودَهُ الْأَصْلِيَّ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ مَقْصُودَهُ الْأَصْلِيَّ بَلْ قَصَدَ بِهِ غَيْرَهُ. فَلَا يَحِلُّ بِحَالٍ. وَلَا يَصِحُّ إنْ كَانَ مِمَّنْ يُمْكِنُ إبْطَالُهُ. وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي كَثُرَ فِيهِ تَصَرُّفُ الْمُحْتَالِينَ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْفَتْوَى وَهُوَ أَكْثَرُ مَا قَصَدْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فَإِنَّهُ قَدْ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ عَلَى الْمُحْتَالِينَ فَقَالُوا: الرَّجُلُ إذَا قَصَدَ التَّحْلِيلَ مَثَلًا لَمْ يَقْصِدْ مُحَرَّمًا فَإِنَّ عَوْدَةَ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا بَعْدَ زَوَاجٍ حَلَالٍ. وَالنِّكَاحُ الَّذِي يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى ذَلِكَ حَلَالٌ بِخِلَافِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ - وَهَذَا جَهْلٌ فَإِنَّ عَوْدَةَ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا إمَّا هُوَ حَلَالٌ إذَا وُجِدَ النِّكَاحُ الَّذِي هُوَ النِّكَاحُ، وَالنِّكَاحُ إنَّمَا هُوَ مُبَاحٌ إذَا قَصَدَ بِهِ مَا يُقْصَدُ بِالنِّكَاحِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ النِّكَاحِ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا قَصَدَ مَا هُوَ مَقْصُودُهُ، أَوْ قَصَدَ نَفْسَ وُجُودِهِ أَوْ وُجُودِ بَعْضِ لَوَازِمِهِ وَتَوَابِعِهِ وَالنِّكَاحُ لَيْسَ مَقْصُودُهُ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي الْعُرْفِ الطَّلَاقَ الْمُوجِبَ لِتَحْلِيلِ الْمُحَرَّمَةِ. فَإِنَّ الطَّلَاقَ رَفْعُ النِّكَاحِ، وَإِزَالَتُهُ وَقَصْدُ إيجَادِ الشَّيْءِ لِإِعْدَامِهِ لِغَيْرِ غَرَضٍ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ وُجُودِهِ مُحَالٌ فَالْحِلُّ يَتْبَعُ الطَّلَاقَ، وَالطَّلَاقُ يَتْبَعُ النِّكَاحَ وَالنِّكَاحُ يَتْبَعُ حَقِيقَتَهُ الَّتِي شُرِعَ النِّكَاحُ وَجُعِلَ مِنْ أَجْلِهَا، فَإِذَا وَقَعَ الْأَمْرُ هَكَذَا حَصَلَ الْحِلُّ، أَمَّا إذَا قَصَدَ بِالنِّكَاحِ التَّحْلِيلَ صَارَ النِّكَاحُ تَابِعًا لَهُ وَالشَّارِعُ قَدْ جَعَلَ الْحِلَّ الْمُطْلَقَ تَابِعًا لِلطَّلَاقِ الثَّانِي بَعْدَ النِّكَاحِ فَيَصِيرُ كُلٌّ مِنْهُمَا فَرْعًا لِلْآخَرِ وَتَبَعًا لَهُ فَيَصِيرُ الثَّانِي فَرْعَ نَفْسِهِ وَأَصْلَ أَصْلِهِ بِمَنْزِلَةِ تَعْلِيلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ وَهَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إذَا كَانَ إنَّمَا يَحْصُلُ تَبَعًا لِلْآخَرِ وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَإِذَا كَانَ إنَّمَا يُقْصَدُ لِأَجْلِ الْآخَرِ وَجَبَ أَنْ لَا يُقْصَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَإِذَا لَمْ يُقْصَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَانَ وُجُودُ مَا وُجِدَ مِنْهُمَا عَبَثًا وَالشَّارِعُ لَا يَشْرَعُ الْعَبَثَ، ثُمَّ فِيهِ إرَادَةُ وُجُودِ الشَّيْءِ وَعَدَمِهِ، وَذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ فَلَا يُرَادُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَيَصِيرُ الْعَقْدُ أَيْضًا عَبَثًا وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحْتَالِينَ أَنْ تَصِيرَ الْعُقُودُ الشَّرْعِيَّةُ عَبَثًا وَهَذَا مِنْ أَسْرَارِ قَاعِدَةِ الْحِيَلِ فَلْيُتَفَطَّنْ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَقَاصِدُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ هِيَ عِلَلُهَا الَّتِي هِيَ غَايَاتُهَا وَنِهَايَاتُهَا

وَهَذِهِ الْعِلَلُ الَّتِي هِيَ الْغَايَاتُ هِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْقَصْدِ مُتَأَخِّرَةٌ فِي الْوُجُودِ وَالْحُصُولِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: أَوَّلُ الْفِكْرَةِ آخِرُ الْعَمَلِ وَأَوَّلُ الْبُغْيَةِ آخِرُ الدَّرَكِ وَالْعِلَلُ الَّتِي هِيَ الْغَايَاتُ وَالْعَوَاقِبُ، وَإِنْ كَانَ وُجُودُهَا بِفِعْلِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ وُجُودِهَا وَسَبَبُ كَوْنِهَا فَبِتَصَوُّرِهَا وَقَصْدِهَا صَارَ الْفَاعِلُ فَاعِلًا فَهِيَ الْمُحَقِّقَةُ لِكَوْنِ الْفَاعِلِ فَاعِلًا وَالْمُقَوِّمَةُ لِفِعْلِهِ وَهِيَ عِلَّةٌ لِلْفِعْلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْفِعْلُ عِلَّةٌ لَهَا مِنْ جِهَةِ الْوُجُودِ كَالنِّكَاحِ مَثَلًا فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لِحِلِّ الْمُتْعَةِ، وَحِلُّ الْمُتْعَةِ عِلَّةٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ أَنْ يَقْصِدَهَا فَإِنَّمَا حَصَلَ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّكَاحِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ النِّكَاحُ بِقَصْدِ النَّاكِحِ حِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ فَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ حَقِيقَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْقَصْدِ أَعْنِي أَنَّهُ بِحَيْثُ يَقْصِدُهُ الْمُسْلِمُ، وَالْقَصْدُ مُوجِبٌ لِلْفِعْلِ وَالْفِعْلُ مُوجِبٌ لِوُجُودِ الْحِلِّ فَصَارَتْ الْعَاقِبَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعْلُومَةٌ مَقْصُودَةٌ عِلَّةً وَمِنْ حَيْثُ هِيَ مَوْجُودَةٌ مَعْلُولَةً، وَشَرِكَهَا فِي أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ مَعْلُولٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَفِي الْآخَرِ عِلَّةٌ فِي نَفْسِ الْوُجُودِ. وَمِثَالُ الْأَوَّلِ " لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ " الَّتِي تُسَمَّى لَامَ الْعَاقِبَةِ. وَمِثَالُ الثَّانِي قَعَدَ عَنْ الْحَرْبِ جُبْنًا وَمَنَعَ الْمَالَ بُخْلًا وَسَائِرُ الْعِلَلِ الْفَاعِلَةِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ حِلُّ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا عِلَّةٌ لِلنِّكَاحِ وَمَعْلُولٌ لَهُ، وَهُوَ تَابِعٌ مِنْ وَجْهٍ وَمَتْبُوعٌ مِنْ آخَرَ فَكَذَلِكَ حِلُّ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا قَدْ يَكُونُ تَابِعًا وَمَتْبُوعًا مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَحِلُّهَا تَابِعٌ لِوُجُودِ الطَّلَاقِ بَعْدَ النِّكَاحِ، وَمَعْلُولٌ لَهُ وُجُودًا وَهُوَ مَتْبُوعٌ، وَعِلَّةٌ لَهُ قَصْدًا، وَإِرَادَةً قَدْ يَفْعَلُ الرَّجُلُ الشَّيْءَ لَا لِمَقَاصِدِهِ الْأَصْلِيَّةِ، بَلْ الْمَقَاصِدُ تَابِعَةٌ لَهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ حَسَنًا كَمَنْ يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ لِمُصَاهَرَةِ أَهْلِهَا كَفِعْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا خَطَبَ أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَةَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَوْ لَأَنْ تَخْدُمَهُ فِي مَنْزِلِهِ، أَوْ لِتَقُومَ عَلَى بَنَاتٍ وَأَخَوَاتٍ لَهُ كَفِعْلِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لَمَّا عَدَلَ عَنْ نِكَاحِ الْبِكْرِ إلَى الثَّيِّبِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ التَّوَابِعُ مِنْ اللَّوَازِمِ الشَّرْعِيَّةِ بَلْ مِنْ اللَّوَازِمِ الْعُرْفِيَّةِ، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ حَسَنًا كَانَ الْفِعْلُ حَسَنًا وَحُصُولُ الْفُرْقَةِ الْمُحَرَّمَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَدْ يَكُونُ فِيهَا فَسَادٌ لِحَالَيْهِمَا وَرُبَّمَا تَعَدَّى الْفَسَادُ إلَى أَوْلَادِهِمَا أَوْ أَقَارِبِهِمَا، فَإِنَّ الطَّلَاقَ هَلَاكُ الْمَرْأَةِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مِمَّنْ طَالَتْ صُحْبَتُهَا وَحُمِدَتْ عِشْرَتُهَا، وَقَوِيَتْ مَوَدَّتُهَا وَبَيْنَهُمَا أَطْفَالٌ يَضِيعُونَ بِالطَّلَاقِ، وَبِهَا مِنْ الْوَجْدِ وَالصَّبَابَةِ مِثْلُ مَا بِهِ، فَإِنَّ قَصْدَ تَرَاجُعِهِمَا وَالتَّسَبُّبَ فِي ذَلِكَ عَمَلٌ صَالِحٌ، فَإِذَا قَصَدَهُ الْمُحَلِّلُ وَلَمْ يُشْعِرْهُمَا لَمْ يَقْصِدْ إلَّا خَيْرًا، وَرُبَّمَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ فَهَذِهِ شُبْهَةُ مَنْ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ.

قُلْنَا: لَا نُنْكِرُ أَنَّ عَوَاقِبَ الْأَفْعَالِ تَكُونُ تَابِعَةً مَتْبُوعَةً مِنْ وَجْهَيْنِ، وَلَكِنَّ إدْخَالَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنَحْوِهِ تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ غَلَطٌ مُنْكَرٌ، فَإِنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ نَبَّهْنَا عَلَيْهِمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ إنَّمَا أُرِيدَ لِأَجْلِ الْآخَرِ لَا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُرَادٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُرَادًا فِي نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ الْآخَرُ مُرَادًا لِأَجْلِهِ فَلَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُرَادًا فَيَصِيرُ عَبَثًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ إرَادَةِ وُجُودِ الشَّيْءِ وَعَدَمِهِ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ ضِدَّيْنِ فَلَا يَكُونُ إرَادَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْجُودَةً فَيَصِيرُ الْفِعْلُ أَيْضًا عَبَثًا. بَيَانُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: أَنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا، أَوْ أَمَرَ بِشَيْءٍ لِأَجْلِ شَيْءٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مَقْصُودًا لَهُ بِحَيْثُ يُرِيدُ وُجُودَهُ لِمَصْلَحَةٍ تَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهِ وَلَا يُرِيدُ عَدَمَهُ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَوَّلُ طَرِيقًا إلَى حُصُولِهِ أَرَادَهُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حُصُولُهُ إلَّا بِتِلْكَ الطَّرِيقِ جَعَلَهَا مَقْصُودَةً لِأَجْلِهِ فَإِذَا كَانَ قَدْ أَعْدَمَ الشَّيْءَ وَأَزَالَهُ لَمْ يَجْعَلْ إلَى وُجُودِهِ طَرِيقًا مَحْضًا بِحَيْثُ تَكُونُ مُفْضِيَةً إلَيْهِ يُمْكِنُ الْقَاصِدَ لِوُجُودِهِ سُلُوكُهَا بَلْ عَلَّقَ وُجُودَهُ بِوُجُودِ أَمْرٍ آخَرَ لَهُ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةٌ وَمَقْصُودُهُ غَيْرُ وُجُودِ ذَلِكَ الْمُعَلَّقِ بِهِ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لِوُجُودِ الشَّيْءِ الْمُعَلَّقِ فِي نَفْسِهِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، بَلْ يَكُونُ قَاصِدًا لَهُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي كَمَا كَانَ فِي الْأَوَّلِ قَاصِدًا لِلْوَسِيلَةِ، فَفِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْغَايَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ لِلْأَوَّلِ دُونَ الْوَسِيلَةِ، وَفِي الثَّانِي لَيْسَتْ الْغَايَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ عَدَمُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ عَدَمُهَا إلَى أَنْ تُوجَدَ الْوَسِيلَةُ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ مَقْصُودَةً لَنَصَبَ لَهَا طَرِيقًا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَيْهَا تُفْضِي إلَيْهَا غَالِبًا. إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَنَقُولُ: الشَّارِعُ لَمَّا حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، ثُمَّ يُفَارِقَهَا، لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ وُجُودَ الْحِلِّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْصِبْ شَيْئًا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا حَيْثُ عَلَّقَ وُجُودَ الْحِلِّ بِأَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، ثُمَّ يُفَارِقَهَا؛ وَهَذِهِ الْغَايَةُ الَّتِي هِيَ النِّكَاحُ يُوجَدُ الطَّلَاقُ مَعَهَا تَارَةً، وَتَارَاتٍ كَثِيرَةً لَا يُوجَدُ وَهِيَ نَفْسُهَا تُوجَدُ تَارَةً وَتَارَاتٍ لَا تُوجَدُ فَيُعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ نَفَى الْحِلَّ إمَّا عُقُوبَةً عَلَى الطَّلَاقِ، أَوْ امْتِحَانًا لِلْعِبَادِ، أَوْ لِمَا شَاءَ سُبْحَانَهُ، وَلَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ وُجُودَهُ إذَا أَرَادَهُ الْمُكَلَّفُ نَصَبَ لَهُ شَيْئًا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ وُجُودَ الْمِلْكِ إذَا أَرَادَهُ الْمُكَلَّفُ نَصَبَ لَهُ سَبَبًا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ وُجُودَ الْمِلْكِ إذَا أَرَادَهُ الْمُكَلَّفُ نَصَبَ لَهُ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إلَيْهِ مِنْ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ.

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ حِلَّ الْبُضْعِ لَمَّا أَرَادَهُ الْعَبْدُ بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ الْبَائِنَتَيْنِ، أَوْ بِدُونِ الطَّلَاقِ جَعَلَ لَهُ سَبَبًا يُفْضِي إلَيْهِ وَهُوَ تَنَاكُحُ الزَّوْجَيْنِ فَإِنَّهُمَا إذَا أَرَادَا ذَلِكَ فَعَلَاهُ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ، {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] . فَإِنَّهُ لَمَّا قَصَدَ وُجُودَ الْحِلِّ لِلْعَبْدِ إذَا أَرَادَهُ عَلَّقَهُ بِالتَّطَهُّرِ الَّذِي يَتَيَسَّرُ غَالِبًا وَجَعَلَ التَّطَهُّرَ طَرِيقًا مُوصِلًا إلَى حُصُولِ الْحِلِّ بِحَيْثُ يُفْعَلُ لِأَجْلِهِ فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَقْصِدُ وُجُودَهُ لَكِنْ بِشَرْطِ وُجُودِ غَيْرِهِ وَبَيْنَ مَا يَقْصِدُ عَدَمَهُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُوجَدَ غَيْرُهُ. فَالْأَوَّلُ كَرَجُلٍ يُرِيدُ أَنْ يُكْرِمَ غَيْرَهُ لَكِنْ لَا تَسْمَحُ نَفْسُهُ إلَّا إذَا ابْتَدَأَهُ بِذَلِكَ. وَالثَّانِي كَرَجُلٍ يُرِيدُ أَنْ لَا يُكْرِمَ رَجُلًا لَكِنْ أَكْرَمَهُ فَاضْطُرَّ إلَى مُكَافَأَتِهِ فَالْأَوَّلُ يَكُونُ مَصْلَحَةً لَكِنَّ وُجُودَهَا إنَّمَا يَتِمُّ بِأَسْبَابٍ مُتَقَدِّمَةٍ، وَالثَّانِي يَكُونُ مَفْسَدَةً لَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابٍ تَصِيرُ مَصْلَحَةً فَمِنْ الْأَوَّلِ يُتَلَقَّى فِقْهُ أَسْبَابِ الْحُكْمِ وَشُرُوطِهِ فَإِنَّهَا مُقْتَضِيَةٌ وَمُكَمِّلَةٌ لِمَصْلَحَةِ الْحُكْمِ وَمِنْ الثَّانِي يُتَلَقَّى حُكْمُ الْمَوَانِعِ وَالْمُعَارَضَاتِ الَّتِي يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا. وَمِثَالُ الْأَوَّلِ أَسْبَابُ حِلِّ الْمَالِ وَالْوَطْءِ وَاللَّحْمِ فَإِنَّ الْمَالَ وَالْبُضْعَ وَاللَّحْمَ حَرَامٌ حَتَّى تُوجَدَ هَذِهِ الْأَسْبَابُ وَهِيَ مَقْصُودَةُ الْوُجُودِ، لِأَنَّهَا مِنْ مَصْلَحَةِ الْخَلْقِ. وَمِثَالُ الثَّانِي أَسْبَابُ حِلِّ الْعُقُوبَاتِ مِنْ الْقَتْلِ وَالْجَلْدِ وَالْقَطْعِ فَإِنَّ الدِّمَاءَ وَالْمُبَاشَرَةَ حَرَامٌ حَتَّى تُوجَدَ الْجِنَايَاتُ وَهِيَ مَقْصُودَةُ الْعَدَمِ، لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ عَدَمُهَا. وَمِنْ الثَّانِي تَحْرِيمُ الْخَبَائِثِ حَتَّى تُوجَدَ الضَّرُورَةُ وَتَحْرِيمُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ اقْتِطَاعًا مِنْ حِلِّ الْأَكْلِ وَالْوَطْءِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي هَذِهِ أُمُورٌ تَقْتَضِي عَدَمَهَا إلَّا إذَا عَارَضَهَا مَا هُوَ أَقْوَى فِي اقْتِضَاءِ الْوُجُودِ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَا يَقْصِدُ حِلَّ الْعُقُوبَاتِ وَحِلَّ الْمَيْتَةِ وَوَطْءِ الْأَمَةِ بِالنِّكَاحِ حَتَّى لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: أَنَا أُقِيمُ بِمَكَانٍ لَا طَعَامَ فِيهِ لِتُبَاحَ لِي الْمَيْتَةُ، أَوْ أُخْرِجُ مَالِي وَأَتَنَاوَلُ مَا يُثِيرُ شَهْوَتِي لِيَحِلَّ لِي نِكَاحُ الْإِمَاءِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ لَهُ ذَلِكَ وَكَانَ عَاصِيًا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَوْ قَالَ: أَنَا

أَتَزَوَّجُ لِيَحِلَّ لِي الْوَطْءُ، أَوْ أَذْبَحُ الشَّاةَ لِيَحِلَّ لِي اللَّحْمُ لَكَانَ قَدْ فَعَلَ مُبَاحًا، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْقِسْمَيْنِ حَرَامًا إلَّا عِنْدَ وُجُودِ ذَلِكَ السَّبَبِ. وَمِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي أَنْ يَقُولَ: أُسَافِرُ لِأَقْصُرَ وَأُفْطِرَ، أَوْ أَعْدَمُ الْمَاءَ لِأَتَيَمَّمَ. وَمِنْ الْأَوَّلِ أَنْ يَقُولَ: أُرِيدُ الْإِسْرَاعَ بِالْعُمْرَةِ لِأَتَحَلَّلَ مِنْهَا لِتَحِلَّ لِي مَحْظُورَاتُ الْإِحْرَامِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ التَّحَلُّلَ وَسِيلَةً إلَى فِعْلِهِ صَارَ مَقْصُودُهُ الْوُجُودَ إذَا أَرَادَهُ. وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ لَيْسَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُبِيحَ لَيْسَ هُوَ مَنْصُوبًا لِحُصُولِ هَذَا الْحِلِّ أَعْنِي حِلَّهَا لِلْأَوَّلِ بَلْ لِحُصُولِ مَا يُنَافِيهِ بَلْ فِي نِكَاحِ الْأَوَّلِ لَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مَفْسَدَةٌ اقْتَضَتْ الْحُرْمَةَ فَإِذَا نَكَحَهَا زَوْجٌ ثَانٍ زَالَتْ الْمَفْسَدَةُ فَيَعُودُ الْحِلُّ وَالشَّارِعُ لَمْ يَشْرَعْ نِكَاحَ الثَّانِي لِأَجْلِ أَنْ تَزُولَ الْمَفْسَدَةُ فَلَا يَكُونُ قَاصِدًا لِزَوَالِهَا فَلَا يَكُونُ حِلُّهَا لِلْأَوَّلِ مَقْصُودًا لِلشَّارِعِ إذَا أَرَادَهُ الْمُطَلِّقُ وَلَا إذَا لَمْ يُرِدْهُ لَكِنَّ نِكَاحَ الثَّانِي يَقْتَضِي زَوَالَ الْمَفْسَدَةِ. إذَا تَبَيَّنَ هَذَا: فَإِذَا نَكَحَهَا لِيُحِلَّهَا لَمْ يَقْصِدْ النِّكَاحَ وَإِنَّمَا قَصَدَ أَثَرَ زَوَالِ النِّكَاحِ فَيَكُونُ هَذَا مَقْصُودَهُ وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَمْ يَقْصِدْهُ الشَّارِعُ ابْتِدَاءً إنَّمَا أَثْبَتَهُ عِنْدَ زَوَالِ النِّكَاحِ الثَّانِي كَمَا تَقَرَّرَ فَلَا يَكُونُ النِّكَاحُ مَقْصُودًا لَهُ بَلْ الْحِلُّ لِلْمُطَلِّقِ هُوَ مَقْصُودُهُ وَلَيْسَ هَذَا الْحِلُّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ بَلْ هُوَ تَابِعٌ لِلنِّكَاحِ الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ بِطَلَاقٍ فَلَا تَتَّفِقُ إرَادَةُ الشَّارِعِ وَالْمُحَلِّلِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ. أَوْ نِكَاحُهُ إنَّمَا أَرَادَهُ لِأَجْلِ الْحِلِّ لِلْمُطَلِّقِ وَالشَّارِعُ إنَّمَا أَرَادَ ثُبُوتَ الْحِلِّ مِنْ أَجْلِ النِّكَاحِ الْمُتَعَقَّبِ بِالطَّلَاقِ فَلَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُرَادًا لَهُمَا فَيَكُونُ عَبَثًا مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ وَالْعَاقِدِ، لِأَنَّ الْإِرَادَةَ الَّتِي لَا تُطَابِقُ مَقْصُودَ الشَّارِعِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ. وَهَكَذَا الْخُلْعُ لِحِلِّ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْخُلْعَ إنَّمَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ مُوجِبًا لِلْبَيْنُونَةِ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُ الْمَرْأَةِ مِنْ الِافْتِدَاءِ مِنْ زَوْجِهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مَقْصُودَهَا إذَا قَصَدَتْ أَنْ تُفَارِقَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ فَإِذَا حَصَلَ هَذَا، ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَقَعَ وَلَيْسَتْ هِيَ زَوْجَةً فَلَا يَحْنَثُ فَكَانَ هَذَا تَبَعًا لِحُصُولِ الْبَيْنُونَةِ الَّذِي هُوَ تَبَعٌ لِقَصْدِ الْبَيْنُونَةِ فَإِذَا خَالَعَ امْرَأَتَهُ لِيَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمَا الْبَيْنُونَةَ بَلْ حِلَّ الْيَمِينِ، وَحِلُّ الْيَمِينِ إنَّمَا جَاءَ تَبَعًا لِحُصُولِ الْبَيْنُونَةِ لَا مَقْصُودًا بِهِ فَتَصِيرُ الْبَيْنُونَةُ لِأَجْلِ حِلِّ الْيَمِينِ وَحِلُّ الْيَمِينِ لِأَجْلِ الْبَيْنُونَةِ فَلَا يَصِيرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَقْصُودًا فَلَا يُشْرَعُ عَقْدٌ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي

نَفْسِهِ وَلَا مَقْصُودًا لِمَا هُوَ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ مِنْ الشَّارِعِ وَالْعَاقِدِ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ عَبَثٌ وَتَفَاصِيلُ هَذَا الْكَلَامِ فِيهَا طُولٌ لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ. وَأَمَّا بَيَانُ الْوَجْهِ الثَّانِي فَإِنَّ الْمُحَلِّلَ إنَّمَا يَقْصِدُ أَنْ يَنْكِحَهَا لِيُطَلِّقَهَا وَكَذَلِكَ الْمُخْتَلِعَةُ إنَّمَا تَخْتَلِعُ، لِأَنَّ تَرَاجُعَ الْعَقْدِ لَا يُقْصَدُ بِهِ ضِدُّهُ وَنَقِيضُهُ فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ مِمَّا يُقْصَدُ فِي النِّكَاحِ أَبَدًا كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ لَا يُعْقَدُ لِلْفَسْخِ قَطُّ وَالْهِبَةُ لَا تُعْقَدُ لِلرُّجُوعِ فِيهَا قَطُّ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُحْرِمَ مُنْفَرِدًا، أَوْ قَارِنًا لِقَصْدِ فَسْخِ الْحَجِّ وَالتَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَإِنَّ الْفَسْخَ إعْدَامُ الْعَقْدِ وَرَفْعُهُ فَإِذَا عَقَدَ الْعَقْدَ لَأَنْ يَفْسَخَهُ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ عَدَمَ الْعَقْدِ وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ عَدَمَهُ لَمْ يَقْصِدْ وُجُودَهُ فَلَا يَكُونُ الْعَقْدُ مَقْصُودًا أَصْلًا فَيَكُونُ عَبَثًا إذْ الْعُقُودُ إنَّمَا تُعْقَدُ لِفَوَائِدِهَا وَثَمَرَاتِهَا وَالْفُسُوخُ رَفْعٌ لِلثَّمَرَاتِ وَالْفَوَائِدِ فَلَا يَقْصِدُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا، فَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ التَّكَلُّمَ بِصُورَةِ الْعَقْدِ وَالْفَسْخِ وَلَمْ يَقْصِدْ حُكْمَ الْعَقْدِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْآثَارِ تَسْمِيَتُهُ مُخَادِعًا وَمُدَلِّسًا. وَلَا يُقَالُ: مَقْصُودُهُ مَا يَحْصُلُ بَعْدَ الْفَسْخِ مِنْ الْحِلِّ لِلْمُطَلِّقِ لِأَنَّ الْحِلَّ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا ثَبَتَ الْعَقْدُ ثُمَّ انْفَسَخَ وَمَقْصُودُ الْعَقْدِ حُصُولُ مُوجَبِهِ وَمَقْصُودُ الْفَسْخِ زَوَالُ مُوجَبِ الْعَقْدِ فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ فَلَا عَقْدَ فَلَا فَسْخَ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَابِعُهُ وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَلِهَذَا يُسَمَّى مِثْلُ هَذَا مُتَلَاعِبًا مُسْتَهْزِئًا بِآيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ الْمَقَاصِدِ الْفَرْعِيَّةِ فِي النِّكَاحِ مِثْلِ مُصَاهَرَةِ الْأَوَّلِ وَتَرْبِيَةِ الْأَخَوَاتِ فَإِنَّ تِلْكَ الْمَقَاصِدَ لَا تُنَافِي النِّكَاحَ بَلْ تَسْتَدْعِي بَقَاءَهُ وَدَوَامَهُ فَهِيَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِحُصُولِ مُوجَبِ الْعَقْدِ وَهَكَذَا كُلُّ مَا يُذْكَرُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ الشَّيْءَ يُفْعَلُ لِأَغْلَبِ فَوَائِدِهِ وَلَا تُزَالُ فَوَائِدُهُ بِحَيْثُ لَا تَكُونُ تِلْكَ الْمَقَاصِدُ مُبَيِّنَةً لِحَقِيقَتِهِ بَلْ مُجَامِعَةً لَهَا مُسْتَلْزِمَةً إيَّاهَا أَمَّا أَنْ تُفْعَلَ لِرَفْعِ حَقِيقَتِهِ وَتُوجَدَ لِمُجَرَّدِ أَنْ تُعْدَمَ فَهَذَا هُوَ الْبَاطِلُ وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ شِرَاءِ الْعَبْدِ لِيُعْتِقَهُ، أَوْ الطَّعَامِ لِيُتْلِفَهُ فَإِنَّ قَصْدَ الْعِتْقِ وَالْإِتْلَافِ لَا يُنَافِي قَصْدَ الْبَيْعِ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ: إنَّ هَذَا رَفْعٌ لِلْعَقْدِ وَفَسْخٌ لَهُ، وَإِنَّمَا يُنَافِي بَقَاءَ الْمِلْكِ وَدَوَامَهُ وَالْأَمْوَالُ لَا يُقْصَدُ بِمِلْكِهَا بَقَاؤُهَا فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِأَعْيَانِهَا وَمَنَافِعِهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِإِزَالَةِ الْمَالِيَّةِ عَنْ الشَّيْءِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ، فَإِنَّهَا تُقْصَدُ لِلِانْتِفَاعِ بِذَاتِهَا كَالْأَكْلِ، أَوْ بِبَذْلِهَا الدِّينِيِّ أَوْ الدُّنْيَوِيِّ كَالْبَيْعِ وَالْعِتْقِ، أَوْ بِمَنْفَعَتِهَا كَالسَّكَنِ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا تُوجِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ

وَالْإِيضَاحَ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا فَلِهَذَا امْتَنَعَ أَنْ يَقْصِدَ بِمِلْكِهَا الِانْتِفَاعَ بِتَلَفِ عَيْنِهَا، أَوْ بِبَذْلِ الْعَيْنِ، وَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَصْدُ الْفَسْخِ فِي الْعَقْدِ مُحَالٌ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ لَمْ يَبْقَ إلَّا قَصْدُ الِانْتِفَاعِ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ لَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا لَا يَخْفَى. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ قَصْدَ تَرَاجُعِهِمَا قَصْدٌ صَالِحٌ لِمَا فِيهِ الْمَنْفَعَةُ. قُلْنَا: هَذِهِ مُنَاسَبَةٌ شَهِدَ لَهَا الشَّارِعُ بِالْإِلْغَاءِ وَالْإِهْدَارِ وَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ وَالتَّعْلِيلِ هُوَ الَّذِي يُحِلُّ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُ الْحَلَالَ، وَالْمَصَالِحُ وَالْمُنَاسَبَاتُ الَّتِي جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِمَا يُخَالِفُهَا إذَا اُعْتُبِرَتْ فَهِيَ مُرَاغِمَةٌ بَيِّنَةٌ لِلشَّارِعِ مَصْدَرُهَا عَدَمُ مُلَاحَظَةِ حِكْمَةِ التَّحْرِيمِ، وَمَوْرِدُهَا عَدَمُ مُقَابَلَتِهِ بِالرِّضَى وَالتَّسْلِيمِ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا تَكُونُ مَصَالِحَ، وَإِنْ ظَنَّهَا مَصَالِحَ، وَلَا تَكُونُ مُنَاسِبَةً لِلْحُكْمِ، وَإِنْ اعْتَقَدَهَا مُعْتَقِدٌ مُنَاسِبَةً بَلْ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ خِلَافَ مَا رَآهُ هَذَا الْقَاصِرُ فِي نَظَرِهِ وَلِهَذَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا ظَهَرَ لَهُ حُسْنُهُ وَمَا لَمْ يَظْهَرْ، وَتَحْكِيمُ عِلْمِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ عَلَى عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ فَإِنَّ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَصَلَاحَ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ الشَّارِعَ الْحَكِيمَ قَدْ حَرَّمَ هَذِهِ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَعَلِمَ أَنَّ النِّكَاحَ الْحَسَنَ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي حِلِّهِ هُوَ نِكَاحُ الرَّغْبَةِ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ الشَّارِعَ لَيْسَ مُتَشَوِّقًا إلَى رَدِّ هَذِهِ إلَى زَوْجِهَا إلَّا أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِقَضَاءٍ يُيَسِّرُهُ لَيْسَ لِلْخَلْقِ فِيهِ صُنْعٌ وَقَصْدٌ لِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مَعْنًى مَطْلُوبًا لَسَنَّهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - وَنَدَبَ إلَيْهِ، كَمَا نَدَبَ إلَى الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَكَمَا كَرِهَ الِاخْتِلَاعَ وَالطَّلَاقَ الْمُوجِبَ لِزَوَالِ الْأُلْفَةِ، وَقَدْ قَالَ مَنْ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إلَى الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ وَلَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ يُبَاعِدُكُمْ عَنْ النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ تَرَكَتْكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ» . وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَثْرَةَ وُقُوعِ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ فَهَلَّا نَدَبَ إلَى التَّحْلِيلِ وَحَضَّ عَلَيْهِ كَمَا حَضَّ عَلَى الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَلَمَا زَجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ عَنْ ذَلِكَ وَلَعَنُوا فَاعِلَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ نَوْعٍ وَلَا نَدْبٍ إلَى شَيْءٍ مِنْ

أَنْوَاعِهِ -، ثُمَّ لَوْ كَانَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ تَيْسِيرَ عَوْدِهَا إلَى الْأَوَّلِ لَمْ يُحَرِّمْهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يُحْوِجْهُ إلَى هَذَا الْعَنَاءِ فَإِنَّ الدَّفْعَ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ - وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ فَالْمُطَلِّقُ هُوَ الَّذِي جَلَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا سَأَلُوا عَنْ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا فَقَالُوا: لَوْ اتَّقَى اللَّهَ لَجَعَلَ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَمَنْ فَعَلَ فِعْلًا جَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِهِ ضَرَرًا مِثْلَ قَتْلٍ، أَوْ قَذْفٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ عُقُوبَةً مُطْلَقَةً، أَوْ عُقُوبَةً مَحْدُودَةً لَمْ يُمْكِنْ الِاحْتِيَالُ فِي إسْقَاطِ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ وَلَوْ فَعَلَ مَا عَلَيْهِ فِيهِ كَفَّارَةٌ لَمْ يَكُنْ إلَى رَفْعِهَا سَبِيلٌ، وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ وَبِهِ شَبَقٌ وَهُوَ لَا يَجِدُ رَقَبَةً لَمْ يُمْكِنْ وَطْؤُهَا حَتَّى يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ، فَإِنَّمَا يَسْعَى الْإِنْسَانُ فِي مَصْلَحَةِ أَخِيهِ بِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَأَبَاحَهُ وَأَمَّا مُسَاعَدَتُهُ عَلَى أَغْرَاضِهِ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ فَهُوَ إضْرَارٌ بِهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَمَا هَذِهِ إلَّا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُعِينَ الرَّجُلُ مَنْ يَهْوَى امْرَأَةً مُحَرَّمَةً عَلَى نَيْلِ غَرَضِهِ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي لُزُومِ التَّقْوَى وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ السَّبْتِ اسْتَحَلُّوا مَا اسْتَحَلُّوا لَمَّا قَامَتْ فِي نُفُوسِهِمْ هَذِهِ الشَّهَوَاتُ وَالشُّبُهَاتُ وَلَعَلَّ الزَّوْجَيْنِ إذَا اتَّقَيَا اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا أَذِنَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ لِعَامَّةِ الْمُتَّقِينَ. وَهَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ إنَّمَا هُوَ فِي التَّحْلِيلِ الْمَكْتُومِ وَهُوَ الَّذِي حُكِيَ وُقُوعُ الشُّبْهَةِ فِيهِ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ ذَلِكَ وَتَوَاطَآ عَلَيْهِ فَالْأَمْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَبِهَذَا الْكَلَامِ ظَهَرَ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مِنْ الْحِيَلِ مُلْحَقٌ بِالْأَوَّلِ مِنْهَا لَكِنَّ الْأَوَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحْتَالِ بِهِ، وَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ لَوْ فُرِضَ تَجَرُّدُهُ عَنْ الْآخَرِ وَهُنَا إنَّمَا صَارَ الْمُحْتَالُ بِهِ مُحَرَّمًا لِاقْتِرَانِهِ بِالْآخَرِ فَإِنَّهُ لَوْ جَرَّدَ النِّكَاحَ مَثَلًا عَنْ هَذَا الْقَصْدِ لَكَانَ حَلَالًا وَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ لَوْ حَصَلَ السَّبَبُ الْمُبِيحُ لَهُ مُجَرَّدًا عَنْ الِاحْتِيَالِ لَكَانَ مُبَاحًا، ثُمَّ هَذَا الْقِسْمُ فِيهِ أَنْوَاعٌ. أَحَدُهَا: الِاحْتِيَالُ لِحِلِّ مَا هُوَ يَحْرُمُ فِي الْحَالِ كَنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ.

الثَّانِي: الِاحْتِيَالُ لِحِلِّ مَا انْعَقَدَ سَبَبُ تَحْرِيمِهِ وَهُوَ مَا يَحْرُمُ إنْ تَجَرَّدَ عَنْ الْحِيلَةِ كَالِاحْتِيَالِ عَلَى حِلِّ الْيَمِينِ فَإِنَّ يَمِينَ الطَّلَاقِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْمَرْأَةِ إذَا حَنِثَ فَإِنَّ الْمُحْتَالَ يُرِيدُ إزَالَةَ التَّحْرِيمِ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ وَهُوَ الْفِعْلُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْحِيَلُ الرِّبَوِيَّةُ كُلُّهَا فَإِنَّ الْمُحْتَالَ يُرِيدُ مَثَلًا أَخْذَ مِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ بِبَذْلِ ثَمَانِينَ حَالَّةٍ فَيَحْتَالُ لِيُزِيلَ التَّحْرِيمَ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ وَهُوَ هَذَا الْمَعْنَى. النَّوْعُ الثَّالِثُ: الِاحْتِيَالُ عَلَى إسْقَاطِ وَاجِبٍ قَدْ وَجَبَ، مِثْلُ أَنْ يُسَافِرَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ فِي رَمَضَانَ لِيُفْطِرَ، وَمِثْلُ الِاحْتِيَالِ عَلَى إزَالَةِ مِلْكِ مُسْلِمٍ مِنْ نِكَاحٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ نَحْوِهِمَا. الرَّابِعُ: الِاحْتِيَالُ لِإِسْقَاطِ مَا انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ، مِثْلُ الِاحْتِيَالِ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ، أَوْ الشُّفْعَةِ أَوْ الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ وَفِي بَعْضِهَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ خَبِيثٌ، مِثْلُ الِاحْتِيَالِ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ، أَوْ صَوْمِ الشَّهْرِ بِعَيْنِهِ، أَوْ الشُّفْعَةِ لَكِنَّ شُبْهَةَ الْمُرْتَكِبِ أَنَّ هَذَا مَنْعٌ لِلْوُجُوبِ لَا رَفْعٌ لَهُ وَكِلَاهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ وَفِي بَعْضِهَا يَظْهَرُ أَنَّ السَّبَبَ الْمُحْتَالَ بِهِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، مِثْلُ الْإِفْرَادِ لِابْنِهِ أَوْ تَمْلِيكِهِ نَاوِيًا لِلرُّجُوعِ، أَوْ تَوَاطُؤِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَى خِلَافِ مَا أَظْهَرَاهُ كَالتَّوَاطُؤِ عَلَى التَّحْلِيلِ وَفِي بَعْضِهَا يَظْهَرُ كِلَا الْأَمْرَيْنِ وَفِي بَعْضِهَا يَخْفَى كِلَاهُمَا كَالتَّحْلِيلِ وَخُلْعِ الْيَمِينِ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: الِاحْتِيَالُ عَلَى أَخْذِ بَدَلِ حَقِّهِ، أَوْ عَيْنِ حَقِّهِ بِخِيَانَةٍ مِثْلُ أَنَّ مَالًا قَدْ اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ زَاعِمًا أَنَّهُ بَدَلُ حَقِّهِ أَوْ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ هَذَا الْقَدْرَ مَعَ عَدَمِ ظُهُورِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، أَوْ إظْهَارِهِ فَهَذَا أَيْضًا يَلْحَقُ بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ مَا لَا يَلْحَقُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ كَمَنْ يُسْتَعْمَلُ عَلَى عَمَلٍ بِجُعْلٍ يُفْرَضُ لَهُ وَيَكُونُ جُعْلُ مِثْلِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْجُعْلِ فَيَغُلُّ بَعْضَ مَالِ مُسْتَعْمِلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَأْخُذُ تَمَامَ حَقِّهِ فَإِنَّ هَذَا حَرَامٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعْمِلُ السُّلْطَانَ الْمُسْتَعْمَلَ عَلَى مَالِ الْفَيْءِ وَالْخَرَاجِ وَالصَّدَقَاتِ وَسَائِرِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ الْحَاكِمَ الْمُسْتَعْمَلَ عَلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ وَأَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْأَوْقَافِ أَوْ غَيْرَهُمَا كَالْمُوَكَّلَيْنِ وَالْمُوصَيْنَ فَإِنَّهُ كَاذِبٌ فِي كَوْنِهِ يَسْتَحِقُّ زِيَادَةً عَلَى مَا شَرَطَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ ظَنَّ الْبَائِعُ، أَوْ الْمُكْرِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ زِيَادَةً عَلَى الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْعِوَضُ الْمُسْتَحَقُّ وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا لَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ ثَابِتًا. وَأَمَّا مَا يَلْحَقُ بِالْقِسْمِ الثَّالِثِ بِأَنْ يَكُونَ الِاسْتِحْقَاقُ ثَابِتًا كَرَجُلٍ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ مَالٌ

فَجَحَدَهُ إيَّاهُ وَعَجَزَ عَنْ خَلَاصِ حَقِّهِ، أَوْ ظَلَمَهُ السُّلْطَانُ مَالًا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا مُحْتَالٌ عَلَى أَخْذِ حَقِّهِ لَكِنْ إذَا احْتَالَ بِأَنْ يَغُلَّ بَعْضَ مَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الْغُلُولَ وَالْخِيَانَةَ حَرَامٌ مُطْلَقًا، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّوَصُّلَ إلَى حَقِّهِ كَمَا أَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ وَالْكَذِبَ حَرَامٌ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّوَصُّلَ إلَى حَقِّهِ، وَلِهَذَا «قَالَ بَشِيرُ بْنُ الْخَصَاصِيَةِ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لَنَا جِيرَانًا لَا يَدَعُونَ لَنَا شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إلَّا أَخَذُوهَا فَإِذَا قَدَرْنَا لَهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَنَأْخُذُهُ، فَقَالَ: أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» بِخِلَافِ مَا لَيْسَ خِيَانَةً لِظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ فِيهِ وَالتَّبَذُّلِ وَالتَّبَسُّطِ فِي مَالِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ كَأَخْذِ الزَّوْجَةِ نَفَقَتَهَا مِنْ مَالِ زَوْجِهَا إذَا مَنَعَهَا فَإِنَّهَا مُتَمَكِّنَةٌ مِنْ إعْلَانِ هَذَا الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ غُلُولًا وَلَا خِيَانَةً وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّهَا مَحَلُّ وِفَاقٍ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِيفَاءِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا هِيَ أَيْضًا مِنْ الْحِيَلِ الْمَحْضَةِ، بَلْ هِيَ بِمَسَائِلِ الذَّرَائِعِ أَشْبَهُ، لَكِنْ لِأَجْلِ مَا فِيهَا مِنْ التَّحَيُّلِ ذَكَرْنَاهَا لِتَمَامِ أَقْسَامِ الْحِيَلِ، وَالْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ أَنْ يُمَيِّزَ الْفَقِيهُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ لِيَعْرِفَ كُلَّ مَسْأَلَةٍ مِنْ أَيِّ قِسْمٍ هِيَ فَيُلْحِقَهَا بِنَظِيرِهَا فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي أُمَّهَاتِ الْمَسَائِلِ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ مُسْتَوْفًى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَمْ يُسْتَوْفَ الْكَلَامُ إلَّا فِي مَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الْخَمْسَةَ مُحْدَثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ مُبْتَدَعَةٌ وَنَبَّهْنَا هُنَا عَلَى سَبَبِ التَّحْرِيمِ فِيهَا وَالْمَقْصُودُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَدْ شُبِّهَتْ بِهِ حَتَّى جُعِلَتْ، وَإِيَّاهُ جِنْسًا وَاحِدًا، وَقِيَاسُ مَنْ قَاسَ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَهُوَ الثَّالِثُ وَرُبَّمَا قِيسَ الثَّانِي أَيْضًا عَلَيْهِ كَمَا قِيسَ عَلَيْهِ الثَّانِي مِنْ الْخَامِسِ فَإِنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ الْوَصْفُ الْمُشْتَرَكُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ الْفَرْقِ الْمُؤَثِّرِ هُوَ مِثْلُ قِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] نَظَرًا إلَى أَنَّ الْبَائِعَ يَتَنَاوَلُ بِمَالِهِ لِيَرْبَحَ، وَكَذَلِكَ الْمُرْبِي، وَلَقَدْ سَرَى هَذَا الْمَعْنَى فِي نُفُوسِ طَوَائِفَ حَتَّى بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْمَرْمُوقِينَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا أَدْرِي لِمَ حُرِّمَ الرِّبَا وَيَرَى أَنَّ الْقِيَاسَ تَحْلِيلُهُ، وَإِنَّمَا يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ اتِّبَاعًا فَقَطْ وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَامَ فِي نَفْسِ هَذَا هُوَ الَّذِي قَامَ فِي نُفُوسِ الَّذِينَ قَالُوا {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] فَلْيُعَزِّ مِثْلُ هَذَا نَفْسَهُ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَالنَّظَرِ فِي الدِّينِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ هَذِهِ عَزَاءُ الْمُصِيبَةِ، وَلْيَتَأَمَّلْ فِي قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .

فَلْيَنْظُرْ هَلْ أَصَابَهُمْ هَذَا التَّخَبُّطُ الَّذِي هُوَ كَمَسِّ الشَّيْطَانِ بِمُجَرَّدِ أَكْلِهِمْ السُّحْتَ أَمْ بِقَبُولِهِمْ الْإِثْمَ مَعَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا فَمَنْ كَانَ هَذَا الْقِيَاسُ عِنْدَهُ مُتَوَجَّهًا، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ سَمْعًا وَطَوْعًا أَلَمْ يَكُنْ هَذَا دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ رَأْيِهِ وَنَقْصِ عَقْلِهِ وَبُعْدِهِ عَنْ فِقْهِ الدِّينِ. نَعَمْ مَنْ قَالَ هَذَا قَالَ: الْقِيَاسُ أَنْ لَا تَصْلُحَ الْإِجَارَةُ، لِأَنَّهَا بَيْعُ مَعْدُومٍ وَلَمْ يَهْتَدِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ بَيْعِ الْأَعْيَانِ الَّتِي تُوجَدُ وَبَيْعِ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَا يَتَأَتَّى وُجُودُهَا مُجْتَمِعَةً وَلَا يُمْكِنُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا إلَّا مَعْدُومَةً وَلَوْ عَارَضَهُ مَنْ قَالَ: الْقِيَاسُ صِحَّةُ بَيْعِ الْمَعْدُومِ قِيَاسًا عَلَى الْإِجَارَةِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ كَلَامَيْهِمَا فَرْقٌ. وَكَذَلِكَ يَرَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا تَصْلُحَ الْحَوَالَةُ لِأَنَّهَا بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَأَنْ لَا يَصِحَّ الْقَرْضُ فِي الرِّبَوِيَّاتِ، لِأَنَّهَا مُبَادَلَةُ عَيْنٍ رِبَوِيَّةٍ بِدَيْنٍ مِنْ جِنْسِهَا، ثُمَّ إنْ كَانَ مِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ إذَا عَارَضَهُ نَصٌّ ظَاهِرٌ أَمْكَنَ تَرْكُهُ عِنْدَ مُعْتَقِدِ صِحَّتِهِ لَكِنْ إذَا لَمْ يَرَ نَصًّا يُعَارِضُهُ فَإِنَّهُ يَجُرُّ إلَى أَقْوَالٍ عَجِيبَةٍ تُخَالِفُ سُنَّةً لَمْ تَبْلُغْهُ، أَوْ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِمُخَالَفَتِهَا، مَثَلُ قِيَاسِ مَنْ قَاسَ الْمُعَامَلَةَ بِجُزْءٍ مِنْ النَّمَاءِ عَلَى الْإِجَارَةِ مَعَ الْفُرُوقِ الْمُؤَثِّرَةِ وَمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ، وَقِيَاسِ مَنْ قَاسَ الْقِسْمَةَ عَلَى الْبَيْعِ وَجَعَلَهَا نَوْعًا مِنْهُ حَتَّى أَثْبَتَ لَهَا خَصَائِصَ الْبَيْعِ لِمَا فِيهَا مِنْ ثُبُوتِ الْمُعَاوَضَةِ وَالْتَزَمَ أَنْ لَا يَقْسِمَ الثِّمَارَ خَرْصًا كَمَا لَا تُبَاعُ خَرْصًا فَخَالَفَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُقَاسَمَةِ أَهْلِ خَيْبَرَ الثِّمَارَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَى النَّخْلِ خَرْصًا، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْهُ، لَكِنَّهُ أَقْبَحُ وَأَبْيَنُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى فَقِيهٍ، كَمَا خَفِيَ الْأَوَّلُ عَلَى بَعْضِ الْفُقَهَاءِ. وَاَلَّذِي قِيسَتْ عَلَيْهِ الْحِيَلُ الْمُحَرَّمَةُ وَلَيْسَ مِثْلَهُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَعَارِيضُ وَهِيَ أَنْ يَتَكَلَّمَ الرَّجُلُ بِكَلَامٍ جَائِزٍ يَقْصِدُ بِهِ مَعْنًى صَحِيحًا وَيَتَوَهَّمُ غَيْرُهُ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ مَعْنًى آخَرَ، وَيَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ التَّوَهُّمِ كَوْنَ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ لُغَوِيَّتَيْنِ أَوْ عُرْفِيَّتَيْنِ، أَوْ شَرْعِيَّتَيْنِ، أَوْ لُغَوِيَّةٍ مَعَ أَحَدِهِمَا، أَوْ عُرْفِيَّةٍ مَعَ شَرْعِيَّةٍ فَيَعْنِي أَحَدَ مَعْنَيَيْهِ وَيَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّهُ إنَّمَا عَنَى الْآخَرَ لِكَوْنِ دَلَالَةِ الْحَالِ تَقْتَضِيهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ لَمْ

يَعْرِفْ إلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى، أَوْ يَكُونُ سَبَبُ التَّوَهُّمِ كَوْنَ اللَّفْظِ ظَاهِرًا فِيهِ مَعْنًى فَيَعْنِي بِهِ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ بَاطِنًا فِيهِ بِأَنْ يَنْوِيَ مَجَازَ اللَّفْظِ دُونَ حَقِيقَتِهِ، أَوْ يَنْوِيَ بِالْعَامِّ الْخَاصَّ أَوْ بِالْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدَ، أَوْ يَكُونَ سَبَبُ التَّوَهُّمِ كَوْنَ الْمُخَاطَبِ إنَّمَا يَفْهَمُ مِنْ اللَّفْظِ غَيْرَ حَقِيقَتِهِ بِعُرْفٍ خَاصٍّ لَهُ، أَوْ غَفْلَةٍ مِنْهُ، أَوْ جَهْلٍ مِنْهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ مَعَ كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ إنَّمَا قَصَدَ حَقِيقَتَهُ، فَهَذَا - إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ دَفْعَ ضَرَرٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ - جَائِزٌ كَقَوْلِ الْخَلِيلِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هَذِهِ أُخْتِي "، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَحْنُ مِنْ مَاءٍ» وَقَوْلِ الصِّدِّيقِ: رَجُلٌ يَهْدِينِي السَّبِيلَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى غَيْرَهَا، وَكَانَ يَقُولُ: «الْحَرْبُ خَدْعَةٌ» وَكَإِنْشَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ: شَهِدْت بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ... وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ ... وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا لَمَّا اسْتَقْرَأَتْهُ امْرَأَتُهُ الْقُرْآنَ حَيْثُ اتَّهَمَتْهُ بِإِصَابَةِ جَارِيَتِهِ - وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إذَا كَانَ دَفْعُ ذَلِكَ الضَّرَرِ وَاجِبًا وَلَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِذَلِكَ مِثْلُ التَّعْرِيضِ عَنْ دَمٍ مَعْصُومٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَتَعْرِيضُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا السَّبِيلِ وَهَذَا الضَّرْبُ نَوْعٌ مِنْ الْحِيَلِ فِي الْخِطَابِ، لَكِنَّهُ يُفَارِقُ الْحِيَلَ الْمُحَرَّمَةَ مِنْ الْوَجْهِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَالْوَجْهِ الْمُحْتَالِ بِهِ: أَمَّا الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ هُنَا فَهُوَ دَفْعُ ضَرَرٍ غَيْرِ ضَرَرٍ مُسْتَحَقٍّ، فَإِنَّ الْجَبَّارَ كَانَ يُرِيدُ أَخْذَ امْرَأَةِ إبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ عَلِمَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ، وَهَذَا مَعْصِيَةٌ عَظِيمَةٌ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الضَّرَرِ، وَكَذَلِكَ بَقَاءُ الْكُفَّارِ غَالِبِينَ عَلَى الْأَرْضِ، أَوْ غَلَبَتُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ فَلَوْ عَلِمَ أُولَئِكَ الْمُسْتَجِيرُونَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَتَرَتَّبَ عَلَى عِلْمِهِمْ شَرٌّ طَوِيلٌ، وَكَذَلِكَ عَامَّةُ الْمَعَارِيضِ الَّتِي يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا فَإِنَّ عَامَّتَهَا إنَّمَا جَاءَتْ حَذَرًا مِنْ تَوَلُّدِ شَرٍّ عَظِيمٍ عَلَى الْأَخْبَارِ - فَأَمَّا إنْ قَصَدَ بِهَا كِتْمَانَ مَا يَجِبُ مِنْ شَهَادَةٍ، أَوْ إقْرَارٍ، أَوْ عِلْمٍ، أَوْ صِفَةِ مَبِيعٍ أَوْ مَنْكُوحَةٍ، أَوْ مُسْتَأْجَرٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهَا حَرَامٌ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ التَّنْبِيهُ عَلَى بَعْضِهِ إذَا ذُكِرَتْ الْأَحَادِيثُ الْمُوجِبَةُ لِلنَّصِيحَةِ وَالْبَيَانِ فِي الْبَيْعِ، وَالْمُحَرِّمَةُ لِلْغِشِّ وَالْخِلَابَةِ وَالْكِتْمَانِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا رَوَاهُ

عَنْهُ مُثَنَّى الْأَنْبَارِيُّ قَالَ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ كَيْفَ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ فِي الْمَعَارِيضِ فَقَالَ: الْمَعَارِيضُ لَا تَكُونُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ. تَكُونُ فِي الرَّجُلِ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ نَحْوِ هَذَا. وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ بَيَانُهُ فَالتَّعْرِيضُ فِيهِ حَرَامٌ، لِأَنَّهُ كِتْمَانٌ وَتَدْلِيسٌ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْإِقْرَارُ بِالْحَقِّ وَالتَّعْرِيضُ فِي الْحَلِفِ عَلَيْهِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالْعُقُودُ بِأَسْرِهَا وَوَصْفُ الْعُقُودِ عَلَيْهِ وَالْفُتْيَا وَالتَّحْدِيثُ وَالْقَضَاءُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، كُلُّ مَا حَرُمَ بَيَانُهُ فَالتَّعْرِيضُ فِيهِ جَائِزٌ بَلْ وَاجِبٌ إنْ اُضْطُرَّ إلَى الْخِطَابِ وَأَمْكَنَ التَّعْرِيضُ فِيهِ - كَالتَّعْرِيضِ لِسَائِلٍ عَنْ مَعْصُومٍ يُرِيدُ قَتْلَهُ -، وَإِنْ كَانَ بَيَانُهُ جَائِزًا أَوْ كِتْمَانُهُ جَائِزًا، وَكَانَتْ الْمَصْلَحَةُ الدِّينِيَّةُ فِي كِتْمَانِهِ كَالْوَجْهِ الَّذِي يُرَادُ عَزْوُهُ فَالتَّعْرِيضُ أَيْضًا مُسْتَحَبٌّ هُنَا، وَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ فِي كِتْمَانِهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي الْإِظْهَارِ - وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ مَظْلُومٌ بِذَلِكَ الضَّرَرِ -، جَازَ لَهُ التَّعْرِيضُ فِي الْيَمِينِ وَغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ مُبَاحٌ فِي الْكِتْمَانِ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي الْإِظْهَارِ فَقِيلَ لَهُ التَّعْرِيضُ أَيْضًا. وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَقِيلَ لَهُ التَّعْرِيضُ فِي الْكَلَامِ دُونَ الْيَمِينِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي نَصْرِ بْنِ أَبِي عِصْمَةَ أَظُنُّهُ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ فَإِنَّ أَبَا نَصْرٍ هَذَا لَهُ مَسَائِلُ مَعْرُوفَةٌ رَوَاهَا عَنْهُ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَحْمَدَ قَالَ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يُعَارِضُ فِي كَلَامِهِ يَسْأَلُنِي عَنْ الشَّيْءِ أَكْرَهُ أَنْ أُخْبِرَهُ بِهِ. قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ يَمِينٌ فَلَا بَأْسَ، فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ، وَهَذَا إذَا احْتَاجَ إلَى الْخِطَابِ، فَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِذَلِكَ فَهُوَ أَشَدُّ، وَمَنْ رَخَّصَ فِي الْجَوَابِ قَدْ لَا يُرَخِّصُ فِي ابْتِدَاءِ الْخِطَابِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أُمِّ كُلْثُومٍ أَنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِيمَا يَقُولُ النَّاسُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ. وَفِي الْجُمْلَةِ فَالتَّعْرِيضُ مَضْمُونُهُ أَنَّهُ قَالَ قَوْلًا فَهِمَ مِنْهُ السَّامِعُ خِلَافَ مَا عَنَاهُ الْقَائِلُ إمَّا لِتَقْصِيرِ السَّامِعِ فِي مَعْرِفَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، أَوْ لِتَبْعِيدِ الْمُتَكَلِّمِ وَجْهَ الْبَيَانِ، وَهَذَا غَايَتُهُ أَنَّهُ سَبَبٌ فِي تَجْهِيلِ الْمُسْتَمِعِ بِاعْتِقَادٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ، وَتَجْهِيلُ الْمُسْتَمِعِ بِالشَّيْءِ إذَا كَانَ مَصْلَحَةً لَهُ كَانَ عَمَلَ خَيْرٍ مَعَهُ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ عِلْمُهُ بِالشَّيْءِ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَانَ أَنْ لَا يَعْلَمَهُ خَيْرًا لَهُ، وَلَا يَضُرُّهُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَتَوَهَّمَهُ بِخِلَافِ مَا هُوَ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَمْرًا يُطْلَبُ مَعْرِفَتُهُ، إنْ لَمْ يَكُنْ مَصْلَحَةً لَهُ بَلْ مَصْلَحَةً لِلْقَائِلِ كَانَ أَيْضًا جَائِزًا، لِأَنَّ عِلْمَ السَّامِعِ إذَا فَوَّتَ مَصْلَحَةً عَلَى الْقَائِلِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْعَى فِي عَدَمِ عِلْمِهِ،

وَإِنْ أَفْضَى إلَى اعْتِقَادٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ فِي شَيْءٍ سَوَاءٌ عَرَفَهُ، أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ، فَالْمَقْصُودُ بِالْمَعَارِيضِ فِعْلٌ وَاجِبٌ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ أَوْ مُبَاحٌ أَبَاحَ الشَّارِعُ السَّعْيَ فِي حُصُولِهِ، وَنَصَبَ سَبَبًا يُفْضِي إلَيْهِ أَصْلًا وَقَصْدًا، فَإِنَّ الضَّرَرَ قَدْ يُشْرَعُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقْصِدَ دَفْعَهُ، وَيَتَسَبَّبَ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَضَمَّنْ الشَّرْعُ النَّهْيَ عَنْ دَفْعِ الضَّرَرِ، فَلَا يُقَاسُ بِهَذَا إذَا كَانَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ سُقُوطَ مَا نَصَّ الشَّارِعُ وُجُوبَهُ وَتَوَجَّهَ وُجُوبُهُ كَالزَّكَاةِ وَالشُّفْعَةِ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِمَا، أَوْ حِلَّ مَا قَصَدَ الشَّارِعُ تَحْرِيمَهُ وَتَوَجَّهَ تَحْرِيمُهُ مِنْ الزِّنَا وَالْمُطَلَّقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَصْلَحَةَ الْوُجُوبِ هُنَا تَفْوِيتٌ وَمَفْسَدَةُ التَّحْرِيمِ بَاقِيَةٌ وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أَوْجَبَ الشَّارِعُ مَوْجُودٌ مَعَ فَوَاتِ الْوُجُوبِ، وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ حَرَّمَ مَوْجُودٌ مَعَ فَوَاتِ التَّحْرِيمِ إذَا قَصَدَ الِاحْتِيَالَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُنَاكَ رَفْعُ الضَّرَرِ مَعْنًى قَصَدَ الشَّارِعُ حُصُولَهُ لِلْعَبْدِ وَفَتَحَ لَهُ بَابَهُ، فَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمُحْتَالِ بِهِ فَإِنَّ الْمُعْتَرِضَ إنَّمَا تَكَلَّمَ بِحَقٍّ وَنَطَقَ بِصِدْقٍ فِيمَا بَيَّنَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا سِيَّمَا إنْ لَمْ يَنْوِ بِاللَّفْظِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الظُّهُورُ مِنْ ضَعْفِ فَهْمِ السَّامِعِ وَقُصُورِهِ فِي مَعْرِفَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، وَمَعَارِيضُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِزَاحُهُ عَامَّتُهُ كَانَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِثْلُ قَوْلِهِ: «نَحْنُ مِنْ مَاءٍ» ، وَقَوْلِهِ: «إنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ» «وَزَوْجُك الَّذِي فِي عَيْنِهِ بَيَاضٌ» ، «وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ» . وَأَكْثَرُ مَعَارِيضِ السَّلَفِ كَانَتْ مِنْ هَذَا - وَمِنْ هَذَا الْبَابِ التَّدْلِيسُ فِي الْإِسْنَادِ لَكِنَّ هَذَا كَانَ مَكْرُوهًا لِتَعَلُّقِهِ بِأَمْرِ الدِّينِ وَكَوْنِ بَيَانِ الْعِلْمِ وَاجِبًا. بِخِلَافِ مَا قَصَدَ بِهِ دَفْعَ ظَالِمٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ - وَلَمْ يَكُنْ فِي مَعَارِيضِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنْوِيَ بِالْعَامِّ الْخَاصَّ وَبِالْحَقِيقَةِ الْمَجَازَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا إذَا عَرَّضَ بِهِ الْمُعَرِّضُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حُدُودِ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِيهِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ وَالْمُفْرَدُ وَالْمُشْتَرَكُ وَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ وَالْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَتَخْتَلِفُ دَلَالِيَّتُهُ تَارَةً بِحَسَبِ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، وَتَارَةً بِحَسَبِ التَّأْلِيفِ، وَكَثِيرٌ مِنْ وُجُوهِ اخْتِلَافِهِ قَدْ لَا يَبِينُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ، بَلْ يُرَاجَعُ فِيهِ إلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ، وَقَدْ يَظْهَرُ قَصْدُهُ

بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَقَدْ لَا يَظْهَرُ وَإِذَا كَانَ الْمُعَرِّضُ إنَّمَا يَقْصِدُ بِاللَّفْظِ مَا جُعِلَ اللَّفْظُ دَلَالَةً عَلَيْهِ وَمُبَيِّنًا لَهُ فِي الْجُمْلَةِ لَمْ يَشْتَبِهْ هَذَا إنْ قَصَدَ بِالْعَقْدِ مَا لَمْ يَحْمِلْ الْعَقْدُ مُقْتَضِيًا لَهُ أَصْلًا. فَإِنَّ لَفْظَ أَنْكَحْت وَزَوَّجْت لَمْ يَضَعْهُ الشَّارِعُ بِنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ قَطُّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَظْهَرَهُ لَمْ يَصِحَّ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صَلَاحِ اللَّفْظِ لَهُ إخْبَارُ صَلَاحِهِ لَهُ إنْشَاءً، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ فِي الْمَعَارِيضِ: تَزَوَّجْت وَعَنَى نِكَاحًا فَاسِدًا، جَازَ كَمَا لَوْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ فِي الْعَقْدِ: تَزَوَّجْت نِكَاحًا فَاسِدًا لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ إذَا نَوَاهُ. وَكَذَلِكَ فِي الرِّبَا، فَإِنَّ الْقَرْضَ لَمْ يَشْرَعْهُ الشَّارِعُ إلَّا لِمَنْ قَصَدَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِثْلَ قَرْضِهِ فَقَطْ وَلَمْ يُبِحْهُ لِمَنْ أَرَادَ الِاسْتِفْضَالَ قَطُّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، فَإِذَا أَقْرَضَهُ أَلْفًا لِيَبِيعَهُ مَا يُسَاوِي مِائَةً بِأَلْفٍ أُخْرَى أَوْ لِيُحَابِيَهُ الْمُقْتَرِضُ فِي بَيْعٍ، أَوْ إجَارَةٍ، أَوْ مُسَاقَاةٍ أَوْ لِيُعِيرَهُ، أَوْ يَهَبَهُ، فَقَدْ قَصَدَ بِالْعَقْدِ مَا لَمْ يَجْعَلْ الْعَقْدَ مُقْتَضِيًا لَهُ قَطُّ، وَإِذَا كَانَ الْمُعَرِّضُ قَصَدَ بِالْقَوْلِ مَا يَحْتَمِلُهُ الْقَوْلُ أَوْ يَقْتَضِيهِ وَالْمُحْتَالُ قَصَدَ بِالْقَوْلِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الْقَوْلُ وَلَا يَقْتَضِيهِ فَكَيْفَ يُقَاسُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ؛ وَإِنَّمَا نَظِيرُ الْمُحْتَالِ الْمُنَافِقُ، فَإِنَّهُ قَصَدَ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ - فَالْحِيلَةُ كَذِبٌ فِي الْإِنْشَاءِ كَالْكَذِبِ فِي الْإِخْبَارِ، وَالتَّعْرِيضُ لَيْسَ كَذِبًا مِنْ جِهَةِ الْعِنَايَةِ وَحَسْبُكَ أَنَّ الْمُعَرِّضَ قَصَدَ مَعْنًى حَقًّا بِنِيَّتِهِ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُهُ فِي الْوَضْعِ الَّذِي بِهِ التَّخَاطُبُ، وَالْمُحْتَالُ قَصَدَ مَعْنًى مُحَرَّمًا بِلَفْظٍ لَا يَحْتَمِلُهُ فِي الْوَضْعِ الَّذِي بِهِ التَّعَاقُدُ. فَإِذَا تَبَيَّنَ الْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ لِلْعَرْضِ بِهِ وَالْمَعْنَى الَّذِي كَانَ التَّعْرِيضُ لِأَجْلِهِ لَمْ يَصِحَّ إلْحَاقُ الْحِيَلِ بِهِ. وَهُنَا فَرْقٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُعَرِّضُ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَبْطَلَ بِالتَّعْرِيضِ حَقًّا لِلَّهِ، أَوْ لِآدَمِيٍّ، فَأَمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَلَمْ يُبْطِلْ حَقًّا لَهُ، لِأَنَّهُ إذَا نَاجَى رَبَّهُ سُبْحَانَهُ بِكَلَامٍ وَعَنَى بِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ الْمَعَانِي الْحِسِّيَّةِ لَمْ يَكُنْ مَلُومًا فِي ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَفْهَمُونَ مِنْهُ خِلَافَ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِالسَّرَائِرِ وَاللَّفْظُ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا هُوَ مَوْضُوعٌ لَهُ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْآدَمِيِّ فَلَا يَجُوزُ التَّعْرِيضُ إلَّا إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ إسْقَاطَ حَقِّ مُسْلِمٍ، فَإِنْ تَضَمَّنَ إسْقَاطَ حَقِّهِ حَرُمَ بِالْإِجْمَاعِ. فَثَبَتَ أَنَّ التَّعْرِيضَ الْمُبَاحَ لَيْسَ مِنْ الْمُخَادَعَةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنَّهُ مُخَادَعَةٌ لِمَخْلُوقٍ أَبَاحَ الشَّارِعُ مُخَادَعَتَهُ لِظُلْمِهِ جَزَاءً لَهُ عَلَى ذَلِكَ - وَلَا يَلْزَمُ مِنْ

جَوَازِ مُخَادَعَةِ الظَّالِمِ جَوَازُ مُخَادَعَةِ الْمُحِقِّ، فَمَا كَانَ مِنْ التَّعْرِيضِ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ فِي نَفْسِهِ كَانَ قَبِيحًا إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ جَائِزًا إلَّا عِنْدَ تَضَمُّنِ مَفْسَدَةٍ، وَاَلَّذِي يَدْخُلُ فِي الْحِيَلِ إنَّمَا هُوَ الْأَوَّلُ، وَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَصَدَ بِاللَّفْظِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ أَيْضًا. وَأَنَّ هَذَا الْقَصْدَ لِدَفْعِ شَرٍّ، وَالْمُحْتَالُ قَصَدَ بِاللَّفْظِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَقَصَدَ بِهِ حُصُولَ شَرٍّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعَارِيضَ كَمَا تَكُونُ بِالْقَوْلِ فَقَدْ تَكُونُ بِالْفِعْلِ وَقَدْ تَكُونُ بِهِمَا - مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يُظْهِرَ الْمُحَارِبُ أَنَّهُ يُرِيدُ وَجْهًا مِنْ الْوُجُوهِ وَيُسَافِرَ إلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ لِيَحْسَبَ الْعَدُوُّ أَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ ثُمَّ يَكِرَّ عَلَيْهِ، أَوْ يَسْتَطْرِدَ الْمُبَارِزُ بَيْنَ يَدَيْ خَصْمِهِ لِيَظُنَّ هَزِيمَتَهُ، ثُمَّ يَعْطِفَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: «الْحَرْبُ خَدْعَةٌ» وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مِمَّا قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْحِيَلِ الَّتِي بَيَّنَّا تَحْرِيمَهَا وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا قِصَّةُ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ كَادَ اللَّهُ لَهُ فِي أَخْذِ أَخِيهِ كَمَا نَصَّ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ فَإِنَّ فِيهَا ضُرُوبًا مِنْ الْحِيَلِ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ لِفِتْيَتِهِ: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف: 62] فَإِنَّهُ تَسَبَّبَ بِذَلِكَ إلَى رُجُوعِهِمْ وَقَدْ ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ مَعَانِيَ مِنْهَا أَنَّهُ تَخَوَّفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ وَرِقٌ يَرْجِعُونَ بِهَا، وَمِنْهَا أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَضُرَّ أَخْذُ الثَّمَنِ بِهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُ رَأَى لَوْمًا إذَا أَخَذَ الثَّمَنَ مِنْهُمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُ أَرَاهُمْ كَرَمَهُ فِي رَدِّ الْبِضَاعَةِ لِيَكُونَ أَدْعَى لَهُمْ لِلْعَوْدِ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ عَلِمَ أَنَّ أَمَانَتَهُمْ تُحْوِجُهُمْ إلَى الرَّجْعَةِ، لِيُؤَدُّوهَا إلَيْهِ، فَهَذَا الْمُحْتَالُ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ. وَالْمَقْصُودُ رُجُوعُهُمْ وَمَجِيءُ أَخِيهِ. وَذَلِكَ أَمْرٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُمْ وَلِأَبِيهِمْ وَلَهُ وَهُوَ مَقْصُودٌ صَالِحٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَرِّفْهُمْ نَفْسَهُ لِأَسْبَابٍ أُخَرَ فِيهَا أَيْضًا مَنْفَعَةٌ لَهُ وَلَهُمْ وَلِأَبِيهِمْ، وَتَمَامٌ لِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ الْخَيْرِ فِي هَذَا الْبَلَاءِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنَّهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجِهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَتَضَمَّنُ إيهَامَ أَنَّ أَخَاهُ سَارِقٌ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ هَذَا كَانَ بِمُوَاطَأَةٍ مِنْ أَخِيهِ وَبِرِضًى مِنْهُ بِذَلِكَ وَالْحَقُّ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ

{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 69] . فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرَّفَ أَخَاهُ نَفْسَهُ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ أَنَّهُ يُوسُفُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَا مَكَانُ أَخِيكَ الْمَفْقُودِ، وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ إنَّهُ وَضَعَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ وَالْأَخُ لَا يَشْعُرُ، وَهَذَا خِلَافُ الْمَفْهُومِ مِنْ الْقُرْآنِ، وَخِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَفِيهِ تَرْوِيعٌ لِمَنْ لَمْ يَسْتَوْجِبْ التَّرْوِيعَ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ لَمَّا قَالَ لَهُ إنِّي أَنَا أَخُوكَ قَالَ بِنْيَامِينُ فَأَنَا لَا أُفَارِقُكَ قَالَ يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَدْ عَلِمْتَ اغْتِمَامَ وَالِدِي بِي، وَإِذَا حَبَسْتُك ازْدَادَ غَمُّهُ وَلَا يُمْكِنُنِي هَذَا إلَّا بَعْدَ أَنْ أُشَهِّرَكَ بِأَمْرٍ فَظِيعٍ وَأَنْسُبَكَ إلَى مَا لَا تَحْتَمِلُ قَالَ: لَا أُبَالِي فَافْعَلْ مَا بَدَا لَك فَإِنِّي لَا أُفَارِقُك. قَالَ فَإِنِّي أَدُسُّ صَاعِي هَذَا فِي رَحْلِك، ثُمَّ أُنَادِي عَلَيْكَ بِالسَّرِقَةِ لِيَتَهَيَّأَ لِي رَدُّكَ بَعْدَ تَسْرِيحِكَ. قَالَ: فَافْعَلْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} [يوسف: 70] الْآيَةَ فَهَذَا التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِمَا فِيهِ أَذًى لَهُ فِي الظَّاهِرِ إنَّمَا كَانَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ. وَمِثْلُ هَذَا النَّوْعِ مَا ذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا هَمَّ قَوْمُهُ بِالرِّدَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَفَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ بِالتَّرَبُّضِ، وَكَانَ يَأْمُرُ ابْنَهُ إذَا رَعَى إبِلَ الصَّدَقَةِ أَنْ يَبْعُدَ، فَإِذَا جَاءَ خَاصَمَهُ بَيْنَ يَدَيْ قَوْمِهِ وَهَمَّ يَضْرِبُهُ فَيَقُومُونَ فَيَشْفَعُونَ إلَيْهِ فِيهِ، وَيَأْمُرُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ أَنْ يَزْدَادَ بُعْدًا فَلَمَّا تَكَرَّرَ ذَلِكَ أَمَرَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَنْ يَبْعُدَ بِهَا وَجَعَلَ يَنْتَظِرُهُ بَعْدَ مَا دَخَلَ اللَّيْلُ وَهُوَ يَلُومُ قَوْمَهُ عَلَى شَفَاعَتِهِمْ فِيهِ وَمَنْعِهِمْ إيَّاهُ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَهُمْ يَعْتَذِرُونَ عَنْ ابْنِهِ وَلَا يُنْكِرُونَ إبْطَاءَهُ حَتَّى إذَا انْهَارَ اللَّيْلُ رَكِبَ فِي طَلَبِهِ فَلَحِقَهُ وَاسْتَاقَ الْإِبِلَ حَتَّى قَدِمَ بِهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَانَتْ صَدَقَاتُ طَيِّئٍ مِمَّا اسْتَعَانَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ عَدِيًّا قَالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي بَعْضِ الْأُمَرَاءِ: أَمَا تَعْرِفُنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: بَلَى أَعْرِفُكَ أَسْلَمْتَ إذَا كَفَرُوا وَوَفَّيْتَ إذَا غَدَرُوا وَأَقْبَلْتَ إذَا أَدْبَرُوا وَعَرَفْتَ إذَا أَنْكَرُوا. وَمِثْلُ هَذَا مَا أَذِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْوَفْدِ الَّذِينَ أَرَادُوا قَتْلَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ أَنْ يَقُولُوا وَأَذِنَ لِلْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ عَامَ خَيْبَرَ أَنْ يَقُولَ وَهَذَا كُلُّهُ الْأَمْرُ الْمُحْتَالُ بِهِ مُبَاحٌ لِكَوْنِ الَّذِي قَدْ أُوذِيَ قَدْ أَذِنَ فِيهِ، وَالْأَمْرُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ طَاعَةٌ لِلَّهِ، أَوْ أَمْرٌ مُبَاحٌ.

الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ} [يوسف: 71] {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] إلَى قَوْلِهِ: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف: 74] {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ - فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 75 - 76] وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَسْمِيَتِهِمْ سَارِقِينَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَعَارِيضِ وَأَنَّ يُوسُفَ نَوَى بِذَلِكَ أَنَّهُمْ سَرَقُوهُ مِنْ أَبِيهِ حَيْثُ غَيَّبُوهُ عَنْهُ بِالْحِيلَةِ الَّتِي احْتَالُوهَا عَلَيْهِ وَخَانُوهُ فِيهِ وَالْخَائِنُ يُسَمَّى سَارِقًا وَهُوَ مِنْ الْكَلَامِ الْمَشْهُورِ حَتَّى أَنَّ الْخَوَنَةَ مِنْ ذَوِي الدِّيوَانِ يُسَمُّونَ لُصُوصًا. الثَّانِي: أَنَّ الْمُنَادِيَ هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ أَمَرَ يُوسُفُ بَعْضَ أَصْحَابِهِ أَنْ يَجْعَلَ الصَّاعَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُ الْمُوَكَّلِينَ بِالصِّيعَانِ - وَقَدْ فَقَدُوهُ وَلَمْ يَدْرُوا مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُمْ - أَيَّتُهَا الْعِيرُ إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ عَلَى ظَنٍّ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ يُوسُفُ بِذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ كَذِبًا كَانَ فِي حَقِّهِ وَغَالِبِ ظَنِّهِ مَا هُوَ عِنْدَهُ، وَلَعَلَّ يُوسُفَ قَدْ قَالَ لِلْمُنَادِي هَؤُلَاءِ قَدْ سَرَقُوا، وَعَنَى بِسَرِقَتِهِ مِنْ أَبِيهِ وَالْمُنَادِي فَهِمَ سَرِقَةَ الصُّوَاعِ وَهُوَ صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ فَإِنَّ يُوسُفَ لَعَلَّهُ لَمْ يُطْلِعْ عَلَى أَنَّ الصُّوَاعَ فِي رِحَالِهِمْ لِيَتِمَّ الْأَمْرُ فَنَادَى إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ بِنَاءً عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ يُوسُفُ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَقُلْ سَرَقْتُمْ صَاعَ الْمَلِكِ إنَّمَا قَالَ نَفْقِدُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ سَرَقُوهُ، أَوْ أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى مَا صَنَعَهُ يُوسُفُ فَاحْتَرَزَ فِي قَوْلِهِ فَقَالَ إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَفْعُولَ لِيَصِحَّ أَنْ يُضْمِرَ سَرِقَتَهُمْ يُوسُفَ، ثُمَّ قَالَ: نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَهُوَ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ احْتَرَزَ يُوسُفُ فِي قَوْلِهِ: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف: 79] وَلَمْ يَقُلْ إلَّا مَنْ سَرَقَ. وَعَلَى التَّقْدِيرِ فَالْكَلَامُ مِنْ أَحْسَنِ الْمَعَارِيضِ وَقَدْ قَالَ نَصْرُ بْنُ حَاجِبٍ سُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الرَّجُلِ يَعْتَذِرُ إلَى أَخِيهِ مِنْ الشَّيْءِ الَّذِي قَدْ فَعَلَهُ وَيُحَرِّفُ الْقَوْلَ

فِيهِ لِيُرْضِيَهُ أَيَأْثَمُ فِي ذَلِكَ؟ قَالَ أَلَمْ تَسْمَعْ إلَى قَوْلِهِ لَيْسَ بِكَاذِبٍ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ النَّاسِ فَكَذَبَ فِيهِ فَإِذَا أَصْلَحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَرْضَاةَ اللَّهِ وَكَرَاهَةَ أَذَى الْمُؤْمِنِ وَيَنْدَمُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَيَدْفَعُ شَرَّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يُرِيدُ بِالْكَذِبِ اتِّخَاذَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ وَلَا لِطَمَعِ شَيْءٍ يُصِيبُ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِي ذَلِكَ وَرَخَّصَ لَهُ إذَا كَرِهَ مَوْجِدَتَهُمْ وَخَافَ عَدَاوَتَهُمْ. قَالَ حُذَيْفَةُ إنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مَخَافَةَ أَنْ أَتَقَدَّمَ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَكَرِهَ أَيْضًا أَنْ يَتَغَيَّرَ قَلْبُهُ عَلَيْهِ، قَالَ سُفْيَانُ وَقَالَ الْمَلَكَانِ: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] أَرَادَ مَعْنَى شَيْءٍ وَلَمْ يَكُونَا خَصْمَيْنِ فَلَمْ يَصِيرَا بِذَلِكَ كَاذِبَيْنِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] ، وَقَالَ: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] ، وَقَالَ يُوسُفُ: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] أَرَادَ مَعْنَى أَمْرِهِمْ. فَبَيَّنَ سُفْيَانُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الْمَعَارِيضِ الْمُبَاحَةِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ كَذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ كَذِبًا كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِقِصَّةِ يُوسُفَ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ التَّوَصُّلُ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ مِنْ الْغَيْرِ بِمَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاءِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ. وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ فَإِنَّ يُوسُفَ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ حَبْسَ أَخِيهِ عِنْدَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْأَخُ مِمَّنْ ظَلَمَ يُوسُفَ حَتَّى يُقَالَ قَدْ اقْتَصَّ مِنْهُ، وَإِنَّمَا سَائِرُ الْإِخْوَةِ هُمْ الَّذِينَ قَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ، نَعَمْ كَانَ تَخَلُّفُهُ عِنْدَهُ يُؤْذِيهِمْ مِنْ أَجْلِ تَأَذِّي أَبِيهِمْ وَالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ اسْتَثْنَوْا فِي الْمِيثَاقِ إلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ وَقَدْ أُحِيطَ بِهِمْ وَيُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ بِاحْتِبَاسِ أَخِيهِ الِانْتِقَامَ مِنْ إخْوَتِهِ فَإِنَّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ هَذَا وَكَانَ فِي ضِمْنِ هَذَا مِنْ الْإِيذَاءِ لِأَبِيهِ أَعْظَمُ مِمَّا فِيهِ مِنْ إيذَاءِ إخْوَتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ لِيَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَيَتِمَّ الْبَلَاءُ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ يَعْقُوبُ وَيُوسُفُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - كَمَالَ الْجَزَاءِ وَتَبْلُغُ حِكْمَةُ اللَّهِ الَّتِي قَضَاهَا لَهُمْ نِهَايَتَهَا، وَلَوْ كَانَ يُوسُفُ قَصَدَ الِاقْتِصَاصَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَهُ أَنْ يُعَاقِبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ.

وَإِنَّمَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَرِّقَ، أَوْ أَنْ يُخَوِّنَ سَرِقَةً أَوْ خِيَانَةً مِثْلَمَا سَرَّقَهُ إيَّاهُ، أَوْ خَوَّنَهُ إيَّاهُ. وَلَمْ تَكُنْ قِصَّةُ يُوسُفَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ، نَعَمْ لَوْ كَانَ يُوسُفُ أَخَذَ أَخَاهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَكَانَ لِهَذَا الْمُحْتَجِّ شُبْهَةٌ. مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي شَرْعِنَا بِالِاتِّفَاقِ أَنْ يُحْبَسَ رَجُلٌ بَرِيءٌ وَيُعْتَقَلَ لِلِانْتِقَامِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ جُرْمٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ هَذَا الْقَوْلِ فِيمَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ حَقًّا فَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُ بِاعْتِقَالِهِ وَكَانَ هَذَا ابْتِلَاءً مِنْ اللَّهِ لِهَذَا الْمُعْتَقَلِ. كَأَمْرِ إبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ ابْنِهِ وَتَكُونُ حِكْمَتُهُ فِي حَقِّ الْمُبْتَلَى امْتِحَانَهُ وَابْتِلَاءَهُ لِيَنَالَ دَرَجَةَ الصَّبْرِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ. وَيَكُونُ حَالُهُ فِي هَذَا كَحَالِ أَبِيهِ يَعْقُوبَ فِي احْتِبَاسِ، يُوسُفَ عَنْهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بَيِّنٌ يُعْلَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَمِنْ حَالِ يُوسُفَ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] فَإِنَّ الْكَيْدَ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ نَحْوُ مَنٍّ وَقَدْ نَسَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إلَى يُوسُفَ كَمَا نَسَبَهُ إلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} [الطارق: 15] {وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 16] وَكَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} [الطور: 42] وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي قِصَّةِ صَالِحٍ: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ - قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} [النمل: 48 - 49] إلَى قَوْلِهِ: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ - فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} [النمل: 50 - 51] : الْآيَةَ. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ إنَّمَا سَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِعْلَهُ بِالْمَاكِرِينَ وَالْكَائِدِينَ وَالْمُسْتَهْزِئِينَ مَكْرًا وَكَيْدًا وَاسْتِهْزَاءً مَعَ أَنَّهُ حَسَنٌ وَفِعْلُهُمْ قَبِيحٌ لِمُشَاكَلَتِهِ لَهُ فِي الصُّورَةِ

وَوُقُوعِهِ جَزَاءً لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] سَمَّى الثَّانِيَ سَيِّئَةً وَهُوَ بِحَقٍّ لِمُقَابَلَتِهِ لِلسَّيِّئَةِ، وَقَالَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] سَمَّى الْأَوَّلَ عُقُوبَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ الْأَوَّلِينَ عُقُوبَةٌ لِمُقَابَلَتِهِ لِلْفِعْلِ الثَّانِي وَجَعَلُوا هَذَا نَوْعًا مِنْ الْمَجَازِ - وَقَالَ آخَرُونَ وَهُوَ أَصْوَبُ بَلْ تَسْمِيَتُهُ مَكْرًا وَكَيْدًا وَاسْتِهْزَاءً وَسَيِّئَةً وَعُقُوبَةً عَلَى بَابِهِ فَإِنَّ الْمَكْرَ إيصَالُ الشَّيْءِ إلَى الْغَيْرِ بِطَرِيقٍ خَفِيٍّ وَكَذَلِكَ الْكَيْدُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الشَّرَّ كَانَ مَكْرًا حَسَنًا، وَإِلَّا كَانَ مَكْرًا سَيِّئًا. بَلْ إنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّرُّ الْوَاصِلُ حَقًّا لِمَظْلُومٍ كَانَ ذَلِكَ الْمَكْرُ وَاجِبًا فِي الشَّرْعِ عَلَى الْخَلْقِ وَوَاجِبًا مِنْ اللَّهِ بِحُكْمِ الْوَعْدِ إنْ لَمْ يَعْفُ الْمُسْتَحِقُّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا يَمْكُرُ وَيَسْتَهْزِئُ بِمَنْ يَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ فَيَأْخُذُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الظَّالِمُ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَالسَّيِّئَةُ مَا تَسُوءُ صَاحِبَهَا، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهَا وَالْعُقُوبَةُ مَا عُوقِبَ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ شَرٍّ. وَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ: فَيُوسُفُ الصِّدِّيقُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ قَدْ كِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ. أَوَّلُهَا: أَنَّ إخْوَتَهُ كَادُوا لَهُ كَيْدًا حَيْثُ احْتَالُوا فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] . ثُمَّ إنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ كَادَتْ لَهُ بِأَنْ أَظْهَرَتْ أَنَّهُ رَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا وَكَانَتْ هِيَ الْمُرَاوِدَةَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] . ثُمَّ كَادَ لَهُ النِّسْوَةُ حَتَّى اسْتَجَارَ بِاَللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ - فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 33 - 34] حَتَّى إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لَمَّا جَاءَهُ رَسُولُ الْمَلِكِ يَسْتَخْرِجُهُ مِنْ السِّجْنِ: {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50] .

فَكَادَ اللَّهُ لِيُوسُفَ بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ أَيْدِي إخْوَتِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ كَمَا أَخْرَجُوا يُوسُفَ مِنْ يَدِ أَبِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ. وَكَيْدُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَخْرُجُ عَنْ نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ الْأَغْلَبُ أَنْ يَفْعَلَ سُبْحَانَهُ فِعْلًا خَارِجًا عَنْ قُدْرَةِ الْعَبْدِ الَّذِي كَادَ لَهُ فَيَكُونَ الْفِعْلُ قَدَرًا مَحْضًا لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الشَّرْعِ كَمَا كَادَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنْ انْتَقَمَ مِنْهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ. وَكَذَلِكَ كَانَتْ قِصَّةُ يُوسُفَ فَإِنَّ يُوسُفَ أَكْثَرَ مَا قَدَرَ أَنْ يَفْعَلَ أَنْ أَلْقَى الصُّوَاعَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ بِسَرِقَتِهِمْ فَلَمَّا أَنْكَرُوا {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف: 74] أَيْ جَزَاءُ السَّارِقِ {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] أَيْ جَزَاؤُهُ نَفْسُ نَفْسِ السَّارِقِ يَسْتَعْبِدُهُ الْمَسْرُوقَ إمَّا مُطْلَقًا أَوْ إلَى مُدَّةٍ وَهَذِهِ كَانَتْ شَرِيعَةَ آلِ يَعْقُوبَ، وَقَوْلُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَإِ وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ جَزَاؤُهُ جُمْلَةٌ ثَانِيَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى. وَالتَّقْدِيرُ فِي جَزَاءِ هَذَا الْفِعْلِ نَفْسُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْجَزَاءُ فِي دِينِنَا كَذَلِكَ يَجْزِي الظَّالِمِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ {مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ هِيَ خَبَرُ الْمُبْتَدَإِ وَالتَّقْدِيرُ جَزَاءُ السَّارِقِ هُوَ أَنَّهُ مَنْ وُجِدَ الصَّاعُ فِي رَحْلِهِ كَانَ هُوَ الْجَزَاءَ كَمَا تَقُولُ جَزَاءُ السَّرِقَةِ مِمَّنْ سَرَقَ قَطْعُ يَدِهِ -، وَإِنَّمَا احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ قَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْحُكْمِ بِاسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْعُقُوبَةِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْأَلَمِ الْوَاصِلِ إلَى الْمُعَاقَبِ فَكُلَّمَا تَكَلَّمُوا بِهَذَا الْكَلَامِ كَانَ إلْهَامُ اللَّهِ لَهُمْ هَذَا كَيْدًا لِيُوسُفَ خَارِجًا عَنْ قُدْرَتِهِ، إذْ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا الْإِجْزَاءُ عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَرَقَ فَإِنَّ مُجَرَّدَ وُجُودِهِ فِي رَحْلِهِ لَا يُوجِبُ حُكْمَ السَّارِقِ وَقَدْ كَانَ يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَادِلًا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ أَوْ يَقُولُونَ جَزَاؤُهُ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مَا تَفْعَلُونَ بِالسُّرَّاقِ فِي دِينِكُمْ وَقَدْ كَانَ مِنْ دِينِ مَلِكِ مِصْرَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ السَّارِقَ يُضْرَبُ وَيَغْرَمُ قِيمَةَ الْمَسْرُوقِ مَرَّتَيْنِ وَلَوْ قَالُوا ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُلْزِمَهُمْ بِمَا لَا يُلْزِمُهُ غَيْرَهُمْ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76] أَيْ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَخْذُهُ فِي دِينِ مَلِكِ مِصْرَ لِأَنَّ دِينَهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ طَرِيقٌ

إلَى أَخْذِهِ - إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ - اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ لَكِنْ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَخَذَهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ، أَوْ يَكُونُ مُتَّصِلًا بِأَنْ يُهَيِّئَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ سَبَبًا آخَرَ بِطَرِيقٍ يُؤْخَذُ بِهِ فِي دِينِ الْمَلِكِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي كَانَ الرَّجُلُ فِي دِينِ الْمَلِكِ يُعْتَقَلُ بِهَا. فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَيْدِ فِعْلًا مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُيَسِّرَ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ الْمَظْلُومِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ أُمُورًا يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودُهُ بِالِانْتِقَامِ مِنْ الظَّالِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا خَارِجٌ عَنْ الْحِيَلِ الْفِقْهِيَّةِ، فَإِنَّا إنَّمَا تَكَلَّمْنَا فِي حِيَلٍ يَفْعَلُهَا الْعَبْدُ لَا فِيمَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، بَلْ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَنْ كَادَ كَيْدًا مُحَرَّمًا فَإِنَّ اللَّهَ يَكِيدُهُ وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي مُرْتَكِبِ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ فَإِنَّهُ لَا يُبَارِكُ لَهُ فِي هَذِهِ الْحِيَلِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ، وَفِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُتَوَكِّلَ عَلَى اللَّهِ إذَا كَادَهُ الْخَلْقُ فَإِنَّ اللَّهَ يَكِيدُ لَهُ وَيَنْتَصِرُ لَهُ بِغَيْرِ حَوْلٍ مِنْهُ وَلَا قُوَّةٍ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] قَالُوا بِالْعِلْمِ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْخَفِيَّ الَّذِي يَتَوَصَّلُ بِهِ الْمَقَاصِدَ الْحَسَنَةَ مِمَّا يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ الدَّرَجَاتِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ يُوسُفَ كَانَ مِنْهُ فِعْلٌ فَيَكُونُ بِهَذَا الْعِلْمِ هُوَ مَا اهْتَدَى بِهِ يُوسُفُ إلَى أَمْرٍ تَوَكَّلَ فِي إتْمَامِهِ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اهْتِدَاءَهُ لِإِلْقَاءِ الصَّاعِ وَاسْتِرْجَاعِهِمْ نَوْعُ فِعْلٍ مِنْهُ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا وَحْدَهُ هُوَ الْحِيلَةَ، وَالْحِيَلُ الْفِقْهِيَّةُ بِهَا وَحْدَهَا يَتِمُّ غَرَضُ الْمُحْتَالِ لَوْ كَانَتْ حَلَالًا. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ كَيَدِهِ لِعَبْدِهِ هُوَ أَنْ يُلْهِمَهُ سُبْحَانَهُ أَمْرًا مُبَاحًا، أَوْ مُسْتَحَبًّا، أَوْ وَاجِبًا يُوصِلُهُ بِهِ إلَى الْمَقْصُودِ الْحَسَنِ فَيَكُونُ هَذَا عَلَى إلْهَامِهِ لِيُوسُفَ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَ هُوَ مِنْ كَيْدِهِ سُبْحَانَهُ أَيْضًا. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] فَإِنَّ فِيهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الدَّقِيقَ الْمُوصِلَ إلَى الْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ صِفَةُ مَدْحٍ كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يُخْصَمُ بِهِ الْمُبْطِلُ صِفَةُ مَدْحٍ. حَيْثُ قَالَ فِي قِصَّةِ إبْرَاهِيمَ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83] . وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مِنْ الْكَيْدِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكَيْدُ الَّذِي تُسْتَحَلُّ بِهِ الْمُحَرَّمَاتُ، أَوْ تَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبَاتُ فَإِنَّ هَذَا كَيْدٌ لِلَّهِ، وَاَللَّهُ هُوَ الْمَكِيدُ فِي مِثْلِ

هَذَا فَمُحَالٌ أَنْ يَشْرَعَ اللَّهُ أَنْ يُكَادَ دِينُهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْكَيْدَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِفِعْلٍ يُقْصَدُ بِهِ غَيْرُ مَقْصُودِهِ الشَّرْعِيِّ، وَمُحَالٌ أَنْ يَشْرَعَ اللَّهُ لِعَبْدٍ أَنْ يَقْصِدَ بِفِعْلِهِ مَا لَمْ يَشْرَعْ اللَّهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمَشْرُوعَ هُوَ عَامٌّ لَا يُخَصُّ بِهِ شَخْصٌ دُونَ شَخْصٍ فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا كَانَ مُبَاحًا لِشَخْصٍ كَانَ مُبَاحًا لِكُلِّ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ - فَإِذَنْ مَنْ احْتَالَ بِحِيلَةٍ فِقْهِيَّةٍ مُحَرَّمَةٍ أَوْ مُبَاحَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ اخْتِصَاصٌ، بِتِلْكَ الْحِيلَةِ لَا يُفَهِّمُهَا وَلَا يُعَلِّمُهَا، لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ كُلَّهُمْ يَشْرَكُونَهُ فِي فَهْمِهَا وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يُسَاوُونَهُ فِي عَمَلِهَا، وَإِنَّمَا فَضِيلَةُ الْفَقِيهِ إذَا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ أَنْ يَتَفَطَّنَ لِانْدِرَاجِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ تَحْتَ الْحُكْمِ الْعَامِّ الَّذِي يَعْلَمُهُ هُوَ وَغَيْرُهُ، أَوْ يُمْكِنُهُمْ مَعْرِفَتُهُ بِأَدِلَّتِهِ الْعَامَّةِ نَصًّا أَيْضًا وَاسْتِنْبَاطًا فَأَمَّا الْحُكْمُ فَمُتَقَرَّرٌ قَبْلَ تِلْكَ الْحَادِثَةِ فَإِذَنْ احْتِيَاجُ النَّاسِ إلَى الْحِيَلِ لَا يُجَدِّدُ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً قَبْلَ ذَلِكَ بَلْ الْأَحْكَامُ مُسْتَقِرَّةٌ وُجِدَتْ تِلْكَ الْحَاجَةُ، أَوْ لَمْ تُوجَدْ، فَإِنْ كَانَ الشَّارِعُ قَدْ جَعَلَ الْحُكْمَ يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ تِلْكَ الْحَاجَةِ كَانَ حُكْمًا عَامًّا وُجِدَتْ حَاجَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ، أَوْ لَمْ تُوجَدْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَعَلَ لِتِلْكَ الْحَاجَةِ تَأْثِيرًا فِي الْحُكْمِ فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ سَوَاءٌ وُجِدَتْ تِلْكَ الْحَاجَةُ مُطْلَقًا، أَوْ لَمْ تُوجَدْ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا كَادَ لِيُوسُفَ كَيْدًا جَزَاءً مِنْهُ عَلَى صَبْرِهِ، وَإِحْسَانِهِ وَذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الْمِنَّةِ عَلَيْهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِيُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اخْتِصَاصٌ بِذَلِكَ الْكَيْدِ لَمْ يَكُنْ فِي مُجَرَّدِ عَمَلِ الْإِنْسَانِ أَمْرٌ مُبَاحٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنَّةٌ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمِنَّةَ كَانَتْ عَلَيْهِ فِي أَنْ أُلْهِمَ الْعَمَلَ بِمَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ يُلْهِمُ الْعَبْدَ مَا لَا يُلْهِمُهُ غَيْرَهُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله تَعَالَى {كِدْنَا} [يوسف: 76] صَنَعْنَا، وَبَعْضُهُمْ قَالَ أَلْهَمْنَا يُوسُفَ. وَمَنْ احْتَالَ بِعَمَلٍ هُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَبَاحَهُ الشَّارِعُ فَهَذَا جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُبَاحُ لَهُ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ مِثْلُ الْخِيَانَةِ وَالْغُلُولِ، أَوْ يُبَاحُ لَهُ فِعْلُ الْمُبَاحِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِثْلُ الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ؟ يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ نَفْسَ الْأَحْكَامِ مِثْلُ إبَاحَةِ الْفِعْلِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى كَيْدًا. وَإِنَّمَا الْكَيْدُ فِعْلٌ مِنْ اللَّهِ ابْتِدَاءً، أَوْ فِعْلٌ مِنْ الْعَبْدِ يَكُونُ الْعَبْدُ بِهِ فَاعِلًا، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْحِيَلِ الشَّرْعِيَّةِ - وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي مَعْنَى الْكَيْدِ إنَّمَا انْضَمَّ إلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْأَفْعَالِ الَّتِي فَعَلَهَا يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالْأَفْعَالِ الَّتِي فَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ تَيَقَّنَ اللَّبِيبُ أَنَّ الْكَيْدَ لَمْ يَكُنْ خَارِجًا عَنْ إلْهَامِ فِعْلٍ كَانَ مُبَاحًا، أَوْ فِعْلٍ مِنْ اللَّهِ تَمَّ بِهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ،

وَأَنَّ حَاجَةَ يُوسُفَ لَمْ تُبِحْ لَهُ فِعْلَ شَيْءٍ كَانَ حَرَامًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الْجُمْلَةِ قِيلَ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِمَّا ظَنَّ الْمُحْتَالُونَ أَنَّهُ مِنْ الْحِيَلِ سَائِرُ الْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ فَقَالُوا: الْبَيْعُ احْتِيَالٌ عَلَى حُصُولِ الْمِلْكِ، وَالنِّكَاحُ احْتِيَالٌ عَلَى حُصُولِ حِلِّ الْبُضْعِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْخَلْقُ وَهُوَ احْتِيَالٌ عَلَى طَلَبِ مَصَالِحِهِمْ الَّتِي أَبَاحَهَا اللَّهُ لَهُمْ - وَقَالَ قَائِلُهُمْ: الْحِيلَةُ هِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا الْإِنْسَانُ إلَى إسْقَاطِ الْمَآثِمِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَالَ آخَرُ: هِيَ مَا يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ تَرْكٍ، أَوْ فِعْلٍ لَوْلَاهَا كَانَ يَلْزَمُهُ مِنْ غَيْرِ إثْمٍ، ثُمَّ قَالُوا: وَهَذَا شَأْنُ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُبَاحَةِ، وَقَالُوا: قَدْ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَامِلِهِ عَلَى خَيْبَرَ بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» ، فَلَمَّا كَانَ مَقْصُودُهُ ابْتِيَاعَ الْجَنِيبِ بِجَمْعٍ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ الْجَمْعَ، ثُمَّ يَبْتَاعَ بِثَمَنِهِ جَنِيبًا فَعَقَدَ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ لِيَتَوَسَّلَ بِهِ لِلْعَقْدِ الثَّانِي. قَالُوا: وَهَذِهِ حِيلَةٌ تَضَمَّنَتْ حُصُولَ الْمَقْصُودِ بَعْدَ عَقْدَيْنِ فَهِيَ أَوْكَدُ مِمَّا تَضَمَّنَتْ حُصُولَهُ بَعْدَ عَقْدٍ وَاحِدٍ. وَأَشْبَهَتْ الْعِينَةَ فَإِنَّهُ قَصَدَ أَنْ يُعْطِيَهُ دَرَاهِمَ، فَلَمْ يُمْكِنْ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ فَعَقَدَ عَقْدَيْنِ بِأَنْ بَاعَ السِّلْعَةَ ثُمَّ ابْتَاعَهَا، وَالْحِيَلُ الْمَعْرُوفَةُ لَا تَتِمُّ غَالِبًا إلَّا بِأَنْ يَنْضَمَّ إلَى الْعَقْدِ الْآخَرِ شَيْءٌ آخَرُ مِنْ عَقْدٍ آخَرَ. أَوْ فَسْخٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ تَحْصِيلَ الْمَقَاصِدِ بِالطُّرُقِ الْمَشْرُوعَةِ إلَيْهَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْحِيَلِ سَوَاءٌ سُمِّيَ حِيلَةً، أَوْ لَمْ يُسَمَّ، فَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ، بَلْ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ مِنْ جِهَةِ الْوَسِيلَةِ وَالْمَقْصُودِ اللَّذَيْنِ هُمَا الْمُحْتَالُ بِهِ وَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ مَقْصُودُهُ الَّذِي شُرِعَ الْبَيْعُ لَهُ أَنْ يَحْصُلَ مِلْكُ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ وَيَحْصُلَ مِلْكُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، فَيَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِلْكًا لِمَنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ، وَذَلِكَ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ إنَّمَا يَكُونُ إذَا قَصَدَ الْمُشْتَرِي نَفْسَ السِّلْعَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهَا، وَإِنْفَاقِهَا، أَوْ التِّجَارَةِ فِيهَا. فَإِنْ قَصَدَ ثَمَنَهَا الَّذِي هُوَ الدَّرَاهِمُ، أَوْ الدَّنَانِيرُ وَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودَهُ إلَّا أَنَّهُ قَدْ احْتَاجَ إلَى دَرَاهِمَ فَابْتَاعَ سِلْعَةً نَسِيئَةً لِيَبِيعَهَا وَيَسْتَنْفِقَ ثَمَنَهَا فَهُوَ التَّوَرُّقُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ إذَا قَصَدَ الْبَائِعُ نَفْسَ الثَّمَنِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ بِمَا جُعِلَتْ الْأَثْمَانُ لَهُ مِنْ إنْفَاقٍ وَتِجَارَةٍ وَنَحْوِهِمَا، فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الرَّجُلِ نَفْعَ الْمِلْكِ الْمُبَاحِ بِالْبَيْعِ وَمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِهِ وَحَصَّلَهُ بِالْبَيْعِ فَقَدْ قَصَدَ بِالسَّبَبِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ وَأَتَى بِالسَّبَبِ حَقِيقَةً، وَسَوَاءٌ كَانَ مَقْصُودُهُ يَحْصُلُ بِعَقْدٍ أَوْ عُقُودٍ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ سِلْعَةٌ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْتَاعَ سِلْعَةً أُخْرَى

لَا تُبَاعُ بِسِلْعَتِهِ لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ عُرْفِيٍّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَيَبِيعُ سِلْعَتَهُ لِيَمْلِكَ ثَمَنَهَا، وَالْبَيْعُ لِمِلْكِ الثَّمَنِ مَقْصُودٌ مَشْرُوعٌ، ثُمَّ يَبْتَاعُ بِالثَّمَنِ سِلْعَةً أُخْرَى، وَابْتِيَاعُ السِّلَعِ بِالْأَثْمَانِ مَقْصُودٌ مَشْرُوعٌ. وَهَذِهِ قِصَّةُ بِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِخَيْبَرَ سَوَاءٌ، فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ فَقَدْ أَرَادَ بِالْبَيْعِ مِلْكَ الثَّمَنِ وَهَذَا مَشْرُوعٌ مَقْصُودٌ، ثُمَّ إذَا ابْتَاعَ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا فَقَدْ أَرَادَ بِالِابْتِيَاعِ مِلْكَ سِلْعَةٍ وَهَذَا مَقْصُودٌ مَشْرُوعٌ، فَلَمَّا كَانَ بَائِعًا قَصَدَ مِلْكَ الثَّمَنِ حَقِيقَةً، وَلَمَّا كَانَ مُبْتَاعًا قَصَدَ مِلْكَ السِّلْعَةِ حَقِيقَةً، فَإِنْ ابْتَاعَ بِالثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ فَهَذَا لَا مَحْذُورَ فِيهِ، إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ مَقْصُودٌ مَشْرُوعٌ. وَلِهَذَا يَسْتَوْفِيَانِ حُكْمَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مِنْ النَّقْدِ وَالْقَبْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا إنْ ابْتَاعَ بِالثَّمَنِ مِمَّنْ ابْتَاعَهُ مِنْ جِنْسِ مَا بَاعَهُ فَيُخَافُ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ مَقْصُودًا مِنْهُمَا بَلْ قَصْدُهُمَا بَيْعُ السِّلْعَةِ الْأُولَى بِالثَّانِيَةِ فَيَكُونُ رِبًا، وَيَظْهَرُ هَذَا الْقَصْدُ بِأَنْ يَكُونَ إذَا بَاعَهُ التَّمْرَ مَثَلًا بِدَرَاهِمَ لَمْ يُحَرِّرْ وَزْنَهَا وَلَا نَقْدَهَا وَلَا قَبْضَهَا فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ مِلْكَ الْمُثَمَّنِ بِذَلِكَ التَّمْرِ وَلَا قَصَدَ الْمُشْتَرِي تَمَلُّكَ التَّمْرِ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي هِيَ الثَّمَنُ بَلْ عَقَدَ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ عَلَى أَنْ يُعِيدَ إلَيْهِ الثَّمَنَ وَيَأْخُذَ التَّمْرَ الْآخَرَ وَهَذَا تَوَاطُؤٌ مِنْهُمَا حِينَ عَقْدِهِ عَلَى فَسْخِهِ، وَالْعَقْدُ إذَا قَصَدَ بِهِ فَسْخَهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ مَقْصُودًا كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، فَيَكُونَانِ قَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَبْتَاعَا بِالتَّمْرِ تَمْرًا. يُحَقِّقُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْعَقْدُ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ إذَا جَاءَ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، أَوْ حِنْطَةٍ، أَوْ تَمْرٍ، أَوْ زَبِيبٍ لِيَبْتَاعَ بِهِ مِنْ جِنْسِهِ أَكْثَرَ مِنْهُ، أَوْ أَقَلَّ فَإِنَّهُمَا غَالِبًا يَتَشَارَطَانِ وَيَتَرَاضَيَانِ عَلَى سِعْرِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: بِعْتُك هَذِهِ الدَّرَاهِمَ بِكَذَا وَكَذَا دِينَارًا، ثُمَّ يَقُولُ: اصْرِفْ لِي بِهَا كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا لِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ أَوَّلًا، وَيَقُولُ: بِعْتُك هَذَا التَّمْرَ بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا. ثُمَّ يَقُولُ: بِعْنِي بِهِ كَذَا وَكَذَا تَمْرًا فَيَكُونَانِ قَدْ اتَّفَقَا عَلَى الثَّمَنِ الْمَذْكُورِ صُورَةً لَا حَقِيقَةً لَيْسَ لِلْبَائِعِ غَرَضٌ فِي أَنْ يَمْلِكَهُ وَلَا لِلْمُشْتَرِي غَرَضٌ أَنْ يَمْلِكَهُ وَقَدْ تَعَاقَدَا عَلَى أَنْ يَمْلِكَهُ الْبَائِعُ، ثُمَّ يُعِيدَهُ إلَى الْمُشْتَرِي، وَالْعَقْدُ لَا يُعْقَدُ لِيُفْسَخَ مِنْ غَيْرِ غَرَضٍ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ وُجُودِهِ. فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَأَيْنَ مَنْ يَبِيعُهُ بِثَمَنٍ لِيَشْتَرِيَ بِهِ مِنْهُ إلَى مَنْ يَبِيعُهُ بِثَمَنٍ لِيَأْخُذَ مِنْهُ. يُوَضِّحُ هَذَا أَشْيَاءُ: مِنْهَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ رَجُلٍ سِلْعَةً بِثَمَنٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا

فَإِنَّهُمَا فِي الْعُرْفِ لَا يَحْتَاجَانِ أَنْ يُعَاقِدَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ، بِثَمَنٍ يُمَيِّزَهُ، ثُمَّ يَبْتَاعَا بِهِ، وَإِنَّمَا يُقَوِّمَانِ السِّلْعَتَيْنِ لِيَعْرِفَا مِقْدَارَهُمَا، وَلَوْ قَالَ لَهُ بِعْتهَا بِكَذَا وَكَذَا. أَوْ ابْتَعْت مَثَلًا هَذِهِ بِهَذَا الثَّمَنِ لَعُدَّ هَذَا لَاعِبًا عَابِثًا قَائِلًا مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الشِّرَاءُ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ بِثَمَنٍ يَمْلِكُهُ حَقِيقَةً، ثُمَّ يَبْتَاعُ بِهِ مِنْ الْآخَرِ فَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْهُ بِالثَّمَنِ مِنْ جِنْسِهَا كَيْفَ يَأْمُرُهُ الشَّارِعُ بِشَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ؟ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَمْ يَكُنْ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا حِكْمَةٌ إلَّا تَضْيِيعُ الزَّمَانِ، وَإِتْعَابُ النَّفْسِ بِلَا فَائِدَةٍ. فَإِنَّهُ لَا يَشَاءُ أَنْ يَبْتَاعَ رِبَوِيًّا بِأَكْثَرَ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ إلَّا قَالَ بِعْتُك هَذَا بِكَذَا وَابْتَعْت مِنْك هَذَا بِهَذَا الثَّمَنِ. فَلَا يَعْجِزُ أَحَدٌ عَنْ اسْتِحْلَالِ رِبًا حَرَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَطُّ، فَإِنَّ الرِّبَا فِي الْبَيْعِ نَوْعَانِ: رِبَا الْفَضْلِ. وَرِبَا النَّسِيئَةِ، فَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَيُمْكِنُهُ فِي كُلِّ مَالٍ رِبَوِيٍّ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك هَذَا الْمَالَ بِكَذَا وَيُسَمِّيَ مَا شَاءَ، ثُمَّ يَقُولَ ابْتَعْت هَذَا الْمَالَ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَمَّا رِبَا النَّسِيئَةِ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك هَذِهِ الْحَرِيرَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ عِشْرِينَ صَاعًا إلَى سَنَةٍ وَابْتَعْتهَا مِنْك بِتِسْعِمِائَةٍ حَالَّةٍ، أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَيُمْكِنُهُ رِبَا الْقَرْضِ فَلَا يَشَاءُ مُرْبٍ إلَّا أَقْرَضَهُ، ثُمَّ حَابَاهُ فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ، أَوْ مُسَاقَاةٍ، أَوْ أَهْدَى لَهُ، أَوْ نَفَعَهُ، وَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُمَا مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الْقَرْضِ، فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ أَيَعُودُ الرِّبَا الَّذِي قَدْ عَظَّمَ اللَّهُ شَأْنَهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَوْجَبَ مُحَارَبَةَ مُسْتَحِلِّهِ، وَلَعَنَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِأَخْذِهِ، وَلَعَنَ آكِلَهُ وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ، وَجَاءَ فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ مَا لَمْ يَجِئْ فِي غَيْرِهِ إلَى أَنْ يُسْتَحَلَّ جَمِيعُهُ بِأَدْنَى سَعْيٍ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ أَصْلًا إلَّا بِصُورَةِ عَقْدٍ هِيَ عَبَثٌ وَلَعِبٌ يَضْحَكُ مِنْهَا وَيَسْتَهْزِئُ بِهَا؟ أَمْ يَسْتَحْسِنُ مُؤْمِنٌ أَنْ يَنْسُبَ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنْ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ. بَلْ أَنْ يَنْسُبَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إلَى أَنْ يُحَرِّمَ هَذِهِ الْمَحَارِمَ الْعَظِيمَةَ، ثُمَّ يُبِيحَهَا بِضَرْبٍ مِنْ الْعَبَثِ وَالْهَزْلِ الَّذِي لَمْ يُقْصَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَيْسَ فِيهِ مَقْصُودُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَطُّ. وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْمُرْبِينَ مِنْ الصَّيَارِفِ قَدْ جَعَلَ عِنْدَهُ خَرَزَةَ ذَهَبٍ فَكُلُّ مَنْ جَاءَ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهُ فِضَّةً بِأَقَلَّ مِنْهَا لِكَوْنِهَا مَكْسُورَةً، أَوْ مِنْ نَقْدٍ غَيْرِ نَافِقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ لَهُ الصَّيْرَفِيُّ: بِعْنِي هَذِهِ الْفِضَّةَ بِهَذِهِ الْخَرَزَةِ، ثُمَّ يَقُولُ ابْتَعْت هَذِهِ الْخَرَزَةَ بِهَذِهِ الْفِضَّةِ. أَفَيَسْتَجِيزُ رَشِيدٌ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الَّذِي حَرَّمَ بَيْعَ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا أَحَلَّ تَحْصِيلَ الْفِضَّةِ

بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِي مُحَلِّلِ الْقِمَارَ مَا يَقُولُ، وَيَقُولُ فِي مُحَلِّلِ النِّكَاحَ مَا يَقُولُ؟ وَكَذَلِكَ بَلَغَنِي أَنَّ مِنْ الْبَاعَةِ مَنْ قَدْ أَعَدَّ بَزًّا لِتَحْلِيلِ الرِّبَا، فَإِذَا جَاءَ الرَّجُلُ إلَى مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ ذَهَبَا إلَى ذَلِكَ الْمُحَلِّلِ فَاشْتَرَى ذَلِكَ الْمُعْطِي مِنْهُ ذَلِكَ الْبَزَّ، ثُمَّ يُعِيدُهُ لِلْآخَرِ، ثُمَّ يَبِيعُهُ الْآخِذُ إلَى صَاحِبِهِ، وَقَدْ عُرِفَ الرَّجُلُ بِذَلِكَ بِحَيْثُ إنَّ الْبَزَّ الَّذِي يُحَلَّلُ بِهِ الرِّبَا لَا يَكَادُ يَبِيعُهُ الْبَيْعَ أَلْبَتَّةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ حِيَلِ الرِّبَا أَغْلَظُ فِي بَابِهَا مِنْ التَّحْلِيلِ فِي بَابِهِ، وَلِهَذَا حَرَّمَهَا، أَوْ بَعْضَهَا مَنْ لَمْ يُحَرِّمْ التَّحْلِيلَ، لِأَنَّ الْقَصْدَ فِي الْبَيْعِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْهَازِلِ. بِخِلَافِ نِكَاحِهِ، وَلِأَنَّ الِاحْتِيَالَ فِي الرِّبَا غَالِبًا إنَّمَا يَتِمُّ فِي الْمُوَاطَأَةِ اللَّفْظِيَّةِ أَوْ الْعُرْفِيَّةِ، وَلَا يَفْتَقِرُ عَقْدُ الرِّبَا إلَى شَهَادَةٍ. وَلَكِنْ يَتَعَاقَدَانِ، ثُمَّ يَشْهَدَانِ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ دِينًا، وَلِهَذَا إنَّمَا لُعِنَ شَاهِدَاهُ إذَا عَلِمَا بِهِ. وَالتَّحْلِيلُ لَا يُمْكِنُ إظْهَارَهُ وَقْتَ الْعَقْدِ لِكَوْنِ الشَّهَادَةِ شَرْطًا فِيهِ، وَالشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ مُؤَثِّرَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ، وَإِنْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا يُؤَثِّرُ. وَجِمَاعُ هَذَا أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى مِنْهُ رِبَوِيًّا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ، فَإِمَّا أَنْ يُوَاطِئَهُ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ لَفْظًا، أَوْ يَكُونَ الْعُرْفُ قَدْ جَرَى بِذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ عَقْدٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّ مِلْكَ الثَّمَنِ غَيْرُ مَقْصُودٍ. فَلَا قَوْلُهُ أَوَّلًا بِعْتُك هَذَا بِأَلْفٍ مَثَلًا صَحِيحٌ. وَلَا قَوْلُهُ ثَانِيًا ابْتَعْت هَذَا بِأَلْفٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ أَوَّلًا مِلْكَ الْأَلْفِ. وَلَمْ يَقْصِدْ ثَانِيًا التَّمْلِيكَ بِهَا، وَلَمْ يَقْصِدْ الْآخَرُ تَمْلِيكَ الْأَلْفِ أَوَّلًا وَلَا مِلْكَهَا ثَانِيًا، بَلْ الْقَصْدُ تَمْلِيكُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ مَثَلًا إنْ لَمْ تَجْرِ بَيْنَهُمَا مُوَاطَأَةٌ، لَكِنْ قَدْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الْبَائِعَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ فَهُوَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ يَمْنَعُ كُلًّا مِنْهُمَا أَنْ يَقْصِدَ الثَّمَنَ فِي الْعَقْدَيْنِ بَلْ عِلْمُهُ بِهِ ضَرْبٌ مِنْ الْمُوَاطَأَةِ الْعُرْفِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ قَصَدَ الْبَائِعُ الشِّرَاءَ مِنْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي فَهُنَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَوْ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ دَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالدَّرَاهِمِ مِنْهُ ذَهَبًا إلَّا أَنْ يَمْضِيَ لِيَبْتَاعَ بِالْوَرِقِ مِنْ غَيْرِهِ ذَهَبًا فَلَا يَسْتَقِيمُ فَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الَّذِي ابْتَاعَ مِنْهُ الدَّنَانِيرَ فَيَشْتَرِيَ مِنْهُ ذَهَبًا، وَكَذَلِكَ كُرِهَ مِنْك أَنْ تَصْرِفَ دَرَاهِمَك مِنْ رَجُلٍ بِدَنَانِيرَ، ثُمَّ تَبْتَاعَ مِنْهُ بِتِلْكَ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ غَيْرَ دَرَاهِمِك وَغَيْرَ عُيُونِهَا فِي الْوَقْتِ، أَوْ بَعْدَ يَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنْ

طَالَ الزَّمَانُ وَصَحَّ أَمْرُهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، لِأَنَّهُ مَنْ قَصَدَ الشِّرَاءَ مِنْهُ بِتِلْكَ الدَّنَانِيرِ لَمْ يَقْصِدْ تَمْلِيكَ الثَّمَنِ، وَلِهَذَا لَا يُحْتَاطُ فِي النَّقْدِ وَالْوَزْنِ فَمَتَى بَدَا لَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَالْمُفَارَقَةِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَجِدَ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ خَلَلٌ، ثُمَّ إنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَمَلُوا هَذَا الْمَنْعَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا: إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ حِيلَةٍ وَمُوَاطَأَةٍ لَمْ يَحْرُمْ، وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْكَرْمَانِيُّ. قَالَ قُلْت لِأَحْمَدَ: رَجُلٌ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ ذَهَبًا ثُمَّ بَاعَهُ مِنْهُ؟ قَالَ: يَبِيعُهُ مِنْ غَيْرِهِ أَعْجَبُ إلَيَّ، وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَكْرَهْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْ الرَّجُلِ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِالدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: إنَّ بَعْضَهُمْ لَيَفْعَلُ مَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْ الصَّرْفِ، وَهَذَا إخْبَارٌ عَمَّا كَانَتْ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ فَإِنَّ ابْنَ سِيرِينَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ فَلَا يَنْقُلُ الْكَرَاهَةَ الْمُطْلَقَةَ إلَّا عَنْ الصَّحَابَةِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَكْسُ مَسَائِلِ الْعِينَةِ وَهِيَ فِي رِبَا الْفَضْلِ كَمَسَائِلِ الْعِينَةِ فِي رِبَا النَّسَاءِ، لِأَنَّ هَذَا يَبِيعُ بِالثَّمَنِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَيْهِ وَيَأْخُذُ بِهِ، وَمِثْلُهَا فِي رِبَا النَّسَاءِ أَنْ يَبِيعَ رِبَوِيًّا بِنَسِيئَةٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ مَا لَا يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً - وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا عَدَّهَا مِنْ الرِّبَا الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِثْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، وَأَظُنُّهُ مَأْثُورًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ فَفِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ قَدْ عَادَ الثَّمَنُ إلَى الْمُشْتَرِي وَأَفْضَى إلَى رِبَا الْفَضْلِ، أَوْ رِبَا النَّسَاءِ، وَفِي مَسَائِلِ الْعِينَةِ قَدْ عَادَ الْمَبِيعُ إلَى الْبَائِعِ وَأَفْضَى إلَى رِبَا الْفَضْلِ وَالنَّسَاءِ جَمِيعًا. ثُمَّ إنْ كَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يَقْصِدْ الثَّمَنَ وَلَا الْمَبِيعَ، وَإِنَّمَا جَعَلَ وَصْلَةً إلَى الرِّبَا فَهَذَا لَا رَيْبَ فِي تَحْرِيمِهِ، وَالْعَقْدُ الْأَوَّلُ هُنَا بَاطِلٌ فَلَا يُوقَفُ فِيهِ عِنْدَ مَنْ يُبْطِلُ الْحِيَلَ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ قَدْ جَعَلَ فِي صِحَّتِهِ وَجْهَيْنِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الصَّوَابُ، وَإِنَّمَا تَرَدَّدَ مَنْ تَرَدَّدَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إنَّمَا يُنْصَبُ الْخِلَافُ فِيهَا فِي الْعَقْدِ الثَّانِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ صَحِيحٌ. وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فَلَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ الْحِيَلِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ مَسَائِلِ الذَّرَائِعِ، وَلَهَا مَأْخَذٌ آخَرُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ كَوْنُ الثَّمَنِ إذَا لَمْ

يُسْتَوْفَ لَمْ يَتِمَّ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ، فَيَصِيرُ الثَّانِي مَبْنِيًّا عَلَيْهِ. وَهَذَا تَعْلِيلٌ خَارِجٌ عَنْ قَاعِدَةِ الْحِيَلِ وَالذَّرَائِعِ أَيْضًا. فَصَارَ لَهَا ثَلَاثَةُ مَآخِذَ، فَلَمَّا لَمْ يُمْتَحَضْ تَحْرِيمُهَا عَلَى قَاعِدَةِ الْحِيَلِ تَوَقَّفَ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مَنْ تَوَقَّفَ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مِنْ الْحِيَلِ أُعْطِيت حُكْمَ الْحِيَلِ، وَإِلَّا اُعْتُبِرَ فِيهَا الْمَأْخَذَانِ الْآخَرَانِ، هَذَا إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ مَقْصُودًا حَقِيقَةً فَهُوَ صَحِيحٌ، لَكِنْ مَا دَامَ الثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ الْبَيْعَ بِأَقَلَّ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْهُ الثَّمَنَ رِبَوِيًّا، لَا يُبَاعُ بِالْأَوَّلِ نَسْئًا، لِأَنَّ أَحْكَامَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَا تُسْتَوْفَى إلَّا بِالتَّقَابُضِ، فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ التَّقَابُضُ كَانَ ذَرِيعَةً إلَى الرِّبَا، وَإِنْ تَقَابَضَا وَكَانَ الْعَقْدُ مَقْصُودًا فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ كَمَا يَشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ. وَإِذَا كَانَ الطَّرِيقُ إلَى الْحَلَالِ هِيَ الْعُقُودَ الْمَقْصُودَةَ الْمَشْرُوعَةَ الَّتِي لَا خِدَاعَ فِيهَا وَلَا تَحْرِيمَ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُلْحَقَ فِيهَا صُورَةُ عَقْدٍ لَمْ يَقْصِدْ حَقِيقَتَهُ مَنْ مَلَكَ الثَّمَنَ وَالْمُثَمَّنَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ اسْتِحْلَالَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ الرِّبَا وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبِلَالٍ: «بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الِاحْتِيَالِ بِالْعُقُودِ الَّتِي لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَتَهُ الْأُولَى، ثُمَّ يَبْتَاعَ بِثَمَنِهَا سِلْعَةً أُخْرَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَقْتَضِي الْبَيْعَ الصَّحِيحَ، وَمَتَى وُجِدَ الْبَيْعَانِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ جَازَ ذَلِكَ بِلَا رَيْبٍ، وَنَحْنُ نَقُولُ كُلُّ بَيْعٍ صَحِيحٌ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ وَلَا يَكُونُ رِبًا، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي بُيُوعٍ قَدْ دَلَّتْ السُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَهَا، وَإِنْ كَانَ بَيْعًا فَإِنَّهَا رِبًا وَهِيَ بَيْعٌ فَاسِدٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ، وَلَوْ اخْتَلَفَ رَجُلَانِ فِي بَيْعٍ هَلْ هُوَ صَحِيحٌ، أَوْ فَاسِدٌ، وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا إدْخَالَهُ فِي هَذَا اللَّفْظِ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ حَتَّى يُثْبِتَ أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ، فَمَتَى أَثْبَتَ أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى صِحَّةِ صُورَةِ النِّزَاعِ أَلْبَتَّةَ. وَالنُّكْتَةُ أَنْ يُقَالَ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ بِالْبَيْعِ إنَّمَا يَقْتَضِي الْبَيْعَ الصَّحِيحَ. وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ الَّتِي تَوَاطَآ فِيهَا عَلَى الِاشْتِرَاءِ بِالثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي شَيْئًا مِنْ جِنْسِ

الثَّمَنِ الرِّبَوِيِّ بَيْعٌ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا الْبَيْعُ الصَّحِيحُ الِاشْتِرَاءُ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ الِاشْتِرَاءُ مِنْهُ بَعْدَ بَيْعِهِ بَيْعًا مَقْصُودًا ثَابِتًا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الشِّرَاءَ مِنْهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ عُمُومٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: «وَابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» وَالْأَمْرُ بِالْحَقِيقَةِ الْمُطْلَقَةِ لَيْسَ أَمْرًا بِشَيْءٍ مِنْ قُيُودِهَا. لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَقَدْرُ الْمُشْتَرَكِ لَيْسَ هُوَ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ عَنْ الْآخَرِ وَلَا هُوَ مُلْتَزَمًا لَهُ فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْمُشْتَرَكِ أَمْرًا بِالْمُمَيَّزِ بِحَالٍ، نَعَمْ مُسْتَلْزِمٌ لِبَعْضِ تِلْكَ الْقُيُودِ لَا بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ عَامًّا لَهَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ لِلْأَفْرَادِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، فَقَوْلُهُ مَعَ هَذَا: الثُّبُوتُ لَا يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِبَيْعِهِ مِنْ زَيْدٍ، أَوْ عَمْرٍ وَلَا بِكَذَا، أَوْ كَذَا وَلَا بِهَذَا السُّوقِ، أَوْ هَذِهِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَكِنْ إذَا أَتَى بِالْمُسَمَّى حَصَلَ مُمَثَّلًا مِنْ جِهَةٍ وَجَدَّدَ تِلْكَ الْحَقِيقَةَ لَا مِنْ جِهَةِ وُجُودِ تِلْكَ الْقُيُودِ، وَهَذَا الْأَمْرُ لَا خِلَافَ فِيهِ، لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّ عَدَمَ الْأَمْرِ بِالْقُيُودِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْإِجْزَاءِ إذَا أَتَى بِهَا إلَّا بِقَرِينَةٍ، وَهَذَا خَطَأٌ. إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ: فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَلَا أَمَرَهُ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْ غَيْرِهِ فَالْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ لَفْظُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ، وَلَا عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ مُطَابَقَةً وَلَا تَضَامُنًا وَلَا الْتِزَامًا، كَمَا لَا يَدُلُّ عَلَى بَيْعِهِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ، أَوْ تَرْكِ قَبْضِهِ وَبَيْعِهِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ دُونَ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَبِنَقْدِ الْبَلَدِ، أَوْ غَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَبِثَمَنٍ حَالٍّ، أَوْ مُؤَجَّلٍ. فَإِنَّ هَذِهِ الْقُيُودَ خَارِجَةٌ عَنْ مَفْهُومِ اللَّفْظِ، وَلَوْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ اللَّفْظَ يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ كَانَ مُبْطِلًا لَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ إذَا أَتَى بِهَا، وَإِنَّمَا اُسْتُفِيدَ عَدَمُ الِامْتِثَالِ إذَا بِيعَ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ، أَوْ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، وَالْأَمْرُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْ الْعُرْفِ الَّذِي يُثْبِتُ الْبَيْعَ الْمُطْلَقَ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ يَبِيعُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ مِنْهُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةٍ أُخْرَى مُنْفَصِلَةٍ فِيمَا أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ جَازَ فِعْلُهُ وَمَا لَا فَلَا. وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَوْ كَانَ الِابْتِيَاعُ مِنْ الْمُشْتَرِي حَرَامًا لَنَهَى عَنْهُ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ بَيَانَ الطَّرِيقِ الَّتِي بِهَا يَحْصُلُ شِرَاءُ التَّمْرِ الْجَيِّدِ لِمَنْ عِنْدَهُ رَدِيءٌ، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ الرَّدِيءَ بِثَمَنٍ، ثُمَّ يَبْتَاعَ بِالثَّمَنِ جَيِّدًا. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِشُرُوطِ

الْبَيْعِ وَمَوَانِعِهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ الْحُكْمِ عَلَى وَجْهِ الْجُمْلَةِ. أَوْ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ يَفْهَمُ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِجَاجِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى نَفْيِ شَرْطٍ مَخْصُوصٍ كَمَا لَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى نَفْيِ سَائِرِ الشُّرُوطِ، وَمَا هَذَا إلَّا بِمَثَابَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187] . فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ حِلِّ الْأَكْلِ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَمَنْ احْتَجَّ بِهِ عَلَى حَدِّ نَوْعِ الْمَأْكُولَاتِ، أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْأَكْلِ كَانَ مُبْطِلًا، إذْ لَا عُمُومَ فِي اللَّفْظِ لِذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ سَوَاءً وَلَيْسَ الْغَالِبُ أَنَّ بَائِعَ التَّمْرِ بِدَرَاهِمَ يَبْتَاعُ بِهَا مِنْ الْمُشْتَرِي حَتَّى يُقَالَ: هَذِهِ الصُّورَةُ غَالِبَةٌ فَكَانَ يَنْبَغِي التَّحْذِيرُ مِنْهَا كَمَا حَذَّرَ السَّلَفُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الصَّرْفِ، لِأَنَّ سِعْرَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الْغَالِبِ مَعْرُوفٌ، وَالْغَالِبُ أَنَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ نَقْدًا لِيَشْتَرِيَ نَقْدًا آخَرَ إذَا بَاعَهُ لِلصَّيْرَفِيِّ بِذَهَبٍ ابْتَاعَ بِالذَّهَبِ مِنْهُ النَّقْدَ الْآخَرَ وَلِهَذَا حَذَّرُوا مِنْهُ، وَأَمَّا التَّمْرُ وَالْبُرُّ وَنَحْوُهُمَا مِنْ الْعُرُوضِ فَإِنَّ مَنْ يَقْصِدُ بَيْعَهُ لَا يَقْصِدُ بِهِ مُشْتَرِيًا مَخْصُوصًا. بَلْ يَعْرِضُهُ عَلَى أَهْلِ السُّوقِ عَامَّةً. أَوْ يَضَعُهُ حَيْثُ يَقْصِدُونَهُ، أَوْ يُنَادِي عَلَيْهِ، فَإِذَا بَاعَهُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فَقَدْ تَكُونُ عِنْدَهُ السِّلْعَةُ الَّتِي يُرِيدُهَا وَقَدْ لَا تَكُونُ. وَمِثْلُ هَذَا إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ: بِعْ هَذِهِ الثِّيَابَ الْكَتَّانَ وَاشْتَرِ لَنَا بِالثَّمَنِ ثِيَابَ قُطْنٍ. أَوْ بِعْ هَذِهِ الْحِنْطَةَ الْعَتِيقَةَ وَاشْتَرِ لَنَا بِالثَّمَنِ جَدِيدَةً لَا يَكَادُ يَخْطِرُ بِبَالِهِ الِاشْتِرَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي بَلْ يَشْتَرِي مِنْ حَيْثُ وَجَدَ غَرَضَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ أَغْلَبَ مِنْ وُجُودِهِ عِنْدَهُ، فَالْغَرَضُ فِي بَيْعِ الْعُرُوضِ أَوْ ابْتِيَاعِهَا لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ عِنْدَ وَاحِدٍ بِخِلَافِ الْأَثْمَانِ. وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ صُورَةً قَلِيلَةً لَمْ يَجِبْ التَّحْذِيرُ مِنْهَا إذَا لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مُتَنَاوِلًا لَهَا كَمَا لَوْ يُحَذِّرُ مِنْ سَائِرِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، وَلِهَذَا إنَّمَا يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الشِّرَاءِ مِنْ الْمُشْتَرِي فِي الصَّرْفِ، لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ، بِخِلَافِ الْعُرُوضِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ لَهُ إشْعَارٌ بِالِابْتِيَاعِ مِنْ الْمُشْتَرِي أَلْبَتَّةَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ» إنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْبَيْعُ الْمَقْصُودُ الْخَالِي عَنْ شَرْطٍ يَمْنَعُ كَوْنَهُ مَقْصُودًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ الَّذِي لَا يُقْصَدُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْت هَذَا الثَّوْبَ، أَوْ بِعْ هَذَا الثَّوْبَ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ بَيْعُ الْمُكْرَهِ وَلَا بَيْعُ الْهَازِلِ. وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْبَيْعُ الَّذِي قُصِدَ بِهِ نَقْلُ الْمِلْكِ، فَإِذَا جَاءَ إلَى تَمَّارٍ فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ

أَشْتَرِيَ مِنْك بِالتَّمْرِ الرَّدِيءِ تَمْرًا جَيِّدًا فَيَشْتَرِيَهُ مِنْهُ بِكَذَا دِرْهَمًا وَيَعْنِي بِالدَّرَاهِمِ كَذَا تَمْرًا جَيِّدًا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ مِلْكَ الثَّمَنِ الَّذِي هُوَ الدَّرَاهِمُ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ بَيْعُ تَمْرٍ بِتَمْرٍ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ قَدْ مَضَى. يُبَيِّنُ هَذَا: أَنَّ مِثْلَ هَذَيْنِ قَدْ يَتَرَاضَيَانِ أَوَّلًا عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ ثُمَّ يَجْعَلَانِ الدَّرَاهِمَ مُحَلِّلًا، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْوَكِيلَ فِي الْبَيْعِ مَأْمُورٌ بِالِانْتِقَادِ وَالِاتِّزَانِ وَالْقَبْضِ مَعَ الْقَرِينَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِ الْعَقْدِ. وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ رَدَّ الثَّمَنِ إلَيْهِ لَمْ يُحَرِّرْ النَّقْدَ وَالْوَزْنَ وَالْقَبْضَ، وَمِثْلُ هَذَا فِي الْإِطْلَاقِ لَا يُسَمَّى بَيْعًا، وَلَوْ قَالَ النَّاسُ: فُلَانٌ بَاعَ دَارِهِ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ إلَّا صُورَةٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فَلَا تَدْخُلُ هَذِهِ الصُّورَةُ فِي لَفْظِ الْبَيْعِ لِانْتِفَاءِ مُسَمَّى الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَمَتَى تَوَاطَأَ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ بِالثَّمَنِ، ثُمَّ يَبْتَاعَ بِهِ مِنْهُ فَهُوَ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْحَدِيثِ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا، وَهَذَا يَقْتَضِي بَيْعًا يُنْشِئُهُ وَيَبْتَدِيهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ، وَمَتَى وَاطَأَهُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى أَنْ أَبِيعَك وَأَبْتَاعَ مِنْك فَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى الْعَقْدَيْنِ مَعًا فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي حَدِيثِ الْأَمْرِ بَلْ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ، وَتَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَقْرِيرُ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الْعُقُودِ لَا فَرْقَ بَيْنَ مُقَارِنِهَا وَمُتَقَدِّمِهَا. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ عُمُومًا لَفْظِيًّا فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِصُوَرٍ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، فَإِنَّ كُلَّ بَيْعٍ فَاسِدٍ لَا يَدْخُلُهَا فِيهِ فَيُضْعِفُ دَلَالَتَهُ وَيَخُصُّ مِنْهُ الصُّوَرَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي هِيَ نُصُوصٌ فِي بُطْلَانِ الْحِيَلِ وَهِيَ مِنْ الصُّوَرِ الْمَكْثُورَةِ فَإِخْرَاجُهَا مِنْ الْعُمُومِ مِنْ أَسْهَلِ الْأَشْيَاءِ، وَانْظُرْ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» فَإِنَّهُ عَامٌّ عُمُومًا لَفْظِيًّا وَمَعْنَوِيًّا. لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ. وَلَمْ يُعَارِضْهُ نَصٌّ آخَرُ، فَأَيُّمَا أُوِّلَ بِالتَّخْصِيصِ هُوَ أَوْ قَوْلُهُ: «بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى. بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ. وَقَدْ خَرَجَ مِنْهُ

الوجه السادس عشر الحيل مع أنها محدثة كما تقدم فإنها أحدثت بالرأي

صُوَرٌ كَثِيرَةٌ فَتَخْرُجُ مِنْهُ هَذِهِ الصُّورَةُ بِنُصُوصٍ وَآثَارٍ وَقِيَاسٍ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، أَعْنِي صُورَةَ الِابْتِيَاعِ مِنْ الْمُشْتَرَى مِنْهُ. فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ السَّبْعَةُ الَّتِي قَسَّمْنَاهَا مَا تُسَمَّى حِيلَةً إلَيْهَا إذَا تَأَمَّلَهَا اللَّبِيبُ عَلِمَ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْآخَرَيْنِ وَبَيْنَ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ، وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا التَّقْسِيمُ الدَّلَالَةَ عَلَى بُطْلَانِ الْخَمْسَةِ وَالْفَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآخَرَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ الْحِيَلَ مَعَ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهَا أُحْدِثَتْ بِالرَّأْيِ] الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ أَنَّ الْحِيَلَ مَعَ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهَا أُحْدِثَتْ بِالرَّأْيِ، وَإِنَّمَا أَحْدَثَهَا مَنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعَ الرَّأْيِ فَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ مِنْ ذَمِّ الرَّأْيِ وَأَهْلِهِ فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْحِيَلَ فَإِنَّهَا رَأْيٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَا لَهُ نَظِيرٌ مِنْ الْحِيَلِ ثَبَتَ بِأَصْلٍ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ. وَالْحُكْمُ إذَا ثَبَتَ بِأَصْلٍ وَلَا نَظِيرَ كَانَ رَأْيًا مَحْضًا بَاطِلًا. يُحَقِّقُ هَذَا: أَنَّهَا إنَّمَا نَشَأَتْ مِمَّنْ كَانَ مِنْ الْمُفْتِينَ قَدْ غَلَّبَ بِفِسْقِ الرَّأْيِ وَتَصْرِيفِهِ وَكَانَ تَلَقِّيهِمْ لِلْأَحْكَامِ مِنْ جِهَةٍ أَغْلَبَ مِنْ تَلَقِّيهَا مِنْ جِهَةِ الْآثَارِ، ثُمَّ هَذَا الرَّأْيُ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ أَكْثَرُ مَا فِيهِ مِنْ فَسَادٍ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْحِيَلِ الَّتِي دَقَّقَتْ الدِّينَ وَجَرَّاهُ عَلَى اعْتِدَاءِ الْحُدُودِ وَاسْتِحْلَالِ الْمَحَارِمِ، وَإِنْ كَانَ فِي هَذَا الرَّأْيِ أَيْضًا تَشْدِيدُ مَا سَهَّلَتْهُ السُّنَّةُ، وَهَذَا مِثْلُ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ لَا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ وَلَكِنْ يَنْزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا لَكِنَّ اللَّفْظَ الْمَشْهُورَ: «فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ» إلَى أَحَادِيثَ أُخَرَ مِثْلِ حَدِيثٍ: يُرْوَى عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَعْظَمُهَا فِئَةُ الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ» - وَهَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ الْمَرْوَزِيِّ وَهُوَ ثِقَةٌ إمَامٌ إلَّا أَنَّهُ قَدْ

نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ شُبِّهَ فِيهِ عَلَى نُعَيْمٍ وَنُقِلَ هَذَا عَنْ غَيْرِ ابْنِ مَعِينٍ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ نُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ آخَرِينَ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: سَرَقُوهُ مِنْ نُعَيْمٍ وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَقُولُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ النَّاسِ، وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ عِيسَى أَيْضًا سُوَيْد بْنُ سَعِيدٍ وَكَانَ أَحْمَدُ يُثْنِي عَلَيْهِ وَكَذَا يُثْنِي لِوَالِدَيْهِ عَلَيْهِ وَرَوَاهُ عَنْهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ مَعِينٍ بِتَفَرُّدِهِ بِحَدِيثٍ، ثُمَّ وَجَدُوا لَهُ أَصْلًا عِنْدَ غَيْرِهِ قَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ قَالَ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ وَقَفْت سُوَيْدًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ أَنْ حَدَّثَنِي بِهِ وَدَارَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَهَذَا إنَّمَا يُعْرَفُ بِنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ رَوَاهُ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ فَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ بِجُرْأَةٍ وَرَوَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ يُقَالُ لَهُ الْحَكَمُ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَيُقَالُ: إنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، ثُمَّ سَرَقَهُ مِنْهُ قَوْمٌ ضُعَفَاءُ فَهَذَا الْقَدْرُ الَّذِي ذُكِرَ لَا يُوجِبُ تَرْكَهُ قَدْحًا فِي الْحَدِيثِ إذَا رَوَاهُ عِدَّةٌ مِنْ الثِّقَاتِ وَرَوَتْهُ طَائِفَةٌ عَنْ نُعَيْمٍ عَنْ عِيسَى وَطَائِفَةٌ عَنْهُ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ عِيسَى وَهَذَا الْقَدْرُ قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ لَا يَرَى الْحَدِيثَ مَحْفُوظًا وَقَدْ يُجِيبُ عَنْهُ مَنْ يَحْتَجُّ لَهُ بِأَنَّ هَذَا مِنْ إتْقَانِ نُعَيْمٍ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ، ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْ عِيسَى فَرَغْبَتُهُ فِي عُلُوِّ الْإِسْنَادِ بِتَحَمُّلِهِ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ عِيسَى وَرَغْبَتُهُ فِي التَّحَمُّلِ بِابْنِ الْمُبَارَكِ تَحْمِلُهُ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْهُ وَفِي الْجُمْلَةِ فَإِسْنَادُهُ فِي الظَّاهِرِ جَيِّدٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ فِيهِ عَلَى عِلَّةٍ خَفِيَّةٍ وَمَعْنَاهُ شَبِيهٌ بِالْوَاقِعِ. فَإِنَّ فَتْوَى مِنْ مُفْتٍ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِرَأْيٍ يُخَالِفُ السُّنَّةَ أَضَرُّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، فَإِنَّ مَذَاهِبَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ قَدْ اشْتَهَرَتْ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَرُدُّهَا وَاسْتَفَاضَتْ، وَأَهْلُ الْأَهْوَاءِ مَقْمُوعُونَ فِي الْأَمْرِ الْغَالِبِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ بِخِلَافِ الْفُتْيَا فَإِنَّ أَدِلَّتَهَا مِنْ السُّنَّةِ قَدْ لَا يَعْرِفُهَا إلَّا الْأَفْرَادُ وَلَا يُمَيِّزُ ضَعِيفَهَا فِي الْغَالِبِ إلَّا الْخَاصَّةُ، وَقَدْ يَنْتَصِبُ لِلْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ مِمَّنْ يُخَالِفُهَا كَثِيرٌ. وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ مَعْنَاهُ مَحْفُوظًا مِنْ حَدِيثِ الْمُجَالِدِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ عَامٌ إلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ لَا أَقُولُ عَامٌ أَمْطَرُ مِنْ عَامٍ وَلَا عَامٌ أَخْصَبُ مِنْ عَامٍ وَلَا أَمِيرٌ خَيْرٌ مِنْ أَمِيرٍ وَلَكِنَّ ذَهَابَ خِيَارِكُمْ وَعُلَمَائِكُمْ ثُمَّ يَحْدُثُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيَنْهَدِمُ الْإِسْلَامُ وَيَنْثَلِمُ» ، وَهَذَا الَّذِي فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ بِعَيْنِهِ الَّذِي فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ: «وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ

مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ» . وَفِي ذَمِّ الرَّأْيِ آثَارٌ مَشْهُورَةٌ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ عَنْ التَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فِيهَا بَيَانُ أَنَّ الْأَخْذَ بِالرَّأْيِ يُحَلِّلُ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُ الْحَلَالَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْآثَارَ الذَّامَّةَ لِلرَّأْيِ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا اجْتِهَادُ الرَّأْيِ عَلَى الْأُصُولِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فِي حَادِثَةٍ لَمْ تُوجَدْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ مِمَّنْ يَعْرِفُ الْأَشْبَاهَ وَالنَّظَائِرَ، وَفَقِهَ مَعَانِيَ الْأَحْكَامِ فَيَقِيسُ قِيَاسَ تَشْبِيهٍ وَتَمْثِيلٍ، أَوْ قِيَاسَ تَعْلِيلٍ وَتَأْصِيلٍ قِيَاسًا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، فَإِنَّ أَدِلَّةَ جَوَازِ هَذَا الْمُفْتِي لِغَيْرِهِ وَالْعَامِلِ لِنَفْسِهِ وَوُجُوبَهُ عَلَى الْحَاكِمِ وَالْإِمَامِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ هُنَا، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْقِيَاسِ تَحْلِيلٌ لِمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَلَا تَحْرِيمٌ لِمَا حَلَّلَهُ اللَّهُ. وَإِنَّمَا الْقِيَاسُ وَالرَّأْيُ الَّذِي يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ وَيُحَلِّلُ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُ الْحَلَالَ مَا عَارَضَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، أَوْ مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، أَوْ مَعَانِي ذَلِكَ الْمُعْتَبَرَةُ، ثُمَّ مُخَالَفَتُهُ لِهَذِهِ الْأُصُولِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخَالِفَ أَصْلًا مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً بِدُونِ أَصْلٍ آخَرَ. فَهَذَا لَا يَقَعُ مِنْ مُفْتٍ إلَّا إذَا كَانَ الْأَصْلُ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ عِلْمُهُ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَمْ يَبْلُغْهُمْ بَعْضُ السُّنَنِ فَخَالَفُوهَا خَطَأً. وَأَمَّا الْأُصُولُ الْمَشْهُورَةُ فَلَا يُخَالِفُهَا مُسْلِمٌ خِلَافًا ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةٍ بِأَصْلٍ آخَرَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُخَالِفَهَا بَعْضُ الْمَشْهُورِينَ بِالْفُتْيَا. الثَّانِي: أَنْ يُخَالِفَ الْأَصْلَ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ وَهُوَ فِيهِ مُخْطِئٌ. بِأَنْ يَضَعَ الِاسْمَ عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهِ، أَوْ عَلَى بَعْضِ مَوْضِعِهِ. وَيُرَاعِيَ فِيهِ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ دُونَ اعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ لِمَعْنًى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْحِيَلُ تَنْدَرِجُ فِي هَذَا النَّوْعِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مُرَادٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَشْيَاءُ، مِنْهَا أَنَّ تَحْلِيلَ

الشَّيْءِ إذَا كَانَ مَشْهُورًا فَحَرَّمَهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ. أَوْ كَانَ التَّحْرِيمُ مَشْهُورًا فَحَلَّلَهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ كَانَ ذَلِكَ كُفْرًا وَعِنَادًا، وَمِثْلُ هَذَا لَا تَتَّخِذُهُ الْأُمَّةُ رَأْسًا قَطُّ إلَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ كَفَرَتْ، وَالْأُمَّةُ لَا تَكْفُرُ قَطُّ، وَإِذَا بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا تَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ. وَإِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ، أَوْ التَّحْلِيلُ غَيْرَ مَشْهُورٍ فَخَالَفَهُ مُخَالِفٌ لَمْ يَبْلُغْهُ فَمِثْلُ هَذَا لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا مِنْ لَدُنْ زَمَنِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ فَلَا تَضِلُّ الْأُمَّةُ وَلَا يَنْهَدِمُ الْإِسْلَامُ، وَلَا يُقَالُ لِمِثْلِ هَذَا: إنَّهُ مُحْدَثٌ عِنْدَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ وَذَهَابِ الْأَخْيَارِ وَالصَّالِحِينَ. فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِحْلَالُ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْحِيَلِ، فَإِنَّ تَحْرِيمَ السِّفَاحِ، وَالرِّبَا، وَالْمُعَلَّقِ طَلَاقُهَا الثَّلَاثَ - بِصِفَةٍ إذَا وُجِدَتْ -، وَتَحْرِيمَ الْخَمْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، هُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى الْأُمَّةِ تَحْرِيمُهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا يَضِلُّ مَنْ يُفْتِي بِالرَّأْيِ وَيُضِلُّ، وَيُحِلُّ الْحَرَامَ، وَيُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَيَهْدِمُ الْإِسْلَامَ إذَا احْتَالَ عَلَى حِلِّهَا بِحِيَلٍ وَسَمَّاهَا نِكَاحًا وَبَيْعًا وَخُلْعًا وَقَاسَ ذَلِكَ عَلَى النِّكَاحِ الْمَقْصُودِ وَالْبَيْعِ الْمَقْصُودِ وَالْخُلْعِ الْمَقْصُودِ فَيَبْقَى مَعَ مَنْ يَسْتَفْتِيهِ صُورَةُ الْإِسْلَامِ وَأَسْمَاءُ آيَاتِهِ دُونَ مَعَانِيهِ وَحَقَائِقِهِ وَهَذَا هُوَ الضَّالُّ، لِأَنَّ الضَّالَّ الَّذِي يَحْسَبُ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ وَهُوَ عَلَى بَاطِلٍ كَالنَّصَارَى وَهُوَ هَدْمٌ لِلْإِسْلَامِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ قِيَاسًا وَفِقْهًا أَهْلَ الْكُوفَةِ حَتَّى كَانَ يُقَالُ: فِقْهٌ كُوفِيٌّ وَعِبَادَةٌ بَصْرِيَّةٌ، وَكَانَ عِظَمُ عِلْمِهِمْ مَأْخُوذًا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابُ عُمَرَ وَأَصْحَابُ عَلِيٍّ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ بِمَكَانِ الَّذِي لَا يَخْفَى، ثُمَّ قَدْ كَانَ أَفْقَهُهُمْ فِي زَمَانِهِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ كَانَ فِيهِمْ بِمَنْزِلَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَقُولُ: " إنِّي لَأَسْمَعُ الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ فَأَقِيسُ بِهِ مِائَةَ حَدِيثٍ " وَلَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ عَنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ أَعْلَمَ بِالْآثَارِ مِنْهُ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ مِنْهُمْ. وَقَدْ يُوجَدُ لِقُدَمَاءِ الْكُوفِيِّينَ أَقَاوِيلُ مُتَعَدِّدَةٌ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِسُنَّةٍ لَمْ تَبْلُغْهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا مَعَ ذَلِكَ مَطْعُونًا فِيهِمْ، وَلَا كَانُوا مَذْمُومِينَ بَلْ لَهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ مَكَانٌ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ عَلِمَ سِيرَةَ السَّلَفِ، وَذَلِكَ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا قَدْ وُجِدَ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ

الْإِحَاطَةَ بِالسُّنَّةِ كَالْمُتَعَذَّرِ عَلَى الْوَاحِدِ، أَوْ النَّفَرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَمَنْ خَالَفَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ فَهُوَ مَعْذُورٌ، وَلَمْ يَكُونُوا مَعَ هَذَا يَقُولُونَ بِالْحِيَلِ وَلَا يُفْتُونَ بِهَا بَلْ الْمَشْهُورُ عَنْهُمْ رَدُّهَا وَالْإِنْكَارُ لَهَا، وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ فِي لَعْنِ الْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّلِ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ الْحَرَمَيْنِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ فَإِنَّ أَشْهَرَ حَدِيثٍ فِيهَا مُخَرِّجُهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِهِ، وَفَقِيهُ الْقَوْمِ إبْرَاهِيمُ قَدْ قَدَّمْنَا عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إذَا نَوَى أَحَدُ الثَّلَاثَةِ التَّحْلِيلَ فَهُوَ نِكَاحٌ فَاسِدُ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي. وَهَذَا الْقَوْلُ أَشَدُّ مِنْ قَوْلِ الْمَدَنِيِّينَ فَمَنْ يَكُونُ هَذَا قَوْلَهُ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَقِدَ صِحَّةَ الْحِيَلِ وَجَوَازَهَا، وَكَذَلِكَ أَقْوَالُهُمْ فِي الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ رَدِّ الْقَوْمِ لِلْحِيَلِ، فَإِنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ مُخَرِّجُهُ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَقَوْلُهُمْ فِيهَا مَعْرُوفٌ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ فِي الرَّجُلِ يُقْرِضُ الرَّجُلَ دَرَاهِمَ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَجْوَدَ مِنْ دَرَاهِمِهِ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ شَرْطٌ، أَوْ نِيَّةٌ، وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ إذَا خُرِّجَ عَطَاؤُهُ دَفَعَهُ إلَى رَجُلٍ فَقَالَ: اذْهَبْ فَبِعْهُ بِدَنَانِيرَ، ثُمَّ بِعْ الدَّنَانِيرَ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ وَلَا تَبِعْهَا مِنْ الَّذِي اشْتَرَيْت مِنْهُ، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ إذَا بِعْت الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ غَيْرَ مُخَادَعَةٍ وَلَا مُدَالَسَةٍ فَإِنْ شِئْت اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ. فَهَؤُلَاءِ سُرُجُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَئِمَّتُهُمْ، وَهَذِهِ أَقْوَالُهُمْ، وَلَقَدْ تَتَبَّعْنَا هَذَا الْبَابَ فَلَمْ نَظْفَرْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ بَلْ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ سَائِرِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي مَسَائِلِ الْحِيَلِ إلَّا النَّهْيَ عَنْهَا وَالتَّغْلِيظَ فِيهَا، فَلَمَّا حَدَثَ مِنْ بَعْضِ مُفْتِيهِمْ الْقَوْلُ بِالْحِيَلِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهَا انْطَلَقَتْ الْأَلْسِنَةُ بِالذَّمِّ لِمَنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ وَظَهَرَ تَأْوِيلُ الْآثَارِ فِي هَذَا الضَّرْبِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا: مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ ذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إذَا لَبَسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَجْرِي النَّاسُ عَلَيْهَا فَيَتَّخِذُونَهَا سُنَّةً» قَالَ إِسْحَاقُ قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ وَنُظَرَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّ هَذِهِ الْفِتْنَةَ لَفِتْنَةٌ يَعْنِي أَهْلَ هَذَا الرَّأْيِ لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيمَا مَضَى فِتْنَةٌ جَرَى النَّاسُ عَلَيْهَا فَاتَّخَذُوهَا سُنَّةً حَتَّى رَبَا الصَّغِيرُ وَهَرِمَ الْكَبِيرُ إلَّا فِتْنَةَ هَؤُلَاءِ، وَهِيَ عَلَامَتُهُمْ إذَا كَثُرَ الْقُرَّاءُ وَقَلَّ الْعُلَمَاءُ وَتُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ، وَقَوْلُهُ: «أَحَلُّوا الْحَرَامَ وَحَرَّمُوا الْحَلَالَ» مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ، فَإِنَّ الِاحْتِيَالَ عَلَى إسْقَاطِ الْحُقُوقِ مِثْلِ حَقِّ الشَّفِيعِ وَحَقِّ الرَّجُلِ فِي امْرَأَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ إذَا اُحْتِيلَ عَلَيْهَا حَرَّمَتْ عَلَى الرَّجُلِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ، وَكَثِيرٌ مِنْ الرَّأْيِ

الوجه السابع عشر النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أول ما يفقد من الدين الأمانة

ضَيَّقَ مَا وَسَّعَتْهُ السُّنَّةُ فَاحْتَاجَ صَاحِبُهُ إلَى أَنْ يَحْتَالَ لِلتَّوْسِعَةِ، مِثْلُ انْتِفَاعِ الْمُرْتَهِنِ بِالظَّهْرِ وَالدَّارِ إذَا أَنْفَقَ بِقَدْرِ مَا انْتَفَعَ، وَمِثْلُ بَابِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ فَإِنَّ مَنْ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَ هَذَا خَالَفَ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ، وَمَا عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ نَبِيِّهِمْ إلَى يَوْمِهِمْ اضْطَرَّهُ الْحَالُ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْحِيَلِ يَسْتَحِلُّ بِهَا ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِهَا سُنَّةٌ لَكَانَ إلْحَاقُهَا بِالْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهَا بِهَا أَشْبَهُ وَأَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهَا بِالْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا مِنْهَا أَبْعَدُ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ، أَنَّ الرَّأْيَ كَانَ وَاقِعًا عِنْدَهُمْ عَلَى مَا يَتَضَمَّنُ الْحِيَلَ: أَنَّ بِشْرَ بْنَ السَّرِيِّ وَهُوَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الثِّقَاتِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَدْرَكَ الْعَصْرَ الَّذِي اشْتَهَرَ فِيهِ الرَّأْيُ وَهُوَ مِمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَطَبَقَتُهُ قَالَ: " نَظَرْتُ فِي الْعِلْمِ فَإِذَا هُوَ الْحَدِيثُ وَالرَّأْيُ فَوَجَدْتُ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَذِكْرَ الْمَوْتِ وَذِكْرَ رُبُوبِيَّةِ الرَّبِّ وَجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَذِكْرَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْحَثِّ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَجِمَاعِ الْخَيْرِ، وَنَظَرْتُ فِي الرَّأْيِ فَإِذَا فِيهِ الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ وَالتَّشَاحُّ وَاسْتِقْصَاءُ الْحَقِّ وَالْمُمَاكَسَةُ فِي الدَّيْنِ وَاسْتِعْمَالُ الْحِيَلِ وَالْبَعْثُ عَلَى قَطْعِ الْأَرْحَامِ وَالتَّجَرُّؤُ عَلَى الْحَرَامِ ". وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَسْلَمَ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد سَمِعْت أَحْمَدَ وَذَكَرَ الْحِيَلَ مِنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ فَقَالُوا: يَحْتَالُونَ لِنَقْضِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ فَعُلِمَ أَنَّ الرَّأْيَ الْمَذْمُومَ يَنْدَرِجُ فِيهِ الْحِيَلُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. [الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُفْقَدُ مِنْ الدِّينِ الْأَمَانَةُ] الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ: «أَنَّ أَوَّلَ مَا يُفْقَدُ مِنْ الدِّينِ الْأَمَانَةُ، وَآخِرُ مَا يُفْقَدُ مِنْهُ الصَّلَاةُ» ، وَحَدَّثَ عَنْ رَفْعِ الْأَمَانَةِ مِنْ الْقُلُوبِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَقَالَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» فَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ بَعْدَهُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ، وَهَذِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ مَشْهُورَةٌ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْحِيَلِ يَفْتَحُ بَابَ الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحِيَلِ لَا يَتِمُّ إلَّا أَنْ يَتَّفِقَ الرَّجُلَانِ عَلَى عَقْدٍ يُظْهِرَانِهِ وَمَقْصُودُهُمَا أَمْرٌ آخَرُ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي التَّمْلِيكِ لِلْوَقْفِ، وَكَمَا فِي الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ، وَحِيَلِ الْمَنَاكِحِ، وَذَلِكَ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ إنْ لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا. وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ فَقَدْ جُوِّزَتْ الْخِيَانَةُ وَالْكَذِبُ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَلِهَذَا لَا يَطْمَئِنُّ الْقَلْبُ إلَى مَنْ يَسْتَحِلُّ الْحِيَلَ خَوْفًا مِنْ مَكْرِهِ، وَإِظْهَارِهِ مَا يُبْطِنُ خِلَافَهُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ» ، وَالْمُحْتَالُ غَيْرُ مَأْمُونٍ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: كَيْفَ بِكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ إذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنْ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَصَارُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ قَالَ: فَكَيْفَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ مَا تَعْرِفُ وَتَدَعُ مَا تُنْكِرُ وَتُقْبِلُ عَلَى خَاصَّتِكَ وَتَدَعُهُمْ وَعَوَامَّهُمْ» . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَهُوَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ ، وَالْحِيَلُ تُوجِبُ مَرْجَ الْعُهُودِ وَالْأَمَانَاتِ وَهُوَ قَلَقُهَا وَاضْطِرَابُهَا، فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا سَوَّغَ لَهُ مَنْ يُعَاهِدُ عَهْدًا، ثُمَّ لَا يَفِي بِهِ، أَوْ أَنْ يُؤْمَنَ عَلَى شَيْءٍ فَيَأْخُذَ بَعْضَهُ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ ارْتَفَعَتْ الثِّقَةُ بِهِ وَأَمْثَالِهِ، وَلَمْ يُؤْمَنْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَمَنْ تَأَمَّلَ حِيَلَ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ الَّتِي اسْتَحَلُّوا بِهَا الْمَحَارِمَ، وَدَخَلُوا بِهَا فِي الْغُلُولِ وَالْخِيَانَةِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَعَهَا عَهْدٌ وَلَا أَمَانَةٌ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ الِاحْتِيَالَ وَالتَّأْوِيلَاتِ أَوْجَبَ عِظَمَ ذَلِكَ، وَعَلِمَ خُرُوجَ أَهْلِ الْحِيَلِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8] ، وَقَوْلِهِ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] وَمُخَالَفَتَهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] ، وَقَوْلِهِ: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] ، وقَوْله تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» رَوَاهُ

الوجه الثامن عشر أوجب الله النصيحة والبيان في المعاملات خاصة

أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَدُخُولَهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] وَدُخُولَهُمْ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ فَيُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَهَذَا الْوَجْهُ مِمَّا أَشَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: عَجِبْت مِمَّا يَقُولُونَ فِي الْحِيَلِ وَالْأَيْمَانِ يُبْطِلُونَ الْأَيْمَانَ بِالْحِيَلِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] وَقَالَ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ وَأَمْرُ هَذِهِ الْحِيَلِ، وَاسْتِقْصَاءُ هَذَا يَطُولُ. وَإِنَّمَا الْقَصْدُ التَّنْبِيهُ - وَتَمَامُ هَذَا فِي: [الْوَجْه الثَّامِن عَشْر أوجب اللَّه النَّصِيحَة وَالْبَيَان فِي الْمُعَامَلَات خَاصَّة] الْوَجْهِ الثَّامِنَ عَشَرَ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ فِي الْمُعَامَلَاتِ خَاصَّةً وَفِي الدِّينِ عَامَّةً النَّصِيحَةَ وَالْبَيَانَ، وَحَرَّمَ الْخِلَابَةَ وَالْغِشَّ وَالْكِتْمَانَ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: «بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، فَكَانَ مِنْ نُصْحِهِ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ دَابَّةً، ثُمَّ زَادَهُ أَضْعَافَ ثَمَنِهِ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ يُسَاوِي ذَلِكَ وَأَنَّ صَاحِبَهُ مُسْتَرْسِلٌ» ، وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ، فَإِذَا هُوَ مَبْلُولٌ فَقَالَ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ،

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ. فَإِذَا كَانَتْ النَّصِيحَةُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَاجِبَةً وَغِشُّهُ حَرَامًا، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُحْتَالَ لَيْسَ بِنَاصِحٍ لِلْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ غَاشٌّ لَهُ، بَلْ الْحِيلَةُ أَكْبَرُ مِنْ تَرْكِ النُّصْحِ وَأَقْبَحُ مِنْ الْغِشِّ، وَهَذَا بَيِّنٌ يَظْهَرُ مِثْلُهُ فِي الْحِيَلِ الَّتِي تُبْطِلُ الْحُقُوقَ الَّتِي ثَبَتَتْ. أَوْ تَمْنَعُ الْحُقُوقَ أَنْ تَثْبُتَ. أَوْ تُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لِيَجِبَ، وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَّا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَالصِّدْقُ يَعُمُّ الصِّدْقَ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَالْبَيَانُ يَعُمُّ بَيَانَ صِفَاتِ الْمَبِيعِ وَمَنَافِعِهِ، وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ وَالْكِتْمَانُ، وَإِذَا كَانَ الصِّدْقُ وَالْبَيَانُ وَاجِبَيْنِ فِي الْمُعَامَلَةِ مُوجِبَيْنِ لِلْبَرَكَةِ. وَالْكَذِبُ وَالْكِتْمَانُ مُحَرَّمَيْنِ مَاحِقَيْنِ لِلْبَرَكَةِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحِيَلِ أَوْ أَكْثَرَهَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِوُقُوعِ الْكَذِبِ، أَوْ الْكِتْمَانِ أَوْ تَجْوِيزِهِ، وَأَنَّهَا مَعَ وُجُوبِ الصِّدْقِ، أَوْ وُقُوعِهِ لَا تَتِمُّ. مِثَالُ ذَلِكَ إذَا احْتَالَ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ سِلْعَةً بِأَلْفٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِأَكْثَرَ نَسِيئَةً، أَوْ يَبِيعَهَا بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ نَسِيئَةً ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا بِأَلْفٍ نَقْدًا، فَإِنْ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَصْدُقَ الْآخَرَ، كَانَ الْوَفَاءُ بِهَذَا وَاجِبًا، فَيَلْزَمُ فَسَادُ الْعَقْدِ بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ لَازِمٌ فِي الْعَقْدِ أَبْطَلَ الْعَقْدَ بِالْإِجْمَاعِ. وَإِنْ جُوِّزَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْلُفَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، فَقَدْ جُوِّزَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَكْذِبَ صَاحِبَهُ وَهُوَ رُكُوبٌ لِمَا حَرَّمَهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ الْكَذِبِ قَوْله تَعَالَى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] ، وَإِنَّمَا كَذَّبَهُمْ إخْلَافُ قَوْلِهِمْ: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي عَزْمِ أَحَدِهِمَا أَنْ لَا يَفِيَ لِلْآخَرِ بِمَا تَوَاطَآ عَلَيْهِ. فَإِنْ جَازَ كَتْمُ هَذَا وَتَرْكُ بَيَانِهِ فَهُوَ مُخَالَفَةٌ لِلْحَدِيثِ. وَإِنْ وَجَبَ إظْهَارُهُ لَمْ تَتِمَّ الْحِيلَةُ فَإِنَّ الْآخَرَ لَمْ يَرْضَ إلَّا إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْآخَرَ يَفِي لَهُ.

ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّدْلِيسِ وَالْغِشِّ وَكِتْمَانِ الْعُيُوبِ فِي الْبُيُوعِ كَمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شِمَاسَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ إلَّا بَيَّنَهُ لَهُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ إلَى ابْنِ شِمَاسَةَ وَابْنُ شِمَاسَةَ قَدْ وَثَّقُوهُ وَخَرَّجَ لَهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً يَعْلَمُ أَنَّ بِهَا دَاءً إلَّا أَخْبَرَهُ» . وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا إلَّا بَيَّنَ مَا فِيهِ وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بَيَّنَهُ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَلِابْنِ مَاجَهْ: «مَنْ بَاعَ عَيْبًا لَمْ يُبَيِّنْهُ لَمْ يَزَلْ فِي مَقْتٍ مِنْ اللَّهِ وَلَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تَلْعَنُهُ» . وَعَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ لِي الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ أَلَا أُقْرِئُكَ كِتَابًا كَتَبَهُ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ قُلْتُ: بَلَى فَأَخْرَجَ لِي كِتَابًا: «هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا، أَوْ أَمَةً بَيْعَ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ لَا دَاءَ وَلَا غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا بِلَفْظِ:، وَيُذْكَرُ عَنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ وَقَالَ فِي الْحِيَلِ «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَيْعُ الْمُسْلِمِ لَا دَاءَ وَلَا غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ» ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بَيْعُ الْمُسْلِمِ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُوجَبُ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ. وَأَنَّ اشْتِرَاطَهُ بَيَانٌ لِمُوجَبِ الْعَقْدِ وَتَوْكِيدٌ لَهُ. فَهَذَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ بَيَّنَ أَنَّ مُجَرَّدَ سُكُوتِ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَنْ إظْهَارِ مَا لَوْ عَلِمَهُ الْآخَرُ لَمْ يُبَايِعْهُ مِنْ الْعُيُوبِ وَغَيْرِهَا إثْمٌ عَظِيمٌ وَحَرَّمَ هَذَا الْكِتْمَانَ وَجَعَلَهُ مُوجِبًا لِمَقْتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ كَانَ السَّاكِتُ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَمْ يَصِفْ وَلَمْ يَشْتَرِطْ، إنَّمَا ذَاكَ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ الصِّحَّةُ وَالسَّلَامَةُ فَيَبْنِي الْآخَرُ الْأَمْرَ عَلَى مَا يَظُنُّهُ مِنْ الظَّاهِرِ الَّذِي لَمْ يَصِفْهُ الْآخَرُ بِلِسَانِهِ وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْغُرُورِ لَهُ وَالتَّدْلِيسِ عَلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْغُرُورَ بِالْكَلَامِ وَالْوَصْفِ إثْمٌ فَإِذَا غَرَّهُ بِأَنْ يُظْهِرَ لَهُ أَمْرًا ثُمَّ لَا يَفْعَلُهُ مَعَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ فِي الْغُرُورِ وَالتَّدْلِيسِ. وَأَيْنَ السَّاكِتُ مِنْ النَّاطِقِ.، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ إثْمًا.

وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُرِيدَ الرَّجُلُ أَنْ يُنْشِئَ عَقْدَ بَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَيُؤْمَرُ بِإِقْرَارٍ وَلَا يُبَيَّنُ لَهُ حُكْمُ الْإِقْرَارِ فَيُقِرُّ إقْرَارًا يُلْزَمُ بِمُوجَبِهِ وَيَكُونُ مُوجَبُهُ مُخَالِفًا لِمَقْصُودِهِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ. أَوْ يَأْمُرُهُ بِتَسْمِيَةٍ كَثِيرَةٍ عَلَى الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ، ثُمَّ يُصَادِقُ عَلَى نِصْفِهِ بِدِينَارٍ وَنَحْوِهِ وَلَا يُبَيِّنُ لَهُ مَا يَلْزَمُهُ بِهَذَا مِنْ وُجُوبِ رَدِّ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ إذَا فُسِخَ الْبَيْعُ بِعَيْبٍ وَنَحْوِهِ فَأَيْنَ هَذَا الْغُرُورُ وَالتَّدْلِيسُ مِنْ مُجَرَّدِ السُّكُوتِ عَنْ بَيَانِ حَالِ السِّلْعَةِ؟ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّصْرِيَةِ وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ وَرَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّصْرِيَةَ مُجَرَّدُ فِعْلٍ يَغْتَرُّ بِهِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ قَدْ حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوْجَبَ الْخِيَارَ عِنْدَ ظُهُورِ الْحَالِ فَكَيْفَ بِالْغُرُورِ بِالْأَقْوَالِ؟ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْحِيَلِ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ هُنَا زَعَمُوا لَيْسَ لِوُجُودِ عَيْبٍ، وَلَا لِفَوَاتِ صِفَةٍ وَهُوَ جَارٍ عَلَى قِيَاسِ الْمُحْتَالِينَ، لَكِنَّ الْحِيَلَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ إظْهَارَ الصِّفَاتِ بِالْأَفْعَالِ كَإِظْهَارِهَا بِالْأَقْوَالِ. بَلْ مُجَرَّدُ ظُهُورِهَا كَمُجَرَّدِ ظُهُورِ السَّلَامَةِ مِنْ الْعُيُوبِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُحْتَالِينَ أَنَّهُ كَانَ إذَا اسْتَوْصَفَ السِّلْعَةَ عَرَّضَ فِي كَلَامِهِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لَهُ كَيْفَ الْجَمَلُ يَقُولُ احْمِلْ مَا شِئْت وَيَنْوِي عَلَى الْحِيَلِ وَيُقَالُ لَهُ كَمْ تَحْلُبُ فَيَقُولُ فِي أَيِّ إنَاءٍ شِئْتَ فَيَقُولُ كَيْفَ سَيْرُهُ فَيَقُولُ الرِّيحُ لَا تَلْحَقُ فَإِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ فَلَا يَجِدُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ رَجَعَ إلَيْهِ فَيَقُولُ مَا وَجَدْتُ فِيمَا بِعْتنِي شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ فَيَقُولُ مَا كَذَبْتُكَ، وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَأَدْخَلَهَا فِي كَلَامِهِ مَنْ احْتَجَّ لِلْحِيَلِ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهَا كَذِبٌ أَوْ كَانَ قَصْدُهُ الْمِزَاحَ مَعَهُ لَا حَقِيقَةَ الْبَيْعِ، وَإِلَّا فَمَنْ عَمِلَ مِثْلَ هَذَا فَقَدْ قُدِحَ فِي دِيَانَتِهِ، فَإِنَّ هَذَا أَعْظَمُ فِي الْغَرَرِ مِنْ التَّصْرِيَةِ. فَإِنَّ الْقَوْلَ الْمُفْهِمَ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ ظُهُورِ حَالٍ لَمْ يَصِفْهَا وَلَا يَلِيقُ مِثْلُ هَذَا بِذِي مُرُوءَةٍ فَضْلًا عَنْ ذِي دِيَانَةٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ النَّجْشِ» وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ لِلْمُشْتَرِي وَخَدِيعَتِهِ، «وَنَهَى عَنْ تَلَقِّي السِّلَعِ» وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْرِيرِ الْبَائِعِ أَوْ ضَرَرِ الْمُشْتَرِي، وَنَهَى أَنْ يَسُومَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، أَوْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، أَوْ يَخْطُبَ

عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، أَوْ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْتَفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا أَوْ نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَقَالَ: «دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» . وَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ مُرَاعَاةِ حَقِّ الْمُسْلِمِ وَتَرْكِ إضْرَارِهِ بِكُلٍّ إلَّا أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ أَذًى، وَعَلَى الْمَنْعِ مِنْ نَيْلِ الْغَرَضِ بِخَدِيعَةِ الْمُسْلِمِ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْحِيَلِ يُنَاقِضُ هَذَا، وَلِهَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْحِيَلِ لَا يَمْنَعُونَ بَيْعَ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَلَا تَلَقِّيَ السِّلَعَ. طَرْدًا لِقِيَاسِهِمْ، وَمَنْ أَخَذَ بِالسُّنَّةِ مِنْهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا أَخَذَ بِهَا عَلَى مَضَضٍ؛ لِأَنَّهَا عَلَى خِلَافِ قِيَاسِهِ، وَمُخَالَفَةُ الْقِيَاسِ لِلسُّنَّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قِيَاسٌ فَاسِدٌ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ مِثْلُ التَّلَقِّي وَالنَّجْشِ وَالتَّصْرِيَةِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْخِلَابَةُ جَمَعَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ، وَجَاءَ عَنْهُ أَنَّهُ بَيَّنَ تَحْرِيمَ الْخِلَابَةِ مُطْلَقًا فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ: بَيْعُ الْمُحَفَّلَاتِ خِلَابَةٌ وَلَا تَحِلُّ الْخِلَابَةُ لِمُسْلِمٍ» . وَهَذَا نَصٌّ فِي تَحْرِيمِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْخِلَابَةِ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ - وَالْخِلَابَةُ الْخَدِيعَةُ وَيُقَالُ الْخَدِيعَةُ بِاللِّسَانِ وَفِي الْمَثَلِ إذَا لَمْ تَغْلِبْ فَاخْلِبْ أَيْ فَاخْدَعْ وَرَجُلٌ خَلَّابٌ أَيْ خَدَّاعٌ - وَامْرَأَةُ خَلِبَةٌ أَيْ خَدَّاعَةٌ وَالْبَرْقُ الْخَلْبُ وَالسَّحَابُ الْخَلْبُ الَّذِي لَا غَيْثَ مَعَهُ كَأَنَّهُ يَخْدَعُ مَنْ يَرَاهُ - وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «ذَكَرَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ» وَهَذَا الشَّرْطُ مِنْهُ مُوَافِقٌ لِمُوجَبِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاشْتِرَاطِهِ الْعَدَاءَ عَلَيْهِ أَنَّ الْبَيْعَ بَيْعُ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ لَا دَاءَ وَلَا غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «لَا تَحِلُّ الْخِلَابَةُ لِمُسْلِمٍ» ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُرِدْ الْخِلَابَةَ الَّتِي هِيَ الْخَدِيعَةُ الْمُحَرَّمَةُ لَمْ يَكُنْ هَذَا الشَّرْطُ مَعْرُوفًا بَلْ يَكُونُ شَرَطَ شَيْئًا لَا حَدَّ لَهُ فِي الشَّرْعِ، وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُخْدَعُ وَالْخَدِيعَةُ حَرَامٌ، وَلِأَنَّهُ قَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا شَبِيبُ بْنُ غَرْقَدٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِغُلَامَيْنِ شَابَّيْنِ: تَبَايَعَا وَقُولَا لَا خِلَابَةَ» ، وَقَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ

إبْرَاهِيمَ مَوْلَى صَخْرِ بْنِ رُهْمٍ الْعَدَوِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَبَايَعُوا وَقُولُوا لَا خِلَابَةَ» فَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَا دَلَائِلَ عَلَى صِدْقِهِ فَثَبَتَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ مَشْرُوعٌ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ يُخَالِفُ مُطْلَقَ النَّقْدِ لَمْ يُؤْمَرْ بِاشْتِرَاطِهِ كُلُّ وَاحِدٍ كَالتَّأْجِيلِ فِي الثَّمَنِ وَاشْتِرَاطِهِ الرَّهْنَ، وَالْكَفِيلَ، وَصِفَاتٍ زَائِدَةٍ فِي الْعُقُودِ عَلَيْهِ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «غَبْنُ الْمُسْتَرْسِلِ رِبًا» وَحَدِيثُ التَّلَقِّي يُوَافِقُ هَذَا الْحَدِيثَ. فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ الْخِلَابَةَ وَهِيَ الْخَدِيعَةُ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخِلَابَةِ فِي الْبَيْعِ وَفِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ إنْ عَمَّ ذَلِكَ لَفْظًا وَمَعْنًى فَلَا كَلَامَ، إنْ كَانَ إنَّمَا قَصَدَ بِهِ الْخِلَابَةَ فِي الْبَيْعِ فَالْخِلَابَةُ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ وَالْأَقْوَالِ وَفِي الْأَفْعَالِ بِمَنْزِلَةِ الْخِلَابَةِ فِي الْبَيْعِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ فِي اعْتِبَارِ الشَّارِعِ وَهَذَا الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، بَلْ الْخِلَابَةُ فِي غَيْرِ الْبَيْعِ قَدْ تَكُونُ أَعْظَمَ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ وَقِيَاسِ الْأَوْلَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْحِيَلُ خِلَابَةٌ إمَّا مَعَ الْخَلْقِ أَوْ مَعَ الْخَالِقِ، مِثْلَ مَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْحِيَلِ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ أَعْرَابِيٍّ مَاءً بِثَمَنٍ غَالٍ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ الثَّمَنَ وَكَانَ مَعَهُ سَوِيقٌ مَلْتُوتٌ بِزَيْتٍ فَقَالَ لَهُ أَتُرِيدُ أَنْ أُطْعِمَك سَوِيقًا؟ قَالَ: نَعَمْ فَأَطْعَمَهُ فَعَطِشَ الْأَعْرَابِيُّ عَطَشًا شَدِيدًا وَطَلَبَ أَنْ يَسْقِيَهُ تَبَرُّعًا أَوْ مُعَاوِضًا فَامْتَنَعَ إلَّا بِثَمَنِ جَمِيعِ الْمَاءِ فَأَعْطَاهُ جَمِيعَ الثَّمَنِ بِشَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إطْعَامَهُ ذَلِكَ السَّوِيقَ مُظْهِرٌ أَنَّهُ مُحْسِنٌ إلَيْهِ وَهُوَ يَقْصِدُ الْإِسَاءَةَ إلَيْهِ مِنْ أَقْبَحِ الْخِلَابَاتِ ثُمَّ امْتِنَاعُهُ مِنْ سَقْيِهِ إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ حَرَامٌ، وَلَا يُقَالُ إنَّ الْأَعْرَابِيَّ أَسَاءَ إلَيْهِ بِمَنْعِهِ الْمَاءَ إلَّا بِثَمَنٍ كَثِيرٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ جَائِزًا لَمْ تَجُزْ مُعَاقَبَتُهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مَجَّانًا أَوْ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الثَّانِي أَنْ يَسْقِيَهُ وَلَمْ يَفْعَلْ، وَلَوْ أَنَّهُ اسْتَرْجَعَ الثَّمَنَ وَرَدَّ عَلَيْهِ سَائِرَ الْمَاءِ أَوْ تَرَكَ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ مِقْدَارَ ثَمَنِ الشَّرْبَةِ الَّتِي شَرِبَهَا هُوَ لَكَانَ، أَمَّا أَنْ يَأْخُذَ مَاءً إلَّا شَرْبَةً وَاحِدَةً وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ كُلَّهُ بِصُورَةٍ يَظْهَرُ لَهُ فِيهَا أَنَّهُ مُحْسِنٌ وَقَصْدُهُ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ الْخِلَابَةُ الْبَيِّنَةُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَبِاضْطِرَارٍ يُعْلَمُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحِيَلِ أَوْ أَكْثَرَهَا أَوْ عَامَّتَهَا مِنْ الْخِلَابَةِ وَهِيَ حَرَامٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ. وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ إذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ

اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ جَامِعَةً فَاجْتَمَعْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلِي نَبِيٌّ إلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِيءُ فِتَنٌ يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا تَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَأْتِ إلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إلَيْهِ وَمَنْ بَايَعَ إمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُعْطِهِ إنْ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، فَهَذِهِ الْوَظَائِفُ الثَّلَاثُ الَّتِي جَمَعَهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ» . وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: «ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ» وَذَلِكَ أَنَّ الِاجْتِمَاعَ وَالْإِتْلَافَ اللَّذَيْنِ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْمَعْنَى الَّذِي وَصَّى بِهِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: «وَلْيَأْتِ إلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إلَيْهِ» وَهَذَا الْقَدْرُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ قَرَنَهُ بِالْإِيمَانِ وَبِالطَّاعَةِ لِلْإِمَامِ فِي سِيَاقِ مَا يُنَجِّي مِنْ النَّارِ وَيُوجِبُ الْجَنَّةَ وَهَذَا إنَّمَا يُقَالُ فِي الْوَاجِبَاتِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا يَسْتَقِلُّ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا غَايَةُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُسْأَلُ فِيهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ وَيُنَجِّي مِنْ النَّارِ إنَّمَا يَذْكُرُ الْوَاجِبَاتِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُحْتَالَ لَمْ يَأْتِ إلَى النَّاسِ مَا يَجِبُ أَنْ يُؤْتَى إلَيْهِ بَلْ لَوْ عَلِمَ أَنَّ أَحَدًا يَحْتَالُ عَلَيْهِ لَكَرِهَهُ أَوْ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْهُ وَرُبَّمَا اتَّخَذَهُ عَدُوًّا أَعْنِي الْكَرَاهَةَ الطَّبِيعِيَّةَ إنْ كَانَ قَدْ يُحِبُّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ مَا لَهُ فِيهِ مِنْ الْمَثُوبَةِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ لَيْسَتْ

الوجه التاسع عشر استعمل الرسول رجلا على الصدقة

الْمَحَبَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ وَإِلَّا لَكَانَ مِنْ أَحَبِّ إيمَانِهِ أَنَّهُ يُؤْذَى فَيَصْبِرَ عَلَى الْأَذَى مَأْمُورًا بِأَنْ يُؤْذِيَ النَّاسَ وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَنَحْوٌ مِنْ هَذَا مَا رَوَى أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحِيَلُ تُنَافِي مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ أَمْرُ الدِّينِ مِنْ التَّحَابُبِ وَالتَّنَاصُحِ وَالِائْتِلَافِ وَالْأُخُوَّةِ فِي الدِّينِ، وَيَقْتَضِي التَّبَاغُضَ وَالتَّقَاطُعَ وَالتَّدَابُرَ هَذَا فِي الْحِيَلِ عَلَى الْخَلْقِ، وَالْحِيَلُ عَلَى الْخَالِقِ أَوْلَى فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَ مِنْهُ مِنْ النَّاسِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. [الْوَجْه التَّاسِع عَشْر اسْتَعْمَلَ الرَّسُول رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَة] الْوَجْهُ التَّاسِعَ عَشَرَ مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: «اسْتَعْمَلَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ إلَى أَنْ قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ فَيَأْتِي فَيَقُولُ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي هَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَ هَدِيَّتُهُ إنْ كَانَ صَادِقًا وَاَللَّهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا أَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ - ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إبِطَيْهِ يَقُولُ - اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت» فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ الْهَدِيَّةَ هِيَ عَطِيَّةٌ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ الْمُعْطِي وَكَرَامَتَهُ فَلَمْ يَنْظُرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى ظَاهِرِ الْإِعْطَاءِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَلَكِنْ نَظَرَ إلَى قَصْدِ الْمُعْطِينَ وَنِيَّاتِهِمْ الَّتِي تُعْلَمُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ بِحَيْثُ لَوْ نُزِعَ عَنْ تِلْكَ الْوِلَايَةِ أُهْدِيَ لَهُ تِلْكَ الْهَدِيَّةُ لَمْ تَكُنْ الْوِلَايَةُ هِيَ الدَّاعِيَةُ لِلنَّاسِ إلَى عَطِيَّتِهِ وَإِلَّا فَالْمَقْصُودُ بِالْعَطِيَّةِ إنَّمَا هِيَ وِلَايَتُهُ إمَّا لِيُكْرِمَهُمْ فِيهَا أَوْ لِيُخَفِّفَ عَنْهُمْ أَوْ يُقَدِّمَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْصِدُونَ بِهِ الِانْتِفَاعَ بِوِلَايَتِهِ أَوْ نَفْعِهِ لِأَجْلِ وِلَايَتِهِ.

وَالْوِلَايَةُ حَقٌّ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَمَا أَخَذَ مِنْ الْمَالِ بِسَبَبِهَا كَانَ حَقًّا لَهُمْ سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمُعْطِي أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ، كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ أَحَدُهُمْ بِزِيَادَةٍ عَلَى الْوَاجِبِ قَدْرًا أَوْ صِفَةً وَذَلِكَ الْعَمَلُ الَّذِي يَعْمَلُهُ السَّاعِي صَارَ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ إمَّا بِالْجُعْلِ الَّذِي يُجْعَلُ لَهُ أَوْ بِكَوْنِهِ قَدْ تَبَرَّعَ بِهِ لَهُمْ، فَكُلُّ مَا حَصَلَ مِنْ الْمَالِ بِسَبَبِهِ فَهُوَ لَهُمْ. إذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: هَذِهِ الْهَدِيَّةُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا أَنْ تَكُونَ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ لَا شَرْطًا مُقْتَرِنًا بِالْعَقْدِ وَلَا مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ. وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا كَانَتْ دَلَالَةُ الْحَالِ تَقْتَضِي أَنَّ الْقَصْدَ بِهَا ذَلِكَ كَانَتْ تِلْكَ هِيَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي اعْتَبَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ هَذَا أَصْلًا فِي اعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ وَدَلَالَاتِ الْحَالِ فِي الْعُقُودِ فَمَنْ أَقْرَضَ رَجُلًا أَلْفًا وَبَاعَهُ ثَوْبًا يُسَاوِي دِرْهَمًا بِخَمْسِمِائَةٍ عُلِمَ أَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَ إنَّمَا أُقْرِضَتْ لِأَجْلِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فِي ثَمَنِ الثَّوْبِ، وَإِلَّا فَكَانَ الثَّوْبُ يُتْرَكُ فِي بَيْتِ صَاحِبِهِ ثُمَّ يَنْظُرُ الْمُقْتَرِضُ أَكَانَ يُقْرِضُ تِلْكَ الْأَلْفَ أَمْ لَا، وَكَذَلِكَ بَايَعَهُ لِيَتْرُكَ الْقَرْضَ ثُمَّ يَنْظُرَ هَلْ يَبْتَاعُ ثَوْبَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ أَمْ لَا، فَإِذَا كَانَ هَذَا إنَّمَا زَادَ فِي الْعِوَضِ لِأَجْلِ الْقَرْضِ صَارَ ذَلِكَ الْعِوَضُ دَاخِلًا فِي بَدَلِ الْقَرْضِ فَصَارَ قَدْ اقْتَرَضَ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ إلَّا قِيمَةَ الثَّوْبِ هَذَا حَقِيقَةُ الْعَقْدِ وَمَقْصُودُهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ اقْتَرَضَ أَلْفًا وَارْتَهَنَ بِهَا عَقَارًا أَذِنَ لَهُ الْمُقْتَرِضُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ أَوْ أَكْرَاهُ إيَّاهُ أَوْ سَاقَاهُ أَوْ زَارَعَهُ عَلَيْهِ بِعُشْرِ عُشْرِ عِوَضِ الْمِثْلِ فَإِنَّمَا تَبَرَّعَ لَهُ وَحَابَاهُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ لِأَجْلِ الْقَرْضِ، كَمَا أَنَّ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ إنَّمَا يُهْدُونَ لِلسَّاعِي لِأَجْلِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ إمَّا لِيُرَاعِيَهُمْ بِبَدَلِ مَالٍ هُوَ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ أَوْ مَنْفَعَةٍ قَدْ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ الَّذِي وَلَّاهُ عَلَى أَنْ تَكُونَ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ، وَمَنْ مَلَكَ الْمُبْدَلَ مِنْهُ مَلَكَ مُبْدَلَهُ، وَالْعِبْرَةُ بِالْمُبَادَلَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لَا الصُّورِيَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَإِمَّا لِنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ. وَهَذَا الْكَلَامُ الْحَكِيمُ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْلٌ فِي كُلِّ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا أَوْ أَعْطَاهُ تَبَرُّعًا لِشَخْصٍ أَوْ مُعَاوَضَةً لِشَيْءٍ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ فِي الْقَصْدِ وَالْحَقِيقَةِ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ هَلَّا تَرَكَ ذَلِكَ الشَّيْءَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ ثُمَّ نَظَرَ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ الْأَمْرُ إنْ كَانَ صَادِقًا فَيُقَالُ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ الرِّبَوِيَّةِ إذَا كَانَتْ خِدَاعًا مِثْلُ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَهَذَا أَصْلٌ لِكُلِّ مَنْ بَذَلَ لِجِهَةٍ لَوْلَا هِيَ لَمْ يَبْذُلْهُ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ تِلْكَ الْجِهَةَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِذَلِكَ الْبَذْلِ

الوجه العشرون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه

فَيَكُونُ الْمَالُ لِرَبِّ تِلْكَ الْجِهَةِ إنْ حَلَالًا فَحَلَالٌ وَإِلَّا كَانَتْ حَرَامًا وَسَائِرُ الْحُقُوقِ قِيَاسٌ عَلَى الْمَالِ. يُوَضِّحُ هَذَا: أَنَّ الْمُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ وَالْكِرَاءِ وَنَحْوِهِمَا تَبَرُّعٌ مَحْضٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُحْسَبُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مِنْ الثُّلُثِ وَيَبْطُلُ مَعَ الْوَارِثِ، وَيُمْنَعُ مِنْهُ الْوَكِيلُ وَالْوَصِيُّ وَالْمُكَاتَبُ. وَكُلُّ مَنْ مَنَعَ مِنْ التَّبَرُّعِ، وَأَمَّا الْقَرْضُ وَنَحْوُهُ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ تَبَرُّعٌ فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ قَدْ حَابَى الْآخَرَ فِي عَقْدٍ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ لِأَجْلِ قَرْضٍ أَوْ عَقْدٍ آخَرَ وِلَايَةً كَانَ ذَلِكَ أَوْ تَبَرُّعًا بِذَلِكَ السَّبَبِ كَالسَّلَفِ الَّذِي مَعَ الْبَيْعِ سَوَاءٌ وَكَالْهَدِيَّةِ الَّتِي مَعَ الْعَمَلِ سَوَاءٌ وَنَظِيرُ حَدِيثِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ وَهُوَ. [الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا فَأَهْدَى إلَيْهِ] الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ «يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ الْهُنَائِيِّ قَالَ سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الرَّجُلُ مِنَّا يُقْرِضُ أَخَاهُ الْمَالَ فَيُهْدِي إلَيْهِ فَقَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا فَأَهْدَى إلَيْهِ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ فَلَا يَرْكَبْهَا وَلَا يَقْبَلْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ» هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ حُمَيْدٍ الضَّبِّيِّ، عَنْ يَحْيَى. لَكِنْ لَيْسَ هَذَا يَحْيَى بْنَ أَبِي إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيَّ صَاحِبَ الْقِرَاءَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَإِنَّمَا هُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ يَحْيَى بْنُ يَزِيدَ الْهُنَائِيُّ فَلَعَلَّ كُنْيَةَ أَبِيهِ أَبُو إِسْحَاقَ وَكِلَاهُمَا ثِقَةٌ الْأَوَّلُ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ وَالثَّانِي مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ وَعُتْبَةُ بْنُ حُمَيْدٍ مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ الْهُنَائِيِّ قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ هُوَ صَالِحُ الْحَدِيثِ وَأَبُو حَاتِمٍ مِنْ أَشَدِّ الْمُزَكِّينَ شَرْطًا فِي التَّعْدِيلِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ هُوَ ضَعِيفٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ لَكِنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ يُقْصَدُ بِهَا أَنَّهُ مِمَّنْ لَيْسَ يُصَحَّحُ حَدِيثُهُ بَلْ هُوَ مِمَّنْ يُحَسَّنُ حَدِيثُهُ، وَقَدْ كَانُوا يُسَمُّونَ حَدِيثَ مِثْلِ هَذَا ضَعِيفًا وَيَحْتَجُّونَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حَسَنٌ إذْ لَمْ يَكُنْ الْحَدِيثُ إذْ ذَاكَ مَقْسُومًا إلَّا إلَى صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ، وَفِي مِثْلِهِ يَقُولُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ خَيْرٌ مِنْ الْقِيَاسِ يَعْنِي الَّذِي لَمْ يَقْوَ قُوَّةَ الصَّحِيحِ مَعَ أَنَّ مَخْرَجَهُ حَسَنٌ، إسْمَاعِيلُ بْنِ عَيَّاشٍ حَافِظٌ ثِقَةٌ فِي حَدِيثِهِ عَنْ الشَّامِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا ضَعُفَ حَدِيثُهُ عَنْ الْحِجَازِيِّينَ وَلَيْسَ هَذَا عَنْ الْحِجَازِيِّينَ

فَثَبَتَ أَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ لَكِنَّ فِي حَدِيثِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ نَظَرًا وَهَذَا الرَّجُلُ بَصْرِيُّ الْأَصْلِ وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ لَكِنْ قَالَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي يَحْيَى الْهُنَائِيِّ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي يَحْيَى الْهُنَائِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَأْخُذْ هَدِيَّةً» وَأَظُنُّ هَذَا هُوَ ذَاكَ انْقَلَبَ اسْمُهُ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى قَالَ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ فَقَالَ لِي إنَّك بِأَرْضٍ الرِّبَا فِيهَا فَاشٍ فَإِذَا كَانَ لَك عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَأَهْدَى إلَيْك حِمْلَ تِبْنٍ أَوْ حِمْلَ شَعِيرٍ أَوْ حِمْلَ قَتٍّ فَلَا تَأْخُذْهُ فَإِنَّهُ رِبًا. وَرَوَى سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَجَاءَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ إنِّي أَقْرَضْت رَجُلًا بِغَيْرِ مَعْرِفَةٍ فَأَهْدَى إلَيَّ هَدِيَّةً جَزْلَةً قَالَ رُدَّ إلَيْهِ هَدِيَّتَهُ أَوْ احْبِسْهَا لَهُ، وَعَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ إنِّي أَقْرَضْت رَجُلًا يَبِيعُ السَّمَكَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَأَهْدَى إلَيَّ سَمَكَةً قَوَّمْتهَا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَقَالَ خُذْ مِنْهُ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ رَوَاهُمَا سَعِيدٌ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إذَا أَسْلَفْت رَجُلًا سَلَفًا فَلَا تَأْخُذْ مِنْهُ هَدِيَّةً وَلَا عَارِيَّةَ رُكُوبِ دَابَّةٍ رَوَاهُ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ. فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ الْمُقْرِضَ عَنْ قَبُولِ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ قَبْلَ الْوَفَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْهَدِيَّةِ أَنْ يُؤَخِّرَ الِاقْتِضَاءَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْرِطْ ذَلِكَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَلْفَ بِهَدِيَّةٍ نَاجِزَةٍ وَأَلْفٍ مُؤَخَّرَةٍ وَهَذَا رِبًا. وَلِهَذَا جَازَ أَنْ يَزِيدَ عِنْدَ الْوَفَاءِ وَيُهْدِيَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِزَوَالِ مَعْنَى الرِّبَا. وَمَنْ لَمْ يَنْظُرْ إلَى الْمَقَاصِدِ فِي الْعُقُودِ أَجَازَ مِثْلَ ذَلِكَ وَخَالَفَ بِذَلِكَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا أَمْرٌ بَيِّنٌ وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَمَا ذَاكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَّا أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ شَيْئًا وَأَقْرَضَهُ فَإِنَّهُ يَزِيدُ فِي الثَّمَنِ لِأَجْلِ الْقَرْضِ فَيَصِيرُ الْقَرْضُ بِزِيَادَةٍ وَذَلِكَ رِبًا.

فَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مُعَامَلَةٍ كَانَ مَقْصُودُ صَاحِبِهَا أَنْ يُقْرِضَ قَرْضًا بِرِبْحٍ وَاحْتَالَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ اشْتَرَى مِنْ الْمُقْتَرِضِ سِلْعَةً بِمِائَةٍ حَالَّةٍ ثُمَّ بَاعَهُ إيَّاهَا بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ إلَى أَجَلٍ، أَوْ بَاعَهُ سِلْعَةً بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ ابْتَاعَهَا بِمِائَةٍ حَالَّةٍ، أَوْ بَاعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسِينَ، وَأَقْرَضَهُ مَعَ ذَلِكَ خَمْسِينَ، أَوْ وَاطَأَ مُخَادِعًا ثَالِثًا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ سِلْعَةً بِمِائَةٍ ثُمَّ يَبِيعَهَا الْمُشْتَرِي لِلْمُقْتَرِضِ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ ثُمَّ يَعُودَ الْمُشْتَرِي الْمُقْتَرِضُ فَيَبِيعَهَا لِلْأَوَّلِ بِمِائَةٍ إلَّا دِرْهَمَيْنِ وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْعُقُودَ يُقَالُ فِيهَا مَا قَالَهُ النَّبِيُّ: «أَفَلَا أَفْرَدْت أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ عَنْ الْآخَرِ ثُمَّ نَظَرْت» هَلْ كُنْت مُبْتَاعَهَا أَوْ بَايَعَهُ بِهَذَا الثَّمَنِ أَمْ لَا فَإِذَا كُنْت إنَّمَا نَقَصْتَ هَذَا وَزِدْت هَذَا لِأَجْلِ هَذَا كَانَ لَهُ قِسْطٌ مِنْ الْعِوَضِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ رِبًا، وَكَذَلِكَ الْحِيَلُ الْمُبْطِلَةُ لِلشُّفْعَةِ وَالْمُسْقِطَةُ لِلْمِيرَاثِ وَالْمُحَلِّلُ لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَالْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ وَنَحْوُهُمَا. وَفِيمَا يُشْبِهُ هَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ طَعَامِ الْمُتَبَارِيَيْنِ» وَهُمَا الرَّجُلَانِ يَقْصِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَارَاةَ الْآخَرِ وَمُبَاهَاتَهُ فِي التَّبَرُّعَاتِ وَالتَّعْوِيضَاتِ كَالرَّجُلَيْنِ يَصْنَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَعْوَةً يَفْتَخِرُ بِهَا عَلَى الْآخَرِ، أَوْ يُرَخِّصُ فِي بَيْعِ السِّلْعَةِ لِيَضُرَّ الْآخَرَ لِيَمْنَعَ النَّاسَ عَنْ الشِّرَاءِ مِنْهُ، وَلِهَذَا كَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الشِّرَاءَ مِنْ الطَّبَّاخَيْنِ وَنَحْوِهِمَا يَتَبَارَيَانِ فِي الْبَيْعِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِطْعَامَ وَالْبَيْعَ حَلَالٌ. لَكِنْ لَمَّا قَصَدَ بِهِ إضْرَارَ الْغَيْرِ صَارَ الضَّرَرُ كَالْمَشْرُوطِ فِيهِ الْمُعَارَضِ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يُبَدِّلْ الْمَالَ إلَّا لِضَرَرٍ بِالْغَيْرِ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ صَارَ ذَلِكَ الْمَالُ حَرَامًا. وَمَنْ تَأَمَّلَ حَدِيثَ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ وَحَدِيثَ أَنَسٍ وَحَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ الَّتِي لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهَا عَلِمَ ضَرُورَةً أَنَّ السُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ التَّابِعِينَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّبَرُّعَاتِ مِنْ الْهِبَاتِ وَالْمُحَابَيَاتِ وَنَحْوِهِمَا إذَا كَانَتْ بِسَبَبِ قَرْضٍ أَوْ وِلَايَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا كَانَ الْقَرْضُ بِسَبَبِ الْمُحَابَاةِ فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ مُسَاقَاةٍ أَوْ مُضَارَبَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ عِوَضًا فِي ذَلِكَ الْقَرْضِ، وَالْوِلَايَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ. وَهَذَا يَجْتَثُّ قَاعِدَةَ الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ وَالرَّشَوِيَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَى حِيَلِ السِّفَاحِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأُمُورِ، فَإِذَا كَانَ إنَّمَا يَفْعَلُ الشَّيْءَ لِأَجْلِ كَذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْطُوقِ الظَّاهِرِ، فَإِذَا كَانَ حَلَالًا كَانَ حَلَالًا وَإِلَّا فَهُوَ حَرَامٌ، وَهَذَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَبَاحَ تَعَاطِيَ

الْأَسْبَابِ لِمَنْ يَقْصِدُ بِهَا الصَّلَاحَ، فَقَالَ فِي الرَّجْعَةِ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] وَقَالَ فِي الْمُطَلَّقَةِ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] وَقَالَ: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] وَقَالَ فِي الْوَصِيَّةِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] فَأَبَاحَ الْوَصِيَّةَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا ضِرَارٌ لِلْوَرَثَةِ قَصْدًا أَوْ فِعْلًا كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] وَقَالَ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39] وَقَالَ: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] وَهُوَ أَنْ تُهْدِيَ لِيُهْدَى إلَيْك أَكْثَرُ مِمَّا أَهْدَيْتَ، فَإِنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صُوَرَ الْعُقُودِ غَيْرُ كَافِيَةٍ فِي حِلِّهَا وَحُصُولِ أَحْكَامِهَا إلَّا إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَا قَصْدًا فَاسِدًا، وَكُلُّ مَا لَوْ شَرَطَهُ فِي الْعَقْدِ كَانَ عِوَضًا فَاسِدًا فَقَصْدُهُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَالِحًا لَمْ يَحْرُمْ اشْتِرَاطُهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَإِذَا كَانَ الْعِوَضُ الْمَشْرُوطُ بَاطِلًا عَلِمْنَا أَنَّهُ يُحِلُّ حَرَامًا أَوْ يُحَرِّمُ حَلَالًا فَيَكُونُ فَاسِدًا فَتَكُونُ النِّيَّةُ أَيْضًا فَاسِدَةً فَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الْحِيَلِ وَإِبْطَالِهَا، وَإِجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا بَلْ هِيَ أَوْكَدُ الْحُجَجِ وَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ تَقْرِيرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا الْأَصْلَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ بَلْ وَلَا بَيْنَ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ خِلَافٌ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِينَا بَعْضُ أَهْلِ

الْبِدَعِ الْمُكَفَّرِينَ بِبِدْعَتِهِمْ أَوْ الْمُفَسَّقِينَ بِهَا بَلْ مَنْ كَانَ يَضُمُّ إلَى بِدْعَتِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ مَا بَعْضُهُ يُوجِبُ الْفُسُوقَ، وَمَتَى ثَبَتَ اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَإِبْطَالِهَا فَهُوَ الْغَايَةُ فِي الدَّلَالَةِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ: إنَّا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَقَالَ (لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا) ، وَيُذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ نَهَوْا عَنْ التَّحْلِيلِ وَبَيَّنُوا أَنَّهَا لَا تَحِلُّ بِهِ لَا لِلْأَوَّلِ وَلَا لِلثَّانِي، وَأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ كُلَّ مَا قُصِدَ بِهِ التَّحْلِيلُ، وَإِنْ لَمْ يُشْرَطْ فِي الْعَقْدِ وَلَا قَبْلَهُ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ نُقِلَتْ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ وَقَضَايَا مُتَفَرِّقَةٍ وَفِيهَا مَا سَمِعَهُ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ مِنْ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ وَسَايَرَهَا بِحَيْثُ تُوجِبُ الْعَادَةُ انْتِشَارَهُ وَشِيَاعَهُ، أَوْ لَمْ يُنْكِرْ هَذِهِ الْأَقْوَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَعَ تَطَاوُلِ الْأَزْمِنَةِ وَزَوَالِ الْأَسْبَابِ الَّتِي قَدْ يُظَنُّ أَنَّ السُّكُوتَ كَانَ لِأَجْلِهَا، وَأَيْضًا قَدْ تَقَدَّمَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ أَعْيَانِهِمْ مِثْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ نَهَوْا الْمُقْرِضَ أَنْ يَقْبَلَ هَدِيَّةَ الْمُقْتَرِضِ إلَّا إذَا كَافَأَهُ عَلَيْهَا أَوْ حَسَبَهَا مِنْ دَيْنِهِ وَأَنَّهُمْ جَعَلُوا قَبُولَهَا رِبًا، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ أَيْضًا وَقَعَتْ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ، وَالْعَادَةُ تُوجِبُ أَنْ يَشْتَهِرَ بَيْنَهُمْ جِنْسُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهَرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ لَا سِيَّمَا وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ هُمْ أَعْيَانُ الْمُفْتِينَ الَّذِينَ كَانَتْ تُضْبَطُ أَقْوَالُهُمْ وَتُحْكَى إلَى غَيْرِهِمْ وَكَانَتْ نُفُوسُ الْبَاقِينَ مُشْرَئِبَّةً إلَى مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ خَالَفَ هَؤُلَاءِ مَعَ تَبَاعُدِ الْأَوْقَاتِ وَزَوَالِ أَسْبَابِ الصُّمَاتِ. وَأَيْضًا فَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ مَا أَوْجَبَ فِيهَا تَغْلِيطَ التَّحْرِيمِ وَفَسَادَ الْعَقْدِ، وَفِي الْفَتَاوَى وَقَعَتْ فِي أَزْمِنَةٍ وَبُلْدَانٍ وَلَمْ يُقَابِلْهَا أَحَدٌ بِرَدٍّ وَلَا مُخَالَفَةٍ مَعَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَاطِلَةً لَكَانَ السُّكُوتُ عَنْهَا مِنْ الْعَظَائِمِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمُبَالَغَةِ الْعَظِيمَةِ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ لَمْ يُخَالِفْ هَذَا وَأَنَّ عَقْدَهُ لَمْ يَتِمَّ. وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ أَقْوَالُهُمْ فِي الْإِهْدَاءِ إلَى الْمُقْرِضِ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ وَلَا عُرْفٍ

فَكَيْفَ بِالْمُوَاطَأَةِ عَلَى الْمُحَابَاةِ فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ مُسَاقَاةٍ؟ أَوْ بِالْمُوَاطَأَةِ عَلَى هِبَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ؟ ثُمَّ إذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُمْ فِي التَّحْلِيلِ وَالْإِهْدَاءِ لِلْمُقْرِضِ وَالْعِينَةِ فَكَيْفَ فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ وَالشُّفْعَةِ وَتَأْخِيرِ الصَّوْمِ عَنْ وَقْتِهِ وَإِخْرَاجِ الْأَبْضَاعِ وَالْأَمْوَالِ عَنْ مِلْكِ أَصْحَابِهَا وَتَصْحِيحِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَأُبَيُّ بْنَ كَعْبٍ وَسَائِرَ الْبَدْرِيِّينَ وَغَيْرَهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَبْتُوتَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ تَرِثُ، قَالَهُ عُمَرُ فِي قِصَّةِ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ لَمَّا طَلَّقَ نِسَاءَهُ وَقَسَمَ مَالَهُ بَيْنَ بَنِيهِ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَتُرَاجِعَنَّ نِسَاءَك وَلَتُرْجِعَنَّ مَالَك أَوْ لَأُوَرِّثَنَّ نِسَاءَكَ ثُمَّ لَأَمَرْتُ بِقَبْرِك فَلَيُرْجَمَنَّ كَمَا رُجِمَ قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ، وَقَالَ الْبَاقُونَ فِي قِصَّةِ تَمَاضُرَ بِنْتِ الْأَصْبَغِ لَمَّا طَلَّقَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْهُمْ أَنْكَرَ هَذَا الْوِفَاقَ وَلَا خَالَفَهُ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ لَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أُوَرِّثْ تَمَاضُرَ بِنْتَ الْأَصْبَغِ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّهَا هِيَ سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ، وَبِهَذَا اعْتَذَرَ مَنْ اعْتَذَرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي طَلَاقِهَا، وَقِيلَ إنَّ الْعِدَّةَ كَانَتْ قَدْ انْقَضَتْ، وَمِثْلُ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ قَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا الْقَائِلُونَ بِتَوْرِيثِ الْمَبْتُوتَةِ، فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا هَلْ تَرِثُ مَعَ مُطْلَقِ الطَّلَاقِ، أَوْ مَعَ طَلَاقِ يُتَّهَمُ فِيهِ بِأَنَّهُ قَصَدَ الْفِرَارَ مِنْ إرْثِهَا؟ وَهَلْ تَرِثُ فِي حَالِ الْعِدَّةِ فَقَطْ، أَوْ إلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ؟ أَوْ تَرِثُ وَإِنْ تَزَوَّجَتْ؟ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَلَامُ ابْنِ الزُّبَيْرِ يُجَوِّزُ أَنْ يَكُونَ بَتًّا عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَأْخَذَيْنِ وَكَذَلِكَ كَلَامُ غَيْرِهِ إنْ نُقِلَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى أَصْلِ الْقَاعِدَةِ. ثُمَّ لَوْ فُرِضَ فِي تَوْرِيثِ الْمَبْتُوتَةِ خِلَافٌ مُحَقَّقٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ وَهِيَ الطَّلَاقُ وَاقِعَةٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ، وَإِذَا صَحَّ تَبِعَهُ سَائِرُ أَحْكَامِهِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْخِلَافِ فِي مِثْلِ هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالنِّكَاحِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إنْفَاذِ هَذِهِ الْحِيلَةِ إحْلَالُهَا وَإِجَازَتُهَا، وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ لَك أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ خِلَافٌ فِي جَوَازِ شَيْءٍ مِنْ الْحِيَلِ، وَلَا فِي صِحَّةِ مَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ إمَّا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ أَوْ فِي بَعْضِهَا. الثَّانِي: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّ الْمَبْتُوتَةَ فِي الْمَرَضِ لَا تَرِثُ مُطْلَقًا لَمْ يَخْرِقْ هَذَا الْإِجْمَاعَ الْمُتَقَدِّمَ، فَإِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي

خِلَافَةِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ. وَلَمْ يَكُنْ إذْ ذَاكَ مِمَّنْ يُسْتَفْتَى بَلْ قَدْ جَاءَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ أَوْ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ قَدْ صَارَ بَعْدُ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى. وَهُوَ مَعَ هَذَا لَمْ يُخَالِفْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تِلْكَ الْأَعْصَارِ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ فِي إمَارَتِهِ بَعْدَ إمْرَةِ مُعَاوِيَةَ. وَقَدْ انْقَرَضَ عَصْرُ أُولَئِكَ السَّابِقِينَ مِثْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَأُبَيُّ وَغَيْرِهِمْ. وَمَتَى انْقَرَضَ عَصْرُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْمُجْمِعِينَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ظَاهِرٍ لَمْ يُعْتَدَّ بِمَا يَظْهَرُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ خِلَافِ غَيْرِهِمْ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي انْقِرَاضِ الْعَصْرِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِحَيْثُ لَوْ خَالَفَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ هَلْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ؟ وَإِذَا قُلْنَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ فَلَوْ صَارَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنْ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مُجْتَهِدًا قَبْلَ انْقِضَاءِ عَصْرِهِمْ فَخَالَفَ هَلْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ؟ هَذَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَأَمَّا الْمُخَالِفُ مِنْ غَيْرِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ وِفَاقًا. وَكَذَلِكَ لَا يُعْتَدُّ بِمَنْ صَارَ مُجْتَهِدًا بَعْدَ الِاتِّفَاقِ قَبْلَ انْقِرَاضِ عَصْرِهِمْ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا وَمَا لَمْ نَذْكُرْهُ مِنْ أَقْوَالِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ مَسَائِلِ الْحِيَلِ وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهَا فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِمْ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ وَذَلِكَ بِمُوجَبِ الْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ هَذِهِ الْحِيَلَ وَيُبْطِلُونَهَا وَمَنْ كَانَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْآثَارِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْفِقْهِ، ثُمَّ أَنْصَفَ لَمْ يَتَمَارَ أَنَّ تَقْرِيرَ هَذَا الْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَلِ وَإِبْطَالِهَا أَقْوَى مِنْ تَقْرِيرِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَالْعَمَلِ بِظَاهِرِ الْخِطَابِ، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ قَدْ اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ عَامَّةُ الْخَلْقِ الْقَائِلُونَ بِالْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ وَهُمْ الْجُمْهُورُ، وَالْمُنْكِرُونَ لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ لَا يَجُوزُ تَرْكُ إنْكَارِ الْبَاطِلِ مِنْهَا، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِي الْوَاقِعِ مَعْرِفَةُ الْإِجْمَاعِ وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَالْأَدِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِاتِّبَاعِ الْإِجْمَاعِ إنْ لَمْ تَتَنَاوَلْ مِثْلَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَإِلَّا كَانَتْ بَاطِلَةً وَهَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ بَيِّنٌ، وَإِنَّمَا ذَهِلَ عَنْهُ فِي هَذَا الْأَصْلِ مَنْ ذَهِلَ لِعَدَمِ تَتَبُّعِ مَقَالَتِهِمْ فِي أَفْرَادِ هَذَا الْأَصْلِ. كَمَا قَدْ يَقَعُ مِنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ قَوْلٌ هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُخَالِفٌ لِنُصُوصٍ ثَابِتَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَإِنَّ مَعْذِرَتَهُ فِي تَرْكِ هَذَا الِاجْتِمَاعِ كَمَعْذِرَتِهِ فِي تَرْكِ ذَلِكَ النَّصِّ، فَأَمَّا إذَا جُمِعَتْ وَفُهِمَتْ وَلَمْ يُنْقَلْ مَا يُخَالِفُهَا لَمْ يَسْتَرِبْ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَنَّ عَامَّةَ التَّابِعِينَ مُوَافِقُونَ عَلَى هَذَا فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ السَّبْعَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِ مُتَّفِقُونَ عَلَى إبْطَالِ الْحِيَلِ، وَكَذَلِكَ

أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُ أَصْحَابِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَذَلِكَ أَبُو الشَّعْثَاءِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ، وَلَوْلَا أَنَّ التَّابِعِينَ كَانُوا مُنْتَشِرِينَ انْتِشَارًا يَصْعُبُ مَعَهُ دَعْوَى الْإِحَاطَةِ بِمَقَالَاتِهِمْ لَقِيلَ إنَّ التَّابِعِينَ أَيْضًا اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ حِيلَةٍ تَوَاطَأَ عَلَيْهَا الرَّجُلُ مَعَ غَيْرِهِ وَإِبْطَالِهَا أَيْضًا. وَيَكْفِي أَنَّ مَقَالَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْرَفَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ. وَهَذَا الْمَسْلَكُ إذَا تَأَمَّلَهُ اللَّبِيبُ أَوْجَبَ قَطْعَهُ بِتَحْرِيمِ جِنْسِ هَذِهِ الْحِيَلِ وَبِإِبْطَالِهَا أَيْضًا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ فِي طَرِيقِ الْأَحْكَامِ وَأَدِلَّتِهَا دَلِيلًا أَقْوَى مِنْ هَذَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ كَثْرَةَ فَتَاوِيهِمْ بِالتَّحْرِيمِ فِي أَفْرَادِ هَذَا الْأَصْلِ وَانْتِشَارِهَا أَنَّ عَصْرَهُمْ انْتَشَرَ وَانْصَرَمَ وَرُقْعَةُ الْإِسْلَامِ مُتَّسِعَةٌ وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَقَدْ اتَّسَعَتْ الدُّنْيَا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ اتِّسَاعًا عَظِيمًا وَتَوَسَّعَ فِيهَا مَنْ تَوَسَّعَ حَتَّى كَثُرَ مَنْ كَانَ يَتَعَدَّى الْحُدُودَ وَكَانَ الْمُقْتَضِي لِوُقُوعِ هَذِهِ الْحِيَلِ مَوْجُودًا قَوِيًّا كَثِيرًا ثُمَّ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَفْتَى بِحِلِّهِ مِنْهَا أَوْ أَمَرَ بِهَا أَوْ دَلَّ عَلَيْهَا بَلْ يَزْجَرُ عَنْهَا وَيَنْهَى، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْحِيَلُ مِمَّا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ لَأَفْتَى بِجَوَازِهَا بَعْضُهُمْ وَلَاخْتَلَفُوا فِيهَا كَمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا لَا يَنْحَصِرُ مِنْ مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ مِثْلُ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهَا. وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَالظَّاهِرِ، وَالْخَبَرِ الْمُنْفَرِدِ، فَإِنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ مَا يُوهِمُ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ اخْتِلَافًا، وَكَذَلِكَ فِي آحَادِ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مَا يُوجَدُ فِيهَا مِنْ نَقْلِ الْإِجْمَاعِ هُوَ دُونَ مَا وُجِدَ فِي هَذَا الْأَصْلِ، وَهَذَا الْأَصْلُ لَمْ يَخْتَلِفْ كَلَامُهُمْ فِيهِ بَلْ دَلَّتْ أَقْوَالُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ وَأَحْوَالُهُمْ عَلَى الِاتِّفَاقِ فِيهِ مَعَ كَثْرَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى هَذَا الِاتِّفَاقِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَوْجَبَ الْوَاجِبَاتِ وَحَرَّمَ الْمُحَرَّمَاتِ لِمَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ لِخَلْقِهِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ عَنْهُمْ، وَلَأَنْ يَبْتَلِيَهُمْ بِأَنْ يُمَيِّزَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ،

فَإِذَا احْتَالَ الْمَرْءُ عَلَى حِلِّ الْمُحَرَّمِ أَوْ سُقُوطِ الْوَاجِبِ بِأَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا لَوْ عُمِلَ عَلَى وَجْهِهِ الْمَقْصُودِ بِهِ لَزَالَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ أَوْ سَقَطَ ذَلِكَ الْوَاجِبُ ضِمْنًا وَتَبَعًا لَا أَصْلًا وَقَصْدًا وَيَكُونُ إنَّمَا عَمِلَهُ لِيُغَيِّرَ ذَلِكَ الْحُكْمَ أَصْلًا وَقَصْدًا فَقَدْ سَعَى فِي دِينِ اللَّهِ بِالْفَسَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَمْرَ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ بَطَلَ مَا فِيهِ مِنْ حِكْمَةِ الشَّارِعِ نَقَصَ حُكْمُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ الْمُحْتَالَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةً وَلَا كَانَ مَقْصُودًا بِحَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ مُحَصِّلًا لِحِكْمَةِ الشَّارِعِ فِيهِ وَمَقْصُودِهِ فَصَارَ مُفْسِدًا بِسَعْيِهِ فِي حُصُولِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ حَقِيقَةُ الْمُحَرَّمِ وَمَعْنَاهُ مَوْجُودًا فِيهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الصُّورَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مُصْلِحًا بِالْأَمْرِ الْمُحْتَالِ بِهِ إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ عِنْدَهُ وَلَا مَقْصُودَةٌ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ إذَا أُتِيَتْ عَلَى وُجُوهِهَا فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَالَ الْمُسْلِمِ ثُمَّ أَبَاحَهُ لَهُ بِالْبَيْعِ الْمَقْصُودِ فَإِذَا ابْتَاعَهُ بَيْعًا مَقْصُودًا لَمْ يَأْتِ بِصُورَةِ الْمُحَرَّمِ وَلَا بِمَعْنَاهُ وَالسَّبَبُ الَّذِي اسْتَبَاحَهُ بِهِ أَتَى بِهِ صُورَةً وَمَعْنًى كَمَا شَرَعَهُ الشَّارِعُ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ الرِّبَا وَالزِّنَا وَتَوَابِعَهُمَا مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي تُفْضِي إلَى ذَلِكَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ وَالِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، وَأَبَاحَ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَرْقٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِلَّا لَكَانَ الْبَيْعُ مِثْلَ الرِّبَا. وَالْفَرْقُ فِي الصُّورَةِ دُونَ الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَعَانِي وَالْمَقَاصِدِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ إذَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَتُهَا وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ كَانَ حُكْمُهَا وَاحِدًا وَلَوْ اتَّفَقَتْ أَلْفَاظُهَا وَاخْتَلَفَتْ مَعَانِيهَا كَانَ حُكْمُهَا مُخْتَلِفًا، وَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ لَوْ اخْتَلَفَتْ صُوَرُهَا وَاتَّفَقَتْ مَقَاصِدُهَا كَانَ حُكْمُهَا وَاحِدًا فِي حُصُولِ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ وَالْأَحْكَامِ فِي الدُّنْيَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَالْقَرْضَ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا الْمِلْكَ الْبَتَاتَ كَانَتْ مُسْتَوِيَةً فِي حُصُولِ هَذَا الْمَقْصُودِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ لَمَّا كَانَتْ مُسْتَوِيَةً فِي ابْتِغَاءِ فَضْلِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ اسْتَوَتْ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقْصِدِ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِ الْعَمَلَيْنِ خَاصَّةً لَيْسَ لِلْآخَرِ وَلَوْ اتَّفَقَتْ صُوَرُهَا وَاخْتَلَفَتْ مَقَاصِدُهَا كَالرَّجُلَيْنِ يَتَكَلَّمَانِ بِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ أَحَدُهُمَا يَبْتَغِي بِهَا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقَ وَطَلَبَ مَا عِنْدَ اللَّهِ وَالْآخَرُ يَبْتَغِي بِهَا حَقْنَ دَمِهِ وَمَالِهِ، وَالرَّجُلَيْنِ يُهَاجِرَانِ إلَى

الوجه الثالث والعشرون إذا تأملت عامة الحيل وجدتها رفعا للتحريم

رَسُولِهِ وَالْآخَرُ لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَةً لَكَانَتْ تِلْكَ الْأَعْمَالُ مُفْتَرِقَةً عِنْدَ اللَّهِ وَفِي الْحُكْمِ الَّذِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ وَكَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ إذَا ظَهَرَ لَهُمْ الْمَقْصِدُ. وَمَنْ تَأَمَّلَ الشَّرِيعَةَ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ صِحَّةَ هَذَا فَالْأَمْرُ الْمُحْتَالُ بِهِ صُورَتُهُ صُورَةُ الْحَلَالِ، وَلَكِنْ لَيْسَ حَقِيقَتُهُ وَمَقْصُودُهُ ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ بِمَنْزِلَتِهِ فَلَا يَكُونُ حَلَالًا فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْحَلَالِ فَيَقَعُ بَاطِلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْأَمْرُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ حَقِيقَتُهُ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ الْحَرَامِ لَكِنْ لَيْسَتْ صُورَتُهُ صُورَتَهُ فَيَجِبُ أَنْ يُشَارِكَ الْحَرَامَ لِمُوَافَقَتِهِ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الصُّورَةِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ إذَا تَأَمَّلْت عَامَّةَ الْحِيَلِ وَجَدْتهَا رَفْعًا لِلتَّحْرِيمِ] الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: إنَّك إذَا تَأَمَّلْت عَامَّةَ الْحِيَلِ وَجَدْتهَا رَفْعًا لِلتَّحْرِيمِ أَوْ الْوُجُوبِ مَعَ قِيَامِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ فَتَصِيرُ حَرَامًا مِنْ وَجْهَيْنِ. مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهَا فِعْلَ الْمُحَرَّمِ وَتَرْكَ الْوَاجِبِ. وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مَعَ ذَلِكَ تَدْلِيسٌ وَخِدَاعٌ وَخِلَابَةٌ وَمَكْرٌ وَنِفَاقٌ وَاعْتِقَادٌ فَاسِدٌ وَهَذَا الْوَجْهُ أَعْظَمُهَا إثْمًا فَإِنَّ الْأَوَّلَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْعُصَاةِ وَأَمَّا الثَّانِي فَبِمَنْزِلَةِ الْبِدَعِ وَالنِّفَاقِ. وَلِهَذَا كَانَ التَّغْلِيظُ عَلَى مَنْ يَأْمُرُ بِهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهَا مَتْبُوعًا فِي ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ التَّغْلِيظِ عَلَى مَنْ يَعْمَلُ بِهَا مُقَلِّدًا، فَأَمَّا إذَا عَمِلَ بِهَا مُعْتَقِدًا جَوَازَهَا فَهَذَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي الشَّرِّ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَيُّوبَ لَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ وَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهِدُ مَعْذُورًا إذَا اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ فَذَاكَ مِنْ بَابِ الْمَانِعِ لِلُحُوقِ الذَّمِّ وَإِلَّا فَالْمُقْتَضِي لِلذَّمِّ قَائِمٌ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ، إذَا خَفِيَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مَا فِي الْفِعْلِ مِنْ الْقُبْحِ كَانَ ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِإِيضَاحِ قُبْحِهِ وَهَذَا الْوَجْهُ مِمَّا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ أَبُو طَالِبٍ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَهُ رَجُلٌ فِي كِتَابِ الْحِيَلِ إذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَمَةً فَأَرَادَ أَنْ يَقَعَ بِهَا يُعْتِقُهَا ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: بَلَغَنِي أَنَّ الْمَهْدِيَّ اشْتَرَى جَارِيَةً فَأَعْجَبَتْهُ فَقِيلَ لَهُ أَعْتِقْهَا وَتَزَوَّجْهَا فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَعْجَبَ هَذَا أَبْطَلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَالسُّنَّةَ جَعَلَ اللَّهُ عَلَى الْحَرَائِرِ الْعِدَّةَ مِنْ جِهَةِ الْحَمْلِ فَلَيْسَ مِنْ امْرَأَةٍ تَطْلُقُ أَوْ يَمُوتُ زَوْجُهَا إلَّا تَعْتَدُّ مِنْ جِهَةِ الْحَمْلِ فَفَرْجٌ يُوطَأُ يَشْتَرِيهِ ثُمَّ يُعْتِقُهُ عَلَى

الْمَكَانِ فَيَتَزَوَّجُهَا فَيَطَأُهَا فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا كَيْفَ يَصْنَعُ يَطَؤُهَا رَجُلٌ الْيَوْمَ وَيَطَأُهَا الْآخَرُ غَدًا هَذَا نَقْضٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ حَامِلٍ حَتَّى تَحِيضَ» . وَلَا يُدْرَى حَامِلٌ أَمْ لَا سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَسْمَجَ هَذَا. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَذَكَرَ الْحِيَلَ مِنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ فَقَالَ يَحْتَالُونَ لِنَقْضِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَأَبِي الْحَارِثِ هَذِهِ الْحِيَلُ الَّتِي وَضَعُوهَا عَمَدُوا إلَى السُّنَنِ فَنَقَضُوهَا وَالشَّيْءُ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ إنَّهُ حَرَامٌ احْتَالُوا فِيهِ حَتَّى أَحَلُّوهُ وَسَبَقَ تَمَامُ كَلَامِهِ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّا نَعْلَمُ بِاضْطِرَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَهَى عَنْ وَطْءِ الْحَبَالَى وَقَالَ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَسْتَبْرِئَ بِحَيْضَةٍ» . إنَّ مِنْ أَكْثَرِ الْمَقَاصِدِ بِالِاسْتِبْرَاءِ أَنْ لَا يَخْتَلِطَ الْمَاءَانِ وَلَا يَشْتَبِهَ النَّسَبُ. ثُمَّ إنَّ الشَّارِعَ بَالَغَ فِي هَذِهِ الصِّيَانَةِ حَتَّى جَعَلَ الْعِدَّةَ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَأَوْجَبَ الْعِدَّةَ عَلَى الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَقْصُودٌ آخَرُ غَيْرُ اسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ، فَإِذَا مَلَكَ أَمَةً يَطَؤُهَا سَيِّدُهَا وَأَعْتَقَهَا عَقِبَ مِلْكِهَا وَتَزَوَّجَهَا وَوَطِئَهَا اللَّيْلَةَ صَارَ الْأَوَّلُ قَدْ وَطِئَهَا الْبَارِحَةَ وَهَذَا قَدْ وَطِئَهَا اللَّيْلَةَ وَبِاضْطِرَارٍ نَعْلَمُ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا وَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ قَائِمَةٌ فِي هَذَا الْوَطْءِ، وَمَنْ تَوَقَّفَ فِي هَذَا كَانَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ بِمَنْزِلَةِ التَّوَقُّفِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ، وَكَذَلِكَ نَعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ حَرَّمَ الرِّبَا لِمَا فِيهِ مِنْ أَخْذِ فَضْلٍ عَلَى مَالِهِ مَعَ بَقَاءِ مَالِهِ فِي الْمَعْنَى فَيَكُونُ أَكْلًا لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ كَأَخْذِهِ بِالْقِمَارِ وَهُوَ يَسُدُّ طَرِيقَ الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ. فَإِنَّهُ مَتَى جَوَّزَ لِصَاحِبِ الْمَالِ الرِّبَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَفْعَلُ مَعْرُوفًا مِنْ قَرْضٍ وَنَحْوِهِ إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَبْذُلَ لَهُ كَمَا يَبْذُلَ الْقُرُوضَ مَعَ أَخْذِ فَضْلٍ لَهُ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] فَجَعَلَ الرِّبَا نَقِيضَ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرْبِيَ يَأْخُذُ فَضْلًا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ يَزِيدُ بِهِ مَالُهُ وَالْمُتَصَدِّقَ يَنْقُصُ مَالُهُ فِي الظَّاهِرِ لَكِنْ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] . فَكَمَا أَنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ الصَّدَقَةَ الَّتِي فِيهَا الْإِعْطَاءُ لِلْمُحْتَاجِينَ حَرَّمَ الرِّبَا الَّذِي فِيهِ أَخْذُ الْمَالِ

مِنْ الْمُحْتَاجِينَ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلِمَ أَنَّ صَلَاحَ الْخَلْقِ فِي أَنَّ الْغَنِيَّ يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا يُعْطَى لِلْفَقِيرِ وَأَنَّ الْفَقِيرَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا يُعْطَى لِلْغَنِيِّ. ثُمَّ رَأَيْت هَذَا الْمَعْنَى مَأْثُورًا عَلَى عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ آبَائِهِ أَنَّهُ سُئِلَ لِمَ حَرَّمَ اللَّهُ الرِّبَا؟ فَقَالَ: لِئَلَّا يَتَمَانَعَ النَّاسُ الْمَعْرُوفَ، فَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ يُنَبِّهُ عَلَى بَعْضِ عِلَلِ الرِّبَا، فَحَرَّمَ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ آخَرَ أَلْفًا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ بَعْدَ شَهْرٍ أَلْفًا وَمِائَةً وَعَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كُلَّ شَهْرٍ مِائَةً غَيْرَ الْأَلْفِ، وَرِبَا النَّسَاءِ هُوَ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ غَرَضُ الْمُرْبِي فِي أَكْثَرِ الْأُمُورِ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ رِبَا الْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى الرِّبَا وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَلَا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرَّمَاءَ» - وَالرِّمَا هُوَ الرِّبَا - رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ، إنِّي أَخَاف عَلَيْكُمْ الرِّمَا مَحْفُوظَةٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَأَسْقَطَ اعْتِبَارَ الصِّفَاتِ مَعَ إيجَادِ الْجِنْسِ وَإِنْ كَانَتْ مَقْصُودَةً لِئَلَّا يُفْضِيَ اعْتِبَارُهَا إلَى الرِّبَا وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَشُكُّ الْمُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُعْطِيَ دِرْهَمًا لِيَأْخُذَ دِرْهَمَيْنِ إلَى أَجَلٍ إلَّا لِحِكْمَةٍ فَإِذَا جَازَ أَنْ يَقُولَ بِعْنِي ثَوْبَك بِأَلْفٍ حَالَّةٍ ثُمَّ يَبِيعَهُ إيَّاهُ بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَمُؤَجَّلَةٍ بِالْغَرَضِ الَّذِي كَانَ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي إعْطَاءِ أَلْفٍ بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ هُوَ بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ هَاهُنَا وَمَا أَظْهَرَاهُ مِنْ صُورَةِ الْعَقْدِ لَا غَرَضَ لَهُمَا فِيهِ بِحَالٍ وَلَيْسَ عَقْدًا ثَابِتًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ الرِّبَا وَعَظَّمَهُ زَجْرًا لِلنُّفُوسِ عَمَّا تَطْلُبُهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْحِيلَةُ يَحْصُلُ مَعَهَا غَرَضُ النُّفُوسِ مِنْ الرِّبَا عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ مَفْسَدَةَ الرِّبَا مَوْجُودَةٌ فِيهَا فَتَكُونُ مُحَرَّمَةً. وَكَذَلِكَ السِّفَاحُ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحِكَمٍ كَثِيرَةٍ وَقَطَعَ تَشْبِيهَهُ بِالنِّكَاحِ بِكُلِّ طَرِيقٍ فَأَوْجَبَ فِي النِّكَاحِ الْوَلِيَّ وَالشَّاهِدَيْنِ وَالْعِدَّةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ لِيُقِيمَ مَعَهَا لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ ثُمَّ يُفَارِقَهَا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ سِفَاحًا وَهُوَ الْمُتْعَةُ الْمُحَرَّمَةُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ مَعَهَا أَلَمْ يَكُنْ أَوْلَى بِاسْمِ السِّفَاحِ؟ وَكَذَلِكَ نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَوْجَبَ الشُّفْعَةَ لَلشَّرِيك لِعِلْمِهِ بِأَنَّ مَصِيرَ هَذَا الشِّقْصِ لِلشَّرِيكِ مَعَ حُصُولِ مَقْصُودِ الْبَائِعِ مِنْ الثَّمَنِ خَيْرٌ مِنْ حُصُولِهِ لِأَجْنَبِيٍّ يَنْشَأُ بِسَبَبِهِ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ وَالْقِسْمَةِ فَأَوْجَبَ هَذَا الْخَيْرَ الَّذِي لَا شَرَّ فِيهِ، فَإِذَا سَوَّغَ الِاحْتِيَالَ

عَلَى إسْقَاطِهَا أَلَمْ يَكُنْ فِيهِ بَقَاءُ فَسَادِ الشَّرِكَةِ وَالْقِسْمَةِ وَعَدَمُ صَلَاحِ الشُّفْعَةِ وَالتَّكْمِيلِ مَعَ وُجُودِ حَقِيقَةِ سَبَبِهَا وَهُوَ الْبَيْعُ. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي جَمِيعِ الشَّرْعِيَّاتِ فَكُلُّ مَوْضِعٍ ظَهَرَتْ لِلْمُكَلَّفِينَ حِكْمَتُهُ أَوْ غَابَتْ عَنْهُمْ لَا يَشُكُّ مُسْتَبْصِرٌ أَنَّ الِاحْتِيَالَ يُبْطِلُ تِلْكَ الْحِكْمَةَ الَّتِي قَصَدَهَا الشَّارِعُ فَيَكُونُ الْمُحْتَالُ مُنَاقِضًا لِلشَّارِعِ مُخَادِعًا فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَكُلَّمَا كَانَ الْمَرْءُ أَفْقَهَ فِي الدِّينِ وَأَبْصَرَ بِمَحَاسِنِهِ كَانَ فِرَارُهُ عَنْ الْحِيَلِ أَشَدَّ، وَاعْتُبِرَ هَذَا بِسِيَاسَةِ الْمُلُوكِ بَلْ بِسِيَاسَةِ الرَّجُلِ أَهْلَ بَيْتِهِ فَإِنَّهُ لَوْ عَارَضَهُ بَعْضُ الْأَذْكِيَاءِ الْمُحْتَالِينَ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ بِإِقَامَةِ صُوَرِهَا دُونَ حَقَائِقِهَا لَعَلِمَ أَنَّهُ سَاعٍ فِي فَسَادِ أَوَامِرِهِ، وَأَظُنُّ كَثِيرًا مِنْ الْحِيَلِ إنَّمَا اسْتَحَلَّهَا مَنْ لَمْ يَفْقَهْ حِكْمَةَ الشَّارِعِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ الْتِزَامِ ظَاهِرِ الْحُكْمِ فَأَقَامَ رَسْمَ الدِّينِ دُونَ حَقِيقَتِهِ وَلَوْ هُدِيَ رُشْدَهُ لَسَلَّمَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَطَاعَ اللَّهَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي كُلِّ أَمْرِهِ وَعَلِمَ أَنَّ الشَّرَائِعَ تَحْتَهَا حِكَمٌ وَإِنْ لَمْ يَهْتَدِ هُوَ لَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ سَبَبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُزِيلٌ لِحِكْمَةِ الشَّارِعِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَةَ مَا أَزَالَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُنَافِقًا يَعْتَقِدُ أَنَّ رَأْيَهُ أَصْلَحُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ خُصُوصًا أَوْ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا عُمُومًا لِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ أَوْ صَاحِبُ شَهْوَةٍ قَاهِرَةٍ تَدْعُوهُ إلَى تَحْصِيلِ غَرَضِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنْ ظَاهِرِ رَسْمِ الْإِسْلَامِ، أَوْ يَكُونُ مِمَّنْ يُحِبُّ الرِّيَاسَةَ وَالشَّرَفَ بِالْفُتْيَا الَّتِي يَنْقَادُ لَهُ بِهَا النَّاسُ وَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ عِنْدَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ إلَّا بِهَذِهِ الْحِيَلِ أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الشَّيْءَ لَيْسَ مُحَرَّمًا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْمَخْصُوصَةِ لِمَعْنًى رَآهُ لَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إظْهَارُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُوَافِقُونَهُ عَلَيْهِ وَيَخَافُ الشَّنَاعَةَ فَيَحْتَالُ بِحِيلَةٍ يُظْهِرُ بِهَا تَرْكَ الْحَرَامِ وَمَقْصُودُهُ اسْتِحْلَالُهُ فَيُرْضِي النَّاسَ ظَاهِرًا أَوْ يَعْمَلُ بِمَا يَرَاهُ بَاطِنًا وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» . وَإِنَّمَا الْفِقْهُ فِي الدِّينِ فَهْمُ مَعَانِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِيَسْتَبْصِرَ الْإِنْسَانُ فِي دِينِهِ أَلَا تَرَى قَوْله تَعَالَى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] فَقَرَنَ الْإِنْذَارَ بِالْفِقْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ مَا وَزَعَ عَنْ مُحَرَّمٍ أَوْ دَعَا إلَى وَاجِبٍ وَخَوَّفَ النُّفُوسَ مَوَاقِعَهُ الْمَحْظُورَةَ لَا مَا هَوَّنَ عَلَيْهَا اسْتِحْلَالَ الْمَحَارِمِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ

الوجه الرابع والعشرون أن الله ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم

وَمِمَّا يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ أَنَّ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إلَى الْقِيَاسِ وَاسْتِنْبَاطِ مَعَانِي الْأَحْكَامِ وَالْفِقْهِ مِنْ أَهْلِ الْحِيَلِ هُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ رِعَايَةِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ وَعَنْ مَعْرِفَةِ الْعِلَلِ وَالْمَعَانِي وَعَنْ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ، فَإِنَّك تَجِدْهُمْ يَقْطَعُونَ عَنْ الْإِلْحَاقِ بِالْأَصْلِ مَا يُعْلَمُ بِالْقَطْعِ أَنَّ مَعْنَى الْأَصْلِ مَوْجُودٌ فِيهِ، وَيُهْدِرُونَ اعْتِبَارَ تِلْكَ الْمَعَانِي، ثُمَّ يَرْبِطُونَ الْأَحْكَامَ بِمَعَانِي لَمْ يُومِئْ إلَيْهَا شَرْعٌ وَلَمْ يَسْتَحْسِنْهَا عَقْلٌ. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] وَإِنَّمَا سَبَبُ نِسْبَةِ بَعْضِ النَّاسِ لَهُمْ إلَى الْفِقْهِ وَالْقِيَاسِ مَا انْفَرَدُوا بِهِ مِنْ الْفِقْهِ وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ مَحْضٌ صَدَرَ عَنْ فِطْنَةٍ وَذَكَاءٍ كَفِطْنَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا فِي تَحْصِيلِ أَغْرَاضِهِمْ فَتَسَمَّوْا بِأَشْرَفِ صِفَاتِهِمْ وَهُوَ الْفَهْمُ الَّذِي هُوَ مُشْتَرَكٌ فِي الْأَصْلِ بَيْنَ فَهْمِ طُرُقِ الْخَيْرِ وَفَهْمِ طُرُقِ الشَّرِّ إذْ أَحْسَنُ مَا فِيهِمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَهْمُهُمْ لِطُرُقِ تِلْكَ الْأَغْرَاضِ وَالتَّوَصُّلُ إلَيْهَا بِالرَّأْيِ. فَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَبِأَمْرِهِ فَعِلْمُهُمْ مُتَلَقًّى عَنْ النُّبُوَّةِ إمَّا نَصًّا أَوْ اسْتِنْبَاطًا فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى أَنْ يُضِيفُوهُ إلَى أَنْفُسِهِمْ وَإِنَّمَا لَهُمْ فِيهِ الِاتِّبَاعُ فَمَنْ فَهِمَ حِكْمَةَ الشَّارِعِ مِنْهُمْ كَانَ هُوَ الْفَقِيهُ حَقًّا وَمَنْ اكْتَفَى بِالِاتِّبَاعِ لَمْ يَضُرَّهُ أَنْ لَا يَتَكَلَّفَ عِلْمَ مَا لَا يَلْزَمُهُ إذَا كَانَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ مَعَ أَنَّهُ هُوَ الْفِقْهُ الْحَقِيقِيُّ وَالرَّأْيُ السَّدِيدُ وَالْقِيَاسُ الْمُسْتَقِيمُ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [الْوَجْه الرَّابِع وَالْعُشْرُونَ أَنْ اللَّه وَرَسُوله سَدّ الذَّرَائِع الْمُفْضِيَة إلَى الْمَحَارِم] الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَرَسُولَهُ سَدَّ الذَّرَائِعَ الْمُفْضِيَةَ إلَى الْمَحَارِمِ بِأَنْ حَرَّمَهَا وَنَهَى عَنْهَا. وَالذَّرِيعَةُ مَا كَانَ وَسِيلَةً وَطَرِيقًا إلَى الشَّيْءِ، لَكِنْ صَارَتْ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةً عَمَّا أَفَضْت إلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ، وَلَوْ تَجَرَّدَتْ عَنْ ذَلِكَ الْإِفْضَاءِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَفْسَدَةٌ، وَلِهَذَا قِيلَ الذَّرِيعَةُ الْفِعْلُ الَّذِي ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُبَاحٌ وَهُوَ وَسِيلَةٌ إلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمِ، أَمَّا إذَا أَفْضَتْ إلَى فَسَادٍ لَيْسَ هُوَ فِعْلًا كَإِفْضَاءِ شُرْبِ الْخَمْرِ إلَى السُّكْرِ وَإِفْضَاءِ الزِّنَا إلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ أَوْ كَانَ الشَّيْءُ نَفْسُهُ فَسَادًا كَالْقَتْلِ وَالظُّلْمِ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّا

نَعْلَمُ إنَّمَا حُرِّمَتْ الْأَشْيَاءُ لِكَوْنِهَا فِي نَفْسِهَا فَسَادًا بِحَيْثُ تَكُونُ ضَرَرًا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ. أَوْ لِكَوْنِهَا مُفْضِيَةً إلَى فَسَادٍ بِحَيْثُ تَكُونُ هِيَ فِي نَفْسِهَا فِيهَا مَنْفَعَةٌ وَهِيَ مُفْضِيَةٌ إلَى ضَرَرٍ أَكْثَرَ مِنْهَا فَتَحْرُمُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْفَسَادُ فِعْلَ مَحْظُورٍ سُمِّيَتْ ذَرِيعَةً وَإِلَّا سُمِّيَتْ سَبَبًا وَمُقْتَضِيًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَشْهُورَةِ، ثُمَّ هَذِهِ الذَّرَائِعُ إذَا كَانَتْ تُفْضِي إلَى الْمُحَرَّمِ غَالِبَا فَإِنَّهُ يُحَرِّمُهَا مُطْلَقًا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ قَدْ تُفْضِي وَقَدْ لَا تُفْضِي لَكِنَّ الطَّبْعَ مُتَقَاضٍ لِإِفْضَائِهَا. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ إنَّمَا تُفْضِي أَحْيَانًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى هَذَا الْإِفْضَاءِ الْقَلِيلِ، وَإِلَّا حَرَّمَهَا أَيْضًا، ثُمَّ هَذِهِ الذَّرَائِعُ مِنْهَا مَا يُفْضِي إلَى الْمَكْرُوهِ بِدُونِ قَصْدِ فَاعِلِهَا. وَمِنْهَا مَا تَكُونُ إبَاحَتُهَا مُفْضِيَةً لِلتَّوَسُّلِ بِهَا إلَى الْمَحَارِمِ فَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي يُجَامِعُ الْحِيَلَ بِحَيْثُ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهِ الِاحْتِيَالُ تَارَةً وَقَدْ لَا يَقْتَرِنُ كَمَا أَنَّ الْحِيَلَ قَدْ تَكُونُ بِالذَّرَائِعِ وَقَدْ تَكُونُ بِأَسْبَابٍ مُبَاحَةٍ فِي الْأَصْلِ لَيْسَتْ ذَرَائِعَ. فَصَارَتْ الْأَقْسَامُ ثَلَاثَةً. الْأَوَّلُ: مَا هُوَ ذَرِيعَةٌ وَهُوَ مِمَّا يُحْتَالُ بِهِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ، وَكَاشْتِرَاءِ الْبَائِعِ السِّلْعَةَ مِنْ مُشْتَرِيهَا بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ تَارَةً وَبِأَكْثَرَ أُخْرَى، وَكَالِاعْتِيَاضِ عَنْ ثَمَنِ الرِّبَوِيِّ بِرِبَوِيٍّ لَا يُبَاعُ بِالْأَوَّلِ نَسَئًا، وَكَقَرْضِ بَنِي آدَمَ. الثَّانِي: مَا هُوَ ذَرِيعَةٌ لَا يُحْتَالُ بِهَا كَسَبِّ الْأَوْثَانِ فَإِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ سَبُّ الرَّجُلِ وَالِدَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى أَنْ يَسُبَّ وَالِدَهُ وَإِنْ كَانَ هَذَا لَا يَقْصِدُهُمَا مُؤْمِنٌ. الثَّالِثُ: مَا يَحْتَالُ بِهِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ فِي الْأَصْلِ كَبَيْعِ النِّصَابِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ وَكَإِغْلَاءِ الثَّمَنِ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ. وَالْغَرَضُ هُنَا أَنَّ الذَّرَائِعَ حَرَّمَهَا الشَّارِعُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الْمُحَرَّمَ خَشْيَةَ إفْضَائِهَا إلَى الْمُحَرَّمِ، فَإِذَا قَصَدَ بِالشَّيْءِ نَفْسَ الْمُحَرَّمِ كَانَ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ مِنْ الذَّرَائِعِ وَبِهَذَا التَّحْرِيرِ يَظْهَرُ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ فِي مَسَائِلِ الْعِينَةِ وَأَمْثَالِهَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْبَائِعُ الرِّبَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ يَغْلِبُ فِيهَا قَصْدُ الرِّبَا فَيَصِيرُ ذَرِيعَةً فَيَسُدُّ هَذَا الْبَابَ لِئَلَّا يَتَّخِذَهُ النَّاسُ ذَرِيعَةً إلَى الرِّبَا وَيَقُولُ الْقَائِلُ لَمْ أَقْصِدْ بِهِ ذَلِكَ، وَلِئَلَّا يَدْعُو الْإِنْسَانُ فِعْلَهُ مَرَّةً إلَى أَنْ يَقْصِدَ مَرَّةً أُخْرَى، وَلِئَلَّا يَعْتَقِدَ أَنَّ جِنْسَ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ حَلَالٌ وَلَا يُمَيِّزَ بَيْنَ

الْقَصْدِ وَعَدَمِهِ، وَلِئَلَّا يَفْعَلَهَا الْإِنْسَانُ مَعَ قَصْدٍ خَفِيٍّ يَخْفَى مِنْ نَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَلِلشَّرِيعَةِ أَسْرَارٌ فِي سَدِّ الْفَسَادِ وَحَسْمِ مَادَّةِ الشَّرِّ لِعِلْمِ الشَّارِعِ مَا جُلِبَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ وَبِمَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ مِنْ خَفِيِّ هُدَاهَا الَّذِي لَا يَزَالُ يَسْرِي فِيهَا حَتَّى يَقُودَهَا إلَى الْهَلَكَةِ، فَمَنْ تَحَذْلَقَ عَلَى الشَّارِعِ وَاعْتَقَدَ فِي بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ أَنَّهُ إنَّمَا حُرِّمَ لِعِلَّةِ كَذَا وَتِلْكَ الْعِلَّةُ مَقْصُودَةٌ فِيهِ فَاسْتَبَاحَهُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ فَهُوَ ظَلُومٌ لِنَفْسِهِ جَهُولٌ بِأَمْرِ رَبِّهِ وَهُوَ إنْ نَجَا مِنْ الْكُفْرِ لَمْ يَنْجُ غَالِبًا مِنْ بِدْعَةٍ أَوْ فِسْقٍ أَوْ قِلَّةِ فِقْهٍ فِي الدِّينِ وَعَدَمِ بَصِيرَةٍ. أَمَّا شَوَاهِدُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، فَنَذْكُرُ مِنْهَا مَا حَضَرَ. فَالْأَوَّلُ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] حَرَّمَ سَبَّ الْآلِهَةِ مَعَ أَنَّهُ عِبَادَةٌ لِكَوْنِهِ ذَرِيعَةً إلَى سَبِّهِمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ تَرْكِهِمْ سَبَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ سَبِّنَا لِآلِهَتِهِمْ. الثَّانِي: مَا رَوَى حُمَيْدٍ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مِنْ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: «إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ» فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجُلَ سَابًّا لَاعِنًا لِأَبَوَيْهِ إذَا سَبَّ سَبًّا يُجْزِيهِ النَّاسُ عَلَيْهِ بِالسَّبِّ لَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ، وَبَيْنَ هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ فَرْقٌ؛ لِأَنَّ سَبَّ أَبَا النَّاسِ هُنَا حَرَامٌ لَكِنْ قَدْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ لِكَوْنِهِ شَتْمًا لِوَالِدَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعُقُوقِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إثْمٌ مِنْ جِهَةِ إيذَاءِ غَيْرِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكُفُّ عَنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ مَعَ كَوْنِهِ مَصْلَحَةً لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى قَوْلِ النَّاسِ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوجِبُ النُّفُورَ عَنْ الْإِسْلَامِ مِمَّنْ دَخَلَ فِيهِ وَمِمَّنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ وَهَذَا النُّفُورُ حَرَامٌ.

الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الْخَمْرَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى زَوَالِ الْعَقْلِ وَهَذَا فِي الْأَصْلِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، ثُمَّ إنَّهُ حَرَّمَ قَلِيلَ الْخَمْرِ وَحَرَّمَ اقْتِنَاءَهَا لِلتَّخْلِيلِ وَجَعَلَهَا نَجِسَةً لِئَلَّا تُفْضِيَ إبَاحَتُهُ مُقَارَبَتَهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لَا لِإِتْلَافِهَا عَلَى شَارِبِهَا، ثُمَّ إنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْ الْخَلِيطَيْنِ، وَعَنْ شُرْبِ الْعَصِيرِ وَالنَّبِيذِ بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَعَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ الَّتِي لَا نَعْلَمُ بِتَخْمِيرِ النَّبِيذِ فِيهَا حَسْمًا لِمَادَّةِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي بَقَاءِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ خِلَافٌ - وَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى بَعْضَ ذَلِكَ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً فَقَالَ: «لَوْ رَخَّصْت لَكُمْ فِي هَذِهِ لَأَوْشَكَ أَنْ تَجْعَلُوهَا مِثْلَ هَذِهِ» . يَعْنِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ النُّفُوسَ لَا تَقِفُ عِنْدَ الْحَدِّ الْمُبَاحِ فِي مِثْلِ هَذَا. الْخَامِسُ: أَنَّهُ حَرَّمَ الْخَلْوَةَ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالسَّفَرَ بِهَا وَلَوْ فِي مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ حَسْمًا لِمَادَّةِ مَا يُحَاذَرُ مِنْ تَغَيُّرِ الطِّبَاعِ وَشِبْهِ الْغَيْرِ. السَّادِسُ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ بِنَاء الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَلَعَنَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَنَهَى عَنْ تَكْبِيرِ الْقُبُورِ وَتَشْرِيفِهَا وَأَمَرَ بِتَسْوِيَتِهَا، وَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ إلَيْهَا وَعِنْدَهَا، وَعَنْ إيقَادِ الْمَصَابِيحِ عَلَيْهَا لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى اتِّخَاذِهَا أَوْثَانًا، وَحَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ قَصَدَ هَذَا وَمَنْ لَمْ يَقْصِدْهُ بَلْ قَصَدَ خِلَافَهُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ. السَّابِعُ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا وَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ أَنَّهُمَا وَقْتُ سُجُودِ الْكُفَّارِ لِلشَّمْسِ فَفِي ذَلِكَ تَشْبِيهٌ بِهِمْ وَمُشَابَهَةُ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ ذَرِيعَةٌ إلَى أَنْ يُعْطَى بَعْضُ أَحْكَامِهِ فَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى السُّجُودِ لِلشَّمْسِ أَوْ أَخْذِ بَعْضِ أَحْوَالِ عَابِدِيهَا. الثَّامِنُ: أَنَّهُ نَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِثْلُ قَوْلِهِ «إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» - «إنَّ الْيَهُودَ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ فَخَالِفُوهُمْ» ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَاشُورَاءَ: «لَئِنْ عِشْتُ إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: «لَا تَشَبَّهُوا بِالْأَعَاجِمِ» وَقَالَ فِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا» ، حَتَّى قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَمَا ذَاكَ إلَّا؛ لِأَنَّ الْمُشَابَهَةَ فِي بَعْضِ الْهُدَى الظَّاهِرِ يُوجِبُ الْمُقَارَبَةَ وَنَوْعًا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ يُفْضِي إلَى الْمُشَارَكَةِ فِي خَصَائِصِهِمْ الَّتِي انْفَرَدُوا بِهَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْعَرَبِ ذَلِكَ يَجُرُّ إلَى فَسَادٍ عَرِيضٍ.

التَّاسِعُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا. وَقَالَ: «إنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ» حَتَّى لَوْ رَضِيَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تُنْكَحَ عَلَيْهَا أُخْتُهَا كَمَا رَضِيَتْ بِذَلِكَ «أُمُّ حَبِيبَةَ لَمَّا طَلَبَتْ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا دُرَّةَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ» ، وَإِنْ زَعَمَتَا أَنَّهُمَا لَا يَتَبَاغَضَانِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الطِّبَاعَ تَتَغَيَّرُ فَيَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمِ مِنْ الْقَطِيعَةِ، وَكَذَلِكَ حَرَّمَ نِكَاحَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى الْجَوْرِ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسَمِ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ بِهِ قُوَّةً عَلَى الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ مَعَ الْكَثْرَةِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعِلَّةَ إفْضَاءُ ذَلِكَ إلَى كَثْرَةِ الْمَئُونَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى أَكْلِ الْحَرَامِ مِنْ مَالِ الْيَتَامَى وَغَيْرِهِنَّ، وَقَدْ بَيَّنَ الْعَيْنَ الْأُولَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: 3] وَهَذَا نَصٌّ فِي اعْتِبَارِ الذَّرِيعَةِ. الْعَاشِرُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ خِطْبَةَ الْمُعْتَدَّةِ صَرِيحًا حَتَّى حَرَّمَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَرْجِعُ فِي انْقِضَائِهَا لَيْسَ هُوَ إلَى الْمَرْأَةِ فَإِنَّ إبَاحَتَهُ الْخِطْبَةَ قَدْ يَجُرُّ إلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ. الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ عَقْدَ النِّكَاحِ فِي حَالِ الْعِدَّةِ. وَفِي حَالِ الْإِحْرَامِ حَسْمًا لِمَادَّةِ دَوَاعِي النِّكَاحِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَلِهَذَا حَرَّمَ التَّطَيُّبَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ. الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اشْتَرَطَ لِلنِّكَاحِ شُرُوطًا زَائِدَةً عَلَى حَقِيقَةِ الْعَقْدِ تَقْطَعُ عَنْهُ شُبْهَةَ بَعْضِ أَنْوَاعِ السِّفَاحِ بِهِ مِثْلَ اشْتِرَاطِ إعْلَانِهِ إمَّا بِالشَّهَادَةِ أَوْ تَرْكِ الْكِتْمَانِ أَوْ بِهِمَا، وَمِثْلُ اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ فِيهِ، وَمَنَعَ الْمَرْأَةَ أَنْ تَلِيَهُ، وَنَدَبَ إلَى إظْهَارِهِ حَتَّى اُسْتُحِبَّ فِيهِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ وَالْوَلِيمَةُ، وَكَانَ أَصْلُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] وَ {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25] وَإِنَّمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْإِخْلَالِ بِذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى وُقُوعِ السِّفَاحِ بِصُورَةِ النِّكَاحِ وَزَوَالِ بَعْضِ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ مِنْ حَجْرِ الْفِرَاشِ، ثُمَّ إنَّهُ وَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَ لِلنِّكَاحِ حَرِيمًا مِنْ الْعِدَّةِ

يَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ الِاسْتِبْرَاءِ وَأَثْبَتَ لَهُ أَحْكَامًا مِنْ الْمُصَاهَرَةِ وَحُرْمَتِهَا وَمِنْ الْمُوَارَثَةِ زَائِدَةً عَلَى مُجَرَّدِ مَقْصُودِ الِاسْتِمْتَاعِ، فَعَلِمَ أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَهُ سَبَبًا وَصِلَةً بَيْنَ النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الرَّحِمِ كَمَا جَعَلَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] ، وَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ تَمْنَعُ اشْتِبَاهَهُ بِالسِّفَاحِ وَتُبَيِّنُ أَنَّ نِكَاحَ الْمَحَلِّ بِالسِّفَاحِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ حَيْثُ كَانَتْ هَذِهِ الْخَصَائِصُ غَيْرَ مُتَيَقَّنَةٍ فِيهِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ بَيْنَ سَلَفٍ وَبَيْعٍ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ أَفْرَدَ أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ صَحَّ، وَإِنَّمَا ذَاكَ؛ لِأَنَّ اقْتِرَانَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ذَرِيعَةٌ إلَى أَنْ يُقْرِضَهُ أَلْفًا وَيَبِيعَهُ ثَمَانَمِائَةٍ بِأَلْفٍ أُخْرَى فَيَكُونُ قَدْ أَعْطَاهُ أَلْفًا وَسِلْعَةً بِثَمَانِمِائَةٍ لِيَأْخُذَ مِنْهُ أَلْفَيْنِ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الرِّبَا. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ بَعْضَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْتَجَّ لِلْبُطْلَانِ فِي مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ قَالَ إنَّ مَنْ جَوَّزَهَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ أَلْفَ دِينَارٍ وَمِنْدِيلًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ دِينَارِ تِبْرٍ يَقْصِدُ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا ذَرِيعَةٌ إلَى الرِّبَا وَهَذِهِ عِلَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ، لَكِنَّ الْمُحْتَجَّ بِهَا مِمَّنْ يُجَوِّزُ أَنْ يُقْرِضَهُ أَلْفًا وَيَبِيعَهُ الْمِنْدِيلَ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَهِيَ بِعَيْنِهَا الصُّورَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْعِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ بِعَيْنِهَا مَوْجُودَةٌ فِيهَا فَكَيْفَ يُنْكِرُ عَلَى غَيْرِهِ مَا هُوَ مُرْتَكِبٌ لَهُ. الرَّابِعَ عَشَرَ: إنَّ الْآثَارَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي الْعِينَةِ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ عَوْدَةِ السِّلْعَةِ إلَى الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَى الرِّبَا وَمَا ذَاكَ إلَّا سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّهُ تَقَدَّمَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ مَنْعَ الْمُقْرِضِ قَبُولَ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ إلَى أَنْ يَحْسِبَهَا لَهُ أَوْ يَكُونَ قَدْ جَرَى ذَلِكَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْقَرْضِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِئَلَّا تُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى تَأْخِيرِ الدَّيْنِ لِأَجْلِ الْهَدِيَّةِ فَيَكُونُ رِبًا إذَا اسْتَعَادَ مَالَهُ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ فَضْلًا، وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَ مِنْ مَنْعِ الْوَالِي وَالْقَاضِي قَبُولَ الْهَدِيَّةِ، وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ، فَإِنَّ فَتْحَ هَذَا الْبَابِ ذَرِيعَةٌ إلَى فَسَادٍ عَرِيضٍ فِي الْوِلَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ. السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِقَاتِلٍ مِنْ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ، إمَّا الْقَاتِلُ عَمْدًا كَمَا قَالَ مَالِكٌ، وَالْقَاتِلُ مُبَاشَرَةً كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمَا، أَوْ الْقَاتِلُ

قَتْلًا مَضْمُونًا بِقَوَدٍ أَوْ دِيَةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ، أَوْ الْقَاتِلُ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ الْقَاتِلُ مُطْلَقًا فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَسَوَاءٌ قَصَدَ الْقَاتِلُ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْمِيرَاثَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ، فَإِنَّ رِعَايَةَ هَذَا الْقَصْدِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْمَنْعِ وِفَاقًا، وَمَا ذَاكَ إلَّا؛ لِأَنَّ تَوْرِيثَ الْقَاتِلِ ذَرِيعَةٌ إلَى وُقُوعِ هَذَا الْفِعْلِ فَسَدَتْ الذَّرِيعَةُ بِالْمَنْعِ بِالْكُلِّيَّةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ عِلَلٍ أُخَرَ. السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَرَّثُوا الْمُطَلَّقَةَ الْمَبْتُوتَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ حَيْثُ يُتَّهَمُ بِقَصْدِ حِرْمَانِهَا الْمِيرَاثَ بِلَا تَرَدُّدٍ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْحِرْمَانَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ ذَرِيعَةٌ، وَأَمَّا حَيْثُ لَا يُتَّهَمُ فَفِيهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ مَأْخَذُ الشَّارِعِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُوَرِّثَ أَوْجَبَ تَعَلُّقَ حَقِّهَا بِمَالِهِ فَلَا يُمْكِنُ مِنْ قَطْعِهِ أَوْ سَدِّ الْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مُتَأَخِّرٌ عَنْ إجْمَاعِ السَّابِقِينَ. الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّ الصَّحَابَةَ وَعَامَّةَ الْفُقَهَاءِ اتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِ الْجَمْعِ بِالْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ قِيَاسُ الْقِصَاصِ يَمْنَعُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَكُونَ عَدَمُ الْقِصَاصِ ذَرِيعَةً إلَى التَّعَاوُنِ عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ. التَّاسِعَ عَشَرَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ بِدَارِ الْحُرُوبِ» لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى اللَّحَاقِ بِالْكُفَّارِ. الْعِشْرُونَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ تَقَدُّمِ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ فَلْيَصُمْهُ» «وَنَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ» إمَّا مَعَ كَوْنِ طُلُوعِ الْهِلَالِ مَرْجُوحًا وَهُوَ حَالُ الصَّحْوِ وَإِمَّا سَوَاءٌ كَانَ رَاجِحًا أَوْ مَرْجُوحًا أَوْ مُسَاوِيًا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى أَنْ يَلْحَقَ بِالْفَرْضِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ حَرَّمَ صَوْمَ الْيَوْمِ الَّذِي يَلِي آخِرَ الصَّوْمِ وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ. وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صَوْمِكُمْ تَمْيِيزًا لِوَقْتِ الْعِبَادَةِ مِنْ غَيْرِهِ لِئَلَّا يُفْضِيَ الصَّوْمُ الْمُتَوَاصِلُ إلَى التَّسَاوِي، وَرَاعَى هَذَا الْمَقْصُودَ فِي اسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الْفُطُورِ وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ وَاسْتِحْبَابِ الْأَكْلِ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ نَدَبَ إلَى تَمْيِيزِ فَرْضِ الصَّلَاةِ عَنْ نَفْلِهَا وَعَنْ غَيْرِهَا فَكَرِهَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَطَوَّعَ فِي مَكَانِهِ وَأَنْ يَسْتَدِيمَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ، وَنَدَبَ الْمَأْمُومَ إلَى هَذَا التَّمْيِيزِ، وَمِنْ جُمْلَةِ فَوَائِدِ ذَلِكَ سَدُّ الْبَابِ الَّذِي قَدْ يُفْضِي إلَى الزِّيَادَةِ فِي الْفَرَائِضِ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهَ الصَّلَاةَ إلَى مَا قَدْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ

وَأَحَبَّ لِمَنْ صَلَّى إلَى عَمُودٍ أَوْ عُودٍ وَنَحْوِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى أَحَدِ حَاجِبَيْهِ وَلَا يَصْمُدَ إلَيْهِ صَمْدًا قَطْعًا لِذَرِيعَةِ التَّشْبِيهِ بِالسُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَنَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَقُولُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاعِنَا مَعَ قَصْدِهِمْ الصَّالِحَ؛ لِئَلَّا تَتَّخِذَهُ الْيَهُودُ ذَرِيعَةً إلَى سَبِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِئَلَّا يُشْتَبَهَ بِهِمْ، وَلِئَلَّا يُخَاطَبَ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُ مَعْنًى فَاسِدًا. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ أَوْجَبَ الشُّفْعَةَ لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الشَّرِكَةِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا يُفْضِي إلَيْهِ مِنْ الْمَعَاصِي الْمُعَلَّقَةِ بِالشَّرِكَةِ وَالْقِسْمَةِ سَدًّا لِهَذِهِ الْمَفْسَدَةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْكُمَ بِالظَّاهِرِ مَعَ إمْكَانِ أَنْ يُوحِيَ إلَيْهِ الْبَاطِنَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُسَوِّيَ الدَّعَاوَى بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ وَأَنْ لَا يَقْبَلَ شَهَادَةَ ظَنِينٍ فِي قَرَابَةٍ وَإِنْ وَثِقَ بِتَقْوَاهُ، حَتَّى لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ لِيَنْضَبِطَ طَرِيقُ الْحُكْمِ، فَإِنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْخُصُومِ وَالشُّهُودِ يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ مَا لَا يَزُولُ إلَّا بِحَسْمِ هَذِهِ الْمَادَّةِ وَإِنْ أَفْضَتْ فِي آحَادِ الصُّوَرِ إلَى الْحُكْمِ لِغَيْرِ الْحَقِّ فَإِنَّ فَسَادَ ذَلِكَ قَلِيلٌ إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ فِي جَنْبِ فَسَادِ الْحُكْمِ بِغَيْرِ طَرِيقٍ مَضْبُوطٍ مِنْ قَرَائِنَ أَوْ فِرَاسَةٍ أَوْ صَلَاحِ خَصْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقَعُ بِهَذَا صَلَاحٌ قَلِيلٌ مَغْمُورٌ بِفَسَادٍ كَثِيرٍ. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَنَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كَانَ بِمَكَّةَ مِنْ الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ حَيْثُ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَسْمَعُونَهُ فَيَسُبُّونَ الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ. السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ إقَامَةَ الْحُدُودِ سَدًّا لِلتَّذَرُّعِ إلَى الْمَعَاصِي إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا زَاجِرٌ وَإِنْ كَانَتْ الْعُقُوبَاتُ مِنْ جِنْسِ الشَّرِّ، وَلِهَذَا لَمْ تُشْرَعْ الْحُدُودُ إلَّا فِي مَعْصِيَةٍ تَتَقَاضَاهَا الطِّبَاعُ كَالزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ دُونَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالرَّمْيِ بِالْكُفْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ اكْتَفَى فِيهِ بِالتَّعْزِيرِ، ثُمَّ إنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى السُّلْطَانِ إقَامَةَ الْحُدُودِ إذَا رُفِعَتْ إلَيْهِ الْجَرِيمَةُ وَإِنْ تَابَ الْعَاصِي عِنْدَ ذَلِكَ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَيْهَا لِئَلَّا يُفْضِيَ تَرْكُ الْحَدِّ بِهَذَا السَّبَبِ إلَى تَعْطِيلِ الْحُدُودِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ.

السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى إمَامٍ وَاحِدٍ فِي الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى وَفِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَفِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِ إمَامَيْنِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ أَقْرَبُ إلَى حُصُولِ الصَّلَاةِ الْأَصْلِيَّةِ لِمَا فِي التَّفْرِيقِ مِنْ خَوْفِ تَفْرِيقِ الْقُلُوبِ وَتَشَتُّتِ الْهِمَمِ، ثُمَّ إنَّ مُحَافَظَةَ الشَّارِعِ عَلَى قَاعِدَةِ الِاعْتِصَامِ بِالْجَمَاعَةِ وَصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَزَجْرِهِ عَمَّا قَدْ يُفْضِي إلَى ضِدِّ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ لَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُشْرَعُ لِوَسَائِلِ الْأُلْفَةِ وَهِيَ مِنْ الْأَفْعَالِ وَزَجْرٍ عَنْ ذَرَائِعِ الْفُرْقَةِ، وَهِيَ مِنْ الْأَفْعَالِ أَيْضًا. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ بِكَرَاهَةِ إفْرَادِ رَجَبٍ بِالصَّوْمِ. وَكَرَاهَةِ إفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَجَاءَ عَنْ السَّلَفِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ صَوْمِ أَيَّامِ أَعْيَادِ الْكُفَّارِ وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ نَفْسُهُ عَمَلًا صَالِحًا لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى مُشَابَهَةِ الْكُفَّارِ وَتَعْظِيمُ الشَّيْءِ تَعْظِيمًا غَيْرُ مَشْرُوعٍ. التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الشُّرُوطَ الْمَضْرُوبَةَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ تَضَمَّنَتْ تَمْيِيزَهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي اللِّبَاسِ وَالشُّعُورِ وَالْمَرَاكِبِ وَغَيْرِهَا لِئَلَّا تُفْضِي مُشَابَهَتُهُمْ إلَى أَنْ يُعَامَلَ الْكَافِرُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِ. الثَّلَاثُونَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الَّذِي أَرْسَلَ مَعَهُ بِهَدِيَّةٍ إذَا عَطِبَ شَيْءٌ مِنْهُ دُونَ الْمَحَلِّ أَنْ يَنْحَرَهُ وَيَصْبُغَ نَعْلَهُ الَّذِي قَلَّدَهُ بِدَمِهِ وَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ وَنَهَاهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ هُوَ أَوْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ، قَالُوا وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يُطْعِمَ أَهْلَ رُفْقَتِهِ قَبْلَ بُلُوغِ الْمَحَلِّ فَرُبَّمَا دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى أَنْ يُقَصِّرَ فِي عَلَفِهَا وَحِفْظِهَا مِمَّا يُؤْذِيهَا لِحُصُولِ غَرَضِهِ بِعَطَبِهَا دُونَ الْمَحَلِّ كَحُصُولِهِ بِبُلُوغِهَا الْمَحَلَّ مِنْ الْأَكْلِ وَالْإِهْدَاءِ، فَإِذَا أَيِسَ مِنْ حُصُولِ غَرَضِهِ فِي عَطَبِهَا كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى إبْلَاغِهَا الْمَحَلَّ وَأَحْسَمُ لِمَادَّةِ هَذَا الْفَسَادِ، وَهَذَا مِنْ أَلْطَفِ سَدِّ الذَّرَائِعِ. وَالْكَلَامُ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ وَاسِعٌ لَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ، وَلَمْ نَذْكُرْ مِنْ شَوَاهِدِ هَذَا الْأَصْلِ إلَّا مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَوْ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ أَوْ مَأْثُورٌ عَنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ شَائِعٌ عَنْهُمْ، إذْ الْفُرُوعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا يُحْتَجُّ لَهَا بِهَذِهِ الْأُصُولِ لَا يُحْتَجُّ بِهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْحِيَلَ الَّتِي قَصَدَ بِهَا الْحَرَامَ كَاحْتِيَالِ الْيَهُودِ، وَلَا مَا كَانَ وَسِيلَةً إلَى مَفْسَدَةٍ لَيْسَتْ هِيَ فِعْلًا مُحَرَّمًا وَإِنْ أَفْضَتْ إلَيْهِ كَمَا فَعَلَ مَنْ اسْتَشْهَدَ لِلذَّرَائِعِ فَإِنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ يَدْخُلَ عَامَّةُ الْمُحَرَّمَاتِ

فِي الذَّرَائِعِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مِنْ وَجْهٍ فَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ هُنَا. ثُمَّ هَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي بَعْضِهَا حِكَمٌ أُخْرَى غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الذَّرَائِعِ وَإِنَّمَا قَصَدْنَا أَنَّ الذَّرَائِعَ مِمَّا اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ إمَّا مُفْرَدَةً أَوْ مَعَ غَيْرِهَا، فَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي قَدْ يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ إمَّا بِأَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْمُحَرَّمَ أَوْ بِأَنْ لَا يَقْصِدَ بِهِ يُحَرِّمُهُ الشَّارِعُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَا لَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ مَصْلَحَةً تُوجِبُ حِلَّهُ أَوْ وُجُوبَهُ فَنَفْسُ التَّذَرُّعِ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ بِالِاحْتِيَالِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَرَامًا وَأَوْلَى بِإِبْطَالِ مَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ مِنْهُ إذَا عَرَفَ قَصْدَ فَاعِلِهِ وَأَوْلَى بِأَنْ لَا يُعَانَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَجْوِيزَ الْحِيَلِ يُنَاقِضُ سَدَّ الذَّرَائِعِ مُنَاقَضَةً ظَاهِرَةً، فَإِنَّ الشَّارِعَ سَدَّ الطَّرِيقَ إلَى ذَلِكَ الْمُحَرَّمِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَالْمُحْتَالُ يُرِيدُ أَنْ يَتَوَسَّلَ إلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمَّا اعْتَبَرَ الشَّارِعُ فِي الْبَيْعِ وَالصَّرْفِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهَا شُرُوطًا سَدَّ بِبَعْضِهَا التَّذَرُّعَ إلَى الزِّنَا وَالرِّبَا وَكَمَّلَ بِهَا مَقْصُودَ الْعُقُودِ لَمْ يُمَكِّنْ الْمُحْتَالَ الْخُرُوجَ عَنْهَا فِي الظَّاهِرِ، فَإِذَا أَرَادَ الِاحْتِيَالَ بِبَعْضِ هَذِهِ الْعُقُودِ عَلَى مَا مَنَعَ الشَّارِعُ مِنْهُ أَتَى بِهَا مَعَ حِيلَةٍ أُخْرَى تُوَصِّلُهُ بِزَعْمِهِ إلَى نَفْسِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي سَدَّ الشَّارِعُ ذَرِيعَتَهُ فَلَا يَبْقَى لِتِلْكَ الشُّرُوطِ الَّتِي تَأْتِي بِهَا فَائِدَةٌ وَلَا حَقِيقَةٌ. بَلْ يَبْقَى بِمَنْزِلَةِ الْعَبَثِ وَاللَّعِبِ وَتَطْوِيلِ الطَّرِيقِ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ. وَلِهَذَا تَجِدُ الصَّحِيحَ الْفِطْرَةَ لَا يُحَافِظُ عَلَى تِلْكَ الشُّرُوطِ لِرُؤْيَتِهِ أَنَّ مَقْصُودَ الشُّرُوطِ تَحْقِيقُ حُكْمِ مَا شُرِطَتْ لَهُ وَالْمَنْعُ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ إنَّمَا قَصْدُهُ ذَاكَ لَا الْآخَرُ وَلَا مَا شُرِطَتْ لَهُ، وَلِهَذَا تَجِدُ الْمُحْتَالِينَ عَلَى الرِّبَا وَعَلَى حِلِّ الْمُطَلَّقَةِ وَعَلَى حِلِّ الْيَمِينِ لَا يَتَمَسَّكُونَ بِشُرُوطِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ لِعَدَمِ فَائِدَةٍ تَتَعَلَّقُ لَهُمْ بِذَلِكَ وَلِتَعَلُّقِ رَغْبَتِهِمْ بِمَا مُنِعُوا مِنْهُ مِنْ الرِّبَا وَعَوْدِ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا وَإِسْقَاطِ الثَّمَنِ الْمَعْقُودَةِ، وَاعْتُبِرَ هَذَا بِالشُّفْعَةِ فَإِنَّ الشَّارِعَ أَبَاحَ انْتِزَاعَ الشِّقْصِ مِنْ مُشْتَرِيهِ وَهُوَ لَا يُخْرِجُ الْمِلْكَ عَنْ مَالِكِهِ بِقِيمَةٍ أَوْ بِغَيْرِ قِيمَةٍ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ، وَكَانَتْ الْمَصْلَحَةُ هُنَا تَكْمِيلَ الْعَقَارِ لِلشَّرِيكِ فَإِنَّهُ بِذَلِكَ يَزُولُ ضِرَارُ الشَّرِكَةِ وَالْقِسْمَةِ وَلَيْسَ فِي هَذَا التَّكْمِيلِ ضَرَرٌ عَلَى الشَّرِيكِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ الثَّمَنِ يَحْصُلُ بِأَخْذِهِ مِنْ الْمُشْتَرِي وَالشَّرِيكِ أَوْ الْأَجْنَبِيِّ وَاَلَّذِي يَحْتَالُ لِإِسْقَاطِهَا بِأَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ غَرَضُهُ بَيْعُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ دُونَ الشَّرِيكِ إمَّا ضِرَارًا

لِلشَّرِيكِ أَوْ نَفْعًا لِلْأَجْنَبِيِّ لَيْسَ هُوَ مُنَاقِضًا لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ مُضَادًّا لَهُ فِي حُكْمِهِ، فَالشَّارِعُ يَقُولُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكُهُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ وَهَذَا يَقُولُ لَا تَلْتَفِتُ إلَى الشَّرِيكِ وَأَعْطِهِ لِمَنْ شِئْت. ثُمَّ إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَثَلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَعَاقَدَهُ عَلَى أَلْفَيْنِ وَقَبَضَ مِنْهُ تِسْعَمِائَةٍ وَصَارَفَهُ عَنْ الْأَلْفِ وَمِائَةٍ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَتَعَذَّرَ عَلَى الشَّرِيكِ الْأَخْذُ أَلَيْسَ عَيْنُ مَقْصُودِ الشَّارِعِ فَوْتَهُ مَعَ إظْهَارِهِ أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ مَا أَذِنَ الشَّارِعُ فِيهِ وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا بَيَانُ تَحْرِيمِ الْحِيَلِ وَأَنَّ صَاحِبَهَا مُتَعَرِّضٌ لِسَخَطِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَنْقُضَ عَلَى صَاحِبِهَا مَقْصُودَهُ مِنْهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ فِي كُلِّ حِيلَةٍ بِحَسْبِهَا، فَلَا يَخْلُو الِاحْتِيَالُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ. فَإِنْ كَانَ الِاحْتِيَالُ مِنْ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَا عَقَدَا بَيْعَيْنِ تَوَاطَآ عَلَيْهِمَا تَحَيَّلَا إلَى الرِّبَا كَمَا فِي الْعِينَةِ حُكِمَ بِفَسَادِ ذَيْنِك الْعَقْدَيْنِ وَيَرُدُّ إلَى الْأَوَّلِ رَأْسَ مَالِهِ كَمَا ذَكَرَتْ عَائِشَةُ لِأُمِّ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ بِعَقْدِ رِبًا لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ بَلْ يَجِبُ رَدُّهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا وَبَدَلُهُ إنْ كَانَ فَائِتًا. وَكَذَلِكَ إنْ جَمَعَا بَيْنَ بَيْعٍ وَقَرْضٍ، أَوْ إجَارَةٍ وَقَرْضٍ، أَوْ مُضَارَبَةٍ أَوْ شَرِكَةٍ، أَوْ مُسَاقَاةٍ أَوْ مُزَارَعَةٍ مَعَ قَرْضٍ حُكِمَ بِفَسَادِهِمَا فَيَجِبُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بَدَلَ مَالِهِ فِيمَا جَعَلَاهُ قَرْضًا، وَالْعَقْدُ الْآخَرُ فَاسِدٌ لَهُ حُكْمُ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ نِكَاحًا تَوَاطَآ عَلَيْهِ كَانَ نِكَاحًا فَاسِدًا لَهُ حُكْمُ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا تَوَاطَآ عَلَى بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ، أَوْ عَلَى هِبَةٍ لِتَصْحِيحِ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَقْفِ فَسَادٍ، مِثْلَ أَنْ تُرِيدَ مُوَاقَعَةَ مَمْلُوكِهَا فَتُوَاطِئَ رَجُلًا عَلَى أَنْ تَهَبَهُ الْعَبْدَ فَيُزَوِّجَهَا بِهِ ثُمَّ يَهَبَهَا إيَّاهُ لِيَنْفَسِخَ النِّكَاحُ فَإِنَّ هَذَا الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ فَاسِدَانِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ. فَإِنْ كَانَ الِاحْتِيَالُ مِنْ وَاحِدٍ فَإِنْ كَانَتْ حِيلَةً يَسْتَقِلُّ بِهَا لَمْ يَحْصُلْ بِهَا غَرَضُهُ، فَإِنْ كَانَتْ عَقْدًا كَانَ عَقْدًا فَاسِدًا مِثْلُ أَنْ يَهَبَ لِابْنِهِ هِبَةً يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا لِئَلَّا تَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَإِنَّ وُجُودَ هَذِهِ الْهِبَةِ كَعَدَمِهَا لَيْسَتْ هِبَةً فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، لَكِنْ إنْ ظَهَرَ الْمَقْصُودُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِلَّا بَقِيَتْ فَاسِدَةً فِي الْبَاطِنِ فَقَطْ، وَإِنْ كَانَتْ حِيلَةً لَا يَسْتَقِلُّ بِهَا مِثْلَ أَنْ يَنْوِيَ التَّحْلِيلَ وَلَا يُظْهِرُ لِلزَّوْجَةِ، أَوْ يَرْتَجِعُ الْمَرْأَةَ ضِرَارًا بِهَا، أَوْ يَهَبُ مَالَهُ ضِرَارًا لِوَرَثَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْعُقُودُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَإِلَى مَنْ عَلِمَ

غَرَضَهُ بَاطِلَةً فَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ الْمَرْأَةِ وَلَا يَرِثُهَا لَوْ مَاتَتْ، وَإِذَا عَلِمَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَوْ الْمُوصَى لَهُ غَرَضَهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْمِلْكُ فِي الْبَاطِنِ فَلَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ بَلْ يَجِبُ رَدُّهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ لَوْلَا الْعَقْدُ الْمُحْتَالُ بِهِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَاقِدِ الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ يُفِيدُ مَقْصُودَ الْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ. وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي الشَّرِيعَةِ كَثِيرَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ الْحِيلَةُ لَهُ وَعَلَيْهِ كَطَلَاقِ الْمَرِيضِ صُحِّحَ الطَّلَاقُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ وَلَمْ يُصَحَّحْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمْنَعُ الْإِرْثَ. فَإِنَّهُ إنَّمَا مَنَعَ مَنْ قَطَعَ الْإِرْثَ لَا مِنْ إزَالَةِ مِلْكِ الْبُضْعِ. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْحِيلَةُ فِعْلًا يُفْضِي إلَى غَرَضٍ لَهُ مِثْلُ أَنْ يُسَافِرَ فِي الصَّيْفِ لِيَتَأَخَّرَ عَنْهُ لِلصَّوْمِ إلَى الشِّتَاءِ لَمْ يَحْصُلْ غَرَضُهُ. بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي هَذَا السَّفَرِ، فَإِنْ كَانَ يُفْضِي إلَى سُقُوطِ حَقِّ غَيْرِهِ مِثْلُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَةَ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ لِيَنْفَسِخَ نِكَاحُهُ، أَوْ مِثْلُ أَنْ يُبَاشِرَ الْمَرْأَةَ ابْنُ زَوْجِهَا أَوْ أَبُوهُ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ مُحَرَّمًا فَهَذِهِ الْحِيلَةُ بِمَنْزِلَةِ الْإِتْلَافِ لِلْمِلْكِ بِقَتْلٍ أَوْ غَصْبٍ لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهَا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَرْأَةِ بِهَذَا السَّبَبِ حَقٌّ لِلَّهِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فَسْخُ النِّكَاحِ ضِمْنًا. وَالْأَفْعَالُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّحْرِيمِ لَا يُعْتَبَرُ لَهَا الْعَقْلُ فَضْلًا عَنْ الْقَصْدِ، وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَحْتَالَ عَلَى نَجَاسَةِ دُهْنِهِ أَوْ خَلِّهِ أَوْ دِبْسِهِ بِأَنْ يُلْقِيَ فِيهِ نَجَاسَةً، فَإِنَّ نَجَاسَةَ الْمَائِعَاتِ بِالْمُخَالَطَةِ وَتَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ بِالْمُبَاشَرَةِ أَحْكَامٌ تَنْبُتُ بِأُمُورٍ حِسِّيَّةٍ لَا تَرْفَعُ الْأَحْكَامَ مَعَ وُجُوبِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ. وَإِنْ كَانَتْ الْحِيلَةُ فِعْلًا يُفْضِي إلَى التَّحْلِيلِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، مِثْلُ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ أَوْ لِيُزَوِّجَهَا صِدِّيقًا لَهُ فَهُنَا تَحِلُّ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ مَنْ قَصَدَ تَزَوُّجَهَا بِهِ، فَإِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَمَا لَوْ قَتَلَ الزَّوْجَ لِمَعْنًى فِيهِ، وَأَمَّا الَّذِي قَصَدَ بِالْقَتْلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ إمَّا بِمُوَاطَأَتِهَا أَوْ غَيْرِ مُوَاطَأَتِهَا فَهَذَا يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مَا لَوْ خَلَّلَ الْخَمْرَ بِنَقْلِهَا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْقِيَ فِيهَا شَيْئًا فَإِنَّ التَّخْلِيلَ لَمَّا حَصَلَ بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَطْهُرُ، وَإِنْ كَانَتْ لَوْ تَخَلَّلَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ حَلَّتْ، وَكَذَلِكَ هَذَا الرَّجُلُ لَوْ مَاتَ بِدُونِ هَذَا الْقَصْدِ حَلَّتْ، فَإِذَا قَتَلَهُ لِهَذَا الْقَصْدِ أَمْكَنَ أَنْ تُحَرَّمَ عَلَيْهِ مَعَ حِلِّهَا لِغَيْرِهِ، وَيُشْبِهُ هَذَا الْحَلَالَ إذَا صَادَ الصَّيْدَ وَذَبَحَهُ لِحَرَامٍ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى ذَلِكَ الْمُحْرِمِ وَيُحَلَّلُ لِلْحَلَالِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا: أَنَّ الْقَاتِلَ يَمْنَعُهُ الْإِرْثَ وَلَمْ يَمْنَعْ غَيْرَهُ مِنْ الْوَرَثَةِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ

مَالُ الرَّجُلِ تَتَطَلَّعُ عَلَيْهِ نُفُوسُ الْوَرَثَةِ كَانَ الْقَتْلُ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ، بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكَادُ يُقْصَدُ. إذْ الْتِفَاتُ الرَّجُلِ إلَى امْرَأَةِ غَيْرِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْتِفَاتِ الْوَارِثِ إلَى مَالِ الْمَوْرُوثِ قَلِيلٌ فَكَوْنُهُ يَقْتُلُهُ لِيَتَزَوَّجَهَا أَقَلَّ فَلِذَلِكَ لَمْ يَشْرَعْ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَتَلَ رَجُلًا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ كَمَا يُمْنَعُ مِيرَاثُهُ، فَإِذَا قَصَدَ التَّزَوُّجَ فَقَدْ وُجِدَتْ حَقِيقَةٌ لِحِكْمَةٍ فِيهِ فَيُعَاقَبُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ. فَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي رَدِّ هَذَا أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُحَرَّمَةَ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا تُفِيدُ الْحِلَّ كَذَبْحِ الصَّيْدِ وَتَحْلِيلِ الْخَمْرِ وَالتَّذْكِيَةِ فِي غَيْرِ الْمُحَلَّلِ، أَمَّا الْمُحَرَّمُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ كَذَبْحِ الْمَغْصُوبِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْحِلَّ، أَوْ يُقَالُ أَنَّ الْفِعْلَ الْمَشْرُوعَ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ يُشْتَرَطُ فِيهِ وُقُوعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ كَالذَّكَاةِ وَالْقَتْلِ لَمْ يَشْرَعْ لِحِلِّ الْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا انْقِضَاءُ النِّكَاحِ بِانْقِضَاءِ الْأَجَلِ فَحَصَلَ الْحِلُّ ضِمْنًا وَتَبَعًا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي جَوَابِ هَذَا أَنَّ قَتْلَ الْآدَمِيِّ حَرَامٌ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَحَقِّ الْآدَمِيِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ، بِخِلَافِ ذَبْحِ الْمَغْصُوبِ فَإِنَّهُ إنَّمَا حُرِّمَ لِمَحْضِ حَقِّ الْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ لَوْ أَبَاحَهُ حَلَّ، وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالْمُحَرَّمُ هُنَاكَ إنَّمَا هُوَ تَفْوِيتُ الْمَالِيَّةِ عَلَى الْمَالِكِ لَا إزْهَاقُ الرُّوحِ. ثُمَّ يُقَالُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي الذَّبْحِ بِآلَةٍ مَغْصُوبَةٍ، وَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَبْحِ الْمَغْصُوبِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَنَا أَنَّهُ ذَكِيٌّ كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَفِيهِ حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ الْمَشْهُورُ فِي ذَبْحِ الْغَنَمِ الْمَنْهُوبَةِ. وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي أَضَافَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا ذَبَحَتْ لَهُ الشَّاةَ الَّتِي أَخَذَتْهَا بِدُونِ إذْنِ أَهْلِهَا فَقَصَّتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ أَطْعِمُوهَا لِلْأُسَارَى وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَذْبُوحَ بِدُونِ إذْنِ أَهْلِهِ يُمْنَعُ مِنْهُ الْمَذْبُوحُ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ الصَّيْدَ إذَا ذَبَحَهُ الْحَلَالُ لِحَرَامٍ حَرُمَ عَلَى الْحَرَامِ دُونَ الْحَلَالِ، وَقَدْ نَقَلَ صَالِحٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا سَرَقَ شَاةً فَذَبَحَهَا قَالَ لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا يَعْنِي لَهُ قُلْت لِأَبِي فَإِنْ رَدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا قَالَ تُؤْكَلُ، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْهَا أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَى الذَّابِحِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَصَدَ التَّحْرِيمَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَأْذَنْ فِي الْأَكْلِ لَمْ يَخُصَّ الذَّابِحَ بِالتَّحْرِيمِ. فَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ فِي الْحَقِيقَةِ حُجَّةٌ لِتَحْرِيمِ مِثْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ عَلَى الْقَاتِلِ لِيَتَزَوَّجَهَا دُونَ غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى

فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْحِيَلَ نَوْعَانِ: أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ. وَالْأَقْوَالُ يُشْتَرَطُ لِثُبُوتِ أَحْكَامِهَا الْعَقْلُ، وَيُعْتَبَرُ فِيهَا الْقَصْدُ. وَتَكُونُ صَحِيحَةً تَارَةً وَهُوَ مَا تَرَتَّبَ أَثَرُهُ عَلَيْهِ فَأَفَادَ حُكْمَهُ. وَفَاسِدَةً أُخْرَى وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، ثُمَّ مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ مِنْهُ مَا يُمْكِنُ فَسْخُهُ وَرَفْعُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فَهَذَا الضَّرْبُ إذَا قَصَدَ بِهِ الِاحْتِيَالَ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ أَوْ إسْقَاطِ وَاجِبٍ أَمْكَنَ إبْطَالُهُ إمَّا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَإِمَّا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُبْطِلُ مَقْصُودَ الْمُحْتَالِ بِحَيْثُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ لِلْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَمَا حَكَمَ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَلَاقِ الْعَارِ وَكَمَا يَحْكُمُ بِهِ فِي الْإِقْرَارِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ حَقًّا لِلْمُقِرِّ وَعَلَيْهِ وَكَمَا يَحْكُمُ بِهِ فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا يَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ حُرٌّ. وَأَمَّا الْأَفْعَالُ فَإِنْ اقْتَضَتْ الرُّخْصَةَ لِلْمُحْتَالِ لَمْ يَحْصُلْ كَالسَّفَرِ لِلْقَصْرِ وَالْفِطْرِ، وَإِنْ اقْتَضَتْ تَحْرِيمًا عَلَى الْغَيْرِ فَإِنَّهُ قَدْ يَقَعُ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ إتْلَافِ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَإِنْ اقْتَضَتْ حِلًّا عَامًّا إمَّا بِنَفْسِهَا أَوْ بِوَاسِطَةِ زَوَالِ الْمِلْكِ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْقَتْلِ، وَذَبْحِ الصَّيْدِ لِلْحَلَالِ وَذَبْحِ الْمَغْصُوبِ لِلْغَاصِبِ. وَبِالْجُمْلَةِ إذَا قَصَدَ بِالْفِعْلِ اسْتِبَاحَةَ مُحَرَّمٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ، وَإِنْ قَصَدَ إزَالَةَ مِلْكِ الْغَيْرِ لِتَحِلَّ فَالْأَقْيَسُ أَنْ لَا يَحِلَّ لَهُ أَيْضًا، وَإِنْ حَلَّ لِغَيْرِهِ، وَهُنَا مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهَا هُنَا. وَقَدْ دَخَلَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ احْتِيَالُ الْمَرْأَةِ عَلَى فَسْخِ النِّكَاحِ بِالرِّدَّةِ فَهِيَ لَا تَمْشِي غَالِبًا إلَّا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْفُرْقَةَ تَتَنَجَّزُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ أَوْ يَقُولُ بِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ فَالْوَاجِبُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحِيلَةِ أَنْ لَا يَنْفَسِخَ بِهَا النِّكَاحُ، إذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهَا إنَّمَا ارْتَدَّتْ لِذَلِكَ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَتَكُونُ مُرْتَدَّةً مِنْ حَيْثُ الْعُقُوبَةُ وَالْقَتْلُ غَيْرَ مُرْتَدَّةٍ مِنْ جِهَةِ فَسَادِ النِّكَاحِ، حَتَّى لَوْ فُرِضَ أَنَّهَا تُوُفِّيَتْ أَوْ قُتِلَتْ قَبْلَ الرُّجُوعِ اسْتَحَقَّ الْمِيرَاثَ لَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا فِي حَالِ الرِّدَّةِ، فَإِنَّ الزَّوْجَةَ قَدْ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا بِأَسْبَابٍ مِنْ جِهَتِهَا كَمَا لَوْ مَكَّنَتْ مِنْ وَطِئَهَا أَوْ أَحْرَمَتْ، لَكِنْ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهَا ارْتَدَّتْ ثُمَّ أَقَرَّتْ أَنَّهَا إنَّمَا ارْتَدَّتْ لِفَسْخِ النِّكَاحِ لَمْ يُقْبَلْ هَذَا، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ قَدْ يَجْعَلُ هَذَا ذَرِيعَةً إلَى عَوْدِ نِكَاحِ كُلِّ مُرْتَدَّةٍ بِأَنْ تُلَقَّنَ إنِّي إنَّمَا ارْتَدَدْت لِلْفَسْخِ؛ وَلِأَنَّهَا مُتَّهَمَةٌ فِي ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهَا مُرْتَدَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ.

نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ إبْطَالِ الْحِيَلِ، وَالْكَلَامُ فِي التَّفَاصِيلِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ وَرُبَّمَا جَاءَ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُبَاحَةِ كَمَا قِيلَ لِشُرَيْحٍ إنَّك قَدْ أَحْدَثْت فِي الْقَضَاءِ. قَالَ: أَحْدَثُوا فَأَحْدَثْنَا، وَهَذَا الْقَدْرُ أُنْمُوذَجٌ مِنْهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ. وَالْكَلَامُ فِي إبْطَالِ الْحِيَلِ بَابٌ وَاسِعٌ يَحْتَمِلُ كِتَابًا كَبِيرًا يُبَيَّنُ فِيهِ أَنْوَاعُهَا وَأَدِلَّةُ كُلِّ نَوْعٍ وَيَسْتَوْفِي مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ، وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُنَا الْأَوَّلُ هُنَا إلَّا التَّنْبِيهَ عَلَى إبْطَالِهَا بِإِشَارَةٍ تُمَهِّدُ الْقَاعِدَةَ لِمَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ» . فَإِنَّ هَذَا النَّهْيَ يَعُمُّ مَا قَبْلَ الْحُلُولِ وَبَعْدَهُ وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الطَّاعُونِ: «وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» فَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ الْفِرَارِ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إذَا نَزَلَ بِالْعَبْدِ رِضَاءً بِقَضَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَسْلِيمًا لِحُكْمِهِ فَكَيْفَ بِالْفِرَارِ مِنْ أَمْرِهِ وَدِينِهِ إذَا نَزَلَ بِالْعَبْدِ؟ ، وَبِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ مَنْعِ فَضْلِ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ. فَعُلِمَ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي هُوَ نَفْسُهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ إذَا قُصِدَ بِهِ أَمْرٌ مُحَرَّمٌ صَارَ مُحَرَّمًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَحْمَدُ عَلَى إبْطَالِ الْحِيَلِ لَعْنُهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ عُمُومًا، كَمَا أَنَّ إبْطَالَ الْحِيَلِ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَكِنْ لَمْ نَذْكُرْهُ هَاهُنَا فِي أَدِلَّةِ الْحِيَلِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِبُطْلَانِ الْحِيَلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ بِغَيْرِ أَدِلَّةِ التَّحْلِيلِ الْخَاصَّةِ. فَلَوْ اسْتَدْلَلْنَا هُنَا عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ بِمَا دَلَّ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ. ثُمَّ اسْتَدْلَلْنَا بِبُطْلَانِ الْحِيَلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ لَكَانَ تَطْوِيلًا وَتَكْرِيرًا وَحَشْوًا - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص: 44] فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ

يَمِينِهِ بِالضَّرْبِ بِالضِّغْثِ وَقَدْ كَانَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ أَنْ يَضْرِبَ ضَرَبَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْحِيلَةِ فَنَحْنُ نَقِيسُ سَائِرَ الْبَابِ عَلَى هَذَا. قُلْنَا: أَوَّلًا: لَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ فِي مُوجَبِ هَذِهِ الْيَمِينِ فِي شَرْعِنَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدِهِمَا: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ مُوجَبُهَا الضَّرْبُ مَجْمُوعًا أَوْ مُفَرَّقًا، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ مَعَ الْجَمِيعِ الْوُصُولَ إلَى الْمَضْرُوبِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْفُتْيَا مُوجَبَ هَذَا اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَلَيْسَ هَذَا بِحِيلَةٍ إنَّمَا الْحِيلَةُ أَنْ يَصْرِفَ اللَّفْظَ عَنْ مُوجَبِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مُوجَبَهُ الضَّرْبُ الْمُفَرَّقُ فَإِذَا كَانَ هَذَا مُوجَبُ شَرْعِنَا لَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْنَا بِمَا يُخَالِفُ شَرْعَنَا بِخِلَافِهِ. وَقُلْنَا: ثَانِيًا: مَنْ تَأَمَّلَ الْآيَةَ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْفُتْيَا خَاصَّةُ الْحُكْمِ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَامَّةً فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ لَمْ يُخَفِّفْ عَلَى نَبِيٍّ كَرِيمٍ مُوجَبَ يَمِينِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي اقْتِصَاصِهَا عَلَيْنَا كَبِيرُ عِبْرَةٍ، فَإِنَّمَا يَقُصُّ مَا خَرَجَ عَنْ نَظَائِرِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهِ، أَمَّا مَا كَانَ مُقْتَضَى الْعِبَارَةِ وَالْقِيَاسِ فَلَا يَقُصُّ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ قَالَ عَقِيبَ هَذِهِ الْفُتْيَا {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَرَجَتْ مَخْرَجَ التَّعْلِيلِ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ، فَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَفْتَاهُ بِهَذَا جَزَاءً لَهُ عَلَى صَبْرِهِ تَخْفِيفًا عَنْهُ وَرَحْمَةً بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ مُوجَبُ هَذِهِ الْيَمِينِ. وَقُلْنَا: ثَالِثًا: مَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَفْتَاهُ بِهَذَا لِئَلَّا يَحْنَثَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَكَمَا قَدْ نَقَلَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ حَلَفَ لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَيَضْرِبَنَّهَا مِائَةَ سَوْطٍ لَمَّا تَمَثَّلَ لَهَا الشَّيْطَانُ وَأَمَرَهَا بِنَوْعٍ مِنْ الشِّرْكِ لَمْ تَفْطِنْ لَهُ لِتَأْمُرَ بِهِ أَيُّوبَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْأَيْمَانِ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ بَلْ لَيْسَ فِي الْيَمِينِ إلَّا الْبِرُّ أَوْ الْحِنْثُ كَمَا هُوَ فِي النَّذْرِ نَذْرِ التَّبَرُّرِ فِي شَرِيعَتِنَا، وَكَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ فَعُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَدْ نَذَرَ ضَرْبَهَا. وَهُوَ نَذْرٌ لَا

يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهَا. وَلَا يَغْبِنُ عَنْهُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ؛ لِأَنَّ تَكْفِيرَ النَّذْرِ فَرْعُ تَكْفِيرِ الْيَمِينِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مَشْرُوعًا فَذَاكَ أَوْلَى، وَالْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ يُحْتَذَى بِهِ حَذْوَ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ، فَإِذَا كَانَ الضَّرَرُ الْوَاجِبُ بِالشَّرْعِ فِي الْحَدِّ يَجِبُ تَفْرِيقُهُ إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ صَحِيحًا وَيُضْرَبُ بِعُثْكُولِ النَّخْلِ وَنَحْوِهِ إذَا كَانَ مَرِيضًا مَأْيُوسًا مِنْهُ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ. أَوْ مَرِيضًا عَلَى الْإِطْلَاقِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَازَ أَنْ يُقَامَ الْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ مَقَامَ ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَتْ امْرَأَةُ أَيُّوبَ امْرَأَةً ضَعِيفَةً وَكَرِيمَةً عَلَى رَبِّهَا فَخَفَّفَ عَنْهَا الْوَاجِبَ بِالنَّذْرِ بِجَمْعِ الضَّرَبَاتِ كَمَا يُخَفِّفُ عَنْ الْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ جَاءَتْ فِيمَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ أَنَّهُ يُجْزِيهِ الثُّلُثُ، أَقَامَ فِي النَّذْرِ الثُّلُثَ مَقَامَ الْجَمِيعِ كَمَا أُقِيمَ مَقَامُهُ فِي الْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا لِمَا فِي إخْرَاجِ الْجَمِيعِ مِنْ الضَّرَرِ وَجَاءَتْ السُّنَّةُ فِيمَنْ نَذَرَتْ الْحَجَّ مَاشِيَةً أَنْ تَرْكَبَ وَتُهْدِيَ، إقَامَةً لِتَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ مَقَامَ تَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ مِنْ الْمَنَاسِكِ، وَأَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ فِيمَنْ نَذَرَ ذَبْحَ ابْنِهِ بِشَاةٍ، إقَامَةً لِذَبْحِ الشَّاةِ مَقَامَ ذَبْحِ الِابْنِ كَمَا شَرَعَ ذَلِكَ لِلْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَفْتَى أَيْضًا فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَطُوفَ عَلَى أَرْبَعٍ بِأَنْ يَطُوفَ أُسْبُوعَيْنِ إقَامَةً لِأَحَدِ الْأُسْبُوعَيْنِ مَقَامَ طَوَافِ الْيَدَيْنِ، وَهَذَا كَثِيرٌ فَكَانَتْ قِصَّةُ أَيُّوبَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَغَيْرُ مُسْتَكْثَرٍ فِي وَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يُخَفِّفَ اللَّهُ الشَّيْءَ عِنْدَ الْمَشَقَّةِ بِفِعْلِ مَا يُشْبِهُهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ كَمَا فِي الْإِبْدَالِ وَغَيْرِهَا، لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي شَرِيعَتِنَا؛ لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ أَمْكَنَهُ أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى تَخْفِيفِ الضَّرْبِ، وَلَوْ نَذَرَ ذَلِكَ فَأَقْصَى مَا عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يَقُولُ بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِي نَذَرَ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُبَاحِ أَوْ يُقَالَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا فُسِّرَ بِهِ الْمُطْلَقُ مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ خُصُوصًا فِي الْأَيْمَانِ فَإِنَّ الرُّجُوعَ فِيهَا إلَى عُرْفِ الْخِطَابِ شَرْعًا أَوْ عَادَةً أَوْلَى مِنْ الرُّجُوعِ فِيهَا إلَى مُوجَبِ اللَّفْظِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] فَهِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الزَّانِيَ وَالْقَاذِفَ إذَا كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَجُزْ ضَرْبُهُ إلَّا مُفَرَّقًا. وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا مَأْيُوسًا مِنْ بُرْئِهِ ضُرِبَ بِعُثْكُولِ النَّخْلِ وَنَحْوِهِ. وَإِنْ كَانَ مَرْجُوَّ الْبُرْءِ فَهَلْ يُؤَخَّرُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَوْ يُقَامُ. عَلَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ. فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ الْحَالِفَ لَيَضْرِبَنَّ يَكُونُ مُوجَبُ يَمِينِهِ الضَّرْبَ الْمَجْمُوعَ مَعَ صِحَّةِ الْمَضْرُوبِ وَجِلْدِهِ؟ هَذَا خِلَافُ الْقَاعِدَةِ، فَعَلِمَ أَنَّ قِصَّةَ أَيُّوبَ كَانَ فِيهَا مَعْنًى يُوجِبُ جَوَازَ الْجَمْعِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ مُوجَبُ الْإِطْلَاقِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا الْمُخْتَصَرَ؛ لِأَنَّ عُمْدَةَ الْمُحْتَالِينَ مَا تَأَوَّلُوا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَا يَخْفَى فَسَادُ تَأْوِيلِهِمْ لِمَنْ تَأَمَّلَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ «جَاءَ بِلَالٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمْرٍ بَرْنِيِّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ فَقَالَ بِلَالٌ: كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيءٌ فَبِعْت مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِنُطْعِمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ ذَلِكَ - أَوَّهَ عَيْنُ الرِّبَا. لَا تَفْعَلْ وَلَكِنْ إذَا أَرَدْت أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعْ التَّمْرَ بَيْعَ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ فَأَتَاهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ لَهُ أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: إنَّا لَنَأْخُذَ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ. وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ. فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: «بِعْهُ بِسِلْعَةٍ ثُمَّ ابْتَعْ بِسِلْعَتِك أَيَّ التَّمْرِ شِئْت» فَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ التَّمْرَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ يَبْتَاعَ بِالدَّرَاهِمِ تَمْرًا أَقَلَّ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ أَطْيَبُ وَإِنْ كَانَ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ مُتَفَاضِلًا لَا يَجُوزُ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ الْحِيلَةِ. قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا مِنْ الْحِيلَةِ الْمُحَرَّمَةِ فِي شَيْءٍ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْحِيَلِ فِي الْوَجْهِ الْخَامِسَ عَشَرَ الَّذِي فِيهِ أَقْسَامُ الْحِيَلِ، وَبَيَانُ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بِعْ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» لَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَبْتَاعَ بِهَا مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْهُ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِبَيْعٍ مُطْلَقٍ وَشِرَاءٍ مُطْلَقٍ، وَالْبَيْعُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْبَيْعُ الْبَتَاتُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مُشَارَطَةٌ

وَمُوَاطَأَةٌ عَلَى عَوْدِ السِّلْعَةِ إلَى الْبَائِعِ وَلَا عَلَى إعَادَةِ الثَّمَنِ إلَى الْمُشْتَرِي بِعَقْدٍ آخَرَ. وَهَذَا بَيْعٌ مَقْصُودٌ وَشِرَاءٌ مَقْصُودٌ، وَلَوْ بَاعَ مِنْ الرَّجُلِ بَيْعًا بَتَاتًا لَيْسَ فِيهِ مُوَاطَأَةٌ لَفْظِيَّةٌ وَلَا عُرْفِيَّةٌ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ وَلَا قَصْدَ لِذَلِكَ ثُمَّ ابْتَاعَ مِنْهُ لَجَازَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْقَصْدُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ ابْتِدَاءً وَقَدْ عَرَفَ ذَلِكَ بِلَفْظٍ أَوْ عُرْفٍ فَهُنَاكَ لَا يَكُونُ الْأَوَّلُ بَيْعًا وَلَا الثَّانِي شِرَاءً مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَتَاتٍ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ، وَإِذَا كَانَ قَصْدُهُ الشِّرَاءَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ فَفِيهِ خِلَافٌ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَذَكَرْنَا أَنَّهُمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ ثُمَّ يَبِيعَهُ فَهَذَا بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّهْيُ عَنْهُ، وَذَكَرْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَمَرَهُ بِبَيْعٍ مُطْلَقٍ وَذَلِكَ إنَّمَا يُفِيدُ الْبَيْعَ الشَّرْعِيَّ فَحَيْثُ وَقَعَ فِيهِ مَا يُفْسِدُهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا. وَبَيَّنَّا أَنَّ الْعُقُودَ مَتَى قُصِدَ بِهَا مَا شُرِعَتْ لَهُ لَمْ تَكُنْ حِيلَةً قَالَ الْمَيْمُونِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ احْتَالَ لِإِبْطَالِهَا هَلْ تَجُوزُ تِلْكَ الْحِيلَةُ؟ قَالَ نَحْنُ لَا نَرَى الْحِيلَةَ إلَّا بِمَا يَجُوزُ قُلْت أَلَيْسَ حِيلَتُنَا فِيهَا أَنْ نَتْبَعَ مَا قَالُوا وَإِذَا وَجَدْنَا لَهُمْ قَوْلًا فِي شَيْءٍ اتَّبَعْنَاهُ؟ قَالَ: بَلَى هَكَذَا هُوَ قُلْت وَلَيْسَ هَذَا مِنَّا نَحْنُ بِحِيلَةٍ؟ قَالَ نَعَمْ؛ فَبَيَّنَ أَحْمَدُ أَنَّ اتِّبَاعَ الطَّرِيقِ الْجَائِزَةِ الْمَشْرُوعَةِ لَيْسَ هُوَ مِنْ الْحِيلَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَلَا يُسَمَّى حِيلَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ وَإِنْ سُمِّيَ فِي اللُّغَةِ حِيلَةً. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَقْسَامِ الْحِيَلِ وَأَحْكَامِهَا فِي الْوَجْهِ الْخَامِسَ عَشَرَ، وَذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ يَقْصِدُ بِهِ الْعَاقِدُ مَقْصُودَهُ الشَّرْعِيَّ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَهُ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِهِ إلَى أَمْرٍ آخَرَ مُبَاحٍ. بِخِلَافِ مَنْ قَصَدَ مَا يُنَافِي الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: الِاحْتِيَالُ أَمْرٌ بَاطِنٌ فِي الْقَلْبِ وَنَحْنُ قَدْ أُمِرْنَا أَنْ نَقْبَلَ مِنْ النَّاسِ عَلَانِيَتَهُمْ وَلَمْ نُؤْمَرْ أَنْ نُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَلَا نَشُقَّ بُطُونَهُمْ، فَمَتَى رَأَيْنَا عَقْدَ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ خُلْعٍ أَوْ هِبَةٍ حَكَمْنَا بِصِحَّتِهِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى سَرَائِرَهُمْ. قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَلْقَ أُمِرُوا أَنْ يَقْبَلَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ مَا يُظْهِرُهُ دُونَ الِالْتِفَافِ إلَى بَاطِنٍ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَأَمَّا مُعَامَلَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ فَإِنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ وَالسَّرَائِرِ وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. فَمَنْ أَظْهَرَ قَوْلًا سَدِيدًا وَلَمْ يَكُنْ قَدْ قَصَدَ بِهِ حَقِيقَتَهُ

كَانَ آثِمًا عَاصِيًا لِرَبِّهِ وَإِنْ قَبِلَ النَّاسُ مِنْهُ الظَّاهِرَ. كَالْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْبَلُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُ عَلَانِيَتَهُ وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ. فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُخَادِعُونَ بِعُقُودٍ ظَاهِرُهَا حَسَنٌ وَبَاطِنُهَا قَبِيحٌ هُمْ مُنَافِقُونَ بِذَلِكَ فَهُمْ آثِمُونَ عَاصُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ إنَّمَا تَجْرِي عَلَى الظَّاهِرِ وَنَحْنُ قَصَدْنَا أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ الْحِيلَةَ مُحَرَّمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ وَفِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَإِنْ كَانَ النَّاسُ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ صَاحِبَهَا فَعَلَ مُحَرَّمًا وَهَذَا بَيِّنٌ. الثَّانِي: أَنَّا إنَّمَا نَقْبَلُ مِنْ الرَّجُلِ ظَاهِرَهُ وَعَلَانِيَتَهُ إذَا لَمْ يُظْهِرْ لَنَا أَنَّ بَاطِنَهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِهِ، فَأَمَّا إذَا أَظْهَرَ ذَلِكَ رَتَّبْنَا الْحُكْمَ عَلَى ذَلِكَ فَكُنَّا حَاكِمِينَ أَيْضًا بِالظَّاهِرِ الدَّالِّ عَلَى الْبَاطِنِ لَا بِمُجَرَّدِ بَاطِنٍ، فَإِنَّا إذَا رَأَيْنَا تَيْسًا مِنْ التُّيُوسِ مَعْرُوفًا بِكَثْرَةِ التَّحْلِيلِ وَهُوَ مِنْ سِقَاطِ النَّاسِ دِينًا وَخُلُقًا وَدُنْيَا قَدْ زَوَّجَ فَتَاةَ الْحَيِّ الَّتِي يَنْتَخِبُ لَهَا الْأَكْفَاءَ بِصَدَاقٍ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ بِصَدَاقٍ يَبْلُغُ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً لَا يُصْدَقُ مِثْلُهَا قَرِيبًا مِنْهُ ثُمَّ عَجَّلَ لَهَا بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْخُلْعِ وَرُبَّمَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ اسْتِعْطَافُ قَلْبِهِ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِ عُلِمَ قَطْعًا وُجُودُ التَّحْلِيلِ، وَمَنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ فَهُوَ مُصَابٌ فِي عَقْلِهِ، وَكَذَلِكَ مِثْلُ هَذَا فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَأَقَلُّ مَا يَجِبُ عَلَى مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ أَنْ لَا يُعِينَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَعِظَ فَاعِلَهُ وَيَنْهَاهُ عَنْ التَّحْلِيلِ وَيَسْتَفْسِرَهُ عَنْ جَلِيَّةِ الْحَالِ. فَإِنْ قِيلَ: الِاحْتِيَالُ سَعْيٌ فِي اسْتِحْلَالِ الشَّيْءِ بِطَرِيقٍ مُبَاحٍ. وَهَذَا جَائِزٌ. فَإِنَّ الْبَيْعَ احْتِيَالٌ عَلَى حِلِّ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحَ احْتِيَالٌ عَلَى الْبُضْعِ. وَهَكَذَا جَمِيعُ الْأَسْبَابِ فَإِنَّهَا حِيَلٌ عَلَى حِلِّ مَا كَانَ حَرَامًا قَبْلَهَا، وَهَذَا جَائِزٌ. نَعَمْ مَنْ احْتَالَ عَلَى تَنَاوُلِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ سَبَبٍ مُبِيحٍ فَهَذَا هُوَ الْحَرَامُ بِلَا رَيْبٍ، وَنَحْنُ إنَّمَا نَحْتَالُ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مُبِيحٍ. قِيلَ: قَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مُسْتَوْفًى لَمَّا ذَكَرْنَا أَقْسَامَ الْحِيَلِ فِي الْوَجْهِ الْخَامِسَ عَشَرَ، وَذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا مِثْلُ قِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا، إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ بَعْضَ الْأَسْبَابِ طَرِيقًا إلَى مِلْكِ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. كَمَا جَعَلَ الْبَيْعَ طَرِيقًا إلَى مِلْكِ الْمَالِ، وَالنِّكَاحَ طَرِيقًا إلَى مِلْكِ الْبُضْعِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَبِيحَ الشَّيْءَ بِطَرِيقِهِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَالًا فَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْحِيلَةِ فِي شَيْءٍ، إنَّمَا الْحِيلَةُ أَنْ يُبَاشِرَ السَّبَبَ لَا يَقْصِدَ بِهِ مَا جُعِلَ ذَلِكَ السَّبَبُ لَهُ إنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ اسْتِحْلَالَ أَمْرٍ آخَرَ لَمْ يُشْرَعْ ذَلِكَ السَّبَبُ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ لِلسَّبَبِ الْمُبِيحِ لِذَلِكَ

الْأَمْرِ الْآخَرِ إمَّا بِأَنْ لَا يَكُونَ إلَى حِلِّ ذَلِكَ الْمُحَرَّمِ طَرِيقٌ أَوْ لَا يَكُونَ الطَّرِيقُ مِمَّا يُمْكِنُهُ قَصْدُهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ. كَمَنْ يُرِيدُ اسْتِحْلَالَ مَعْنَى الرِّبَا بِصُوَرِ الْقَرْضِ وَالْبَيْعِ وَإِعَادَةِ الْمَرْأَةِ إلَى الْمُطَلِّقِ بِالتَّحْلِيلِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» فَأَيْنَ مَنْ قَصَدَ بِالْعُقُودِ اسْتِحْلَالَ مَا جُعِلَتْ الْعُقُودُ مُوجِبَةً لَهُ إلَى مَنْ لَا يَقْصِدُ مَقْصُودَ الْعُقُودِ وَلَا لَهُ رَغْبَةٌ فِي مُوجَبِهَا وَمُقْتَضَاهَا وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْتِيَ بِصُوَرِهَا لِيَسْتَحِلَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ فِي قَصْدِ اسْتِحْلَالِهَا؟ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إيضَاحُ هَذَا فِي ذِكْرِ أَقْسَامِ الْحِيَلِ.

الطريق الثاني إبطال التحليل في النكاح

[الطَّرِيقُ الثَّانِي إبْطَالُ التَّحْلِيلِ فِي النِّكَاحِ] [الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ الْوَاشِمَةَ وَالْمَوْشُومَةَ] ِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الطَّرِيقُ الثَّانِي فِي إبْطَالِ التَّحْلِيلِ فِي النِّكَاحِ فَهُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ وَذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسِ، الْوَاجِبُ عِنْدَ تَسَاوِي الدَّلَالَةِ الِابْتِدَاءُ بِالْكِتَابِ، وَلَكِنْ لِكَوْنِ دَلَالَةِ السُّنَّةِ أَبْيَنَ ابْتَدَأْنَا بِهَا، وَفِي هَذَا الطَّرِيقِ مَسَالِكُ. الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ مَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ ابْنِ قَيْسٍ الْأَزْدِيِّ عَنْ هُذَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ الْوَاشِمَةَ وَالْمَوْشُومَةَ وَالْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ وَالْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَآكِلَ الرِّبَا، وَمُوْكِلَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْهُ: «لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ مِنْ التَّابِعِينَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْوَاصِلِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَعَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «آكِلُ الرِّبَا وَمُوكِلُهُ وَشَاهِدَاهُ وَكَاتِبُهُ إذَا عَلِمُوا بِهِ وَالْوَاصِلَةُ وَالْمُسْتَوْصِلَةُ وَلَاوِي الصَّدَقَةِ وَالْمُتَعَدِّي فِيهَا وَالْمُرْتَدُّ عَلَى عَقِبَيْهِ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ هِجْرَتِهِ

وَالْمُحَلِّلُ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» . وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ يَثْعُبُ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْجُوزَجَانِيُّ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَعُثْمَانُ بْنُ الْأَخْنَسِ ثِقَةٌ، وَاَلَّذِي رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْقُرَشِيِّ وَهُوَ ثِقَةٌ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ وَثَّقَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَيَحْيَى وَعَلِيٌّ وَغَيْرُهُمْ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوُ ذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالْجُوزَجَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ قَالَ سَمِعْت اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ قَالَ مِشْرَحُ بْنُ هَاعَانَ قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: هُوَ الْمُحَلِّلُ لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» . وَفِي لَفْظِ الْجُوزَجَانِيِّ: " الْحَالُّ " بَدَلَ " الْمُحَلِّلِ " رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ عَنْ عُثْمَانَ. وَقَالَ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى عُثْمَانَ هَذَا الْحَدِيثَ إنْكَارًا شَدِيدًا. قُلْت: وَإِنْكَارُ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى عُثْمَانَ غَيْرُ جَيِّدٍ إنَّمَا هُوَ لِتَوَهُّمِ انْفِرَادِهِ بِهِ عَنْ اللَّيْثِ وَظَنِّهِمْ أَنَّهُ لَعَلَّهُ أَخْطَأَ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ اللَّيْثِ، كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُ بَعْضُ مَنْ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ أَنَّ الْحَدِيثَ إذَا انْفَرَدَ بِهِ عَنْ الرَّجُلِ مَنْ لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ مِنْ أَصْحَابِهِ كَانَ ذَلِكَ شُذُوذًا فِيهِ وَعِلَّةً قَادِحَةً - وَهَذَا لَا يَتَوَجَّهُ هَاهُنَا لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ عَنْهُ، رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الْقَطِيعِيِّ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ فُرَيْقٍ: وَحَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بِهِ فَذَكَرَهُ، وَرَوَاهُ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ. وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْهَيْثَمِ: أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ فَذَكَرَ. الثَّانِي: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ صَالِحٍ هَذَا الْمِصْرِيَّ ثِقَةٌ. رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ. وَقَالَ الشَّيْخُ صَالِحٌ سَلِيمُ النَّاحِيَةِ

قِيلَ لَهُ: كَانَ يُلَقِّنُ قَالَ: لَا. وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَانَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ حُجَّةً، وَإِنَّمَا الشَّاذُّ مَا خَالَفَ بِهِ الثِّقَاتِ لَا مَا انْفَرَدَ بِهِ عَنْهُمْ، فَكَيْفَ إذَا تَابَعَهُ مِثْلُ أَبِي صَالِحٍ وَهُوَ كَاتِبُ اللَّيْثِ وَأَكْثَرُ النَّاسِ حَدِيثًا عَنْهُ وَهُوَ ثِقَةٌ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ غَلَطٌ. وَمُشْرِحُ بْنُ هَاعَانَ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ. ثِقَةٌ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هُوَ مَعْرُوفٌ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ جَيِّدٌ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَقَالَ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَشِيطٍ الْبَصْرِيُّ: سَأَلْت بَكْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ قَالَ: «لُعِنَ الْمُحَلِّلُ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ» أُولَئِكَ كَانُوا يُسَمَّوْنَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ، وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ هُوَ التَّيْسُ الْمُسْتَعَارُ. وَقِيَاسُ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُقَالَ أَوْ مُحِلٌّ كَمَا يَجِيءُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِهَا مِنْ لَفْظِ الْحَالِّ وَوَقَعَ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ فَإِنْ كَانَ لُغَةً لَمْ تَبْلُغْنَا، وَإِلَّا فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى حَالًّا لِأَنَّهُ قَصَدَ حَلَّ عُقْدَةِ التَّحْرِيمِ فَيَكُونُ الِاسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ التَّحْلِيلِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ التَّحْرِيمِ وَهَذَا الِاسْمُ مِنْ الْحِلِّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْعَقْدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُسَمَّى حَالًّا عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ مِنْ الْحِلِّ كَمَا يُقَالُ لَابِنٌ وَتَامِرٌ نِسْبَةً إلَى التَّمْرِ وَاللَّبَنِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ اسْمَ الْفَاعِلِ مِنْ التَّحْلِيلِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا: أَنَّهُ إذَا قِيلَ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ وَلَمْ يَقُلْ الْمَحْلُولُ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَحْلِيلَهَا لِغَيْرِهِ بِوَاسِطَةِ حِلِّهَا لَهُ وَحِلِّهِ لَهَا فَيَكُونُ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ حَلَّ يَحِلُّ فَهُوَ حَالٌّ ضِدُّ حَرُمَ يَحْرُمُ. وَلِأَنَّهُ تَوَسَّطَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا لَهَا إلَى أَنْ تَصِيرَ حَلَالًا لِلْغَيْرِ ثُمَّ وَجَدْنَاهُ لُغَةً مَنْقُولَةً ذَكَرَهَا ابْنُ الْقَطَّاعِ فِي أَفْعَالِهِ وَغَيْرِهِ يُقَالُ حَلَّ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا وَأَحَلَّهَا وَحَلَّهَا لَهُ إذَا تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا. فَهَذِهِ سُنَنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيِّنَةٌ فِي أَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَذَلِكَ مِنْ أَبْيَنِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ التَّحْلِيلَ حَرَامٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ فَعُلِمَ أَنَّ فِعْلَهُ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ اللَّعْنَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى مَعْصِيَةٍ، بَلْ لَا يَكَادُ يَلْعَنُ إلَّا عَلَى فِعْلِ كَبِيرَةٍ إذْ الصَّغِيرَةُ تَقَعُ مُكَفَّرَةً بِالْحَسَنَاتِ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ. - وَاللَّعْنَةُ هِيَ الْإِقْصَاءُ وَالْإِبْعَادُ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَنْ يَسْتَوْجِبَ ذَلِكَ إلَّا بِكَبِيرَةٍ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ ذَنْبٍ خُتِمَ بِغَضَبٍ أَوْ لَعْنَةٍ أَوْ عَذَابٍ أَوْ نَارٍ فَهُوَ كَبِيرَةٌ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ

الْمُحَرَّمَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، كَيْفَ وَقَدْ حَمَلُوا نَهْيَهُ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ عَلَى خَالَتِهَا عَلَى التَّحْرِيمِ وَالْفَسَادِ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِقْصَاءِ ذَلِكَ. ثُمَّ إنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلَّلَ لَهُ فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ بِذَلِكَ التَّحْلِيلِ إذْ لَوْ حَلَّتْ لَهُ لَكَانَ نِكَاحُهُ مُبَاحًا فَلَمْ يَسْتَحِقَّ اللَّعْنَ عَلَيْهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الْمُحَلِّلُ حَرَامٌ بَاطِلٌ، وَأَنَّ تَزَوُّجَ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا لِأَجْلِ هَذَا التَّحْلِيلِ حَرَامٌ بَاطِلٌ. وَمَعَ أَنَّ مُجَرَّدَ تَحْرِيمِ عَقْدِ النِّكَاحِ كَافٍ فِي بُطْلَانِهِ فَفِي خُصُوصِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْعَقْدَيْنِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ الْمُحَلَّلَ لَهُ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَلَّ لِلثَّانِي تَزَوُّجُهَا، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ حَلَّ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَهُ وَلَوْ كَانَتْ قَدْ حَلَّتْ لَهُ لَكَانَ تَزَوُّجُهُ بِهَا جَائِزًا وَلَمْ يَجُزْ لَعْنُهُ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَلَالًا لِلثَّانِي فَكُلُّ امْرَأَةٍ يَحْرُمُ التَّزَوُّجُ بِهَا فَالْعَقْدُ عَلَيْهَا بَاطِلٌ. وَهَذَا ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ بَلْ بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ مِنْ الدِّينِ. وَذَلِكَ أَنَّ مَحَلَّ الْعَقْدِ كَالْمَبِيعِ وَالْمَنْكُوحَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُبَاحًا كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْمُعْتَدَّةِ وَالْمُزَوَّجَةِ كَانَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ بَاطِلًا بِالضَّرُورَةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِلثَّانِي وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَحَصَلَ بِهِ الْحِلُّ كَسَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْكَلَامِ الْمَحْفُوظِ لَفْظًا وَمَعْنًى فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَمَنْ قَالَ إنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ وَهِيَ لَا تَحِلُّ بِهِ فَقَدْ أَثْبَتَ حُكْمًا بِلَا أَصْلٍ وَلَا نَظِيرٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَقَوْلُهُمْ تَعَجَّلَ مَا أَجَّلَ اللَّهُ فَعُوقِبَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، قُلْنَا إنْ كَانَ الْمُتَعَجَّلُ بِهِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ كَالْقَتْلِ قَطَعْنَا عَنْهُ حُكْمَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ كَالطَّلَاقِ فِي الْمَرَضِ فَإِنَّا نَقْطَعُ عَنْهُ حُكْمَهُ، وَالْمَقْصُودُ رَفْعُهُ وَهُوَ الْإِرْثُ وَنَحْوُهُ، وَأَمَّا النِّكَاحُ فَإِنَّهُ عَقْدٌ قَابِلٌ لِلْإِبْطَالِ فَيَبْطُلُ، ثُمَّ إذَا عَاقَبْنَا الْمُحَلَّلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَجَّلَ الْمُؤَجَّلَ فَكَيْفَ لَا نُعَاقِبُ الْمُحَلِّلَ الَّذِي هُوَ مُعَجِّلُ الْمُؤَجَّلَ، وَهُوَ أَحَقُّ بِالْعُقُوبَةِ لِعَدَمِ الْغَرَضِ لَهُ فِي هَذَا الْفِعْلِ، وَإِذَا انْتَفَى الدَّاعِي إلَى الْمَعْصِيَةِ كَانَتْ أَقْبَحَ كَزِنَا الشَّيْخِ وَزُهُوِّ الْفَقِيرِ وَكَذِبِ الْمَلِكِ. فَإِنْ قِيلَ: إلَّا أَنَّ التَّحْرِيمَ وَإِنْ اقْتَضَى فَسَادَ الْعَقْدِ فَإِنَّمَا ذَاكَ إذَا كَانَ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ، فَإِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ مِنْ أَحَدِهِمَا لَمْ يُوجِبْ الْفَسَادَ كَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ وَالْمُدَلِّسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُنَا التَّحْلِيلُ الْمَكْتُومُ إنَّمَا هُوَ حَرَامٌ عَلَى الزَّوْجِ الْمُحَلِّلِ، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ وَوَلِيُّهَا

فَلَيْسَ حَرَامًا عَلَيْهِمَا إذَا لَمْ يَعْلَمَا بِقَصْدِ الزَّوْجِ فَلَا يَكُونُ الْعَقْدُ فَاسِدًا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ النَّظَائِرِ، إذْ فِي إفْسَادِهِ إضْرَارُ الْمَغْرُورِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْوَلِيِّ، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ اشْتَرَى سِلْعَةً لِيَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ وَالْبَائِعُ لَا يَعْلَمُ قَصْدَهُ فَإِنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَا يُحْكَمُ بِفَسَادِهِ وَإِنْ حَرُمَ عَلَى الْمُشْتَرِي وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْجِرُ وَنَحْوُهُ، فَالْمُوجِبُ لِلتَّحْرِيمِ كِتْمَانُ أَحَدِهِمَا لِنَقْصِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ كَذِبِهِ فِي وَصْفِهِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْعَقْدُ غَيْرَ فَاسِدٍ أَثْبَتَ الْحِلَّ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ. ثُمَّ قَدْ يُقَالُ تَحِلُّ بِهِ لِلْأَوَّلِ عَمَلًا بِالْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ وَطَرْدًا لِلنِّظَامِ الْقِيَاسِيِّ، وَقَدْ يُقَالُ بَلْ لَا تَحِلُّ لَهُ كَمَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَغَيْرُهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ السَّبَبَ مَعْصِيَةٌ وَالْمَعْصِيَةُ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَالْحِلُّ وَإِنْ حُكِمَ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَوُقُوعِ السَّبَبِ إذَا كَانَ مُمْكِنًا لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ كَالطَّلَاقِ وَالْقَتْلِ لِلْمُوَرِّثِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حِلِّهَا لِلزَّوْجِ الْمُحَلِّلِ حِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ الْأَوَّلَ حَصَلَ ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ لِأَجْلِ حَقِّ الْعَاقِدِ الْآخَرِ وَمَتَى صَحَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ فَقَدْ اسْتَحَقَّتْ الصَّدَاقَ وَالنَّفَقَةَ وَاسْتَحَلَّتْ الِاسْتِمْتَاعَ؛ وَلَا يَثْبُتُ هَذَا إلَّا مَعَ اسْتِحْقَاقِ الزَّوْجِ مِلْكَ النِّكَاحِ وَاسْتِحْلَالِهِ الِاسْتِمْتَاعَ بِخِلَافِ الْمُطَلِّقِ فَإِنَّهُ لَا ضَرُورَةَ هُنَاكَ تَدْعُو إلَى تَصْحِيحِ عَقْدِهِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ: أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ مِنْهُمْ عُمَرُ وَعَطَاءٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ جَوَازُ إمْسَاكِ الثَّانِي لَهَا إذَا حَدَثَتْ لَهُ الرَّغْبَةُ وَمَنَعُوا عَوْدَهَا لِلْأَوَّلِ. قُلْنَا: إذَا انْفَرَدَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بِعِلْمِهِ بِسَبَبِ التَّحْرِيمِ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ لِأَجْلِ حَقِّ الْعَاقِدِ الْآخَرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِحَقِّ اللَّهِ مَثَلًا، فَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ حَقِّ الْعَاقِدِ الْآخَرِ كَمَا فِي بَيْعِ الْمُدَلِّسِ وَالْمُصَرَّاةِ وَنِكَاحِ الْمَعِيبَةِ الْمُدَلِّسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا الْعَقْدُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ هَذَا الْمَغْرُورِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِحَيْثُ يَحِلُّ لَهُ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ عَلِمَ فِيمَا بَعْدَ أَنَّهُ كَانَ مَغْرُورًا، وَإِمَّا فِي حَقِّ الْقَارِّ فَهَلْ يَكُونُ بَاطِلًا فِي الْبَاطِنِ بِحَيْثُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ أَوْ لَا يَكُونُ بَاطِلًا أَوْ يُقَالُ مَلَكَهُ مِلْكًا حِسِّيًّا؟ هَذَا مِمَّا قَدْ يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، وَمَسْأَلَتُنَا لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ، وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ لِغَيْرِ حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَلْ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَوْ لِحَقِّ غَيْرِهِمَا مِثْلَ أَنْ يَبِيعَهُ مَا لَا يَمْلِكُهُ وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ، أَوْ يَبِيعَهُ لَحْمًا يَقُولُ هُوَ ذَكِيٌّ وَهُوَ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ أَوْ وَثَنِيٍّ، وَمِثْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ ذَلِكَ؛ أَوْ يَكُونُ أَحَدُ الْمُبَايِعَيْنِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَهُوَ يَعْلَمُ

بِالْحَجْرِ وَالْآخَرُ لَا يَعْلَمُ أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ لَا يَعْلَم أَنَّ هَذَا الْحَجْرَ يُبْطِلُ التَّصَرُّفَ، أَوْ يَكُونُ الْعَقْدُ مُشْتَمِلًا عَلَى شَرْطٍ أَوْ وَقْتٍ أَوْ وَصْفٍ، أَوْ أَحَدُهُمَا لَا يَعْلَمُ حُكْمَهُ وَالْآخَرُ يَعْلَمُ. إلَى نَحْوِ هَذِهِ الصُّوَرِ الَّتِي يَكُونُ الْعَقْدُ لَيْسَ مَحَلًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. أَوْ الْعَاقِدُ لَيْسَ أَهْلًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَهُنَا الْعَقْدُ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الْعَالِمِ بِالتَّحْرِيمِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَإِنْ كَانَ الْفُقَهَاءُ قَدْ اخْتَلَفُوا هَلْ تَسْتَحِقُّ الْمَرْأَةُ فِي مِثْلِ هَذَا مَهْرًا، وَفِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ. إحْدَاهُمَا: تَسْتَحِقُّهُ وَأَظُنُّهُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ. وَالْأُخْرَى: لَا تَسْتَحِقُّهُ وَأَظُنُّهُ قَوْلَ مَالِكٍ فَإِنَّمَا ذَاكَ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَهُ لِئَلَّا يَخْلُوَ الْوَطْءُ الْمُلْحِقُ لِلنَّسَبِ عَنْ عِوَضٍ، وَوُجُوبُ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ وَالنَّسَبِ لَيْسَتْ مِنْ خَصَائِصِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ. أَفَلَمْ يَكُنْ فِي إيجَابِ مَنْ أَوْجَبَ الْمَهْرَ مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْعَقْدِ بِوَجْهٍ مَا كَمَا أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْعِدَّةَ فِي مِثْلِ هَذَا وَيُلْحِقُونَ بِهِمْ النَّسَبَ مَعَ بُطْلَانِ الْعَقْدِ. بَلْ كُلُّ نِكَاحٍ فَاسِدٍ يَثْبُتُ فِيهِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَى فَسَادِهِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ التَّحْرِيمَ كَالزَّوْجِ وَالْمُشْتَرِي الْمَغْرُورَيْنِ فَالْعَقْدُ فِي حَقِّهِمَا بَاطِلٌ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا بُطْلَانَهُ، وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ يَصِفُهُ بِالصِّحَّةِ مِنْ وَجْهٍ مَا، وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى أُصُولِ بَعْضِ الْكَلَامِيِّينَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي إمَّا ظَاهِرًا وَإِمَّا بَاطِنًا. لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ عَلَى أَنَّهُ فَاسِدٌ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ بِهَذَا الْعَقْدِ مِلْكٌ وَلَا إبَاحَةُ شَيْءٍ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ، لَكِنَّهُ لَا يُعَاقَبُ بِالْوَطْءِ وَلَا بَانَ بِالِانْتِفَاعِ بِمَا ابْتَاعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ التَّحْرِيمَ، وَكَوْنُهُ لَمْ يَعْلَمْ التَّحْرِيمَ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا لَهُ كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ الزِّنَا وَالْخَمْرِ وَتَنَاوَلَهُمَا لَا نَقُولُ إنَّهُ فَعَلَ مُبَاحًا لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَا أَبَاحَ هَذَا لِأَحَدٍ قَطُّ لَكِنْ نَقُولُ فَعَلَ مَا لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَهُ. وَيَتَحَرَّرُ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا بِنَظَرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: فِي الْفِعْلِ فِي الْبَاطِنِ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ لَيْسَ بِحَرَامٍ بَلْ مُبَاحٌ؟ وَالثَّانِي: فِي الظَّاهِرِ هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ لَيْسَ بِحَرَامٍ بَلْ عَفْوٌ؟ النَّظَرُ الْأَوَّلُ: هَلْ يُقَالُ الْفِعْلُ حَرَامٌ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْلَمْ التَّحْرِيمَ

عُذِرَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ. وَالْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ يَخُوضُ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِمْ يَتَنَازَعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا، فَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَقُولُونَ: هَذَا لَيْسَ بِحَرَامٍ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا فِي الْأَصْلِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ كَالْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ الْفِعْلِ وَالْمَنْعُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إلَّا بِإِعْلَامِ الْمَمْنُوعِ أَوْ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَهَذَا لَمْ يَعْلَمْ التَّحْرِيمَ وَلَا أَمْكَنَهُ عِلْمُهُ فَلَا تَحْرِيمَ فِي حَقِّهِ، قَالُوا وَالتَّحْرِيمُ الثَّابِتُ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ لَا يُعْقَلُ فَإِنَّ حَدَّ الْمُحَرَّمِ مَا ذُمَّ فَاعِلُهُ أَوْ عُوقِبَ أَوْ مَا كَانَ سَبَبًا لِلذَّمِّ أَوْ الْعِقَابِ أَوْ مَا اسْتَحَقَّ بِهِ ذَمًّا أَوْ عِقَابًا، وَهَذَا الْفِعْلُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْخَصَائِصِ. نَعَمْ وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْوَى عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ يُوجِبُ إلَّا مُجَرَّدَ نِسْبَةٍ وَإِضَافَةٍ تَثْبُتُ لِلْفِعْلِ لِتَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِ، وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. ثُمَّ إنْ كَانَ قَدْ اسْتَحَلَّهُ بِنَاءً عَلَى إمَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ قَالُوا هُوَ حَلَالٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا حِلًّا شَرْعِيًّا، وَإِنْ اسْتَحَلَّهُ لِعَدَمِ الْمُحَرَّمِ قَالُوا لَيْسَ بِحَرَامٍ بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا. وَلَمْ يَقُولُوا هُوَ حَلَالٌ، وَأَمَّا أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فَيَقُولُونَ إنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ، لَكِنَّ عَدَمَ التَّحْرِيمِ مَنَعَ مِنْ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ لِفَوَاتِ شَرْطِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ، وَتَخَلُّفِ الْمُقْتَضِي عَنْ الْمُقْتَضَى لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ مُقْتَضِيًا. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى حُكْمِ الْعِلَّةِ إذَا تَخَلَّفَ عَنْهَا لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ هَلْ يَقْدَحُ فِي كَوْنِهَا عِلَّةً وَيُؤْخَذُ مِنْ الشَّرْطِ وَعَدَمِ الْمَانِعِ قُيُودٌ تُضَمُّ إلَى تِلْكَ الْأَوْصَافِ فَيَجْعَلُ الْجَمِيعَ عِلَّةً وَلَكِنْ يُضَافُ التَّخَلُّفُ إلَى الْمَانِعِ وَفَوَاتِ الشَّرْطِ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَفَسَادِهَا بِالنَّقْضِ مُطْلَقًا خُيِّرَ أَوْ لَمْ يُخَيَّرْ، وَالنَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مُخْتَلِفُونَ خِلَافًا مَشْهُورًا. فَمَنْ قَالَ بِتَخْصِيصِهَا فَرَّقَ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَزَاءِ الْعِلَّةِ وَعَدَمِ الْمَانِعِ وَقَالَ قَدْ تَقَدَّمَ الْحُكْمُ مَعَ بَقَائِهَا إذَا صَادَفَهَا مَانِعٌ أَوْ تَخَلَّى عَنْهَا الشَّرْطُ الْمُعَيَّنُ. وَمَنْ لَمْ يُخَصِّصْهَا فَعِنْدَهُ الْجَمِيعُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَمَتَى تَخَلَّفَ عَنْهَا الْحُكْمُ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً بِحَالٍ بَلْ يَكُونُ بَعْضَ عِلَّةٍ. وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ - وَهِيَ الْعِلَّةُ التَّامَّةُ الَّتِي يَجِبُ وُجُودُ مَعْلُولِهَا

عِنْدَ وُجُودِهَا - فَهَذِهِ لَا تُخَصَّصُ، وَيُقَالُ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً - وَهِيَ مَا مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَقْتَضِيَ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تُصَادِفَ مَحَلًّا لَا يَعُوقُ - فَهَذِهِ تُخَصَّصُ، فَالنِّزَاعُ عَادَ إلَى عِبَارَةٍ كَمَا تَرَاهُ، وَيَعُودُ أَيْضًا إلَى مُلَاحَظَةٍ عَقْلِيَّةٍ وَهُوَ أَنَّهُ عِنْدَ تَخَلُّفِ الْمَعْلُولِ لِأَجْلِ الْمُعَارِضِ هَلْ يُلَاحَظُ فِي الْعِلَّةِ وَصْفُ الِاقْتِضَاءِ مَمْنُوعًا بِمَنْزِلَةِ الْحَجَرِ الْهَابِطِ إذَا صَادَفَ سَقْفًا. وَبِمَنْزِلَةِ ذِي الشَّهْوَةِ الْغَالِبَةِ بِحَضْرَةِ مَنْ يَهَابَهُ؟ أَوْ يُلَاحِظُ مَعْدُومًا بِمَنْزِلَةِ الْعَيْنَيْنِ وَبِمَنْزِلَةِ الْعَشَرَةِ إذَا نَقَصَ مِنْهَا وَاحِدٌ فَإِنَّهَا لَمْ تَبْقَ عَشَرَةً، فَإِذَا كَانَ النِّزَاعُ يَعُودُ إلَى اعْتِبَارٍ عَقْلِيٍّ. أَوْ إلَى إطْلَاقٍ لَفْظِيٍّ لَا إلَى حُكْمٍ عَمَلِيٍّ أَوْ اسْتِدْلَالِيٍّ فَالْأَمْرُ قَرِيبٌ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْخِلَافُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إصْلَاحٌ جَدَلِيٌّ وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يُقْبَلُ مِنْ الْمُسْتَدِلِّ خَبَرُ النَّقْضِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ صُورَةِ النِّزَاعِ وَصُورَةِ النَّقْضِ، أَوْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِوَصْفٍ يَطَّرِدُ لَا يُنْتَقَضُ أَلْبَتَّةَ وَمَتَى انْتَقَضَ انْقَطَعَ فِيهِ أَيْضًا اصْطِلَاحَانِ لِلْمُتَجَادِلَيْنِ. وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي حُدُودِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا إلَى قَرِيبٍ مِنْ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ إلْزَامَ الْمُسْتَدِلِّ بِطَرْدِ عِلَّتِهِ فِي مُنَاظَرَاتِهِمْ وَمُصَنَّفَاتِهِمْ، وَأَمَّا أَهْلُ خُرَاسَانَ فَلَا يُلْزِمُونَهُ بِذَلِكَ بَلْ يُلْزِمُونَهُ تِبْيَانَ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ وَيُجِيزُونَ النَّقْضَ بِالْفَرْقِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي غَلَبَ عَلَى الْعِرَاقِيِّينَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ، وَتَجِدُ الْكُتُبَ الْمُصَنَّفَةَ لِأَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي الْخِلَافِ بِحَسَبِ اصْطِلَاحِ زَمَانِهِمْ وَمَكَانِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ الْعِرَاقِيُّونَ فِي زَمَنِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَالْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ مِنْ مِصْرَ وَأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَنَحْوِهِمْ يُوجِبُونَ الِاطِّرَادَ غَلَبَ عَلَى أَقْيِسَتِهِمْ تَحْرِيرُ الْعِبَارَاتِ وَضَبْطُ الْقِيَاسَاتِ الْمُطَرَّدَاتِ وَيُسْتَفَادُ مِنْهَا الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّاتُ، لَكِنْ تَبَدُّدُ الذِّهْنِ عَنْ نُكْتَةِ الْمَسْأَلَةِ يُحْوِجُ الْمُتَكَلِّمَ أَوْ الْمُسْتَمِعَ إلَى أَنْ يَشْتَغِلَ بِمَا لَا يَعْنِيهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عَمَّا يَعْنِيهِ. وَلِهَذَا كَانُوا يُكَلِّفُونَ بِأَنْ يَأْتِيَ بِقِيَاسٍ مُطَّرِدٍ وَلَا يَظْهَرُ خُرُوجُ وَصْفِهِ عَنْ جِنْسِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ وَرُبَّمَا غَلَا بَعْضُهُمْ فِي الطَّرْدِيَّاتِ، وَلَمَّا كَانَ الْعِرَاقِيُّونَ الْمُتَأَخِّرُونَ لَا يُلْزِمُونَ هَذَا فَتَحُوا عَلَى نُفُوسِهِمْ سُؤَالَ الْمُطَالَبَةِ بِتَأْثِيرِ الْوَصْفِ وَطَوَائِفُ مِنْ مُتَقَدِّمِي الْخُرَاسَانِيِّينَ فَيُسْتَفَادُ مِنْ طَرِيقِهِمْ الْكَلَامُ فِي الْمُنَاسَبَاتِ وَالتَّأْثِيرَاتِ بِحَسَبِ مَا أَحَاطُوا بِهِ مِنْ الْعِلْمِ أَثَرًا وَرَأْيًا، وَهَذَا أَشَدُّ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ مِنْ حَيْثُ احْتِيَاجُهُ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى تَأْثِيرِ الْوَصْفِ، وَالْأَوَّلُ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ احْتِيَاجُهُ إلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ النَّقْضِ، وَلِهَذَا سَمَّى بَعْضُهُمْ الْأَوَّلِينَ أَصْحَابَ الطَّرْدِ، وَسَمَّى الْآخَرِينَ أَصْحَابَ

التَّأْثِيرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ أَصْحَابَ الطَّرْدِ أَنَّهُمْ يَكْتَفُونَ بِمُجَرَّدِ الْوَصْفِ الْمُطَّرِدِ الَّذِي لَا يَظْهَرُ فِيهِ اقْتِضَاءٌ لِلْحُكْمِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ وَلَا إشْعَارَ بِهِ. فَإِنَّ هَذَا يُبْطِلُهُ جَمَاهِيرُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ يَقُولُ بِهِ وَيَسْتَعْمِلُهُ إلَّا شِرْذِمَةٌ مِنْ الطَّارِدِينَ. وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّرِيقَتَيْنِ مَا يُقْبَلُ وَيُرَدُّ. وَلَا يُمْكِنُ هُنَا تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، لَكِنَّ الرَّاجِحَ فِي الْجُمْلَةِ قَوْلُ مَنْ يُخَصِّصُ الْعِلَّةَ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ فَإِنَّ مُلَاحَظَتَهُ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ وَأَشْبَهُ بِالْمَنْقُولِ، وَعَلَى ذَلِكَ تَصَرُّفَاتُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا رَجَعَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي آخِرِ عُمُرِهِ إلَى ذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّ أَكْثَرَ كَلَامِ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَغَيْرُهُ يَقُولُ إنَّهُ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ تَأَمَّلَ مُنَاظَرَتَهُمْ عَلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخُصُّونَ التَّعْلِيلَ بِوُجُودِ الْمَانِعِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُجِيزُونَ النَّقْضَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْعِ وَبَيْنَ صُورَةِ النَّقْضِ إذَا كَانَ الْفَرْقُ مَغْلُوسًا فِي الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ أَيْ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْقَائِمُ بِصُورَةِ النَّقْضِ مَانِعًا غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي الْأَصْلِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْفَرْعِ إذْ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْأَصْلِ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْفَرْعِ لَمْ يَجُزْ النَّقْضُ وَهَذَا عَيْنُ الْفِقْهِ. بَلْ هُوَ عَيْنُ كُلِّ عِلْمٍ بَلْ هُوَ عَيْنُ كُلِّ نَظَرٍ صَحِيحٍ وَكَلَامٍ سَدِيدٍ. نَعَمْ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ مُتَطَرِّفَانِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ: قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ لَا لِمَانِعٍ وَلَا لِفَوَاتِ شَرْطٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ دَلِيلٍ كَمَا يَخُصُّ الْعُمُومَ اللَّفْظِيَّ، وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ إنَّ الْعِلَّةَ الْمَنْصُوصَةَ إذَا تَخَصَّصَتْ بَطَلَ كَوْنُهَا عِلَّةً وَعُلِمَ أَنَّهَا جُزْءُ الْعِلَّةِ. فَهَذَانِ قَوْلَانِ ضَعِيفَانِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ الْمُخَصِّصَ مُسْتَلْزِمٌ لِمَانِعٍ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ لَهُ وَجْهٌ أَنْ لَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ عُلِمَتْ بِنَصٍّ وَالْمُخَصِّصُ لَهَا نَصٌّ فَهُنَاكَ لَا يَضُرُّنَا أَنْ لَا نَعْلَمَ الْمَانِعَ الْمَعْنَوِيَّ عَلَى نَظَرٍ فِيهِ، إذْ قَدْ يُقَالُ إنْ كَانَ التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ كَانَ التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ فَقَدْ عَلِمْنَا انْتِفَاءَهُ مَعَ مَانِعٍ مَجْهُولٍ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِّ إذَا اُسْتُثْنِيَ مِنْهُ شَيْءٌ مَجْهُولٌ. فَمَا مِنْ صُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ إلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي الْمُسْتَثْنَى فَلَا يَجُوزُ إدْخَالُهَا فِي أَحَدِهِمَا بِلَا دَلِيلٍ، كَذَلِكَ كُلُّ صُورَةٍ تَفْرِضُ وُجُودَ الْعِلَّةِ

فِيهَا إذَا كَانَتْ مُخَصَّصَةً بِنَصٍّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَانِعٍ مَعْنَوِيٍّ فَإِنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ جَازَ أَنْ تَكُونَ مُشْتَمِلَةً عَلَى ذَلِكَ الْمَانِعِ وَجَازَ أَنْ تَكُونَ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَيْهِ، وَلَا يُقَالُ اشْتِمَالُهَا عَلَى الْمُقْتَضِي مَعْلُومٌ وَاشْتِمَالُهَا عَلَى الْمَانِعِ مَشْكُوكٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ هُوَ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ مُصَادَمَةُ الْمَانِعِ لَهُ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةٌ هُنَا، وَهَذَا الْمَقَامَ أَيْضًا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ جَوَازُ التَّمَسُّكِ بِالظَّوَاهِرِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَمَّا يُعَارِضُهَا، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا - وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ أَحْمَدَ وَكَلَامُ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ - أَنَّهُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بِمُقْتَضًى يَكُونُ جَوَازُ تَخَلُّفِهِ عَنْ مُقْتَضِيهِ وَعَدَمُ جَوَازِهِ فِي الْقَلْبِ سَوَاءً، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ لِيَظْهَرَ الْمَأْخَذُ فِي قَوْلِهِمْ أَنَّهُ يَكُونُ الشَّيْءُ حَرَامًا فِي الْبَاطِنِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مُقْتَضَى التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ لِلْعُذْرِ فَإِنَّ التَّخَلُّفَ هُنَا لِفَوَاتِ شَرْطٍ وَلَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِ الْفِعْلِ مُقْتَضِيًا لِلْعِقَابِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ عُقُولِ الْفُقَهَاءِ بَلْ أَكْثَرُ عُقُولِ النَّاسِ بَلْ عَامَّةُ الْعُقُولِ الَّتِي لَمْ يُكَدِّرْ صَفَاهَا رَهَجُ الْجَدَلِ وَيَرَى صِحَّةَ كَوْنِ الشَّيْءِ بِصِفَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَإِنْ كَانَ مَعُوقًا عَنْ عَمَلِهِ صَارُوا فِي عَامَّةِ مَا يَفْعَلُونَهُ وَيَقُولُونَهُ يَنْتَهِجُونَ مَنَاهِجَ الْقَائِلِينَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ لِمَانِعٍ إذْ هَذَا ثَابِتٌ فِي كُلِّ مَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ الْآدَمِيُّونَ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَكُونُونَ مِمَّنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ إذَا جَرَّدُوا الْأُصُولَ، فَلِهَذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَقْبَلُ عَقْلُهُ كَوْنَ الشَّيْءِ حَرَامًا فِي الْبَاطِنِ لَكِنَّ انْتِفَاءَ حُكْمِ التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ هَذَا الْمُعَيَّنِ لِفَوَاتِ شَرْطِ الْعِقَابِ أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ فِيهِ. وَهَذَا قَوِيٌّ إذَا قِيلَ: إنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ قَدْ تَكُونُ لِمَعَانٍ فِي الْأَفْعَالِ تُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَيَقْتَضِيهِ، وَإِنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ عَلَامَاتٍ وَإِمَارَاتٍ كَمَا قَدْ يُجِيبُ بِهِ فِي الْمَضَايِقِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْصُرُ السُّنَّةَ أَنَّهُ يَرُدُّ الْأَحْكَامَ إلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ. فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ دَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعَ السَّابِقِينَ عَلَى تَوْجِيهِ الْأَحْكَامَ بِالْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ وَالنُّعُوتِ الْمُلَائِمَةِ. بَلْ دَخَلَ مَعَ الْأَئِمَّةِ فِيمَا يَشْهَدُهُ بِنَظَائِرِهَا مِنْ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ الْمَنْظُومَةِ فِي الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا هَذِهِ الشَّرِيعَةُ الْحَنِيفِيَّةُ الَّتِي قَدْ أَرْبَى نُورُهَا عَلَى الشَّمْسِ إضَاءَةً وَإِشْرَاقًا وَعَلَى إحْكَامِهَا عَلَى الْفُلْكِ انْتِظَامًا وَاتِّسَاقًا ثُمَّ نَازَعَ بَعْدَ هَذَا فِي أَنَّ الْأَسْبَابَ وَالْعِلَلَ فِيهَا

اقْتِضَاءٌ وَمُلَاءَمَةٌ وَرَأَى مَا فِي الدَّلِيلِ الصَّرْفِ فَهُوَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إمَّا مُعَانِدٌ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ وَمَا أَكْثَرُ السَّفْسَطَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ عُمُومًا وَمِنْ الْمُنَاظِرِينَ فِي الْعِلْمِ خُصُوصًا فِي جُزْئِيَّاتِ الْمُقَدِّمَاتِ وَإِنْ كَانُوا مُجْمِعِينَ أَوْ كَالْمُجْمِعِينَ عَلَى فَسَادِهَا فِي الْأَنْوَاعِ الْكُلِّيَّاتِ. وَإِمَّا ذَاهِلٌ جَاهِلٌ حَقِيقَةَ مَا يَقُولُهُ مِنْ أَنَّ الْعِلَلَ مُجَرَّدُ أَمَارَاتٍ مُصَرِّفَاتٍ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ دَائِمًا يَرَاهُ وَيَقُولُهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَوِيٌّ إذَا رَأَيْنَا مَا فِي الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ الْمَفَاسِدِ؛ لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ ثَابِتَةٌ فِي أَكْثَرِ الْأَفْعَالِ وَإِنْ لَمْ يُدْرَ الْفَاعِلُ. أَلَا تَرَى مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ التَّحْرِيمَ فَإِنَّ فَسَادَهَا مِنْ زَوَالِ الْعَقْلِ وَتَوَابِعِهِ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ إنْ لَمْ يَعْلَمْ، نَعَمْ الْعُقُوبَةُ الْحَدِّيَّةُ وَتَوَابِعُهَا فِي الدُّنْيَا وَالْعُقُوبَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ مَشْرُوطَةٌ بِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْوَصْفُ وَإِنْ كَانَ اقْتِضَاءَ التَّحْرِيمِ مَثَلًا مَشْرُوطٌ بِجَعْلِ الشَّارِعِ أَوْ بِالْحَالِ الَّتِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ فِيهَا مُقْتَضِيًا فَقَدْ وُجِدَ هَذَا الْجَعْلُ وَالْحَالُ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا هَذَا الْجَعْلُ. وَهُنَا أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ. أَحَدُهَا: الْوَصْفُ الثَّابِتُ الْمُقْتَضِي لِلْحُرْمَةِ فِي الْحَالِ الَّتِي اقْتَضَاهَا. وَالثَّانِي: عِلْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ الْمُقْتَضِي. وَالثَّالِثُ: حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمُ مَثَلًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا عَلِمَ مَا فِي الْفِعْلِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ حَكَمَ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ تَرْتِيبٌ ذَاتِيٌّ عَقْلِيٌّ لَا تَرْتِيبٌ وُجُودِيٌّ زَمَانِيٌّ كَتَرْتِيبِ الصِّفَةِ عَلَى الذَّاتِ وَتَرْتِيبِ الْعِلْمِ عَلَى الْحَيَاةِ وَالتَّرْتِيبِ الْحَاصِلِ فِي الْكَلَامِ الْمَوْجُودِ فِي آنٍ وَاحِدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْهَدُ الْعَقْلُ مُلَازَمَتَهُ تَرْتِيبًا اقْتَضَتْهُ الْحَقِيقَةُ وَكُنْهُ ذَلِكَ مَغِيبٌ عَنْ عِلْمِ الْخَلْقِ. وَالرَّابِعُ: الْمَحْكُومُ بِهِ الَّذِي هُوَ الْحُرْمَةُ الْقَائِمَةُ بِالْفِعْلِ سَوَاءٌ جُعِلَتْ صِفَةً عَيْنِيَّةً أَوْ جُعِلَتْ إضَافَةً مَحْضَةً أَوْ جُعِلَتْ عَيْنِيَّةً مُضَافَةً، فَالْمُوجِبُ لِلْعُقُوبَةِ هُوَ التَّحْرِيمُ، وَسَبَبُ التَّحْرِيمِ هُوَ عِلْمُ اللَّهِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ لَا نَفْسُ الْمَفْسَدَةِ حَتَّى لَا تُعَلَّلَ صِفَاتُ اللَّهِ الْقَدِيمَةِ بِالْأُمُورِ الْمُحْدَثَةِ كَمَا اعْتَقَدَهُ بَعْضُ مَنْ نَازَعَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، بَلْ يُضَافُ حِكْمَةُ التَّحْرِيمِ إلَى عِلَّةِ سَبَبِ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، فَهَذَا الْمُوجِبُ لِلْعُقُوبَةِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ ثَابِتٌ بِكُلِّ حَالٍ لَكِنْ بِشَرْطِ حُصُولِ مُوجِبِهِ وَهُوَ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَى

الْعِبَادِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالتَّحْرِيمُ الَّذِي هُوَ حُكْمُ اللَّهِ، وَالْحُرْمَةُ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الْفِعْلِ سَوَاءٌ جُعِلَتْ إضَافَةً أَوْ عَيْنِيَّةً، وَالْمُقْتَضِي لِلتَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ اللَّهِ. وَالْمُقْتَضِي لِلْحُرْمَةِ الَّتِي هِيَ الْوَصْفُ الَّذِي هُوَ مَعْلُومُ اللَّهِ حَتَّى يُضِيفَ الْحُكْمَ الَّذِي هُوَ وَصْفُ اللَّهِ إلَى عِلْمِهِ وَيُضِيفَ الْمَحْكُومَ بِهِ الَّذِي يُسَمَّى حُكْمًا أَيْضًا وَهُوَ صِفَةُ الْفِعْلِ إلَى مَعْلُومِهِ، فَهَذِهِ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ ثَابِتَةٌ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُكَلَّفُ بِالتَّحْرِيمِ، فَظَهَرَ مَعْنَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَذَوِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ بَاطِنًا لَا ظَاهِرًا، وَالْمِثْلُ هَذَا الْكَلَامُ بِعَيْنِهِ إلَى مَسْأَلَةِ اخْتِلَاطِ أُخْتِهِ بِأَجْنَبِيَّةٍ، وَالْمَيْتَةِ بِالْمُذَكَّى، وَكُلُّ مَوْضِعٍ اشْتَبَهَ فِيهِ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ عَلَى وَجْهٍ يَجِبُ اجْتِنَابُهُمَا جَمِيعًا. وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ اشْتِبَاهِ الْوَاجِبِ بِغَيْرِهِ كَمَنْ نَسِيَ إحْدَى صَلَاتَيْنِ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا. فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ يُطْلِقُونَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْعَيْنَانِ. وَتَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاتَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْمُحَرَّمُ أَحَدُهُمَا وَإِنْ وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمَا وَالْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فِعْلُهُمَا، ثُمَّ مِنْ الْأَوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يُنْكِرُ هَذَا الْقَوْلَ وَيَقُولُ انْتِفَاءُ التَّحْرِيمِ مَلْزُومُ انْتِفَاءِ الْحَرَجِ وَالْحَرَجُ هُنَا حَاصِلٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَكَيْفَ يَكُونُ الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ مُنْتَفِيَانِ؟ وَهَذَا الْإِنْكَارُ مُسْتَقِيمٌ مِمَّنْ يُنْكِرُ الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ كَمَا ذَهَبَتْ إلَيْهِ النَّافِيَةُ لِلْحُكْمِ الْبَاطِنِ الْجَاعِلَةُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا اقْتَضَاهُ اجْتِهَادُهُ وَأَنَّهُ يَتْبَعُ الِاعْتِقَادَ وَيَكُونُ مِنْ مُوجِبَاتِهِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ، وَهَذَا أَصْلٌ فَاسِدٌ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْقُرُونُ الْمَاضِيَةُ الْفَاضِلَةُ وَتَابِعُوهُمْ، وَأَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ الْبَاطِنَيْنِ فَمَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ الْحَرَامُ أَحَدُهُمَا وَالْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا يَعْنِي بِهِ الْحَرَامَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَحَدُهُمَا وَالْوَاجِبَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَحَدُهُمَا. كَمَا إذَا اشْتَبَهَ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ فَإِنَّ النَّجِسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَحَدُهُمَا وَكَمَا أَنَّ الْمَيِّتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَحَدُهُمَا وَالْأُخْتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ إنَّمَا حَرُمَ ظَاهِرًا فَقَطْ، نَعَمْ يُبَالِغُ هَذَا الْقَائِلُ فَيَقُولُ لَا أَصِفُ الْمُشْتَبِهَةَ بِتَحْرِيمٍ أَلْبَتَّةَ وَإِنْ أَوْجَبْتُ الْإِمْسَاكَ عَنْهَا كَمَا لَا أَصِفُهَا بِنَجَاسَةٍ وَلَا بُنُوَّةٍ وَلَا مَوْتٍ.

فَهُنَا ثَلَاثُ مَنَازِلَ طَرَفَانِ وَوَسَطٌ، إمَّا أَنْ يُقَالَ هُمَا جَمِيعًا حَرَامَانَ مُطْلَقًا وَاجِبَانِ مُطْلَقًا، أَوْ يُقَالَ لَيْسَ الْوَاجِبُ وَالْمُحَرَّمُ إلَّا أَحَدُهُمَا، أَوْ يُقَالَ الْوَاجِبُ وَالْمُحَرَّمُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ مُحَرَّمٌ أَوْ وَاجِبٌ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا. عَلَى أَنَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَنْ وَصَفَ بِالتَّحْرِيمِ إحْدَاهُمَا فَقَطْ مُطْلَقًا مَعَ إيجَابِهِ الْكَفَّ عَنْهُمَا أَقْرَبُ مِمَّنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ خَصَّ بِالتَّحْرِيمِ إحْدَاهُمَا. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ تَنَاوَلَهُمَا مَعًا لَمْ يُعَاقَبْ عُقُوبَةَ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمَيْنِ بَلْ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا وَاحِدًا. وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ الصَّلَاةَ الْمُشْتَبِهَةَ إنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَالْمَسْأَلَةُ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَظُنُّ أَنَّهَا مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ مَسْأَلَةِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ هَلْ يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ فَنَفْيُ الْوُجُوبِ عَنْ إحْدَاهُمَا هُنَا لَيْسَ كَنَفْيِ الْوُجُوبِ عَنْ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُنَا عَدَمُ عِلْمِهِ وَسَبَبَهُ هُنَاكَ عَجْزُهُ وَعَدَمُ الْعِلْمِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَحْكَامِ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا عِنْدَ عَامَّةِ النَّاسِ. بِخِلَافِ الْعَجْزِ فَإِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِيهَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَمَنْ اسْتَقْرَأَ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ اسْتَبَانَ لَهُ هَذَا، وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُتَنَاوِلَ لِأَحَدِهِمَا يُعَاقَبُ عَلَى الْمُخَاطَرَةِ وَالْعَمَلِ بِالْجَهْلِ بِالْمُقْتَضِي لِلْعُقُوبَةِ بِهِ مَعْنًى فِيهِ لَا مَعْنَى فِي الْمَحَلِّ بِخِلَافِ الْمُتَنَاوِلِ لِلْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ لِمَعْنًى فِي الْمَيْتَةِ وَلَيْسَتْ الْعُقُوبَةُ وَالْأَحْكَامُ عَلَى ذَلِكَ الْجِنْسِ مِثْلُ هَذَا. فَإِنَّهُ لَوْ خَاطَرَ وَوَطِئَ مَنْ لَا يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ وَكَانَتْ إيَّاهَا لَمْ يُحَدَّ وَإِنْ أَثِمَ. وَكَذَلِكَ مَنْ شَرِبَ مَا يَعْتَقِدُهُ خَمْرًا فَلَمْ يَكُنْهُ لَمْ يُحَدَّ وَإِنْ كَانَ آثِمًا، وَكَذَلِكَ مَنْ حَكَمَ بِجَهْلٍ فَصَادَفَ الْحَقَّ هَلْ يَبْتَدِئُ الْحُكْمُ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ أَوْ يَنْفُذُ حُكْمُهُ؟ لِلْأَصْحَابِ فِيهِ وَجْهَانِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى تَأْثِيمِهِ، وَمَنْ بَاعَ وَاشْتَرَى قَابِضًا مُقْبِضًا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَالِكٌ وَلَا وَكِيلٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَارِثٌ أَوْ وَكِيلٌ هَلْ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَعَ كَوْنِهِ كَانَ آثِمًا وَلَوْ فَعَلَهُ الْوَكِيلُ بَعْدَ الْعَزْلِ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ لَمْ يَأْثَمْ، وَفِي صِحَّةِ التَّصَرُّفِ رِوَايَتَانِ وَقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلنَّاسِ، وَكَذَا عَلَى قِيَاسِ هَذَا لَوْ عَقَدَ عَلَى الْمُشْتَبِهَةِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا الْأَجْنَبِيَّةُ أَوْ الْمُذَكَّى هَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ إذْ الْجَهْلُ بِالْمَحَلِّيَّةِ كَالْجَهْلِ بِالْأَهْلِيَّةِ. فَإِنْ قُلْت: أَنْتُمْ تَخْتَارُونَ فِيمَا كَانَ مُحَرَّمًا وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُكَلَّفُ تَحْرِيمَهُ أَنَّهُ عَفْوٌ فِي حَقِّهِ لَا مُبَاحٌ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا فَكَيْفَ تَقُولُونَ فِيمَنْ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ وَلَمْ يَكُنْ حَرَامًا أَنَّهُ حَرَامٌ ظَاهِرًا أَوْ حَرَامٌ مُطْلَقًا؟ .

قُلْت: لِأَنَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا لَا يُبَاحُ إلَّا إذَا وُجِدَ سَبَبُ حِلِّهِ، وَجَهْلُ الْمُكَلَّفِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْحِلِّ بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعُذْرِ، وَأَمَّا مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ حِلًّا مُطْلَقًا فَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ أَسْبَابُ تَحْرِيمِهِ، وَجَهْلُ الْمُكَلَّفِ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلتَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِانْتِقَاءِ الضَّرَرِ الَّذِي انْعَقَدَ بِسَبَبِهِ أَوْ خِيفَ وُجُودُهُ مُنَاسِبٌ لِلْمَنْعِ مِنْ الْإِقْدَامِ شَرْعًا وَعَقْلًا وَعُرْفًا، فَإِنَّ الْمَرِيضَ يُمْنَعُ مَا يُخَافُ ضَرَرُهُ. وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْجَهْلَ وَصْفُ نَقْصٍ فَتَرَتُّبُ التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ مُلَائِمٌ، أَمَّا تَرَتُّبُ الْحِلِّ عَلَيْهِ فَغَيْرُ مُلَائِمٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَكُونُ سَبَبًا لِشَرْعِ التَّحْرِيمِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] وَيَكُونُ سَبَبًا لِلِابْتِلَاءِ بِوُجُودِ الْمُحَرَّمِ وَالْحَاجَةِ إلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قِصَّةُ أَصْحَابِ السَّبْتِ، وَلَا تَكُونُ الْمَعْصِيَةُ سَبَبًا لِلْحِلِّ مَعَ أَنِّي قَدْ بَيَّنْت أَنِّي إذَا قُلْت حَرَّمْنَا عَلَيْك فَمَعْنَاهُ حَرُمَ عَلَيْك الْمُخَاطَرَةُ وَالْإِقْدَامُ بِلَا عِلْمٍ، لَا أَنَّ نَفْسَ الْعَيْنِ مُحَرَّمَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ. كَمَا لَوْ اشْتَبَهَ عَلَى الْمَرِيضِ الدَّاءُ بِالدَّوَاءِ فَإِنَّ أَهْلَهُ يَمْنَعُونَهُ مِنْهُمَا لَا لِأَنَّهُمَا دَاءَانِ مُضِرَّانِ بَلْ لِمَا فِي الْمُخَاطَرَةِ مِنْ مَفْسَدَةِ مُوَاقَعَةِ الضَّرَرِ، وَهَذَا الْوَصْفُ يَشْمَلُ الْعَيْنَيْنِ جَمِيعًا بِحَيْثُ لَوْ خَاطَرَ وَتَنَاوَلَ إحْدَاهُمَا فَكَانَتْ هِيَ الْحُرْمَةَ لَكَانَ عَلَيْهِ عُقُوبَةُ الْمُخَاطَرَةِ وَعُقُوبَةُ آكِلِ الْمَيْتَةِ وَلَوْ خَاطَرَ فَصَادَفَتْ مُخَاطَرَتُهُ الْمُبَاحَةَ لَمَا كَانَ عَلَيْهِ إلَّا عُقُوبَةُ الْمُخَاطَرَةِ فَقَطْ. لَكِنْ قَدْ يُقَالُ إذَا صَادَفَ الْمَيْتَةَ فَإِنَّ حُرْمَةَ الْمُخَاطَرَةِ خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ فِي الْمَيْتَةِ فَإِذَا صَادَفَ الْمَيْتَةَ فَهُوَ الْمَحْذُورُ فَلَا يَبْقَى لِلْمُخَاطَرَةِ حُكْمٌ إذْ لَا حُكْمَ لِلْخَوْفِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَخُوفِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بَلْ هُمَا ذَنْبَانِ لَهُمَا مَفْسَدَتَانِ فَإِنَّ الْمُخَاطَرَةَ تَفْتَحُ جِنْسَيْنِ مِنْ الشَّرِّ لَا تَخْتَصُّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّمَا يَحْسُنُ إطْلَاقُ الْإِنْكَارِ بِأَنَّ الْمُحَرَّمَ أَحَدُهُمَا مِمَّنْ يَقُولُ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ نَصِيبٌ بِنَاءً عَلَى مَا قَدَّمْته مِنْ الشُّبْهَةِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي تَنْحَلُّ بِفَهْمِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَغَيْرِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَيْسَ يَعْتَقِدُ فِي الْبَاطِنِ حُكْمًا غَيْرَ الظَّاهِرِ، وَلَكِنْ مَنْ وَافَقَهُ فِي هَذَا الْإِنْكَارِ مِنْ الْمُوَحِّدِينَ لِلصَّوَابِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَهْتَدُوا لِبَاطِنِ مَأْخَذِهِ الَّذِي يُبْطِلُ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ. وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا كَوْنَ الْمُحَرَّمَةِ وَاحِدَةً بَاطِنًا وَظَاهِرًا. فَهَذَا قَرِيبٌ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ وَلَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَقَامُ لِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا وَتَلْخِيصُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ إنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ ثَابِتًا لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا وَبَيْنَ مَنْ يُثْبِتُهُ بَاطِنًا وَأَنَّ أُولَئِكَ الْأَقَلِّينَ يَقُولُونَ: الْبَلَاغُ شَرْطٌ فِي التَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأُمُورِ. فَعَدَمُهُ يَنْفِي

نَفْسَ التَّحْرِيمِ وَالْأَكْثَرِينَ يَقُولُونَ الْبَلَاغُ شَرْطٌ فِي مُوجَبِ التَّحْرِيمِ وَمُقْتَضَاهُ لَا فِي نَفْسِهِ فَعَدَمُهُ يَنْفِي أَثَرَهُ لَا عَيْنَهُ، وَيُسَمَّى نَظِيرُ الْأَوَّلِ مَانِعَ السَّبَبِ. وَنَظِيرُ الثَّانِي مَانِعَ الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ السَّهْمِ الْمُفَرَّقِ تَارَةً يُنْكَرُ فِي نَفْسِهِ وَتَارَةً لَا يُصَادِفُ غَرَضًا يَخْرِقُهُ أَوْ يَكُونُ الْغَرَضُ مُصَفَّحًا بِحَدِيدٍ. وَإِذَا تَبَيَّنَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ بَاطِنًا لَا ظَاهِرًا أَوْ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا. فَخُذْ فِي النَّظَرِ الثَّانِيَ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْمَنْكُوحَةَ أَوْ الْمَبِيعَ الَّذِي هُوَ حَرَامٌ فِي الْبَاطِنِ. أَوْ انْعَقَدَ بِسَبَبِ تَحْرِيمِهِ فِي الْبَاطِنِ وَالْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَنْكِحُ لَمْ يَعْلَمَا ذَلِكَ فَإِنْ هَذَا وَطِئَ الْمَرْأَةَ أَوْ أَكَلَ هَذَا الطَّعَامَ لَمْ يُعَاقَبَا عَلَى ذَلِكَ. وَهَلْ يُقَالُ هُوَ مُبَاحٌ ظَاهِرًا أَوْ يُقَالُ لَيْسَ بِمُبَاحٍ بَلْ هُوَ عَفْوٌ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ هَذَا قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ مَنْ أَثْبَتَ التَّحْرِيمَ الْبَاطِنَ وَمَنْ نَفَاهُ. وَإِنْ كَانُوا يُطْلِقُونَ تَارَةً عَلَيْهِ أَنَّهُ حَلَالٌ فِي الظَّاهِرِ وَمُبَاحٌ، فَإِنَّهُمْ يَتَنَازَعُونَ هَلْ الْحِلُّ هُنَا بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِيهِ كَمَا أَذِنَ فِي لُحُومِ الْأَنْعَامِ أَوْ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ كَمَا عَفَا عَمَّا لَمْ يَنْطِقْ بِتَحْرِيمِهِ وَلَا تَحْلِيلِهِ. وَكَمَا عَفَا عَنْ فِعْلِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَعَنْ فِعْلِ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الرِّسَالَةُ. وَإِنَّمَا يَقَعُ النِّزَاعُ فِي النَّوْعِ مُطْلَقًا وَهُوَ أَنْ يُقَالَ مَا لَمْ يَظْهَرْ تَحْرِيمُهُ إنْ تَعَيَّنَ عَمَلُ وَاحِدٍ قَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ حَرَامًا فِي الْبَاطِنِ فَأَمَّا مَا قَامَ دَلِيلُ حِلِّهِ وَلَمْ يُعْلَمْ خِلَافَهُ فَلَا نَقُولُ إلَّا أَنَّهُ حَلَالٌ. ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَحُكْمُ قَوْلِنَا حُكْمُ فِعْلِنَا فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ نَصَبَ دَلِيلَ الْحِلِّ وَهُوَ الْعَقْدُ وَكَلَامُ الْبَائِعِ وَالزَّوْجَةِ الَّذِي سَوَّغَ الشَّارِعُ تَصْدِيقَهُمَا. وَخَطَأُ الدَّلِيلِ لَا يَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ إذَا كَانَ الشَّارِعُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي اتِّبَاعِهِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ هَذَا مِمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يُؤَاخِذْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْخَطَإِ الَّذِي عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. وَهَكَذَا يُقَالُ فِي كُلِّ مَنْ اسْتَحَلَّ شَيْئًا لَمْ يَعْلِمْ اللَّهَ حَرَّمَهُ. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَمَّا لَمْ يَعْلَمْ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلتَّحْرِيمِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ خِطَابُ الشَّارِعِ. كِلَاهُمَا عَادِمٌ لِلْعِلْمِ بِمَا يَدُلُّ لَهُ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَمِثْلُ هَذَا قَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَهُ إبَاحَةً شَرْعِيَّةً بِمَعْنَى أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، نَعَمْ، قَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا اُسْتُبِيحَ بِأَمَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَاخْتَلَفَتْ، وَبَيْنَ مَا فُعِلَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ الشَّرْعِيِّ. كَمَا فَرَّقَ قَوْمٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي قَتْلِ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ مِنْ الْمُتَمَسِّكِينَ بِشَرِيعَةٍ مَنْسُوخَةٍ. فَأَوْجَبُوا دِيَتَهُ وَغَيْرِ الْمُتَمَسِّكِينَ فَلَمْ يُوجِبُوا دِيَتَهُ. وَكَمَا قَدْ يُفَرِّقُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ

بَيْنَ الْمُسْتَحِلِّ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ. فَيَقُولُونَ: إنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ حَتَّى يَبْلُغَهُ النَّاسِخُ. وَيُثْبِتُونَ حُكْمَ التَّحْرِيمِ وَالْإِيجَابَ الْمُبْتَدَأَ فِي حَقِّهِ قَبْلَ بُلُوغِ الْخِطَابِ. وَلِأَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهُمَا: لَا يَثْبُتُ حُكْمُ تَحْرِيمٍ وَلَا إيجَابٍ لَا مُبْتَدَأٍ وَلَا نَاسِخٍ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَالثَّانِي: يَثْبُتُ حُكْمُهَا قَبْلَ الْعِلْمِ وَالتَّمْكِينِ مِنْهُ لَا بِمَعْنَى التَّأْثِيمِ لَكِنْ مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ إمَّا بِإِعَادَةٍ أَوْ نَزْعِ مِلْكٍ، وَالثَّالِثُ: يَثْبُتُ الْمُبْتَدَأُ وَلَا يَثْبُتُ النَّاسِخُ. وَلَيْسَ كَلَامُنَا هُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ عَدَمَ الْإِثْمِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ نَوْعًا وَشَخْصًا فِي الْأَحْكَامِ الْمُعَيَّنَةِ شَخْصًا مِثْلُ اسْتِحْلَالِ هَذَا الْفَرْجِ وَهَذَا الْمَالِ بِبَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ مَعَ الِانْتِفَاءِ فِي الْبَاطِنِ فَقَطْ. هَلْ لِقِيَامِ الْإِبَاحَةِ الشَّرْعِيَّةِ ظَاهِرًا أَوْ لِعَدَمِ التَّحْرِيمِ الشَّرْعِيِّ ظَاهِرًا. فَإِنَّ بَيْنَ ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ وَثُبُوتِ التَّحْلِيلِ الشَّرْعِيِّينَ مَنْزِلَةُ الْعَفْوِ، وَهُوَ فِي كُلِّ فِعْلٍ لَا تَكْلِيفَ فِيهِ أَصْلًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة: 101] ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. «إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى النَّاسِ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عَنْهُ» . وَيُفَرَّقُ بَيْنَ النَّوْعِ الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ نَاسِخُهُ وَبَيْنَ الشَّخْصِ الَّذِي اُعْتُقِدَ انْدِرَاجُهُ فِي الْقِسْمِ الْجَائِزِ، فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَهُوَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي نَفْسِ هَذَا الْحُكْمِ حَتَّى يَأْتِيَ النَّاسِخُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ خَطَأٌ أَصْلًا لَا مَعْذُورٌ هُوَ فِيهِ وَلَا غَيْرُ مَعْذُورٍ هُوَ فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا الْبَائِعَ صَادِقٌ أَوْ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ خَلِيَّةٌ فَهَذَا اعْتِقَادُهُ فِي أَمْرٍ عَيْنِيٍّ، وَهُوَ مُخْطِئٌ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ اللَّهَ أَبَاحَ هَذَا الِاعْتِقَادَ الْمُعَيَّنَ وَالْعَمَلَ بِهِ، بَلْ يُقَالَ إنَّ اللَّهَ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ الْمُعَيَّنِ، وَلِهَذَا فَرَّقَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ بَيْنَ مَنْ عَمِلَ بِنَصٍّ قَدْ جَاءَ فِيهِ نَصٌّ آخَرُ فَمُنِعَ أَنْ يُسَمَّى مُخْطِئًا. وَمَنْ عَمِلَ بِاجْتِهَادٍ فَقَالَ فِيهِ لَا يَدْرِي أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَ. إذَا كَانَ مُتَّبِعَ النَّصِّ قَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ هَذَا النَّصِّ الْمُعَيَّنِ، وَمُتَّبِعُ

الِاجْتِهَادِ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ هَذَا الِاجْتِهَادِ الْمُعَيَّنِ وَيَظْهَرُ هَذَا عَلَى دِقَّتِهِ بِمِثَالٍ مَشْهُودٍ وَهُوَ صَلَاةُ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَلَى طَهَارَةٍ، فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الصَّلَاةُ لَيْسَتْ مَأْمُورًا بِهَا، وَلَكِنْ هُوَ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهَا وَلَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ وَهَذَا أَصَحُّ. وَلَوْ أَدَّى مَا أُمِرَ بِهِ كَمَا أَمَرَهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْقَضَاءِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ إذَا اعْتَقَدْت أَنَّك عَلَى طَهَارَةٍ فَصَلِّ. وَإِنَّمَا قَالَ {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» ، وَقَالَ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ» . وَلَكِنْ لَمْ يُكَلِّفْهُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى طَهَارَةٍ. فَإِنَّ هَذَا يَشُقُّ بَلْ إذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَلَى طَهَارَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَنْهَاهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ. فَإِنْ اسْتَمَرَّ بِهِ هَذَا الْخَطَأُ غَفَرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ لَكِنْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَهَّدْ تَرْكَ الْمَأْمُورِ بِهِ بَلْ قَصَدَ فِعْلَهُ وَفِعْلَ مَا اعْتَقَدَهُ مُجْزِيًا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِدُونِ مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ وَاسْتَمَرَّ بِهِ النِّسْيَانُ، وَمَنْ اعْتَقَدَ فِيمَا يَفْعَلُهُ أَنَّهُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ نَقُلْ: إنَّهُ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهِ لَكِنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ نَقُولُ لَمْ يُنْهَ عَنْ الْإِتْيَانِ بِهِ أَيْ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ بِمِثْلِ الْأَمْرِ بِفِعْلِ هَذَا الْمُعَيَّنِ فَإِنَّ التَّعْيِينَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْفِعْلِ الْمُمَثَّلِ بِهِ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهَا. بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهَا. وَالْأَمْرُ إنَّمَا وَقَعَ بِحَقِيقَةٍ مُطْلَقَةٍ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ دَرَاهِمُ فَوَفَّاهُ مَا يَعْتَقِدُ جَيِّدَةً فَظَهَرَتْ رَدِيئَةً. فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ نَقْدٌ مُطْلَقٌ وَكَوْنُهُ هَذَا النَّقْدَ أَوْ هَذَا النَّقْدَ تَعْيِينَاتٌ، يَتَأَدَّى بِهَا الْوَاجِبُ لَا أَنَّ نَفْسَ ذَلِكَ التَّعْيِينِ وَاجِبٌ فَالْوَاجِبُ تَأْدِيَةُ ذَلِكَ الْمُطْلَقِ، وَالتَّعْيِينَاتُ غَيْرُ مُنْهًى عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا، فَإِذَا قَضَاهُ دَرَاهِمَ فَعَلَ فِيهَا الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ الْمُطْلَقُ، وَاقْتَرَنَ بِهِ تَعْيِينٌ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ فَلَا يَضُرُّهُ، كَذَلِكَ الْمُصَلِّي أُمِرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِطَهَارَةٍ، فَهَذِهِ الصَّلَاةُ الْمُعَيَّنَةُ لَمْ يُؤْمَرْ بِعَيْنِهَا، بَلْ لَمْ يُنْهَ عَنْ عَيْنِهَا وَفِي عَيْنِهَا الْمُطْلَقُ الْمَأْمُورُ بِهِ. فَاقْتَرَنَ مَا أُمِرَ بِهِ بِمَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ، وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَلَى طَهَارَةٍ فَالشَّارِعُ لَا يَنْهَاهُ عَنْ أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَرْضَ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ لَا أَنَّهُ يَأْمُرُهُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَدَّاهَا بِطَهَارَةٍ غَيْرِ هَذِهِ جَازَ، فَإِذَا أَدَّاهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُعَيَّنَ لَمْ يَتَضَمَّنْ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَلَا تَضَمَّنَ أَيْضًا الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، فَتَدَبَّرْ هَذَا الْمَقَامَ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَجُولُ فِي الشَّرِيعَةِ وَغَيْرِهَا أُصُولًا وَفُرُوعًا، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْهُ بَلَغَتْ بِهِ الشُّبُهَاتُ الْكَلَامِيَّةُ الَّتِي لَمْ يَصْحَبْهَا نُورُ

الْهِدَايَةِ، إلَّا أَنْ يَلْجَأَ إلَى رُكْنِ الِاتِّبَاعِ الصِّرْفِ، غَيْرَ جَائِلٍ فِي أُخْتَيْهِ وَهُوَ لَعَمْرُ اللَّهِ الرُّكْنُ الشَّدِيدُ وَالْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، لَكِنْ {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] ، وَمَنْ حَقَّقَهُ انْجَلَتْ عَنْهُ الشُّبُهَاتُ الَّتِي عَدَّهَا قَاطِعَةً مَنْ خَالَفَ السَّابِقِينَ فِي تَعْمِيمِ التَّصْوِيبِ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ وَرَدَّ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى إلَى ظُنُونِ الْمُسْتَدِلِّينَ، وَاعْتِقَادَاتِ الْمَخْلُوقِينَ. وَأَشْكَلَ مِنْ هَذَا إذَا أَوْجَبَ فِعْلَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ لِانْدِرَاجِهِ فِي قَضِيَّةٍ نَوْعِيَّةٍ، لَا لِنَفْسٍ بِعَيْنِهِ كَالْحَاكِمِ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ، يَعْتَقِدُ عَدْلَهُمَا فَيَقُولُ الْكَلَامِيُّ الظَّاهِرِيُّ الزَّاعِمُ التَّحْقِيقَ، الْحَاكِمُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَقْبَلَ شَهَادَةَ هَذَيْنِ سَوَاءٌ كَانَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ صَادِقَيْنِ أَوْ كَاذِبَيْنِ، وَإِذَا فَعَلَ هَذَا فَهُوَ فَاعِلٌ لِحُكْمِ اللَّهِ، وَإِنْ أَسْلَمَ الْمَالَ إلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ فِي الْبَاطِنِ، وَهَذَا غَلَطٌ، فَهَلْ رَأَيْتَ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْخَطَإِ هَذَا لَا يَكُونُ مِنْ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، لَكِنَّهُ لَا يَنْهَى عَنْ الْخَطَإِ؛ لِأَنَّ تَكْلِيفَ الْعَبْدِ اجْتِنَابَ الْخَطَإِ يَشُقُّ عَلَى الْخَلْقِ، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . بَلْ قَدْ يَعْجِزُ الْخَلْقُ عَنْ اجْتِنَابِ الْخَطَإِ فَعَفَا عَنْ الْخَطَإِ كَمَا نَطَقَ بِهِ فِي كِتَابِهِ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي دَعَا بِهِ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ ". وَثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ قَدْ فَعَلْت وَهُوَ قَوْلُهُ: {لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] . فَإِنَّهُ إنَّمَا رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْخَطَإِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَمَرَ الْحَاكِمَ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ الْعَدْلِ الْمَرْضِيِّ. كَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ عَدْلٌ لَمْ يَنْهَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِعَيْنِهِ، فَيَجْتَمِعُ الْأَمْرُ بِالْحُكْمِ بِكُلِّ عَدْلٍ، وَعَدَمُ النَّهْيِ عَنْ هَذَا الْمُعَيَّنِ فَيَحْكُمُ بِهِ بِنَاءً عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الْمَأْمُورِ بِهِ، لَا عَلَى التَّعْيِينِ الَّذِي لَمْ يُنْهَ عَنْهُ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَدْلٍ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَكَانَ مَعْذُورًا فِي أَنَّهُ مَا فَعَلَهُ فَهُوَ لَا يُؤَاخِذُهُ وَيُثِيبُهُ ثَوَابَ مَنْ اجْتَهَدَ فِي فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، لَا ثَوَابَ مَنْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَلِهَذَا يَنْقُضُ حُكْمَهُ وَيُوجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانَ، وَلَوْ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ كَمَا أُمِرَ بِهِ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا وَلَا ضَمَانًا. يُوَضِّحُ هَذَا: أَنَّ اعْتِقَادَهُ أَنَّ هَذَا عَدْلٌ هُوَ طَرِيقٌ يُؤَدِّي بِهِ الْمَأْمُورَ بِهِ لَا يُمْكِنُهُ غَيْرُهُ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا مَالٌ فِي كِيسٍ. فَأَدَّاهُ وَقَدْ وَجَبَ أَدَاءُ عَيْنِهِ لَا لِوُجُوبِ عَيْنِهِ لَكِنْ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ فَإِذَا تَبَيَّنَ زَيْفًا، تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ

يَكُنْ طَرِيقًا لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ. كَذَلِكَ اعْتِقَادُ الْحَاكِمِ وَالْمُفْتِي وَغَيْرِهِمَا لَيْسَ هُوَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَلَا دَاخِلًا فِي نَوْعِ الْمَأْمُورِ بِهِ إذَا كَانَ خَطَأً. فَإِنَّ اللَّهَ مَا أَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِعَيْنِ هَذَا الِاعْتِقَادِ بَلْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْبَلَ شَهَادَةَ الْعَدْلِ، وَلَا طَرِيقَ لَهُ فِي أَدَاءِ هَذَا الْأَمْرِ إلَّا بِاعْتِقَادِهِ، فَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ الْعَمَلِ بِالِاعْتِقَادِ الَّذِي يُؤَدِّي بِهِ الْمَأْمُورَ بِهِ، كَمَا لَا يُنْهَى الْقَاضِي عَنْ أَدَاءِ مَا فِي الْكِيسِ، وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مُطْلَقٌ لَيْسَ فِيهِ نَقْصٌ. كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمُطْلَقِ. فَإِنَّ دَيْنَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الْعَبْدِ، وَالدُّيُونُ الثَّابِتَةُ فِي الذِّمَمِ لَا تَثْبُتُ إلَّا مُطْلَقَةً. لَكِنَّهَا إذَا أُدِّيَتْ فَلَا تُؤَدَّى إلَّا مُعَيَّنَةً مُشَخَّصَةً، فَإِنَّ مُعْتِقَ الرَّقَبَةِ لَا يُعْتِقُ إلَّا رَقَبَةً مُعَيَّنَةً، وَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي لَا يُؤَدِّي إلَّا صَلَاةً مُعَيَّنَةً، وَهُوَ مُمْتَثِلٌ بِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ مَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَقَدْ يُقَالُ لِلْمُعَيَّنِ هَذَا هُوَ الْفَرْضُ، وَيُقَالُ لِلْمَالِ الْمُوَفَّى هَذَا حَقُّك الَّذِي كَانَ عَلَيَّ لِمَا بَيْنَ الصُّوَرِ الْمَعْقُولَةِ وَالْحَقِيقَةِ الْمُوجَدَةِ مِنْ الِاتِّحَادِ وَالْمُطَابَقَةِ. وَحَيْثُ كَانَ الْمَوْجُودُ فِي الْخَارِجِ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنْ مِلْكِ الْمِثْلِ الْمَعْقُولَةِ الْمُطْلَقَةِ، كَمَا يُقَالُ فَعَلْتَ مَا كَانَ فِي نَفْسِي وَحَصَلَ الْأَمْرُ الَّذِي كَانَ فِي ذِهْنِي وَنَحْوِ ذَلِكَ. ثُمَّ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ الَّذِي يُؤَدِّي بِهِ الْوَاجِبَ قَدْ يَقْدِرُ الْمُكَلَّفُ عَلَى غَيْرِهِ. وَقَدْ لَا يَقْدِرُ فَالْأَوَّلُ: مِثْلُ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى عِتْقِ عِدَّةِ رِقَابٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ بَدَلًا عَنْ الْأُخْرَى. وَكَمَا يَقْدِرُ الْمُتَوَضِّئُ عَلَى الصَّلَاةِ بِهَذَا الْوُضُوءِ وَبِوُضُوءٍ آخَرَ. وَيَقْدِرُ الْمَأْمُومُ عَلَى الصَّلَاةِ خَلْفَ هَذَا الْإِمَامِ وَخَلْفَ إمَامٍ آخَرَ. فَيَكُونُ انْتِقَالُهُ مِنْ مُعَيَّنٍ إلَى مُعَيَّنٍ مُفَوَّضًا إلَى اخْتِيَارِهِ. لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُنْهَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الْمُعَيَّنَيْنِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ فِيهِ بَيْنَ أَنْوَاعٍ كَالْكَفَّارَةِ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ إذَا تَعَيَّنَ بِالْأَدَاءِ، فَإِنَّ انْتِقَالَهُ فِي وُجُوبِ التَّخْيِيرِ مِنْ نَوْعٍ إلَى نَوْعٍ هُوَ بِحُكْمِ الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنَّ الْخِطَابَ الشَّرْعِيَّ سَمَّى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ، وَانْتِقَالَهُ فِي كُلِّ وَاجِبٍ مِنْ عَيْنٍ إلَى عَيْنٍ هُوَ بِحُكْمِ الْمَشِيئَةِ الَّتِي لَا نَهْيَ فِيهَا، وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا أُذِنَ فِيهِ وَبَيْنَ مَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ. وَالثَّانِي: مِثْلُ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَ الْمُكَلَّفِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُحَصِّلَ إلَّا هَذِهِ الرَّقَبَةَ الْمُعَيَّنَةَ، وَبِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَلَا طَهُورَ إلَّا مَاءٌ فِي مَحَلٍّ، فَهُنَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِعْلُ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ. لَا؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنَ. فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُوجِبْ إلَّا رَقَبَةً مُطْلَقَةً وَمَاءً مُطْلَقًا لَكِنْ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِثَالِ إلَّا بِهَذَا الْمُعَيَّنِ فَصَارَ يَقِينُهُ لِعَجْزِ الْعَبْدِ عَنْ غَيْرِهِ. لَا لِاقْتِضَاءِ الشَّارِعِ لَهُ. فَلَوْ كَانَتْ

الرَّقَبَةُ كَافِرَةً، أَوْ الْمَاءُ نَجِسًا وَهُوَ لَمْ يَعْلَمْ، لَمْ يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ مَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ قَطُّ، وَلَا هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ، وَلَكِنْ مَا أَمَرَهُ بِغَيْرِهِ مِنْ الرِّقَابِ وَالْمِيَاهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِعَجْزِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَلَا أَمَرَهُ بِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْمَأْمُورُ بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَأْمُورًا فِي الْبَاطِنِ، بِالِانْتِقَالِ إلَى الْبَدَلِ الَّذِي هُوَ التُّرَابُ أَوْ الصِّيَامُ، لَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ. فَإِذَا قَالَ صَاحِبُ هَذَا الِاعْتِقَادِ الْمُعَيَّنِ: بِأَنَّ هَذَا طَهُورٌ أَتَى مِنْ الشَّارِعِ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ لَيْسَ بِمَأْمُورٍ بِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. قُلْنَا: أَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَعَلَيْك أَنْ تَفْعَلَهُ وَأَنْتَ مَأْمُورٌ بِهِ أَيْضًا. بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ فَقَدْ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ. فَإِنْ قَالَ: أَنَا مُكَلَّفٌ بِالْبَاطِنِ، قُلْنَا: إنْ أَرَدْت بِالتَّكْلِيفِ أَنَّك تُذَمُّ وَتُعَاقَبُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْبَاطِنِ فَلَسْت بِمُكَلَّفٍ بِهِ. وَإِنْ أَرَدْت أَنَّ مَا فِي الْبَاطِنِ هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْك وَتَرْكُهُ يَقْتَضِي ذَمَّك وَعِقَابَك، وَلَكِنَّ انْتِفَاءَ مُقْتَضَاهُ لِوُجُودِ عُذْرِك وَهُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ، فَنَعَمْ أَنْتَ مُكَلَّفٌ بِهِ، وَعَادَ الْأَمْرُ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ انْتِفَاءِ اللَّوْمِ؛ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ لَا لِعَدَمِ مُقْتَضِيهِ، وَأَنَّ الْخِلَافَ يَعُودُ إلَى اعْتِبَارٍ عَقْلِيٍّ وَإِطْلَاقٍ لَفْظِيٍّ، فَيَجُوزُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ النَّجِسَ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا هُوَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِنَجَاسَتِهِ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ فِي الْبَاطِنِ فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا فِي الْبَاطِنِ. الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ تَأَدَّى بِهِ فَوُجُوبُ التَّعَيُّنِ مِنْ بَابِ وُجُوبِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ، وَلَوَازِمُ الْوَاجِبِ وَمُقَدِّمَاتُهُ لَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ وَاجِبَةً وُجُوبًا شَرْعِيًّا مَقْصُودًا لِلْأَمْرِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ لَا يَطْلُبُهَا وَلَا يَقْصِدُهَا بِحَالٍ، وَقَدْ لَا يَشْعُرُ بِهَا إذَا كَانَ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ وَالْمَأْمُورُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا، فَإِنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ صَوْمِ النَّهَارِ لَا عَلَى تَرْكِ إمْسَاكِ طَرَفَيْهِ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الْحَجِّ، كَمَا يُعَاقَبُ ذُو الْمَسَافَةِ الْقَرِيبَةِ أَوْ أَقَلَّ، وَلَا يُعَاقَبُ أَكْثَرُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَرَكَ قَطْعَ تِلْكَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ. نَعَمْ يُثَابُ أَكْثَرُ وَقَدْ يُثَابُ ثَوَابَ الْوَاجِبِ، لَكِنْ الْوُجُوبُ الْعَقْلِيُّ الضَّرُورِيُّ،

فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ الْأَمْرِيِّ الْقَصْدِيِّ، وَبَيْنَ الْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ الْوُجُودِيِّ الْقَدَرِيِّ. فَإِنَّ الْمُسَبِّبَاتِ يَجِبُ وُجُودُهَا عِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يُحْدِثُهَا حِينَئِذٍ وَيَشَاءُ وُجُودَهَا لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا شَرْعًا وَدِينًا، وَلَا يُنَازِعُ أَحَدٌ فِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ كَالْقَتْلِ. لَيْسَ أَمْرًا بِمُسَبِّبَاتِهَا الَّذِي هُوَ الْإِزْهَاقُ، وَكَذَلِكَ الْأَسْبَابُ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي وُجُودِ الْمُسَبِّبَاتِ، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُحْدِثُ الْمُسَبِّبَاتِ وَيَشَاؤُهَا إلَّا بِوُجُودِ الْأَسْبَابِ، لَا بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْأَسْبَابِ شَرْعًا وَدِينًا، فَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ مِمَّا هُوَ سَابِقٌ لَهُ أَوْ هُوَ لَازِمٌ لِوُجُودِهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ لِلشَّارِعِ فِيهِ طَلَبٌ شَرْعِيٌّ فَإِنَّهُ يَجِبُ وُجُودُهُ وُجُوبًا عَقْلِيًّا إذَا امْتَثَلَ الْعَبْدُ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ. وَهُنَا قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ هَذَا السَّبَبَ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ هَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ أَمْرًا شَرْعِيًّا وَمِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَقَدْ يُقَالُ هَذَا وَاجِبٌ بِالْقَصْدِ الثَّانِي لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَأَنْتَ إذَا حَقَّقْت عَلِمْت أَنَّ هَذَا مِنْ نَمَطِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُ الْعَبْدَ عَلَى مَا أَحْدَثَهُ اللَّهُ مِنْ فِعْلِهِ الْوَاجِبِ، كَالدَّاعِي إلَى الْهُدَى فَإِنَّ لَهُ أَجْرَ مَنْ اسْتَجَابَ لَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَالْوَلَدِ الصَّالِحِ فَإِنَّ دُعَاءَهُ مُضَافٌ إلَى أَبِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِعْلُ أَبِيهِ إنَّمَا هُوَ الْإِيلَاجُ الَّذِي قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَمَعَ هَذَا فَلَوْ تَرَكَ الْوَاجِبَ لَمْ يُعَاقَبْ عَلَى انْتِفَاءِ الْآثَارِ وَاللَّوَازِمِ، كَذَلِكَ اللَّهُ يُثِيبُهُ عَلَى فِعْلِ أَسْبَابِ الْعَمَلِ الْوَاجِبِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، كَالسَّيْرِ إلَى الْمَسْجِدِ وَإِلَى الْبَيْتِ وَالْعَدُوِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِذَا تَرَكَهَا لَمْ يُعَاقِبْهُ إلَّا عَلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، فَافْهَمْ مِثْلَ هَذَا فِي الْوَاجِبِ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَدَائِهِ إلَّا بِهَذَا الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ التَّعْيِينَ إذَا فَعَلَهُ أَثَابَهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَرَكَهُ لَمْ يُعَاقِبْهُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، وَإِنَّمَا يُعَاقِبُهُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ الْمُطْلَقِ، بِحَيْثُ تَكُونُ عُقُوبَتُهُ وَعُقُوبَةُ مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ عِدَّةَ أَعْيَانٍ مِمَّا سِوَاهُ، أَوْ يَكُونُ هَذَا أَقَلَّ فِي الْأَمْرِ الْغَالِبِ، وَإِذَا أَرَدْت عِبَارَةً لَا يُنَازِعُك فِيهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، فَقُلْ هَذَا النَّجَسُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ فِي الْبَاطِنِ، وَهَذَا الْمُعَيَّنُ لَيْسَ عَيْنُهُ مَقْصُودَةَ الْأَمْرِ، وَلَا هَذَا النَّجَسُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَقْصُودِ الْأَمْرِ، فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا الَّذِي لَمْ يَجِدْ إلَّا مَاءً وَكَانَ فِي الْبَاطِنِ نَجَسًا، إذَا قِيلَ: إنَّهُ مَأْمُورٌ بِاسْتِعْمَالِهِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْحَقِيقَةِ بِاسْتِعْمَالِهِ كَالْأَمْرِ بِمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ. فَإِذَا قُلْت: إنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ بِمَجْمُوعِ هَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ، فَلَا نِزَاعَ مَعَك، وَإِذَا قُلْت

لَيْسَ بِمَأْمُورٍ لِانْتِفَاءِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ، فَقَدْ أَصَبْت الْغَرَضَ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ مَنْ اعْتَقَدَ الْحَاكِمُ عَدْلَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ لِلْمُدَّعِي إذَا جَاءَهُ بِذَوَي عَدْلٍ، ثُمَّ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى تَأْدِيَةِ هَذَا الْوَاجِبِ إلَّا بِاعْتِقَادِهِ فِيهِمَا الْعَدْلَ. فَتَعَيُّنِ هَذَا الِاعْتِقَادِ الْمُخْطِئِ فِي الْبَاطِنِ، كَتَعَيُّنِ ذَلِكَ الْمَاءِ النَّجَسِ فِي الْبَاطِنِ إذْ الِاعْتِقَادُ هُوَ الَّذِي يُمَكِّنُ مِنْ الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ، كَمَا أَنَّ الْمُعَيَّنَ هُوَ الَّذِي يُمَكِّنُ مِنْ وُجُودِ الْمُطْلَقِ، وَقَدْ تَتَعَدَّدُ الِاعْتِقَادَاتُ كَمَا تَتَعَيَّنُ الْأَعْيَانُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا اعْتِقَادُ الْعَدْلِ فِيهِمَا فَالشَّارِعُ مَا أَمَرَهُ فِي الْحَقِيقَةِ بِاسْتِعْمَالِ هَذَا الِاعْتِقَادِ الْمُخْطِئِ قَطُّ وَلَا أَمَرَ بِاعْتِقَادِ عَدْلِ هَذَا الشَّخْصِ وَلَا عَدْلِ غَيْرِهِ أَمْرًا مَقْصُودًا قَطُّ، وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مِنْ الْحُكْمِ بِذَوَي عَدْلٍ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِاعْتِقَادٍ، فَصَارَ وُجُوبُ اتِّبَاعِ الِاعْتِقَادِ كَوُجُوبِ إعْتَاقِ مُعَيَّنٍ مَا. ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا اعْتِقَادُ عَدْلِ هَذَا الشَّاهِدِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا هَذَا الْمَاءُ وَهَذِهِ الرَّقَبَةُ ثُمَّ خَطَّأَهُ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي بِهِ يُؤَدِّي الْوَاجِبَ عَيْبٌ فِي هَذَا الْمُعَيَّنِ كَالْعَيْبِ فِي الْمَاءِ وَالرَّقَبَةِ. فَالتَّحْقِيقُ هُوَ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ مَأْمُورًا أَنْ يَحْكُمَ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ فِي الْحَقِيقَةِ الْبَاطِنَةِ وَلَا هُوَ مَأْمُورٌ بِشَيْءٍ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ الْمُعَيَّنَةِ أَمْرًا مَقْصُودًا. نَعَمْ هُوَ مَأْمُورٌ أَمْرًا لُزُومِيًّا بِاعْتِقَادِ عَدْلِ مَنْ ظَهَرَ عَدْلُهُ، وَمَأْمُورٌ ظَاهِرًا أَمْرًا مَقْصُودًا بِالْحُكْمِ بِمَنْ اعْتَقَدَ عَدْلَهُ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ يُقَالُ فِي الْمُعَيَّنِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ الْمُخْطِئِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَةِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ إلَّا بِمَا قَدْ نَصَبَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ، فَصَارَ وُجُوبُ اتِّبَاعِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمُنَزَّلِ مِنْ الْأَخْبَارِ، وَلِدَلَالَةِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَةِ الْمُنَزَّلِ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمُخْبِرُ مُخْطِئًا أَوْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ مُخَلَّفَةً فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِعَيْنِهَا فِي الْبَاطِنِ قَطُّ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِعَيْنِهَا فِي الظَّاهِرِ أَمْرًا لُزُومِيًّا مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ، هَلْ يُقَالُ لِلْمُخْطِئِ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِي الْحُكْمِ كَمَا هُوَ مُخْطِئٌ فِي الْبَاطِنِ، أَوْ يُقَالُ هُوَ مُصِيبٌ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَّجَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ رِوَايَةً بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَهَذَا ضَعِيفٌ تَخْرِيجًا وَدَلِيلًا. وَمَنْشَأُ تَرَدُّدِهِمْ أَنَّ وُجُوبَ اعْتِقَادِهِ لِمَا اقْتَضَاهُ اجْتِهَادُهُ هُوَ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ

الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ اتِّبَاعُ حُكْمِ اللَّهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا بِاتِّبَاعِ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ الدَّلِيلِ وَاتِّبَاعُ دَلِيلِهِ اعْتِقَادُ مُوجَبِهِ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ مُصِيبٌ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا حَكَمَ بِشَهَادَةِ مَنْ يَعْتَقِدُهُ عَدْلًا فَقَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ ظَاهِرًا، وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ بِمُصِيبٍ فِي الْحُكْمِ قَالَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ اتِّبَاعِ هَذَا الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ هُوَ لِلْوُجُوبِ اللُّزُومِيِّ الْعَقْلِيِّ دُونَ الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ الْمَقْصُودِ، وَإِلَّا فَالْوُجُوبُ الشَّرْعِيُّ هُوَ اتِّبَاعُ حُكْمِ اللَّهِ، وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَتَى مِنْ جِهَةِ عَجْزِهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْخِلَافِ دَلِيلُهُ، فَإِنَّ مَنْ حَدَّثَ بِحَدِيثٍ أَفْتَى بِهِ تَارَةً يَكُونُ الْمُحَدِّثُ لَهُ عَدْلًا حَافِظًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، لَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، أَوْ الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ فَهُنَا لَمْ يُؤْتَ مِنْ جِهَةِ نَظَرِهِ بَلْ دَلِيلُهُ أَخْلَفَ، وَتَارَةً يَعْتَقِدُ هُوَ أَنَّ الْمُحَدِّثَ ثِقَةٌ، وَلَا يَكُونُ ثِقَةً فَهُنَا اعْتِقَادُهُ خَطَأٌ، لِكَوْنِهِ دَلِيلًا غَيْرَ مُطَابِقٍ، وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا فِيهِ لِدَلِيلٍ اقْتَضَى ثِقَتَهُ، فَإِنَّ خَطَأَ هَذَا الدَّلِيلِ كَخَطَإِ الْأَوَّلِ فِي الْحُكْمِ. فَالْأَوَّلُ: حَكَمَ بِدَلِيلٍ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ دَلِيلُ الْمُجْتَهِدِ، لَكِنَّ اللَّهَ سَلَبَ دَلَالَتَهُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ هَذَا عَلَى الْعِلْمِ السَّالِبِ، وَهَذَا كَالتَّمَسُّكِ بِشَرِيعَةٍ قَدْ نُسِخَتْ لَمْ يَعْلَمْ بِنَسْخِهَا، وَالثَّانِي حَكَمَ بِمَا اعْتَقَدَ دَلِيلًا وَلَمْ يَكُنْ دَلِيلًا، بَلْ قَامَ عِنْدَهُ مَا ظَنَّ كَوْنَهُ دَلِيلًا، كَمَا لَوْ كَانَ اللَّفْظُ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ فَاعْتَقَدَهَا لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ فَجَعَلَهُ عَامًّا، وَكَانَتْ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ، أَوْ كَانَ مَعْنَى اللَّفْظِ فِي لُغَتِهِ غَيْرَ مَعْنَاهُ فِي لُغَةِ الرَّسُولِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ لَهُ مَعْنًى إلَّا مَا فِي لُغَتِهِ، فَهَذَا حَكَمَ بِمَا لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا أَصْلًا، لَكِنَّهُ اعْتَقَدَ دَلَالَتَهُ فَالْأَوَّلُ حَكَمَ بِمُقْتَضًى عَارَضَهُ مَانِعٌ لَمْ يَعْلَمْهُ. وَالثَّانِي: بِمَا لَيْسَ بِمُقْتَضًى لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مُقْتَضًى، وَالْأَوَّلُ فِي اتِّبَاعِهِ لِلدَّلِيلِ، كَالْمُسْتَفْتِي فِي اتِّبَاعِهِ قَوْلَ مَنْ هُوَ مُفْتٍ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إذَا كَانَ قَدْ أَخْطَأَ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُسْتَفْتِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الثَّانِي أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ وَفِي اعْتِقَادِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَابَ فِي اجْتِهَادِهِ لَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي اعْتِقَادِهِ، وَكِلَاهُمَا مُصِيبٌ فِي اعْتِقَادِهِ. وَإِذَا عَرَفْت هَذِهِ الدَّرَجَاتِ الثَّلَاثِ لِلْمُجْتَهِدِ: أُولَاهَا: اقْتِصَارُهُ بِحُكْمِ اللَّهِ. الثَّانِيَةُ: اجْتِهَادُهُ وَهُوَ اسْتِنْطَاقُ الْأَدِلَّةِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِمَاعِ الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ فَتَارَةً

يَعْتَقِدُ الْمَجْرُوحَ عَدْلًا فَيَكُونُ قَدْ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ، وَتَارَةً يَكُونُ الْعَدْلُ قَدْ أَخْطَأَ فَيَكُونُ دَلِيلُهُ قَدْ أَخْطَأَ لَا هُوَ. الثَّالِثَةُ: اعْتِقَادُهُ وَهُوَ اعْتِقَادُ مَا نَطَقَتْ بِهِ الْأَدِلَّةُ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِمَا شَهِدَتْ بِهِ الشُّهُودُ، وَلِهَذَا إذَا تَبَيَّنَ كُفْرَ الشُّهُودِ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْحَاكِمِ، وَلَوْ تَبَيَّنَ غَلَطُهُمْ بِرُجُوعِهِمْ مَثَلًا، كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَ الدَّلِيلُ صَحِيحًا وَالشَّاهِدُ عَدْلًا كَانَ مَأْمُورًا فِي الظَّاهِرِ أَنْ يَحْكُمَ بِعَيْنِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الدَّلِيلُ فَاسِدًا وَالشَّاهِدُ فَاسِقًا وَهُوَ يَعْتَقِدُهُ صَحِيحًا عَدْلًا فَلَمْ يُؤْمَرْ بِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا اعْتَقَدَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ لَمْ يُؤَاخَذْ كَمَنْ رَأَى مَنْ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْكُفْرِ فَقَتَلَهُ فَكَانَ مُسْلِمًا. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اخْتَلَفَتْ فَأَخَذَ الرَّجُلُ بِأَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ فَقَالَ إذَا أَخَذَ الرَّجُلُ بِحَدِيثٍ صَحِيحٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخَذَ آخَرُ بِحَدِيثٍ ضِدِّهِ صَحِيحٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ، وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَأْخُذَ أَحَدَ الْحَدِيثَيْنِ، وَلَا يَقُولَ لِمَنْ خَالَفَهُ أَنَّهُ مُخْطِئٌ إذَا أَخَذَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنَّ الْحَقَّ فِيمَا أَخَذْت بِهِ أَنَا وَهَذَا بَاطِلٌ، وَلَكِنْ إذَا كَانَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَحِيحَةً، فَأَخَذَ بِهَا رَجُلٌ وَأَخَذَ آخَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحْتَجَّ بِالشَّيْءِ الضَّعِيفِ، كَانَ الْحَقُّ فِيمَا أَخَذَ بِهِ الَّذِي احْتَجَّ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ أَخْطَأَ الْآخَرُ فِي التَّأْوِيلِ، مِثْلُ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ السَّلْمَانِيِّ، قَالَ فَهَذَا عِنْدِي مُخْطِئٌ وَالْحَقُّ مَعَ مَنْ ذَهَبَ إلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» ، وَإِنْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ ثُمَّ رُفِعَ إلَى حَاكِمٍ آخَرَ رُدَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّحِيحِ، وَإِذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ، وَاحْتَجَّ بِهِ رَجُلٌ أَوْ حَاكِمٌ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَدْ أَخْطَأَ التَّأْوِيلَ، وَإِنْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ ثُمَّ رُفِعَ إلَى حَاكِمٍ آخَرَ رُدَّ إلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخَذَ آخَرُ عَنْ رَجُلٍ آخَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ، وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَجْتَهِدَ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَ، وَهَكَذَا قَالَ عُمَرُ وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَ، وَلَوْ كَانَ حَكَمَ بِحُكْمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقُلْ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَخْطَأَ أَمْ أَصَابَ، وَلَكِنْ إنَّمَا كَانَ رَأْيًا مِنْهُ.

قَالَ: وَإِذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخَذَ رَجُلٌ بِقَوْلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخَذَ آخَرُ بِقَوْلِ التَّابِعِينَ كَانَ الْحَقُّ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ التَّابِعِينَ كَانَ تَأْوِيلُهُ خَطَأً. وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ، وَلَوْ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ فِي الْمُفْلِسِ أَنَّهُ أَسْبَقُ الْغُرَمَاءِ إذَا وَجَدَ رَجُلٌ عَيْنَ مَالِهِ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى حَاكِمٍ آخَرَ، فَذَهَبَ إلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُدَّ لِحُكْمِ هَذَا الْحَاكِمِ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ حُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا حَكَمَ أَنْ لَا يُرَدَّ إذَا اعْتَدَلَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَذَا لَا يُرَدُّ أَوْ يَخْتَلِفُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ رَجُلٌ بِبَعْضِ قَوْلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَهَذَا لَا يُرَدُّ أَوْ يَخْتَلِفُ عَنْ التَّابِعِينَ، فَأَخَذَ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ فَهَذَا لَا يُرَدُّ، فَأَمَّا إذَا كَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخَذَ بِقَوْلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ بِقَوْلِ التَّابِعِينَ، فَهَذَا يُرَدُّ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِجَوْرٍ وَتَأَوُّلٍ وَذَكَرَ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَنْ عَمِلَ خِلَافَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ خِلَافَ السُّنَّةِ رُدَّ عَلَيْهِ، وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فُنُونَ الِاخْتِلَافِ وَقَسَّمَهُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَتَعَارَضَ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ. الثَّانِي: أَنْ يُعَارِضَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. الثَّالِثُ: أَنْ يُعَارِضَ قَوْلَ صَاحِبٍ. الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ بَلْ اخْتَلَفَ فِيهَا الصَّحَابَةُ فَأَخَذَ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ. الْخَامِسُ: أَنْ يَأْخُذَ بِالْقَوْلِ الثَّالِثِ أَوْ الثَّانِي الَّذِي أُحْدِثَ بَعْدَ اتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى قَوْلٍ أَوْ قَوْلَيْنِ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ خَالَفَ النَّصَّ الصَّحِيحَ لِقَوْلِ صَاحِبٍ أَوْ حَدِيثٍ ضَعِيفٍ أَوْ

تَرَكَ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ الَّتِي هِيَ إجْمَاعٌ أَوْ كَالْإِجْمَاعِ إلَى قَوْلِ مَنْ بَعْدَهُمْ فَهُوَ مُخْطِئٌ مُخَالِفٌ لِلْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الدَّلِيلَ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ إلَى مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ، وَأَمَّا إذَا تَعَارَضَ النَّصَّانِ أَوْ فُقِدَا وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فَهُنَا يَجْتَهِدُ فِي الرَّاجِحِ وَلَا يَرُدُّ حُكْمَ مَنْ حَكَمَ بِأَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ تَرَاجِيحَ الْأَدِلَّةِ أَوْ اسْتِنْبَاطَهَا عِنْدَ خَفَاهَا هُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ بِخَطَإِ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَحَدِ النَّصَّيْنِ مَعَ قَوْلِهِ إنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ. وَعِنْدَ خَفَاءِ الْأَدِلَّةِ قَالَ لَا أَدْرِي أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَ، وَهَذَا تَحْقِيقٌ عَظِيمٌ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّصَّ دَلِيلٌ قَطْعًا لَكِنْ عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْآخَرِ لَهُ هَلْ سُلِبَتْ دَلَالَتُهُ أَمْ لَمْ تُسْلَبْ، هَذَا مَحَلُّ تَرَدُّدٍ، فَإِنْ اعْتَقَدَ رُجْحَانَهُ اعْتَقَدَ بَقَاءَ دَلَالَتِهِ فَقَدْ تَمَسَّكَ بِمَا هُوَ دَلِيلٌ لَمْ يُثْبِتْ سَلْبَ دَلَالَتِهِ فَصَارَ إنْ كَانَ الْحَقُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ كَالتَّمَسُّكِ بِالنَّصِّ الَّذِي نُسِخَ وَلَمْ يَعْلَمْ نَسْخَهُ فَلَا يَحْكُمُ عَلَى مُخَالِفِهِ بِالْخَطَإِ. كَمَا لَا يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ نَصًّا وَقَدْ اجْتَهَدَ فَقَدْ يَكُونُ مَا اعْتَمَدَهُ مِنْ الِاسْتِنْبَاطِ بِالرَّأْيِ تَأْوِيلًا وَقِيَاسًا لَيْسَ بِدَلِيلٍ. فَلَا نَدْرِي أَنَّهُ أَصَابَ كَالْمُتَمَسِّكِ بِدَلِيلٍ أَمْ لَمْ يُصِبْ فَتَحَرَّرْ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ فِي الْبَاطِنِ لَيْسَ الْمُصِيبُ إلَّا وَاحِدًا. وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَلَا نَحْكُمْ بِالْخَطَإِ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ، وَلَا نَحْكُمْ بِالصَّوَابِ لِمَنْ لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ خَيْرٌ مِنْ إطْلَاقِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ الْخَطَأَ فِي الْحُكْمِ مُطْلَقًا، وَإِطْلَاقِ بَعْضِهِمْ الْإِصَابَةَ فِي الْحُكْمِ مُطْلَقًا. وَاعْلَمْ أَنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ مُصِيبٌ فِي الْحُكْمِ، بَلْ قَالَ لَا يُقَالُ إنَّهُ مُخْطِئٌ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُخْطِئٌ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِي اسْتِدْلَالِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي الْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ هَلْ يُعْطَى أَجْرًا وَاحِدًا عَلَى اجْتِهَادِهِ وَاسْتِدْلَالِهِ أَوْ عَلَى مُجَرَّدِ قَصْدِهِ الْحُكْمَ. وَأَصْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِدْلَال صَحِيحًا وَلَا يُصِيبُ الْحَقَّ. وَمَا قَدَّمْنَاهُ يُبَيِّنُ لَك أَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ مُخْطِئًا فِي اجْتِهَادِهِ وَتَارَةً لَا يَكُونُ مُخْطِئًا فِي اجْتِهَادِهِ: بَلْ دَلِيلُهُ يَكُونُ مُخْطِئًا لَا خِلَافَهُ فَيُثَابُ تَارَةً عَلَى الْأَمْرَيْنِ وَتَارَةً عَلَى أَحَدِهِمَا، كَذَلِكَ يَكُونُ الْحَقُّ سَوَاءً فَيَكُونُ تَحْقِيقُهُ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ: أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إنْ اسْتَدَلَّ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ وَكَانَ مُخَالِفًا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَتَّبِعَهُ؛ وَاتِّبَاعُهُ لَهُ صَوَابٌ؛ وَاعْتِقَادُ مُوجَبِهِ

فِي هَذِهِ الْحَالِ لَازِمٌ مِنْ اتِّبَاعِهِ؛ وَهُوَ لَمْ يُؤْمَرْ بِهَذَا اللَّازِمِ؛ لَكِنَّهُ لَازِمٌ مِنْ الْمَأْمُورِ بِهِ وَيَعُودُ الْأَمْرُ إلَى مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ، هَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ أَمْرًا شَرْعِيًّا أَوْ عَقْلِيًّا؛ وَيَعُودُ أَيْضًا إلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِن وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ فِي الْوَاجِبِ إذَا تَعَيَّنَ وَأَمَّا مَا وَجَبَ مُطْلَقًا، وَيُنَادِي بِأَعْيَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَوْ أُبِيحَ فَالْقَوْلُ فِي إبَاحَتِهِ كَالْقَوْلِ فِي إيجَابِ هَذَا سَوَاءٌ وَفِي خِلَافِهِمَا يَدْخُلُ الْعَفْوُ، فَيُقَالُ هَذَا الَّذِي اعْتَقَدَ أَنَّهُ فَعَلَ الْوَاجِبَ أَوْ الْمُبَاحَ كِلَاهُمَا يُعْفَى عَنْهُ، وَلَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَاعِلًا لِوَاجِبٍ وَلَا لِمُبَاحٍ وَإِنَّمَا يَتَلَخَّصُ هَذَا الْأَصْلُ الَّذِي اضْطَرَبَ فِيهِ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَاضْطِرَابُهُمْ فِيهِ تَارَةً يَعُودُ إلَى إطْلَاقٍ لَفْظِيٍّ وَتَارَةً إلَى مُلَاحَظَةٍ عَقْلِيَّةٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. وَتَارَةً يَعُودُ إلَى أَمْرٍ حَقِيقِيٍّ وَإِلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِأَنْ نَتَكَلَّمَ عَلَى مَقَامَاتِهِ مَقَامًا مَقَامًا كَلَامًا مُلَخَّصًا. وَالْمَقَامُ الْأَوَّلُ: هَلْ لِلَّهِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ تَنْزِلُ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِمَنْزِلَةِ مَا لِلَّهِ قِبْلَةٌ مُعَيَّنَةٌ هِيَ الْكَعْبَةُ، وَهِيَ مَطْلُوبُ الْمُجْتَهِدِينَ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ. فَاَلَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: أَنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ حُكْمًا مُعَيَّنًا إمَّا الْوُجُوبُ أَوْ التَّحْرِيمُ أَوْ الْإِبَاحَةُ مَثَلًا. أَوْ عَدَمُ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ فِيمَا قَدْ سَمَّيْنَاهُ عَفْوًا؛ لَكِنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ يُسَمُّونَ هَذَا الْأَشْبَهَ وَلَا يُسَمُّونَهُ حُكْمًا، وَهُمْ يَقُولُونَ: مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ، لَكِنْ لَوْ حَكَمَ لَمَا حَكَمَ إلَّا بِهِ. فَهُوَ عِنْدَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حُكْمٌ بِالْقُوَّةِ، وَحَدَثَ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ زَعَمُوا أَنْ لَيْسَ عِنْدَ اللَّهِ حَقٌّ مُعَيَّنٌ هُوَ مَطْلُوبُ الْمُسْتَدِلِّينَ إلَّا فِيمَا فِيهِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ يَتَمَكَّنُ الْمُجْتَهِدُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، فَأَمَّا مَا فِيهِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ أَوْ لَيْسَ فِيهِ إلَّا أَدِلَّةٌ ظَنِّيَّةٌ، فَحُكْمُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا ظَنَّهُ وَتَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى الظَّنِّ كَتَرَتُّبِ اللَّذَّةِ عَلَى الشَّهْوَةِ، فَكَمَا أَنَّ كُلَّ عَبْدٍ يَلْتَذُّ بِدَرْكِ مَا نَشْتَهِيهِ، وَتَخْتَلِفُ اللَّذَّاتُ بِاخْتِلَافِ الشَّهَوَاتِ، كَذَلِكَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ حُكْمُهُ مَا ظَنَّهُ وَتَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِاخْتِلَافِ الظُّنُونِ، وَزَعَمُوا أَنْ لَيْسَ عَلَى الظُّنُونِ أَدِلَّةٌ كَأَدِلَّةِ الْعُلُومِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ أَحْوَالُ النَّاسِ وَعَادَاتُهُمْ وَطِبَاعُهُمْ، وَهَذَا قَوْلٌ خَبِيثٌ يَكَادُ فَسَادُهُ يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَلَا تُنْزِلُهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ» ، وَقَوْلُهُ لِسَعْدٍ «لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ

أَرْقِعَةٍ» ، وَقَوْلُ سُلَيْمَانَ اللَّهُمَّ أَسْأَلُك حُكْمًا يُوَافِقُ حُكْمَك كُلَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مَعَ كَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ عَلَى فَسَادِهِ. الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ نَصَبَ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ دَلِيلًا. فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْعَامَّةُ أَنَّ اللَّهَ نَصَبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِلُّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ فِي كِتَابِهِ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الدِّينَ قَدْ كَمُلَ، وَلَا يَكُونُ هَذَا إلَّا بِالْأَدِلَّةِ الْمَنْصُوبَةِ لِبَيَانِ حُكْمِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ لَلَزِمَ أَنَّ الْأُمَّةَ تُجْمِعُ عَلَى الْخَطَإِ إنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ، أَوْ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ تَخْمِينًا وَالْقَائِلُونَ بِالْأَشْبَهِ أَوْ بَعْضُهُمْ يَقُولُونَ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ لَيْسَ يَحْكُمُ بِالْفِعْلِ حَتَّى يَجِبَ نَصْبُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. وَقَدْ حُكِيَ هَذَا عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مُبْهَمًا وَيَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ تَخْمِينًا وَاتِّفَاقًا. الْمَقَامُ الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ هَلْ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ أَوْ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْمُتَكَلِّمُونَ الظَّنَّ وَيُسَمَّى الِاعْتِقَادُ. فَمِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ مَنْ يَقُولُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يُفِيدُ الْيَقِينَ، ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤَثِّمُ مُخَالِفَ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَرُبَّمَا فَسَّقَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤَثِّمُهُ وَلَا يُفَسِّقُهُ وَقَدْ يُؤَثَّمُ وَلَا يُفَسَّقُ، وَأَمَّا أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا دَلِيلٌ يُفِيدُ الِاعْتِقَادَ الرَّاجِحَ الَّذِي يُسَمَّى الظَّنَّ الْغَالِبَ، وَقَدْ يُسَمَّى الْعِلْمَ الظَّاهِرَ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ السَّلَفِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يَقِينِيٌّ وَتَارَةً لَا يَكُونُ الدَّلِيلُ يَقِينًا وَكَوْنُ الْمَسْأَلَةِ مُخْتَلِفًا فِيهَا لَا يَمْنَعُ أَنَّ دَلِيلَهَا يَكُونُ يَقِينًا، وَيَكُونُ مَنْ خَالَفَهُ لَمْ يَبْلُغْهُ أَوْ لَمْ يَفْهَمْهُ أَوْ ذُهِلَ عَنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ يُفِيدُ اعْتِقَادًا قَوِيًّا غَالِبًا يُسَمَّى أَيْضًا يَقِينًا، وَإِنْ كَانَ تَجْوِيزُ نَقِيضِهِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَعَلَى هَذَا يَتَفَرَّعُ نَقْضُ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَجَوَازُ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَنْ يُفْتِي بِالْقَوْلِ الْمُعَيَّنِ، وَالِائْتِمَامِ بِمَنْ أَخَلَّ بِفَرْضٍ فِي مَذْهَبِ الْمَأْمُورِ وَتَعْيِينِ الْمُخْطِئِ وَالتَّغْلِيظِ عَلَى الْمُخَالِفِ. الْمَقَامُ الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ الْيَقِينِيَّةَ أَوْ الِاعْتِقَادِيَّةَ. لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا بَعْضُ الْأُمَّةِ لِئَلَّا تَكُونَ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةً عَلَى الْخَطَإِ، وَلَا يَحْصُلُ مُقْتَضَاهُ إلَّا لِمَنْ بَلَغَتْهُ وَنَظَرَ فِيهَا، فَمَنْ يَبْلُغُهُ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ وَلَا قُصُورٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَسِّكًا بِمَا هُوَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَوْلَا مُعَارَضَةُ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ كَالْمُتَمَسِّكِ بِالْعَامِّ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ تَخْصِيصُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَسِّكًا بِحَقٍّ فِي

الْبَاطِنِ، لَكِنَّ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ نَسَخَتْهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَسِّكًا بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ عَدَمُ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ، فَهَلْ يُقَالُ لِأَحَدِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ مُصِيبٌ أَوْ مُخْطِئٌ. أَوْ مُصِيبٌ مِنْ وَجْهٍ مُخْطِئٌ مِنْ وَجْهٍ، أَوْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ صَوَابٌ وَلَا خَطَأٌ، وَهَلْ يُقَالُ فَعَلَ مَا وَجَبَ أَوْ مَا لَمْ يَجِبْ. أَوْ مَا أُبِيحَ أَوْ مَا لَمْ يُبَحْ هَذَا الْمَقَامُ وَاَلَّذِي بَعْدَهُ أَكْثَرُ شُعَبِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يُطْلِقُ عَلَيْهِ الْخَطَأَ فِي الْبَاطِنِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَهُوَ عِنْدَهُ مَعْذُورٌ بَلْ مَأْجُورٌ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ النَّسْخَ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ إذَا بَلَغَهُ الرَّسُولُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمُكَلَّفِ بِمَعْنَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ وَالضَّمَانِ إذَا بَلَغَهُ لَا بِمَعْنَى التَّأْثِيمِ، وَيَقُولُ إنَّمَا يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ صَلَّى إلَى الْقِبْلَةِ الْمَنْسُوخَةِ قَبْلَ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْقِبْلَةَ لَا تَجِبُ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَهَا فِي زَمَانِنَا إذَا كَانَ قَدْ اجْتَهَدَ وَإِنْ سَمَّيْتَهُ مُخْطِئًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْلِقُ الْخَطَأَ عَلَى الْمُتَمَسِّكِ بِدَلِيلٍ لَيْسَ فِي الْبَاطِنِ دَلِيلًا وَعَلَى الْمُتَمَسِّكِ بِالنَّفْيِ دُونَ الْمُسْتَصْحِبِ لِلْحُكْمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّهَ مَا حَكَمَ بِمُوجَبِ دَلِيلٍ قَطُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُطْلِقُ الْخَطَأَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ. وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُطْلِقُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ عُمُومًا أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِي الْبَاطِنِ وَفِي الْحُكْمِ، هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي لَكِنْ عِنْدَهُ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ الْبَلَاغِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَيْسَ بِمُخْطِئٍ فِي الْحُكْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ مُصِيبٌ فِي الْحُكْمِ، حَكَى هَذَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، وَخَرَّجَ الْقَاضِي فِي الْخَطَإِ فِي الْحُكْمِ رِوَايَتَيْنِ، وَخَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ رِوَايَةَ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَالصَّحِيحُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي الْبَاطِنِ حَكَمَ فِي حَقِّهِ أَنْ يُقَالَ هُوَ مُصِيبٌ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، أَوْ مُصِيبٌ فِي اجْتِهَادِهِ دُونَ اعْتِقَادِهِ، أَوْ مُصِيبٌ إصَابَةً مُقَيَّدَةً لَا مُطْلَقَةً بِمَعْنَى أَنَّ اعْتِقَادَ الْإِيجَابِ وَالتَّحَرِّي لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ اعْتَقَدَهُ عَامًّا هَذَا فِي الظَّاهِرِ فَقَطْ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ «أَنَّ الْحَاكِمَ الْمُجْتَهِدَ الْمُخْطِئَ لَهُ أَجْرٌ وَالْمُصِيبَ أَجْرَانِ» ، وَلَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَصَابَ حُكْمَ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَكَانَا سَوَاءً، وَلَمْ يُنْقَضْ حُكْمُ الْحَاكِمِ أَوْ الْمُفْتِي إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ النَّصَّ بِخِلَافِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْ غَيْرِ قُصُورٍ وَلَا تَقْصِيرٍ، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ» . وَلَمَّا قَالَ «لِسَعْدٍ لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ» ، إنْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ يَحْكُمُ بِحُكْمِ اللَّهِ

وَارْتِفَاعِ اللَّوْمِ بِحَدِيثِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَحَدِيثِ الْحَاكِمِ. الْمَقَامُ الْخَامِسُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ هَلْ يُفِيدُ مَدْلُولُهَا لِكُلِّ مَنْ نَظَرَ فِيهَا نَظَرًا صَحِيحًا، مِنْ النَّاسِ مَنْ يُطْلِقُ ذَلِكَ فِيهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ، وَهَذَا يُوَافِقُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الظَّنِّيَّةَ لَيْسَتْ أَدِلَّةً حَقِيقَةً، وَالصَّوَابُ أَنَّ حُصُولَ الِاعْتِقَادِ بِالنَّظَرِ فِي هَذِهِ الْأَدِلَّةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعُقُولِ مِنْ ذَكَاءٍ وَصَفَاءٍ وَزَكَاةٍ وَعَدَمِ مَوَانِعَ. وَالْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَقِبَيْهَا مُرَتَّبٌ عَلَى شَيْئَيْنِ. عَلَى مَا فِيهَا مِنْ أَدِلَّةٍ، وَعَلَى مَا فِي النَّظَرِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ، وَهَذِهِ الْقُوَّةُ الْمُسْتَدِلَّةُ تَخْتَلِفُ كَمَا تَخْتَلِفُ قُوَى الْأَبْدَانِ، فَرُبَّ دَلِيلٍ إذَا نَظَرَ فِيهِ ذُو الْعَقْلِ الثَّاقِبِ أَفَادَهُ الْيَقِينَ. وَذُو الْعَقْلِ الَّذِي دُونَهُ قَدْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْهَمَهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُفِيدَهُ يَقِينًا، وَاعْتُبِرَ هَذَا بِالْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ فَإِنَّ قَضَايَاهَا يَقِينِيَّةٌ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ فِي بَنِي آدَمَ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ فَهْمَ ذَلِكَ. فَعَدَمُ مَعْرِفَةِ مَدْلُولِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ بِأَنْ يَكُونَ لِعَجْزِ الْعَقْلِ وَقُصُورِهِ فِي نَفْسِ الْخِلْقَةِ وَتَارَةً لِعَدَمِ تَمَرُّنِهِ وَاعْتِيَادِهِ لِلنَّظَرِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَمَا أَنَّ عَجْزَ الْبَدَنِ عَنْ الْحَمْلِ قَدْ يَكُونُ لِضَعْفِ الْخِلْقَةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ الْإِدْمَانِ وَالصَّنْعَةِ، وَتَارَةً قَدْ يُمْكِنُهُ الْإِدْرَاكُ بَعْدَ مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ يَسْقُطُ مَعَهَا التَّكْلِيفُ، كَمَا يَسْقُطُ الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ عَنْ الْمَرِيضِ، وَتَارَةً يُمْكِنُهُ بَعْدَ مَشَقَّةٍ لَا يَسْقُطُ مَعَهَا التَّكْلِيفُ، كَمَا لَا يَسْقُطُ الْجِهَادُ بِالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ وَتَارَةً يُمْكِنُ ذَلِكَ بِلَا مَشَقَّةٍ لَكِنْ تَزَاحَمَتْ عَلَى الْقَلْبِ وَاجِبَاتٌ فَلَمْ يَتَفَرَّغْ لِهَذَا أَوْ قَصُرَ زَمَانُهُ عَنْ النَّظَرِ فِي هَذَا، وَتَارَةً يَكُونُ حُصُولُ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ فِي الْقَلْبِ يَمْنَعُ مِنْ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ، وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ نَظِيرًا لَكِنَّهُ غَامِضٌ، وَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا لَكِنْ لَيْسَ بِقَاطِعٍ، وَفِي هَذَا الْمَقَامِ يَقَعُ التَّفَاوُتُ بِالْفَهْمِ، فَقَدْ يَتَفَطَّنُ أَحَدُ الْمُجْتَهِدِينَ لِدَلَالَةٍ لَوْ لَحَظَهَا الْآخَرُ لَأَفَادَتْهُ الْيَقِينَ، لَكِنَّهَا لَمْ تَخْطِرْ بِبَالِهِ، فَإِذًا عَدَمُ وُصُولِ الْعِلْمِ بِالْحَقِيقَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ تَارَةً يَكُونُ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْبَلَاغِ، وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْفَهْمِ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ قَدْ يَكُونُ لِعَجْزٍ وَقَدْ يَكُونُ لِمَشَقَّةٍ. فَيَفُوتُ شَرْطُ الْإِدْرَاكِ، وَقَدْ يَكُونُ لِشَاغِلٍ أَوْ مَانِعٍ فَيُنَافِي الْإِدْرَاكَ، وَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبَيْنِ سَبَبٍ مُنْفَصِلٍ وَهُوَ الدَّلِيلُ وَسَبَبٍ مُتَّصِلٍ وَهُوَ الْعِلْمُ بِالدَّلِيلِ، وَالْقُوَّةُ الَّتِي بِهَا يَفْهَمُ الدَّلِيلَ، وَالنَّظَرُ الْمُوَصِّلُ إلَى الْفَهْمِ، ثُمَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ قَدْ تَحْصُلُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي أَقَلَّ مِنْ لَحْظِ الطَّرْفِ

وَقَدْ يَقَعُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ الشَّيْءُ ثُمَّ يَطْلُبُ دَلِيلًا يُوَافِقُ مَا فِي قَلْبِهِ لِيَتَّبِعَهُ، وَمَبَادِئُ هَذِهِ الْعُلُومِ أُمُورٌ إلَهِيَّةٌ خَارِجَةٌ عَنْ قُدْرَةِ الْعَبْدِ {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 105] ، فَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ الدَّلِيلُ مَنْصُوبًا لَكِنْ لَمْ يَسْتَدْرِكْ بِهِ الْمُكَلَّفُ لِقُصُورٍ أَوْ تَقْصِيرٍ يُعْذَرُ فِيهِ لِعَجْزٍ أَوْ مَشَقَّةٍ أَوْ شُغْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ اتَّفَقَ مَنْ قَالَ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ عَلَى أَنَّ الْبَاقِينَ لَمْ يُصِيبُوا الْحَقَّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ أَخْطَأَ هُنَا أَظْهَرُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ مُخْطِئٌ فِي الِاجْتِهَادِ هُنَا أَكْثَرُ. بَلْ غَالِبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِقِلَّةِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ بَعْدَ انْتِشَارِ النُّصُوصِ. الْمَقَامُ السَّادِسُ: أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ مَاذَا؟ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَقُولُ الْوَاجِبُ طَلَبُ ذَلِكَ الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ وَإِصَابَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْوَاجِبُ طَلَبُهُ لَا إصَابَتُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْوَاجِبُ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ الرَّاجِحِ سَوَاءٌ كَانَ مُطَابِقًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ لَحَظَ جَانِبًا، وَجَمْعُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إصَابَةُ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَأَمَّا الْوَاجِبُ فِي الظَّاهِرِ هُوَ اتِّبَاعُ مَا ظَهَرَ مِنْ الدَّلِيلِ وَاتِّبَاعُهُ أَنْ يَكُونَ بِالِاجْتِهَادِ الَّذِي يَعْجِزُ مَعَهُ النَّاظِرُ عَنْ الزِّيَادَةِ فِي الطَّلَبِ، أَوْ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً فَادِحَةً وَمِقْدَارًا غَيْرَ مَضْبُوطٍ، وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ يَخَافُونَ فِي الْفَتْوَى بِالِاجْتِهَادِ كَثِيرًا وَيَخْشَوْنَ اللَّهَ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي يُعْذَرُونَ مَعَهَا وَمِقْدَارَ الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي يُبِيحُ لَهُمْ الْقَوْلَ قَدْ لَا يَنْضَبِطُ فَلَوْ أَصَابَ الْحُكْمَ بِلَا دَلِيلٍ رَاجِحٍ فَقَدْ أَصَابَ الْحُكْمَ وَأَخْطَأَ الْحَقَّ الْمُعَيَّنَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ. وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ ثَمَّ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْحَقِّ هُوَ الرَّاجِحُ، لَكِنْ يَعْجِزُ عَنْ دَرْكِهِ وَإِلَّا لَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ دَلِيلًا، وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالدَّلِيلُ الَّذِي نَصَبَهُ اللَّهُ حَقِيقَةً عَلَى الْحُكْمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْلَفَ كَمَا يَجُوزُ خَطَأُ الشَّاهِدِ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَيَظْهَرَ لَهُ غَيْرُهُ. الْمَقَامُ السَّابِعُ: إذَا كَانَتْ الْحُجَّةُ الشَّرْعِيَّةُ لَا مُعَارِضَ لَهَا أَصْلًا لَكِنَّهَا مُخَلَّفَةٌ فَهَلْ يَكُونُ الْحُكْمُ بِهَا خَطَأً فِي الْبَاطِنِ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي أَعْيَانِ الْأَحْكَامِ لَا فِي أَنْوَاعِهَا، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَكِنْ كَانَا مُخْطِئَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ كَالشَّاهِدَيْنِ اللَّذَيْنِ قَطَعَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السَّارِقَ بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ وَقَالَا أَخْطَأْنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَهُنَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ، لَا يَكُونُ هَذَا خَطَأً بِحَالٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ سَلَّمَ

الْمَالَ إلَى مُسْتَحِقِّهِ فِي الْبَاطِنِ، وَلَمْ يَدْخُلْ هَذَا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ وَإِنَّمَا أُدْخِلَ فِيهِ مَنْ أَخْطَأَ الْحُكْمَ النَّوْعِيَّ. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ: بَلْ هُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَطَإِ الْمَغْفُورِ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِالتَّمَسُّكِ بِالْمَنْسُوخِ قَبْلَ الْبَلَاغِ أَوْ بِالدَّلَالَةِ الْمُعَارَضَةِ قَبْلَ بُلُوغِ الْمُعَارِضِ. وَفِي مِثْلِ هَذَا يَقُولُ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ الْحَاكِمَ بِقَبُولِ هَذَيْنِ الْمُعَيَّنَيْنِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِقَبُولِ شَهَادَةِ كُلِّ عَدْلٍ فَدَخَلَا فِي الْعُمُومِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَرُدَّ شَهَادَةً بِاللَّفْظِ الْعَامِّ هَذَا الْمُعَيَّنِ، لَكِنَّهُ يَعْذِرُ الْحَاكِمَ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَلِيلٌ يَعْلَمُ بِهِ عَدَمَ إرَادَةِ هَذَا الْمُعَيَّنِ، فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَمَا مِنْ صُورَةٍ تُفْرَضُ إلَّا وَتَخْرُجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ، فَإِنَّ مِنْ الْأُصُولِ الْمُكَرَّرَةِ أَنَّ الْحَاكِمَ لَوْ حَكَمَ بِنَصٍّ عَامٍّ. كَانَ عَاجِزًا عَنْ دَرْكِ مُخَصِّصِهِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُخَصِّصُ بَعْدَ ذَلِكَ نُقِضَ حُكْمُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَرَضَ الْإِدْرَاكَ مُبْعَدًا، وَهَذَا «أَبُو السَّنَابِلِ أَفْتَى سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ بِأَنْ تَعْتَدَّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ لَمَّا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا اسْتِعْمَالًا لِآسَى الْمَوْتِ وَالْحَمْلِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ» ، وَلَا يُقَالُ إنَّهُ كَانَ مِمَّا لَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ لِظُهُورِهِ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَهُمَا مِمَّنْ لَا يُشَكُّ فِي وُفُورِ فَهْمِهِمَا وَدِينِهِمَا قَدْ أَفْتَيَا بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَبَ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى أَخْطَأَ. فَعُلِمَ إطْلَاقُ الْخَطَإِ عَلَى مَنْ اجْتَهَدَ مُتَمَسِّكًا بِظَاهِرِ خِطَابٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ أَبُو السَّنَابِلِ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ إمَّا لِقُصُورِهِ أَوْ لِتَقْصِيرِهِ. حَيْثُ اجْتَهَدَ مَعَ قُرْبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَهَذَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ بِجُمْلَةِ كَوْنِ الْمُجْتَهِدِ مَعْذُورًا إمَّا لِعَجْزِهِ عَنْ سَمَاعِ الْخِطَابِ، أَوْ عَنْ فَهْمِهِ، أَوْ مَشَقَّةِ أَحَدِ هَذَيْنِ أَوْ لِعَدَمِ تَيْسِيرِ اللَّهِ أَسْبَابَ ذَلِكَ. أَوْ لِعَارِضٍ آخَرَ لَا يَمْنَعُ أَنْ لَا يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْحَقِّ الْبَاطِنِ، وَلَا يُوجِبُ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ الَّذِي فَعَلَهُ أَوْجَبَهُ اللَّهُ بِعَيْنِهِ أَوْ أَبَاحَهُ بِعَيْنِهِ، بَلْ أَوْجَبَ أَمْرًا مُطْلَقًا أَوْ أَبَاحَ أَمْرًا مُطْلَقًا، وَالْمُجْتَهِدُ مَعْذُورٌ بِاعْتِقَادِ أَنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ دَاخِلٌ فِي الْعُمُومِ. فَإِذًا مَنْشَأُ الْخَطَإِ إدْخَالُ الْمُعَيَّنِ فِي الْمُطْلَقِ وَالْعَامِّ عَلَى وَجْهٍ قَدْ لَا يَكُونُ

لِلْمُجْتَهِدِ مَنْدُوحَةٌ عَنْهُ. وَغَايَةُ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ الْإِلْزَامُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مَأْمُورٌ فِي الْبَاطِنِ بِمَا لَا يُطِيقُهُ، وَهَذَا سَهْلٌ هُنَا. فَإِنَّ الَّذِي يَقُولُ إنَّهُ لَا يَأْمُرُ اللَّهُ الْعَبْدَ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ إذَا شَاءَهُ وَأَمَّا أَمْرُهُ بِمَا لَا يَشَاءَهُ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، فَهَذَا حَقٌّ، وَإِذَا كَانَ أَمَرَهُ بِمَا مَشِيئَتُهُ مُعَلَّقَةٌ بِمَشِيئَةِ غَيْرِهِ. فَكَذَلِكَ يَأْمُرُهُ بِمَا مَعْرِفَتُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِسَبَبٍ مِنْ غَيْرِهِ، إذْ الْعِلْمُ وَاقِعٌ فِي الْقَلْبِ قَبْلَ الْإِرَادَةِ، ثُمَّ مِنْ هَذِهِ الْمَعَارِفِ مَا يُعْذَرُ فِيهَا الْمُخْطِئُ، وَمِنْهَا مَا لَا يُعْذَرُ، وَهَذَا فَصْلٌ مُعْتَرِضٌ اقْتَضَاهُ الْكَلَامُ لِتَعَلُّقِ أَبْوَابِ الْخَطَإِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ. إذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأُصُولُ فَهَذَا الْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَنْكِحُ مَفْعُولُهُ عَمَّا فَعَلَهُ مِنْ وَطْءٍ وَانْتِفَاعٍ، وَهَذَا الْوَطْءُ وَالِانْتِفَاعُ عَفْوٌ فِي حَقِّهِ، لَا حَلَالٌ حِلًّا شَرْعِيًّا وَلَا حَرَامٌ تَحْرِيمًا شَرْعِيًّا، وَهَكَذَا كُلُّ مُخْطِئٍ، وَلَكِنْ هُوَ فِي عَدَمِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ يَجْرِي مَجْرَى الْمُبَاحِ الشَّرْعِيِّ، وَإِنْ كَانَ يَخْتَلِفُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَيَخْتَلِفَانِ أَيْضًا فِي أَنَّ رَفْعَ أَحَدِهِمَا نَسْخٌ لَهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِمَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسْخُ وَرَفْعُ الْآخَرِ ابْتِدَاءً تَحْرِيمٌ أَوْ إيجَابٌ ثَبَتَ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ الْأَحْكَامُ الْمُبْتَدَأَةُ، وَأَنْ يَضْمَنَ رَفْعَ الِاسْتِصْحَابِ الْعَقْلِيِّ، وَهَذَا حَرَّمْنَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْيَاءَ لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ. كَمَا عَهِدَهُ إلَيْنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَكُنْ هَذَا نَسْخًا لِقَوْلِهِ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الْآيَةَ إذْ هَذِهِ نَفَتْ تَحْرِيمَ مَا سِوَى الْمُسْتَثْنَى وَلَمْ تُثْبِتْ حِلَّ مَا سِوَى الْمُسْتَثْنَى، وَبَيْنَ نَفْيِ التَّحْرِيمِ وَإِثْبَاتِ الْحِلِّ مَرْتَبَةُ الْعَفْوِ وَرَفْعُ الْعَفْوِ لَيْسَ بِنَسْخٍ، وَلِهَذَا قَالَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] وَالْمَائِدَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ الْأَنْعَامِ بِسِنِينَ، فَلَوْ كَانَتْ آيَةُ الْأَنْعَامِ تَضَمَّنَتْ مَا سِوَى الْمُسْتَثْنَى مَا قَيَّدَ الْحِلَّ بِقَوْلِهِ {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] . وَمَنْ فَهِمَ هَذَا اسْتَرَاحَ مِنْ اضْطِرَابِ النَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، مِثْلُ كَوْنِ آيَةِ الْأَنْعَامِ وَارِدَةً عَلَى سَبَبٍ فَتَكُونُ مُخْتَصَّةً بِهِ أَوْ مُعَرَّضَةً لِلتَّخْصِيصِ، وَمِثْلُ كَوْنِهَا مَنْسُوخَةً نَسْخًا شَرْعِيًّا بِالْأَحَادِيثِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ أَوْ الصَّحِيحِ مُطْلَقًا، وَلَقَدْ نَزَلَ هُنَا مُسْتَدِلًّا وَمُسْتَشْكِلًا، وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا. وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى غَيْرِ مَحَلٍّ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَنْكِحُ بَاطِلًا بَاطِنًا

غَيْرَ مُقَيِّدٍ لِلْحِلِّ بَاطِلًا، وَأَنَّ الِانْتِفَاعَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِهِ لَيْسَ هُوَ حَلَالًا فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَفَا اللَّهِ عَنْهُ، فَمَا دَامَ مُسْتَصْحِبًا لِعَدَمِ الْعِلْمِ، فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْت، فَإِنْ عَلِمَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فَحُكْمُهُ مَعْرُوفٌ إنْ كَانَ نِكَاحًا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَيَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَالْوَطْءُ فِيهِ مُوجِبٌ لِلْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ وَالنَّسَبِ وَإِدْرَاءِ الْحَدِّ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ إرْثٌ وَلَا جَوَازُ اسْتِدَامَةٍ وَهَلْ تَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، وَيَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ أَوْ تَجِبُ فِيهِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَيُوجِبُ الْإِحْدَادَ - فِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ. عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا فِي الْبَيْعِ فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. إذَا عُرِفَ هَذَا فَمَسْأَلَةُ التَّحْلِيلِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ فَإِنَّ قَصْدَ التَّحْلِيلِ إنَّمَا حُرِّمَ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِحَيْثُ لَوْ عَلِمَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ وَلِيُّهَا بِقَصْدِ التَّحْلِيلِ لَمْ تَجُزْ مُنَاكَحَةٌ بِخِلَافِ الْمُعَيَّنَةِ وَالْمَعِيبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ ظَهَرَ لَجَازَ الْعَقْدُ مَعَهُ، لَكِنَّ الْخَلَلَ هُنَا لَمْ يَقَعْ فِي أَهْلِيَّةِ الْعَاقِدِ، وَلَا فِي مَحَلِّيَّةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ الَّذِي يَعْلَمُ أَحَدُهُمَا بِإِفْسَادِهِ لِلْعَقْدِ دُونَ الْآخَرِ، نَعَمْ الْجَهْلُ هُنَاكَ هُوَ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ النَّوْعِيِّ، وَالْجَهْلُ هُنَا هُوَ بِوَصْفِ الْعَقْدِ الْمُعَيَّنِ، وَهَذَا الْوَصْفُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ عِلْمِهِ بِصِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ هُنَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، كَرِوَايَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ لَا تَعْلَمَ الْمُعْتَقَةُ قَدْ أُعْتِقَتْ وَبَيْنَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا قَدْ أُعْتِقَتْ، وَلَا تَعْلَمَ أَنَّ لِلْمُعْتَقَةِ الْخِيَارَ وَإِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ كَمَا وَصَفْته لَك، وَالْوَطْءُ وَالِاسْتِمْتَاعُ حَرَامٌ عَلَى الزَّوْجِ فِي مِثْلِ هَذَا وِفَاقًا وَهَلْ هُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْبَاطِنِ أَوْ لَيْسَ بِحَرَامٍ عَلَى قَوْلَيْنِ أَرْجَحُهُمَا الْأَوَّلُ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ لَا يَعُودُ إلَى أَمْرٍ عَمَلِيٍّ، وَفَعَلَهَا فِي الظَّاهِرِ هَلْ هُوَ حَلَالٌ أَوْ عَفْوٌ عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا. أَرْجَحُهُمَا الثَّانِي، فَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُؤَاخَذُ وَأَشْبَهُ شَيْءٍ بِهَذَا الْخَلَلِ الْحَاصِلِ فِي الْعَقْدِ، مَا لَوْ كَانَ الْخَلَلُ حَاصِلًا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. كَمَا لَوْ أَحْرَمَ الرَّجُلُ وَتَزَوَّجَتْ بِهِ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ إحْرَامَهُ، بِأَنْ يَعْقِدَ الْعَقْدَ وَكِيلُهُ فِي غَيْبَتِهِ، أَوْ تَتَزَوَّجَهُ وَيَكُونُ تَحْتَهُ أَرْبَعٌ أَوْ تَحْتَهُ أُخْتُهَا أَوْ خَالَتُهَا أَوْ عَمَّتُهَا وَهِيَ لَا تَعْلَمُ؛ أَوْ تَتَزَوَّجُهُ وَهُوَ مُرْتَدٌّ أَوْ مُنَافِقٌ، لَا تَعْلَمُ دِينَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ، الَّتِي يَكُونُ مُحَرَّمًا عَلَيْهَا بِصِفَةٍ عَارِضَةٍ فِيهِ، لَا تَعْلَمُ بِهَا. ثُمَّ قَدْ تَزُولُ تِلْكَ الصِّفَةُ؛ وَقَدْ لَا تَزُولُ، وَأَنْ

يُشَارِطُوا لَهَا فِي الْعَقْدِ شَرْطًا مُبْطِلًا لَهُ، وَهِيَ لَا تَعْلَمُ كَتَوْقِيتِ النِّكَاحِ وَنَحْوِهِ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ مُجْبَرَةً إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْغُرُورُ مِنْ الزَّوْجِ فَقَطْ أَوْ مِنْهُ وَمِنْ الْوَلِيِّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْغَرَرُ لَهَا وَحْدَهَا أَوْ لَهَا وَلِلْوَلِيِّ، إذْ الضَّرَرُ الْحَاصِلُ عَلَيْهَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ أَكْثَرُ مِنْ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ عَلَى الْوَلِيِّ. وَإِذَا تَأَمَّلْت حَقِيقَةَ التَّأَمُّلِ وَجَدْت الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِأَنْ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمَغْرُورِ أَلْبَتَّةَ. فَإِنَّهَا لَا تَأْثَمُ بِمَا فَعَلَتْهُ وَيَحِلُّ لَهَا مَا انْتَفَعَتْ بِهِ مِنْ نَفَقَةٍ، وَتَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ لَا سِيَّمَا إذَا أَوْجَبَا الْمُسَمَّى، كَظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَدَ الْمُوَافِقِ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَكَمَا وَرَدَ بِهِ حَدِيثُ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: «فَلَهَا مَا أَعْطَاهَا بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا» فِي قِصَّةِ الْمُزَوَّجَةِ بِلَا وَلِيٍّ، وَكَمَا قَضَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا عَدَمُ الْعِلْمِ بِقَصْدِهِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِ الْمَغْرُورَةِ مَا دَامَتْ غَيْرَ عَالِمَةٍ، وَأَيُّ وَقْتٍ عَلِمَتْ كَانَ عِلْمُهَا بِمَنْزِلَةِ تَطْلِيقٍ مُوجِبٍ لِمُفَارَقَتِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فُرْقَتَهُ قَدْ تَحْصُلُ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ، نَعَمْ لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ الَّتِي مَا تَزَوَّجَتْ بَلْ بِمَنْزِلَةِ الَّتِي مَاتَ زَوْجُهَا أَوْ الَّتِي طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ تَخَافَ عَلَيْهِ الْمَوْتَ. فَمَا مِنْ ضَرَرٍ يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا وَمِثْلُهُ ثَابِتٌ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعَدُّ ضَرَرًا، وَإِنْ عُدَّ فَهُوَ مِمَّا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُ الْحَاكِمِينَ، وَلَيْسَ هُوَ بِمَحْذُورٍ يَخَافُ وُقُوعَهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِذَا اسْتَبَانَ هَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إنَّمَا نَحْكُمُ بِفَسَادِ الْعَقْدِ، إذَا كَانَ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَإِنَّهُ يُقَالُ أَتُرِيدُ بِهِ التَّحْرِيمَ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ فَقَطْ أَوْ التَّحْرِيمَ الظَّاهِرَ إنْ أَرَدْت بِهِ الْأَوَّلَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا هُوَ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، لَكِنْ انْتَفَى حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ لِفَوَاتِ الْمَشْرُوطِ. فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ عَلِمَتْ بِهَذَا الْقَصْدِ لَحَرُمَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا، وَهَذَا هُوَ التَّحْرِيمُ الْبَاطِنُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ فَسَدَ الْعَقْدُ فِي الْبَاطِنِ لِوُجُودِ التَّحْرِيمِ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، وَفَسَدَ فِي الظَّاهِرِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ لِوُجُودِ التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ ظَاهِرًا، فَتَرَتَّبَ عَلَى كُلِّ تَحْرِيمٍ مِنْ الْفَسَادِ مَا يُنَاسِبُهُ فِي مَحَلِّهِ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا وَإِنْ أَرَدْت بِهِ التَّحْرِيمَ الظَّاهِرَ أَوْ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ، مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا هُوَ الشَّرْطُ فِي

الْفَسَادِ، بَلْ قَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يُشْتَرَطُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْفَسَادِ فِي صُوَرِ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا بِالْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ لَا يَأْثَمُ وَلَوْ سُلِّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ صَحِيحٌ؛ فَيُقَالُ لَهُ هَلْ هُوَ صَحِيحٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَوْ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ فَقَطْ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَمْنُوعٌ وَكَذَلِكَ إنْ قَاسَهُ عَلَى صُورَةِ الْمُصَرَّاةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ انْتِفَاعَ الْبَائِعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فِي صُورَةِ التَّصْرِيَةِ وَالتَّدْلِيسِ حَلَالٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ مِلْكُ الْبَائِعِ الْعِوَضَ، إذَا كَانَ ظَالِمًا كَمَا نَقُولُهُ نَحْنُ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الْحَيْلُولَةِ، إذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِلْكِهِ فَإِنَّ الْمَظْلُومَ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْبَدَلِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ حَلَالًا، وَالْغَاصِبُ الظَّالِمُ لَا يَمْلِكُ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا وَنَظَائِرُهَا كَثِيرَةٌ وَإِذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّة الْعَقْدِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ النِّكَاحَ الْمُبِيحَ لِعَوْدِهَا إلَى الْأَوَّلِ هُوَ مَا كَانَ صَحِيحًا مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونِ الْآخَر، لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْمَنْعُ أَنَّهُ لَوْ نَكَحَ مَعِيبَةً مُدَلِّسَةً لِلْعَيْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْعَيْبِ حَتَّى طَلَّقَهَا، أَوْ نَكَحَ الْمَعِيبُ صَحِيحَةً مُدَلِّسًا لِعَيْبٍ وَلَمْ تَعْلَمْ بِعَيْبِهِ حَتَّى طَلَّقَهَا أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا بِهَذَا النِّكَاحِ، وَفِيهِ نَظَرٌ وَقَدْ يُقَالُ: هَذَا قَوِيٌّ عَلَى أَصْلِنَا. فَإِنَّا نَقُولُ لَوْ وَطِئَهَا وَطْئًا مُحَرَّمًا بِحَيْضٍ أَوْ إحْرَامٍ أَوْ صِيَامٍ لَمْ يُبِحْهَا لِلْأَوَّلِ فِي الْمَنْصُوصِ مِنْ الْمَذْهَبِ، فَإِذَا اعْتَبَرْنَا حِلَّ الْوَطْءِ فَهَذِهِ الْعَادَةُ لَا يَحِلُّ لَهَا الِاسْتِمْتَاعُ لَكِنْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ بِأَنَّ التَّحْرِيمَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَطْءِ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ الْعَقْدُ مُحَرَّمًا لِحَقِّ اللَّهِ، وَفِي مَسْأَلَةِ تَدْلِيسِ الْعَيْبِ التَّحْرِيمُ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَطِئَهَا فِي حَالَةِ مَرَضٍ شَدِيدٍ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْجَوَابُ فَيَكْفِي الْجَوَابُ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا إذَا بَاعَ سِلْعَةً لِمَنْ نِيَّتُهُ أَنْ يُعْصَى بِهَا، وَالْبَائِعُ لَا يَعْلَمُ النِّيَّةَ فَمَا دَامَ عَدَمُ هَذَا الْعِلْمِ مُسْتَصْحَبًا فَلَا إشْكَالَ، وَإِذَا عَلِمَ الْبَائِعُ بَعْدَ الْعَقْدِ بِقَصْدِ الْمُشْتَرِي فَمَنْ الَّذِي سَلَّمَ أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ اسْتِرْجَاعُ الْمَبِيعِ وَرَدُّ الثَّمَنِ، لَوْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْقَصْدَ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ، وَلَوْ سَلِمَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ أَوْ سَلِمَ أَنَّ نِيَّةَ الْمُشْتَرِي إذَا تَغَيَّرَتْ لَمْ تَحْتَجْ إلَى اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ، فَالْفَرْقُ مَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، مَعَ أَنَّ هَذَا الْقَصْدَ لَمْ يُنَافِ نَفْسَ الْعَقْدِ. فَإِنَّ قَصْدَ التَّحْلِيلِ قَصْدٌ لِرَفْعِ الْعَقْدِ وَذَلِكَ مُنَافٍ لَهُ، وَهُنَا الْقَصْدُ قَصْدُ الِانْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ، وَهَذَا الْقَصْدُ مُسْتَلْزِمٌ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ لَا لِفَسْخِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِنِيَّةِ يَأْتِيهَا فِي الْمَحَلِّ

الْمَكْرُوهِ، لَكِنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَفْعَلَ فِي مِلْكِهِ مُحَرَّمًا، فَالْبَائِعُ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْإِعَانَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِالْبَيْعِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ فَالْبَائِعُ بَائِعٌ غَيْرَهُ بَيْعًا ثَابِتًا، وَذَلِكَ الْغَيْرُ اشْتَرَى شِرَاءً ثَابِتًا وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُعِينَ غَيْرَهُ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُهُ مَعْصِيَةً، وَقَصْدُهُ لَمْ يُنَافِ الْعَقْدَ وَلَا مُوجَبَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ حَرَامًا تَحْرِيمًا لَا يَخْتَصُّ بِالْعَقْدِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ بِمَا قَدْ مَلَكَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، لَوَجَبَ مَنْعُهُ عَنْ ذَلِكَ وَحَرُمَتْ إعَانَتُهُ. فَالْبَائِعُ إذَا عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِنِيَّتِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُفَّهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا. وَفِي الْجُمْلَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نَظَرٌ فَيُجَابُ عَنْهَا بِالْجَوَابِ الْمُرَكَّبِ، وَهُوَ إنْ كَانَتْ مِثْلَ مَسْأَلَتِنَا الْتَزَمْنَا التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِثْلَهَا لَمْ يَصِحَّ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَوَّغَ الْإِمْسَاكَ بِمِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ، فَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ حَدِيثَ عُمَرَ وَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عُمَرُ قَالَ هَذَا، فَلَنْ يَقْتَضِيَ كَوْنَ مُعَقَّدٍ يَصِحُّ إذَا زَالَتْ النِّيَّةُ الْفَاسِدَةُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ صَحِيحًا مَعَ وُجُودِهَا كَمَا قَدْ ذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ الْمُلْحَقَ بِالْعَقْدِ إذَا حُذِفَ بَعْدَهُ صَحَّ الْعَقْدُ، وَهَذَا مِمَّا يُسَوَّغُ فِيهِ الْخِلَافُ، وَقَدْ ذَهَبَ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَى مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ. وَأَمَّا صِحَّةُ عَقْدِ الْمُحَلِّلِ بِكُلِّ حَالٍ فَلَمْ يُنْقَلْ لَا عَنْ عُمَرَ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ سَمَّاهُ مُحَلِّلًا وَالْمُحَلِّلُ هُنَا الَّذِي يَجْعَلُ الشَّيْءَ حَلَالًا كَمَا فِي نَظَائِرِهِ مِثْلُ مُحَسِّنٍ وَمُقَبِّحٍ وَمُعَلِّمٍ وَمُذَكِّرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ مُحَلِّلًا مَلْعُونًا وَالْآخَرُ مُحَلَّلًا لَهُ مَلْعُونًا. قُلْنَا: هَذَا سُؤَالٌ لَا يَحِلُّ إيرَادُهُ، أَتَرَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَلْعَنُ مَنْ جَاءَ إلَى شَيْءٍ مُحَرَّمٍ فَصَارَ بِفِعْلِهِ حَلَالًا عِنْدَ اللَّهِ» كَلًّا وَلَمَّا، كَيْفَ وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» ، «وَمَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إثْمًا، فَإِنْ كَانَ إثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ» ، فَإِنَّ هَذَا بِمَنْ يَحْمَدُهُ وَيَدْعُو لَهُ أَوْلَى مِنْهُ بِمَنْ يَلْعَنُهُ وَيَذُمُّهُ. ثُمَّ هُوَ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بِالْمُحَلِّلِ مَنْ جَعَلَ الشَّيْءَ حَلَالًا فِي الْحَقِيقَةِ لَكَانَ كُلُّ مَنْ نَكَحَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا مُحَلِّلًا وَلَمَا كَانَ مَلْعُونًا وَهَذَا بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ

الثَّانِي: أَنَّ فِعْلَهُ إذَا كَانَ مُحَرَّمًا لِأَجْلِ اللَّعْنَةِ عَلَيْهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ فَاسِدٌ، وَامْتَنَعَ أَنْ يَصِيرَ الْفَرْجُ الْمُحَرَّمُ حَلَالًا بِالنِّكَاحِ الْمُحَرَّمِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تُبَاحُ إلَّا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ إلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ تُبَاحُ بِنِكَاحٍ يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا فِي الشَّرْعِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَطْلَقَ النِّكَاحَ فِي الْقُرْآنِ، وَالنِّكَاحُ الْمُطْلَقُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَأَجْمَعُوا فِيمَا نَعْلَمُ عَلَى أَنَّ الْأَنْكِحَةَ الْمُحَرَّمَةَ فَاسِدَةٌ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ عَلِمْنَاهُ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ أَوْ غَيْرَهُ حَرَامٌ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُحَرَّمَةِ، هَلْ تَكُونُ صَحِيحَةً، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ التَّحْرِيمَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفُرُوجَ مَحْظُورَةٌ قَبْلَ الْعَقْدِ، فَلَا تُبَاحُ إلَّا بِمَا أَبَاحَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ النِّكَاحِ أَوْ الْمِلْكِ، كَمَا أَنَّ اللُّحُومَ قَبْلَ التَّذْكِيَةِ حَرَامٌ فَلَا تُبَاحُ إلَّا بِمَا أَبَاحَهُ اللَّهُ مِنْ التَّذْكِيَةِ، وَهَذَا بَيِّنٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ لَعَنَ الْمُحَلَّلَ لَهُ وَهُوَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ فِعْلٌ، فَلَوْ كَانَتْ قَدْ حَلَّتْ لَهُ وَقَدْ نَكَحَ امْرَأَةً حَلَالًا لَهُ لَمْ يَجُزْ لَعْنُهُ عَلَى ذَلِكَ. الرَّابِعُ: إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْلِيلَ حَرَامٌ بَلْ مِنْ الْكَبَائِرِ وَجَعْلُ الْحَرَامِ حَلَالًا إذَا صَارَ حَلَالًا عِنْدَ اللَّهِ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَهُوَ حَسَنٌ مُسْتَحَبٌّ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْحَدِيثَ نَصَّ فِي أَنَّ فِعْلَ الْمُحَلِّلَ حَرَامٌ وَعَوْدُهَا لِلْمُحَلَّلِ لَهُ بِهَذَا السَّبَبِ حَرَامٌ، فَيَجِبُ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ وَالْكَفُّ عَنْهُ، وَيَكُونُ مَنْ أَذِنَ فِيهِ أَوْ فَعَلَهُ عَاصِيًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي هُنَا، فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ حِلَّهَا بِهَذَا التَّحْلِيلِ لَا يَرَى وَاحِدًا مِنْ الْأَمْرَيْنِ حَرَامًا بَلْ يُبِيحُ نَفْسَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيَسْتَحِلُّ ذَلِكَ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ وَجَعْلُهُ مُحَلِّلًا، فَلِأَنَّهُ قَصَدَ التَّحْلِيلَ وَنَوَاهُ وَلَمْ يَقْصِدْ حَقِيقَةَ النِّكَاحِ، مَعَ أَنَّ الْحِلَّ لَا يَحْصُلُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، وَلِأَنَّهُ حَلَّلَ الْحَرَامَ أَيْ جَعَلَهُ يُسْتَحَلُّ كَمَا يُسْتَحَلُّ الْحَلَالُ، وَمَنْ أَبَاحَ الْمُحَرَّمَاتِ وَحَلَّلَهَا بِقَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ يُقَالُ مُحَلِّلٌ لِلْحَرَامِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ إلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا يُضَافُ عَلَى وَجْهِ الْحَمْدِ إلَى مَنْ فَعَلَ سَبَبًا يَجْعَلُ الشَّارِعُ الشَّيْءَ بِهِ حَلَالًا أَوْ مُحَرَّمًا. لَكِنْ لَمَّا كَانَ التَّحْرِيمُ جَعْلَ الشَّيْءِ مُحَرَّمًا أَيْ مَحْظُورًا، وَالتَّحْلِيلُ جَعْلُهُ مُحَلَّلًا أَيْ مُطْلَقًا، كَانَ كُلُّ مَنْ أَطْلَقَ الشَّيْءَ وَأَبَاحَهُ بِحَيْثُ يُطَاعُ فِي ذَلِكَ يُسَمَّى مُحَلِّلًا وَمِنْهُ

قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37] لَمَّا أَطْلَقُوهُ لِمَنْ أَطَاعَهُمْ تَارَةً وَحَظَرُوهُ عَلَيْهِ أُخْرَى كَانُوا مُحِلِّينَ مُجْرِمِينَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] لَمَّا مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ الْأَمَةِ أَوْ الْعَسَلِ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ أَوْ بِالْحَرَامِ صَارَ ذَلِكَ تَحْرِيمًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا} [يونس: 59] وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139] . وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْ رَبِّهِ: «إنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَهُمْ الشَّيَاطِينُ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] قَالَ: «أَمَا إنَّهُمْ مَا عَبَدُوهُمْ وَلَكِنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ» . وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَرْكَبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» ، وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة: 121] يُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ وَيَحِلُّونَ حَلَالَهُ} ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ فَلَمَّا كَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَصَدَ أَنْ يُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ، وَقَدْ يَجْعَلُهَا فِي ظَنِّ مَنْ أَطَاعَهُ حَلَالًا وَهِيَ حَرَامٌ يُسَمَّى مُحَلِّلًا؛ لِذَلِكَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ لَعْنَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُحَلِّلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحِلَّ إذَا ثَبَتَ لَمْ يُطْلَقْ عَلَى صَاحِبِهِ مُحَلِّلٌ، وَإِلَّا فَيَكُونُ كُلُّ نَاكِحٍ لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا مُحَلِّلًا، وَإِنْ نِكَاحَ رَغْبَةٍ فَيَدْخُلُ فِي اللَّعْنَةِ وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُحَلِّلَ اسْمٌ لِمَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ وَجَعَلَهَا حَلَالًا وَلَيْسَتْ بِحَلَالٍ؛ لِأَنَّهُ حَلَّلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ بِتَدْلِيسِهِ وَتَلْبِيسِهِ وَقَصَدَ أَنْ يُحِلَّهَا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا قَاصِدًا لِلتَّحْلِيلِ، وَأَصْلُ هَذَا

أَنَّ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَرِّمَ هُوَ مَنْ جَعَلَ الشَّيْءَ حَلَالًا وَحَرَامًا، إمَّا فِي ذَاتِهِ أَوْ فِي الِاعْتِقَادِ، ثُمَّ إنَّهُ يُقَالُ لِلرَّجُلِ أَحَلَّ الشَّيْءَ إذَا أَطْلَقَهُ لِمَنْ يُطِيعُهُ. وَحَرَّمَهُ إذَا مَنَعَ مَنْ يُطِيعُهُ مِنْهُ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يُزَكِّي فُلَانًا وَيُعَدِّلُهُ وَيُصَدِّقُهُ وَيُكَذِّبُهُ إذَا كَانَ يَجْعَلُهُ كَذَلِكَ فِي الِاعْتِقَادِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَيُقَالُ لِمَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ مُحَلِّلٌ فَصَارَ الْمُحَلِّلُ يُقَالُ لِأَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: لِمَنْ أَثْبَتَ الْحِلَّ الشَّرْعِيَّ حَقِيقَةً أَوْ إظْهَارًا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] ، وَالثَّانِي: لِمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يُحَلِّلُ الْمُتْعَةَ وَيُحَلِّلُ نِكَاحَ الْخَامِسَةِ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ. وَالثَّالِثُ: لِمَنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَكَمَا يُقَالُ السُّلْطَانُ قَدْ حَرَّمَ الْفُلُوسَ وَأَحَلَّهَا. وَالرَّابِعُ: لِمَنْ قَصَدَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فَكُلُّ مِنْ أَثْبَتَ الْمَصْدَرَ الثُّلَاثِيَّ فِي الْوُجُودِيِّ الْعَيْنِيِّ أَوْ الْعِلْمِيِّ عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ جَازَ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْصِدْ الْأَوَّلَ وَلَا الثَّانِيَ، فَثَبَتَ أَنَّهُ قَصَدَ الثَّالِثَ وَالرَّابِعَ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ نَعَمْ تَسْمِيَةُ الْفَرَسِ مَعَ الْفَرَسَيْنِ مُحَلِّلًا هُوَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ قِيلَ: نَحْمِلُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى شَرْطِ التَّحْلِيلِ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَخْصِيصٌ، فَالْمُوجِبُ لَهُ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الْعَقْدِ مَا قَارَنَتْهُ دُونَ مَا تَقَدَّمَتْهُ كَمَا فِي الشُّرُوطِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْبَيْعِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ أَظْهَرَ التَّحْلِيلَ دُونَ مَنْ نَوَاهُ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهَا ظَاهِرُهَا دُونَ بَاطِنِهَا، وَإِلَّا لَكَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْعَاقِدِ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَى نِيَّةِ الْآخَرِ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ يَفْتَقِرُ إلَى الشَّهَادَةِ فَلَوْ كَانَتْ النِّيَّةُ مُؤَثِّرَةً فِيهِ لَمْ تَنْفَعْ الشَّهَادَةُ، إذَا كَانَ قَصْدُ الرَّغْبَةِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِنِيَّةِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ وَلَا يَهَبَهُ صَحَّ ذَلِكَ، وَلَوْ شَرَطَ ذَلِكَ فِيهِ كَانَ فَاسِدًا، فَعُلِمَ أَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ كَالشَّرْطِ، هَذَا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ لَفْظَ التَّحْلِيلِ يَعُمُّ الْمَشْرُوطَ فِي الْعَقْدِ وَغَيْرَهُ، وَإِلَّا فَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْمُحَلِّلَ إنَّمَا هُوَ مَنْ شَرَطَ التَّحْلِيلَ فِي الْعَقْدِ، فَأَمَّا مَنْ نَوَاهُ

فَلَيْسَ هُوَ مُحَلِّلًا أَصْلًا فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ هَذَا تَخْصِيصًا وَدَلِيلُ هَذَا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْعَقْدِ اسْمًا وَحُكْمًا مَا قَارَنَهُ وَهُوَ الَّذِي يَخْتَلِفُ الْإِسْلَامُ بِاخْتِلَافِهِ، فَأَمَّا مُجَرَّدُ الْبَاطِنِ فَلَا يُوجِبُ تَغْيِيرَ الِاسْمِ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْقَاصِدَ لِلتَّحْلِيلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ مُحَلِّلٌ حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْحَدِيثِ وَإِلَّا فَالْأَصْلُ عَدَمُ دُخُولِهِ، قُلْنَا الْكَلَامُ فِي مَقَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْمَ الْمُحَلِّلِ يَعُمُّ الْقَاصِدَ وَالشَّارِطَ فِي الْعَقْدِ، وَقَبْلَهُ بِمَعْنَى أَنَّ لَفْظَ الْمُحَلِّلِ يَقَعُ عَلَى هَذَا كُلِّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ إجْرَاءُ الْحَدِيثِ عَلَى عُمُومِهِ، وَأَنَّ عُمُومَهُ مُرَادٌ. أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدِهَا: أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُسَمُّونَ الْقَاصِدَ لِلتَّحْلِيلِ مُحَلِّلًا، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْهُ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُحَلِّلُ عَامًّا لِكُلِّ مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ مُحَلِّلًا وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْهُ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُحَلِّلُ عَامًّا لِكُلِّ مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ، وَإِلَّا كَانَ إطْلَاقُهُ عَلَى غَيْرِ الشَّارِطِ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ أَوْ الْمَجَازِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ إلَّا لِمُوجِبٍ وَلَا مُوجِبَ مِثْلَ مَا سَيَأْتِي عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّلِ لَهُ قَالَ: لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ، وَإِنْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً، إذَا عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمَا أَرَادَا أَنْ يُحَلِّلَاهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا سُئِلَ عَمَّنْ يَقْصِدُ التَّحْلِيلَ، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ، فَإِنَّهُ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ سُمِّيَ مُحَلِّلًا، وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ: إذَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمَا مُحَلَّلَانِ لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ، فَأَطْلَقَ عَلَى الْقَاصِدِ اسْمَ الْمُحَلِّلِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا فَقَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ هُمَا زَانِيَانِ " فَسُئِلَ عَمَّنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ فَأَجَابَ بِلَعْنَةِ الْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّلِ لَهُ، فَعُلِمَ دُخُولُ الْقَاصِدِ فِي الْمُحَلِّلِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ قَدْ أَجَابَ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ كَمَا قَدَّمْنَا فِي أَلْفَاظِ السَّلَفِ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَلْفَاظِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ مَنْ تَأَمَّلَهَا عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ الْقَاصِدَ لِلتَّحَلُّلِ مُحَلِّلًا، وَيَدْخُلُ عِنْدَهُمْ فِي الِاسْمِ إذْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ مُحَلِّلًا لِعَدَمِ الشَّارِطِ فِي الْعَقْدِ عِنْدَهُمْ أَوْ لِقِلَّتِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ مِنْهُمْ الْجَوْهَرِيُّ الْمُحَلِّلُ فِي النِّكَاحِ الَّذِي يَتَزَوَّجُ

الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَتَّى تَحِلَّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَجَعَلُوا كُلَّ مَنْ تَزَوَّجَهَا لِتَحِلَّ لِلْأَوَّلِ مُحَلِّلًا فِي اللُّغَةِ. الثَّالِثِ: اسْتِعْمَالُ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ إلَى الْيَوْمِ فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَ كُلَّ مَنْ تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ لِيُحِلَّهَا مُحَلِّلًا وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ التَّحْلِيلَ فِي الْعَقْدِ. وَالْأَصْلُ بَقَاءُ اللُّغَةِ وَتَقْرِيرُهَا لَا نَقْلُهَا وَتَغْيِيرُهَا، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ اسْمَ الْمُحَلِّلِ كَانَ مَقْصُورًا فِي لُغَةِ مَنْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. عَلَى الشَّارِطِ فِي الْعَقْدِ وَإِلَّا لَمْ يَحْكُمْ بِأَنَّهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَنْقُولَةِ أَوْ الْمُغَيَّرَةِ، فَكَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَهْلِ عَصْرِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ مُحَلِّلًا، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْهُ، وَكَذَلِكَ نَقَلَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ بَاطِلٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ بَاطِلٌ إذَا شَرَطَ التَّحْلِيلَ فِي الْعَقْدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ صَحِيحٌ، وَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُحَلِّلَ يَنْقَسِمُ إلَى قَاصِدٍ وَإِلَى شَارِطٍ، وَلَيْسَ تَصْحِيحُ بَعْضِهِمْ لِنِكَاحِ الْقَاصِدِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُحَلِّلًا كَمَا أَنَّ مَنْ صَحَّحَ نِكَاحَ الشَّارِطِ فَإِنَّهُ يُسَمِّيهِ أَيْضًا مُحَلِّلًا إذْ الْفُقَهَاءُ إنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ النِّكَاحِ. لَا فِي اسْمِهِ فَثَبَتَ بِالنَّقْلِ وَاسْتِعْمَالِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَنَّ هَذَا يُسَمَّى مُحَلِّلًا. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُحَلِّلَ اسْمٌ لِمَنْ حَلَّلَ الشَّيْءَ الْحَرَامَ فَإِنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ لِمَنْ أَحَلَّ الْمَرْأَةَ وَحَلَّلَهَا، إذَا جَعَلَهَا حَلَالًا، وَهَذَا الْمَعْنَى يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا فَإِنَّا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَعْنِ بِهِ مَنْ جَعَلَهَا حَلَالًا فِي حُكْمِ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ. وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ وَأَرَادَهُ وَهَذَا الْمَعْنَى بِالْمُرِيدِ أَخَصُّ مِنْهُ بِالشَّارِطِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَنْ جَعَلَهَا حَلَالًا عِنْدَ النَّاسِ وَلَيْسَتْ حَلَالًا عِنْدَ اللَّهِ، فَهَذَا أَيْضًا فِي الْقَاصِدِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الشَّارِطِ إذْ الشَّارِطُ قَدْ أَظْهَرَ الْمُفْسِدَ لِلْعَقْدِ فَلَا يَحْصُلُ الْحِلُّ لَا فِي الظَّاهِرِ وَلَا فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ الْكَاتِمِ لِلْقَصْدِ فَعُلِمَ أَنَّ إظْهَارَ التَّحْلِيلِ أَوْ اشْتِرَاطَهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ اسْمِ الْمُحَلِّلِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إذَا كَانَ قَدْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ وَأَرَادَهُ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ يُسَمَّى مُحَلِّلًا، إذَا بَاشَرَ سَبَبَهُ، كَمَا يُسَمَّى مَنْ حَرَّمَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مُحَرِّمًا لِقَصْدِ التَّحْرِيمِ وَمُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ التَّحْلِيلَ فِي الْعَقْدِ يُسَمَّى مُحَلِّلًا لِاشْتِرَاطِهِ إيَّاهُ وَإِذَا كَانَ قِيَاسُ التَّصْرِيفِ وَالْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، تُوجِبُ تَسْمِيَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا مُحَلِّلًا، لَمْ يَجُزْ سَلْبُ أَحَدِهِمَا اسْمَ التَّحْلِيلِ، بَلْ يَكُونُ اللَّفْظُ شَامِلًا لَهُمَا، وَاعْلَمْ أَنَّا سَنُبَيِّنُ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّ الْحَدِيثَ قُصِدَ بِهِ وَعَنَى بِهِ مَنْ

قَصَدَ التَّحْلِيلَ وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُرَادٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ أَيْضًا يَشْمَلُهُ، فَإِنَّا كَمَا نَسْتَدِلُّ بِشُمُولِ اللَّفْظِ لَهُ عَلَى إرَادَتِهِ نَسْتَدِلُّ أَيْضًا بِإِرَادَتِهِ عَلَى شُمُولِ اللَّفْظِ لَهُ. وَهَذَا هُوَ الْمَقَامُ الثَّانِي فَنَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ عَنَى بِهِ كُلَّ مُحَلِّلٍ أَظْهَرَ التَّحْلِيلَ أَوْ أَضْمَرَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَصْرُهُ عَلَى مَنْ شَرَطَ التَّحْلِيلَ وَحْدَهُ وُجُوهٌ عَشَرَةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَدِيثَ أَدْنَى أَحْوَالِهِ أَنْ يَشْمَلَ التَّحْلِيلَ الْمَشْرُوطَ وَالْمَقْصُودَ فَإِنَّ لَفْظَ التَّحْلِيلِ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جَعْلُ الْمَرْأَةِ حَلَالًا، أَيْ قَصْدُ أَنْ تَكُونَ حَلَالًا، وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ قَصَدَ وَلَمْ يَشْرِطْ وَلَا مُوجِبَ لِتَخْصِيصِهِ، وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ مُخَصِّصًا، بَلْ الْأَدِلَّةُ عَلَى عُمُومِ الْحُكْمِ تُعَضِّدُ هَذَا الْعُمُومَ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ إذَا تَنَاوَلَ صُوَرًا كَثِيرَةً مَوْجُودَةً وَأَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْصِبَ دَلِيلًا يُبَيِّنُ خُرُوجَ مَا لَمْ يُرِدْهُ، فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحَدِيثِ لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ الَّذِي يُظْهِرُ التَّحْلِيلَ، أَوْ الَّذِي يَشْتَرِطُ التَّحْلِيلَ أَوْ الَّذِي يَكْتُمُ التَّحْلِيلَ، وَلَمْ يَجِئْ فِي شَيْءٍ مِنْ النُّصُوصِ مَا يُخَالِفُ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ الْعَمَلُ بِهِ مُتَعَيِّنًا، وَعُلِمَ أَنَّ الشَّارِعَ قَصَدَ مَفْهُومَهُ وَمَعْنَاهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ الْمَشْرُوطَ فِي الْعَقْدِ خَاصَّةً أَوْ التَّحْلِيلَ الَّذِي تَوَاطَئُوا عَلَيْهِ دُونَ الْمَقْصُودِ. لَلَعَنَ الزَّوْجَةَ وَالْوَلِيَّ كَمَا لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ، وَلَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَبَائِعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا، بَلْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَحَقُّ بِاللَّعْنِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّهَا شَارَكَتْ كُلًّا مِنْهُمَا فِيمَا يَفْعَلُهُ، فَصَارَ إثْمُهَا بِمَنْزِلَةِ إثْمِهِمَا جَمِيعًا، وَإِذَا كَانَ يَلْعَنُ الشَّاهِدَ وَالْكَاتِبَ فَالْوَلِيُّ وَالْعَاقِدُ أَوْلَى، فَلَمَّا خَصَّ بِاللَّعْنَةِ الزَّوْجَيْنِ عُلِمَ أَنَّهُ عَنَى التَّحْلِيلَ الْمَقْصُودَ الْمَكْتُومَ عَنْ الْمَرْأَةِ وَوَلِيِّهَا، وَهُوَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ الصَّدِيقُ مَعَ صَدِيقِهِ عِنْدَ الطَّلَاقِ مِنْ تَزَوُّجِهِ بِالْمُطَلَّقَةِ لِيُحِلَّهَا لَهُ وَهُمَا قَدْ عَلِمَا ذَلِكَ، وَالْمَرْأَةُ وَأَهْلُهَا لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَعَنَ شَاهِدَيْ الرِّبَا وَكَاتِبَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّهُ لَعَنَ شَاهِدَيْ الرِّبَا وَكَاتِبَهُ إذَا عَلِمُوا بِهِ وَلَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ، مَعَ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ فِي النِّكَاحِ أَوْكَدُ، فَلَوْ كَانَ التَّحْلِيلُ ظَاهِرًا لَلَعَنَ الشَّاهِدَيْنِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ تَحْلِيلٌ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ، وَأَنَّ الْمُحَلِّلَ لَمْ يَكُنْ يُظْهِرُ تَحْلِيلَهُ لِأَحَدٍ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ التَّحْلِيلَ الْمَشْرُوطَ فِي الْعَقْدِ لَا يَتِمُّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَا سِيَّمَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَشْهَدُ بِهِ الشُّهُودُ فَيَظْهَرُ لِلنَّاسِ فَيُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَيَحُولُونَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ هَذَا النِّكَاحِ، كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ يَقُولُ هِيَ أُخْتُهُ أَوْ بِنْتُهُ أَوْ رَبِيبَتُهُ فَإِنَّهُ مَتَى أَرَادَ أَنْ يَنْكِحَ نِكَاحًا فَاسِدًا وَأَظْهَرَ فَسَادَهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ ذَلِكَ، فَلَمَّا لَعَنَ الْمُحَلِّلَ زَجْرًا عَنْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَخْفَى عَلَى الْعَامَّةِ كَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَغَيْرِ ذَلِكَ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ لَعَنَ مَنْ نَكَحَ نِكَاحًا مُحَرَّمًا إلَّا الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ، مَعَ أَنَّ سَائِرَ الْأَنْكِحَةِ الْمُحَرَّمَةِ مِثْلَ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَنَحْوَهُنَّ مِثْلُ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَأَغْلَظُ، وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِإِظْهَارِ اللَّعْنِ بَيَانُ الْعُقُوبَةِ لِتَنْزَجِرَ النُّفُوسُ بِذَلِكَ، وَسَائِرُ الْأَنْكِحَةِ الْمُحَرَّمَةِ لَا يَتَمَكَّنُ مُرِيدُهَا مِنْ فِعْلِهَا؛ لِأَنَّ شَاهِدَيْ الْعَقْدِ وَالْوَلِيَّ وَغَيْرَهُمْ يَطَّلِعُونَ عَلَى السَّبَبِ الْمُحَرَّمِ، فَلَا يُمَكِّنُونَهُ بِخِلَافِ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّ السَّبَبَ الْمُحَرَّمَ فِي حَقِّهِ بَاطِنٌ، ثُمَّ تِلْكَ الْمَنَاكِحُ قَدْ ظَهَرَ تَحْرِيمُهَا فَلَا يُشْتَبَهُ حَالُهَا، بِخِلَافِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّهُ قَدْ يُشْتَبَهُ حَالُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ؛ لِأَنَّ صُورَتَهُ صُورَةُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ بِاللَّعْنَةِ مَنْ أَسَرَّ التَّحْلِيلَ، ثُمَّ يَكُونُ هَذَا تَنْبِيهًا عَلَى مَنْ أَظْهَرَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَلَعَنَ بَائِعَ الْخَمْرِ وَمُبْتَاعَهَا. قِيلَ: الْبَيْعُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إشْهَادٍ وَإِعْلَانٍ فَتَقَعُ هَذِهِ الْعُقُودُ مِنْ غَيْرِ ظُهُورٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا تَقَعُ الْفَاحِشَةُ وَالسَّرِقَةُ. وَلِهَذَا لَعَنَ الشَّاهِدَيْنِ إذَا عَلِمَا أَنَّهُ رِبًا، فَإِنَّهُمَا قَدْ يُسْتَشْهَدَانِ عَلَى دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ وَلَا يَشْعُرَانِ أَنَّهُ رِبًا، وَلَا يَتِمُّ مَقْصُودُ الْمُرْبِي غَالِبًا إلَّا بِالْإِشْهَادِ عَلَى الدَّيْنِ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ الشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّ بَيْعَهَا لَا يَكُونُ غَالِبًا إلَى أَجَلٍ. يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَلْعَنْ مَنْ عَقَدَ بَيْعًا مُحَرَّمًا إلَّا فِي الْخَمْرِ وَالرِّبَا؛ لِأَنَّ شَاهِدَيْ النَّوْعَيْنِ هُمَا اللَّذَانِ يَقَعُ فِيهِمَا الِاحْتِيَالُ وَالتَّأْوِيلُ بِأَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَصِيرَهُ لِمَنْ يَتَّخِذَهُ خَمْرًا، مُتَأَوِّلًا أَنَّى لَمْ أَبِعْ الْخَمْرَ، وَبِأَنْ يُرْبِيَ بِصُورَةِ الْبَيْعِ مُتَأَوِّلًا أَنَّى بَائِعٌ لَا مُرْبٍ، وَهُمَا اللَّذَانِ يَقَعُ الشَّرُّ فِيهِمَا أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِمَا، فَظَهَرَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا لَعَنَ الْعُقُودَ ثَلَاثَةَ

أَصْنَافٍ، صِنْفَ التَّحْلِيلِ وَصِنْفَ الرِّبَا وَصِنْفَ الْخَمْرِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي تَقَدَّمَ الْبَيَانُ بِأَنْ سَيَكُونَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يَسْتَحِلُّهَا، بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ، وَتَسْمِيَتِهَا بِغَيْرِ أَسْمَائِهَا فَخَصَّهَا بِاللَّعْنَةِ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَهَا غَيْرُ عَارِفِينَ بِأَنَّهَا مَعَاصٍ؛ وَلِأَنَّ مَعْصِيَتَهُمْ تَبْطُلُ غَالِبًا، فَلَا تَتَمَكَّنُ الْأُمَّةُ مِنْ تَغْيِيرِهَا؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَاصِيَ يَجْتَمِعُ فِيهَا الدَّاعِي الطَّبِيعِيُّ إلَى الْمَالِ وَالْوَطْءِ وَالشُّرْبِ، مَعَ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَرَامٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَثْرَتِهَا، وَلِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَيَكُونُ مَنْ يَفْعَلُهَا فَتَقَدَّمَ بِلَعْنَتِهِ زَجْرًا عَنْ ذَلِكَ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَنِكَاحِ الْأُمِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا تَأَمَّلَهُ اللَّبِيبُ عَلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ لَعْنَةَ مَنْ أَبْطَنَ التَّحْلِيلَ، وَإِنْ كَانَ مَنْ أَظْهَرَهُ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ وَبِطَرِيقِ الْعُمُومِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ التَّحْلِيلَ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ بِرَغْبَةٍ مِنْ الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا فَحِينَئِذٍ فَإِمَّا أَنْ يُسِرَّ ذَلِكَ إلَى الْمُحَلِّلِ أَوْ يَشْرِطَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَعْقِدَ النِّكَاحَ مُطْلَقًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْمَرْأَةِ، فَالِاشْتِرَاطُ فِي الْعَقْدِ نَادِرٌ جِدًّا، لَا سِيَّمَا اللَّفْظُ الَّذِي يَعْتَبِرُهُ هَذَا السَّائِلُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ زَوَّجْتُك إلَى أَنْ تُحِلَّهَا أَوْ عَلَى أَنَّك إذَا وَطِئْتهَا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَكُمَا، أَوْ عَلَى أَنَّك إذَا وَطِئْتهَا طَلَّقْتهَا، فَإِنَّ الْعَقْدَ بِمِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ إمَّا نَادِرٌ أَوْ مَعْدُومٌ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ، وَاللَّفْظُ الْعَامُّ الشَّامِلُ لِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى لَا يَجُوزُ قَصْرُهُ عَلَى الصُّوَرِ الْقَلِيلَةِ دُونَ الْكَثِيرَةِ، فَإِنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ الْعَيِّ وَاللَّبْسِ وَكَلَامُ الشَّارِعِ مُنَزَّهٌ عَنْهُ، وَكَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» فَإِنَّ حَمْلَ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ مُمْتَنِعٌ بِلَا رَيْبٍ عِنْدَ كُلِّ ذِي لُبٍّ، وَمَنْ عَرَفَ عُقُودَ الْمُسْلِمِينَ، كَيْفَ كَانَتْ إنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ الْمَذْكُورَةَ لِلتَّحْلِيلِ مِثْلُ قَوْلِهِ زَوَّجْتُك عَلَى أَنَّك تُطَلِّقُهَا إذَا أَحْلَلْتهَا، أَوْ عَلَى أَنَّك إذَا وَطِئْتهَا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَكُمَا، لَمْ تَكُنْ تُعْقَدُ بِهَا الْعُقُودُ، عُلِمَ أَنَّ التَّحْلِيلَ الْمَلْعُونَ فَاعِلَهُ هُوَ مَا كَانَ وَاقِعًا مِنْ قَصْدِ التَّحْلِيلِ وَإِرَادَتِهِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ الْمُحَلِّلَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ التَّحْلِيلِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ أَثْبَتَ الْحِلَّ حَقِيقَةً، فَإِنَّ هَذَا لَا يُعْلَنُ بِالِاتِّفَاقِ. وَإِلَّا لَلَعَنَ كُلَّ مَنْ تَزَوَّجَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا فَعَلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى بِهِ أَنَّهُ أَرَادَ التَّحْلِيلَ وَسَعَى فِيهِ، وَالْحُكْمُ إذَا عُلِّقَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ مِنْ مَعْنَى كَانَ مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ عِلَّةً فَيَكُونُ الْمُوجِبُ لِلَّعْنَةِ أَنَّهُ قَصَدَ الْحِلَّ لِلْأَوَّلِ، وَسَعَى فِيهِ، فَتَكُونُ اللَّعْنَةُ عَامَّةً لِذَلِكَ عُمُومًا مَعْنَوِيًّا، وَمِثْلُ هَذَا الْعُمُومِ لَا يَجُوزُ

تَخْصِيصُهُ إلَّا لِوُجُودِ مَانِعٍ وَلَا مَانِعَ مِنْ عُمُومِهِ، فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِحَالٍ. يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّا لَوْ قَصَرْنَاهُ عَلَى التَّحْلِيلِ الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ هِيَ التَّحْلِيلَ وَلَا شَيْئًا مِنْ لَوَازِمِ التَّحْلِيلِ، بَلْ الْعِلَّةُ تَوْقِيتُ النِّكَاحِ أَوْ شَرْطُ الْفُرْقَةِ فِيهِ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ قَصْدِ التَّحْلِيلِ فَكَيْفَ تُعَلِّقُ الْحُكْمَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ مُنَاسِبٍ ثُمَّ لَا تَجْعَلُ الْعِلَّةَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُشْتَقَّ مِنْهُ، وَلَا شَيْئًا مِنْ لَوَازِمِهِ، بَلْ شَيْئًا قَدْ يُوجِبُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ، لَقَدْ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَعَنَ اللَّهُ مَنْ شَرَطَ التَّحْلِيلَ فِي الْعَقْدِ، وَهَذَا بَيِّنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّحْلِيلُ هُوَ الْمَشْرُوطَ فِي الْعَقْدِ فَقَطْ، لَكَانَ إنَّمَا لُعِنَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نِكَاحٌ مُؤَقَّتٌ أَوْ مَشْرُوطٌ فِيهِ زَوَالَهُ، أَوْ الْفُرْقَةَ، وَحِينَئِذٍ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُبَاحَ لَمَّا كَانَتْ الْمُتْعَةُ مُبَاحَةً، وَأَنْ يَكُونَ فِي التَّحْرِيمِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتْعَةِ، وَلَمَّا «لَعَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» ، وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْهُ لَعْنُ الْمُسْتَمْتِعِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ أُبِيحَ التَّحْلِيلُ فِي الْإِسْلَامِ قَطُّ، بَلْ هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ مِمَّنْ يَرَى إبَاحَةَ الْمُتْعَةِ وَيُفْتِي بِهَا، وَيَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ، وَيَلْعَنُ هُوَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَيُفْتِي بِتَحْرِيمِهِ وَيَقُولُ إنَّ التَّحْلِيلَ الْمَكْتُومَ مُخَادَعَةٌ لِلَّهِ، وَأَنَّهُ مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ، عُلِمَ أَنَّ التَّحْلِيلَ حُرِّمَ لِقَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى الْمُتْعَةِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَمْتِعَ لَهُ رَغْبَةٌ فِي الْمَرْأَةِ، وَقَصَدَ إنْ كَانَتْ إلَى أَجَلٍ، وَالْمُحَلِّلَ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِي النِّكَاحِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ بِمَنْزِلَةِ التَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْمَاشِيَةِ يَسْتَعِيرُ التَّيْسَ لَا لِأَجْلِ الْمِلْكِ وَالْقِنْيَةِ، وَلَكِنْ لِيُنْزِيَهُ عَلَى غَنَمِهِ، فَكَذَلِكَ الْمُحَلِّلُ لَا رَغْبَةَ لِلْمَرْأَةِ وَوَلِيِّهَا فِي مُصَاهَرَتِهِ وَمُنَاكَحَتِهِ وَاِتِّخَاذِهِ خَتَنًا، وَإِنَّمَا يَسْتَعِيرُونَهُ لِيُنْزُونَهُ عَلَى فَتَاتِهِمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ سَوَاءٌ شُرِطَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يُشْرَطْ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ قَرَنَهُ بِالْوَاشِمَةِ وَالْمُسْتَوْشِمَةِ وَالْوَاصِلَةِ وَالْمَوْصُولَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ هُوَ التَّدْلِيسُ وَالتَّلْبِيسُ، فَإِنَّ هَذِهِ تُظْهِرُ مِنْ الْخِلْقَةِ مَا لَيْسَ لَهَا، وَكَذَلِكَ الْمُحَلِّلُ يُظْهِرُ مِنْ الرَّغْبَةِ مَا لَيْسَ لَهُ، وَكَذَلِكَ قَرَنَهُ بِآكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ كِلَاهُمَا يَسْتَحِلُّ بِالتَّدْلِيسِ وَالْمُخَادَعَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا اسْتِحْلَالٌ لِلرِّبَا، وَهَذَا لِلزِّنَا وَالزِّنَا وَالرِّبَا فَسَادُ الْأَنْسَابِ وَالْأَمْوَالِ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَقَدِّمِ فِيمَا مَضَى وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثَ «مَا ظَهَرَ الرِّبَا

وَالزِّنَا فِي قَوْمٍ إلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ الْعِقَابَ» ، وَإِذَا كَانَ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا التَّدْلِيسَ وَالْمُخَادَعَةَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فِي التَّحْلِيلِ الْمَكْتُومِ أَبْيَنُ مِنْهُ فِي التَّحْلِيلِ الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ النَّصِّ فِي التَّحْلِيلِ الْمَقْصُودِ، وَأَنَّ أَصْحَابَهُ بَيَّنُوا أَنَّ مِنْ التَّحْلِيلِ الْمَقْصُودِ مَا قُصِدَ بِالْعَقْدِ سَوَاءٌ شُرِطَ أَوْ لَمْ يُشْرَطْ، وَهُمْ أَعْلَمُ بِمَقْصُودِهِ وَأَعْرَفُ بِمُرَادِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ اللُّغَوِيِّ، وَبِأَسْبَابِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَبِدَلَالَاتِ حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ رَوَى حَدِيثَ التَّحْلِيلِ، مِثْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا رَوَى الْحَدِيثَ وَفَسَّرَهُ بِمَا يُوَافِقُ الظَّاهِرَ وَلَا يُخَالِفُهُ، كَانَ الرُّجُوعُ إلَى تَفْسِيرِهِ وَاجِبًا مَانِعًا مِنْ التَّأْوِيلِ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ الْحَدِيثَ مُسْنَدًا فَقَدْ سَمَّاهُ مُحَلِّلًا، وَقَدْ ثَبَتَ بِمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْهَمُونَ مِنْ إطْلَاقِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ مَا قَصَدَ بِهِ التَّحْلِيلَ، وَإِنَّمَا نَهَى هَؤُلَاءِ عَنْهُ اسْتِدْلَالًا بِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ فَهِمُوا ذَلِكَ مِنْهُ. الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّحْلِيلُ يَنْقَسِمُ إلَى حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَصَحِيحٍ وَفَاسِدٍ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ مُتَفَرِّقَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ فِي أَوْقَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ وَأَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْهَا مَا هُوَ نَصٌّ فِي التَّحْلِيلِ الْمَقْصُودِ وَمِنْهَا مَا هُوَ كَالنَّصِّ، فَلَوْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ التَّحْلِيلِ بَلْ أَكْثَرُهُ مُبَاحًا كَمَا يَقُولُهُ الْمُنَازِعُ، لَكَانَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْعَادَةُ الْمُطَّرِدَةُ فَضْلًا عَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ مِنْ بَيَانِ الْحَقِّ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ وَلَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَلَمَّا لَمْ يَفْصِلُوا وَلَمْ يُبَيِّنُوا كَانَ هَذَا مِمَّا يُوجِبُ الْقَطْعَ، أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلِيَّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَهُمْ، وَأَنَّ جِنْسَ التَّحْلِيلِ حَرَامٌ فِيمَا عَنَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيمَا فَهِمُوهُ، وَهَذَا يُوجِبُ الْيَقِينَ التَّامَّ بَعْدَ اسْتِقْرَاءِ الْآثَارِ وَتَأَمُّلِهَا. فَإِنْ قِيلَ: تَسْمِيَتُهُ تَيْسًا مُسْتَعَارًا دَلِيلٌ عَلَى مُشَارَطَتِهِ عَلَى التَّحْلِيلِ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ إنَّمَا يَكُونُ اسْتِعَارَةً إذَا اتَّفَقْنَا جَمِيعًا عَلَى التَّحْلِيلِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي النِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ. قُلْنَا: الْمُسْتَعِيرُ لَهُ هُوَ الْمُطَلِّقُ، فَإِنَّ الْمُطَلِّقَ كَانَ يَجِيءُ إلَى بَعْضِ النَّاسِ فَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُحَلِّلَ لَهُ الْمَرْأَةَ، فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّيْسِ الَّذِي اُسْتُعِيرَ لِيَنْزُوَ عَلَى الشَّاةِ؛ لِأَنَّ الْمُطَلِّقَ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي لَهُ غَرَضٌ فِي مُرَاجَعَةِ الْمَرْأَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشَّاةِ الَّذِي لَهُ غَرَضٌ فِي إنْزَاءِ التَّيْسِ عَلَى شَاتِهِ، فَيَنْبَغِي مِنْهُ الْوَطْءُ كَمَا يَنْبَغِي مِنْ التَّيْسِ النُّزُوُّ، فَإِذَا

المسلك الثاني سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحلل فقال لا إلا نكاح رغبة

كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَهُ إنَّمَا هُوَ الْمُطَلِّقُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَدْ شَارَطَتْهُ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ مُشَبَّهَةٌ بِالشَّاةِ وَالشَّاةُ لَا تَسْتَعِيرُ، وَإِنَّمَا يُسْتَعَارُ لَهَا، وَلِهَذَا لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ، وَهُمَا الْمُسْتَعِيرُ وَالْمُسْتَعَارُ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ إنَّمَا صَدَرَتْ مِنْهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمَسْلَكُ الثَّانِي سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُحَلِّلِ فَقَالَ لَا إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ] الْمَسْلَكُ الثَّانِي: مَا رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ ثِنَا ابْنُ مَرْيَمَ، أَنْبَأَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُد بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُحَلِّلِ، فَقَالَ: لَا إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ لَا نِكَاحَ دُلْسَةٍ وَلَا اسْتِهْزَاءٍ بِكِتَابِ اللَّهِ ثُمَّ يَذُوقُ الْعُسَيْلَةَ» وَرَوَاهُ ابْنُ شَاهِينِ فِي غَرَائِبِ السُّنَنِ، وَالدُّلْسَةُ مِنْ التَّدْلِيسِ، وَهُوَ الْكِتْمَانُ وَالتَّغْطِيَةُ لِلْعُيُوبِ، وَالْمُدَالَسَةُ الْمُخَادَعَةُ، يُقَالُ فُلَانٌ لَا يُدَالِسُكَ، أَيْ لَا يُخَادِعُك، وَلَا يُخْفِي عَلَيْك الشَّيْءَ فَكَأَنَّهُ يَأْتِيَك فِي الظَّلَامِ، وَالدَّلَسُ بِالتَّحْرِيكِ الظُّلْمَةُ، وَذَلِكَ لَا مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ فَقَدْ دَلَّسَ مَقْصُودَهُ الَّذِي يُبْطِلُ الْعَقْدَ، وَكَتَمُ النِّيَّةَ الرَّدِيَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَادِعِ الْمُدَالِسِ الَّذِي يَكْتُمُ الشَّرَّ وَيُظْهِرُ الْخَيْرَ. وَإِسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ جَيِّدٌ إلَّا إبْرَاهِيمَ بْنَ إسْمَاعِيلَ فَإِنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ هُوَ صَالِحٌ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ هُوَ ثِقَةٌ، مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَانَ مُصَلِّيًا عَابِدًا صَامَ سِتِّينَ سَنَةً، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ فِي رِوَايَةِ الدَّوْرِيِّ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ النَّسَائِيّ ضَعِيفٌ، وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ هُوَ صَالِحٌ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ، وَنَكْتُبُ حَدِيثَهُ عَلَى ضَعْفِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَدِيٍّ عَدْلٌ مِنْ الْقَوْلِ فَإِنَّ فِي الرَّجُلِ ضَعْفًا لَا مَحَالَةَ، وَضَعْفُهُ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْحِفْظِ وَعَدَمِ الْإِتْقَانِ لَا مِنْ جِهَةِ التُّهْمَةِ، وَلَهُ عِدَّةُ أَحَادِيثَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، رَوَى مِنْهَا التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، فَمِثْلُ هَذَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ لِلِاعْتِبَارِ بِهِ، وَقَدْ جَاءَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ يُوَافِقُ هَذَا. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثِنَا حُمَيْدٍ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ؛ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ بِغَيْرِ

عِلْمِهِ، وَلَا عِلْمِهَا فَأَخْرَجَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فَتَزَوَّجَهَا لِيُحَلِّلَهَا لَهُ. فَقَالَ: لَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، فَقَالَ: «لَا حَتَّى يَنْكِحَهَا مُرْتَغِبًا لِنَفْسِهِ حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا مُرْتَغِبًا لِنَفْسِهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ» . وَهَذَا الْمُرْسَلُ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ احْتَجَّ بِهِ، وَلَوْلَا ثُبُوتُهُ عِنْدَهُ لَمَا جَازَ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْنِدَهُ. وَإِذَا كَانَ التَّابِعِيُّ قَدْ قَالَ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ثَبَتَ عِنْدِي كَفَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، عَنْ صَحَابِيٍّ أَوْ عَنْ تَابِعِيٍّ آخَرَ عَنْ صَحَابِيٍّ، وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ يَسْهُلُ الْعِلْمُ بِثِقَةِ الرَّاوِي. وَمُوسَى بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، هَذَا ثِقَةٌ ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيّ فِي كِتَابِهِ، وَرَوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ هُوَ ثِقَةٌ. وَذَكَرَ عَنْ أَبِيهِ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ قَالَ هُوَ ثِقَةٌ. وَنَاهِيَك بِمَنْ يُوَثِّقُهُ هَذَانِ مَعَ صُعُوبَةِ تَزْكِيَتِهِمَا، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَخْرَجَهُ وَأَمَّا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الَّذِي رَوَى عَنْهُ وَيُعْرَفُ بِالرَّاوِي مِنْ مَشَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ الثِّقَاتِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ فَهَذَا الْمُرْسَلُ حُجَّةٌ جَيِّدَةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ. ثُمَّ الْحَدِيثَانِ إذَا كَانَ فِيهِمَا ضَعْفٌ قَلِيلٌ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ ضَعْفُهُمَا إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ سُوءِ الْحِفْظِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إذَا كَانَا مِنْ طَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عَضَّدَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا مَحْفُوظًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. يُؤَيِّدُ ذَلِكَ هُنَا: أَنَّ عُمَرَ أَكْثَرُ عِلْمِهِ مِنْ جِهَةِ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ الْمُسْنَدُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ لِلْحَدِيثِ أَصْلٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنْ يَكُونَ ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ حَفِظَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ كَمَا رَوَاهُ عُمَرُ مُرْسَلًا، لَا سِيَّمَا وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفُتْيَاهُ تُوَافِقُ هَذَا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ امْرَأَةٌ تَزَوَّجْتهَا أُحِلُّهَا لِزَوْجِهَا لَمْ يَأْمُرْنِي وَلَمْ يَعْلَمْ. قَالَ: لَا إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ إنْ أَعْجَبَتْكَ أَمْسَكْتَهَا وَإِنْ كَرِهْتَهَا فَارَقْتَهَا، قَالَ وَإِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ سِفَاحًا، لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ، ذَكَرَهُ أَبُو إِسْحَاقَ التَّغْلِبِيُّ وَالْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَاللَّفْظُ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ لَكِنْ لَمْ أَقِفْ عَلَى إسْنَادِهِ ثُمَّ وَقَفْت عَلَى إسْنَادِهِ، رَوَاهُ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنْ أَبِي غَسَّانَ الْمَدَنِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا هَذَا السَّائِلُ عَنْ غَيْرِهِ مُؤَامَرَةً مِنْهُ أَتَحِلُّ

المسلك الثالث التحليل لو كان جائزا لكان النبي يدل عليه من طلق ثلاثا

لِمُطَلِّقِهَا، قَالَ ابْنُ عُمَرَ لَا إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ كُنَّا نَعُدُّهُ سِفَاحًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَا الْإِسْنَادُ جَيِّدٌ، رِجَالُهُ مَشَاهِيرُ ثِقَاتٌ وَهُوَ نَصٌّ فِي أَنَّ التَّحْلِيلَ الْمَكْتُومَ كَانُوا يَعُدُّونَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِفَاحًا. [الْمَسْلَك الثَّالِث التَّحْلِيل لَوْ كَانَ جَائِزًا لَكَانَ النَّبِيّ يَدُلّ عَلَيْهِ مِنْ طلق ثَلَاثًا] الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ: أَنَّ التَّحْلِيلَ لَوْ كَانَ جَائِزًا لَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدُلُّ عَلَيْهِ مَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ كَانَ أَرْحَمَ النَّاسِ بِأُمَّتِهِ وَأَحَبَّهُمْ لِمَيَاسِيرِ الْأُمُورِ، وَمَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إثْمًا، وَقَدْ جَاءَتْهُ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَهُوَ يُرْوَى مِنْ حِرْصِهَا عَلَى الْعَوْدِ إلَى زَوْجِهَا مَا يَرِقُّ الْقَلْبُ لِحَالِهَا وَيُوجِبُ إعَانَتَهَا عَلَى مُرَاجَعَةِ الْأَوَّلِ إنْ كَانَتْ مُمْكِنَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّحْلِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا فَلَا يُحْصَى مَنْ يَتَزَوَّجُهَا فَيَبِيتُ عِنْدَهَا لَيْلَةً ثُمَّ يُفَارِقُهَا، وَلَوْ أَنَّهُ مَنْ قَدْ كَانَ يَسْتَمْتِعُ، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقُولَ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ حَلِّلْ هَذِهِ لِزَوْجِهَا، فَلَمَّا لَمْ يَأْمُرْ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَعَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ عُلِمَ أَنَّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَأَنَّ مَنْ أَمَرَ بِهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَمْ تُسَمِّهِ السُّنَّةُ حَتَّى تَعُدَّهَا إلَى بِدْعَةٍ زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ لِمَنْ أَطَاعَهُ، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا الْمَسْلَكَ وَعَلِمَ كَثْرَةَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَأْذَنُوا لِأَحَدٍ فِي تَحْلِيلٍ، عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ. فَإِنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْفِعْلِ إذَا كَانَ قَدِيمًا قَوِيًّا وَجَبَ وُجُودُهُ، إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ، فَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ التَّحْلِيلُ مَعَ قُوَّةِ مُقْتَضِيهِ عُلِمَ أَنَّ فِي الدِّينِ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ. [الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ] ِ، فَرَوَى قَبِيصَةُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ وَحَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ وَهُوَ مَشْهُورٌ مَحْفُوظٌ عَنْ عُمَرَ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ عِيَاضِ بْنِ جَعْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ نَافِعًا يَقُولُ إنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ الْمُحَلِّلِ فَقَالَ لَهُ

ابْنُ عُمَرَ: عَرَفْت ابْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ رَأَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَرَجَمَ فِيهِ. رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ لَكِنَّ زَيْدًا هَذَا يُضَعَّفُ جِدًّا وَحَدِيثُهُ هَذَا مَحْفُوظٌ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ، كَمَا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ رُفِعَ إلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ لَا تَرْجِعْ إلَيْهِ إلَّا بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ غَيْرِ دُلْسَةٍ، رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ وَعَنْ أَبِي مَرْزُوقٍ التُّجِيبِيِّ أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُثْمَانَ فَقَالَ إنَّ جَارِيَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي غَضَبِهِ وَلَقِيَ شِدَّةً فَأَرَدْت أَنْ أَحْتَسِبَ نَفْسِي وَمَالِي فَأَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ أَبْنِيَ بِهَا ثُمَّ أُطَلِّقَهَا فَتَرْجِعَ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ لَا تَنْكِحْهَا إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ ذَكَرَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي الْمُهَذَّبِ، رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُرَادِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مَرْوَانَ التُّجِيبِيِّ يَقُولُ: إنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ نَدِمَا وَكَانَ لَهُ جَارٌ فَأَرَادَ أَنْ يُحَلِّلَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ عِلْمِهِمَا، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ غَيْرَ مُدَالَسَةٍ. وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فِي الْمُحَلِّلِ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ إلَّا بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ غَيْرِ دُلْسَةٍ وَلَا اسْتِهْزَاءٍ بِكِتَابِ اللَّهِ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ. وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ هَيْثَمٍ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ سُئِلَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ الْأَمَةِ هَلْ يُحِلُّهَا سَيِّدُهَا لِزَوْجِهَا إذَا كَانَ لَا يُرِيدُ التَّحْلِيلَ، يَعْنِي إذَا بَتَّ طَلَاقَهَا، فَقَالَ عُثْمَانُ وَزَيْدٌ نَعَمْ، فَقَامَ عَلِيٌّ غَضْبَانَ وَكَرِهَ قَوْلَهُمَا. وَعَنْ عَلِيٍّ: لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ. وَعَنْ أَشْعَثَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ، وَعَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَالْمُحَلَّلَةَ، وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ نَوْفَلٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنْ تَحْلِيلِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا قَالَ: ذَلِكَ السِّفَاحُ لَوْ أَدْرَكَكُمْ عُمَرُ لَنَكَّلَكُمْ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسُئِلَ عَنْ الْمُحَلِّلَ قَالَ لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ وَإِنْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً إذَا عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُحِلَّهَا لَهُ، هَكَذَا رَوَاهُ عَنْهُ حُسَيْنُ بْنُ حَفْصٍ وَرَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ، عَنْ ابْنِ نُمَيْرٍ عَنْهُ لَكِنْ قَالَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ رَجُلٍ سَمَّاهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي الْمُحَلِّلَ إذَا عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُ أَنَّهُ مُحَلِّلٌ، لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ وَلَوْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ، قَالَ سَمِعْت عُمَرَ يُسْأَلُ عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ نَدِمَ فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ يُحَلِّلُهَا لَهُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ كِلَاهُمَا زَانٍ وَلَوْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً، وَرَوَاهُ

الشَّالَنْجِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ الْعَامِرِيِّ قَالَ سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا، فَقَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ، هُمَا زَانِيَانِ، وَقَالَ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ ثِنَا هُشَيْمٌ ثِنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عِمْرَانِ بْنِ الْحَارِثِ السُّلَمِيِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ إنَّ عَمَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَنَدِمَ فَقَالَ عَمُّك عَصَى اللَّهَ فَأَنْدَمَهُ وَأَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا قَالَ أَرَأَيْت إنْ أَنَا تَزَوَّجْتهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ أَتَرْجِعُ إلَيْهِ قَالَ مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ اللَّهُ، رَوَاهُ عَبْد الرَّزَّاقِ عَنْ الثَّوْرِيِّ وَمَعْمَرٍ كِلَاهُمَا عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ يُحِلُّهَا لَهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ، وَهَذِهِ الْآثَارُ مَشْهُورَةٌ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَفِيهَا بَيَانُ أَنَّ الْمُحَلِّلَ عِنْدَهُمْ اسْمٌ لِمَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ سَوَاءٌ يُظْهِرُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُظْهِرْهُ، وَأَنَّ عُمَرَ كَانَ يُنَكِّلُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُحَلِّلِ وَالْمَرْأَةِ وَإِنْ حَصَلَتْ لَهُ رَغْبَةٌ بَعْدَ الْعَقْدِ، إذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ قَصَدَ التَّحْلِيلَ، وَأَنَّ الْمُطَلِّقَ طَلَّقَ ثَلَاثًا وَإِنْ تَأَذَّى وَنَدِمَ وَلَقِيَ شِدَّةً مِنْ الطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ التَّحْلِيلُ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ هُوَ بِذَلِكَ، وَهَذِهِ الْآثَارُ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ تَغْلِيظِ التَّحْلِيلِ فَهِيَ مِنْ أَبْلَغِ الدَّلِيلِ، عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ ذَلِكَ وَاسْتِحْقَاقَ صَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ كَانَ مَشْهُورًا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ، وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ مَنْ خَالَفَ فِي الْمُتْعَةِ مِثْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، بَلْ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا التَّحْلِيلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ، إنَّ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَنَدِمَ وَنَدِمَتْ، فَأَرَدْت أَنْ أَنْطَلِقَ فَأَتَزَوَّجَهَا وَأُصْدِقَهَا صَدَاقًا، ثُمَّ أَدْخُلَ بِهَا كَمَا يَدْخُلُ الرَّجُلُ بِامْرَأَتِهِ ثُمَّ أُطَلِّقَهَا، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ اتَّقِ اللَّهَ يَا فَتَى وَلَا تَكُونُ مِسْمَارَ نَارٍ لِحُدُودِ اللَّهِ، وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ هُوَ التَّيْسُ الْمُسْتَعَارُ وَهَذَا يَقْتَضِي شُهْرَةَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ زَمَنَ الصَّحَابَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى ابْنُ سِيرِينَ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَنَدِمَ وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلٌ مِنْ الْأَعْرَابِ عَلَيْهِ رُقْعَتَانِ رُقْعَةٌ يُوَارِي بِهَا عَوْرَتَهُ، وَرُقْعَةٌ يُوَارِي بِهَا سَوْأَتَهُ، فَقَالَ لَهُ هَلْ لَك تَتَزَوَّجُ امْرَأَةً فَتَبِيتُ عِنْدَهَا لَيْلَةً وَتَجْعَلُ لَك جُعْلًا، قَالَ نَعَمْ فَزَوَّجُوهَا مِنْهُ، فَلَمَّا دَخَلَ فَبَاتَ عِنْدَهَا قَالَتْ لَهُ هَلْ عِنْدَك مِنْ خَيْرٍ قَالَ هُوَ حَيْثُ تُحِبِّينَ جَعَلَهُ اللَّهُ فِدَاهَا، فَقَالَتْ لَا تُطَلِّقْنِي فَإِنَّ عُمَرَ لَنْ يُجْبِرَك عَلَى طَلَاقِي، فَلَمَّا أَصْبَحُوا لَمْ يُفْتَحْ لَهُمْ الْبَابُ حَتَّى كَادُوا يَكْسِرُونَ الْبَابَ، فَلَمَّا دَخَلُوا قَالُوا لَهُ طَلِّقْهَا، قَالَ الْأَمْرُ إلَيْهَا فَقَالُوا

لَهَا، فَقَالَتْ إنِّي أَكْرَهُ أَنْ لَا يَزَالَ يَدْخُلُ عَلَيَّ الرَّجُلُ بَعْدَ الرَّجُلِ، فَارْتَفَعُوا إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَخْبَرُوهُ الْقِصَّةَ فَرَفَعَ يَدَهُ، وَقَالَ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَزَقْت ذَا الرُّقْعَتَيْنِ إذْ بَخِلَ عَلَيْهِ عُمَرُ فَقَالَ لَهُ لَئِنْ طَلَّقَهَا فَأَوْعَدَهُ، رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَحَرْبٌ عَنْهُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَفْظُهُ فِي سُنَنِ سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، وَنَدِمَ، وَبَلَغَ ذَلِكَ مِنْهُ مَا شَاءَ اللَّهُ فَقِيلَ لَهُ اُنْظُرْ رَجُلًا يُحَلِّلُهَا لَك وَكَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ لَهُ حَسَبٌ أُقْحِمَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مُحْتَاجًا لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ يَتَوَارَى بِهِ إلَّا رُقْعَتَيْنِ، رُقْعَةً يُوَارِي بِهَا فَرْجَهُ وَرُقْعَةً يُوَارِي بِهَا دُبُرَهُ، فَأَرْسَلُوهُ إلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ هَلْ لَك أَنْ نُزَوِّجَك امْرَأَةً فَتَدْخُلَ عَلَيْهَا فَتَكْشِفَ عَنْهَا خِمَارَهَا ثُمَّ تُطَلِّقَهَا، وَنَجْعَلُ لَك عَلَى ذَلِكَ جُعْلًا، قَالَ نَعَمْ، فَزَوَّجُوهُ فَدَخَلَ عَلَيْهَا وَهُوَ شَابٌّ صَحِيحُ الْحَسَبِ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى الْمَرْأَةِ فَأَصَابَهَا فَأَعْجَبَهَا، فَقَالَتْ لَهُ أَعِنْدَك خَيْرٌ قَالَ نَعَمْ هُوَ حَيْثُ تُحِبِّينَ جَعَلَهُ اللَّهُ فِدَاهَا، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ قَدِمَ رَجُلٌ مَكَّةَ وَمَعَهُ إخْوَةٌ لَهُ صِغَارٌ وَعَلَيْهِ إزَارٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ رُقْعَةٌ وَمِنْ خَلْفِهِ رُقْعَةٌ، فَسَأَلَ عُمَرَ فَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، إذْ نَزَعَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا، فَقَالَ لَهَا هَلْ لَك أَنْ تُعْطِينَ ذَا الرُّقْعَتَيْنِ شَيْئًا، وَيُحِلَّك لِي قَالَتْ نَعَمْ إنْ شِئْت، فَأَخْبَرُوهُ ذَلِكَ، قَالَ نَعَمْ، فَتَزَوَّجَهَا فَدَخَلَ بِهَا فَلَمَّا أَصْبَحَتْ أَدْخَلَتْ إخْوَتَهُ الدَّارَ فَجَاءَ الْقُرَشِيُّ يَحُومُ حَوْلَ الدَّارِ وَيَقُولُ يَا وَيْلَهُ غَلَبَ عَلَيَّ امْرَأَتِي، فَأَتَى عُمَرَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ غُلِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي. قَالَ مَنْ غَلَبَك، قَالَ ذُو الرُّقْعَتَيْنِ، قَالَ أَرْسِلُوا إلَيْهِ فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ كَيْفَ مَوْضِعُك مِنْ قَوْمِك، قَالَ لَيْسَ بِمَوْضِعِي بَأْسٌ، قَالَتْ إنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ لَك أَتُطَلِّقُ امْرَأَتَك فَقُلْ وَاَللَّهِ لَا أُطَلِّقُهَا، فَإِنَّهُ لَا يُكْرِهُك، وَأَلْبَسَتْهُ حُلَّةً، فَلَمَّا رَآهُ عُمَرُ مِنْ بَعِيدٍ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي شَرَّفَ ذَا الرُّقْعَتَيْنِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أَتُطَلِّقُ امْرَأَتَك قَالَ لَا وَاَللَّهِ لَا أُطَلِّقُهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَوْ طَلَّقْتهَا لَأَوْجَعْت رَأْسَك بِالسَّوْطِ. فَهَذَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ شَرَطَ تَقَدُّمَ الْعَقْدِ وَقَدْ حَكَمَ عُمَرُ بِصِحَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَتْ الْمَسْأَلَةُ خِلَافًا فِي الصَّحَابَةِ، وَرُبَّمَا حَمَلْنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ عَلَى الشَّرْطِ الْمَقْرُونِ بِالْعَقْدِ لِتَتَّفِقَ رِوَايَتَاهُ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ سِيرِينَ قَالَ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَجُلٍ فَزَوَّجَتْهُ نَفْسَهَا لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا، فَأَمَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا وَلَا يُطَلِّقَهَا، وَأَوْعَدَهُ أَنْ يُعَاقِبَهُ إنْ طَلَّقَهَا.

قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ لَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ فَرَوَى أَبُو حَفْصٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ قَالَ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي الْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ: إنَّهُ يُفْسَخُ نِكَاحُهُ فِي الْحَالِ، قُلْت أَوَ لَيْسَ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ حَدِيثُ ذِي الرُّقْعَتَيْنِ حَيْثُ أَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ لَا يُفَارِقَهَا، قَالَ لَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ لِابْنِ سِيرِينَ وَإِنْ كَانَ مَأْمُونًا لَمْ يَرَ عُمَرُ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ الَّذِينَ سَمِعُوهُ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا. قُلْت: وَقَدْ رَوَيْنَاهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَحْلِيلِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا فَقَالَ: ذَلِكَ السِّفَاحُ لَوْ أَدْرَكَكُمْ عُمَرُ لَنَكَّلَكُمْ وَأَحَادِيثُ ابْنِ عُمَرَ كُلُّهَا تُبَيِّنُ أَنَّ نَفْسَ التَّحْلِيلِ الْمَكْتُومِ زِنًا وَسِفَاحٌ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ أَبِيهِ بِأَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ ذَلِكَ لَنَكَّلَ عَلَيْهِ. وَسَائِرُ الْآثَارِ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا تُبَيِّنُ أَنَّ التَّحْلِيلَ عِنْدَهُمْ كُلُّ نِكَاحٍ أَرَادَ بِهِ أَنْ يُحِلَّهَا، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ خَطَبَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا، فَعُلِمَ أَنَّ عُمَرَ أَرَادَ التَّحْلِيلَ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ مَكْتُومًا، فَالْمُنْقَطِعُ إذَا عَارَضَ الْمُسْنَدَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا إنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ. فَلَعَلَّهُ لَمْ تَكُنْ الْإِرَادَةُ فِيهِ مِنْ الزَّوْجِ الثَّانِي. وَإِنَّمَا كَانَتْ مِنْ الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ، وَقَدْ أَجَابَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَفْصٍ بِهَذَا الْجَوَابِ أَيْضًا. ثُمَّ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لَعَلَّهُ وَقْتَ الْعَقْدِ لَمْ يَنْوِ التَّحْلِيلَ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ شَرَطُوهُ بَلْ قَصَدَ نِكَاحَ الرَّغْبَةِ، وَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا لِلزَّوْجِ سَبَبًا مِنْ ذَلِكَ بَلْ زَوَّجُوهُ بِهَا، وَتَوَاطَئُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُ شَيْئًا لِيُطَلِّقَهَا، وَلَمْ يُشْعِرُوهُ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْمَرْوِيِّ فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُمْ شَارَطُوهُ عَلَى الْخُلْعِ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا عَلَيْهِ الطَّلَاقَ بِمَالٍ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَنْفَرِدُ بِهِ، بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ لَهُ، فَهُوَ مُوَاطَأَةٌ عَلَى فُرْقَةٍ مِنْ الزَّوْجِ، وَمِنْ أَجْنَبِيٍّ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُوَاطَأَةِ عَلَى الطَّلَاقِ الْمُجَرَّدِ، كَالْمُوَاطَأَةِ مِنْ الزَّوْجَةِ وَالْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا الزَّوْجُ أَوْ يَهَبَهَا إيَّاهُ، إذَا كَانَ عَبْدَهُ، وَمَعَ هَذَا فَيُمْكِنُ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا لَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ فَإِنَّ ابْنَ سِيرِينَ لَمْ يَشْهَدْ الْقِصَّةَ، وَإِنَّمَا سَمِعَهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ إذَا حَدَّثَ بِهَا قَدْ لَا يُخْبِرُ الْمُخْبِرُ بِأَعْيَانِ الْأَلْفَاظِ وَتَرْتِيبِهَا. لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا غَيْرَ ذَلِكَ. بَلْ يَذْكُرُ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ. وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْقِدَ النِّكَاحَ عَلَى صَدَاقٍ يَلْتَزِمُهُ الزَّوْجُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ حِكَايَةُ حَالٍ لَمْ يَشْهَدْهَا الْحَاكِي، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى هَذَا

الْوَجْهِ وَهُوَ الْأَقْرَبُ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا جَاءَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا قَالَ غُلِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَلَمْ يَقُلْ غُدِرَ بِي وَلَا مُكِرَ بِي وَلَا خُدِعْت، وَلَوْ كَانَ الْمُتَزَوِّجُ قَدْ وَاطَأَهُ عَلَى أَنْ يَخْلَعَهَا أَوْ يُطَلِّقَهَا لَكَانَتْ شِكَايَتُهُ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَاحْتِجَاجُهُ بِهِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ غُلِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي. فَإِنَّ أَقَلَّ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّ ذَا الرُّقْعَتَيْنِ يَكُونُ قَدْ حَدَّثَهُ فَكَذَبَهُ وَوَعَدَهُ فَأَخْلَفَهُ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ضَعِيفٌ. فَإِنَّ عُمَرَ لَمْ يَسْتَفْصِلْهُ هَلْ نَوَيْت التَّحْلِيلَ وَقْتَ الْعَقْدِ أَمْ لَمْ تَنْوِهِ، وَلَوْ كَانَ مَنَاطُ الْحُكْمِ ذَلِكَ لَوَجَبَ الِاسْتِفْصَالُ، وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَمِنْ الْمَالِكِيَّةِ يَقُولُ إذَا وَطِئَ الزَّوْجُ عَلَى التَّحْلِيلِ وَقَصَدَ هُوَ وَقْتَ الْعَقْدِ الرَّغْبَةَ وَلَمْ يُعْلِمْهُمْ بِذَلِكَ، فَهُوَ نِكَاحٌ صَحِيحٌ لِعَدَمِ النِّيَّةِ وَالشَّرْطِ الْمُقَارِنِ، وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوَاطَأَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْعَقْدِ وَاعْتِقَادِ التَّحْلِيلِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَقَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ الشُّرُوطَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَارَنَةِ إنْ كَانَتْ صَحِيحَةً، وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَاطِلَةً أَثَّرَتْ فِي الْعَقْدِ فِي الْمَذْهَبَيْنِ جَمِيعًا، بَلْ هَذِهِ الصُّورَةُ أَبْلَغُ فِي الْبُطْلَانِ مِنْ الِاعْتِقَادِ الْمُجَرَّدِ، فَلِهَذَا لَمْ يُرَخِّصْ أَحَدٌ مِنْ التَّابِعِينَ فِي الْمُوَاطَأَةِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ الرُّخْصَةُ فِي الِاعْتِقَادِ الْمُجَرَّدِ، فَإِنَّ هَذَا تَلْبِيسٌ مُدَلِّسٌ عَلَى الْقَوْمِ، وَالنِّكَاحُ الَّذِي قَصَدَهُ لَمْ يَرْضَوْا بِهِ وَلَمْ يُعَاقِدُوهُ عَلَيْهِ، وَالنِّكَاحُ الَّذِي رَضَوْا بِهِ لَمْ يَرْضَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِرِضَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ التَّابِعِ لِرِضَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِذَا تَخَلَّفَ أَحَدُهُمَا فَهُوَ بَاطِلٌ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُمْ وَاطَئُوهُ عَلَى أَنْ يُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ، وَلَا أَشْعَرُوهُ أَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ، وَإِنَّمَا فِيهَا أَنَّهُمْ وَاطَئُوهُ عَلَى أَنْ يَبِيتَ عِنْدَهَا لَيْلَةً ثُمَّ يُطَلِّقَهَا، وَهَذَا مِنْ جِنْسِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، الَّذِي يَكُونُ لِلزَّوْجِ فِيهِ رَغْبَةٌ فِي النِّكَاحِ إلَى وَقْتٍ، وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ قَدْ كَانُوا يَسْتَحِلُّونَهُ صَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، حَتَّى أَظْهَرَ عُمَرُ السُّنَّةَ بِتَحْرِيمِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، ثُمَّ النِّكَاحُ الْمَشْرُوطُ فِيهِ الطَّلَاقُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَصِحُّ فِيهِ مِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ، إنَّمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ إذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ حَقٌّ لَهَا كَالصَّدَاقِ مَثَلًا، وَلِهَذَا لَمَّا طُلِبَ مِنْ الرَّجُلِ الطَّلَاقَ رَدَّ الْأَمْرَ إلَيْهَا فَلَمْ تَطْلُبْهُ، وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَمْ تَطْلُبْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ فَإِنَّهُ يَنْقَضِي بِمُضِيِّ الْوَقْتِ، وَقَوْلُهَا لَهُ فَإِنَّ عُمَرَ لَا يُجْبِرُك عَلَى طَلَاقِي

لِأَنَّ الطَّلَاقَ حَقٌّ لَهَا وَعُمَرُ لَا يُجْبِرُ عَلَى تَوْفِيَةِ حَقٍّ لَمْ يَطْلُبْهُ صَاحِبُهُ، بَلْ عَفَا عَنْهُ، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَظْهَرَ بَعْدَ هَذَا تَحْرِيمَ الْمُتْعَةِ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ وَحِكَايَةُ حَالٍ، وَالْحَاكِي لَهَا يَشْهَدُهَا لِيَسْتَوْفِيَ صِفَتَهَا، فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ لَمَّا رَغِبَتْ فِي الرَّجُلِ وَهُوَ قَدْ رَغِبَ فِيهَا وَهِيَ امْرَأَةٌ ثَيِّبٌ هِيَ أَوْلَى بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ خَاطِبٍ، قَدْ رَغِبَتْ الْمَرْأَةُ فِيهِ فَأَمَرَهُ عُمَرُ بِإِمْسَاكِهَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ لَهُ لَا تُطَلِّقْهَا، فَإِنَّ الْفُرْقَةَ النِّكَاحُ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا يُسَمَّى طَلَاقًا، وَإِنْ كَانَتْ فَسْخًا. حَتَّى قَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إنَّهُ طَلَاقٌ وَاقِعٌ، وَهَذَا كَمَا رُوِيَ «عَنْ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ أَسْلَمْت وَعِنْدِي أُخْتَانِ فَأَمَرَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُطَلِّقَ إحْدَاهُمَا» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ الطَّلَاقُ الَّذِي يَنْقُصُ بِهِ الْعَدَدُ. وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ الْإِمْسَاكَ كَانَ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ لَا بِذَلِكَ النِّكَاحِ. أَشْيَاءُ: أَحَدُهَا: أَنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ كَيْفُ مَوْضِعُك مِنْ قَوْمِك. قَالَ لَيْسَ بِمَوْضِعِي بَأْسٌ. قَالَتْ إنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ لَك أَتُطَلِّقُ امْرَأَتَك فَقُلْ لَا وَاَللَّهِ لَا أُطَلِّقُهَا. فَاعْتَبَرَتْ الْمَرْأَةُ كَفَاءَتَهُ بِعِلْمِهَا. بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْأَوْلِيَاءِ بِهَا تَعَلُّقٌ. فَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ صَحِيحًا لَازِمًا. لَمْ يَكُنْ لِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا يَكُونُ اعْتِرَاضٌ لَهُمْ إذَا أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَتَزَوَّجَ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، وَوَقَعَ النِّكَاحُ بِلَا رِضَاهُمْ. فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ قَدْ انْعَقَدَ لَازِمًا إلَّا أَنْ يُقَالَ كَانَ مَقْصُودُهُمْ أَنَّهُ إذَا كَانَ غَيْرَ كُفْءٍ يُبْطِلُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النِّكَاحَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَائِلُ لَأَمْنَعَنَّ خُرُوجَ ذَوَاتِ الْأَحْسَابِ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ. وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَيُقَالُ لَمْ يَكُنْ الْأَوْلِيَاءُ يُمْكِنُهُمْ الطَّعْنُ فِي كَفَاءَتِهِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ كَانَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ تَزْوِيجَهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ. إنْ كَانَ يَرَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَرَى ذَلِكَ فَلَا يَنْفَعُهُمْ ذِكْرُهُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَكُونُ فَاسِدًا فَلَا يَحْصُلُ التَّحْلِيلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَرَى ذَلِكَ فَلَا يَنْفَعُهُمْ ذِكْرُهُ. فَعَلَى التَّقْرِيرَيْنِ لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِذِكْرِهِ إلَّا إذَا كَانَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ غَيْرَ لَازِمٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَوْ طَلَّقْتهَا لَأَوْجَعْت رَأْسَك بِالسَّوْطِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا النِّكَاحُ صَحِيحًا يُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ لَمْ يَنْهَهُ عُمَرُ عَنْ طَلَاقِهَا إذَا أَرْضَوْهُ، وَهُوَ يَرَى شَغَفَ الْأَوَّلِ بِهَا، وَصَفْوَ الْأَوْلِيَاءِ إلَيْهِ فَلَمَّا نَهَاهُ عَنْ مُفَارَقَتِهَا كَانَ كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ

لِلْأَوَّلِ إذَا فَارَقَهَا، وَهُمْ يُرِيدُونَ الِاسْتِحْلَالَ، وَإِنَّمَا دَرَأَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْعُقُوبَةَ مَعَ أَنَّهُ قَالَ لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ إلَّا رَجَمْته.؛ لِأَنَّهُ أَعْرَابِيٌّ جَدِيرٌ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لَهُ طَلِّقْهَا قَالَ الْأَمْرُ إلَيْهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَقَامَهُ مَشْرُوطٌ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ لُزُومِ النِّكَاحِ وَصِحَّتِهِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ قَدْ رَوَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعَثَ الْمَرْأَةَ لِوَاسِطَةٍ بَيْنَهُمَا الَّتِي تُسَمَّى الدَّلَّالَةَ، وَنَكَّلَ بِهَا وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا فَعَلَتْ مَا لَا يَحِلُّ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ هَذَا الْأَثَرَ لَيْسَ فِيهِ عَوْدُهَا إلَى الْمُطَلِّقِ بَلْ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِيهِ دَوَامُ نِيَّةِ التَّحْلِيلِ بَلْ فِيهِ أَنَّهُ صَارَ نِكَاحَ رَغْبَةٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ تَحْلِيلًا فَإِنْ كَانَ بِنِكَاحٍ مُسْتَأْنَفٍ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ كَانَ بِاسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ فَهَذَا مِمَّا قَدْ يَسُوغُ فِيهِ الْخِلَافُ، كَمَا فِي النِّكَاحِ بِدُونِ إذْنِ الْمَرْأَةِ أَوْ نِكَاحِ الْعَبْدِ بِدُونِ إذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَشِرَائِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ مَرْدُودٌ أَوْ مَوْقُوفٌ، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ: إنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ إذَا حُذِفَ بَعْدَ الْعَقْدِ صَحَّ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُخَرَّجًا عَلَى هَذَا، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ، وَنِيَّةُ التَّحْلِيلِ كَاشْتِرَاطِهِ، فَيَكُونُ هَذَا الشَّرْطُ الْفَاسِدُ إنْ حُذِفَ صَحَّ الْعَقْدُ وَإِلَّا فَسَدَ، وَإِذَا حُمِلَ الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا فَهُوَ مَحَلُّ اخْتِلَافٍ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةِ الْمُحَلِّلِ، وَلِهَذَا لَمَّا أَفْتَى أَحْمَدُ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ بِأَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ حَدَثَ لَهُ رَغْبَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَكَمَا فَعَلَ عُثْمَانُ وَقَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ عُمَرَ هَذَا، فَأَجَابَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْنَدٍ فَلَا يُعَارِضُ الْآثَارَ الْمُسْنَدَةَ، وَإِنَّمَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْآثَارِ قَدْ اخْتَلَفَتْ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، هَلْ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا بِهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهَا اخْتَلَفَتْ فِي صِحَّةِ أَصْلِ النِّكَاحِ وَلَا فِي جَوَازِ عَوْدِهَا إلَى الْأَوَّلِ بِالتَّحْلِيلِ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنْ الْإِسْنَادِ وَالِاحْتِمَالِ لَمْ تُعَارِضْ مَا عُرِفَ مِنْ كَلَامِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُهُ، وَمَنْ سَمِعَهُ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِ الْمَدِينَةِ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ قَدْ يَقَعُ فِيهِ الْتِبَاسٌ، مَا رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ ثِنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ قُلْت لِإِبْرَاهِيمَ هَلْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَلَّلَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ، فَقَالَ لَا إنَّمَا كَانَتْ لِرَجُلٍ امْرَأَةٌ ذَاتُ حَسَبٍ وَمَالٍ فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا تَطْلِيقَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ فَبَانَتْ مِنْهُ، ثُمَّ إنَّ

المسلك الخامس قال الله بعد الطلاق مرتان وبعد الخلع فإن طلقها

عُمَرَ تَزَوَّجَهَا فَهَنِيَ بِهَا وَقَالُوا لَوْلَا أَنَّهَا امْرَأَةٌ لَيْسَ بِهَا وَلَدٌ فَقَالَ عُمَرُ وَمَا بَرَكَتُهُنَّ إلَّا أَوْلَادُهُنَّ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَتَزَوَّجَهَا زَوْجُهَا الْأَوَّلُ. قَالَ مُغِيرَةُ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ كَانَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، فَهَذَا مُغِيرَةُ قَدْ بَلَغَهُ إمَّا عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ أَوْ غَيْرِهِ أَنَّ عُمَرَ حَلَّلَ امْرَأَةً حَتَّى أَخْبَرَهُ إبْرَاهِيمُ أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ نِكَاحَ رَغْبَةٍ، لَا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا لِلتَّحَلُّلِ لَكِنْ؛ لِأَنَّهُ طَلَّقَهَا عَقِبَ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ عَقِبَ الْعَقْدِ، تَوَهَّمَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ أَنَّهُ كَانَ تَحْلِيلًا، فَكَذَلِكَ ذُو الرُّقْعَتَيْنِ لَمَّا بَلَغَهُمْ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُطَلِّقَ، وَبَذَلُوا لَهُ الْمَالَ عَلَى ذَلِكَ فَامْتَنَعَ ظَنُّوا أَنَّهُ كَانَ مُحَلِّلًا، فَإِنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ أَشَدُّ إيهَامًا لِلتَّحْلِيلِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ فَإِنْ كَانَ تَوَهُّمُهُ مَعَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَاطِلًا كَانَ تَوَهُّمُهُ مَعَ مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ أَوْلَى بِذَلِكَ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ صَحَّحَ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهِ التَّغْلِيظُ فِي التَّحْلِيلِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتهمَا، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ ابْنُهُ أَنَّ التَّحْلِيلَ سِفَاحٌ، وَأَنَّ عُمَرَ لَوْ رَأَى أَصْحَابَهُ لَنَكَّلَهُمْ، وَبَيَّنَ أَنَّ التَّحْلِيلَ يَكُونُ بِاعْتِقَادِ التَّحْلِيلِ وَقَصْدِهِ، كَمَا يَكُونُ بِشَرْطِهِ، وَقَدْ كَانُوا فِي صَدْرِ خِلَافَتِهِ يَسْتَحِلُّونَ الْمُتْعَةَ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا مِنْ الرُّخْصَةِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ يَبْلُغُهُ تَحْرِيمُهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَعَلَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ يَقْصِدُ مَنْ يَقْصِدُ التَّحْلِيلَ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا بَلَغَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النَّهْيُ عَنْ التَّحْلِيلِ، فَخَطَبَ بِهِ وَأَعْلَنَ حُكْمَهُ كَمَا خَطَبَ عَنْ الْمُتْعَةِ وَأَعْلَنَ حُكْمَهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَخَّصَ فِي التَّحْلِيلِ بَعْدَ النَّهْيِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ عِلْمٍ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ تَرْكِ الْإِنْكَارِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَنْ الِاسْتِصْحَابِ، وَمَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَعَنَ فَاعِلَهُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِكَ. [الْمَسْلَك الْخَامِس قَالَ اللَّه بَعْد الطَّلَاق مَرَّتَانِ وَبَعْد الخلع فَإِن طلقها] الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ وَبَعْدَ ذِكْرِ الْخُلْعِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ وَالْمُتْعَةِ لَيْسَ بِنِكَاحٍ

عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَلَيْسَ الْمُحَلِّلُ وَالْمُتَمَتِّعُ بِزَوْجٍ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي اللُّغَةِ الْجَمْعُ وَالضَّمُّ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ، فَإِنْ كَانَ اجْتِمَاعًا بِالْأَبْدَانِ فَهُوَ الْإِيلَاجُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ غَايَةٌ فِي اجْتِمَاعِ الْبَدَنَيْنِ، وَإِنْ كَانَ اجْتِمَاعًا بِالْعُقُودِ فَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ وَاللُّزُومِ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ اسْتَنْكَحَهُ الْمَذْيُ إذَا لَازَمَهُ وَدَاوَمَهُ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ الْمُتْعَةِ وَكَانَ يُبِيحُهَا أَنِكَاحٌ هِيَ أَمْ سِفَاحٌ فَقَالَ لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ وَلَا سِفَاحٍ وَلَكِنَّهَا مُتْعَةٌ، فَأَخْبَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ لِمَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهَا الدَّوَامَ وَاللُّزُومَ. وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ يَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ النِّكَاحِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْعَقْدِ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَإِنَّمَا كَانَ يَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ الْوَطْءِ وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ نَسَخَ الْمُتْعَةَ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعِدَّةُ وَالْمِيرَاثُ فَإِذَا كَانَ الْمُسْتَمْتِعُ الَّذِي لَهُ قَصْدٌ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا إلَى أَجَلٍ لَيْسَ بِنَاكِحٍ حَيْثُ لَمْ يَقْصِدْ دَوَامَ الِاسْتِمْتَاعِ وَلُزُومَهُ، فَالْمُحَلِّلُ الَّذِي لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ نَاكِحًا وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا نَكَحْت أَوْ تَزَوَّجْت وَهُوَ يَقْصِدُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ سَاعَةٍ أَوْ سَاعَتَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا غَرَضٌ أَنْ تَدُومَ مَعَهُ وَلَا تَبْقَى، كَذِبٌ مِنْهُ وَخِدَاعٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْوَلِيِّ لَهُ زَوَّجْتُك أَوْ أَنْكَحْتُك وَقَدْ شَارَطَهُ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا إذَا وَطِئَهَا، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ سُئِلَ عَنْ تَحْلِيلِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا فَقَالَ، ذَلِكَ السِّفَاحُ لَوْ أَدْرَكَكُمْ عُمَرُ لَنَكَّلَ بِكُمْ، وَقَالَ لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ وَإِنْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً، إذَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمَا أَرَادَا أَنْ يُحِلَّهَا لَهُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ لَوْ أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتهمَا، وَبَيَّنَ هَذَا أَنَّ الزَّوْجَ الْمُطَلِّقَ فِي الْخِطَابِ إنَّمَا يُعْقَلُ مِنْهُ الرَّجُلُ الَّذِي يَقْصِدُ مَقَامَهُ وَدَوَامَهُ مَعَ الْمَرْأَةِ، بِحَيْثُ نَرْضَى مُصَاهَرَتَهُ وَتُعْتَبَرُ كَفَاءَتُهُ وَتُطِيقُ الْمَرْأَةُ وَوَلِيُّهَا أَنْ يَمْلِكَهَا، وَهَذَا الْمُحَلِّلُ الَّذِي جِيءَ بِهِ لِلتَّحْلِيلِ لَيْسَ بِزَوْجٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَيْسٌ اُسْتُعِيرَ لِضِرَابِهِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ عَلِمَ مِنْ الْمَرْأَةِ وَوَلِيِّهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَهُ زَوْجًا فَإِذَا أَظْهَرُوا فِي الْعَقْدِ قَوْلَهُمْ زَوَّجْنَاك وَأَنْكَحْنَاك وَهُمْ غَيْرُ رَاضِينَ بِكَوْنِهِ زَوْجًا. كَانَ هَذَا خِدَاعًا وَاسْتِهْزَاءً بِآيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. يُؤَيِّدُ هَذَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ هَذِهِ الْمُطَلَّقَةَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَالنِّكَاحُ الْمَفْهُومُ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْخِطَابِ إنَّمَا هُوَ نِكَاحُ الرَّغْبَةِ، لَا يَعْقِلُونَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا

هَذَا، وَلَوْ أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ لِابْنِهِ اذْهَبْ فَانْكِحْ فَصَارَ مُحَلِّلًا لَعَدَّهُ أَهْلُ الْعُرْفِ غَيْرَ مُمْتَثِلٍ لِأَمْرِ أَبِيهِ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى مَا دُونَ هَذَا نِكَاحًا بِالتَّقْيِيدِ، مِثْلَ أَنْ يُقَالَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ كَمَا يُقَالُ بَيْعُ الْخَمْرِ وَبَيْعُ الْخِنْزِيرِ وَفَرَّقَ بَيْنَ مَا يَقْتَضِيهِ مُطْلَقُ اللَّفْظِ وَمَا يَقْتَضِيهِ مَعَ التَّقْيِيدِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ قَالَ {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ كُلَّ مَا يُسَمَّى نِكَاحًا مَعَ الْإِطْلَاقِ أَوْ التَّقْيِيدِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ نِكَاحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي عُرْفِ الْمُسْلِمِينَ. يُقَوِّي هَذَا: أَنَّ التَّحْرِيمَ قَبْلَ هَذَا النِّكَاحِ ثَابِتٌ بِلَا رَيْبٍ، وَنِكَاحُ الرَّغْبَةِ رَافِعٌ لِهَذَا التَّحْرِيمِ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ فَلَمْ نَعْلَمْهُ مُرَادًا مِنْ هَذَا الْخِطَابِ وَلَا هُوَ مَفْهُومٌ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَيَبْقَى التَّحْرِيمُ ثَابِتًا حَتَّى يَقُولَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ نِكَاحٌ مُبَاحٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَذْكُرَ نَصًّا يُحِلُّ هَذَا النِّكَاحَ، وَلَمْ يَثْبُتْ دُخُولُهُ فِي اسْمِ النِّكَاحِ الْمُطْلَقِ، وَلَا يُمْكِنُ حِلُّهُ بِالْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حِلِّ نِكَاحِ الرَّغْبَةِ حِلُّ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، كَمَا لَا يَخْفَى فَإِنَّ الرَّاغِبَ مُرِيدٌ لِلنِّكَاحِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُبَاحَ لَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمُحَلِّلُ فَلَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي النِّكَاحِ، وَلَا إرَادَةٌ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُبَاحَ لَهُ مَا لَا رَغْبَةَ لَهُ فِيهِ، إذْ الْإِرَادَةُ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إبَاحَةِ الشَّيْءِ لِلْمُحْتَاجِ إلَيْهِ، أَوْ لِمَنْ هُوَ فِي مَظِنَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ إبَاحَتُهُ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا إرَادَةَ لَهُ، وَلَا قَصْدَ فِي ذَلِكَ، بَلْ هُوَ رَاغِبٌ عَنْهُ زَاهِدٌ فِيهِ، لَوْلَا تَطْلِيقُ ذَلِكَ الْمُطَلِّقِ الْأَوَّلِ وَإِعَادَتُهَا إلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي أَنْ يَنْكِحَ، وَحِلُّ الْمَرْأَةِ لِلْمُطَلِّقِ الْأَوَّلِ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ حَتَّى يَقُولَ هَذِهِ حَاجَةٌ لِلنَّاكِحِ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ هُنَا لِلْمُطَلِّقِ، وَذَلِكَ قَدْ حُرِّمَ عَلَيْهِ هَذَا، ثُمَّ إنَّ تِلْكَ الْحَاجَةَ لَا تَحْصُلُ بِالنِّكَاحِ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِرَفْعِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي النِّكَاحِ وَلَا فِيمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ زَائِلٍ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ نِكَاحٌ زَائِلٌ، وَالنِّكَاحُ لَيْسَ مِمَّا يُقْصَدُ بِعَقْدِهِ الِانْتِفَاعُ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ كَعَقْدِ الْبَيْعِ وَإِنَّمَا مَنْفَعَتُهُ مَنُوطَةٌ بِوُجُودِهِ فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ إلَّا أَنْ يُزِيلَهُ لِمَنْفَعَةِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ عَاقِدًا لِشَيْءٍ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ، فَلَا يَصِحُّ إلْحَاقُهُ بِمَنْ يَعْقِدُ النِّكَاحَ لِمَقَاصِدِهِ أَوْ بَعْضِهَا. يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ مَا هُوَ مَحْظُورٌ فِي الْأَصْلِ لَا يُبَاحُ مِنْهُ إلَّا مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ، كَذَبْحِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ قَبْلَ الْقَتْلِ مُحَرَّمٌ وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِثْلُهُ لِمَنْفَعَةِ الْأَكْلِ وَنَحْوِهَا، فَإِذَا قُتِلَ لَا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ كَانَ ذَلِكَ الْقَتْلُ مُحَرَّمًا، وَكَذَلِكَ الْإِبْضَاعُ حَرَامٌ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ

بَعْدَ الْعَقْدِ، وَأُبِيحَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا لِلِانْتِفَاعِ بِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ وَالنَّفْعِ بِهَا فَإِذَا عَقَدَ لِغَيْرِ شَيْءٍ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا عَبَثًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَصَدَ بِهَذَا تَحْلِيلَهَا لِمَنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ التَّحْلِيلَ فَرْعٌ لِزَوَالِ النِّكَاحِ، وَزَوَالَ النِّكَاحِ فَرْعٌ لِحُصُولِ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحَ فَرْعٌ لِإِرَادَةِ مَقَاصِدِهِ، فَإِذَا جَعَلَ مَقْصُودَهُ التَّحْلِيلَ الَّذِي هُوَ فَرْعُ فَرْعِهِ صَارَ فَرْعُ فَرْعِ الْفَرْعِيِّ أَصْلًا، وَصَارَ هَذَا كَرَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْت عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي حَتَّى تُذْبَحَ هَذِهِ الشَّاةُ، أَوْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ حَتَّى تُذْبَحَ هَذِهِ الشَّاةُ، فَقَامَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ فَذَبَحَهَا لِغَيْرِ الْأَكْلِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِهَا التَّذْكِيَةَ الْمُبِيحَةَ لِلَّحْمِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ مُجَرَّدَ حَلِّ الْيَمِينِ، فَإِنَّ هَذَا الذَّبْحَ لَا يُبِيحُ اللَّحْمَ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ إنَّمَا أَبَاحَهُ الشَّارِعُ لِمَقْصُودِ حِلِّ اللَّحْمِ، ثُمَّ قَدْ يَحْصُلُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ حِلُّ يَمِينٍ وَغَيْرِهَا، فَإِنْ فَاتَ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ لَمْ يَثْبُتْ الْحِلُّ بِحَالٍ وَإِنْ قُصِدَ شَيْءٌ آخَرُ كَذَلِكَ هَذَا النِّكَاحُ لَهُ مَقْصُودٌ فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ كَانَ الْفَرْجُ حَرَامًا وَإِنْ قُصِدَ بِاسْتِحْلَالِ الْفَرْجِ شَيْءٌ آخَرُ، وَقَدْ سَوَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْفُرُوجِ وَالذَّبَائِحِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] . وَكَذَلِكَ سَوَّتْ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ الْقَدِيمُ بَيْنَهُمَا فِي تَحْرِيمِهِمَا مِنْ الْمَجُوسِ وَنَحْوِهِمْ، وَفِي الِاحْتِيَاطِ فِيهِمَا إذَا اشْتَبَهَ مُبَاحُ أَحَدِهِمَا بِمَحْظُورِهِ أَوْ اشْتَبَهَ السَّبَبُ الْمُبِيحُ بِغَيْرِهِ، أَوْ اخْتَلَطَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَغَيْرِهِ، بَلْ مَسْأَلَةُ التَّحْلِيلِ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا فَإِنَّ الذَّبَائِحَ هُنَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْصِدَ الذَّبْحَ الْمَشْرُوعَ، وَيَحْصُلُ فِي ضِمْنِهِ حَلُّ الْيَمِينِ، وَحَيْثُ لَمْ تُقْصَدْ التَّذْكِيَةُ الْمُبِيحَةُ فَلَمْ يَقْصِدْ بِالذَّبْحِ أَنْ يُزِيلَ التَّذْكِيَةَ بَعْدَ هَذَا، وَالْمُحَلِّلُ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ، بَلْ قَصَدَ رَفْعَ النِّكَاحِ وَإِزَالَتَهُ. يُقَرِّرُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَطْلَقَ النِّكَاحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفَسَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُبَيِّنُ مُرَادَهُ بِأَنَّ النِّكَاحَ التَّامَّ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ مَقْصُودُ النِّكَاحِ، وَهُوَ الْجِمَاعُ الْمُتَضَمِّنُ ذَوْقَ الْعُسَيْلَةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِمُجَرَّدِ مَا يُسَمَّى نِكَاحًا مَعَ التَّقْيِيدِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا هُوَ النِّكَاحُ الْمَعْرُوفُ، الَّذِي يُفْهَمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ نِكَاحُ الرَّغْبَةِ الْمُتَضَمِّنِ ذَوْقَ الْعُسَيْلَةِ، وَهَذَا بَيِّنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنِكَاحٍ ثَبَتَ أَنَّهُ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الْفَرْجَ حَرَامٌ إلَّا بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ، وَثَبَتَ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْمُطَلِّقِ إذْ اللَّهُ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ.

المسلك السادس أنه سبحانه قال فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا

[الْمَسْلَكُ السَّادِسُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا] إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230] . يَعْنِي فَإِنْ طَلَّقَهَا هَذَا الزَّوْجُ الثَّانِي الَّذِي نَكَحَتْهُ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا، وَعَلَى الْمُطَلِّقِ الْأَوَّلِ أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، وَحَرْفُ إنْ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِمَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ وَعَدَمُ وُقُوعِهِ، فَأَمَّا مَا يَقَعُ لَازِمًا أَوْ غَالِبًا فَيَقُولُونَ فِيهِ إذَا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ فَائْتِنِي وَلَا يَقُولُونَ إنْ احْمَرَّ الْبُسْرُ؛ لِأَنَّ احْمِرَارَهُ وَاقِعٌ فَلَمَّا قَالَ فَإِنْ طَلَّقَهَا عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ النِّكَاحَ الْمُتَقَدِّمَ نِكَاحٌ يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ تَارَةً وَلَا يَقَعُ أُخْرَى، وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ لَازِمًا أَوْ غَالِبًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي مِثْلِهِ فَإِذَا طَلَّقَهَا وَلَا يُقَالُ فَالْآيَةُ عَمَّتْ كُلَّ نِكَاحٍ، فَلِهَذَا قِيلَ فَإِنْ طَلَّقَهَا إذْ مِنْ النَّاكِحِينَ أَنْ يُطَلِّقَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُطَلِّقُ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ الْمُحَلِّلِينَ يُطَلِّقُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ لَقَالَ فَإِنْ فَارَقَهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَمُوتُ عَنْهَا، وَقَدْ تُفَارِقُهُ بِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ بِحُدُوثِ مَهْرٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ لِعَانٍ أَوْ بِفَسْخِهِ لِعُسْرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَتَحِلُّ، لَكِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ بِيَدِ الزَّوْجِ وَإِنَّمَا بِيَدِهِ الطَّلَاقُ خَاصَّةً، فَهُوَ الَّذِي إذَا قِيلَ فِيهِ إنْ طَلَّقَ حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ نِكَاحُ رَغْبَةٍ قَدْ يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ وَقَدْ لَا يَقَعُ، لَا نِكَاحُ دُلْسَةٍ يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إلَّا نَادِرًا، وَلَوْ قِيلَ فَإِنْ فَارَقَهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ تَقَعُ فِيهِ الْفُرْقَةُ تَارَةً وَلَا تَقَعُ أُخْرَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نِكَاحَ الرَّغْبَةِ وَالدُّلْسَةِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، فَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ إنَّمَا عَدَلَ عَنْ لَفْظِ فَارَقَ إلَى لَفْظِ طَلَّقَ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ نِكَاحٌ قَدْ يَكُونُ فِيهِ الطَّلَاقُ، لَا نِكَاحٌ مَعْقُودٌ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ. يُؤَيِّدُ هَذَا: أَنَّ لَفْظَةَ الْفِرَاقِ أَعَمُّ فَائِدَةً وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ الطَّلَاقِ خَصِيصَةٌ لَكَانَ ذِكْرُهُ أَوْلَى، وَمَا ذَكَرْنَاهُ فَائِدَةٌ مُنَاسَبَةٌ يَتَبَيَّنُ بِمُلَاحَظَتِهَا كَمَالُ مَوْضِعِ الْخِطَابِ. يُبَيِّنُ هَذَا: أَنَّ الْغَايَةَ الْمُؤَقَّتَةَ بِحَرْفِ حَتَّى تَدْخُلُ فِي حُكْمِ الْمَحْدُودِ الْمُغَيَّا لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ خِلَافًا فِيهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْغَايَةِ الْمُؤَقَّتَةِ بِحَرْفِ إلَى

وَلِهَذَا قَالُوا فِي قَوْلِهِمْ أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسِهَا وَقَدِمَ الْحَاجُّ حَتَّى الشَّاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَنَّ الْغَايَاتِ دَاخِلَةٌ فِي حُكْمِ مَا قَبْلَهَا فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] يَقْتَضِي أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تُوجَدَ الْغَايَةُ الَّتِي هِيَ نِكَاحُ زَوْجٍ غَيْرِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ إذَا وُجِدَتْ انْتَهَى ذَلِكَ التَّحْرِيمُ الْمَحْدُودُ إلَيْهَا، وَانْقَضَى، وَهَذَا الْقَدْرُ وَحْدَهُ كَافٍ فِي بَيَانِ حِلِّهَا لِلْأَوَّلِ إذَا فَارَقَهَا الثَّانِي بِمَوْتٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَكَحَهَا زَوْجٌ غَيْرُهُ فَقَدْ زَالَ التَّحْرِيمُ الَّذِي كَانَ وُجِدَ بِالطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ، وَبَقِيَتْ كَسَائِرِ الْمُحْصَنَاتِ فِيهَا تَحْرِيمٌ آخَرُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الطَّلَاقِ، فَإِذَا زَالَ هَذَا التَّحْرِيمُ بِالْفُرْقَةِ لَمْ يَبْقَ فِيهَا وَاحِدٌ مِنْ التَّحْرِيمَيْنِ، فَتَعُودُ كَمَا كَانَتْ، أَوْ أَنَّهُ أُرِيدَ بِنِكَاحِ زَوْجٍ غَيْرِهِ، مَجْمُوعُ مُدَّةِ النِّكَاحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ ذَلِكَ. كَمَا يُقَالُ لَا أُكَلِّمُك حَتَّى تُصَلِّيَ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هَذَا كَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ نِكَاحِ زَوْجٍ غَيْرِهِ. وَمَعْنَاهُ كَمَعْنَى الْأَوَّلِ، فَلَمَّا قِيلَ بَعْدَ هَذَا فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ فَائِدَةٌ جَدِيدَةٌ غَيْرُ بَيَانِ تَوَقُّفِ الْحِلِّ عَلَى الطَّلَاقِ، وَهُوَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الزَّوْجَ مَوْصُوفٌ بِجَوَازِ التَّطْلِيقِ، وَعَدَمِ جَوَازِهِ أَعْنِي وُقُوعَهُ تَارَةً وَعَدَمَ وُقُوعِهِ أُخْرَى، وَإِذَا أَرَدْت وُضُوحَ ذَلِكَ فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] لَمَّا كَانَ التَّطْهِيرُ فِعْلًا مَقْصُودًا جِيءَ فِيهِ بِحَرْفِ التَّوْقِيتِ؛ وَلَمَّا كَانَ الطَّلَاقُ هُنَا غَيْرَ مَقْصُودٍ جِيءَ فِيهِ بِحَرْفِ التَّعْلِيقِ. فَلَوْ كَانَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ مَا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ حَتَّى تَنْكِحَ لَكَانَ هُوَ الْغَالِبَ عَلَى نِكَاحِ الْمُطَلَّقَاتِ. وَكَانَ الطَّلَاقُ فِيهِ مَقْصُودًا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ تِلْكَ الْآيَةِ. لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي تِلْكَ الْآيَةِ. إلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَوَقَّفَ الْحِلُّ عَلَى شَرْطَيْنِ قَالَ: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] . فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ الثَّابِتَ بِفِعْلِ اللَّهِ زَالَ بِوُجُودِ الطُّهْرِ. ثُمَّ بَقِيَ نَوْعٌ آخَرُ أَخَفُّ مِنْهُ. يُمْكِنُ زَوَالُهُ بِفِعْلِ الْآدَمِيِّ بَيَّنَ حُكْمَهُ بِقَوْلِهِ: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] .

المسلك السابع قوله سبحانه فلا جناح عليهما أن يتراجعا

وَهُنَا لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ فَإِنْ طَلَّقَهَا بَيَانُ تَوَقُّفِ الْحِلِّ عَلَى طَلَاقِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ قَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] ؛ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ هُوَ الشَّرْطُ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ أَيُّ فُرْقَةٍ حَصَلَتْ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ وَحْدَهُ لَا يَكْفِي فِي الْحِلِّ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْمُطَلِّقِ، وَعِلْمُ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّ الْمُتَزَوِّجَةَ لَا تَحِلُّ أَظْهَرُ مِنْ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ لَا تَحِلُّ، فَلَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ ذِكْرُهُ الْعِدَّةَ أَوْكَدَ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَائِدَةٍ فِي ذِكْرِ هَذَا الشَّرْطِ، ثُمَّ فِي تَخْصِيصِ الطَّلَاقِ. ثُمَّ ذِكْرِهِ بِحَرْفِ إنْ وَمَا ذَاكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إلَّا لِبَيَانِ أَنَّ النِّكَاحَ الْمُتَقَدِّمَ الْمَشْرُوطَ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ. فَإِنْ طَلَّقَهَا وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمَسْلَكُ السَّابِعُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا] الْمَسْلَكُ السَّابِعُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] قَالَ هَذَا بَعْدَ أَنْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] فَأَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي فِدْيَتِهَا إنْ خِيفَ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَهُ حُدُودٌ وَهُوَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. فَإِذَا خِيفَ أَنْ يَكُونَ فِي اجْتِمَاعِهِمَا تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ، كَانَ افْتِدَاؤُهَا مِنْهُ جَائِزًا. ثُمَّ ذَكَرَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهَا إذَا نَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَهَا أَنْ تُرَاجِعَ زَوْجَهَا الْأَوَّلَ. إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ. فَإِنَّمَا أَبَاحَ مُعَاوَدَتَهَا لَهُ إذَا ظَنَّا إقَامَةَ حُدُودِ اللَّهِ. كَمَا أَنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ افْتِدَاءَهَا مِنْهُ إذَا خَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ هُنَا الْفِدَاءُ. وَيَكْفِي فِي إبَاحَةِ الْفُرْقَةِ خَوْفُ الذَّنْبِ فِي الْمُقَامِ وَالْمَشْرُوطُ هُنَا النِّكَاحُ. وَلَا بُدَّ فِي الْمُجَامَعَةِ مِنْ ظَنِّ الطَّاعَةِ. وَإِنَّمَا شَرَطَ هَذَا الشَّرْطَ لِأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يَخَافَانِ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ. فَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ النَّظَرِ إلَى تِلْكَ الْحَالِ. هَلْ تَبَدَّلَتْ

أَوْ هِيَ بَاقِيَةٌ بِخِلَافِ الزَّوْجِ الْمُبْتَدَإِ. فَإِنَّ ظَنَّ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ مَوْجُودَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَالٌ تُخَالِفُ هَذَا، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ غَالِبًا إنَّمَا يَكُونُ عَنْ شَرٍّ فَإِذَا ارْتَجَعَا مُرِيدًا لِلشَّرِّ بِهَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، بَلْ يَكُونُ تَسْرِيحُهَا هُوَ الْوَاجِبُ. لَكِنْ قَالَ هُنَاكَ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فَجَعَلَ الرَّدَّ إلَى الزَّوْجِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الرَّجْعِيَّةِ. وَقَالَ هُنَا أَنْ يَتَرَاجَعَا فَجَعَلَ التَّرَاجُعَ إلَى الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَهِيَ لَا تَحِلُّ بَعْدَ الزَّوْجِ الثَّانِي إلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ مَوْقُوفٍ عَلَى رِضَاهَا وَكَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ اجْتَمَعَ فِيهَا طَلْقَتَانِ وَفِدْيَةٌ وَطَلْقَةٌ ثَالِثَةٌ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، إنَّمَا أَبَاحَ النِّكَاحَ الَّذِي قَدْ يُخَافُ فِيهِ مِنْ ضَرَرٍ لِمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُقِيمُ حُدُودَ اللَّهِ فِيهِ عُلِمَ أَنَّ النِّكَاحَ الْمُبَاحَ هُوَ النِّكَاحُ الَّذِي يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ فِي الْمُعَاشَرَةِ، وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ لَيْسَ هُوَ مِنْ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَقِيبَ وَطْئِهَا فَلَيْسَ هُنَاكَ عِشْرَةٌ يَحْتَاجُ مَعَهَا إلَى إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا الظَّنُّ شَرْطًا فِيهِ وَهُوَ خِلَافُ الْقُرْآنِ. وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِمَا لَوْ أَرَادَ الْمُطَلِّقُ الْأَوَّلُ أَنْ يُحِلَّهَا لِلْمُطَلِّقِ الثَّانِي، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَبَاحَ لَهُمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ لَا يَحْتَاجُ صَاحِبُهُ أَنْ يَظُنَّ ذَلِكَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ بَلْ اُشْتُرِطَ ذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، قِيلَ لَهُ إذَا قَالَ لَك الْمُحَلِّلُ أَنَا مِنْ نِيَّتِي أَنْ أَطَأَهَا السَّاعَةَ وَأُطَلِّقَهَا عَقِيبَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ هِيَ مِنْ نِيَّتِهَا ذَلِكَ فَهَلْ يُبَاحُ لَنَا ذَلِكَ، مَعَ إنْ أَقَمْنَا لَمْ نَظُنَّ أَنَّا نُقِيمُ حُدُودَ اللَّهِ، فَإِنْ قَالَ نَعَمْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ، وَإِنْ قَالَ لَا بَطَلَ مَذْهَبُهُ وَتَرَكَ أَصْلَهُ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ غَالِبَ الْمُحَلِّلِينَ أَعْنِي الرَّجُلَ الْمُحَلِّلَ وَالْمَرْأَةَ لَا يَظُنَّانِ أَنَّهُمَا يُقِيمَانِ حُدُودَ اللَّهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا رَغْبَةَ لَهُ فِي صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا تَزَوَّجَهُ لِيُفَارِقَهُ وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ نِيَّتُهُ كَيْفَ يَظُنُّ أَنْ يُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ مَعَهُ، لَا سِيَّمَا إذَا تَشَارَطَا عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمُعْتَبَرُ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ أَنْ يَظُنَّ إقَامَةَ حُدُودِ اللَّهِ فِي السَّاعَةِ الَّتِي يُعَاشِرُهَا فِيهَا فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ حُسْنَ الْعِشْرَةِ سَاعَةً وَيَوْمًا لَا يَعْدَمُهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ، فَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمَشْرُوطُ فَهَذَا حَاصِلٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى اشْتِرَاطِهِ، وَهَذَا بَيِّنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ

المسلك الثامن قوله سبحانه وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن

فِي قَوْلِهِ {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] قَالَ إنْ عَلِمَا أَنَّ نِكَاحَهُمَا عَلَى غَيْرِ دُلْسَةٍ وَأَرَادَ بِالدُّلْسَةِ التَّحْلِيلَ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إنْ عَلِمَ الْمُطَلِّقُ الْأَوَّلُ وَالزَّوْجَةُ أَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِيَ كَانَ عَلَى غَيْرِ دُلْسَةٍ، فَحِينَئِذٍ إذَا تَزَوَّجَهَا يَكُونُ بِحَيْثُ يَظُنُّ أَنْ يُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ مِنْ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَالنِّكَاحِ الَّذِي بَعْدَهُ ثُمَّ الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ أَيْضًا، أَمَّا إذَا تَزَوَّجَهَا نِكَاحَ دُلْسَةٍ وَطَلَّقَهَا ثُمَّ تَرَاجَعَا لَمْ يَكُونَا قَدْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ الَّتِي هِيَ تَحْرِيمُهَا أَوَّلًا ثُمَّ حِلُّهَا لِلثَّانِي ثُمَّ حِلَّهَا لِلْأَوَّلِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ عَامَّةً فِي ظَنِّ صِحَّةِ النِّكَاحِ وَظَنِّ حُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَأَحَدُ الظَّنَّيْنِ لِأَجْلِ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ، وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُسْتَقْبَلِ، وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَمْ يَجْعَلْ الظَّنَّ عِلْمًا هُنَا، فَلَمْ يَرْفَعْ الْفِعْلَ حَتَّى تَكُونَ أَنَّ الْخَفِيفَةَ مِنْ الثَّقِيلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الظَّنَّ يَقِينٌ، بَلْ نُصِبَ بِأَنَّ الْخَفِيفَةِ لِنَعْلَمَ أَنَّهُ عَلَى بَابِهِ، وَلِأَنَّ كَوْنَ الزَّوْجِ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ مُحَلِّلًا قَدْ لَا يُتَيَقَّنُ. وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِغَالِبِ الظَّنِّ، وَعَلَى هَذَا فَفِي الْآيَةِ حُجَّةٌ ثَابِتَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. [الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ] الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَلْعَبُونَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِآيَاتِهِ طَلَّقْتُك رَاجَعْتُك طَلَّقْتُك رَاجَعْتُك» وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ مَاجَهْ «خَلَعْتُك رَاجَعْتُك» وَقَدْ رُوِيَ مُرْسَلًا عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَرْتَجِعَ الْمَرْأَةَ يَقْصِدُ بِذَلِكَ مُضَارَّتَهَا بِأَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تُشَارِفَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ جِمَاعٍ أَوْ بَعْدَهُ، وَيُمْهِلَهَا حَتَّى تُشَارِفَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا، فَتَصِيرَ الْعِدَّةُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَهَكَذَا، فَسَّرَهُ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَوْ وَقَعَ اتِّفَاقًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ بِأَنْ يَرْتَجِعَهَا رَاغِبًا فِيهِ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيُطَلِّقُهَا ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَرْتَجِعُهَا رَاغِبًا ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيُطَلِّقُهَا لَمْ يُحَرَّمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَمَّا فَعَلَهُ لَا لِلرَّغْبَةِ لَكِنْ لِمَقْصُودٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِيُطِيلَ الْعِدَّةَ عَلَيْهَا حُرِّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَتَطْوِيلُ الْعِدَّةِ هُنَا لَمْ يُحَرَّمْ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ ضَرَرٌ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَحُرِّمَ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الضَّرَرَ كَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ أَوْ بَعْدَ الْوَطْءِ قَبْلَ اسْتِبَانَةِ الْحَمْلِ، وَإِنَّمَا حُرِّمَ لِأَنَّهُ قَصَدَ الضَّرَرَ، فَالضَّرَرُ هُنَا إنَّمَا حَصَلَ بِأَنْ قَصَدَ بِالْعَقْدِ فُرْقَةً تُوجِبُ ضَرَرًا لَوْ حَصَلَ بِغَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ حَرَامًا، كَمَا أَنَّ الْمُحَلِّلَ قَصَدَ بِالْعَقْدِ فُرْقَةً تُوجِبُ تَحْلِيلًا لَوْ حَصَلَ بِغَيْرِ قَصْدٍ لَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ حَرَامًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ لِغَيْرِ مَقْصُودِ الْعَقْدِ مُحَرِّمًا لِلْعَقْدِ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَرِّمًا لِلْعَقْدِ وَالْفِعْلُ الْمَقْصُودُ هُنَا وَهُوَ الطَّلَاقُ الْمُوجِبُ لِلْعِدَّةِ لَيْسَ مُحَرَّمًا فِي نَفْسِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا عَلَى أَصْلِ مَنْ يَعْتَبِرُ ذَلِكَ، وَهُوَ خِلَافُ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ مُحَرِّمًا لِلْعَقْدِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ بَاطِلًا، وَذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُنْضَمَّ إلَى النِّكَاحِ الْمُتَقَدِّمِ يُوجِبُ الْعِدَّةَ الْمُحَرِّمَةَ لِنِكَاحِهَا، وَيُوجِبُ حِلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ النِّكَاحُ وُجُودَ تَحْرِيمٍ شُرِعَ ضِمْنًا، أَوْ وُجُودَ تَحْلِيلٍ شُرِعَ ضِمْنًا. فَإِنَّهُ مَا شَرَعَ اللَّهُ مِنْ التَّحْرِيمِ أَوْ التَّحْلِيلِ ضِمْنًا وَتَبَعًا لَا أَصْلًا وَقَصْدًا، وَمَتَى أَرَادَهُ الْإِنْسَانُ أَصْلًا وَقَصْدًا فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي حُكْمِهِ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ الطَّلَاقَ سَبَبٌ لِوُجُودِ الْعِدَّةِ، وَإِذَا وَقَعَ كَانَتْ الْعِدَّةُ عِبَادَةً لِلَّهِ تُثَابُ الْمَرْأَةُ عَلَيْهَا إذَا قَصَدَتْ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّانِيَ سَبَبٌ يُحِلُّ الْمُطَلَّقَةَ، وَالرَّجْعَةُ مَقْصُودُهَا الْمُقَامُ مَعَ الزَّوْجَةِ لَا فِرَاقُهَا. كَمَا أَنَّ النِّكَاحَ مَقْصُودُهُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ فِي الْعِدَّةِ ضَرَرٌ بِالْمَرْأَةِ يُحْتَمَلُ مِنْ الشَّارِعِ إيجَابُ مَا يَتَضَمَّنُهُ، وَلَا يُحْتَمَلُ مِنْ الْعَبْدِ قَصْدُ حُصُولِهِ، وَكَذَلِكَ مِنْ طَلَاقِ الزَّوْجِ الثَّانِي حِلٌّ لِمُحْرِمٍ، وَزَوَالُ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ يَتَضَمَّنُ زَوَالَ الْمَصْلَحَةِ الْحَاصِلَةِ فِي ذَلِكَ التَّحْرِيمِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا مَا فِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الْمُطَلِّقِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ، وَزَوَالُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ يُحْتَمَلُ مِنْ الشَّارِعِ إثْبَاتُ مَا يَتَضَمَّنُهُ، وَلَا يُحْتَمَلُ مِنْ الْعَبْدِ قَصْدُ حُصُولِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي الْحَقِيقَةِ بَيْنَ قَصْدِ تَحْلِيلِ مَا لَمْ يُشْرَعْ تَحْلِيلُهُ مَقْصُودًا. وَبَيْنَ قَصْدِ تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُشْرَعْ تَحْرِيمُهُ مَقْصُودًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الْوَجْهُ قَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي قَاعِدَةِ الْحِيَلِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا لِخُصُوصِهِ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ.

المسلك التاسع قوله سبحانه ولا تتخذوا آيات الله هزوا

[الْمَسْلَكُ التَّاسِعُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا] } [البقرة: 231] وَمِنْ آيَاتِ اللَّهِ شَرَائِعُ دِينِهِ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْخُلْعِ؛ لِأَنَّهَا الطَّرِيقُ الَّتِي يَحِلُّ بِهَا الْحَرَامُ مِنْ الْفُرُوجِ أَوْ يَحْرُمُ بِهَا الْحَلَالُ، وَهِيَ مِنْ دِينِ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ، وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ آيَاتِهِ، وَالْعُقُودُ دَلَائِلٌ عَلَى الْأَحْكَامِ الْحَاصِلَةِ بِهَا، وَذِكْرُهُ هَذِهِ الْآيَةَ بَعْدَ أَنْ أَبَاحَ أَشْيَاءَ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْآيَاتِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهَا عَقِيبَ ذَلِكَ مُنَاسِبًا، وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَلْعَبُونَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِآيَاتِهِ طَلَّقْتُك رَاجَعْتُك طَلَّقْتُك رَاجَعْتُك» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ بَطَّةَ وَفِي لَفْظٍ لَهُ: «خَلَعْتُك رَاجَعْتُك طَلَّقْتُك رَاجَعْتُك» . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا مِنْ آيَاتِهِ، وَإِذَا كَانَتْ مِنْ آيَاتِهِ فَاِتِّخَاذُهَا هُزُوًا فِعْلُهَا مَعَ عَدَمِ اعْتِقَادِ حَقَائِقِهَا الَّتِي شُرِعَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ لَهَا، كَمَا أَنَّ اسْتِهْزَاءَ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] ، فَيَأْتُونَ بِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ غَيْرَ مُعْتَقِدِينَ حَقِيقَتَهَا بَلْ مُظْهِرِينَ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ، فَكُلُّ مَنْ أَتَى بِالرَّجْعَةِ غَيْرَ قَاصِدٍ بِهَا مَقْصُودَ النِّكَاحِ بَلْ الضِّرَارَ أَوْ نَحْوَهُ، أَوْ أَتَى بِالنِّكَاحِ غَيْرَ قَاصِدٍ بِهِ مَقْصُودَ النِّكَاحِ بَلْ التَّحْلِيلَ وَنَحْوَهُ، فَقَدْ اتَّخَذَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا، حَيْثُ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْعَقْدِ وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي تُوجِبُهَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ مِنْ مَقْصُودِ النِّكَاحِ، كَالْمُنَافِقِ فِي أَصْلِ الْحَدِيثِ سَوَاءً فَذَاكَ نِفَاقٌ فِي أَصْلِ الدِّينِ وَهَذَا نِفَاقٌ فِي شَرَائِعِهِ فَإِنَّ قَوْلَ الْإِنْسَانِ آمَنَّا كَقَوْلِهِ تَزَوَّجْت هُوَ إخْبَارٌ عَمَّا فِي بَاطِنِهِ مِنْ الِاعْتِقَادِ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّصْدِيقِ وَالْإِرَادَةِ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ إنْشَاءُ الْعَقْدِ لِلْإِيمَانِ، وَعَقْدُ النِّكَاحِ مِنْ حَيْثُ هُوَ يَبْتَدِئُ الدُّخُولَ فِي ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ صَادِقًا فِي الْإِخْبَارِ عَمَّا فِي بَاطِنِهِ مِنْ الِاعْتِقَادِ، إذْ لَا تَصْدِيقَ مَعَهُ وَلَا إرَادَةَ لَهُ وَلَا هُوَ دَاخِلٌ مِنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَالنِّكَاحِ، بَلْ إنَّمَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ ذَلِكَ لِحُصُولِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ الَّتِي هِيَ مِنْ تَوَابِعِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ هُوَ صَادِقًا فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ إنْشَاءٌ وَلَا مِنْ حَيْثُ هِيَ إخْبَارٌ. وَذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] دَلِيلٌ

المسلك العاشر أنه قصد بالعقد غير ما شرع له العقد

عَلَى أَنَّ إمْسَاكَهُنَّ ضِرَارًا مِنْ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ الْمُمْسِكَ تَكَلَّمَ بِالرَّجْعَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِمَقْصُودِ النِّكَاحِ بَلْ إنَّمَا نَكَحَ لِيُطَلِّقَ، وَالطَّلَاقُ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ وَلَا مِنْ الْمَقْصُودِ بِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّحْلِيلَ مِنْ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ثَبَتَ أَنَّهُ حَرَامٌ ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِهِ فَسَادُهُ بِإِبْطَالِ مَقْصُودِ الْمُحَلِّلِ مِنْ ثُبُوتِ نِكَاحِهِ ثُمَّ نِكَاحِ الْمُطَلِّقِ، وَهَذَا الْوَجْهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ، فِي الْقَاعِدَةِ الْأُولَى فِي الِاسْتِدْلَالِ بِآيَاتِ الِاسْتِهْزَاءِ، فِي تَقْرِيرِ أَنَّ الْمَقَاصِدَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْعُقُودِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ هُنَا لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ دَلَّا عَلَى النَّهْيِ عَنْ الِاسْتِهْزَاءِ فِي النِّكَاحِ بِخُصُوصِهِ، فَلِذَلِكَ ذُكِرَ فِي الْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، ثُمَّ لَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إبْطَالِ الِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْهَازِلِ وَالْمُحَلِّلِ بَطَلَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَقْصُودُهُ، وَمَقْصُودُ الْهَازِلِ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ، فَصَحَّحَ عَقْدَهُ، وَمَقْصُودُ الْمُحَلِّلِ هُوَ التَّحْلِيلُ فَلَا يَحْصُلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمَسْلَكُ الْعَاشِرُ أَنَّهُ قَصَدَ بِالْعَقْدِ غَيْرَ مَا شُرِعَ لَهُ الْعَقْدُ] ُ، فَيَجِبُ أَنْ لَا يَصِحَّ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَعَ الْعُقُودَ أَسْبَابًا إلَى حُصُولِ أَحْكَامٍ مَقْصُودَةٍ، فَشَرَعَ الْبَيْعَ سَبَبًا لِمِلْكِ الْأَمْوَالِ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، وَالْهِبَةَ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمَالِ تَبَرُّعًا، وَالنِّكَاحَ سَبَبًا لِمِلْكِ الْبُضْعِ، وَالْخُلْعَ سَبَبًا لِحُصُولِ الْبَيْنُونَةِ، فَحَقِيقَةُ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَمَقْصُودُهُمَا الْمُقَوِّمُ لَهُمَا الَّذِي لَا قِوَامَ لَهُمَا بِدُونِهِ انْتِقَالُ الْمِلْكِ مِنْ مَالِكٍ إلَى مَالِكٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَمِلْكُ الْمَالِ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ بِجَمِيعِ الطُّرُقِ الْمَشْرُوعَةِ، وَحَقِيقَةُ النِّكَاحِ وَمَقْصُودُهُ حُصُولُ السَّكَنِ وَالِازْدِوَاجِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِمَنْفَعَةِ الْمُتْعَةِ وَتَوَابِعِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَحَقِيقَةُ الْخُلْعِ وَمَقْصُودُهُ حُصُولُ الْبَيْنُونَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَأَنْ تَمْلِكَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، فَإِذَا تَكَلَّمَ بِالْكَلِمَاتِ الَّتِي هِيَ صُورَةُ هَذِهِ الْعُقُودِ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِمَقَاصِدِهَا وَحَقَائِقِهَا بِحَيْثُ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ حَقِيقَةُ الْعَقْدِ لَمْ يَرْضَ لِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اعْتَبَرَ الرِّضَا فِي الْبَيْعِ، فَهُوَ فِي النِّكَاحِ أَعْظَمُ اعْتِبَارًا، وَالرِّضَا بِالشَّيْءِ إرَادَةٌ لَهُ وَرَغْبَةٌ فِيهِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا وَلَا رَاغِبًا فِي مَقْصُودِ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ، فَلَا عَقْدَ لَهُ. الثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ الْمَكْرُوهِ لَا يَصِحُّ مَعَ أَنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْعَقْدِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ

المسلك الحادي عشر أن الله سبحانه حرم المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره

بِلَفْظِ الْعَقْدِ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، لَا مُوجَبَ ذَلِكَ اللَّفْظِ، كَمَا قَصَدَ النَّاطِقُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مُكْرَهًا دَفْعَ الْعَذَابِ عَنْ نَفْسِهِ لَا حَقِيقَةَ الْكُفْرِ، وَكَذَلِكَ الْمُخَادِعُ مِثْلُ الْمُحَلِّلِ وَنَحْوِهِ قَصَدَ بِلَفْظِ الْعَقْدِ رَفْعَ التَّحْرِيمِ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا، لَا مُوجَبَ ذَلِكَ اللَّفْظِ فَهُوَ كَنُطْقِ الْمُنَافِقِ بِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ كَنُطْقِ الْمُكْرَهِ بِهَا فَكِلَاهُمَا لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِ حُكْمُ هَذَا الْقَوْلِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ غَيْرَ مُوجَبِهِ، بَلْ إمَّا بَعْضَ تَوَابِعِ مُوجَبِهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، لَكِنَّ الْمُكْرَهَ مَعْذُورٌ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مِنْ خَارِجٍ، وَالْمُخَادِعَ غَيْرُ مَعْذُورٍ إذْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مِنْ نَفْسِهِ. وَنُكْتَةُ هَذَا: أَنَّ مَقْصُودَ النِّيَّاتِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْعُقُودِ، كَاعْتِبَارِهَا فِي الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، فَكُلُّ مَنْ قَصَدَ بِالْعَقْدِ غَيْرَ الْمَقْصُودِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ ذَلِكَ الْعَقْدُ بَلْ قَصَدَ بِهِ سَبَبًا آخَرَ أَرَادَ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِالْعَقْدِ إلَيْهِ، فَهُوَ مُخَادِعٌ، بِمَنْزِلَةِ الْمُرَائِي الَّذِي يَقْصِدُ بِالْعِبَادَاتِ عِصْمَةَ دَمِهِ وَمَالِهِ لَا حَقِيقَةَ الْعِبَادَةِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا مَقْصُودًا تَابِعًا لَكِنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذَا الْوَجْهِ فِي الْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ لَكِنَّ مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ لَا يَمَسُّ بِخُصُوصِهِ مَسْأَلَةَ التَّحْلِيلِ لَمْ نَذْكُرْهُ وَمَا دَلَّ عَلَيْهَا خُصُوصًا كَمَا دَلَّ عَلَى قَاعِدَةِ الْحِيَلِ عُمُومًا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ تَلَقِّيَ الْحُكْمِ مِنْ دَلِيلٍ يَقْتَضِيهِ بِعَيْنِهِ أَقْوَى مِنْ تَلَقِّيه مِنْ دَلِيلٍ عَامٍّ. [الْمَسْلَكُ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ] الْمَسْلَكُ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ ذَلِكَ لِاشْتِمَالِ هَذَا التَّحْرِيمِ عَلَى مَصْلَحَةٍ لِعِبَادِهِ، وَحُصُولِ مُفْسِدَةٍ فِي حِلِّهَا لَهُ بِدُونِ الزَّوْجِ الثَّانِي، وَابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا لَهُمْ لِيُمَيِّزَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، وَقَدْ قِيلَ كَانَ الطَّلَاقُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ كُلَّمَا شَاءَ الرَّجُلُ طَلَّقَ الْمَرْأَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا فَقَصَرَ اللَّهُ الْأَزْوَاجَ عَلَى ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ لِيَكُفَّ النَّاسُ عَنْ الطَّلَاقِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَإِذَا عَلِمَ الرَّجُلُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ كَفَّ عَنْ ذَلِكَ، إلَّا إذَا كَانَ زَاهِدًا فِي الْمَرْأَةِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا التَّحْرِيمُ يَزُولُ بِأَنْ يَرْغَبَ إلَى بَعْضِ الْأَرَاذِلِ فِي أَنْ يَطَأَ الْمَرْأَةَ وَيُعْطِيَ شَيْئًا عَلَى ذَلِكَ، كَانَ زَوَالُ هَذَا التَّحْرِيمِ مِنْ أَيْسَرِ الْأَشْيَاءِ، فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَطَأَ وَيَبْذُلَ، فَكَيْفَ إذَا أُعْطِيَ عَلَى ذَلِكَ جُعْلًا.

وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّونَ مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» ، فَإِنَّ أَدْنَى الْحِيلَةِ مِنْ الْحِيَلِ يُمْكِنُ اسْتِحْلَالُ الْمَحَارِمِ بِهَا، وَإِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ الْمُتَضَمِّنُ لِجَلْبِ مَصَالِحِ خَلْقِهِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ عَنْهُمْ يَزُولُ بِأَدْنَى سَعْيٍ غَيْرَ مَقْصُودٍ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَبِيرُ فَائِدَةٍ وَلَا مَصْلَحَةٍ، وَكَانَ إلَى اللَّعِبِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْجَدِّ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي الْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ. فَإِذَا قِيلَ: إنَّ هَذَا حَلَالٌ كَانَ حَقِيقَتُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْرُمُ عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهَا فَحْلٌ مِنْ الْفُحُولِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَغْبَةٌ فِي نِكَاحِهَا بَلْ يُعْطَى عَلَى ذَلِكَ جُعْلًا، لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ صُورَةَ الْعَقْدِ وَالْتِزَامَ الْمَهْرِ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ فَيَكُونُ قَائِلُ هَذَا قَدْ ادَّعَى أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَتَّى تُوطَأَ وَطْئًا شَبِيهًا بِالزِّنَا بَلْ هُوَ زِنًا، فَإِنَّ هَذَا مَعْنَاهُ مَعْنَى الزِّنَا إذْ الزَّانِي هُوَ مَنْ يُرِيدُ وَطْءَ الْمَرْأَةِ، بِدُونِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ النِّكَاحُ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ التَّحْلِيلِ، هُوَ السِّفَاحُ لَوْ أَدْرَكَكُمْ عُمَرُ لَنَكَلَكُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ «كُنَّا نَعُدُّهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِفَاحًا» ، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا وَشَبَّهَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ إذْ الْمَقْصُودُ وَطْؤُهُ لَا مِلْكُهُ، كَذَلِكَ هَذَا الْمُحَلِّلُ إنَّمَا يَقْصِدُ مِنْهُ الْوَطْءَ الْمُجَرَّدَ لَا أَحْكَامَ الْعَقْدِ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ، وَلَمَّا رَأَى كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُ إنَّ الْمُطَلَّقَةَ تَحْرُمُ حَتَّى تُوطَأَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رَأَى أَنَّ مَعْنَى هَذَا مَعْنَى الزِّنَا، وَحَسِبَ أَنَّ هَذَا مِنْ الدِّينِ الْمَأْخُوذِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ تَجَاهَلَ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ أَخَذَ يُعَيِّرُ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا وَيَقُولُ، إنَّ دِينَهُمْ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ تَحْرُمُ حَتَّى تَزْنِيَ فَإِذَا زَنَتْ حَلَّتْ. ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ حَتَّى اعْتَمَدَ بَعْضُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّصَارَى فِيمَا يَهْجُو بِهِ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ، وَأَخَذَ يُنَفِّرُ أَهْلَ دِينِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ بِالتَّشْنِيعِ بِهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ عَدُوُّ اللَّهِ أَنَّ هَذَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الدِّينِ وَلَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ السَّابِقِينَ، وَلَا عَنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، بَلْ قَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ وَأَقُولُ إنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي اخْتَارَهُ وَاصْطَفَاهُ وَطَهَّرَهُ، وَهُوَ حَقِيقٌ بِالتَّوْقِيرِ وَالصِّيَانَةِ مِنْ عِلَّةٍ تَشِينُهُ، وَأَنْ يُنَزَّهَ عَمَّا أَصْبَحَ أُمَنَاءُ الْمِلَلِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، يُعَيِّرُونَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِيهِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَبِالْجُمْلَةِ: فَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ وَأَنْصَفَ فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ أَزْكَى وَأَطْهَرَ مِنْ أَنْ يُحَرِّمَ

المسلك الثاني عشر أن جواز التحليل قد أفضى إلى مفاسد كثيرة

فَرْجًا مِنْ الْفُرُوجِ حَتَّى يُسْتَعَارَ لَهُ مِنْ تَيْسٍ مِنْ التُّيُوسِ، لَا يُرْغَبُ فِي نِكَاحِهِ وَلَا فِي مُصَاهَرَتِهِ وَلَا يُرْغَبُ بَقَاؤُهُ مَعَ الْمَرْأَةِ أَصْلًا فَيَنْزُو عَلَيْهَا وَتَحِلُّ بِذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا بِالسِّفَاحِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ، بَلْ هُوَ سِفَاحٌ وَزِنًا كَمَا سَمَّاهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَيْفَ يَكُونُ الْحَرَامُ مُحَلَّلًا؟ أَمْ كَيْفَ يَكُونُ الْخَبِيثُ مُطَيَّبًا؟ أَوْ كَيْفَ يَكُونُ النَّجَسُ مُطَهَّرًا،؟ وَغَيْرُ خَافٍ عَلَى مَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَنَوَّرَ قَلْبَهُ بِالْإِيمَانِ أَنَّ هَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ الَّتِي لَا تَأْتِي بِهَا سِيَاسَةُ عَاقِلٍ فَضْلًا عَنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ لَا سِيَّمَا أَفْضَلُ الشَّرَائِعِ وَأَشْرَفُ الْمَنَاهِجِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ مِنْ أَنْ يُشَرِّعَ مِثْلَ هَذَا وَلَمَّا رَأَتْ الْقُلُوبُ السَّلِيمَةُ وَالْفِطْرُ الْمُسْتَقِيمَةُ أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا حَقِيقَةُ السِّفَاحِ لَا النِّكَاحِ، لَمْ تُلْقِ لَهُ بَالًا فَصَارَ يَتَوَلَّدُ مِنْ فِعْلِ هَذَا مِنْ الْمَفَاسِدِ أَضْعَافُ مَفَاسِدِ الْمُتْعَةِ. [الْمَسْلَكُ الثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّ جَوَازَ التَّحْلِيلِ قَدْ أَفْضَى إلَى مَفَاسِدَ كَثِيرَةٍ] الْمَسْلَكُ الثَّانِيَ عَشَرَ وَهَذَا هُوَ الْمَسْلَكُ الثَّانِيَ عَشَرَ وَهُوَ أَنَّ جَوَازَ التَّحْلِيلِ قَدْ أَفْضَى إلَى مَفَاسِدَ كَثِيرَةٍ وَصَارَ مَظِنَّةً لَهَا وَلِمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ التُّيُوسِ الْمُسْتَعَارَةِ صَارَ يُحَلِّلُ الْأُمَّ وَبِنْتَهَا عَلَى مَا أَخْبَرَنِي بِهِ مَنْ صَدَّقْتُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِهَذَا السِّفَاحِ، فَلَا يُمَيِّزُ مَنْ الْمَنْكُوحَةُ وَلَا لَهُ غَرَضٌ فِي الْمُصَاهَرَةِ حَتَّى يَجْتَنِبَ مَا حَرَّمَتْهُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَجْمَعُ مَاءَهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بَلْ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرٍ وَهُوَ مَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، كَمَا رَوَاهُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَغَيْرُهُ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إذَا كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا. وَمِنْهَا: أَنَّ كَثِيرًا مَا يَتَوَاطَؤُ هُوَ وَالْمَرْأَةُ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَهَا إذْ لَيْسَ لَهُ رَغْبَةٌ فِي ذَلِكَ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَعُدُّهُ زَوْجًا فَتَنْكَشِفُ أَوْ تَسْتَحِي أَوْ تَهَابُ أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا لِاسْتِشْعَارِهَا أَنَّهُ لَمْ يُتَّخَذْ زَوْجًا. وَمِنْهَا: أَنَّهُ غَالِبًا لَا يَكُونُ كُفْئًا لِلْمَرْأَةِ وَنِكَاحُ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ مَكْرُوهٌ أَوْ مَشْرُوطٌ فِيهِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ، أَوْ بَاطِلٌ وَغَالِبًا لَا يُرَاعَى فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُطَلِّقِينَ لِمَا أُلْقِيَ إلَيْهِمْ خِفَّةُ مَئُونَةِ الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ، إذَا كَانَ التَّحْرِيمُ يَزُولُ بِتَيْسٍ يُعْطِي ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، حَتَّى لَقَدْ بَلَغَنِي مِمَّنْ صَدَّقَتْهُ

أَنَّ بَعْضَ التُّيُوسِ طَلَبَ أَكْثَرَ مَا بُذِلَ لَهُ، فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ وَأَيَّ شَيْءٍ تُرِيدُ فَعَلْتَ وَأَخَذْتَ سَامَحَ النَّاسَ فِي ذَلِكَ، حَتَّى رُبَّمَا كَتَمَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ وَحَلَّلَهَا بِدُونِ إذْنِ الْوَلِيِّ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يُزَوِّجُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَنِكَاحُ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِدُونِ إذْنِ الْوَلِيِّ مِنْ أَبْطَلْ النِّكَاحِ وَأَعْظَمِهِ مُرَاغَمَةً لِلشَّرِيعَةِ وَمِمَّا آلَ بِهِ اسْتِخْفَافُ شَأْنِ التَّحْلِيلِ أَنَّ الْأَمْرَ أَفْضَى إلَى أَنْ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَحْسِبُ أَنَّ مُجَرَّدَ وَطْءِ الذَّكَرِ مُبِيحٌ حَتَّى اعْتَقَدُوا أَنَّهَا إذَا وَلَدَتْ ذَكَرًا حَلَّتْ، وَاعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا بِقَدَمِهِ حَلَّتْ، وَاعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إذَا صَبَّ دُهْنًا فَوْقَ رَأْسِهَا حَلَّتْ كَأَنَّهُمْ شَبَّهُوهُ بِصَبِّ الْمَنِيِّ. حَدَّثَنِي بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي تُفْضِي النِّسَاءُ إلَيْهِنَّ أَسْرَارَهُنَّ، وَحِلُّهُ بِالْأَوَّلِ مُسْتَقِرٌّ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ الْجُهَّالِ، حَتَّى بَلَغَنِي أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَكِيم النَّهْرَوَانِيُّ صَاحِبَ أَبِي الْخَطَّابِ حَضَرَ حَلْقَةَ شَيْخٍ نَبِيلِ الصُّورَةِ فَأَكْرَمَهُ، وَسَأَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَكِيم عَنْ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا ذَكَرًا هَلْ تَحِلُّ فَقَالَ لَا، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ أَنَا أُفْتِي أَنَّهَا تَحِلُّ مِنْ الْبَصْرَةِ إلَى هُنَا فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَكِيمٍ مَا زِلْت تُفْتِي بِغَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، أَوْ كَمَا قَالَ، فَانْظُرْ إلَى هَذِهِ الْفَضَائِحِ الَّتِي فِيهَا انْهِدَامُ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعَامَّةِ، أَصْلُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا أُلْقِيَ إلَيْهِمْ ابْتِدَاءً مِنْ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا تَحِلُّ بِنِكَاحٍ خَارِجٍ عَنْ النِّكَاحِ الْمَعْرُوفِ، وَإِلَّا فَلَوْ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ لَا تُنْكَحُ إلَّا كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ ابْتِدَاءً لَمْ يَشْتَبِهْ النِّكَاحُ الَّذِي هُوَ النِّكَاحُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقَبَائِحِ كَاشْتِبَاهِ التَّحْلِيلِ بِهِ، وَمِنْ مَفَاسِدِهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُطَلَّقَةَ إذَا لَمْ تَنْكِحْ التَّيْسَ نِكَاحَ رَغْبَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا غَرَضٌ فِي الْوِلَادَةِ مِنْهُ، وَلَا فِي أَنْ يَبْقَى بَيْنَهُمَا عَلَاقَةٌ، فَرُبَّمَا قَتَلَتْ الْوَلَدَ بَلْ لَعَلَّ هَذَا أُوقِعَ كَثِيرًا وَدَائِمًا وَكَثِيرٌ مِنْهُنَّ يَسْتَطِيلُ الْعِدَّةُ فَإِمَّا أَنْ تَكْذِبَ أَوْ تَكْتُمَ. وَمَا ذَاكَ إلَّا؛ لِأَنَّهُ يَتَوَالَى عَلَيْهَا عِدَّتَانِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ وَهِيَ شَدِيدَةُ الرَّغْبَةِ فِي الْعَوْدَةِ إلَى الْأَوَّلِ، وَلَوْ أَنَّهَا أُلْقِيَ إلَيْهَا الْيَأْسُ مِنْ الْعَوْدِ إلَى الْأَوَّلِ، إلَّا بَعْدَ نِكَاحٍ تَامٍّ كَالنِّكَاحِ الْمُبْتَدَإِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَمِنْ ذَاكَ مَا بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا تَرَكَ مَنْ حَلَّلَ امْرَأَةً فِي بَيْتِهِ فَلَمَّا خَرَجَ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى أَنْ رَاوَدَ الْمَرْأَةَ عَنْ نَفْسِهَا وَقَالَ إنَّ الْحِلَّ لَا يَتِمُّ إلَّا بِرَجُلَيْنِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ رَأَى غَيْرَهُ قَدْ أَتَى بِالسِّفَاحِ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى التَّشَبُّهِ بِهِ إذْ النُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى التَّشَبُّهِ، وَلَوْ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ أَحْصَنَ فَرْجَ الْمَرْأَةِ وَنَكَحَهَا نِكَاحَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُحَدِّثْ هَذَا نَفْسَهُ بِالتَّشَبُّهِ بِهِ فِي تِلْكَ الْمَرْأَةِ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَجْوِيزَ التَّحْلِيلِ قَدْ أَفْضَى إلَى مَا هُوَ غَالِبٌ فِي التَّحْلِيلِ الْمُظْهَرِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَوْ لَازِمٌ لَهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُعْتَدَّةَ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَرِّحَ بِخِطْبَتِهَا فِي عِدَّتِهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا فِي الْعِدَّةِ، دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] ، وَقَدْ قَالَ قَبْلَ هَذَا: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] . وَأَمَّا التَّعْرِيضُ فَيَجُوزُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُمْكِنُ عَوْدُهَا إلَى زَوْجِهَا. مِثْلُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. فَأَمَّا الْمَرْأَةُ الْمُزَوَّجَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُخْطَبَ تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا، بَلْ ذَلِكَ تَخْبِيبٌ لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا، وَهُوَ مِنْ أَقْبَحِ الْمَعَاصِي، وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا أَحْرَمُ عَلَى الْمُطَلِّقِ مِنْ الْمُزَوَّجَةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَرِّحَ بِخِطْبَتِهَا وَلَا يُعَرِّضَ لَا فِي الْعِدَّةِ وَلَا بَعْدَ الْعِدَّةِ، ثُمَّ إذَا تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُصَرِّحَ بِخِطْبَتِهَا، أَوْ لَا يُعَرِّضُ حَتَّى يُطَلِّقَهَا ثُمَّ إذَا طَلَّقَهَا لَمْ يَجُزْ التَّصْرِيحُ بِخِطْبَتِهَا حَتَّى تَقْضِيَ الْعِدَّةَ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّعْرِيضُ إذَا كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَفِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ، وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا لَمْ يَجُزْ وِفَاقًا، وَقَدْ أَفْضَى تَجْوِيزُ التَّحْلِيلِ إلَى أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ ثَلَاثًا فَيُوَاعَدَهَا فِي عِدَّتِهَا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ التَّحْلِيلِ، وَيَسْعَى هُوَ فِي هَذَا التَّحْلِيلِ، وَرُبَّمَا أَعْطَاهَا مَا تُعْطِيهِ الْمُحَلِّلُ، وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مُدَّةَ الْعِدَّتَيْنِ إنْفَاقَهُ عَلَى زَوْجَتِهِ، فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ أَيْنَ مُوَاعَدَتُهَا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ مُوَاعَدَتِهَا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ الْعِدَّةِ بِدَرَجَتَيْنِ، وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَى اللَّبِيبِ أَنَّ هَذَا رُكُوبٌ لِلْمُحَرَّمِ مُكَرَّرًا مُغَلَّظًا، وَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ عَلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ إذَا كَانَ مَظِنَّةً لِبَعْضِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ حَسَمَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ مَادَّتَهُ بِتَحْرِيمِهِ جَمِيعِهِ، أَلَا تَرَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا اسْتَأْذَنَهُ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ فِي الِانْتِبَاذِ فِي وِعَاءٍ صَغِيرٍ قَالَ لَوْ رَخَّصْت لَكُمْ فِي هَذِهِ لَجَعَلْتُمُوهَا مِثْلَ هَذِهِ، ثُمَّ يَشْرَبُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَضْرِبَ ابْنَ عَمِّهِ بِالسَّيْفِ» أَوْ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. «وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ قَدْ أَصَابَهُ ذَلِكَ. قَالَ فَسَدَلْتُ رَحْلِي حَيَاءً مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . فَحَرَّمَ

اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَلِيلَ الْخَمْرِ وَكَثِيرَهَا، وَحَكَمَ بِنَجَاسَتِهَا وَنَهَى عَنْ الْخَلِيطَيْنِ، وَعَنْ شُرْبِ النَّبِيذِ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَعَنْ الْأَوْعِيَةِ الْمُقَوِّيَةِ. كُلُّ ذَلِكَ حَسْمًا لِلْمَادَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْعِنَادُ التَّامُّ هُوَ شُرْبُ الْمُسْكِرِ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ ذَلِكَ يَقْتَضِي الْكَثِيرَ طَبْعًا. فَكَذَلِكَ أَصْلُ التَّحْلِيلِ لَمَّا كَانَ مُفْضِيًا إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ كَثِيرًا أَوْ غَالِبًا، كَانَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ تَحْرِيمَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَسْلَكِ الذَّرَائِعِ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ لِهَذَا الْأَصْلِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُتْعَةِ شَرٌّ إلَّا وَفِي التَّحْلِيلِ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ بِكَثِيرٍ، فَإِنَّ الْمُسْتَمْتِعَ رَاغِبٌ إلَى وَقْتٍ فَيُعْطِي الرَّغْبَةَ حَقَّهَا، بِخِلَافِ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّهُ تَيْسٌ مُسْتَعَارٌ، فَمِنْ الْعَجَبِ أَنْ يُشَنَّعَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ بِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَلَهُمْ فِي اسْتِحْلَالِهِ سَلَفٌ، وَمَعَهُمْ فِيهِ أَثَرٌ وَحَظٌّ مِنْ قِيَاسٍ، وَإِنْ كَانَ مَدْفُوعًا بِمَا قَدْ نَسَخَهُ، ثُمَّ يُرَخِّصُ فِي التَّحْلِيلِ الَّذِي لَعَنَ الشَّارِعُ فَاعِلَهُ وَلَمْ يُبِحْهُ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ، وَاتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ عَلَى لَعْنِ فَاعِلِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ حَظٌّ مِنْ قِيَاسٍ، بَلْ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ، وَيَعْتَصِمُ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِمُقَارَنَةِ الشَّرْطِ الْعَقْدَ وَتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ هَذَا شَرْطًا وَذَاكَ تَوْقِيتًا، وَهُوَ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا يُعْرَفُ مَأْثُورًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ، بَلْ الْأُصُولُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّرُوطَ مُعْتَبَرَةٌ إمَّا صِحَّةً وَوَفَاءً وَإِمَّا فَسَادًا أَوْ إلْغَاءً سَوَاءٌ قَارَنَتْ الْعَقْدَ أَوْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ اسْتِقْصَاءِ ذَلِكَ لَبَسَطَنَا الْقَوْلَ فِيهِ. فَإِنَّمَا قَدْ قَرَّرَنَا أَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ تَحْلِيلٌ، وَالشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَلَكِنْ نُنَبِّهُ عَلَى بَعْضِ أَدِلَّةِ ذَلِكَ لِكَيْ يَدْخُلَ فِيهِ إذَا تَوَاطَآ عَلَى التَّحْلِيلِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا غَيْرَ نَاوٍ لِلتَّحْلِيلِ مِنْ غَيْرِ إظْهَارِ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وَقَالَ: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8] . وَقَالَ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] . وَقَالَ: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} [الإسراء: 34] . وَلَمْ يُفَرِّقْ سُبْحَانَهُ بَيْنَ عَقْدٍ وَعَقْدٍ وَعَهْدٍ وَعَهْدٍ، وَمَنْ شَارَطَ غَيْرَهُ فِي بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ عَلَى صِفَاتٍ اتَّفَقَا عَلَيْهَا ثُمَّ تَعَاقَدَا بِنَاءً عَلَيْهَا فَهِيَ مِنْ عُقُودِهِمْ وَعُهُودِهِمْ، لَا يَعْقِلُونَ وَلَا

يَفْهَمُونَ إلَّا ذَلِكَ، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10] وَقَالَ: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] يَعْنِي الْعُهُودَ وَمَنْ نَكَثَ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ فَهُوَ نَاكِثٌ، كَمَنْ نَكَثَ الْمُقَارِنَ لَا تُفَرِّقُ الْعَرَبُ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ. وَالْمُسْلِمُونَ يَفْهَمُونَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ الْعَقْدَ شَرْطٌ كَمَا قَارَنَهُ، حَتَّى أَنَّهُ وَقْتَ الْخِصَامِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَلَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ بَيْنَنَا كَذَلِكَ، أَلَمْ نُشَارِطُكَ عَلَى كَذَا، وَالْأَصْلُ عَدَمُ نَقْلِ اللُّغَةِ وَتَعْيِيرِهَا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ. فَيُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ» . وَمَنْ شَارَطَ غَيْرَهُ عَلَى شَيْءٍ عَلَى أَنْ يَتَعَاقَدَا عَلَيْهِ وَتَعَاقَدَا ثُمَّ لَمْ يَفِ لَهُ بِشَرْطِهِ فَقَدْ غَدَرَ بِهِ، هَذَا هُوَ الَّذِي يَعْقِلُهُ النَّاسُ وَيَفْهَمُونَهُ وَلَا يُعْرَفُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا فِي مَعَانِي الْكَلَامِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلَا فِي الْحُكْمِ عَمَّنْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ تَلْزَمُهُ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا خَطَبَ فِي شَأْنِ بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ، لَمَّا أَرَادَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، قَالَ فَذَكَرَ صِهْرًا لَهُ مِنْ أَبِي الْعَاصِ قَالَ حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي وَوَعَدَنِي فَوَفَّى لِي» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا قَالَ هَذَا مَدْحًا لِمَنْ فَعَلَهُ وَذَمًّا لِمَنْ تَرَكَهُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لَمَّا قَرَنَهُ بِهِ، وَالْوَعْدُ فِي الْعُقُودِ إنَّمَا يَتَقَدَّمُهَا لَا يُقَارِنُهَا، فَعَلِمَ أَنَّ مَنْ وَفَّى بِهِ كَانَ مَمْدُوحًا وَمَنْ لَمْ يَفِ بِهِ كَانَ مَذْمُومًا مَعِيبًا، وَهَذَا شَأْنُ الْوَاجِبِ. وَفِي حَدِيثِ السِّيرَةِ الْمَشْهُورِ «أَنَّ الْأَنْصَارَ لَمَّا بَايَعُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْتَرِطْ لِرَبِّك وَاشْتَرِطْ لِنَفْسِك وَاشْتَرِطْ لِأَصْحَابِك، فَقَالَ أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَزْرَكُمْ وَأَشْتَرِطُ لِأَصْحَابِي أَنْ تُوَاسُوهُمْ. فَقَالُوا إذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا؟ قَالَ الْجَنَّةُ قَالُوا مُدَّ يَدَك فَوَاَللَّهِ لَا نُقِيلُك وَلَا نَسْتَقِيلُك. فَبَايَعُوهُ» . أَفَلَا تَرَى كَيْفَ تَقَدَّمَ الشَّرْطُ الْعَقْدَ وَلَمْ يَحْتَجْ حِينَ الْمُبَايَعَةِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَوْ كَانُوا قَدْ تَكَلَّمُوا بِهَا فَإِنَّهُمْ سَمَّوْا مَا قَبْلَ الْعَقْدِ اشْتِرَاطًا، فَيَدْخُلُ فِي مُسَمَّى

الشَّرْطِ الَّذِي دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ، وَهَذَا الْمُحَلِّلُ يُقَالُ لَهُ شَرَطْنَا عَلَيْك أَنَّك إذَا وَطِئْتهَا فَطَلِّقْهَا، وَيَعْقِدُ الْعَقْدَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَيْضًا لَوْ وَصَفَ الْمَبِيعَ أَوْ الثَّمَنَ الْمُعَيَّنَ بِصِفَاتٍ عِنْدَ التَّسَاوُمِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ تَعَاقُدًا كَانَ الْعَقْدُ مَبْنِيًّا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيْنَهُمَا مِنْ الصِّفَةِ، حَتَّى إذَا ظَهَرَ الْمَبِيعُ نَاقِصًا عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ كَانَ لَهُ الْفَسْخُ، وَلَوْلَا أَنَّ الصِّفَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَالْمُقَارِنَةِ لَمَا وَجَبَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَآهُ ثُمَّ تَعَاقَدَا بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنٍ لَا يَفْتُرُ فِي مِثْلِهِ غَالِبًا، وَلَوْلَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَالْمُقَارِنَةِ لَمَا لَزِمَ الْبَيْعُ، وَبَعْضُ النَّاسِ يُخَالِفُ فِي الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَمَّا الرُّؤْيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَلَا أَعْلَمُ فِيهَا مُخَالِفًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ، بَلْ الْوَاصِفُ إلَى الْفُرْقَةِ أَقْرَبُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ دَخَلَ مَعَ رَجُلٍ فِي عَقْدٍ عَلَى صِفَاتٍ تَشَارَطُوا عَلَيْهَا وَعَقَدُوا الْعَقْدَ ثُمَّ نَكَثَ بِهِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ خَدَعَهُ وَمَكَرَ بِهِ، فَإِنَّ الْخَدْعَ أَنْ يُظْهِرَ لَهُ شَيْئًا وَيُبْطِنَ خِلَافَهُ، وَالْمَكْرُ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا تُسَمِّيهِ النَّاسُ خَدِيعَةً وَمَكْرًا. وَالْأَصْلُ بَقَاءُ اللُّغَةِ وَتَقْرِيرُهَا لَا زَوَالُهَا وَتَغْيِيرُهَا، وَالْخَدِيعَةُ وَالْمَكْرُ حَرَامٌ فِي النَّارِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعُقُودَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا تَثْبُتُ عَلَى رِضَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَإِنَّمَا كَلَامُهُمَا دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُمَا كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَلَمَّا كَانَتْ الْبُيُوعُ تَقَعُ غَالِبًا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ وَالِاسْتِكْشَافِ، شُرِعَ فِيهَا الْخِيَارُ إلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ لِيَتِمَّ الرِّضَا بِذَلِكَ، وَاكْتَفَى فِي النِّكَاحِ بِمَا هُوَ الْغَالِبُ مِنْ تَقَدُّمِ الْخِطْبَةِ عَلَى الْعَقْدِ، لِاسْتِعْلَامِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ، وَإِذَا تَشَارَطَا عَلَى أَمْرٍ يَتَعَاقَدَانِ عَلَيْهِ ثُمَّ تَعَاقَدَا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إنَّمَا رَضِيَ بِالْعَقْدِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الشَّرْطُ الَّذِي تَشَارَطَا عَلَيْهِ أَوَّلًا. وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ أَحَدَهُمَا رَضِيَ بِعَقْدٍ مُطْلَقٍ خَالٍ عَنْ شَرْطٍ كَانَ بُطْلَانُ قَوْلِهِ مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ، وَإِذَا كَانَا إنَّمَا رَضِيَا بِالْعَقْدِ الَّذِي تَشَارَطَا عَلَيْهِ قَبْلَ عَقْدِهِ وَمَلَاكُ الْعُقُودِ هُوَ الرِّضَا، وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مَا رَضِيَا بِهِ لَا سِيَّمَا فِي النِّكَاحِ الَّذِي سَبَقَ شَرْطُهُ عَقْدَهُ، وَلَيْسَ بَعْدَ عَقْدِهِ خِيَارٌ يُسْتَدْرَكُ فِيهِ الْفَائِتُ، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذَا بَيِّنٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعُقُودَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هِيَ بِالْقُلُوبِ، وَإِنَّمَا الْعِبَارَاتُ مُبَيِّنَاتٌ لِمَا فِي الْقُلُوبِ، لَا سِيَّمَا إنْ قِيلَ هِيَ إخْبَارَاتٌ، وَبَيَانُهَا لِمَا فِي الْقَلْبِ لَا يَخْتَلِفُ بِجَمْعِ الْكَلَامِ فِي وَقْتٍ أَوْ يُفَرِّقُهُ فِي وَقْتَيْنِ، لَا سِيَّمَا الْكَلَامُ الْكَثِيرُ الَّذِي قَدْ يَتَعَذَّرُ ذِكْرُهُ فِي التَّعَاقُدِ، وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي خِطَابِ جَمِيعِ الْخَلْقِ بَلْ فِي أَفْصَحِ الْخِطَابِ وَأَبْلَغِهِ، فَإِنَّ مَنْ مَهَّدَ قَاعِدَةً بَيَّنَ بِهَا مُرَادَهُ، فَإِنَّهُ يُطْلِقُ الْكَلَامَ وَيُرْسِلُهُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ ذَلِكَ الْمُقَيَّدَ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَالْمُسْتَمِعُ يَفْهَمُ ذَلِكَ مِنْهُ وَيَحْمِلُ كَلَامَهُ عَلَيْهِ، كَالْعَالِمِ يَقُولُ مَثَلًا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي كَلَامِهِ الْمَجْنُونُ وَنَحْوُهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ قَدْ قَرَّرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمَجْنُونَ لَا حُكْمَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، فَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَقُولُ مَثَلًا وَأَنْكَحْت، فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فِي اللَّفْظِ فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا تَشَارَطَا عَلَيْهِ قَبْلُ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ بِعْتُك الْبَيْعَ الَّذِي تَشَارَطْنَا وَأَنْكَحْتُك النِّكَاحَ الَّذِي تَرَاضَيْنَا بِهِ، فَمَنْ جَعَلَ كَلَامَهُ مُطْلَقًا بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُ الْمُشَارَطَةُ وَالْمُوَاطَأَةُ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ خِطَابِ الْخَلْقِ وَكَلَامِهِمْ فِي جَمِيعِ إيجَابِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ، وَهَذَا وَاضِحٌ لَا مَعْنَى لِلْإِطْنَابِ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ الْمَشْرُوطُ قَبْلَ الْعَقْدِ كَالْمَشْرُوطِ فِيهِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرْطَ الْعُرْفِيَّ كَالشَّرْطِ اللَّفْظِيِّ، وَلِهَذَا قَالُوا مَنْ دَفَعَ ثِيَابَهُ إلَى غَسَّالٍ يُعْرَفُ مِنْهُ الْغُسْلُ بِالْأُجْرَةِ لَزِمَهُ الْأُجْرَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعُرْفَ شَرْطٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ دَخَلَ حَمَّامَ حَمَّامِيٍّ أَوْ رَكِبَ سَفِينَةَ رُبَّانٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأُجْرَةُ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ، وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي عَقْدِ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ غَيْرِهَا، انْصَرَفَ إلَى النَّقْدِ الْغَالِبِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَكَانَ هَذَا الْعُرْفُ مُقَيِّدًا لِلَّفْظِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى إطْلَاقِ اللَّفْظِ بِإِلْزَامِ مُسَمَّى الدِّرْهَمِ مِنْ أَيِّ نَقْدٍ أَوْ وَزْنٍ كَانَ، وَلَوْ أَطْلَقَ اللَّفْظَ فِي الْأَيْمَانِ وَالْمُثَمَّنَاتِ وَنَحْوِهَا انْصَرَفَ الْإِطْلَاقُ إلَى السَّلِيمِ مِنْ الْعُيُوبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْعُرْفُ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، وَالْعُرْفُ الْخَاصُّ فِي ذَلِكَ كَالْعَامِّ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ بَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالْوُقُوفِ وَالْوَصَايَا وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُ التُّيُوسِ مَعْرُوفًا بِالتَّحْلِيلِ، وَجِيءَ بِالْمَرْأَةِ إلَيْهِ فَهُوَ اشْتِرَاطٌ مِنْهُمْ لِلتَّحْلِيلِ لَا يَعْقِلُ النَّاسُ إلَّا هَذَا، فَلَوْ لَمْ يَفِ بِمَا شَرَطُوهُ لَكَانَ عِنْدَهُمْ خَدِيعَةً وَمَكْرًا وَنَكْثًا وَغَدْرًا، وَعَلَى هَذَا فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ جِهَةِ نِيَّةِ التَّحْلِيلِ، وَمِنْ جِهَةِ اشْتِرَاطِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا، وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا لَوْ شَرَطَ التَّحْلِيلَ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا وَعَقَدَ النِّكَاحَ بِنِيَّةٍ ثَانِيَةٍ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا عَلَى

ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ مَا شَرَطُوهُ عَلَيْهِ لَمْ يَرْضَ اللَّهُ بِهِ فَلَا يَصِحُّ شَرْعًا، وَمَا نَوَاهُ الزَّوْجُ لَمْ تَرْضَ الْمَرْأَةُ بِهِ وَلَا وَلِيُّهَا فَلَا يَصِحُّ لِعَدَمِ الرِّضَا مِنْ جِهَتِهِمَا فَمَا رَضُوا بِهِ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِ. وَمَا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ لَمْ يَرْتَضُوا بِهِ، فَلَا يَصِحُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى دَلَالَةِ الْحَدِيثِ، مِنْ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُؤَثِّرَةَ هِيَ مَا قَارَنَتْ الْعَقْدَ دُونَ مَا تَقَدَّمَتْهُ، فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ لَا أَصْلَ لَهُ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا وِفَاقٍ وَلَا عِبْرَةٍ صَحِيحَةٍ، وَالْقَوْلُ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِمَا وَاحِدٌ، وَقَدْ سَلَّمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِثْلُ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيَّ، وَادَّعَى أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْفَسَادِ هُوَ النِّيَّةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالْعَقْدِ لَا الشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ لَكَانَ مُؤَثِّرًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَلَّمَ آخَرُونَ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ إنْ لَمْ يَمْنَعْ الْقَصْدَ بِالْعَقْدِ كَالتَّوَاطُؤِ عَلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ وَنَحْوِهِ. لَمْ يَفْسُدْ الْعَقْدُ، وَإِنْ مُنِعَ الْقَصْدُ بِالْعَقْدِ كَالتَّوَاطُؤِ عَلَى بَيْعِ تَلْجِئَةٍ وَنِكَاحِ تَحْلِيلٍ أَبْطَلَ الْعَقْدَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَالْمُقَارَنَةِ مُطْلَقًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَفْصٍ الْعُكْبَرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ بِحَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى مَنْ أَظْهَرَ التَّحْلِيلَ دُونَ مَنْ نَوَاهُ وَلَمْ يُظْهِرْهُ، لِئَلَّا يُفْضِيَ الْقَوْلُ بِالْإِفْسَادِ إلَى إضْرَارِ الْمُعَاقِدِ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا لَمَا صَحَّتْ الشَّهَادَةُ عَلَى النِّكَاحِ فَنَقُولُ هَذَا السُّؤَالُ مَنْ قَالَ بِمُوجَبِهِ، فَإِنَّهُ يُبْطِلُ أَكْثَرَ صُوَرِ التَّحْلِيلِ الَّتِي هِيَ مَنْشَأُ الْفَسَادِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ بَعْضُ التَّابِعِينَ إنْ صَحَّ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الزَّوْجَةَ مَتَى لَمْ تَعْلَمْ نِيَّةَ التَّحْلِيلِ لَمْ يَضُرَّهَا ذَلِكَ، فَإِنَّهَا تَعْتَقِدُهُ حَلَالًا فَلَا يَكُونُ أَسْوَأَ حَالًا مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ فَالْوَطْءُ حَلَالٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا، حَرَامٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّوْجِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً يَعْلَمُ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ، وَهِيَ لَا تَعْلَمُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَا يُعْطِيهَا إيَّاهُ مِنْ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ يَحِلُّ لَهَا أَخْذُهُ، كَمَا يَحِلُّ لَهَا ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ وَالنُّكُولِ فَإِنَّ أَحَدَ الْمُصَالِحَيْنِ إذَا عَلِمَ كَذِبَ نَفْسِهِ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا فِي حَقِّهِ خَاصَّةً فَيَكُونُ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ مَالِ الْآخَرِ أَوْ مَا يَهْضِمُهُ مِنْ حَقِّهِ حَرَامًا عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَرِثَ الرَّجُلُ مِنْ أَبِيهِ رَقِيقًا قَدْ عَلِمَ رَجُلٌ أَنَّ الْأَبَ أَعْتَقَهُمْ، وَالِابْنُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَاشْتَرَاهُمْ مِنْهُ مَنْ يَعْلَمُ بِعِتْقِهِمْ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَائِعِ، فَيَحِلُّ

لَهُ الثَّمَنُ وَكَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُشْتَرِي بَاطِلًا فَلَا يَحِلُّ لَهُ اسْتِعْبَادُهُمْ، وَأَشْبَهُ مِنْهُ بِمَسْأَلَتِنَا لَوْ كَانَ بِيَدِ الرَّجُلِ مَالٌ يَمْلِكُهُ مِثْلُ عَبْدٍ أَعْتَقَهُ فَبَاعَهُ لِرَجُلٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بَاطِلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَائِعِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَهُوَ حَلَالٌ فِي الظَّاهِرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُشْتَرِي فَيَحِلُّ لَهُ الْمَبِيعُ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَأَمَّا الشُّهُودُ فَإِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى لَفْظِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَبِهِ يَصِحُّ الْعَقْدُ فِي الظَّاهِرِ، فَإِنْ لَمْ يَشْعُرُوا بِنِيَّتِهِ لِلتَّحْلِيلِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ إثْمٌ، وَإِنْ عَلِمُوا ذَلِكَ بِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ أَوْ عُرْفِيَّةٍ، كَانَ كَمَا لَوْ عَلِمُوا أَنَّ الزَّوْجَ مُكْرَهٌ، فَتَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الشَّهَادَةُ عَلَى مِثْلِ هَذَا النِّكَاحِ، كَمَا تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الشَّهَادَةُ عَلَى عَقْدِ الرِّبَا وَالنِّحَلِ الْجَائِرَةُ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَكِنْ إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا مُجَرَّدُ نِيَّةِ الزَّوْجِ فَهُنَاكَ لَا يَظْهَرُ التَّحْلِيلُ أَصْلًا فَلَا يَأْثَمُونَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى مَا ظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ، وَلِهَذَا لَمْ يُلْعَنُوا فِي الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا صَحَّحْنَا الْعَقْدَ فِي الظَّاهِرِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْقَصْدِ، كَمَا صَحَّحْنَا إسْلَامَ الرَّجُلِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِمَا فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ تُعَبِّرُ عَمَّا فِي الْقُلُوبِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا الْمُطَابَقَةُ وَالْمُوَافَقَةُ، وَلَمْ نُؤْمَرْ أَنْ نُنَقِّبَ عَمَّا فِي قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا نَشُقَّ بُطُونَهُمْ، وَلَكِنْ نَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ وَنَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَكِنْ هُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ مُؤَاخَذُونَ بِنِيَّاتِهِمْ وَسَرَائِرِهِمْ، وَهَذَا بَيِّنٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إذَا اشْتَرَى بِنِيَّتِهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ وَلَا يَهَبَ صَحَّ، وَلَوْ شَرَطَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ، فَعُلِمَ أَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ كَالشَّرْطِ فَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ، وَنُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ نِيَّةٍ تُنَافِي مَقْصُودَ الْعَقْدِ وَمُقْتَضَاهُ، وَنِيَّةٍ لَا تُنَافِيهِ، كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ شَرْطٍ يُنَافِي الْعَقْدَ وَشَرْطٍ لَا يُنَافِيهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ تُنَافِي الْعَقْدَ شَرْطًا وَقَصْدًا أَنْ يَكُونَ كُلُّ شَيْءٍ يُنَافِيهِ شَرْطًا وَقَصْدًا. كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ أَظْهَرَ الْمُحَلِّلُ فِيمَا بَعْدَ الْعَقْدِ بِنِيَّتِهِ فِي الْعَقْدِ فَمَا الْحُكْمُ؟ . قُلْنَا: إنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ وَالزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا ثَبَتَ هَذَا الْمُحْكَمُ فِي حَقِّ مَنْ صَدَّقَهُ فَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ وَتَحْرُمُ عَلَى الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا مُرَاجَعَتُهَا، ثُمَّ إنْ كَانَ هَذَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا صَدَاقَ لِلْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ مُصَدِّقَةً، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَلَهَا الْمَهْرُ الْوَاجِبُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُهُ الْمَرْأَةُ وَالْمُطَلِّقُ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ التَّحْلِيلِ فِي حَقِّهَا، لَكِنْ إنْ كَانَ هَذَا الْإِقْرَارُ قَبْلَ مُفَارَقَتِهَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَوَجَبَ نِصْفُ الصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَمِيعُهُ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَعُودَ إلَى

الْأَوَّلِ، لِاعْتِرَافِهَا بِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، هَذَا إنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَهَا إقْرَارٌ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا وَحْدَهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي سُقُوطِ حَقِّ الْمَرْأَةِ، وَلَزِمَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَأَيُّهُمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُ الزَّوْجِ الْمُحَلِّلُ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ نِيَّتِهِ فَعَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ فِي الْقَضَاءِ لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِإِقْرَارِهِ، وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا رَجُلٌ ثُمَّ يَعْتَرِفَ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ نِيَّةِ التَّحْلِيلِ؛ لِأَنَّهُ فَسَادٌ انْفَرَدَ بِعَمَلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَى أَبُو حَفْصِ بْنُ شَاهِينَ فِي غَرَائِبِ السُّنَنِ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ مُوسَى بْنِ مُطَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ فُلَانًا تَزَوَّجَ فُلَانَةَ وَلَا نَرَاهُ إلَّا يُرِيدُ أَنْ يُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَشْهَدَ عَلَى النِّكَاحِ. قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: وَمَهَرَ. قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: وَدَخَلَ. يَعْنِي الْجِمَاعَ. قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: ذَهَبَ الْخِدَاعُ.» فَوَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ حَالَ الرَّجُلِ وَلَمْ يَقُلْ إنْ نَوَيْت كَذَا فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، مَعَ أَنَّهُمْ قَالُوا مَا نَرَاهُ يُرِيدُ إلَّا ذَلِكَ، وَالْبَحْثُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ وَاجِبٌ احْتِيَاطًا لِلْبُضْعِ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا لَمْ يَبْحَثْ عُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ مُطْلَقٌ وَأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ، قَالَ بَعْضُ الْمُنَازِعِينَ وَهَذَا مَقْطُوعٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ. قُلْت: هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُوسَى بْنِ مُطَيْنٍ مَتْرُوكٌ سَاقِطٌ يَرْوِي الْمَنَاكِيرَ عَنْ الْمَشَاهِيرِ لَا يَحِلُّ الِاسْتِدْلَال بِشَيْءٍ مِنْ رِوَايَتِهِ، قَالَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ كَذَّابٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ ذَاهِبُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ تَرَكَ النَّاسُ حَدِيثَهُ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْمُجَازِفِينَ فِيمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ مِنْ مُصَنِّفِي الْمُجَادِلِينَ. قَالَ مُوسَى هَذَا مِنْ الثِّقَاتِ الْعُدُولِ لِمَا قِيلَ إنَّهُ يَرْوِي الْمَنَاكِيرَ عَنْ الْمَشَاهِيرِ. فَأَرَادَ الدَّفْعَ بِمَا اتَّفَقَ مِنْ غَيْرِ مُرَاقَبَةٍ مِنْهُ فِيمَا يَقُولُ. ثُمَّ إنَّ أَصْحَابَنَا تَكَلَّمُوا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ ضَرْبًا عَنْ التَّكَلُّفِ. فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ يَظْهَرُ عَلَيْهَا مِنْ التَّنَاقُضِ مَا لَا يَجُوزُ نِسْبَتُهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ ذَهَبَ الْخِدَاعُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخِدَاعَ فِي الْعُقُودِ حَرَامٌ وَأَنَّ الْعَقْدَ إذَا كَانَ خِدَاعًا لَمْ يَحِلَّ. وَإِلَّا لَمَا فَرَّقَ بَيْنَ ذَهَابِهِ وَثُبُوتِهِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ الَّذِي يُعْقَدُ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَلَا إعْلَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَرْدُودٌ. فَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْمُحَلِّلِ وَلَا غَيْرُهُ حَتَّى يَحْصُلَ بِهِ الْخِدَاعُ، وَإِنَّمَا يُخَادِعُ الْمُخَادِعُ بِأَنْ يُظْهِرَ مَا يَنْفُقُ فِي الظَّاهِرِ، فَإِذَا كَانَ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ فِي الظَّاهِرِ لَا خِدَاعَ وَمَعَ صِحَّتِهِ فِي الظَّاهِرِ لَا خِدَاعَ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْخِدَاعِ مَوْضِعٌ؛ لِأَنَّهُ إمَّا صَحِيحٌ فِي الظَّاهِرِ أَوْ فَاسِدٌ، فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ بِعَيْنِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْعَقْدِ حَلَالٌ حَرَامٌ وَهَذَا تَنَاقُضٌ، وَإِنَّمَا أَحْسِبُ الَّذِي وَضَعَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَدْ بَلَغَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَغَيْرِهِ، أَنَّ التَّحْلِيلَ خِدَاعٌ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَضَعَ حَدِيثًا يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَقْدَ إذَا رُوعِيَتْ شُرُوطُهُ الظَّاهِرَةُ فَقَطْ ذَهَبَ خِدَاعُهُ فَيَكُونُ خِدَاعُهُ إذَا لَمْ يُرَاعِ وَذَلِكَ أَيْضًا لَا خِدَاعَ فِيهِ، إنَّمَا الْخِدَاعُ فِيمَا خَالَفَ ظَاهِرُهُ، فَلِجَهْلِهِ بِمَعْنَى الْخِدَاعِ رَكَّبَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَوْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ لَكَانَ حُجَّةً؛ لِأَنَّ التَّحْلِيلَ مُحَرَّمٌ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ فُلَانًا تَزَوَّجَ فُلَانَةَ وَلَا نَرَاهُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنْ يُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَانَ قَدْ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ إرَادَةَ التَّحْلِيلِ مِمَّا يُنْكَرُ عَلَى الرَّجُلِ لَكِنَّهُمْ لَمْ يَجْزِمُوا بِأَنَّهُ أَرَادَ التَّحْلِيلَ بَلْ ظَنُّوهُ ظَنًّا، وَالظَّنُّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ لَوْ لَمْ تَكُنْ الْإِرَادَةُ مُؤَثِّرَةً فِي الْعَقْدِ لَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِذَا أَرَادَ تَحْلِيلَهَا أَيْ إنْكَارَ فِي هَذَا كَمَا قَالُوا تَزَوَّجَهَا يُرِيدُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا، أَوْ يُرِيدُ أَنَّهَا أَعْجَبَتْهُ إنْ أَمْسَكَهَا وَإِنْ كَرِهَهَا فَارَقَهَا، أَوْ نَكَحَهَا يُرِيدُ أَنْ تُرَبِّيَ أَوْلَادَهُ كَمَا قَالَ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الَّتِي لَا تُحَبُّ فَإِنَّ جَوَابَ هَذَا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ وَإِذَا فَعَلَ هَذَا فَأَيُّ مُنْكَرٍ فِي هَذَا فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ عُلِمَ أَنَّ ذَاكَ مُؤَثِّرٌ، لَكِنْ إنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ وَلَا نَرَاهُ إلَّا يُرِيدُ أَنْ يُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا قَالَ الْأَصْلُ فِي أَقْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْمَالِهِمْ الصِّحَّةُ، فَلَا يُظَنُّ بِهِمْ خِلَافُ ذَلِكَ إلَّا لِإِمَارَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرُوا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ لَوْ ظَنَنَّا ذَلِكَ فَإِنَّا لَمْ نُؤَمَّرْ أَنْ نُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا نَشُقَّ بُطُونَهُمْ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يُسْتَأْذَنُ فِي قَتْلِ بَعْضِ مَنْ يُظَنُّ بِهِ النِّفَاقُ، يَقُولُ أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ أَلَيْسَ يُصَلِّي فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِمْ، كَذَلِكَ إذَا رَأَيْنَا عَقْدًا مَعْقُودًا بِشَرَائِطِهِ الْمُعْتَبَرَةِ، لَمْ يَكُنْ لَنَا أَنَّ نَقُولَ هَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ أَرَادَ كَذَا وَكَذَا. لَكِنْ يُقَالُ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ أَرَادَ التَّحْلِيلَ فَهُوَ مَلْعُونٌ وَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ رَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْمُنَازِعِ أَنَّهُ لَمْ يَبْحَثْ عَنْ نِيَّةِ الرَّجُلِ

فَنَقُولُ، قَدْ كَانَ تَقَدَّمَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعْنُهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَالنَّهْيَ عَنْ الْخِدَاعِ، وَفَهِمُوا مَقْصُودَهُ بِذَلِكَ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَقُولَ لِكُلِّ مَنْ تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةَ غَيْرِهِ، إنْ كُنْت نَوَيْت كَمَا أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ سُوءَ حَالِ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كُلَّمَا أَسْلَمَ رَجُلٌ أَنْ يَقُولَ لَهُ هَلْ أَنْتَ مُؤْمِنٌ أَوْ مُنَافِقٌ، وَصَاحِبُ الْعَقْدِ لَمْ يُظْهِرْ لَهُمْ أَنَّهُ أَرَادَ الْإِحْلَالَ وَإِنَّمَا ظَنُّوهُ ظَنًّا، بَلْ لَمَّا فَهِمُوا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مُرِيدَ الْإِحْلَالِ مُخَادِعٌ. وَظَنُّوا بِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنَّهُ أَرَادَهُ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ، هَذَا إنْ كَانَ لِذَلِكَ أَصْلٌ، ثُمَّ إنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ أَمَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخِدَاعِ وَهُوَ الْمَهْرُ وَمَا مَعَهُ وَلِأَنَّ الْمُحَلِّلَ يَأْخُذُ فِي الْعَادَةِ وَلَا يُعْطِي، وَإِلَّا فَتَسْمِيَةُ الْمَهْرِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، حَتَّى يَتَرَتَّبَ عَدَمُ الْخِدَاعِ عَلَيْهَا، فَلَمَّا ذُكِرَتْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى انْتِفَاءِ الْخِدَاعِ فَصَارَ سُوءُ الظَّنِّ مَمْنُوعًا مِنْهُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحَدِيثُ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَوْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ فَهُوَ إلَى أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَى إبْطَالِ التَّحْلِيلِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَى صِحَّتِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَهُمَا ثَابِتَانِ، وَأَهْلِيَّةُ الْمُتَصَرِّفِ وَمَحَلِّيَّةُ الزَّوْجَيْنِ ثَابِتَةٌ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْقَصْدُ الْمَقْرُونُ بِالْعَقْدِ، وَذَلِكَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إبْطَالِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إنَّمَا نَوَى الطَّلَاقَ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ بِالشَّرْعِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى الْمُشْتَرِي إخْرَاجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّبَبَ مُقْتَضٍ لِتَأْبِيدِ الْمِلْكِ وَالنِّيَّةُ لَا تُغَيِّرُ مُوجَبَاتِ السَّبَبِ حَتَّى يُقَالَ إنَّ النِّيَّةَ تُوجِبُ تَوْقِيتَ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ هِيَ مُنَافِيَةً لِمُوجَبِ الْعَقْدِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ وَلَوْ نَوَى هُوَ بِالْمَبِيعِ إتْلَافَهُ أَوْ إحْرَاقَهُ أَوْ إغْرَاقَهُ لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ، فَنِيَّةُ الطَّلَاقِ أَوْلَى، وَبِهَذَا اعْتَرَضُوا عَلَى قَوْلِنَا إنَّهُ قَصَدَ إزَالَةَ الْمِلْكِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَصْدَ لَا يَقْدَحُ فِي اقْتِضَاءِ السَّبَبِ حُكْمَهُ؛ لِأَنَّهُ وَرَاءَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ، فَيَصِيرُ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَصِيرًا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَمْرًا أَوْ جَارِيَةً وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُكْرِهَهَا عَلَى الْبِغَاءِ أَوْ يَجْعَلَهَا مُغَنِّيَةً قِنْيَةً أَوْ سِلَاحًا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ مَعْصُومًا، فَكُلُّ ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَنْ السَّبَبِ، فَلَا يَخْرُجُ الْمُسَبَّبُ عَنْ اقْتِضَاءِ حُكْمِهِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَصْدِ وَبَيْنَ الْإِكْرَاهِ، فَإِنَّ الرِّضَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَالْإِكْرَاهُ يُنَافِي الرِّضَا، وَبِهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشُّرُوطِ الْمُقْتَرِنَةِ. فَإِنَّهَا تَقْدَحُ فِي

مَقْصُودِ الْعُقُودِ وَصَاحِبُ هَذَا الْوَجْهِ يَقُولُ هَبْ أَنَّهُ قَصَدَ مُحَرَّمًا لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَكَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا لِيُضَارّهَا أَوْ لِيُضَارّ زَوْجَةً لَهُ أُخْرَى. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تُعْلَمُ فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ. مِثْلُ أَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْت هَذَا فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الِاشْتِرَاءِ لَهُ أَوْ لِمُوَكِّلِهِ، وَإِذَا نَوَى أَحَدَهُمَا صَحَّ. وَاللَّفْظُ هُنَا صَرِيحٌ فِي الْمَقْصُودِ الصَّحِيحِ، وَالنِّيَّةُ الْبَاطِنَةُ لَا أَثَرَ لَهَا فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ النِّيَّةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الشُّرُوطِ أَوْ لَا تَكُونَ. فَإِنْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ لَزِمَ أَنَّهُ إذَا نَوَى أَنْ لَا يَبِيعَ الْمُشْتَرَى وَلَا يَهَبَهُ وَلَا يُخْرِجَهُ عَنْ مِلْكِهِ، أَوْ نَوَى أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ مِلْكِهِ أَوْ نَوَى أَنْ لَا يُطَلِّقَ الزَّوْجَةَ أَوْ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَهَا كُلَّ لَيْلَةٍ أَوْ لَا يُسَافِرَ عَنْهَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فَلَا تَأْثِيرَ لَهَا حِينَئِذٍ وَهَذَا عُمْدَةُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّا إنَّمَا أُمِرْنَا أَنْ نَحْكُمَ بِالظَّاهِرِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ فَهَذِهِ خُلَاصَةُ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَوْلَا أَنَّهُ كَلَامٌ يُخَيَّلُ لِمَنْ لَا فِقْهَ لَهُ حَقِيقَةً لَكَانَ الْإِضْرَابُ عَنْهُ أَوْلَى، فَإِنَّهُ كَلَامٌ مَبْنَاهُ عَلَى دَعَاوًى مَحْضَةٍ لَمْ يُعَضَّدْ بِحُجَّةٍ. فَنَقُولُ فِي الْجَوَابِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ وَلَا نُسَلِّمُ وُجُودَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ إنْ عَنَى بِهِ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ فَيَجِبُ أَنْ يُقَيَّدَ حُكْمُهُ، وَإِنْ صَدَرَ عَنْ مَعْتُوهٍ أَوْ مُكْرَهٍ أَوْ نَائِمٍ أَوْ أَعْجَمِيٍّ لَا يَفْقَهُهُ، وَإِنْ عَنَى بِهِ اللَّفْظَ الْمَقْصُودَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ اللَّفْظَ أَيْضًا، ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا بِمُجَرَّدِ تَصَرُّفٍ شَرْعِيٍّ وَلَا إيجَابٍ وَلَا قَبُولٍ، بَلْ اللَّفْظُ الْمُرَادُ بِهِ خِلَافُ مَعْنَاهُ مَكْرٌ وَخِدَاعٌ وَتَدَلُّسٌ وَنِفَاقٌ. فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ فَالتَّكَلُّمُ بِهِ بِدُونِ مَعْنَاهُ اسْتِهْزَاءٌ بِآيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَلَاعُبٌ بِحُدُودِهِ وَمُخَادَعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَإِنْ عَنَى بِالسَّبَبِ اللَّفْظَ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ مَعْنَاهُ الَّذِي وُضِعَ اللَّفْظُ لَهُ فِي الشَّرْعِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ مُقَرَّرًا أَوْ مُغَيَّرًا، أَوْ عَنَى بِهِ اللَّفْظَ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ مَا يُخَالِفُ مَعْنَاهُ، أَوْ اللَّفْظَ الَّذِي قَصَدَ مَعْنَاهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، وَذَكَرْنَا هَذَيْنِ لِيَدْخُلَ فِيهِمَا الْهَازِلُ، فَهَذَا صَحِيحٌ لَكِنَّ هَذَا حُجَّةٌ لَنَا؛ لِأَنَّ الْمُحَلِّلَ إذَا قَالَ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ وَهُوَ لَا يَقْصِدُ إلَّا أَنْ يُطَلِّقَهَا لِيُحِلَّهَا فَلَمْ يَقْصِدْ بِلَفْظِ التَّزَوُّجِ الْمَعْنَى الَّذِي جُعِلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرْعِ

وَلَا فِي الْعُرْفِ وَلَا فِي اللُّغَةِ لِمَنْ قَصْدُهُ رَدُّ الْمُطَلَّقَةِ إلَى زَوْجِهَا وَلَيْسَ لَهُ قَصْدٌ فِي النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ النِّكَاحُ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ تَوَابِعِهِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا، فَإِنَّ النِّكَاحَ مَقْصُودُهُ الِاسْتِمْتَاعُ وَالصِّلَةُ وَالْعِشْرَةُ وَالصُّحْبَةُ، بَلْ هُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الصُّحْبَةِ، فَمَنْ لَيْسَ قَصْدُهُ أَنْ يَصْحَبَ وَلَا يَسْتَمْتِعَ وَلَا أَنْ يُوَاصِلَ وَيُعَاشِرَ بَلْ أَنْ يُفَارِقَ لِتَعُودَ إلَى غَيْرِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي قَوْلِهِ تَزَوَّجْت بِإِظْهَارِهِ خِلَافَ مَا فِي قَلْبِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ وَكَّلْتُك أَوْ شَارَكْتُك أَوْ ضَارَبْتُك أَوْ سَاقَيْتُك، وَهُوَ يَقْصِدُ رَفْعَ هَذَا الْعَقْدِ وَفَسْخَهُ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي شَيْءٍ مِنْ مَقَاصِدِ هَذِهِ الْعُقُودِ، فَإِنَّهُ كَاذِبٌ فِي هَذَا الْقَوْلِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَقَوْلِهِمْ آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ إخْبَارَاتٌ عَمَّا فِي النَّفْسِ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْعُقُودِ، وَمَبْدَأُ الْكَلَامِ وَالْحَقِيقَةُ الَّتِي بِهَا يَصِيرُ اللَّفْظُ قَوْلًا، ثُمَّ إنَّهَا إنَّمَا تَتِمُّ قَوْلًا وَكَلَامًا بِاللَّفْظِ الْمُقْتَرِنِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى، فَتَصِيرُ الصِّيَغُ إنْشَاءَاتٍ لِلْعُقُودِ، وَالتَّصَرُّفَاتُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا هِيَ الَّتِي أَثْبَتَتْ الْحُكْمَ وَبِهَا تَمَّ، وَهِيَ إخْبَارَاتٌ مِنْ حَيْثُ دَلَالَتُهَا عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي فِي النَّفْسِ، فَهِيَ تُشْبِهُ فِي اللَّفْظِ أَحْبَبْت وَأَبْغَضْت وَأَرَدْت وَكَرِهْت، وَهِيَ تُشْبِهُ فِي الْمَعْنَى قُمْ وَاقْعُدْ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ إنَّمَا تُفِيدُ الْأَحْكَامَ إذَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا مَا جُعِلَتْ لَهُ، أَوْ إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَا مَا يُنَاقِضُ مَعْنَاهَا، وَهَذَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ، وَإِلَّا لَمَا تَمَّ تَصَرُّفٌ. فَإِذَا قَالَ: بِعْتُ وَتَزَوَّجْتُ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ مَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ، وَجَعَلَهُ الشَّارِعُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاصِدِ إذَا هَزَلَ، وَبِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا يَتِمُّ الْحُكْمُ، وَإِنْ كَانَ الْعِبْرَةُ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَعْنَى اللَّفْظِ حَتَّى يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ بِالْإِشَارَةِ إذَا تَعَذَّرَتْ الْعِبَارَةُ، وَيَنْعَقِدَ بِالْكِتَابَةِ أَيْضًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَقِيقَةَ الْعَقْدِ لَمْ يَخْتَلِفْ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ دَلَالَتُهُ وَصِفَتُهُ، وَهَذَا شَأْنُ عَامَّةِ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَاهُ الْمَفْهُومُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، لَا سِيَّمَا الْأَسْمَاءُ الشَّرْعِيَّةُ، أَعْنِي الَّتِي عَلَّقَ الشَّارِعُ بِهَا أَحْكَامًا، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ تِلْكَ الْمَعَانِيَ الشَّرْعِيَّةَ، وَالْمُسْتَمِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَهَا عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي. فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ الْمُسْتَمِعَ شَيْئًا وَكَانَ

مَعْذُورًا فِي حَمْلِهَا عَلَى مَعْنَاهَا الْمَعْرُوفِ، وَكَانَ الْمُتَكَلِّمُ آثِمًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، إنَّمَا يُبْطِلُ الشَّارِعُ مَعَهُ مَا نَهَاهُ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ لَاعِبًا أَبْطَلَ لَعِبَهُ وَجَعَلَهُ جَادًّا وَإِنْ كَانَ مُخَادِعًا أَبْطَلَ خِدَاعَهُ، فَلَمْ يَحْصُل لَهُ مُوجَبُ ذَلِكَ الْقَوْلِ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا شَيْءَ مِنْهُ كَالْمُنَافِقِ الَّذِي قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَقَلْبُهُ لَا يُطَابِقُ لِسَانَهُ. وَتَحْرِيرُ هَذَا الْمَوْضِعِ يَقْطَعُ مَادَّةَ الشَّغَبِ فَإِنَّ لَفْظَ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ مَوْضُوعُهُمَا وَمَفْهُومُهُمَا شَرْعًا وَعُرْفًا نِكَاحٌ وَانْضِمَامٌ وَازْدِوَاجٌ، مُوجَبُهُ التَّأْبِيدُ إلَّا لِمَانِعٍ وَحَقِيقَتُهُ نِكَاحٌ مُؤَبَّدٌ يَقْبَلُ الِانْقِطَاعَ أَوْ الْقَطْعَ، لَيْسَ مَفْهُومُهُمَا وَمَوْضُوعُهُمَا نِكَاحًا يُقْصَدُ بِهِ رَفْعُهُ وَوَصْلًا الْمَطْلُوبُ مِنْهُ قَطْعُهُ، وَفَرْقٌ بَيْنَ اتِّصَالٍ يَقْبَلُ الِانْقِطَاعَ وَاتِّصَالٍ يُقْصَدُ بِهِ الِانْقِطَاعُ وَكَمَا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ مَعْنَى اللَّفْظِ وَمَفْهُومَهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَصْلًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لَهُ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا بِخِلَافِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمُتْعَةِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَجَازًا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِإِثْبَاتِ الشَّيْءِ وَنَفْيِهِ، عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ يُحِيلُهُ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَاللَّفْظُ لَا يُوضَعُ لِإِرَادَةِ الْمُحَالِ. وَالنِّكَاحُ هُوَ صِلَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يَتَضَمَّنُ عِشْرَةً وَمَوَدَّةً وَرَحْمَةً وَسَكَنًا وَازْدِوَاجًا، وَهُوَ مِثْلُ الْأُخُوَّةِ وَالصُّحْبَةِ وَالْمُوَالَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الصِّلَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي رَغْبَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَوَاصِلَيْنِ فِي الْآخَرِ، بَلْ هُوَ مِنْ أَوْكَدُ الصِّلَاتِ فَإِنَّ صَلَاحَ الْخَلْقِ وَبَقَاءَهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهَذِهِ الصِّلَةِ، بِخِلَافِ تِلْكَ الصِّلَاتِ فَإِنَّهَا مُكَمِّلَاتٌ لِلْمَصَالِحِ، فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الزَّوْجِ حِينَ عَقَدَهُ فَسْخَهُ وَرَفْعَهُ صَارَ قَوْلُهُ تَزَوَّجْت مَعْنَاهُ قَصَدْت أَنَّ أَصِلَ إلَى قَطْعٍ وَأُوَالِيَ لَا أُعَادِيَ وَأُحِبُّ لَا أُبْغِضُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ قَصَدَ الْقَطْعَ وَالْمُعَادَاةَ وَالْبُغْضَ لَمْ يَقْصِدْ الْوَصْلَ وَالْمُوَالَاةَ وَالْمَحَبَّةَ، فَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ دَالًّا عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَعْنَاهُ إلَّا عَلَى جِهَةِ التَّهَكُّمِ وَالتَّشَبُّهِ فِي الصُّورَةِ، بِخِلَافِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّ غَرَضَهُ وَصْلٌ إلَى حِينٍ وَهَذَا نَوْعُ وَصْلٍ مَقْصُودٌ فَجَازَ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ، ثُمَّ إنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ مُوجَبَ اللَّفْظِ هُوَ الْوَصْلَ الْمُؤَبَّدُ، وَمَنَعَ التَّوْقِيتَ لِمَا أَنَّهُ يَخِلّ بِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ، وَيُشْبِهُ الْإِجَارَةَ وَالسِّفَاحَ فَكَيْفَ بِالتَّحْلِيلِ. فَالْمَنْعُ مِنْ دَلَالَةِ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى الْمُتْعَةِ شَرْعِيٌّ، وَلِهَذَا جَازَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِإِبَاحَةِ

نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَالْمَنْعُ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى التَّحْلِيلِ عَقْلِيٌّ، وَلِهَذَا لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ بَلْ لَعَنَ فَاعِلَهُ، فَهَذَا يُبَيِّنُ فِقْهَ الْمَسْأَلَةِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ مِثْلِ هَذَا النِّكَاحِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالْمُنَاقَضَةِ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَاللُّغَةِ وَالْعُرْفِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنْ نَظَرٍ وَلَا أَثَرٍ أَصْلًا خِلَافُ مَا ظَنَّهُ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي الدِّينِ مِنْ أَنَّ الْقِيَاسَ جَوَازُهُ، وَكَانَ هَذَا اعْتِقَادُ أَنَّ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ إنَّمَا يَرْتَبِطُ بِمُجَرَّدِ لَفْظٍ يَخْذُلُ بِهِ لِسَانُهُ، وَإِنْ قَصَدَ بِقَلْبِهِ خِلَافَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ بِلِسَانِهِ، وَهَذَا ظَنُّ مَنْ يَرَى النِّفَاقَ نَافِعًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَنَظِيرُ هَذَا مَا يُذْكَرُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ بَلَغَهُ أَنَّهُ مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا تَفَجَّرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ، فَأَخْلَصَ فِي ظَنِّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا لِيَنَالَ الْحِكْمَةَ، فَلَمْ يَنَلْهَا فَشَكَا ذَلِكَ إلَى بَعْضِ حُكَمَاءِ الدِّينِ فَقَالَ إنَّك لَمْ تُخْلِصْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَإِنَّمَا أَخْلَصَتْ لِلْحِكْمَةِ يَعْنِي أَنَّ الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إرَادَةُ وَجْهِهِ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ حَصَلَتْ الْحِكْمَةُ تَبَعًا، فَإِذَا كَانَتْ الْحِكْمَةُ هِيَ الْمَقْصُودَ ابْتِدَاءً لَمْ يَقَعْ الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ إخْلَاصٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ» فَلَوْ تَوَاضَعَ لِيَرْفَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَكُنْ مُتَوَاضِعًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ مَقْصُودُهُ الرِّفْعَةَ، وَذَلِكَ يُنَافِي التَّوَاضُعَ، وَهَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا لِيُطَلِّقَهَا كَانَ مَقْصُودُهُ هُوَ الطَّلَاقَ، فَلَمْ يَكُنْ مَا يَقْتَضِيهِ وَهُوَ النِّكَاحُ مَقْصُودًا فَلَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مُطَابِقًا لِلْقَصْدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ يَغْلِبُ فِي صِيَغِ الْأَخْبَارِ وَهَذِهِ صِيَغُ إنْشَاءٍ فَإِنَّ الصِّيَغَ الدَّالَّةَ عَلَى الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا طَالِبًا مُرِيدًا كَانَ عَابِثًا مُسْتَهْزِئًا أَوْ مَاكِرًا خَادِعًا، وَأَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ اسْقِنِي مَاءً وَهُوَ لَا يَطْلُبُهُ بِقَلْبِهِ وَلَا يُرِيدُهُ فَأَتَاهُ، فَقَالَ مَا طَلَبْتُ وَلَا أَرَدْتُ، كَانَ مُسْتَهْزِئًا بِهِ كَاذِبًا فِي إظْهَارِهِ خِلَافَ مَا فِي قَلْبِهِ، وَإِنْ قَصَدَ أَنْ يُجِيبَهُ لِيَضْرِبَهُ كَانَ مَاكِرًا خَادِعًا، فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ تَزَوَّجْت وَنَكَحْت وَفِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَيْسَ مُرِيدًا لِلنِّكَاحِ وَلَا رَاغِبًا فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُرِيدٌ لِلْإِعَادَةِ إلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ مُتَصَوِّرٌ بِصُورَةِ الْمُتَزَوِّجِ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ مُتَصَوِّرٌ بِصُورَةِ الْآمِرِ، وَبِصُورَةِ الْمُؤْمِنِ، وَبِهَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إنَّ السَّبَبَ تَامٌّ، فَإِنَّهَا مُجَرَّدُ دَعْوَى بَاطِلَةٍ، وَقَوْلُهُ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْقَصْدُ الْمُقْتَرِنُ بِالْعَقْدِ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هُنَا عَقْدًا أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ صُورَةُ عَقْدٍ، أَمَّا إنْ كَانَا مُتَوَاطِئَيْنِ فَلَا

عَقْدَ أَصْلًا وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَازِمًا عَلَى التَّحْلِيلِ فَلَيْسَ بِعَاقِدٍ، بَلْ هَذَا الْقَصْدُ يَمْنَعُ الْعَقْدَ أَنْ يَكُونَ عَقْدًا فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُ صُورَةَ الْعَقْدِ، وَقَوْلُهُ وَذَلِكَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، قُلْنَا إنْ عَنَيْت بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ اللَّفْظَ الْمُجَرَّدَ كَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّ الْمَقَاصِدَ وَالنِّيَّاتِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي الْأَلْفَاظِ، وَبُطْلَانُ هَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ فَإِنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي صِفَاتِهِ اللَّفْظُ وَأَحْكَامُهُ، إنَّمَا هُوَ عِنَايَةُ الْمُتَكَلِّمِ وَقَصْدُهُ وَإِلَّا فَاللَّفْظُ وَحْدَهُ لَا يَقْتَضِي شَيْئًا، وَإِنْ عَنَيْت بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ الْأَلْفَاظَ الدَّوَالَّ عَلَى مَعَانٍ فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقَصْدَ يُؤَثِّرُ فِيهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إذَا قَصَدَ بِهَا خِلَافَ تِلْكَ الْمَعَانِي كَانَ صَاحِبُهَا مُدَلِّسًا مُلْبِسًا، لَكِنَّ الْحُكْمَ فِي الظَّاهِرِ يَتْبَعُ الظَّاهِرَ وَلَيْسَ الْقَصْدُ إشَاعَةَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ ظَاهِرًا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْحِلِّ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقَوْلُهُ إنَّمَا نَوَى الطَّلَاقَ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ بِالْعَقْدِ فَهُوَ كَمَا لَوْ نَوَى إخْرَاجَ الْبَيْعِ عَنْ مِلْكِهِ وَإِحْرَاقَهُ أَوْ إتْلَافَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ. قُلْنَا: هَذَا مَنْشَأُ الْغَلَطِ فَإِنَّ قَصْدَ الطَّلَاقِ لَمْ يُنَافِ النِّكَاحَ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَصَدَ تَصَرُّفَهُ فِي الْمَمْلُوكِ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ الْمِلْكِ، وَإِنَّمَا نَافَاهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ قَصْدَ النِّكَاحِ وَقَصْدَ الطَّلَاقِ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَإِنَّ النِّكَاحَ مَعْنَاهُ الِاجْتِمَاعُ وَالِانْضِمَامُ عَلَى سَبِيلِ انْتِفَاعِ كُلٍّ مِنْ الْمُجْتَمِعَيْنِ بِصَاحِبِهِ وَأُلْفِهِ بِهِ وَسُكُونِهِ إلَيْهِ، وَهَذَا مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ إلَّا قَطْعَ هَذَا الْوَصْلِ وَفَرْقَ هَذَا الْجَمْعِ مَعَ عَدَمِ الرَّغْبَةِ فِي الْمُؤَالَفَةِ. وَانْتِفَاءُ الْغَرَضِ مِنْ الْمُعَاشَرَةِ لَا يَصِحُّ، وَالطَّلَاقُ لَيْسَ هُوَ التَّصَرُّفَ الْمَقْصُودَ بِالْمِلْكِ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ رَفْعُ سَبَبِ الْمِلْكِ، فَلَا يُقَاسُ بِتِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ وَإِنَّمَا لِيَرَهَا مِنْ النِّكَاحِ، أَنْ يَقْصِدَ بِالنِّكَاحِ بَعْضَ مَقَاصِدِهِ مِنْ النَّفْعِ بِهَا أَوْ نَفْعِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَنَظِيرُ الطَّلَاقِ أَنْ لَا يَعْقِدَ الْبَيْعَ إلَّا لَأَنْ يَفْسَخَهُ بِخِيَارِ شَرْطٍ أَوْ مَجْلِسٍ أَوْ عَيْبٍ أَوْ فَوَاتِ صِفَةٍ أَوْ إقَالَةٍ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ بِالْبَيْعِ أَنْ يَفْسَخَ بَعْدَ عَقْدِهِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، إذَا قَالَ: بِعْت أَوْ اشْتَرَيْت وَقَصْدُهُ فَسْخُ الْعَقْدِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ أَوْ تَوَاطَآ عَلَى التَّقَابُلِ وَعَقَدَا فَهَلْ هُنَاكَ تَبَايُعٌ حَقِيقِيٌّ، وَنَظِيرُ التَّحْلِيلِ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ، ثُمَّ يَبِيعُهُ مِنْ رَجُلٍ بِنِيَّةِ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ فِي مُدَّةِ أَحَدِ الْخِيَارَاتِ، فَمَنْ الَّذِي سَلَّمَ أَنَّ هَذَا بَاعَ عَبْدَهُ قَطُّ، وَإِنَّمَا هَذَا تَصَوَّرَ بِصُورَةِ الْبَائِعِ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَيَهَبَنَّ مَالَهُ وَوَهَبَهُ لِابْنِهِ بِنِيَّةِ أَنْ يَرْتَجِعَهُ، وَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [المزمل: 20] ، وَ {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 254] لَوْ أَعْطَى ابْنَهُ مُظْهِرًا

أَنَّهُ مُقْرِضٌ مُنْفِقٌ وَمِنْ نِيَّتِهِ الِارْتِجَاعُ، فَهَلْ يَسْتَحْسِنُ مُؤْمِنٌ هَذَا أَنْ يَدْخُلَ هَذَا فِي اسْمِ الْمُقْرِضِ الْمُنْفِقِ، وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فَلَوْ آتَاهَا الْفَقِيرَ قَدْ وَاطَأَهُ عَلَى أَنْ يُعِيدَهَا إلَيْهِ فَهَلْ يَكُونُ هَذَا مُؤْتِيًا لِلزَّكَاةِ، وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ عَقْدٍ أَمْكَنَهُ رَفْعٌ مِنْ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ وَكَالَةٍ أَوْ شَرِكَةٍ أَظْهَرَ عَقْدَهُ وَمَقْصُودُهُ رَفْعُهُ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ غَرَضُهُ الْعَقْدَ وَلَا شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِهِ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ رَفْعُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَهَذَا يُشْبِهُ التَّحْلِيلَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الْفَسْخُ إلَّا بِرِضَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَتَوَاطُؤُهُمَا عَلَى التَّفَاسُخِ قَبْلَ التَّعَاقُدِ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ هَذَا الْقَصْدَ وَالْمُوَاطَأَةَ تَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ مُقْتَضَاهُ وَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ نَقِيضَ مُقْتَضَاهُ، وَإِذَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ إنْشَاءً أَوْ إخْبَارًا أَوْ أَمْرًا بِالْكَلَامِ نَقِيضَ مُوجَبِهِ وَمُقْتَضَاهُ، كَانَ الْكَلَامُ نَافِيًا لِذَلِكَ الْمَعْنَى وَذَلِكَ الْقَصْدِ وَمُضَادًّا لَهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا: أَنَّ الطَّلَاقَ وَفَسْخَ الْعُقُودِ هُوَ تَصَرُّفُ نَفْسِ الْمِلْكِ، وَمُوجَبُ الْعَقْدِ بِرَفْعِهِ وَإِزَالَتِهِ لَيْسَ هُوَ تَصَرُّفًا فِي الْمَمْلُوكِ بِالْعَقْدِ بِإِتْلَافِهِ وَإِهْلَاكِهِ، بِخِلَافِ أَكْلِ الطَّعَامِ وَإِعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى وَإِحْرَاقِهِ وَإِغْرَاقِهِ فَإِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الشَّيْءِ الْمَمْلُوكِ لَا بِإِتْلَافٍ، وَفَرْقٌ بَيْنَ إزَالَةِ الْمِلْكِ مَعَ بَقَاءِ مَحَلِّ الْمِلْكِ وَمَوْرِدِهِ الَّذِي كَانَ مَمْلُوكًا، وَبَيْنَ إتْلَافِ نَفْسِ مَحَلِّ التَّصَرُّفِ وَمَوْرِدِهِ، الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ الْمَمْلُوكُ قَدْ يُسَمَّى مِلْكًا تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ، فَأَيْنَ إتْلَافُ نَفْسِ التَّصَرُّفِ بِفَسْخِ الْعَقْدِ إلَى إتْلَافِ مَحَلِّ التَّصَرُّفِ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّ بِهِ يَظْهَرُ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ قَالَ النِّيَّةُ لَا تُغَيِّرُ مُوجَبَ السَّبَبِ، وَكَيْفَ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ وَهِيَ مُنَافِيَةٌ لِمُوجَبِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ الْمُؤَيِّدِ لِلِانْتِفَاعِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَمُقْتَضَاهَا رَفْعُ هَذَا الْمُقْتَضَى لِيَتَبَيَّنَ لَك الْفَرْقُ بَيْنَ النِّيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسَّبَبِ وَالنِّيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَحِلِّ السَّبَبِ، وَبِهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ بِالْبَيْعِ إتْلَافَ الْمَبِيعِ، فَإِنَّ هَذَا نِيَّةٌ لِإِتْلَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا نِيَّةٌ لِرَفْعِ الْعَقْدِ. وَمِثْلُ هَذِهِ النِّيَّةِ لَا تَتَأَتَّى فِي النِّكَاحِ، فَإِنَّ الزَّوْجَ لَا يُمْكِنُهُ إتْلَافُ الْبُضْعِ وَلَا الْمُعَارَضَةُ عَلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُهُ فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ إلَّا بِنَفْسِهِ، فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ وَلَا إجَارَةٍ وَلَا إعَارَةٍ وَلَا نِكَاحٍ وَلَا إتْلَافٍ، وَإِذَا أَرَادَ إخْرَاجَهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ مَشْرُوعٌ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ بِإِبْطَالِ النِّكَاحِ، وَأَمَّا الْبَيْعُ فَلِإِخْرَاجِ الْمَبِيعِ عَنْ نَفْسِهِ طُرُقٌ، فَإِذَا

قَصَدَ أَنْ يُزِيلَ الْمَبِيعَ عَنْ مِلْكِهِ بِإِعْتَاقٍ أَوْ إحْرَاقٍ أَوْ إغْرَاقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَانَ مُبَاحًا مِثْلَ إيقَادِ الشَّمْعِ وَإِلْقَاءِ الْمَتَاعِ فِي الْبَحْرِ لِيُخَفِّفَ السَّفِينَةَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا قَصَدَ بِالْعَقْدِ الِانْتِفَاعَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمَالِ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَالْأَعْيَانُ إنَّمَا يُنْتَفَعُ بِذَوَاتِهَا إذَا أُتْلِفَتْ، وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يَبْذُلَ الْمَالَ لَيَحْصُلَ لَهُ الْمِلْكُ لِيُتْلِفَهُ هَذَا الْإِتْلَافَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْذُلَ الصَّدَاقَ لِيَعْقِدَ الْبَيْعَ لِيَفْسَخَ، فَإِنَّ هَذَا يَبْذُلُ الْعِوَضَ لِبَقَاءِ الْأَمْرِ عَلَى مَا كَانَ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِدُونِ الْعِوَضِ وَلَمْ يَبْذُلْهُ لِشَيْءٍ مِنْ مَقَاصِدِ الْمِلْكِ وَفَوَائِدِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالْعَقْدُ إنَّمَا يُقْصَدُ لِأَجْلِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ غَرَضٌ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ غَرَضٌ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ عَقْدًا. وَإِنَّمَا هُوَ صُورَةُ عَقْدٍ لَا حَقِيقَةٌ. وَإِيضَاحُ هَذَا أَنَّ نِيَّةَ الطَّلَاقِ هُوَ قَصْدُ رَدِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَى مَالِكِهِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْفُسُوخِ. وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي يُنَافِي قَصْدَ الْعَقْدِ، أَمَّا قَصْدَ إخْرَاجِهِ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي النِّكَاحِ وَهُوَ فِي الْبَيْعِ لَا يُنَافِي الْعَقْدَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الْوَجْهِ الثَّانِي فَنَقُولُ: قَوْلُهُ الْقَصْدُ لَا يَقْدَحُ فِي اقْتِضَاءِ السَّبَبِ حُكْمُهُ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ سَبَبٌ وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ الْقَصْدَ لَا يَقْدَحُ فِيهِ، وَإِنَّمَا السَّبَبُ لَفْظٌ قَصَدَهُ الْمُتَكَلِّمُ ابْتِدَاءً وَلَمْ يَقْصِدُ بِهِ مَا يُنَافِي حُكْمَهُ، أَوْ لَفْظٌ قَصَدَ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ مَعْنَاهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، وَقَدْ قَدَّمْت فِي الْوَجْهِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ إبْطَالِ الْحِيَلِ مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ فِي الْعُقُودِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ قَصْدَ مَا يُنَافِي مُوجَبَ الْعَقْدِ فِي الشَّرْعِ يَمْنَعُ حِلَّهُ وَصِحَّتَهُ، فَإِنَّ عَدَمَ قَصْدِ الْعَقْدِ إنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ عُذِرَ الْإِنْسَانُ فِيهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْهَزْلِ وَاللَّعِبِ فِيمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ الْهَزْلُ وَاللَّعِبُ لَمْ يَلْتَفِتْ الشَّرْعُ إلَى هَزْلِهِ وَلَعِبِهِ، وَأَفْسَدَ هَذَا الْوَصْفَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَأَلْزَمَهُ الْحُكْمَ عُقُوبَةً لَهُ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَقْصِدْ مَا يُنَافِي الْعَقْدَ وَإِنَّمَا تَرَكَ قَصْدَ الْعَقْدِ فِي كَلَامٍ لَا يَصْلُحُ تَجْرِيدُهُ عَنْ حُكْمِهِ، وَبَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُحْتَالِ مِثْلَ الْمُحَلِّلِ وَنَحْوِهِ، وَبَيْنَ الْهَازِلِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا لَوْ لَفَظَ بِمَا نَوَاهُ بَطَلَ تَصَرُّفُهُ، وَهَذَا لَوْ لَفَظَ بِهِ لَمْ يَبْطُلْ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا أَطْلَقَ اللَّفْظَ عَارِيًّا عَنْ نِيَّةٍ لِمُوجَبِهِ أَوْ بِخِلَافِ مُوجَبِهِمَا، وَهَذَا قَيَّدَ اللَّفْظَ بِنِيَّةٍ تُخَالِفُ مُوجَبَهُ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الْأَوَّلُ لَاعِبًا وَهَازِلًا لِكَوْنِ اللَّفْظِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُطْلَقَ وَيَعْرَى عَنْ قَصْدِ مَعْنًى، حَتَّى يَصِيرَ كَالرَّجُلِ الْهَزِيلِ، بَلْ يُوعِي مَعْنًى يَصِيرُ بِهِ

حَقًّا وَجِدًّا، وَسُمِّيَ الثَّانِي مُخَادِعًا مُدَالِسًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَوْعَى اللَّفْظَ مَعْنًى غَيْرَ مَعْنَاهُ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ حَقِيقَتَهُ وَمَعْنَاهُ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا أَطْلَقَ اللَّفْظَ وَهُوَ لَفْظٌ لَا يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ أَعْرَاهُ عَنْ مَعْنًى جَعَلَ الشَّارِعُ لَهُ الْمَعْنَى الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ. وَالثَّانِي: لَمَّا أَثْبَتَ فِيهِ مَا يُنَاقِضُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيَّ لَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، فَبَطَلَ حُكْمُهُ وَذَكَرْنَا أَنَّ صِحَّةَ نِكَاحِ الْهَازِلِ حُجَّةٌ فِي إبْطَالِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هُزْوًا، وَعَنْ التَّلَاعُبِ بِحُدُودِهِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَطَلَ هَذَا التَّلَاعُبُ، وَبُطْلَانُ التَّلَاعُبِ فِي حَقِّ الْهَازِلِ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ، فَإِنَّ مُوجَبَ تَلَاعُبِهِ فَسَادُهُ، وَبُطْلَانُ التَّلَاعُبِ فِي حَقِّ الْمُحَلِّلِ إفْسَادُ الْعَقْدِ، فَإِنَّ مُوجَبَ تَلَاعُبِهِ صِحَّتُهُ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْهَازِلَ نَقَصَ الْعَقْدَ فَكَمَّلَهُ الشَّارِعُ تَحْقِيقًا لِلْعَقْدِ وَتَحْصِيلًا لِفَائِدَتِهِ، فَإِنَّ هَذَا التَّكْمِيلَ مُزِيلٌ لِذَلِكَ الْهَزْلِ وَجَاعِلُهُ جِدًّا، وَأَنَّ الْمُحَلِّلَ زَادَ فِي الْعَقْدِ مَا أَوْجَبَ نَفْيَ أَصْلِهِ وَلَوْ أَبْطَلَ الشَّارِعُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ لَمْ يَفْدِ فَإِنَّهَا مَقْصُودَةٌ لَهُ، وَالْقَصْدُ لَمْ يَرْتَفِعْ كَمَا أَمْكَنَ رَفْعُ الْهَزْلِ بِجَعْلِ الْأَمْرِ جِدًّا، وَهَذِهِ فُرُوقٌ نَبَّهْنَا عَلَيْهَا هُنَا. وَإِنْ كَانَ فِيمَا تَقَدَّمَ كِفَايَةٌ عَنْ هَذَا. وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الَّتِي ذَكَرَهَا مِثْلُ شِرَاءِ الْعَصِيرِ فَجَوَابُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هُنَاكَ قَصَدَ التَّصَرُّفَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الْعَقْدَ، وَهُنَا قَصَدَ رَفْعَ الْعَقْدِ وَهَذَا يُنَافِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَصْدَهُ لِاِتِّخَاذِ الْعَصِيرِ خَمْرًا لَا يُفَارِقُ قَصْدَهُ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَلًّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْدِ وَمُوجَبَاتِهِ، وَإِنَّمَا يُفَارِقُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَهَذَا فَرْقٌ يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ لَا بِالْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ حَقِيقَتُهُ، وَنَحْنُ لَمْ نَقُلْ إنَّ الطَّلَاقَ مُحَرَّمٌ وَأَنَّهُ أَبْطَلَ الْعَقْدَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُحَرَّمًا، وَإِنَّمَا نَافَاهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ قَصْدَهُ بِالْعَقْدِ إزَالَتُهُ وَإِعْدَامُهُ يُنَاقِضُ الْعَقْدَ حَتَّى يَصِيرَ صُورَةَ عَقْدٍ لَا حَقِيقَةَ عَقْدٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ اشْتِرَاءَهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ حَرَامٌ بَاطِلٌ، ثُمَّ إنْ عَلِمَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ كَانَ بَيْعُهُ حَرَامًا بَاطِلًا فِي حَقِّهِ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، وَذَكَرْنَا «لَعْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَاصِرَ الْخَمْرِ» ، وَحَدِيثًا آخَرَ وَرَدَ فِيمَنْ حَبَسَ الْعِنَبَ أَيَّامَ الْقِطَافِ، لِيَبِيعَهُ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَهَذَا الْوَعِيدُ لَا يَكُونُ إلَّا لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جَعَلُوا بَيْعَ الْعَصِيرِ لِمَنْ يُخَمِّرُهُ بَيْعًا لِلْخَمْرِ، وَهُوَ نَهْيٌ يَتَعَلَّقُ بِتَصَرُّفِ الْعَاقِدِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَهُوَ كَنَهْيِ

الْمُسْلِمِ عَنْ هِبَةِ الْمُصْحَفِ لِكَافِرٍ، وَبَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِكَافِرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ بَاطِلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِيَ عَشَرَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْبَائِعُ بِقَصْدِ الْمُشْتَرِي كَانَ الْبَيْعُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَائِعِ حَلَالًا وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُشْتَرِي حَرَامًا، لَكِنْ هُنَا فُرُوعٌ يُخَالِفُ حُكْمُهَا حُكْمَ غَيْرِهَا، مِثْلَ أَنْ يَتُوبَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْمُشْتَرَى بِدُونِ تَجْدِيدِ عَقْدٍ مَعَ إمْكَانِهِ وَهُوَ نَظِيرُ إسْلَامِ الْكَافِرِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ فِي الْمُصْحَفِ الْمَوْهُوبِ، وَنَظِيرُ إسْلَامِ سَيِّدِ الْعَبْدِ فَإِنَّا إنَّمَا مَنَعْنَا مِنْ ثُبُوتِ يَدِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُصْحَفِ وَالْمُسْلِمِ لِمُقَارَنَتِهِ اعْتِقَادَ الْكُفْرِ لَهُ، كَمَا أَنَّا مَنَعْنَا مِنْ ثُبُوتِ يَدِ الْمُصِرِّ عَلَى مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لِمُقَارَنَةِ اعْتِقَادِ الْمَعْصِيَةِ لَهُ. وَلَيْسَ غَرَضُنَا هُنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بَيَانُ مَنْعِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَنَظِيرُهُ مِنْ النِّكَاحِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً لِيَطَأَهَا فِي الدُّبُرِ أَوْ لِيُكْرِيَهَا لِزِنًا وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا مِثْلُ اشْتِرَاءِ الْعَصِيرِ لِيَتَّخِذَهُ خَمْرًا وَبَيْعِ الْأَمَةِ لِيُكْرِهَهَا عَلَى الْبِغَاءِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ تَزْوِيجُهَا مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا قَصْدُهُ، وَلَا يَصِحُّ النِّكَاحُ حَتَّى قَدْ نَصَّ أَصْحَابُنَا وَمِنْهُمْ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا صَحِيحًا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الدُّبُرِ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا جَيِّدٌ فَإِنَّ هَذَا الْفِعْلَ حَرَامٌ، فَمَتَى تَوَافَقَ الزَّوْجَانِ عَلَيْهِ أَوْ أَكْرَهَهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُمْكِنْ مَنْعُهُ إلَّا بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا تَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ طَرِيقًا لِإِزَالَةِ هَذَا الْمُنْكَرِ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْجَدَلِ الْمُصَنِّفِينَ فِي خِلَافِ الْفُقَهَاءِ لِمَا ذُكِرَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا. قَالَ: لَا أَظُنَّهُ يَنْتَهِي إلَى حَدٍّ يَقْوَى وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَبْدِ مِمَّنْ يَتَلَوَّطُ، وَلَا بَيْعُ الْأَمَةِ وَلَا تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ مِمَّنْ يَطَأهَا فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ قَالَ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْأَخْشَابِ لِمَنْ يَعْمَلُ آلَاتِ الْمَلَاهِي، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْمُجَادِلُ كُلُّهُ جَهْلٌ وَغَلَطٌ وَتَخْلِيطٌ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا وَاحِدٌ، وَقَدْ نَصَّ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَمْرَدِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَفْسُقُ بِهِ، وَلَا بَيْعُ الْمُغَنِّيَةِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِمَا لَا يَحِلُّ، وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْآنِيَةِ مِنْ الْأَقْدَاحِ وَنَحْوِهَا مِمَّنْ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَشْرَبُ فِيهَا الْمُسْكِرَ، وَلَا بَيْعُ الْمَشْمُومَاتِ مِنْ الرَّيَاحِينِ، وَنَحْوِهَا مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَشْرَبُ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ مَذْهَبُهُ فِي بَيْعِ الْخَشَبِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهَا آلَاتِ اللَّهْوِ وَسَائِرُ هَذَا الْبَابِ جَارٍ عِنْدَهُ عَلَى الْقِيَاسِ، حَتَّى أَنَّهُ قَدْ نَصَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا

يَجُوزُ بَيْعُ الْعِنَبِ وَالْعَصِيرِ وَالدَّادِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّنْ يَسْتَعِينُ عَلَى النَّبِيذِ الْمُحَرَّمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعِينَ أَحَدًا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُعَانُ لَا يَعْتَقِدُهَا مَعْصِيَةً، كَإِعَانَةِ الْكَافِرِينَ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَجَاءَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي هَذَا الْأَصْلِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. هَذَا إذَا كَانَ التَّحْرِيمُ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَهَا لِيُضَارَّهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ أَيْضًا كَمَا إذَا اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا لِيُضَارَّهُ بِمَطْلِ الثَّمَنِ، فَإِنْ عَلِمْت هِيَ بِذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا. وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ لَمْ يُمْكِنْ إبْطَالُ الْعَقْدِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْعَقْدِ إذَا كَانَ لِإِضْرَارِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِالْحَرَامِ لَمْ يَقَعْ بَاطِلًا كَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ. وَتَلَقٍّ الرُّكْبَانِ وَبَيْعِ الْمَعِيبِ الْمُدَلَّسِ عَيْبُهُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ هُنَا إنَّمَا هُوَ أَحَدُهُمَا لَا كِلَاهُمَا، فَلَوْ أَبْطَلْنَا الْعَقْدَ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا لَكَانَ فِيهِ إبْطَالٌ لِعَقْدِ مَنْ لَمْ يَنْهَ، وَلَكَانَ فِيهِ إضْرَارٌ لِمَنْ أَبْطَلَ الْعَقْدَ لِرَفْعِ ضَرَرِهِ، وَهَذَا تَعْلِيقٌ عَلَى الْوَصْفِ ضِدَّ مُقْتَضَاهُ؛ لِأَنَّ قَصْدَ رَفْعِ ضَرَرِهِ قَدْ جُعِلَ مُوجِبًا لِضَرَرِهِ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَضَارِّ دُونَ الْآخَرِ، كَمَا يُقَالُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِثْلَ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا ظَالِمًا، وَشِرَاءُ الْمُعْتَقِ الْمَجْحُودِ عِتْقُهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي، وَمِثْلُ دَفْعِ الرِّشْوَةِ إلَى ظَالِمٍ لِيَكُفَّ ظُلْمَهُ، وَمِثْلُ إعْطَاءِ بَعْضِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ، فَيَكُونُ نِكَاحُ الزَّوْجِ بَاطِلًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ بِمَعْنَى أَنَّ اسْتِمْتَاعَهُ بِهَا حَرَامٌ، وَبَيْعُ الْمُدَلِّسِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَائِعِ بَاطِلٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ الثَّمَنُ، فَهَذَا قَدْ يُقَالُ مِثْلُهُ. وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا بَيَانُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بَيَانُ أَنَّهَا غَيْرُ وَارِدَةٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَهَا لِيُضَارَّ بِهَا امْرَأَةً أُخْرَى؛ أَوْ لِيَتَعَاوَنَا عَلَى سِحْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُمَا النِّكَاحَ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى ذَلِكَ الْمُحَرَّمِ، فَمَنْ الَّذِي سَلَّمَ صِحَّةَ هَذَا النِّكَاحِ؟ . فَإِنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ بَيْعَ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَجْمَعُ عَلَيْهِ الْفُسَّاقَ لِلشُّرْبِ وَالزِّنَا بَاطِلٌ، وَبَيْعَ الْأَقْدَاحِ لِمَنْ يَشْرَبُ فِيهَا الْمُسْكِرَ بَاطِلٌ، وَبَيْعَ السِّلَاحِ مِمَّنْ يَقْتُلُ بِهِ مَعْصُومًا بَاطِلٌ، كَيْفَ لَا يَقُولُ إنَّ تَزْوِيجَ الْمَرْأَةِ لِمَنْ يَضُرُّ بِهَا امْرَأَةً مُسْلِمَةً ضَرَرًا مُحَرَّمًا مِثْلَ أَنْ يَضْرِبَهَا بَاطِلٌ، وَإِنْ أَوْرَدَ مَا إذَا لَمْ يَقْصِدْ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا وَإِنَّمَا قَصَدَ مُجَرَّدَ إيذَاءِ الزَّوْجَةِ الْأُولَى بِالْغَيْرَةِ فَهَذَا نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَذَى لَيْسَ بِمُحَرَّمِ الْجِنْسِ فَلَمْ

يَتَزَوَّجْهَا لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ فِي نَفْسِهِ ثُمَّ هُوَ لَا يُمْكِنُ إلَّا مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ، فَكَأَنَّهُ قَصَدَ بِالنِّكَاحِ بَعْضَ تَوَابِعِهِ الَّتِي لَا تَحْصُلُ إلَّا مَعَ وُجُودِهِ، وَهِيَ مِمَّا لَا يَحِلُّ قَصْدُهُ وَإِنْ جَازَ وُجُودُهُ شَرْعًا بِطَرِيقِ الضِّمْنِ، فَهُنَا الْمُحَرَّمُ مُجَرَّدُ الْقَصْدِ فَلَا يُشْبِهُ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ رَفْعُ النِّكَاحِ وَهُنَا بَقَاؤُهُ، لَكِنْ يُشْبِهُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ فِعْلٌ هُوَ مُحَرَّمٌ بِطَرِيقِ الْقَصْدِ مُبَاحٌ بِطَرِيقِ التَّبَعِ، وَكَذَلِكَ هُنَا الْمَقْصُودُ غَيْرَةُ الزَّوْجَةِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِطَرِيقِ الْقَصْدِ مُبَاحٌ بِطَرِيقِ التَّبَعِ. وَصِحَّةُ هَذَا النِّكَاحِ فِيهَا نَظَرٌ، فَإِنَّ مَا كَانَ التَّحْرِيمُ فِيهِ لِحَقِّ آدَمِيٍّ يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِي فَسَادِهِ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الذَّبْحِ بِآلَةٍ مَغْصُوبَةٍ، وَفِي فَسَادِ الْعُقُودِ الَّتِي تَحْرُمُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ بِحَقِّ آدَمِيٍّ مِثْلَ بَيْعِهِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَسَوْمِهِ عَلَى سَوْمِهِ، وَنِكَاحِهِ إذَا خَطَبَ عَلَى خِطْبَتِهِ، فَإِنَّ فِيهِ خِلَافًا مَعْرُوفًا، وَمَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ اعْتَذَرَ بِأَنَّ الْمُحَرَّمَ لَيْسَ هُوَ نَفْسُ الْعَقْدِ. وَإِنَّمَا هُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمَنْعَ هُنَا لِحَقِّ آدَمِيٍّ، فَإِنْ سَلَّمَ صِحَّةَ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَبَيْنَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَيْهَا وَلَا نَقَضُ دَلِيلِنَا بِهَا. وَإِنْ لَمْ نُسَلِّمْ صِحَّةُ الْفَرْقِ سَوَّيْنَا بَيْنَ جَمِيعِ الصُّوَرِ فِي الْبُطْلَانِ، فَيُمْنَعُ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَكَذَلِكَ كُلَّمَا يَرِدُ عَلَيْك مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا فَإِنَّ الْجَوَابَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَرْقٌ صَحِيح أَوْ لَا يَكُونُ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لَمْ يَصِحَّ النَّقْضُ وَلَا الْقِيَاسُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَالْحُكْمُ فِي الْجَمِيعِ سَوَاءٌ، نَعَمْ لَوْ أَوْرَدْت صُوَرٌ قَدْ ثَبَتَتْ الصِّحَّةُ فِيهَا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، لَكَانَ ذَلِكَ مُتَوَجِّهًا وَلَيْسَ إلَى هَذَا سَبِيلٌ، وَلَا تَعْبَأُ بِمَا يُفْرَضُ مِنْ الْمَسَائِلِ وَيَدَّعِي الصِّحَّةَ فِيهَا بِمُجَرَّدِ التَّهْوِيلِ، أَوْ بِدَعْوَى أَنْ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَقَائِلُ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ فِيهَا بِالصِّحَّةِ فَضْلًا عَنْ نَفْيِ الْخِلَافِ فِيهَا، وَلَيْسَ الْحُكْمُ فِيهَا مِنْ الْجَلِيَّاتِ الَّتِي لَا يُعْذَرُ الْمُخَالِفُ فِيهَا. وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَالَ الْإِمَام أَحْمَدُ، مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَهُوَ كَاذِبٌ، فَإِنَّمَا هَذِهِ دَعْوَى بِشْرٍ وَابْنِ عُلَيَّةَ يُرِيدُونَ أَنْ يُبْطِلُوا السُّنَنَ بِذَلِكَ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْفِقْهِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إذَا نَاظَرْتَهُمْ بِالسُّنَنِ وَالْآثَارِ قَالُوا هَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ الْقَوْلُ الَّذِي يُخَالِفُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ لَا يَحْفَظُونَهُ إلَّا عَنْ فُقَهَاءِ

الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءِ الْكُوفَةِ مَثَلًا، فَيَدَّعُونَ الْإِجْمَاعَ مِنْ قِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ بِأَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ وَاجْتِرَائِهِمْ عَلَى رَدِّ السُّنَنِ بِالْآرَاءِ، حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ تُرَدُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْآثَارِ، فَلَا يَجِدُ مُعْتَصَمًا إلَّا أَنْ يَقُولَ هَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا وَأَصْحَابَهُمَا لَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ لَرَأَى مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعَيْهِمْ مِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ خَلْقًا كَثِيرًا؛ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ. وَإِلَّا فَمَنْ تَتَبَّعَ وَجَدَ فِي مُنَاظَرَاتِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَغَيْرِهِمْ لِأَهْلِ عَصْرِهِمْ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ كَثِيرًا، وَلِهَذَا كَانُوا يُسَمُّونَ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالَهُمْ فُقَهَاءَ الْحَدِيثِ. وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا تَرِدُ بِهِ السُّنَنُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ وَجَدَهَا أُصُولًا قَدْ تُلُقِّيَتْ بِحُسْنِ الظَّنِّ مِنْ الْمَتْبُوعِينَ، وَبُنِيَتْ عَلَى قَوَاعِدَ مَغْرُوضَةٍ إمَّا مَمْنُوعَةٍ أَوْ مُسَلَّمَةٍ مَعَ نَوْعِ فَرْقٍ، وَلَمْ يَعْتَصِمْ الْمُثْبِتُ لَهَا فِي إثْبَاتِهِ بِكَثِيرِ حُجَّةٍ أَكْثَرَ مِنْ نَوْعِ رَأْيٍ أَوْ أَثَرٍ ضَعِيفٍ. فَيَصِيرُ مُثْبِتًا لِلْفَرْعِ بِالْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ إلَى أَصْلٍ مُعْتَمَدٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ أَثَرٍ وَهَذَا عَامٌّ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ. وَيَجْعَلُ هَذِهِ فِي مُقَابَلَةِ الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَإِذَا حَقَّقَ الْأَمْرَ فِيهَا عَلَى الْمُسْتَمْسِكِ بِهَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ إلَّا التَّعَجُّبُ مِمَّنْ يُخَالِفُهَا. وَهُوَ لَا يَعْلَمُ لِمَنْ يَقُولُ بِهَا مِنْ الْحُجَّةِ أَكْثَرَ مِنْ مُرُونَةٍ عَلَيْهَا مَعَ حَظِّ مَنْ رَأَى. وَمَسْأَلَةُ بَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا مِنْ بَابِهِ الَّذِي زَعَمَ هَذَا الْمَجَادِلُ أَنْ لَا خِلَافَ فِي بَعْضِهَا: وَعَامَّةُ السَّلَفِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي الْعِنَبِ وَالْعَصِيرِ بِالتَّحْرِيمِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ كَرِهَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ بَيْعَهُ فِي الْفِتْنَةِ. وَالْكَرَاهَةُ الْمُطْلَقَةُ فِي لِسَانِ الْمُتَقَدِّمِينَ لَا يَكَادُ يُرَادُ بِهَا إلَّا التَّحْرِيمُ. وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - خِلَافٌ فِي ذَلِكَ إلَّا مَا رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَبِيعُ الْعَصِيرَ. وَهَذِهِ حِكَايَةُ حَالٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَبِيعُهُ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَلًّا أَوْ رِبًا أَوْ يَشْرَبُهُ عَصِيرًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَقَدْ مَنَعَ بَيْعَ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَطَاوُسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَهُوَ قَوْلُ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْهَاشِمِيِّ

وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَزُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيَّ وَغَيْرِهِمْ. وَمَنَعَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مِنْ بَيْعِ الْكُفَّارِ مَا يَتَقَوُّونَ بِهِ مِنْ كُرَاعٍ وَسُرُوجٍ وَحَرْثِي وَغَيْرِهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، ذَكَرَهُمَا فِي الْحَاوِي، وَجَرَى التَّصْرِيحُ عَنْ السَّلَفِ بِتَحْرِيمِ هَذَا الْبَيْعِ وَبِفَسَادِهِ أَيْضًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الشَّامِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ تَبَعًا لِلسَّلَفِ، فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ لِي كُرُومًا فَأَعْصِرُهَا خَمْرًا فَأَعْتِقُ مِنْ ثَمَنِهَا الرِّقَابَ، وَأَحْمِلُ عَلَى جِيَادِ الْخَيْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَتَصَدَّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِسْقٌ إنْ أَنْفَقَتْ وَفِسْقٌ إنْ تَرَكَتْ، فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَعَقَرَ كُلَّ شَجَرَةِ عِنَبٍ كَانَ يَمْلِكُهَا وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ عَنْ شَرَاحِيلَ بْنِ بُكَيْر أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ بَيْعِ الْعَصِيرِ فَقَالَ: لَا يَصْلُحُ. فَقَالَ: إنْ عَصَرْته ثُمَّ شَرِبْته مَكَانِي قَالَ: فَلَا بَأْسَ. قَالَ: فَمَا بَالُ بَيْعِهِ حَرَامٌ وَشُرْبُهُ حَلَالٌ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ. مَا أَدْرِي أَجِئْتَ تَسْتَفْتِينِي أَمْ جِئْتَ تُمَارِينِي. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: نُهِيَ عَنْ بَيْعِهِ؛ لِأَنَّهُ يُصْرَفُ إلَى الْخَمْرِ إلَّا أَنْ يَكُون يَسِيرًا. وَبِكَوْنِ مُبْتَاعِهِ مَأْمُونًا يُعْلَمُ أَنَّهُ إنَّمَا يَشْتَرِيهِ لِيَشْرَبَهُ عَصِيرًا كَمَا هُوَ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْكَرْمِ إذَا خِيفَ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِيهِ إنَّمَا يَشْتَرِيهِ لِعَصْرِهِ خَمْرًا فَلَا يَحِلُّ بَيْعُهُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مُشْتَرِيهِ مُسْلِمًا يُخَالِفُ أَنْ يَسْتَحِلَّ ذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا فَلَا يَحِلُّ بَيْعُهُ مِنْهُ عَلَى حَالٍ؛ لِأَنَّ شَأْنَهُمْ عَصِيرُ الْخَمْرِ وَبَيْعُهَا، قَدْ كَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَضَرَبَ الْأَوْزَاعِيُّ، لِذَلِكَ مَثَلًا كَمَنْ بَاعَ سِلَاحًا مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْتُلُ بِهِ مُسْلِمًا. قَالَ وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ الْعَسَلَ أَوْ التَّمْرَ أَوْ الزَّبِيبَ أَوْ الْقَمْحَ مِمَّنْ يَعْمَلُ ذَلِكَ شَرَابًا مُسْكِرًا وَكَرِهَ طَعَامَ عَاصِرِ الْخَمْرِ وَبَائِعِهَا وَكَرِهَ مُبَايَعَتَهُ وَمُخَالَطَتَهُ فِي مَالِهِ إذَا كَانَ مُسْلِمًا وَكَرِهَ أَيْضًا أَنْ يُكْرِيَ الرَّجُلُ لِبَيْتِهِ أَوْ حَانُوتِهِ مِمَّنْ يَبِيعُ فِيهَا الْخَمْرَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ نَصْرَانِيًّا. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَقَدْ نَهَى ابْنُ عُمَرَ أَنْ يُكْرِيَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ أَوْ حَانُوتَهُ مِمَّنْ يَبِيعُ فِيهَا الْخَمْرَ. حَدَّثَنِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ نَافِعٍ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَمَنْ فَعَلَ مَا نَهَى عَنْهُ بِأَنْ بَاعَ كَرْمَهُ مِمَّنْ يَعْصِرُهُ خَمْرًا أَوْ أَكْرَى دَارِهِ أَوْ حَانُوتَهُ مِمَّنْ يَبِيعُ فِيهَا الْخَمْرَ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ.

وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ يُبَيِّنُ أَنَّ إمْسَاكَ هَذَا الثَّمَنِ فُسُوقٌ، وَأَنَّ إنْفَاقَهُ فِسْقٌ، وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ مَا يَكُونُ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ الثَّمَنُ حَلَالًا فَإِنَّا لَا نَعْنِي بِفَسَادِ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ الثَّمَنَ الَّذِي أَخَذَهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ إذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَى مَالِكِهِ، كَمَا يَتَصَدَّقُ بِكُلِّ مَالٍ حَرَامٍ لَمْ يَعْرِفْ مَالِكَهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَعَلَيْهِ دَلَّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ حَرَامٌ وَلَا نَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ خِلَافَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُ الرُّخْصَةَ فِي بَيْعِ الْعَصِيرِ لِمَنْ يُخَمِّرْهُ عَمَّنْ بَعْدَ التَّابِعِينَ مِثْلَ سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ وَهَذَا مُطْلَقٌ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِ الْمُشْتَرِي وَيُحْتَمَلُ الْعُمُومُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَدَّعِيَ عَدَمَ الْخِلَافِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ؟ . وَلَوْ قِيلَ لِقَائِلِ ذَلِكَ انْقُلْ لَنَا عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ الرُّخْصَةَ فِي ذَلِكَ لَا بَأْسَ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ الْهُدَى وَالسَّدَادَ بِفَضْلِهِ وَمَنِّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ وَبَيْنَ هَذَا أَنَّ الرِّضَا مُعْتَبَرٌ فِي صِحَّةِ الْعُقُودِ فَنَقُولُ وَهَلْ الرِّضَا الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ الرَّاضِي نَفْسِهِ إلَّا نَوْعٌ مِنْ الْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ، أَوْ صِفَةٌ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ، فَإِذَا كَانَ النَّوْعُ أَوْ الْمَلْزُومُ شَرْطًا فَالْجِنْسُ وَاللَّازِمُ شَرْطٌ بِالضَّرُورَةِ، فَإِنَّ وُجُودَ النَّوْعِ بِدُونِ الْجِنْسِ أَوْ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ مُحَالٌ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْفَرْقُ مَعَ وُجُودِ هَذَا الْجَمْعِ؟ نَعَمْ قَدْ يَقُولُ الْمُنَازِعُ إنَّمَا اُشْتُرِطَ هَذَا لِلْقَدْرِ مِنْ الْقَصْدِ فَقَطْ، فَنَقُولُ إنَّمَا اشْتَرَطَهُ لِعَدَمِ قَصْدِ الْإِنْسَانِ فِي الْعَقْدِ، وَأَنَّهُ إلْزَامُ مَا لَمْ يَرُدَّهُ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِهِ فَقَطْ لِقَصْدٍ آخَرَ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ بِهِ ضَرَرًا لَا يَجُوزُ. فَنَقُولُ هَذَا مَوْجُودٌ فِي الْمُحَلِّلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُحْتَالِينَ، فَإِنَّ تَصْحِيحَ عَقْدٍ لَمْ يَرُدَّهُ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِهِ فَقَطْ لِقَصْدٍ آخَرَ يَسْتَحِلُّ بِهِ مُحَرَّمًا لَا يَجُوزُ. وَقَدْ بَيَّنَّا اعْتِبَارَ الْمَقْصُودِ فِي الْعُقُودِ فِيمَا مَضَى، وَأَمَّا ذِكْرُ الشُّرُوطِ الْمُقْتَرِنَةِ فِي الْعَقْدِ فَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا نَحْنُ فِيهِ، لَكِنْ إنَّمَا تُورَدُ فِيمَا إذَا تَوَافَقَا عَلَى التَّحْلِيلِ قَبْلَ الْعَقْدِ، كَمَا هُوَ وَاقِعٌ كَثِيرًا، فَإِنَّ هَذَا أَقْبَحُ مِنْ مُجَرَّدِ الْقَصْدِ، وَحُكْمُ هَذَا حُكْمُ الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُقْتَرِنِ وَالْمُتَقَدِّمِ فِيمَا مَضَى. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَنَقُولُ النِّيَّةُ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ لِمَعْنَيَيْنِ

صَحِيحَيْنِ دُونَ مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا صَحِيحًا، فَإِنَّ النِّيَّةَ الْبَاطِنَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، فَلَيْسَ فِي هَذَا الْكَلَامِ أَكْثَرُ مِنْ مُجَرَّدِ حِكَايَةِ الْمَذْهَبِ، وَحَسْبُهُ مِنْ الْجَوَابِ لَا تُسَلِّمُ فَإِنَّ الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةَ يَكْفِيهَا الْمَنْعُ الْمُجَرَّدُ، ثُمَّ نَقُولُ أَتَقُولُ إنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ ظَاهِرًا، أَمْ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا؟ . الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَا يَضُرُّنَا ذَلِكَ، فَإِنَّا لَمْ نَدَّعِ أَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ تُبْطِلُ حُكْمَ اللَّفْظِ ظَاهِرًا. وَإِنَّمَا قُلْنَا الْعَقْدُ فِي الْبَاطِنِ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الْمُحَلِّلِ. وَإِنْ كَانَ حَلَالًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِالتَّحْلِيلِ فَيَأْثَمُ بِوَطْئِهَا وَبِإِعَادَتِهَا إلَى الْأَوَّلِ. وَهِيَ لَا تَأْثَمُ بِتَمْكِينِهِ كَمَنْ تَزَوَّجَ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ، وَإِنْ قَالَ إنَّ النِّيَّةَ الْبَاطِنَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ بِحَالٍ، فَيَنْتَقِضُ عَلَيْهِ بِصَرَائِحِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا، إذَا صَرَفَهَا بِنِيَّتِهِ إلَى مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي الْبَاطِنِ، فَكَذَلِكَ لَفْظُ نَكَحْتُ يَحْتَمِلُ نِكَاحَ التَّحْلِيلِ وَقَدْ نَوَاهُ فَيَنْصَرِفُ اللَّفْظُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا أَوْ مُتَوَاطِئًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ فِيهِ ظَاهِرًا وَالْآخَرُ بَاطِنًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَصًّا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ، فَأَمَّا الْمُشْتَرَكُ فَتُؤَثِّرُ النِّيَّةُ فِيهِ كَمَا فِي الْكِنَايَاتِ، وَكَذَلِكَ الْمُتَوَاطِئُ كَقَوْلِهِ اشْتَرَيْت فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ تُقَيِّدُهُ النِّيَّةُ لَهُ أَوْ لِمُوَكِّلِهِ، وَأَمَّا النَّصُّ فَلَا تَعْمَلُ النِّيَّةُ فِي خِلَافِ مَعْنَاهُ، وَأَمَّا الظَّاهِرُ فَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي أَنَّ النِّيَّةَ تُؤَثِّرُ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَاللَّفْظُ الصَّرِيحُ يَشْتَمِلُ النَّصَّ وَالظَّاهِرَ، فَقَوْلُهُ إنَّ اللَّفْظَ هُنَا صَرِيحٌ فَلَا تَعْمَلُ النِّيَّةُ فِيهِ مَنْقُوضٌ بِمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصُّوَرِ، بَلْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ لَفْظَ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ ظَاهِرٌ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ مِثْلَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنِكَاحِ الشِّغَارِ وَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا قَالَ نَكَحْت وَنَوَى نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ فَقَدْ قَصَدَ بِاللَّفْظِ مَا يَحْتَمِلُهُ. ثُمَّ مَنْ نَوَى مَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ إنْ كَانَ الْمَنْوِيُّ لَهُ دِينَ فِي الْبَاطِنِ إذَا أَمْكَنَ وَفِي قَبُولِهِ فِي الْحُكْمِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ. إذَا كَانَ الِاحْتِمَالُ قَرِيبًا مِنْ الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي نَوَاهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ قُمْت، ثُمَّ قَالَ سَبَقَ لِسَانِي بِالشَّرْطِ وَلَمْ أُرِدْهُ. أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَنْكِحُ فُلَانَةَ وَنَكَحَهَا نِكَاحًا فَاسِدًا. وَقَالَ نَوَيْت الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ. فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ قَدْ نَوَى التَّحْلِيلَ عُلِمَتْ نِيَّتُهُ فِي الْبَاطِنِ فِي جَانِبِهِ خَاصَّةً. فَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ نَوَى ذَلِكَ قُبِلَ فِيمَا عَلَيْهِ مِنْ إفْسَادِ النِّكَاحِ فِي حَقِّهِ ثُمَّ هَذَا قِيَاسٌ بِجَمِيعِ أَلْفَاظِ الْعُقُودِ

الْمُفْرَدَةِ وَالْمُقْتَرِنَةِ مِنْ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالْوَقْفِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالنِّكَاحِ. فَكَيْفَ يُقَالُ بَعْدَ هَذَا إنَّ النِّيَّةَ الْبَاطِنَةَ لَا أَثَرَ لَهَا فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، وَلَوْ قَالَ زَوَّجْتُك بِنْتِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، لَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ صَرِيحًا فِي نَقْدِ الْبَلَدِ الْغَالِبِ، فَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ نَوَيْت النَّقْدَ الْفُلَانِيَّ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ أَوْ دُونَهُ قُبِلَ مِنْهُ إنْ صَدَّقَ الْآخَرُ عَلَيْهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا السُّؤَالُ دَلِيلٌ قَوِيٌّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ نَوَى بِاللَّفْظِ مَعْنًى مُحْتَمَلًا يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ مَا نَوَاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، كَمَا لَوْ نَوَى ذَلِكَ بِسَائِرِ أَلْفَاظِ الْعُقُودِ، أَوْ يَقُولُ كَمَا لَوْ نَوَى ذَلِكَ بِأَلْفَاظِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، وَبِهَذِهِ الْأُصُولِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ أَيْضًا بَيْنَ طَلَاقِ الْهَازِلِ وَالطَّلَاقِ الَّذِي نَوَى بِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ، فَإِنَّهُ إذَا هَزَلَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعِتْقِ وَنَحْوِهِمَا وَقَعَ، وَلَوْ نَوَى بِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا تَرَدُّدٍ وَقُبِلَ فِي الْحُكْمِ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ عَلَيْهِ بِلَا تَرَدُّدٍ أَيْضًا، فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ إذَا هَزَلَ بِهِ وَقَعَ، وَإِذَا نَوَى بِالْعَقْدِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ عَمِلَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا تَرَدُّدٍ وَقُبِلَ فِي الْحُكْمِ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ عَلَيْهِ بِلَا تَرَدُّدٍ أَيْضًا، فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ إذَا هَزَلَ بِهِ وَقَعَ، وَإِذَا نَوَى بِالْعَقْدِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ عَمِلَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا نَوَى وَقُبِلَ مَا نَوَاهُ فِي الْحُكْمِ فِي جِهَتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِفَسَادِ النِّكَاحِ مَقْبُولٌ مِنْهُ فِيمَا يَخُصُّهُ، وَمِنْ النُّقُوضِ الْمُوَجَّهَةِ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ النِّيَّةُ الْبَاطِنَةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، أَنَّ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ مُقْتَضَاهَا سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ إذَا نَوَى مَا يُخَالِفُهَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي إبْطَالِ مُقْتَضَاهَا، فِي الْبَاطِنِ وَمِنْ ذَلِكَ عُقُودُ الْهَازِلِ، فَإِنَّ أَكْثَرَهَا أَوْ عَامَّتَهَا عِنْدَ الْمُخَالِفِ بَاطِلَةٌ لِعَدَمِ قَصْدِهَا، فَقَدْ أَثَّرَتْ النِّيَّةُ الْبَاطِنَةُ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ. وَلَنَا أَنْ نَنْقُضَ عَلَيْهِ بِصُوَرٍ وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْتَقِدُهَا فَإِنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ أَنَّك إذَا لَمْ تَعْتَقِدْ صِحَّةَ دَلِيلِك فَكَيْفَ تُلْزِمُهُ غَيْرَك إذَا كَانَ هُوَ أَيْضًا لَا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ، وَلِهَذَا قَالُوا لَيْسَ لِلْمُنَاظِرِ أَنْ يُلْزِمَ صَاحِبَهُ مَا لَا يَعْتَقِدُهُ هُوَ إلَّا النَّقْضَ؛ لِأَنَّ مَا سِوَى النَّقْضِ اسْتِدْلَالٌ، وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِمَا لَا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ، وَالنَّقْضُ لَيْسَ اسْتِدْلَالًا، لَكِنْ إذَا انْقَضَتْ الْعِلَّةُ عَلَى أَصْلِ الْمُسْتَدِلِّ فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى فَسَادِهَا، أَمَّا الْمُسْتَدِلُّ فَبِصُورَةِ النَّقْضِ وَأَمَّا الْآخَرُ فَمَحَلُّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْ هَذِهِ الْعِلَّةِ، فَالْمُسْتَدِلُّ يَقُولُ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهَا فِي صُورَةِ النَّقْضِ، وَالْآخَرُ يَقُولُ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ

عَنْهَا فِي الْفَرْعِ الَّذِي هُوَ مَحْمَلُ النِّزَاعِ، وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُتَخَلِّفًا عَنْهَا وِفَاقًا كَانَتْ مُنْتَقِضَةً وِفَاقًا. وَتَخْلِيصُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ إلَّا بِمَا هُوَ دَلِيلٌ عِنْدَهُ، فَإِذَا اسْتَدَلَّ بِمَا هُوَ دَلِيلٌ عِنْدَ مُنَاظِرِهِ دُونَهُ كَانَ حَاصِلُهُ إظْهَارَ مُنَاقَضَةِ الْمُنَاظِرِ لِإِثْبَاتِ مَذْهَبِ نَفْسِهِ، وَهَذَا لَيْسَ اسْتِدْلَالًا وَإِنَّمَا هُوَ اعْتِرَاضٌ فِي الْمَعْنَى، فَأَمَّا الْمُعْتَرِضُ فَاعْتِرَاضُهُ إنْ كَانَ مَنْعًا فَلَيْسَ هُوَ إلْزَامًا، وَإِنْ كَانَ مُعَارَضَةً فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَارِضَ بِمَا هُوَ دَلِيلٌ عِنْدَ الْمُسْتَدِلِّ وَلَيْسَ دَلِيلًا عِنْدَهُ إذَا كَانَ هُوَ لَا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ كَمَا ذَكَرْنَا فِي النَّقْضِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ أَيْضًا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ، وَقَدْ عَارَضَهُ بِمَا هُوَ دَلِيلٌ عِنْدَ الْمُسْتَدِلِّ دُونَهُ فَحَاصِلُهُ يَرْفَعُ إلَى مُنَاقَضَةِ الْمُسْتَدِلِّ، وَفِي الْحَقِيقَةِ فَكِلَاهُمَا مَخْصُومٌ، أَمَّا الْمُسْتَدِلُّ فَاسْتَدَلَّ بِدَلِيلٍ مُعْتَرَضٍ عَنْ مُرَجَّحٌ، وَأَمَّا الْمُعْتَرَضُ فَتَرْكُ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارَضِ الْمُقَاوَمِ. وَمِنْ ذَلِكَ صُوَرُ الْوَكَالَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ اشْتَرَيْت مُقْتَضَاهُ الِاشْتِرَاءُ لَهُ لَا يَحْتَاجُ فِي ثُبُوتِهِ إلَى نِيَّةٍ، ثُمَّ إذَا نَوَى الشِّرَاءَ لِمُوَكِّلِهِ أَوْ لِشَرِيكِهِ صَحَّ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ. وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَاهُ لِغَيْرِ مُوَكِّلِهِ عَلَى خِلَافٍ مَشْهُورٍ، وَقَوْلُ الْمُعْتَرِضِ إنَّ قَوْلَهُ اشْتَرَيْت مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الِاشْتِرَاءِ لَهُ وَلِمُوَكِّلِهِ غَلَطٌ، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي الشِّرَاءِ لَهُ مُحْتَمِلٌ لِلشِّرَاءِ لِمُوَكِّلِهِ، وَرُبَّمَا قَدْ يُنَازِعُنَا فِيمَا إذَا كَانَتْ الْوَكَالَةُ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لِظُهُورِ الشِّرَاءِ لِلْمُوَكِّلِ، فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ، فَنَنْقُلُ الْكَلَامَ إلَى شِرَاءِ الْوَلِيِّ مِثْلَ وَصِيِّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَشِرَاءِ الِابْنِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ مُطْلَقَ هَذَا الْعَقْدِ يَقْتَضِي الشِّرَاءَ لِنَفْسِ الْمُشْتَرِي ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَالنِّيَّةُ الْبَاطِنَةُ تَعْمَلُ فِي مُقْتَضَى هَذَا السَّبَبِ الظَّاهِرِ، وَلَا يَدَّعِي أَحَدٌ أَنَّ اللَّفْظَ هُنَا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمُوَلِّيهِ، بَلْ مُقْتَضَى اللَّفْظِ هُنَا الشِّرَاءُ لِنَفْسِهِ، كَمَا أَنَّ مُقْتَضَى لَفْظِ النِّكَاحِ هُوَ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ الشَّرْعِيُّ، ثُمَّ هُنَا إذَا نَوَى الشِّرَى لِمُوَلِّيهِ أَثَّرَتْ النِّيَّةُ فِي مُقْتَضَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ، فَكَذَلِكَ هُنَاكَ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ الْمَنْوِيَّ هُنَاكَ جَائِزٌ وَهُنَا غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ نَوَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ وَهُنَا نَوَى أَنْ يَكُونَ مُحَلِّلًا وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِ النِّيَّةِ تُؤَثِّرُ فِي مُقْتَضَى الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا مُؤْثَرَةٌ بِحَسَبِهَا إنْ خَيْرًا فَخَيْرًا وَإِنْ شَرًّا فَشَرًّا، وَهَذَا الْفَرْقُ لَمْ يَجُزْ إلَّا مِنْ خُصُوصِ الْمَنْوِيِّ، وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَإِنَّ النِّيَّاتِ وَإِنْ اشْتَرَكَتْ فِي كَوْنِهَا نِيَّةً فَلَا بُدَّ أَنْ تَفْتَرِقَ فِي مُتَعَلَّقَاتِهَا.

إذَا تَبَيَّنَ هَذَا: فَقَوْلُهُ النِّيَّةُ إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ إنْ عَنَى بِهِ الِاحْتِمَالَ الْمُسَاوِيَ لِصَاحِبِهِ، فَلَيْسَ احْتِمَالُ لَفْظِ الْعَقْدِ لِلْمُوَلِّي وَالْمُوَكِّلِ مُسَاوِيًا، فَلَا يَصِحُّ كَلَامُهُ، وَإِنْ عَنَى بِهِ مُطْلَقَ الِاحْتِمَالِ الْمُسَاوِي أَوْ الْمَرْجُوحِ، فَهَذَا لَا يُخْرِجُ اللَّفْظَ عَنْ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الظَّاهِرَةِ. وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ قَدْ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ؛ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ فِي كُلِّ لَفْظٍ مُحْتَمَلٍ. وَنَفْيُ عَمَلِهَا فِي الظَّوَاهِرِ وَهِيَ مُحْتَمَلَةٌ وَهُوَ كَلَامٌ مُتَهَافِتٌ. وَإِنْ عَنَى بِالصَّرِيحِ النَّصَّ فَهُوَ خِلَافُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ. فَإِنَّ صَرَائِحَ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ ظَوَاهِرُ فِيهِ تَحْتَمِلُ غَيْرَهُ لَيْسَتْ نُصُوصًا ثُمَّ مَعَ هَذَا لَا يَنْفَعُهُ هَذَا الْكَلَامُ. فَإِنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ، وَلِهَذَا يُقَالُ نِكَاحٌ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ. وَيُقَالُ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ. وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ مَجَازٌ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ اللَّفْظَ عَنْ أَنْ يَكُونَ نَصًّا إلَى أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا وَهُوَ مَدْخَلٌ لِلَّفْظِ النِّكَاحِ فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي نَتَكَلَّمُ عَلَى تَقْرِيرِهِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ دَاخِلًا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَعْنِي الصَّرِيحَ بَلْ فِي الْأَوَّلِ؛ صَارَ الْكَلَامُ حُجَّةً عَلَيْهِ لَا لَهُ. وَكَذَلِكَ هُوَ فَإِنَّ الْمُعْتَرِضَ بِهَذِهِ الْأَسْئِلَةِ رَدَّ بِهَا كَلَامَ مَنْ احْتَجَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ لِلنِّيَّةِ تَأْثِيرًا فِي الْعُقُودِ كَعَقْدِ التَّوْكِيلِ وَنَحْوِهِ. فَزَعَمَ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الْمُحْتَمَلِ دُونَ الصَّرِيحِ. وَأَنَّ الْوَكَالَةَ مِنْ الْمُحْتَمَلِ وَالنِّكَاحَ مِنْ الصَّرِيحِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَك أَنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. فَأَيُّ تَفْسِيرٍ فَسَّرَ الْمُحْتَمَلَ وَالصَّرِيحَ دَخَلَ فِيهِ الْقِسْمَانِ جَمِيعًا. وَهَذَا تَوْكِيدٌ لِلْحُجَّةِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعِ فَجَوَابُهُ: أَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ مُطْلَقًا. وَقَوْلُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ مُطْلَقًا فَلَا تَأْثِيرَ لَهَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ النِّيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ تَنْقَسِمُ إلَى مُؤَثِّرٍ فِي الْعَقْدِ إلَى غَيْرِ مُؤَثِّرٍ. كَمَا أَنَّ الشُّرُوطَ تَنْقَسِمُ إلَى مُؤَثِّرٍ وَغَيْرِ مُؤَثِّرٍ فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ يُنَافِي مُوجَبَ الْعَقْدِ كَاشْتِرَاطِ عَدَمِ الصَّدَاقِ كَانَ بَاطِلًا. وَإِذَا لَمْ يُنَافِهِ كَاشْتِرَاطِ مَصْلَحَةِ الْعَقْدِ أَوْ الْعَاقِدِ لَمْ يَكُنْ بَاطِلًا، وَكَذَلِكَ النِّيَّةُ إذَا كَانَتْ مُنَافِيَةً لِمُوجَبِ الْعَقْدِ أَوْ لِمُقْتَضَى الشَّرْعِ كَانَتْ مُؤَثِّرَةً، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُنَافِيَةً لَمْ تُؤَثِّرْ فَمَنْ نَوَى بِالشِّرَى الْقُنْيَةَ أَوْ التِّجَارَةَ لَمْ يَخْرُجْ بِهَذِهِ النِّيَّةِ عَنْ مُقْتَضَى الْبَيْعِ. بِخِلَافِ مَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ أَمَّا مَنْ قَصَدَ أَنْ يَعْقِدَ لِيَفْسَخَ لَا لِغَرَضٍ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ قَصَدَ مَنْفَعَةً مُحَرَّمَةً بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَهَذَا قَصَدَ مَا يُنَافِي الْعَقْدَ وَالشَّرْعَ. فَكَذَلِكَ أَثَّرَ فِي الْعَقْدِ وَقَدْ تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ حَيْثُ لَا

يُؤَثِّرُ الشَّرْطُ، فَإِنَّهُ لَوْ قَصَدَ التَّدْلِيسَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ الْمُسْتَنْكِحِ أَوْ الْمَنْكُوحَةِ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا مُثْبِتًا لِخِيَارِ الْفَسْخِ أَوْ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ. وَلَوْ شَرَطَ ذَلِكَ لَكَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا لَازِمًا. فَظَهَرَ أَنَّ الْقَصْدَ يُؤَثِّرُ حَيْثُ لَا يُؤَثِّرُ الشَّرْطُ. كَمَا أَنَّ الشَّرْطَ يُؤَثِّرُ حَيْثُ لَا يُؤَثِّرُ الْقَصْدُ. وَقَدْ يُؤَثِّرَانِ جَمِيعًا إذَا كُلٌّ مِنْهُمَا مُخَالِفٌ لِلْآخَرِ فِي وَحْدِهِ وَحَقِيقَتِهِ. وَإِنَّمَا غَلِطَ هُنَا مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ هُوَ الشَّرْطُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الْخَامِسُ: فَقَدْ اعْتَرَفَ الْمُعْتَرِضُ بِفَسَادِهِ وَقَالَ نَحْنُ لَا نَدَّعِي أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَهُوَ كَمَا قَالَ فَإِنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِ الْحَدِيثِ فَنَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، فَلَا نَحْكُمُ فِي عَقْدٍ أَنَّهُ عَقْدُ تَحْلِيلٍ، حَتَّى يَثْبُتَ ذَلِكَ إمَّا بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ، أَوْ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى تَوَاطُئِهَا قَبْلَ الْعَقْدِ، أَوْ تَشْهَدُ بِعُرْفٍ جَارٍ بِصُورَةِ التَّحْلِيلِ، فَإِنَّ الْعُرْفَ الْمُطَّرِدَ عَلَى حَالٍ جَارٍ مَجْرَى الشَّرْطِ بِالْمَقَالِ، لَكِنَّا وَإِنْ لَمْ نَحْكُمْ إلَّا بِالظَّاهِرِ فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُعَامِلَ اللَّهَ تَعَالَى إلَّا بِالْبَيِّنَاتِ الصَّحِيحَةِ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَنْوِيَ بِالشَّيْءِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَعَلَيْنَا أَنْ نَنْهَى النَّاسَ عَمَّا نَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ النِّيَّاتِ الْبَاطِنَةِ، وَإِنْ لَمْ نَعْتَقِدْ أَنَّهَا فِيهِمْ، كَمَا نَنْهَاهُمْ عَنْ سَائِرِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَأَنْ لَا نَكْتُمَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدَ مَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي تَضَمَّنَ طَاعَةَ الرَّسُولِ. - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتِّبَاعَ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَعَلَيْنَا أَنْ لَا نُعِينَ أَحَدًا بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعَانَةِ عَلَى عَقِبٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ تَحْلِيلٌ، وَإِنْ لَمْ نَحْكُمْ بِأَنَّهُ تَحْلِيلٌ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ نُعِينَ أَحَدًا عَلَى عَمَلٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى قَتْلِ مَعْصُومٍ أَوْ وَطْءِ مُحَرَّمٍ، وَيَنْبَغِي الِاحْتِرَازُ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى مَا يُخَافُ أَنْ يَكُونَ تَحْلِيلًا وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الْقَلْبِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْغَرَضُ هُنَا بَيَانُ تَحْرِيمِ التَّحْلِيلِ وَفَسَادُ عَقْدِ الْمُحَلِّلِ فِي الْبَاطِنِ. وَأَمَّا تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ فَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا بَيِّنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَصْلٌ وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْطَانُ لِلتَّحْلِيلِ حِيلَةً أُخْرَى وَهِيَ أَنْ يُزَوِّجَهَا الرَّجُلُ الْمُطَلِّقُ مِنْ عَبْدِهِ بِنِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْهَا أَوْ يَهَبَهُ لَهَا، فَإِذَا وَطِئَهَا الْعَبْدُ بَاعَهَا ذَلِكَ الْعَبْدُ أَوْ بَعْضُهُ أَوْ وَهَبَهَا

ذَلِكَ وَالْمَرْأَةُ إذَا مَلَكَتْ زَوْجَهَا أَوْ شِقْصًا مِنْهُ انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَالْمُخَادِعُونَ يُؤْثِرُونَ هَذِهِ الْحِيلَةَ لِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفُرْقَةَ هُنَا تَكُونُ بِيَدِ الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ أَوْ الزَّوْجَةِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الزَّوْجُ مِنْ الِامْتِنَاعِ مِنْ الْفُرْقَةِ، بِخِلَافِ الصُّورَةِ الْأُولَى فَإِنَّهُ قَدْ يَمْتَنِعُ مِنْ الطَّلَاقِ، فَيُمْكِنُهُ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ. الثَّانِي: زَعَمُوا أَنَّهُ أَسْتَرُ لَهُمَا مِنْ إدْخَالِ أَجْنَبِيٍّ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَإِنَّ إيطَاءَ عَبْدِهِ لَيْسَ كَإِيطَاءِ مَنْ يُسَامِيهِ فِي الْحُرِّيَّةِ، ثُمَّ ذَهَبَ بَعْدَ الشُّذُوذِ إلَى أَنَّ وَطْءَ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يُجَامِعُ مِثْلَهُ يُحِلُّهَا، فَإِذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُجْبِرُهُ عَلَى النِّكَاحِ صَارَ بِيَدِ الْمُطَلِّقِ الْعَقْدُ وَالْفَسْخُ مِنْ غَيْرِ مَا يُعَارِضُهُ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَمِنْهُمْ مَنْ يُجْبِرُهُ عَلَى النِّكَاحِ فَيَصِيرُ بِيَدِ السَّيِّدِ الْعَقْدُ وَالْفَسْخُ أَيْضًا، وَجَعَلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَعْنِي فِيمَا إذَا زَوَّجَهَا مِنْ عَبْدِهِ الْكَبِيرِ احْتِمَالًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَنْوِ التَّحْلِيلَ وَإِنَّمَا نَوَاهُ غَيْرُهُ، وَالْعِبْرَةُ فِي التَّحْلِيلِ بِنِيَّةِ الزَّوْجِ لَا بِنِيَّةِ غَيْرِهِ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ أَبْلَغُ فِي الْمُخَادَعَةِ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَالِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَالتَّلَاعُبِ بِحُدُودِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ هُنَاكَ كَانَ الْمُحَلِّلُ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ الْفُرْقَةُ لَا بِيَدِ غَيْرِهِ، وَهُنَا جُعِلَتْ الْفُرْقَةُ بِيَدِ الْمُطَلِّقِ وَالْمَرْأَةِ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ تَحْتَ حَجْرِ الزَّوْجِ بِأَنْ يَكُونَ وَصِيًّا لَهَا، فَيَرَى أَنْ يَهَبَهَا الْعَبْدَ وَيَقْبَلَهُ هُوَ أَوْ يَبِيعَهَا إيَّاهُ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَبِيعَ الْوَصِيَّ لِلْيَتِيمِ، فَإِنَّ مَنْ فَتَحَ بَابَ الْمُخَادَعَةِ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ حَدٍّ يَتَعَدَّى مَا أَمْكَنَهُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، وَيَنْتَهِكُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ يَبْقَى الْمُطَلِّقُ مُسْتَقِلًّا بِفَسْخِ النِّكَاحِ، ثُمَّ إنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُهُ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، فَإِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لَهُ فِي النِّكَاحِ وَمِنْ نِيَّةِ هَذَا السَّيِّدِ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَهُ كَانَ الزَّوْجُ أَيْضًا مَخْدُوعًا مَمْكُورًا بِهِ، حَيْثُ أَذِنَ لَهُ فِي نِكَاحٍ بَاشَرَهُ وَلَيْسَ الْقَصْدُ بِهِ نِكَاحًا، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ بِهِ سِفَاحٌ، فَهُنَاكَ إنَّمَا وَقَعَتْ الْمُخَادَعَةُ فِي حَقِّ اللَّهِ فَقَطْ. وَهُنَا وَقَعَتْ الْمُخَادَعَةُ فِي حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ آدَمِيٍّ وَهَذَا هُوَ الزَّوْجُ، وَاللَّعْنَةُ الَّتِي وَجَبَتْ هُنَاكَ عَلَى الْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّلِ لَهُ يَصِيرُ كِلْتَاهُمَا هُنَا عَلَى الْمُطَلِّقِ وَهُوَ الْمُحَلَّلُ لَهُ وَعَلَى الزَّوْجَةِ فَيَقْتَسِمَانِ لَعْنَةَ الْمُحَلِّلِ، وَيَنْفَرِدُ الْمُطَلِّقُ بِلَعْنَةِ الْمُحَلَّلِ لَهُ أَوْ تُشْرِكُهُ الْمَرْأَةُ فِيهَا.

وَمِنْ أَسْرَارِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَعُمُّ هَذَا لَفْظًا كَمَا يَعُمُّهُ مَعْنًى، فَإِنَّ الْعَطْفَ قَدْ يَكُونُ لِلتَّغَايُرِ فِي الصِّفَات كَمَا يَكُونُ لِلتَّغَايُرِ فِي الذَّوَاتِ، فَيُقَالُ لِهَذَا لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَإِنْ كَانَا وَصْفَيْنِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَلِهَذَا قُلْنَا هَذَا أَغْلَظُ فِي التَّحْرِيمِ، حَيْثُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ لَعْنَتَانِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْعَبْدُ قَدْ وَاطَأَهُمْ أَخَذَ بِنَصِيبِهِ مِنْ اللَّعْنَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ نَصِيبِ السَّيِّدِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ عَقْدَ التَّحْلِيلِ إنَّمَا تَمَّ بِرِضَاهُ وَرِضَا السَّيِّدِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمُحَلِّلُ عَبْدًا لِغَيْرِ الْمُطَلِّقِ، فَإِنَّهُ إذَا حَلَّلَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ حَقَّتْ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِمَا، وَيَزِيدُهُ قُبْحًا أَنَّ الزَّوْجَ هُنَا عَبْدٌ لَيْسَ بِكُفْءٍ وَنِكَاحُهُ إمَّا مَنْقُوصٌ أَوْ بَاطِلٌ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ، وَمَنْ يُصَحِّحُهُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ رِضَا جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ التَّحْلِيلَ بِالْعَبْدِ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ الْمُطَلِّقِ بَلْ مِنْ صَدِيقٍ لَهُ يُزَوِّجُهَا بِعَبْدِهِ، وَيُوَاطِئُهَا عَلَى أَنْ يُمَلِّكَهَا إيَّاهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ بِذَلِكَ فَهُوَ كَمَا لَوْ اعْتَقَدَ الزَّوْجُ التَّحْلِيلَ هُنَاكَ وَعَلِمَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ دُونَ الْمُطَلِّقِ، وَإِنْ عَلِمَ فَهُوَ كَمَا لَوْ عَلِمَ هُنَاكَ، وَكَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى التَّحْلِيلِ فَهِيَ حَاصِلَةٌ هُنَا، فَإِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ» ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ إنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ الزَّوْجَ فَالسَّيِّدُ هُنَا بِمَنْزِلَتِهِ وَاللَّفْظُ يَشْمَلُهُ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْصِدْهُ بِلَفْظِ الْمُحَلِّلِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ وَأَوْلَى وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يُزَوِّجَهَا رَجُلٌ بِعَبْدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ أَوْ الْمَجْنُونِ، بِقَصْدِ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَى عَبْدِهِ وَابْنِهِ الصَّغِيرَيْنِ أَوْ الْمَجْنُونَيْنِ، أَوْ بِنِيَّةِ أَنْ يَخْلَعَهَا مِنْهُ، بِأَنْ يُوَاطِئَهَا أَوْ يُوَاطِئَ غَيْرَهَا عَلَى الْخُلْعِ، فَإِنَّ جَوَازَ الْخُلْعِ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ أَقْوَى مِنْ جَوَازِ الطَّلَاقِ، وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَعْقِدَ وَلِيُّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَهُ عُقُودَ حِيَلٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ قَرْضٍ. فَإِنَّ الْحِيَلَ الَّتِي يَحْتَالُهَا الْوَلِيُّ لِلْيَتِيمِ فِي مَالِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَحْتَالُهُ الْمَرْءُ فِي مَالِ نَفْسِهِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ إذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ فِي مُعَامَلَاتٍ مِنْ الْحِيَلِ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُعَامِلَ السَّيِّدُ نَفْسَهُ تِلْكَ الْمُعَامَلَةَ، حَيْثُ حَصَلَ غَرَضُهُ بِفِعْلِ عَبْدِهِ، كَحُصُولِهِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ، وَالِاحْتِمَالُ الَّذِي جُعِلَ فِي مَذْهَبِنَا غَيْرُ مُحْتَمَلٍ أَصْلًا فَإِنَّ قَوْلَهُ الْمُعْتَبَرَ فِي التَّحْلِيلِ بِنِيَّةِ الزَّوْجِ كَلَامٌ غَيْرُ سَدِيدٍ فَمَنْ الَّذِي سَلَّمَ ذَلِكَ، أَوْ مَا الَّذِي دَلَّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ الْمُعْتَبَرُ نِيَّةُ مَنْ يَمْلِكُ فُرْقَةً بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَإِنَّ التَّحْلِيلَ دَائِرٌ مَعَ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ الَّذِي يَقْصِدُ التَّحْلِيلَ مَلْعُونًا، فَاَلَّذِي يَقْصِدُ أَنْ يُحَلِّلَ بِالزَّوْجِ وَيَفْسَخَ نِكَاحَهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَلْعُونًا،

فَإِنَّهُ يُخَادِعُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَعَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ، وَهُوَ نَظِيرُ الرَّجُلِ يُقَدِّمُ إلَى الْعَطْشَاءِ الْمَاءَ فَإِذَا شَرِبَ مِنْهُ قَطْرَةً انْتَزَعَهُ مِنْ فِيهِ، وَلَوْ أَنَّ السَّيِّدَ أَنْكَحَ عَبْدَهُ نِكَاحًا يَقْصِدُ بِهِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ يَوْمٍ مِنْ غَيْرِ تَحْلِيلٍ لَكَانَ خَادِعًا لَهُ مَاكِرًا بِهِ مَلْعُونًا، فَكَيْفَ إذَا قَصَدَ مَعَ ذَلِكَ التَّحْلِيلَ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْلِيلَ هُنَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِأَنْ يَتَوَاطَأَ السَّيِّدُ الْمُطَلِّقُ أَوْ غَيْرُهُ مَعَ الْمَرْأَةِ عَلَى أَنْ يَمْلِكَهَا الزَّوْجَ، أَوْ يَعْلَمُ أَنَّ حَالَ الْمَرْأَةِ تَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا عَرَضَ عَلَيْهَا مِلْكَ الزَّوْجِ لِيَنْفَسِخَ النِّكَاحُ مَلَكَتْهُ، فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعُرْفَ فِي الشُّرُوطِ كَاللَّفْظِ، فَأَمَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْأَةِ رَغْبَةٌ فِي الْعَوْدِ إلَى الْمُطَلِّقِ، وَلَا هِيَ مِمَّنْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مِلْكُهَا لِلْعَبْدِ إذَا عَرَضَ عَلَيْهَا فَهُنَا نِيَّةُ السَّيِّدِ وَحْدَهُ نِيَّةُ مَنْ لَا فُرْقَةَ بِيَدِهِ. ثُمَّ الْعَبْدُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِمَا تَوَاطَأَ عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ، يَكُونُ كَالْمَرْأَةِ إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِنِيَّةِ الزَّوْجِ التَّحْلِيلَ لَا إثْمَ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَلِمَ وَوَافَقَ فَهُوَ آثِمٌ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ إذْنَ السَّيِّدِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، وَالسَّيِّدُ إنَّمَا أَذِنَ فِي نِكَاحِ تَحْلِيلٍ لَا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَيَكُونُ النِّكَاحُ الَّذِي أَجَازَهُ الشَّرْعُ وَقَصَدَهُ الْعَبْدُ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ السَّيِّدُ، وَاَلَّذِي أَذِنَ فِيهِ السَّيِّدُ لَمْ يُجِزْهُ الشَّرْعُ ثُمَّ إنْ أُخْبِرَ الْعَبْدُ فِيمَا بَعْدُ بِمَا تَوَاطَأَ عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْمُقَامُ عَلَى هَذَا النِّكَاحِ لَكِنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ السَّيِّدِ وَحْدَهُ فِي إبْطَالِ نِكَاحِهِ، وَسَائِرِ الْفُرُوعِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي نِيَّةِ الزَّوْجِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ تَجِيءُ فِي نِيَّةِ الزَّوْجَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَبْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ فَأَمَّا إنْ نَوَى التَّحْلِيلَ مَنْ لَا فُرْقَةَ بِيَدِهِ مِثْلَ أَنْ يَنْوِيَ الْفُرْقَةَ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا أَوْ تَنْوِيَهَا الْمَرْأَةُ فَقَطْ أَعَنَى إذَا نَوَتْ أَنَّ الزَّوْجَ يُطَلِّقُهَا، فَقَدْ قَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ التَّحْلِيلِ إذَا هَمَّ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ بِالتَّحْلِيلِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: كَانَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَالتَّابِعُونَ يُشَدِّدُونَ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ أَحْمَدُ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ» . يَقُولُ أَحْمَدُ إنَّهَا كَانَتْ هَمَّتْ بِالتَّحْلِيلِ وَنِيَّةُ الْمَرْأَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ. إنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» ، وَلَيْسَ نِيَّةُ الْمَرْأَةِ بِشَيْءٍ فَقَدْ نَصَّ

الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْمَرْأَةِ لَا تُؤَثِّرُ وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا عَلِمَتْ هِيَ أَوَ زَوْجَهَا الْأَوَّلَ أَوْ لَمْ يَعْلَمَا، وَإِنْ اعْتَقَدَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى التَّحْلِيلِ وَسَأَلَتْهُ لَمَّا دَخَلَ الطَّلَاقَ أَوْ خَالَعَتْهُ بِمَالٍ جَازَ. قَالَ مَالِكٌ: لَا يَضُرُّ الزَّوْجَ مَا نَوَتْ الزَّوْجَةُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ دُونَهَا قَالَ أَصْحَابُهُ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرُ فِي إفْسَادِ النِّكَاحِ مُخْتَصٌّ بِهِ الزَّوْجُ الثَّانِي، سَوَاءٌ فِيهِ وَاطَأَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا أَوْ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ وَنَوَى الْإِحْلَالَ وَالطَّلَاقَ أَخَذَ عَلَيْهِ أَجْرًا أَمْ لَمْ يَأْخُذْ، فَإِذَا لَمْ يُوَاطِئْ الزَّوْجُ الثَّانِي وَلَا نَوَى فَهُوَ نِكَاحُ رَغْبَةٍ وَيُحِلُّهَا، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ وَالْمَرْأَةُ قَدْ تَوَاطَآ عَلَى ذَلِكَ أَوْ دَسَّا إلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَوْ بَذَلَا لَهُ مَالًا كُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ أَمْ لَا. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُمَا: إذَا هَمَّ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ نِكَاحُ مُحَلِّلٍ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَلَفْظُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ إذَا كَانَتْ نِيَّةُ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ أَوْ الزَّوْجِ الثَّانِي أَوْ الْمَرْأَةِ أَنَّهُ مُحَلِّلٌ فَنِكَاحُ هَذَا الْأَخِيرِ بَاطِلٌ وَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ، وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا نَكَحَتْ الرَّجُلَ وَلَيْسَتْ هِيَ رَاغِبَةٌ فِيهِ فَلَيْسَتْ هِيَ نَاكِحَةً كَمَا تَقَدَّمَ، بَلْ هِيَ مُسْتَهْزِئَةٌ بِآيَاتِ اللَّهِ مُتَلَاعِبَةٌ بِحُدُودِ اللَّهِ، وَهِيَ خَادِعَةٌ لِلرَّجُلِ مَاكِرَةٌ بِهِ، وَهِيَ إنْ لَمْ تَمْلِكْ الِانْفِرَادَ بِالْفُرْقَةِ فَإِنَّهَا تَنْوِي التَّسَبُّبَ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ تَحْصُلُ بِهِ غَالِبًا بِأَنْ تَنْوِيَ الِاخْتِلَاعَ مِنْهُ وَإِظْهَارَ الزُّهْدِ فِيهِ وَكَرَاهَتَهُ وَبُغْضَهُ، وَذَلِكَ مِمَّا يَبْعَثُهُ عَلَى خُلْعِهَا أَوْ طَلَاقِهَا، وَيَقْتَضِيهِ فِي الْغَالِبِ، ثُمَّ إنْ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَنْ تَنْوِيَ النُّشُوزَ عَنْهُ، وَفِعْلَ مَا يُكْرَهُ لَهَا، وَتَرْكَ مَا يَنْبَغِي لَهَا، فَهَذَا أَمْرٌ مُحَرَّمٌ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ فِي الْعَادَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَتْ مَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ شَرْعًا، وَإِنْ لَمْ تَنْوِ فِعْلَ مُحَرَّمٍ وَلَا تَرْكَ وَاجِبٍ، فَهِيَ لَيْسَتْ مُرِيدَةً لَهُ، وَمِثْلُ هَذِهِ فِي مَظِنَّةِ أَنْ لَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ مَعَهُ، وَلَا يَلْتَئِمُ مَقْصُودُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا، فَيُفْضِي إلَى الْفُرْقَةِ غَالِبًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ يُوجِبُ الْمَوَدَّةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَالرَّحْمَةَ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَقْصُودُهُ السَّكَنُ وَالِازْدِوَاجُ، وَمَتَى كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ تَكْرَهُ الْمُقَامَ مَعَهُ وَتَوَدُّ فُرْقَتَهُ لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ مَعْقُودًا عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] فَلَمْ يُبِحْ إلَّا نِكَاحًا يُظَنُّ فِيهِ أَنْ يُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ لَا تَظُنُّ أَنْ تُقِيمَ

حُدُودَ اللَّهِ؛ لِأَنَّ كَرَاهِيَتَهَا لَهُ تَمْنَعُ هَذَا الظَّنَّ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَوْفِي مَنَافِعَ الزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ كَمَا يَسْتَوْفِي الرَّجُلُ مَنَافِعَهَا، وَإِذَا كَانَتْ إنَّمَا تَزَوَّجَتْ لِتُفَارِقَهُ وَتَعُودَ إلَى الْأَوَّلِ لَا لِتُقِيمَ مَعَهُ لَمْ تَكُنْ قَاصِدَةً لِلنِّكَاحِ وَلَا مُرِيدَةً لَهُ، فَلَا يَصْلُحُ هَذَا النِّكَاحُ عَلَى قَاعِدَةِ إبْطَالِ الْحِيَلِ، وَأَمَّا نِيَّةُ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا فَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ التَّابِعُونَ إنَّمَا قَالُوا إنَّهُ يَكُونُ النِّكَاحُ بِهَا تَحْلِيلًا، إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي يَسْعَى فِي النِّكَاحِ، فَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ تَخْتَلِعَ الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ زَوْجِهَا، فَإِنَّ هَذَا حَرَامٌ لِمَا أَنَّهُ خَدَعَ رَجُلًا مُسْلِمًا، وَهُوَ قَدْ سَعَى فِي عَقْدٍ يُرِيدُ إفْسَادَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، أَوْ يُشْبِهُ مَا لَوْ كَانَ قَدْ زَوَّجَهَا مِنْ عَبْدِهِ، يُرِيدُ أَنْ يُمَلِّكَهَا إيَّاهُ، وَهِيَ لَمْ تَشْعُرْ بِذَلِكَ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ، بِمَعْنَى أَنَّهَا لَا تَحِلُّ أَنْ تَعُودَ إلَى الْأَوَّلِ بِمِثْلِ هَذَا النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَعْجِيلَ مَا أَجَّلَهُ اللَّهُ فَيُعَاقَبُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَقَدْ يُشْبِهُ هَذَا مَا لَوْ تَسَبَّبَ رَجُلٌ فِي الْفُرْقَةِ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ لِيُطَلِّقَهَا، إمَّا بِأَنْ يُخَبِّبَهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَبْغُضَهُ وَتَخْتَلِعَ مِنْهُ، أَوْ يَشِينَهَا عِنْدَهُ بِبُهْتَانٍ أَوْ غَيْرِهِ حَتَّى يُطَلِّقَهَا، أَوْ أَنْ يَقْتُلَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَيُقَالُ: إنَّ الْفُرْقَةَ وَاقِعَةٌ وَلَا تَحِلُّ لِذَلِكَ الْمُفَرِّقِ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، أَوْ فَعَلَ الْوَارِثُ بِامْرَأَةٍ مَوْرُوثَةٍ مَا يَفْسَخُ نِكَاحَهُ، وَلَيْسَ لَهُ زَوْجَةٌ غَيْرُهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ حَقَّهَا مِنْ الْمِيرَاثِ، وَلَا يُبِيحُ لِلْوَرَثَةِ أَخْذَهُ، وَهَذَا كَمَا يَقُولُهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا اسْتَامَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ أَوْ ابْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ أَوْ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ أَنَّ عَقْدَهُ بَاطِلٌ، فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يُبْطِلُ عَقْدَ مَنْ زَاحَمَ غَيْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْقِدَ فَلَأَنْ يَبْطُلَ عَقْدُ مَنْ تَسَبَّبَ فِي فَسْخِ عَقْدِ الْأَوَّلِ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا، مَتَى نَوَى التَّحْلِيلَ، أَوْ سَعَى فِيهِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ، وَهَذَا قَالُوا إذَا كَانَتْ نِيَّةُ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ مُحَلِّلٌ، فَنِكَاحُ هَذَا الْأَخِيرِ بَاطِلٌ، وَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ، وَهَذَا إنَّمَا يُقَالُ فِيمَنْ لَهُ فِعْلٌ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي، أَمَّا إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُطَلِّقِ الْأَوَّلِ فِعْلٌ أَصْلًا وَقَدْ تَنَاكَحَ الزَّوْجَانِ نِكَاحَ رَغْبَةٍ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَالْأَوَّلُ يَجِبُ أَنْ يُطَلِّقَهَا هَذَا فَطَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَهَذَا أَقْصَى مَا يُقَالُ إنَّهُ مُتَمَنٍّ مُحِبٌّ وَلَيْسَ بِنَاوٍ فَإِنَّ نِيَّةَ الْمَرْءِ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ. وَمَا تَعَلَّقَ بِفِعْلِ غَيْرِهِ فَهُوَ أُمْنِيَّةٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُطَلِّقَ الْأَوَّلَ كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّصْرِيحُ وَالتَّعْرِيضُ بِخِطْبَتِهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ. وَذَلِكَ بَعْدَ عِدَّتِهَا مِنْهُ أَشَدُّ وَأَشَدُّ فَيَكُونُونَ قَدْ حَرَّمُوهَا عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ خَطَبَهَا أَوْ

تَشَوَّقَ إلَيْهَا فِي وَقْتٍ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا يُوجِبُهُ قَوْلُ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الزَّوْجَانِ حَلَّتْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَوَجْهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» ، فَلَوْ كَانَ التَّحْلِيلُ يَحْصُلُ بِنِيَّةِ الزَّوْجِ تَارَةً وَبِنِيَّةِ الزَّوْجَةِ أُخْرَى لَلَعَنَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا، وَكَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ مِنْ لَعْنَةِ أَكْلِ الرِّبَا، وَمُوَكِّلِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْهَا فِي اللَّعْنَةِ عُلِمَ أَنَّ التَّحْلِيلَ الَّذِي يَكُونَ بِالنِّيَّةِ إنَّمَا يُلْعَنُ فِيهِ الزَّوْجُ فَقَطْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَفْظُ الْمُحَلِّلِ يَعُمُّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ، فَإِنَّهَا حَلَّلَتْ نَفْسَهَا بِهَذَا النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ، وَقَالَ هُوَ الْمُحَلِّلُ» ، وَهَذِهِ صِفَةُ الرَّجُلِ خَاصَّةً، ثُمَّ لَوْ عَمَّهُمَا اللَّفْظُ فَإِنَّمَا ذَاكَ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ لِاجْتِمَاعِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ تَحْلِيلُ الرَّجُلِ مَوْجُودًا حَتَّى تَدْخُلَ مَعَهُ الْمَرْأَةُ بِطَرِيقِ التَّبَعِ، أَمَّا إذَا نَوَتْ هِيَ وَهُوَ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَلَيْسَ هُوَ بِمُحَلِّلٍ أَصْلًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا فِي لَفْظِ الْمُذَكَّرِ، إلَّا أَنْ يُقَالَ قَدْ اجْتَمَعَا فِي إرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا فِي عَيْنِ هَذَا النِّكَاحِ، فَإِنَّ مَنْ قَصَدَ الْإِخْبَارَ عَنْ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ مُجْتَمِعَيْنِ وَمُفْتَرِقَيْنِ أَتَى بِلَفْظِ الْمُذَكَّرِ أَيْضًا، فَهَذَا يَمْنَعُ الِاسْتِدْلَالَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَيْضًا فَالْمُحَلِّلُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ حَلَالًا فِي الظَّاهِرِ، وَهِيَ لَيْسَتْ حَلَالًا فِي الْحَقِيقَةِ، وَهَذَا صِفَةُ مَنْ يُمْكِنُهُ رَفْعُ الْعَقْدِ وَالْمَرْأَةُ وَحْدَهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا بِحَدِيثِ تَمِيمَةَ بِنْتِ وَهْبٍ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قَالَ «جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَأَبَتَّ طَلَاقِي، وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ، وَإِنِّي تَزَوَّجْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَمَا مَعَهُ إلَّا مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ أَشَارَتْ لِهُدْبَةٍ أَخَذَتْهَا مِنْ جِلْبَابِهَا فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك، وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ عِنْدَهُ وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَا تَزْجُرُ هَذِهِ عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى التَّبَسُّمِ» . فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ أَنَّهَا مَعَ إرَادَتِهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ لَا يَحِلُّ

لَهُ حَتَّى يُجَامِعَهَا، فَعُلِمَ أَنَّهُ إذَا جَامَعَهَا حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ، وَلَوْ كَانَتْ إرَادَتُهَا تَحْلِيلًا مُفْسِدًا لِلنِّكَاحِ أَوْ مُحَرِّمًا لِلْعَوْدِ إلَى الْأَوَّلِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ، سَوَاءٌ جَامَعَهَا أَوْ لَمْ يُجَامِعْهَا، فَإِنْ قِيلَ لَعَلَّهَا إنَّمَا أَرَادَتْ الرُّجُوعَ إلَى الْأَوَّلِ بَعْدَ حَلِّ عُقْدَةِ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا مُرْتَغِبًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِتُرَاجِعَ الْأَوَّلَ، كَمَا أَرَادَ سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِيَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّهَا ذَكَرَتْ إنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، تُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ جِمَاعِهَا فَأَحَبَّتْ طَلَاقَهُ لِذَلِكَ، ثُمَّ أَرَادَتْ الرُّجُوعَ إلَى الْأَوَّلِ، ثُمَّ الْأَصْلُ عَدَمُ الْإِرَادَةِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ قُلْنَا الْجَوَابُ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا جَوَّزَ لَهَا مُرَاجَعَةَ الْأَوَّلِ إذَا جَامَعَهَا الثَّانِي بَعْدَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ رَغْبَتُهَا فِي الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَفْعَلْ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْإِرَادَةُ حَدَثَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ أَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَهُ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحِلَّ يَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ، فَإِنْ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالَ فِي حِكَايَةِ الْحَالِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ، حَتَّى لَوْ كَانَ احْتِمَالُ تَجَدُّدِ الْإِرَادَةِ هُوَ الرَّاجِحُ لَكَانَ الْإِطْلَاقُ يَعُمُّ الْقِسْمَيْنِ إذَا كَانَ الِاحْتِمَالُ الْآخَرُ ظَاهِرًا، وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي أَلِفَتْ زَوْجًا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَدْ يَبْقَى فِي نَفْسِهَا مِنْهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْوَالِ، وَالنِّسَاءُ فِي الْغَالِبِ يَبْغُضْنَ الطَّلَاقَ وَيُحْبِبْنَ الْعَوْدَ إلَى الْأَوَّلِ أَكْثَرَ مِمَّا يُحْبِبْنَ مُعَاشَرَةَ غَيْرِهِ. الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ كَانَتْ رَاغِبَةً فِي زَوْجِهَا الْأَوَّلِ بِخُصُوصِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا رَغْبَةٌ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَزْوَاجِ، فَفِي حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «قَالَتْ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ فَطَلَّقَهَا، وَكَانَ مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ فَلَمْ تَصِلْ مَعَهُ إلَى أَيِّ شَيْءٍ تُرِيدُهُ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ طَلَّقَهَا، فَأَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي وَإِنِّي تَزَوَّجْت زَوْجًا غَيْرَهُ فَدَخَلَ بِي فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا مِثْلُ الْهُدْبَةِ، فَلَمْ يَقْرَبْنِي إلَّا هَنَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَصِلْ مِنْهُ إلَيَّ شَيْءٌ، فَأَحِلُّ لِزَوْجِي الْأَوَّلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ لَا تَحِلِّينَ لِزَوْجِك الْأَوَّلِ حَتَّى يَذُوقَ الْآخَرُ عُسَيْلَتَك وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَا حَتَّى يَذُوقَ الْآخَرُ مِنْ

عُسَيْلَتِهَا مَا ذَاقَ الْأَوَّلُ» ، وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ «أَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ سِمْوَالَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَمِيمَةَ بِنْتَ وَهْبٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثًا، فَنَكَحَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَغْشَاهَا فَفَارَقَهَا، فَأَرَادَ رِفَاعَةُ أَنْ يَنْكِحَهَا وَهُوَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ الَّذِي كَانَ طَلَّقَهَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَهَاهُ عَنْ تَزْوِيجِهَا. وَقَالَ لَا يَحِلُّ لَك حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ» . وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ الْحَدِيثَ. وَزَادَ «فَقَعَدَتْ ثُمَّ جَاءَتْهُ فَأَخْبَرَتْهُ أَنْ قَدْ مَسَّهَا فَمَنَعَهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إنْ كَانَ إنَّمَا بِهَا أَنْ يَجْعَلَهَا لِرِفَاعَةِ فَلَا يَتِمُّ لَهَا نِكَاحُهُ مَرَّةً أُخْرَى» ، ثُمَّ أَتَتْ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي خِلَافَتِهِمَا فَمَنَعَاهَا، فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهَا اسْتَفْتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا رِفَاعَةُ، لَا طَلَبًا لِفُرْقَتِهِ بَلْ طَلَبًا لِمُرَاجَعَةِ الْأَوَّلِ، وَأَخْبَرَتْ بِصِفَةِ إفْضَائِهِ لِيُفْتِيَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ أَمْ لَا فَلَمَّا أَفْتَاهَا أَنَّهَا لَا تَحِلُّ إلَّا بَعْدَ الْوَطْءِ قَعَدَتْ ثُمَّ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ مَسَّهَا فَعَلِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا كَاذِبَةٌ، وَإِنَّمَا حَمَلَهَا عَلَى الْكَذِبِ أَنَّهَا لَمَّا أَخْبَرَتْ أَوَّلًا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ لَمْ تَحِلَّ، فَأَخْبَرَتْ أَنَّهُ قَدْ مَسَّهَا فَمَنَعَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الرُّجُوعِ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ أَوَّلًا بِأَنَّهُ لَمْ يُوَاقِعْهَا ثُمَّ أَخْبَرَتْ بِخِلَافِهِ فَلَمْ يَقْبَلْ رُجُوعَهَا عَنْ الْإِقْرَارِ، وَقَالَ اللَّهُمَّ إنْ كَانَ مَا بِهَا إلَّا أَنْ تَجْعَلَهَا لِرِفَاعَةِ فَلَا يَتِمُّ لَهَا نِكَاحُهُ مَرَّةً أُخْرَى دُعَاءً عَلَيْهَا عُقُوبَةً عَلَى كَذِبِهَا بِنَقِيضِ قَصْدِهَا لِئَلَّا يَتَسَرَّعَ النَّاسُ فِي الْكَذِبِ الَّذِي يَسْتَحِلُّونَ بِهِ الْحَرَامَ. ثُمَّ إنَّهَا أَتَتْ فِي خِلَافَةِ الشَّيْخَيْنِ وَهَذَا كُلُّهُ أَبْيَنُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهَا إنَّمَا كَانَتْ رَغْبَتُهَا فِي رِفَاعَةَ لَا فِي غَيْرِهِ، وَإِلَّا فَفِي الْأَزْوَاجِ كَثْرَةٌ فَهَذَا الْإِلْحَاحُ فِي نِكَاحِهِ وَتَأَيُّمُهَا عَلَيْهِ عَسَى أَنْ تُمَكَّنُ مِنْ نِكَاحِهِ وَمُرَاجَعَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ وَالدُّخُولُ فِي التَّزْوِيرِ مَعَ أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِهِ مُمْكِنٌ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ مَحَبَّتِهِ مِنْهَا لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ وَالرَّغْبَةُ لَمْ تَتَّحِدْ بِإِعْرَاضِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْهَا، فَإِنَّ إعْرَاضَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْهَا أَكْثَرُ مَا يُوجِبُ إرَادَتَهَا لِلنِّكَاحِ مِمَّنْ كَانَ، أَمَّا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ بِعَيْنِهِ فَإِنَّمَا ذَاكَ لِسَبَبٍ يَخْتَصُّ بِهِ، وَهَذَا لَمْ يَحْدُثْ بَعْدَ النِّكَاحِ بِسَبَبٍ يَقْتَضِيهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا يَحْدُثُ، ثُمَّ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ مِنْهَا لَهُ إنَّمَا سَبَبُهَا مَعْرِفَتُهَا بِهِ حَالَ النِّكَاحِ، وَإِلَّا فَبَعْدَ الطَّلَاقِ لَيْسَ هُنَاكَ مَا يُوجِبُ الْمَحَبَّةَ، نَعَمْ قَدْ يَهِيجُ الشَّوْقُ عِنْدَ الْمَنْعِ مِنْهُ، لَكِنَّ ذَلِكَ مُسْتَنِدٌ إلَى مَحَبَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ، وَلَا يُقَالُ تَزَوَّجْت بِغَيْرِهِ لَعَلَّهَا تَسْلُو

فَلَمَّا لَمْ يَعُفَّهَا، هَاجَ الْحُبُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ وَآخَرَ لَعَلَّهُ يَعُفُّهَا وَتُسَلَّى بِهِ، فَلَمَّا لَمْ تَتَزَوَّجْ إلَّا بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، عُلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ مُرِيدَةً لَأَنْ يُحْلِلَهَا لِلْأَوَّلِ، عَسَى أَنْ تَرْجِعَ إلَيْهِ، وَلَمْ تَتَزَوَّجْ بِغَيْرِهِ خَشْيَةَ أَنْ يُمْسِكَهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا يَكُونُ فِيهِ سَبَبٌ تَطْلُبُ بِهِ فِرَاقَهُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهَا اسْتَفْتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا قَبْلَ الطَّلَاقِ، فَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَتَتْ عَائِشَةَ وَعَلَيْهَا خِمَارٌ أَخْضَرُ، فَشَكَتْ إلَيْهَا خُضْرَةً بِجِلْدِهَا فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنِّسَاءُ يَنْصُرُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا، قَالَتْ عَائِشَةُ مَا رَأَيْت مَا تَلْقَى الْمُؤْمِنَاتُ لَجِلْدُهَا أَشَدُّ خُضْرَةً مِنْ ثَوْبِهَا، قَالَ وَسَمِعَ أَنَّهَا قَدْ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنَانِ مِنْ غَيْرِهَا، فَقَالَتْ وَاَللَّهِ مَا لِي إلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ إلَّا أَنَّ مَا بِهِ لَيْسَ بِأَغْنَى عَنِّي مِنْ هَذِهِ وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ ثَوْبِهَا، فَقَالَ: كَذَبَتْ وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَأَنْفُضُهَا نَفْضَ الْأَدِيمِ وَلَكِنَّهَا نَاشِزٌ تُرِيدُ رِفَاعَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ تَحِلِّينَ لَهُ، وَلَمْ تَصْلُحِينَ لَهُ، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَك، قَالَ وَأَبْصَرَ مَعَهُ ابْنَيْنِ لَهُ، فَقَالَ أَبَنُوك هَؤُلَاءِ، قَالَ نَعَمْ، قَالَ: هَذَا الَّذِي تَزْعُمِينَ فَوَاَللَّهِ لَهُمْ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ» ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ: هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُرْسَلًا عَنْ بِنْدَارٍ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَوَهْبٌ عَنْ أَيُّوبَ مُرْسَلًا، وَقَدْ أَسْنَدَهُ سُوَيْد بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ فَقَالَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ «قَالَ جَاءَتْ الْغُمَيْصَاءُ أَوْ الرُّمَيْصَاءُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَشْكُو زَوْجَهَا، وَتَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَيْهَا، فَمَا كَانَ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ زَوْجُهَا فَزَعَمَ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ وَلَكِنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ لَك ذَلِكَ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَك رَجُلٌ غَيْرَهُ» فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَخِيهِ «أَنَّهَا شَكَتْ زَوْجَهَا قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَزَعَمَتْ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا وَطَلَبَتْ فُرْقَتَهُ لِذَلِكَ، فَكَذَّبَهَا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا بِهَا مُرَاجَعَةُ الْأَوَّلِ وَأَنَّهَا نَاشِزٌ غَيْرُ مُطِيعَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَحِلِّينَ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَك، يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنِّي قَادِرٌ عَلَى وَطْئِهَا وَجِمَاعِهَا وَأَنْ أَنْفُضَهَا نَفْضَ الْأَدِيمِ لَكِنَّهَا نَاشِزٌ لَا تُمَكِّنُنِي، فَإِنَّهَا تُرِيدُ رِفَاعَةَ، فَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَحِلِّينَ لَهُ حَتَّى تَذُوقِي

عُسَيْلَتَهُ، فَطَلَّقَهَا وَلَمْ تَذُقْ الْعُسَيْلَةَ» أَوْ أَنَّهَا لَمَّا ادَّعَتْ عَدَمَ الْوَطْءِ كَانَتْ مُعْتَرِفَةً بِأَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ فَلَمْ تُجْعَلْ حَلَالًا بِدَعْوَى الزَّوْجِ أَنَّهُ وَطِئَهَا إذَا كَانَتْ هِيَ مُعْتَرِفَةً بِمَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، لَكِنَّ حَدِيثَ مَالِكٍ عَنْ وَلَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُعْرِضًا عَنْهَا. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقْتَضِي دَعْوَاهُ إمَّا التَّمْكِينَ مِنْ وَطْئِهَا أَوْ فِعْلَ الْوَطْءِ فَعَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَكُونُ قَدْ جَاءَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ الطَّلَاقِ ثُمَّ جَاءَتْهُ بَعْدَهُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ إمَّا أَنَّهُ كَانَ مُعْتَرِضًا عَنْهَا كَمَا أَخْبَرَتْ أَوْ كَانَتْ نَاشِزًا عَنْهُ كَمَا أَخْبَرَ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الرَّغْبَةِ التَّامَّةِ فِي مُرَاجَعَةِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهَا تَكُونُ قَدْ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ جَاءَتْ الْخَلِيفَتَيْنِ وَمَنْ يَصْدُرُ عَنْهَا مِثْلُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ حِرْصُهَا عَلَى مُرَاجَعَتِهَا حِينَ الْعَقْدِ. فَأَقَلُّ مَا قَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَوْ كَانَ مُؤَثِّرًا أَنْ يُقَالَ لَهَا إنْ كُنْت وَقْتَ الْعَقْدِ كُنْت مُرِيدَةً لَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَرْجِعِي إلَيْهِ بِحَالٍ، فَلَمَّا لَمْ يُفَصِّلْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ ظُهُورِ هَذَا الْقَرَارِ عُلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ تُحِبُّ مُرَاجَعَةَ الْأَوَّلِ، فَالْمَرْءُ لَا يُلَامُ عَلَى الْحُبِّ وَالْبُغْضِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهَا أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِي زَوْجِهَا وَتُحْسِنَ مُعَاشَرَتَهُ وَتَبْذُلَ حَقَّهُ غَيْرَ مُتَبَرِّمَةٍ وَلَا كَارِهَةٍ، فَإِذَا نَوَتْ هَذَا وَقْتَ الْعَقْدِ فَقَدْ نَوَتْ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا. فَإِذَا نَوَتْ فِعْلَ مَا لَا يَحِلُّ مِمَّا لَا يُوجِبُ طَلَاقَهَا فَسَيَأْتِي ذِكْرُ هَذَا، وَأَمَّا اخْتِلَاعُ الْمَرْأَةِ وَانْتِزَاعُهَا مِنْ بَعْلِهَا فَقَدْ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا نِيَّةُ الْمَرْأَةِ أَوْ الْمُطَلِّقِ لَا تُؤَثِّرُ: فَلَا يَحِلُّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْعَلَ مَا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ مِنْ إفْسَادِ حَالِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ إلَّا إذَا كَانَتْ تَظُنُّ أَنْ تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَعَهُ. وَتَعْتَقِدُ أَنَّهُ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ. وَأَنَّهُ إذَا لَمْ يُطَلِّقْ أَطَاعَتْهُ وَلَمْ تَنْشُزْ عَنْهُ. وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُظْهِرُ بَيَانَ حَالِ الْمَرْأَةِ فِي النِّيَّةِ، وَهِيَ مَرَاتِبُ: الْأُولَى: أَنْ تَنْوِيَ أَنَّ هَذَا الزَّوْجَ الثَّانِيَ إنْ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا أَوْ فَارَقَهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ تَزَوَّجَتْ بِالْأَوَّلِ، أَوْ يَنْوِيَ الْمُطَلِّقُ ذَلِكَ أَيْضًا فَيَنْوِيَ أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ إنْ طَلَّقَهَا أَوْ فَارَقَهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ تَزَوَّجَهَا، فَهَذَا قَصْدٌ مَحْضٌ لِمَا أَبَاحَهُ اللَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَذَا الْقَصْدِ فِعْلٌ مِنْهَا فِي الْفُرْقَةِ، وَإِنَّمَا نَوَتْ أَنْ تَفْعَلَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ إذَا أَبَاحَهُ اللَّهُ فَقَدْ قَصَدَتْ فِعْلًا لَهَا مُعَلَّقًا عَلَى وُجُودِ الْفُرْقَةِ، وَصَارَ هَذَا مِثْلَ أَنْ يَنْوِيَ الرَّجُلُ أَنَّ فُلَانًا إنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا تَزَوَّجَهَا، أَوْ تَنْوِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَمْ تَطْلُقْ أَنَّهَا إنْ فَارَقَهَا هَذَا الزَّوْجُ تَزَوَّجَتْ بِفُلَانٍ، أَوْ

يَبِيعَ الرَّجُلَ سِلْعَتَهُ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا وَيَنْوِيَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنْ بَاعَهَا فِيمَا بَعْدُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ إنْ قَدَرَ عَلَى ثَمَنِهَا. أَوْ يَنْوِيَ أَنَّهُ إنْ أَعْتَقَ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ تَزَوَّجَ بِهَا، فَهَذِهِ الصُّوَرُ كُلُّهَا لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهَذَا الْعَقْدِ وَلَا بِفَسْخِهِ فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَتْ بِفِعْلٍ لَهَا إنْ رُفِعَ الْعَقْدُ أَوْ قَصَدَ صَاحِبُهُ رَفْعَهُ. فَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ نِكَاحَ رَغْبَةٍ، فَإِنَّهَا إذَا مَلَّكَتْ نَفْسَهَا لِلزَّوْجِ فَسَوَاءٌ عَلَيْهِ كَانَتْ رَاغِبَةً أَوْ غَيْرَ رَاغِبَةٍ إذَا لَمْ تُسَبِّبْ فِي الْفُرْقَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِيَدِهَا فُرْقَةٌ، لَكِنْ لَهَا فِي هَذَا الْعَقْدِ مَعَ نِيَّةِ مُرَاجَعَةِ الْأَوَّلِ ثَلَاثُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَحَبَّتُهَا لِلْمُقَامِ مَعَ الزَّوْجِ الثَّانِي أَكْثَرَ مِنْ مَحَبَّتِهَا لِلْمُقَامِ مَعَ الْأَوَّلِ، لَكِنْ تَرَى أَنَّ الْأَوَّلَ أَحَبَّ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ هَذَا فَهَذَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَحَبَّتُهَا لِنِكَاحِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ، أَوْ لَا يَكُونَ لَهَا مَحَبَّةٌ لِنِكَاحٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لَكِنْ تَرَى أَنَّهُمَا أَصْلَحُ لَهَا مِنْ غَيْرِهِمَا، فَإِذَا فَارَقَهَا أَحَدُهُمَا آثَرَتْ الْآخَرَ فَهَذَا أَيْضًا ظَاهِرٌ. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مَحَبَّتُهَا لِلْأَوَّلِ أَكْثَرَ مِنْ الثَّانِي. فَهِيَ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِمَنْزِلَةِ الْمُطَلِّقِ الَّذِي يُحِبُّ عَوْدَهَا إلَيْهِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ الَّتِي كَرِهَهَا بَعْضُ التَّابِعِينَ، وَهِيَ حَالُ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ، وَلِذَلِكَ رَخَّصَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ فِيهَا لِمَا تَقَدَّمَ، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ وَالْمُطَلِّقُ لَا يُلَامَانِ عَلَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ، كَمَا لَا يُلَامُ الزَّوْجُ عَلَى مَحَبَّةِ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ الْأُخْرَى إذَا عَدَلَ بَيْنَهُمَا، فِيمَا يَمْلِكُهُ، ثُمَّ إنْ كَرِهَتْ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ مِنْ نَفْسِهَا لِكَوْنِهَا مُتَطَلِّعَةً إلَى غَيْرِ زَوْجِهَا، وَكَذَلِكَ الْمُطَلِّقُ إنْ كَرِهَ مِنْ نَفْسِهِ تَطَلُّعَهُ إلَى زَوْجَةِ الْغَيْرِ كَانَتْ هَذِهِ الْكَرَاهَةُ عَمَلًا صَالِحًا يُثَابُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَكْرَهْ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ وَلَمْ تَرْضَ بِهَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، وَإِنْ رَضِيَ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ بِحَيْثُ يَتَمَنَّى بِقَلْبِهِ مَعَ طَبْعِهِ حُصُولَ مُوجِبِهَا وَيَوَدُّ أَنْ يَحْصُلَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فُرْقَةٌ لِيَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ، وَتَتَمَنَّى الْمَرْأَةُ أَنْ لَوْ طَلَّقَهَا هَذَا الزَّوْجُ أَوْ فَارَقَهَا لِتَعُودَ إلَى الْأَوَّلِ، وَعَقْلُهَا مُوَافِقٌ لِطَبْعِهَا عَلَى هَذِهِ الْأُمْنِيَّةِ، فَهَذَا مَكْرُوهٌ، وَهُوَ مِنْ الْمَرْأَةِ أَشَدُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَمَنِّي الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ بَغِيضٌ إلَى اللَّهِ، وَقَدْ تَتَضَمَّنُ تَمَنِّي ضَرَرِ الزَّوْجِ وَهُوَ مَظِنَّةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُقِيمُ حُدُودَ اللَّهِ مَعَ مَنْ بَغَضَتْ الْمُقَامَ مَعَهُ، لَكِنَّهَا لَوْ أَحَبَّتْ أَنْ يَقْذِفَ اللَّهُ فِي قَلْبِ الزَّوْجِ الزُّهْدَ فِيهَا بِحَيْثُ

يُفَارِقُهَا بِلَا ضَرَرٍ عَلَيْهِ، فَهَذَا أَخَفُّ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ فِعْلٌ مِنْهَا فِي الْفُرْقَةِ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ وَلَا الثَّانِي. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: إنْ تَسَبَّبَ إلَى أَنْ يُفَارِقَهَا مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ غَيْرِ الِاخْتِلَاعِ، وَلَا خَدِيعَةٍ تُوجِبُ فِرَاقَهَا مِثْلَ أَنْ تَسْأَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ أَنْ يَخْلَعَهَا، وَتَبْذُلَ لَهُ مَالًا عَلَى الْفُرْقَةِ أَوْ تُظْهِرَ لَهُ مَحَبَّتَهَا لِلْأَوَّلِ أَوْ بُغْضَهَا الْمُقَامَ مَعَهُ حَتَّى يُفَارِقَهَا، فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الِانْتِزَاعِ وَالِاخْتِلَاعِ مِنْ الرَّجُلِ، فَنَقُولُ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَخَافُ أَنْ لَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ جَازَ لَهَا الِاخْتِلَاعُ، وَإِلَّا نُهِيَتْ عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ، فَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَنْوِ هَذَا الْفِعْلَ إلَّا بَعْدَ الْعَقْدِ فَهِيَ كَسَائِرِ الْمُخْتَلِعَاتِ يَصِحُّ الْخُلْعُ وَيُبَاحُ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ، هَذَا إذَا كَانَ مَقْصُودُهَا مُجَرَّدَ فُرْقَتِهِ. وَهُنَا مَقْصُودُهَا التَّزَوُّجُ بِغَيْرِهِ فَتَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَخْتَلِعُ مِنْ زَوْجِهَا لِتَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ وَهَذَا أَغْلَظُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَإِنْ كَانَتْ حِينَ الْعَقْدِ تَنْوِي أَنْ تَتَسَبَّبَ إلَى الْفُرْقَةِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ فَهَذِهِ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الَّتِي حَدَثَ لَهَا إرَادَةُ الِاخْتِلَاعِ لِتَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ، مَعَ اسْتِقَامَةِ الْحَالِ، فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ «الْمُخْتَلِعَاتُ وَالْمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ» . فَاَلَّتِي تَخْتَلِعُ لِتَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ، لَا لِكَرَاهَتِهِ أَشَدُّ وَأَشَدُّ، وَمَنْ كَانَتْ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ تُرِيدُ أَنْ تَخْتَلِعَ وَتَنْتَزِعَ لِتَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ، فَهِيَ أَوْلَى بِالذَّمِّ وَالْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ غَارَّةٌ لِلرَّجُلِ مُدَلِّسَةٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَتَسَبَّبَ فِي فُرْقَتِهِ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا، فَكَيْفَ إذَا عَلِمَ أَنَّ غَرَضَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ، بِخِلَافِ الَّتِي حَدَثَ لَهَا الِانْتِزَاعُ، فَإِنَّهَا لَمْ تَخْدَعُهُ وَلَمْ تَغُرَّهُ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْخِلَابَةِ بَلْ هُوَ أَقْبَحُ الْخِلَابَةِ، وَلَا تَحِلُّ الْخِلَابَةُ لِمُسْلِمٍ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَا يَجِبُ إدْخَالُهَا فِي كَلَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ إنَّمَا رَخَّصَ فِي مُطْلَقِ نِيَّةِ الْمَرْأَةِ وَنِيَّةُ الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِأَنْ تَتَزَوَّجَ الْأَوَّلَ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَنْوِيَ اخْتِلَاعًا مِنْ الثَّانِي لِتَتَزَوَّجَ الْأَوَّلَ، فَإِنَّ هَذَا نِيَّةُ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ فِي نَفْسِهِ لَوْ حَدَثَ وَغَايَتُهُ أَنْ يُقَالَ هُوَ نِيَّةٌ مَكْرُوهَةٌ تَسْوِيَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاخْتِلَاعِ الْمُطْلَقِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فَأَمَّا إذَا قَارَنَ الْعَقْدَ فَتَحْرِيمُهُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ رَغْبَتَهَا فِي النِّكَاحِ وَقَصْدَهَا لَهُ، وَالزَّوْجَةُ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَإِذَا قَصَدَتْ بِالْعَقْدِ أَنْ تَسْعَى فِي فَسْخِهِ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ مَقْصُودًا، بِخِلَافِ مَنْ قَصَدَتْ أَنَّ الْعَقْدَ إذَا انْفَسَخَ تَزَوَّجَتْ الْأَوَّلَ، وَتَحْرِيمُ هَذَا أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ نِيَّةِ الرَّجُلِ مِنْ وَجْهٍ، وَذَلِكَ التَّحْرِيمُ أَشَدُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَإِنَّ الْمُحَلِّلَ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ، فَقَدْ نَوَى شَيْئًا يَمْلِكُهُ، وَالْمَرْأَةُ تَعْلَمُ أَنَّهُ يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ نَوَتْ

الِاخْتِلَاعَ وَالِانْتِزَاعَ لِتَعُودَ إلَى غَيْرِهِ، وَكَرَاهَةُ الِاخْتِلَاعِ أَشَدُّ مِنْ كَرَاهَةِ طَلَاقِ الرَّجُلِ ابْتِدَاءً، وَالِاخْتِلَاعُ لِتَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ أَشَدُّ مِنْ مُطْلَقِ الِاخْتِلَاعِ، وَإِرَادَةُ الرَّجُلِ الطَّلَاقَ لَا يُوقِعُهُ فِي مُحَرَّمٍ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ ذَلِكَ فَيَفْعَلُهُ، وَإِرَادَةُ الْمَرْأَةِ الِاخْتِلَاعَ قَدْ يُوقِعُهَا فِي مُحَرَّمٍ، فَإِنَّهَا إذَا لَمْ تَخْتَلِعْ رُبَّمَا تَعَدَّتْ حُدُودَ اللَّهِ. وَنِيَّةُ التَّحْلِيلِ لَيْسَ فِيهَا مِنْ خَدِيعَةِ الْمَرْأَةِ مَا فِي نِيَّةِ الْمَرْأَةِ مِنْ خَدِيعَةِ الرَّجُلِ، وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ تِلْكَ النِّيَّةُ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ اسْتِبَاحَةَ الْبُضْعِ إلَّا بِمِلْكٍ بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ، وَالْعَقْدُ الَّذِي يَقْصِدُ رَفْعَهُ لَيْسَ بِعَقْدِ نِكَاحٍ، وَهَذَا حَالُ الْمَرْأَةِ إذَا تَزَوَّجَتْ بِمَنْ تُرِيدُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَحَالِهَا إذَا تَزَوَّجَتْ بِمَنْ بَدَا لَهُ طَلَاقُهَا فِيمَا بَعْدَ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ قَطَعَ النِّكَاحَ عَلَيْهَا، وَهَذَا جَائِزٌ لَهُ وَلَيْسَ تَعَلُّقُ حَقِّهَا بِعَيْنِهِ كَتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِعَيْنِهَا، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا وَلَا حَرَامَ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ مَحَبَّتُهُ لِتِلْكَ وَاسْتِمْتَاعُهُ بِهَا أَكْثَرَ إذَا عَدَلَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ، وَالْمَرْأَةُ إذَا تَزَوَّجَتْ قَاصِدَةً لِلتَّسَبُّبِ فِي الْفُرْقَةِ فَهَذَا التَّحْرِيمُ لِحَقِّ الزَّوْجِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْخِلَابَةِ وَالْخَدِيعَةِ لَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ يَمْلِكُهَا بِهَذَا الْعَقْدِ وَيَمْلِكُ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا بِحَالٍ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَتْ نِيَّةُ التَّحْلِيلِ أَشَدَّ، فَإِنَّ تِلْكَ النِّيَّةَ تَمْنَعُ كَوْنَ الْعَقْدِ ثَابِتًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَهُنَا الْعَقْدُ ثَابِتٌ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، بِأَنَّهُ نَكَحَ نِكَاحَ رَغْبَةٍ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا لَا تَمْلِكُ الْفُرْقَةَ، فَصَارَ الَّذِي يَمْلِكُ الْفُرْقَةَ لَمْ يَقْصِدْهَا، وَاَلَّذِي قَصَدَهَا لَمْ يَمْلِكْهَا. لَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْ نِيَّةِ الْمَرْأَةِ التَّسَبُّبُ إلَى الْفُرْقَةِ، صَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَقْدِ الَّذِي حُرِّمَ عَلَى أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِإِضْرَارِهِ بِالْآخَرِ، مِثْلُ بَيْعِ الْمُصَرَّاةِ وَبَيْعِ الْمُدَلَّسِ مِنْ الْمَعِيبِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ صَحِيحٌ لِمَجِيءِ السُّنَّةِ بِتَصْحِيحِ بَيْعِ الْمُصَرَّاةِ، وَلَمْ نَعْلَمْ مُخَالِفًا فِي أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ إذَا كَانَ مَعِيبًا بِعَيْبٍ مُشْتَرَكٍ كَالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ أَوْ مُخْتَصٍّ كَالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ أَوْ الرَّتْقِ وَالْفَتْقِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْآخَرُ أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ مَعَ أَنَّ تَدْلِيسَ هَذَا الْعَيْبِ عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ هُوَ الْمُدَلِّسَ، حَتَّى قُلْنَا عَلَى الصَّحِيحِ إنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ، فَإِنْ كَانَ الْغُرُورُ مِنْ الزَّوْجَةِ سَقَطَ الْمَهْرُ، مَعَ أَنَّ الْعَقْدَ حَرَامٌ عَلَى الْمُدَلِّسِ بِلَا تَرَدُّدٍ، وَلَكِنَّ التَّدْلِيسَ هُنَاكَ وَقَعَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُنَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ. وَالْخَلَلُ فِي الْعَقْدِ قَدْ يُؤَثِّرُ فِي فَسَادِهِ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِي بَعْضِ حِلِّهِ، فَأَمَّا الْمُطَلِّقُ الْأَوَّلُ إذَا طَلَب مِنْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ يَخْلَعَهَا أَوْ دَسَّ إلَيْهِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ

فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَدَثَ إرَادَةُ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَإِنَّ الْمُطَلِّقَ لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ، فَنُقِلَ هَهُنَا عَنْهُ فِي رَجُلٍ قَالَ لِلرَّجُلِ طَلِّقْ امْرَأَتَك حَتَّى أَتَزَوَّجَهَا وَلَك أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَأَخَذَ مِنْهُ الْأَلْفَ ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْت طَالِقٌ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ رَجُلٌ يَقُولُ لِرَجُلٍ طَلِّقْ امْرَأَتَك حَتَّى أَتَزَوَّجَهَا لَا يَحِلُّ هَذَا، فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ اخْتَلَعَهَا لِيَتَزَوَّجَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِعَهَا لِيَتَخَلَّصَ مِنْ النِّكَاحِ، لَكِنْ إذَا سَمَّى فِي عَقْدِ الْخُلْعِ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّزَوُّجَ بِهَا فَهُوَ أَقْبَحُ مِنْ أَنْ يَقْصِدَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ، وَالصُّورَةُ الْأُولَى هِيَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا كَلَامُ أَحْمَدَ، فَالْمَرْأَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ لَأَنْ تَتَزَوَّجَ أَشَدُّ فَإِنَّ الْأَذَى بِطَلَبِ الْمَرْأَةِ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ الْأَذَى بِطَلَبِ الْأَجْنَبِيِّ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْفِعْلُ حَرَامًا لَوْ حَدَثَ الْقَصْدُ فَكَيْفَ إذَا كَانَ مَقْصُودًا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ وَفُعِلَ بَعْدَهُ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اخْتِلَاعُهَا رَغْبَةً فِي نِكَاحِ غَيْرِهِ، وَلَا الْعَقْدُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، وَلَا يَحِلُّ أَمْرُهَا بِذَلِكَ وَلَا تَعْلِيمُهَا إيَّاهُ، وَلَكِنْ لَوْ فَعَلْته لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لِمَا تَقَدَّمَ، فَلَوْ رَجَعَتْ عَنْ هَذِهِ النِّيَّةِ جَازَ لَهَا الْمُقَامُ مَعَهُ، فَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَفَارَقَهَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ. وَأَمَّا الْعَقْدُ الثَّانِي فَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَلِأَصْحَابِنَا فِي صِحَّةِ نِكَاحِ الرَّجُلِ إذَا خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَبَيْعِهِ إذَا ابْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ قَوْلَانِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ تِلْكَ، فَنَقُولُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ أَوْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَعَنْ أَنْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، أَوْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ بِطَلَاقِ أُخْتِهَا، فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ «نَهَى أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ أَوْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْتَفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا أَوْ إنَائِهَا، فَإِنَّمَا رِزْقُهَا عَلَى اللَّهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى عَنْ التَّلَقِّي، وَعَنْ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَأَنْ تَشْتَرِطَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا، وَأَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَنَهَى عَنْ النَّجْشِ وَالتَّصْرِيَةِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلَا يَسُومُ عَلَى سَوْمِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: «لَا يَبْتَاعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ فَلَا يَحِلُّ

لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَتِهِ حَتَّى يَذَرَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ، وَفِي لَفْظٍ: «لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَهُ» ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ الْمَنْصُوصِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا «لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ» كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ نَهْيُ تَأْدِيبٍ لَا تَحْرِيمٍ وَهُوَ بَاطِلٌ؛ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ حَرَامٌ فَهَلْ الْعَقْدُ الثَّانِي صَحِيحٌ أَوْ فَاسِدٌ؟ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَجَمَاعَةٌ مَعَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَحْكِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي الْخِلَافِ وَرَوَاهُ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَسَائِلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ فِي الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى أَيْضًا. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ صَحِيحٌ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلَا يَسْتَامُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، هَذَا لِلْمُسْلِمِينَ. قِيلَ لَهُ فَإِنْ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ فَتَزَوَّجَهَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: لَا. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي حَفْصٍ، لَكِنْ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ تَأْدِيبٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ خَرَّجَ الْقَاضِي جَوَابَ أَحْمَدَ فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ إلَى مَسْأَلَةِ الْخِطْبَةِ فَجَعَلَهُمَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ، وَيَتَوَجَّهُ إقْرَارُ النَّصَّيْنِ مَكَانَهُمَا كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَالْقَوْلُ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ بِفَسَادِهِ مَحْكِيٌّ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَحُكِيَ عَنْهُ الصِّحَّةُ، وَدَلِيلُ هَذَا النَّهْيُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ عَلَى قَاعِدَةِ الْفُقَهَاءِ الْمُقَرَّرَةِ فِي مَوْضِعِهَا كَسَائِرِ عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ وَالْبِيَاعَاتِ أَوْ لِلْأَوَّلِينَ طُرُقٌ: أَحَدُهَا: حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى التَّأْدِيبِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَفْصٍ، وَأَوْمَأَ إلَيْهِ ابْنُ عَقِيلٍ، إذَا كَثُرَ مَا فِيهِ أَنَّ لِلْخَاطِبِ رَغْبَةً فِي الْمَرْأَةِ، وَهَذَا لَا يُحَرِّمُهَا عَلَى غَيْرِهِ كَمَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَغْبَةً وَلَمْ يُتِمَّ وَلَمْ يَخْطُبْ، وَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِنَصِّ الرَّسُولِ. الطَّرِيقُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ لَمْ يُقَارِنْ النِّكَاحَ الثَّانِيَ وَالْبَيْعَ الثَّانِيَ. وَإِنَّمَا هُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ إنَّمَا هُوَ مَنْعٌ لِلْأَوَّلِ مِنْ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ. وَهَذَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى بَيْعِ الثَّانِي وَنِكَاحِهِ، وَالتَّحْرِيمُ الْمُقْتَضِي لِلْفَسَادِ، وَهُوَ مَا قَارَنَ الْعَقْدَ كَعُقُودِ الرِّبَا وَبَيْعِ

الْحَاضِرِ لِلْبَادِي وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ لَا أَتَزَوَّجُك حَتَّى أَرَاك مُجَرَّدًا لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ذَهَبَ عَلَى الْجُمُعَةِ عَلَى دَابَّةٍ مَغْصُوبَةٍ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ، وَلِهَذَا فَرَّقُوا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، قَالُوا وَلَوْ خَطَبَهَا فِي الْعِدَّةِ وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ صَحَّ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَقْدِ. الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَلَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ كَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ بِخِلَافِ التَّحْرِيمِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَبُيُوعِ الْغَرَرِ وَالرِّبَا، وَالْمَعْنَى لِحَقِّ الْآدَمِيِّ الْمُعَيَّنِ الَّذِي لَوْ رَضِيَ بِالْعَقْدِ لَصَحَّ كَالْخَاطِبِ الْأَوَّلِ هُنَا، فَإِنَّهُ لَوْ أَذِنَ لِلثَّانِي جَازَ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ إذَا كَانَ لِآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ أَمْكَنَ أَنْ يَزُولَ بِرِضَاهُ، وَلَوْ فِيمَا بَعْدُ، فَلَمْ يَكُنْ التَّحْرِيمُ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، وَلِهَذَا جَوَّزَ فِي مَوَاضِعَ التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ الْغَيْرِ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ كَالْوَصِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ بِحَقِّ اللَّهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، لَا سَبِيلَ إلَى حِلِّهَا بِحَالٍ، فَيَكُونُ التَّحْرِيمُ فِي الْعَقْدِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي الْفَرْقِ بَيْنَ بَيْعِهِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَبَيْنَ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ أَيْضًا. الطَّرِيقَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا لَيْسَ لِمَعْنًى فِي الْعَاقِدِ، وَلَا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَمَا فِي بَيْعِ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ بَيْعِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ، وَبَيْعِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِمَعْنًى خَارِجٍ عَنْهُمَا، وَهُوَ الضَّرَرُ الَّذِي لَحِقَ الْخَاطِبَ وَالْمُسْتَامَ أَوَّلًا، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِمَعْنًى فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَوْ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ فَيُصَحِّحُ الصَّلَاةَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ بِنَاءً عَلَى هَذَا، وَمَنْ يَنْصُرُ الْأَوَّلَ يَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ مُقَارَنًا لِلْعَقْدِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَعَنْ أَنْ يَبْتَاعَ أَيْضًا» ، وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ نَفْسِ الْعَقْدِ، «وَنَهَى أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» . مُنَبِّهًا بِذَلِكَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ عَقْدِ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ بِالنَّهْيِ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا «نَهَى عَنْ قُرْبَانِ مَالِ الْيَتِيمِ» كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى النَّهْيِ عَنْ أَخْذِهِ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ مُقَدِّمَاتِ الْفِعْلِ أَبْلَغُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ عَيْنِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّهْيِ عَنْ التَّصْرِيحِ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ فَإِنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ قَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِ الْعَقْدَ، وَلَا الْخِطْبَةَ، وَكَذَلِكَ فِي رُؤْيَتِهِ مُتَجَرِّدًا قَبْلَ النِّكَاحِ، أَوْ الْمَشْيِ إلَى الْجُمُعَةِ عَلَى حِمَارٍ مَغْصُوبٍ فَإِنَّ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ انْتَقَضَتْ أَسْبَابُهَا، وَهَذَا سَبَبُ التَّحْرِيمِ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ، فَإِنَّ عَوْدَهَا إلَيْهِ مُمْكِنٌ.

ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُحَرَّمَ مُتَقَدِّمٌ فَلِمَ قِيلَ إنَّ الْفَرْقَ مُؤَثِّرٌ، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى كَوْنِ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ فَاسِدَةٌ لَا تُفَرِّقُ، وَالْفِعْلُ الْمُحَرَّمُ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةً، فَتَصْحِيحُهُ يَقْتَضِي إيقَاعَ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَمَعْصِيَةُ اللَّهِ فَسَادٌ لَا صَلَاحَ فِيهَا، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَنْهَى عَنْ الصَّلَاحِ، وَهَذَا الْعَقْدُ هُنَا مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ الْمَفْسَدَةِ، وَهُوَ إضْرَارُ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهَا فِي نَفْسِهَا غَيْرُ مُسْتَلْزِمَةٍ لِرُكُوبٍ وَلَا مَشْيٍ، وَنَقُولُ أَيْضًا لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا حُرِّمَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لِحَقِّ عِبَادِهِ، إذْ الْأَدِلَّةُ لَا تُفَرِّقُ وَنَقُولُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ فَالنَّهْيُ هُنَا لِمَعْنًى فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْأَوَّلِ بِالْعَيْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ تَقَدُّمَ خُطْبَتِهِ وَبَيْعِهِ حَقًّا لَهُ مَانِعًا مِنْ مُزَاحِمَةِ الثَّانِي لَهُ؛ كَمَنْ سَبَقَ إلَى مُبَاحٍ فَجَاءَ آخَرُ يُزَاحِمُهُ؛ وَصَارَ هَذَا لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَغَيْرِهِ؛ وَإِذَا كَانَ سَبَبُ النَّهْيِ تَعَلُّقَ حَقٍّ لِلْأَوَّلِ بِهَذِهِ الْعَيْنِ فَإِذَا أُزِيلَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرَّمِ لَمْ يُؤَثِّرْ هَذَا فِي الْحِلِّ الْمُزِيلِ، فَإِنَّهُ كَالْقَاتِلِ لِمَوْرُوثِهِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَزَالَ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمَوْرُوثِ بِالْمَالِ بِفِعْلِهِ الْمُحَرَّمِ، لَمْ يُؤَثِّرْ هَذَا الزَّوَالُ فِي الْحِلِّ لَهُ وَلِهَذَا لَا يُبَارَكُ لِأَحَدٍ فِي شَيْءٍ قَطَعَ حَقَّ غَيْرِهِ عَنْهُ بِفِعْلِ مُحَرَّمٍ، ثُمَّ اقْتَطَعَهُ لِنَفْسِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَقْسَامِ الْحِيَلِ تَنْبِيهٌ عَلَى هَذَا النَّوْعِ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَيَسْتَامَ عَلَى سَوْمِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِهِ أَوْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِهِ، فَإِنَّ الْخَاطِبَ وَالْمُسْتَامَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمَا حَقٌّ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُمَا رَغْبَةٌ وَوَعْدٌ بِخِلَافِ الَّذِي قَدْ بَاعَ أَوْ ابْتَاعَ فَإِنَّ حَقَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَلَى السِّلْعَةِ أَوْ الثَّمَنِ، فَإِذَا تَسَبَّبَ الثَّانِي فِي فَسْخِ هَذَا الْعَقْدِ كَانَ قَدْ زَالَ حَقَّهُ الَّذِي انْعَقَدَ، وَهَذَا يُؤَثِّرُ مَا لَا يُؤَثِّرُ الْأَوَّلُ فَإِنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ مَتَى اسْتَلْزَمَ إبْطَالَ حَقِّ غَيْرِهِ بَطَلَ كَرُجُوعِ الْأَبِ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ وَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ مُرْتَهِنٍ أَوْ مُشْتَرٍ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ رُجُوعُ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي وَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ ذِي جِنَايَةٍ أَوْ مُرْتَهِنٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ تَعَلُّقِ رَغْبَةِ الْغُرَمَاءِ بِالسِّلْعَةِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ رُجُوعَ الْبَائِعِ وَفِي رُجُوعِ الْوَاهِبِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ بَيْعَ الْإِنْسَانِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا أَنَا أَبِيعُك مِثْلَ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِدُونِ هَذَا الثَّمَنِ، وَأَبِيعُك خَيْرًا مِنْهَا بِمِثْلِ هَذَا الثَّمَنِ، فَيَفْسَخَ الْمُشْتَرِي بَيْعَ الْأَوَّلِ وَيَبْتَاعَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ ابْتِيَاعُهُ عَلَى ابْتِيَاعِ أَخِيهِ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ بَاعَ رَجُلًا شَيْئًا أَنَا اشْتَرِيهِ مِنْك بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا الثَّمَنِ، وَقَدْ اشْتَرَطَ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوْ

الشَّرْطِ لِيَتَمَكَّنَ الْآخَرُ مِنْ الْفَسْخِ، وَإِلَّا فَبَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ لَا يُؤَثِّرُ هَذَا الْقَوْلُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْجَامِعِ، وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قُدَمَاءُ أَصْحَابِنَا فَأَطْلَقُوا الْبَيْعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِهَذَا الْخِيَارِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَأَبُو الْخَطَّابِ فَسَخَ الْبَيْعَ الثَّانِيَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِهَذَا الْخِيَارِ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ أَيْضًا مُطْلَقٌ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَهَذَا أَجْوَدُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ يُمْكِنُهُ الْفَسْخُ بِأَسْبَابٍ غَيْرِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَالشَّرْطِ مِثْلِ خِيَارِ الْعَيْبِ وَالتَّدْلِيسِ وَالْخَلْفِ فِي الصِّفَةِ وَالْغَبْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ لَا يُرِيدُ الْفَسْخَ فَإِذَا جَاءَ الْبَائِعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَرَغْبَتُهُ فِي أَنْ يَفْسَخَ وَيَعْقِدَ مَعَهُ، كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَأْتِيَهُ فِي زَمَنِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ. الثَّانِي: أَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَحَدَهُمَا فَسْخُهُ فَإِنَّهُ قَدْ يَجِيءُ إلَيْهِ فَيَقُولُ لَهُ قَايِلْ هَذَا الْبَيْعَ وَأَنَا أَبِيعُك؛ فَيَحْمِلُهُ عَلَى اسْتِقَالَةِ الْأَوَّلِ، وَالْإِلْحَاحِ عَلَيْهِ فِي الْمُقَايَلَةِ فَيُجِيبُهُ عَنْ غَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ كَثِيرًا إنْ لَمْ يَخْدَعْهُ خَدِيعَةً تُوجِبُ فَسْخَ الْبَيْعِ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ أَشَدَّ تَحْرِيمًا لِمَا فِيهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْغَنِيِّ مَا لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِ، وَمُخَالَفَةِ قَوْلِهِ «دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ يُقَالُ الْمُسْتَقَالُ غَيْرَ رَاضٍ فَلَا يُبَارَكُ لِلْمُسْتَقِيلِ، كَاَلَّذِينَ كَانُوا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْيَاءَ فَيُعْطِيهِمْ إيَّاهَا، فَيَخْرُجُ بِهَا أَحَدُهُمْ يَتَأَبَّطُهَا نَارًا وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ، فَيَكُونُ الْمُعْطِي مُثَابًا وَالسَّائِلُ مُعَاقَبًا وَهَذَا بَيْعٌ حَقِيقَةً عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَهُوَ وَاقِعٌ فَلَا مَعْنَى لِإِخْرَاجِهِ مِنْ الْحَدِيثِ، وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جُمْلَةِ مَا نَهَى عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ «أَنْ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا، لِتَكْتَفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا» ، فَمَسْأَلَةُ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُقِيلَهُ الْبَيْعَ لِيَبِيعَهَا الْبَائِعُ لِغَيْرِهِ كَذَلِكَ، وَقَوْلُ الرَّجُلِ الْبَائِعِ اسْتَقِلْ الْمُشْتَرِي هَذَا الْبَيْعَ لِتَبِيعَهُ لِهَذَا. كَمَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ سَلِي هَذَا الْخَاطِبَ أَنْ يُطَلِّقَ تِلْكَ لِيَتَزَوَّجَك، إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَتَقُولُ إذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ حَرَّمَ أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَأَنْ يَسْتَامَ عَلَى سَوْمِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُزَاحَمَةِ الْمُخْرِجَةِ لَهُ عَمَّا قَدْ وَعَدَ بِهِ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ نَكَحَ عَلَى نِكَاحِ أَخِيهِ، بِأَنْ يَقُولَ لِلْمَرْأَةِ طَلِّقِي هَذَا الرَّجُلَ وَأَنَا أَتَزَوَّجُك؛ أَوْ أُزَوِّجُك فُلَانًا، إنْ أَمْكَنَهَا أَنْ تَفْسَخَ النِّكَاحَ بِأَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَدْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا، أَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِأَمْرٍ

يُمْكِنُهَا فِعْلُهُ، فَهَذِهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَإِلَّا فَاخْتِلَاعُهَا مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ اسْتِقَالَةِ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا قَدْ تُسِيءُ عِشْرَتَهُ إسَاءَةً تَحْمِلُهُ عَلَى طَلَاقِهَا؛ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَا تَنْقَضِي بِالتَّقَابُضِ مِنْهُمَا فَكُلُّ مَنْ قَالَ إنَّ ابْتِيَاعَ الْإِنْسَانِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ بَاطِلٌ قَالَ هُنَا إنَّ نِكَاحَ الثَّانِي بَاطِلٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ وَمَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ هُنَاكَ فَقَدْ يَقُولُ هُنَا بِالْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ خُدِعَ حِينَ الْعَقْدِ وَتُسُبِّبَ فِي إزَالَةِ نِكَاحِهِ، وَزَوَالُ النِّكَاحِ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ الْإِقَالَةِ فِي بَيْعٍ أَوْ فَسْخِهِ، وَلَوْ أَنَّ الرَّجُلَ طَلَبَ مِنْ الرَّجُلِ أَنْ يَبِيعَهُ سِلْعَةً لَجَازَ؛ وَلَوْ طَلَب أَنْ يَخْلَعَ امْرَأَتَهُ لِيَتَزَوَّجَهَا لَكَانَ مِنْ الْقَبِيحِ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا قِيلَ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ الثَّانِي وَلَا نِكَاحُ الثَّانِي لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ تَعُودُ السِّلْعَةُ إلَى صَاحِبِهَا، وَالْمَرْأَةُ إلَى يَدِ نَفْسِهَا. وَيُعَاقَبُ الثَّانِي بِأَنْ يَبْطُلَ عَقْدُهُ مُنَاقَضَةً لِقَصْدِهِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَنْعِ الْقَاتِلِ الْمِيرَاثَ، وَنَظِيرُ تَوْرِيثِ الْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَرَضِ، فَإِنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ وَالْمَالِ زَالَ حَقِيقَةً عَنْ الْمَيِّتِ وَالْمُطَلِّقِ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي انْتِقَالِ الْمَالِ إلَى الْقَاتِلِ، وَمَنْعِ مِيرَاثِ الْمُطَلِّقَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي أَثْنَاءِ أَقْسَامِ الْحِيَلِ، مِثْلَ أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلُ رَجُلًا لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ وَبَيَّنَّا وَجْهَ تَحْرِيمِهَا عَلَى هَذَا الْقَاتِلِ مَعَ حِلِّهَا لِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ ذَبِيحَةُ الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ كَذَلِكَ هُنَا يَحْرُمُ شِرَاءُ الْعَيْنِ بَعْدَ الْفَسْخِ عَلَى هَذَا الْمُتَسَبِّبِ فِي ذَلِكَ مَعَ حِلِّهِ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ يَضُرُّ هَذَا بِاَلَّذِي فَسَخَ الْبَيْعَ، لَكِنَّ هَذَا جَزَاءُ فِعْلِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ جَازَ لَهُ الْفَسْخُ ابْتِدَاءً، لَكِنْ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يُعِينَ هَذَا عَلَى مَا طَلَبَهُ فَإِنَّ الْإِعَانَةَ عَلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِقَالَةُ فَكَيْفَ الْمَرْأَةُ الْمَنْهِيَّةُ عَنْ الِانْتِزَاعِ وَالِاخْتِلَاعِ. وَمِمَّا هُوَ كَالْبَيْعِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى إجَارَتُهُ عَلَى إجَارَةِ أَخِيهِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُسْتَقِلًّا فِي دَارِهِ حَانُوتٌ أَوْ مُزْدَرَعٌ، وَأَهْلُهُ قَدْ رَكَنُوا إلَى أَنْ يُؤَجِّرُوهُ السَّنَةَ الثَّانِيَةَ فَيَجِيءُ الرَّجُلُ فَيَسْتَأْجِرُ عَلَى إجَارَتِهِ، فَإِنَّ ضَرَرَهُ بِذَلِكَ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْبَيْعِ غَالِبًا، وَأَقْبَحُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَلِّيًا وِلَايَةً أَوْ مَنْزِلًا فِي مَكَان يَأْوِي إلَيْهِ أَوْ يَرْتَزِقُ مِنْهُ، فَيَطْلُبُ آخَرُ مَكَانَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَتَسَبَّبَ إلَى فُرْقَتِهِ مِثْلَ أَنْ تُبَالِغَ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ مِنْهُ، وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَيْهِ لَسْت أَعْنِي أَنَّهَا تَتْرُكُ وَاجِبًا تَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ، أَوْ تَفْعَلُ مُحَرَّمًا تَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ، لَكِنْ غَيْرَ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ تُطَالِبَهُ بِالصَّدَاقِ جَمِيعِهِ، لِيَفْسَخَ أَوْ يَحْبِسَ أَوْ

لِتَمْتَنِعَ مِنْهُ، أَوْ تَبْذُلَ لَهُ فِي خُصُومَتِهَا، وَذَلِكَ يَشُقُّ عَلَيْهَا مِثْلُ أَنْ تُطَالِبَهُ بِفَرْضِ النَّفَقَةِ، أَوْ إفْرَادِهَا بِمَسْكَنٍ يَلِيقُ بِهَا وَخَادِمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي عَلَيْهِ، أَوْ تَمْنَعَ مِنْ إعَانَتِهِ فِي الْمَنْزِلِ بِطَبْخٍ أَوْ فَرْشٍ أَوْ لُبْسٍ أَوْ غَسْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كُلُّ ذَلِكَ لِيُفَارِقَهَا فَإِنْ قِيلَ فَهَذِهِ الْأُمُورُ مِنْهَا مَا قَدْ يَخْتَلِفُ فِي وُجُوبِهِ، فَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهِ فَتَقْدِيرُهُ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، وَهُوَ أَمْرٌ يَدْخُلُهُ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ، وَلَا يَكَادُ يَنْقُلُ غَالِبًا مَنْ عَاشَرَتْ زَوْجَهَا بِمِثْلِ هَذَا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ عَلَى تَقْدِيرِ خُلُوِّهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ فَنَقُولُ: إذَا فَعَلْت الْمُبَاحَ لِغَرَضٍ مُبَاحٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ، أَمَّا إذَا قَصَدْت بِهِ ضَرَرًا غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ، مِثْلُ مَنْ يَقْصِدُ حِرْمَانَ وَرَثَتِهِ بِالْإِسْرَافِ فِي النَّفَقَةِ فِي مَرَضِهِ، فَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تُرِيدُ اسْتِيفَاءَ الصَّدَاقِ وَلَا فَرْضَ النَّفَقَةِ وَهِيَ طَيِّبَةُ النَّفْسِ بِالْخِدْمَةِ الْمُعْتَادَةِ، وَإِنَّمَا تَجَشَّمَ ذَلِكَ لِتُضَيِّقَ عَلَى الزَّوْجِ لِيُطَلِّقَهَا، فَإِلْجَاؤُهُ إلَى الطَّلَاقِ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ إلْجَاءٌ إلَى فِعْلِ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ وَهُوَ يَضُرُّهُ، وَهِيَ آثِمَةٌ بِهَذَا الْفِعْلِ إذَا كَانَ مُمْسِكًا لَهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنَّمَا الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ بِالشَّرْعِ الْمُطَالَبَةُ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، أَمَّا إذَا قَصَدَتْ التَّسْرِيحَ فَقَطْ، وَإِنَّمَا تُطَالِبُهُ بِمُوجَبَاتِ الْعَقْدِ لِتَضْطَرَّهُ بِعُسْرِهَا عَلَيْهِ إلَى التَّسْرِيحِ، فَهَذِهِ لَيْسَتْ طَالِبَةً أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَإِنَّمَا هِيَ طَالِبَةٌ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ، وَهِيَ لَا تَمْلِكُ ذَلِكَ شَرْعًا، فَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ تَلْحَقُ بِاَلَّتِي بَعْدَهَا كَمَا قَدَّمْنَا نَظَائِرَ ذَلِكَ فِي أَقْسَامِ الْحِيَلِ، لَكِنَّ هَذَا الْفِعْلَ إنَّمَا حُرِّمَ بِالْقَصْدِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ ظَاهِرًا بِخِلَافِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ لِجِنْسِ الْفِعْلِ أَوْ لِقَصْدٍ يَقْتَرِنُ بِالْفِعْلِ، وَلَا يُقَالُ فَقَدْ يُبَاحُ لَهَا الِاخْتِلَاعُ إذَا كَانَتْ تَخَافُ أَنْ لَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ مَعَهُ. فَكَذَلِكَ يُبَاحُ لَهَا الِاسْتِقْصَاءُ فِي الْحُقُوقِ حَتَّى تُفَارِقَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الِاخْتِلَاعُ يَتَضَمَّنُ تَعْوِيضَهُ عَنْ الطَّلَاقِ بِرَدِّ الصَّدَاقِ إلَيْهِ، أَوْ رَدِّ مَا يَرْضَى بِهِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ، وَهَذِهِ تَلْجِئَةٌ إلَى الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَلَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمُخْتَلِعَةِ، وَإِذَا كَانَتْ لَا تَسْتَحِقُّ أَنْ يُطَلِّقَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَفِي ذَلِكَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فَإِذَا قَصَدَتْ إيقَاعَ هَذَا الضَّرَرِ بِهِ بِفِعْلٍ هُوَ مُبَاحٌ، أَوْ خَلَا عَنْ هَذَا الْقَصْدِ دَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ شَقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَهَذَا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِحُقُوقِ النِّكَاحِ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ قَصَدَ إضْرَارَ غَيْرِهِ بِشَيْءٍ هُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ.

بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَهِيَ لَا تَقْصِدُ إضْرَارَهُ وَإِنَّمَا تَقْصِدُ نَفْعَ نَفْسِهَا بِالْخَلَاصِ مِنْهُ، فَيُقَالُ الشَّارِعُ لَمْ يَجْعَلْ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ بِيَدِهَا، وَلَوْ كَانَ انْتِفَاعُهَا بِالْأَخَصِّ حَقًّا لَهَا لَمَلَّكَهَا الشَّارِعُ ذَلِكَ وَحَيْثُ احْتَاجَتْ إلَيْهِ أَمَرَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْهُ كَافْتِدَاءِ الْعَبْدِ وَالْأَسِيرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْصِدَ مُضَارَّةً سَيِّدِهِ لِيَعْتِقَهُ، إذَا لَمْ يَكُنْ السَّيِّدُ مُتَسَبِّبًا إلَيْهِ، ثُمَّ، إنْ كَانَتْ نَوَتْ هَذَا حِينَ الْعَقْدِ فَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى مَا تُضَارُّهُ بِهِ مَعَ غِنَاهَا عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَوَصَّلَ إلَى بَعْضِ أَغْرَاضِهَا الَّتِي لَا تَجِبُ لَهَا بِمَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى غَيْرِهَا، فَكَيْفَ إذَا قَصَدَتْ أَنْ تَحِلَّ لِنَفْسِهَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِأَضْرَارِ الْغَيْرِ، فَهَذَا الضَّرْبُ قَرِيبٌ مِمَّا ذُكِرَ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ. الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ تَتَسَبَّبَ إلَى فُرْقَتِهِ بِمَعْصِيَةٍ مِثْلَ أَنْ تَنْشُزَ عَلَيْهِ أَوْ تُسِيءَ الْعَشَرَةَ بِإِظْهَارِ الْكَرَاهَةِ فِي بَذْلِ حُقُوقِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَضَمَّنُ تَرْكَ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلَ مُحَرَّمٍ، مِثْلَ طُولِ اللِّسَانِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ هَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ النُّشُوزِ وَعَلَى وُجُوبِ حُقُوقِ الرَّجُلِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا؛ وَهَذَا حَرَامٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُحَرَّمٌ؛ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تَقْصِدُ بِهِ أَنْ تُزِيلَ مِلْكَهُ عَنْهَا بِفِعْلٍ هُوَ فِيهِ مُكْرَهٌ إذَا طَلَّقَ أَوْ خَلَعَ مُفَادِيًا مِنْ شَرِّهَا؛ وَالِاحْتِيَالُ عَلَى إبْطَالِ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي إبْطَالِ مَا انْعَقَدَ سَبَبُهُ وَلَمْ يَجِبْ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ؛ وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِاحْتِيَالُ عَلَى إبْطَالِ حَقِّ مُسْلِمٍ بِحَالٍ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ مَقْصُودَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ لَا مُجَرَّدُ التَّخَلُّصِ مِنْهُ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا أَنْ تُظْهِرَ مَعْصِيَةً تُنَفِّرُهُ عَنْهَا لِيُطَلِّقَهَا، مِثْلَ أَنْ تُرِيَهُ أَنَّهَا تَتَبَرَّجُ لِلرِّجَالِ الْأَجَانِبِ؛ وَيَكُونُوا فِي الْبَاطِنِ ذَوِي مَحَارِمِهَا فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا؛ فَإِنَّ هَذَا الْفِعْلَ حَرَامٌ فِي نَفْسِهِ؛ إذْ لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُرِيَ زَوْجَهَا أَنَّهَا فَاجِرَةٌ؛ كَمَا لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَفْجُرَ؛ فَإِنَّ هَذَا أَشَدُّ إيذَاءً لَهُ مِنْ نُشُوزِهَا عَنْهُ؛ فَهَذَا أَشَدُّ تَحْرِيمًا وَأَظْهَرُ إبْطَالًا لِلْعَقْدِ الثَّانِي مِنْ خِطْبَةِ الرَّجُلِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ. وَهَذَا نَظِيرُ أَنْ يُخَبِّبَ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ لِيَتَزَوَّجَهَا فَإِنَّ السَّعْيَ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ بَلْ هُوَ فِعْلُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَفِعْلُ الشَّيْطَانِ الْمَحْظِيِّ عِنْدَ إبْلِيسَ؛ كَمَا جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ. وَلَا رَيْب أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ تَزَوَّجَهَا؛ ثُمَّ بُطْلَانُ عَقْدِ الثَّانِي هُنَا أَقْوَى مِنْ بُطْلَانِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَأَقْوَى مِنْ بُطْلَانِ بَيْعِهِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَشِرَائِهِ عَلَى شِرَائِهِ.

فَإِنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ هُنَا حَصَلَ بِفِعْلِ مُبَاحٍ فِي الْأَوَّلِ لَوْ تَجَرَّدَ عَنْ قَصْدِ مُزَاحِمَةِ الْمُسْلِمِ، وَهُنَا فِيهِ قَصْدُ الْمُزَاحِمَةِ، وَإِنَّ الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ مُحَرَّمٌ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ صَحَّحَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْعَقْدَ الثَّانِيَ، وَإِنَّمَا صَارَ فِي صِحَّةِ مِثْلِ هَذَا خِلَافٌ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ. وَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَقْدِ الثَّانِي، وَالِاعْتِقَادُ أَنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا لَا لِمَعْنًى فِي الْعَقْدِ الثَّانِي وَلَكِنْ لِشَيْءٍ خَارِجٍ عَنْهُ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا؛ لَكِنْ إنْ تَزَوَّجَتْ بِنِيَّةِ أَنْ تَفْعَلَ هَذَا بِأَنْ تَنْوِيَ أَنَّهَا تَخْلَعُ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ تَطْلُقْ وَإِلَّا نَشَزَتْ عَنْهُ، وَأَنْ تَحْتَالَ عَلَيْهِ لِتَطْلُقَ " فَهَذَا الْعَقْدُ الْأَوَّلُ أَيْضًا حَرَامٌ؛ وَإِذَا كَانَ مَنْ تَزَوَّجَ بِصَدَاقٍ يَنْوِي أَنْ لَا يُؤَدِّيَهُ زَانِيًا أَوْ مَنْ أَدَّانِ دَيْنًا يَنْوِي أَنْ لَا يَقْضِيَهُ سَارِقًا فَمَنْ تَزَوَّجَتْ تَنْوِي أَنْ لَا تُقِيمَ حُقُوقَ الزَّوْجِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ عَاصِيَةً، فَإِنَّهَا مَعَ أَنَّهَا قَصَدَتْ أَنْ لَا تَفِيَ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ قَدْ قَصَدَتْ أَنْ تُفَارِقَهُ لِتَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ، فَصَارَتْ قَاصِدَةً لِعَدَمِ هَذَا الْعَقْدِ وَلِوُجُودِ غَيْرِهِ بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ، وَتَحْرِيمُ هَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] وَهَذِهِ تَنْوِي أَنْ لَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ فَهِيَ أَبْلَغُ مِنْ الَّتِي لَا تَظُنُّ إقَامَةَ حُدُودِ اللَّهِ، وَهَذَا مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً وَبِنِيَّتِهِ أَنْ لَا يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي أَوْ يُؤَجِّرَ دَارًا بِنِيَّةِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُسْتَأْجِرَ مِنْ سُكْنَاهَا، بَلْ هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقْصِدُ بِمَنْعِ الْحُقُوقِ حَمْلَهُ عَلَى الْفُرْقَةِ، فَتَقْصِدُ مَنْعَ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَإِزَالَةَ الْمِلْكِ، وَمِثْلُ هَذَا الْعَقْدِ يُطْلِقُ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ صِحَّتَهُ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ الْآخَرَ لَمْ يَفْعَلْ مُحَرَّمًا، فَفِي الْحُكْمِ بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، وَالْإِبْطَالُ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّهِ فَلَا يُزَالُ عَنْهُ ضَرَرٌ قَلِيلٌ بِضَرَرٍ كَثِيرٍ، وَلَيْسَ الْعَقْدُ حَرَامًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ حَتَّى يَحْكُمَ بِفَسَادِهِ، وَمَتَى حُكِمَ بِالصِّحَّةِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ حُكِمَ بِحِلِّ مَا يَأْخُذُهُ صَاحِبُهُ ذَلِكَ السُّوءُ فَيُحْكَمُ بِوُجُوبِ عِوَضِهِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا كَانَ آكِلًا لَهُ بِالْبَاطِلِ، وَمَتَى قِيلَ بِوُجُوبِ الْعِوَضِ عَلَيْهِ، فَإِنَّمَا يَجِبُ لِلْآخَرِ الْخَادِعِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَصَدَ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَأَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعِوَضَ الْأَوَّلَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَزِمَ مِنْ هَذَا اسْتِحْقَاقُهُ لِذَلِكَ الْمَالِ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ. فَصِحَّةُ الْعَقْدِ تُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، وَحَدُّ الِانْتِقَاعِ مَشْرُوطٌ بِبَذْلِ الْعِوَضِ فَإِنْ مَنَعَتْ الْمَرْأَةُ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقٌّ عَلَى الزَّوْجِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ بِفَسَادِ مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ حَتَّى قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي النَّجْشِ، وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَالْمُتَوَجِّهُ

أَنْ يُقَالَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ بِمَا حَصَلَ لَهُ فِي هَذَا الْعَقْدِ مَعَ حِلِّ الِانْتِفَاعِ لِلْآخَرِ، كَمَا تَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَحُولُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَالِهِ فَعَلَيْهِ بَدَلُهُ يَنْتَفِعُ بِهِ مَالِكُ الْمَالِ حَلَالًا مَعَ أَنَّ الْحَائِلَ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِمَا فِي يَدَيْهِ مِنْ الْمَالِ الَّذِي حَالَ بَيْنَ مَالِكِهِ وَبَيْنَهُ، فَكَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَدِهِمَا فَاسِدًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ، وَمَعْنَى التَّصْحِيحِ مَا حَصَلَ الْعِوَضُ الْمَقْصُودُ بِهِ وَهَذَا مِمَّا يُمْكِنُ تَنْوِيعُهُ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا أَنْ تَخْدَعَهُ بِأَنْ تَسْتَحْلِفَهُ يَمِينًا بِالطَّلَاقِ. ثُمَّ تَحُثُّهُ فِيهَا بِأَنْ تَقُولَ أَقَارِبِي يُرِيدُونَ أَنْ أَذْهَبَ إلَيْهِمْ وَأَنَا أَكْرَهُ ذَلِكَ، فَاحْلِفْ عَلَى أَنْ لَا أَخْرُجَ إلَيْهِمْ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، فَيَحْلِفُ ثُمَّ تَذْهَبُ إلَيْهِمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا أَيْضًا لَا رَيْبَ فِي تَحْرِيمِهِ فَإِنَّ هَذِهِ عَصَتْهُ بِأَنْ فَعَلَتْ مَا نَهَاهَا عَنْهُ مِنْ الْخُرُوجِ وَنَحْوِهِ، وَخَدَعَتْهُ بِأَنْ احْتَالَتْ عَلَى أَنْ طَلَّقَ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْحِيلَةُ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهَذِهِ مِثْلُ مَا قَبْلَهَا. الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ تَفْعَلَ هِيَ مَا يُوجِبُ فُرْقَتَهَا مِثْلَ أَنْ تَرْتَدَّ أَوْ تُرْضِعَ امْرَأَةً صَغِيرَةً حَتَّى تَصِيرَ مِنْ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، أَوْ تُبَاشِرَ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمُرْتَدَّةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْفَسِخَ نِكَاحُهَا، فَأَمَّا الْإِرْضَاعُ وَالْمُبَاشَرَةُ فَيَنْفَسِخُ بِهِمَا النِّكَاحُ فَهَذَا أَيْضًا تَحْرِيمُهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَهَذَا قَدْ أُزِيلَ نِكَاحُهُ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ، كَمَا صُرِفَ الْخَاطِبُ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ، ثُمَّ إزَالَةُ النِّكَاحِ الَّذِي قَدْ حَصَلَ لَيْسَ مِثْلَ مَنْعِ الْمُنْتَظِرِ، فَإِذَا كَانَتْ قَدْ قَصَدَتْ هَذَا حِينَ الْعَقْدِ فَقَدْ تَعَدَّدَتْ الْمُحَرَّمَاتُ، وَفَسَادُ الْعَقْدِ الثَّانِي هَذَا أَظْهَرُ مِنْ فَسَادِ عَقْدِ الْخَاطِبِ الثَّانِي بِكَثِيرٍ، وَفَسَادُ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ هُنَا مُحْتَمَلٌ، فَإِنَّ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُحَلِّلِ حَيْثُ نَوَتْ أَنْ تَفْعَلَ مَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ، كَمَا نَوَى الرَّجُلُ الْفُرْقَةَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ نِيَّةِ الْفُرْقَةِ وَنِيَّةِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ، فَإِنَّ نِيَّةَ الْمَرْأَةِ وَالْمُطَلِّقِ بَيْعُ الزَّوْجِ الْعَبْدَ لَهَا لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ نِيَّةِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ الْفُرْقَةَ، لَكِنْ يُقَالُ إنَّهَا قَدْ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِرْضَاعِ وَالْمُبَاشَرَةِ، كَتَمَكُّنِ الزَّوْجِ مِنْ الطَّلَاقِ، وَتَمَكُّنِ الْمُطَلِّقِ مِنْ بَيْعِ الْعَبْدِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَنْوِيَّ هُنَا فِعْلٌ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ، فَقَدْ لَا يَفْعَلُهُ بِخِلَافِ مَا كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ يَجْعَلْ الشَّرْعُ إلَيْهَا هَذَا الْفَسْخَ مُبَاشَرَةً وَلَا سَبَبًا، فَنِيَّتُهَا أَنْ تَفْعَلَهُ مِثْلُ مُخَادَعَةِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِلْآخَرِ، وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّوْجِ بِخِلَافِ نِيَّةِ الزَّوْجِ لِلْفَسْخِ فَإِنَّ الشَّارِعَ مَلَّكَهُ إيَّاهُ فَإِذَا نَوَاهُ خَرَجَ الْعَقْدُ عَنْ أَنْ

يَكُونَ مَقْصُودًا، وَكَذَلِكَ إذَا نَوَاهُ السَّيِّدُ وَالزَّوْجَةُ، فَإِنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الْفُرْقَةَ شَرْعًا بِنَقْلِ الْمِلْكِ فِي الزَّوْجِ، فَإِذَا قَصَدَ ذَلِكَ خَرَجَ الْعَقْدُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا مِمَّنْ يَمْلِكُ رَفْعَهُ شَرْعًا، لَا سِيَّمَا وَالسَّيِّدُ بِمَنْزِلَةِ الزَّوْجِ فِي النِّكَاحِ، وَالسَّيِّدُ وَالْعَبْدُ فِي النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ الزَّوْجِ الْحُرِّ، فَهُوَ يَمْلِكُ الْعَقْدَ بِمُوَاطَأَةِ الْمَرْأَةِ، فَنِيَّتُهُ لِلْفَسْخِ كَنِيَّةِ الزَّوْجِ، إذْ النِّكَاحُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِإِذْنِ الزَّوْجِ، وَلَمْ يُوجَدْ لِلزَّوْجِ إذْنُ رَغْبَةٍ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَحْتَاجُ إلَى رَغْبَتِهَا إذَا رَضِيَتْ بِالْعَقْدِ، كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهَا إذَا مَلَّكَتْ اسْتَوَى الْحَالُ فِي رَغْبَتِهَا وَعَدَمِ رَغْبَتِهَا. وَبِالْحَمَلَةِ فَهَذِهِ قَصَدَتْ الْفَسْخَ بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تَلْحَقَ بِاَلَّتِي قَبْلَهَا، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُحَرَّمُ يُوجِبُ الْفَسْخَ مُبَاشَرَةً أَوْ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ الْمُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا، أَوْ السَّبَبِ الْمُغَلَّبِ بِالْمُبَاشَرَةِ. الْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ: أَنْ تَقْصِدَ وَقْتَ الْعَقْدِ الْفُرْقَةَ بِسَبَبِ تَمْلِكُهُ بِغَيْرِ رِضَا الزَّوْجِ، وَمِثْلُ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِفَقِيرٍ تَنْوِي طَلَبَ فُرْقَتِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا، فَإِنَّهَا تَمْلِكُ ذَلِكَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهَا إذَا رَضِيَتْ بِمُعْسِرٍ ثُمَّ سَخِطَتْهُ فَفِي ثُبُوتِ الْفَسْخِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ، فَهَذِهِ إلَى الْمُحَلِّلِ أَقْرَبُ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا، إذْ السَّبَبُ هُنَا مَمْلُوكٌ لَهَا شَرْعًا، كَطَلَاقِ الْمُحَلِّلِ وَبَيْعِ الزَّوْجِ الْعَبْدَ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَتْ لَمْ أَعْلَمُ أَنَّهُ مُعْسِرٌ، أَوْ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ نَاقِصٌ عَنِّي لَيْسَ بِكُفْءٍ، أَوْ لَمْ أَعْلَمُ أَنَّهُ مَعِيبٌ فَإِنَّ هَذَا يُثْبِتُ لَهَا الْفَسْخَ. لَكِنْ إذَا نَوَتْ ذَلِكَ فَقَدْ نَوَتْ الْكَذِبَ فَتَصِيرُ مِنْ جِنْسِ الَّتِي قَبْلَهَا إذَا نَوَتْ الْإِرْضَاعَ أَوْ الْمُبَاشَرَةَ، وَهَذَا أَقْوَى مِنْ حَيْثُ إنَّ هَذَا الْكَذِبَ مُمْكِنٌ فَإِنَّهُ مِنْ الْأَقْوَالِ لَيْسَ مِنْ الْأَفْعَالِ، وَإِنَّمَا يُفَارِقُ الْمُحَلِّلُ فِي جَوَازِ التَّوْبَةِ. وَمَسْأَلَةُ الْمُعْسِرِ مُحْتَمَلٌ فِيهَا تَجَرُّدُ الْيَسَارِ فَلَيْسَ الْمَنْوِيُّ هُنَا مَقْطُوعًا بِإِمْكَانِهِ كَنِيَّةِ الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَيْسَ بِمُؤَثِّرٍ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَبِيعَهَا الْعَبْدَ أَيْضًا بِأَنْ يَحْدُثَ لَهُ عِتْقٌ أَوْ يَمُوتَ الْمُطَلِّقُ أَوْ يَرْجِعَ السَّيِّدُ عَنْ هَذِهِ النِّيَّةِ. وَمَسْأَلَةُ التَّزْوِيجِ بِمُعْسِرٍ وَنَحْوِهِ شَبِيهَةٌ بِمَسْأَلَةِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ الْفُرْقَةَ قَدْ نَوَاهَا مَنْ يَمْلِكُهَا، وَمَتَى نَوَاهَا مَنْ يَمْلِكُهَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الزَّوْجُ أَوْ السَّيِّدُ أَوْ الزَّوْجَةُ وَحْدَهَا أَوْ الزَّوْجَةُ وَأَجْنَبِيٌّ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْمُطَلَّقَةُ أَمَةً فَاتَّفَقَتْ هِيَ وَسَيِّدُهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا بِعَبْدٍ ثُمَّ يَعْتِقَهَا، فَإِنَّهُمَا قَدْ اتَّفَقَا عَلَى فُرْقَةٍ لَا يَمْلِكُهَا الزَّوْجُ، مِثْلَ مَسْأَلَةِ بَيْعِهَا الزَّوْجَ الْعَبْدَ، وَسَائِرُ الْمَسَائِلِ الَّتِي قَصَدَتْ الْفُرْقَةَ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ مِثْلِ دَعْوَى عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْعُسْرَةِ،

أَوْ النَّقْصِ أَوْ الْعَيْبِ أَيْضًا قَرِيبَةٌ مِنْ هَذَا، وَمَتَى تَزَوَّجَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَفَارَقَتْ فَهِيَ كَالرَّجُلِ الْمُحَلِّلِ وَأَسْوَأَ، فَلَا يَحِلُّ لَكِنْ لَوْ أَقَامَتْ عِنْدَ الزَّوْجِ فَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ كَمَا فِي الرَّجُلِ الْمُحَلِّلِ، وَلَوْ عَلِمَ الرَّجُلُ أَنَّ هَذَا كَانَ مِنْ نِيَّتِهَا وَهِيَ مُقِيمَةٌ عَلَيْهِ، فَهَلْ يَسَعُهُ الْمُقَامُ مَعَهَا هَذَا فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ فِي النِّكَاحِ مَمْلُوكَةٌ وَالزَّوْجُ هُوَ الْمَالِكُ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَاقِدًا وَمَعْقُودًا عَلَيْهِ، لَكِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الزَّوْجِ أَنَّهُ مَالِكٌ وَالْغَالِبَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ. وَنِيَّةُ الْإِنْسَانِ قَدْ لَا تُؤَثِّرُ فِي إبْطَالِ مِلْكِ غَيْرِهِ، كَمَا يُؤَثِّرُ فِي إبْطَالِ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ مُحَرَّمٍ، فَالرَّجُلُ إذَا نَوَى التَّحْلِيلَ فَقَدْ قَصَدَ مَا يُنَافِي الْمِلْكَ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُ فَانْتَفَتْ سَائِرُ الْأَحْكَامِ تَبَعًا، وَإِذَا نَوَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَأْتِيَ بِالْفُرْقَةِ فَقَدْ نَوَى هُوَ لِلْمِلْكِ وَهِيَ قَدْ مَلَّكَتْهُ نَفْسَهَا فِي الظَّاهِرِ، وَالْمِلْكُ يَحْصُلُ لَهُ إذَا قَصَدَهُ حَقِيقَةً مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ ظَاهِرًا، لَكِنَّ نِيَّتَهَا تُؤَثِّرُ فِي جَانِبِهَا خَاصَّةً فَلَا يَحْصُلُ لَهَا بِهَذَا النِّكَاحِ حِلُّهَا لِلْأَوَّلِ حَيْثُ لَمْ تَقْصِدْ أَنْ تَنْكِحَ، وَإِنَّمَا قَصَدَتْ أَنْ تُنْكَحَ، وَالْقُرْآنُ قَدْ عَلَّقَ الْحِلُّ بِأَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ نِكَاحٌ حَقِيقَةً مِنْ جِهَتِهَا لِزَوْجٍ هُوَ زَوْجٌ حَقِيقَةً، فَإِذَا كَانَ مُحَلِّلًا لَمْ يَكُنْ زَوْجًا بَلْ تَيْسًا مُسْتَعَارًا، وَإِذَا كَانَتْ قَدْ نَوَتْ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَرْفَعُ النِّكَاحَ لَمْ تَكُنْ نَاكِحَةً حَقِيقَةً، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْأَحْكَامِ دَقِيقَةُ الْمَسْلَكِ وَتَحْرِيرُهَا يُسْتَمَدُّ مِنْ تَحْقِيقِ اقْتِضَاءِ النَّهْيِ. وَالْفَسَادُ وَإِمْكَانُ فَسَادِ الْعَقْدِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي هَذَا لَا يَخُصُّ مَسْأَلَةَ التَّحْلِيلِ لَمْ يَحْسُنْ بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ، وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي نِيَّةِ الْمَرْأَةِ لَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَتِهَا. وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّ كَلَامَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّ نِيَّةَ الْمَرْأَةِ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ يَعُمُّ مَا إذَا نَوَتْ أَنْ تُفَارِقَ بِطَرِيقِ تَمَلُّكِهِ، فَإِنَّهُمْ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الْفُرْقَةَ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، ثُمَّ إنَّهُمْ قَالُوا إنَّ نِيَّةَ الْمَرْأَةِ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ، فَأَمَّا إذَا نَوَتْ وَعَمِلَتْ مَا نَوَتْ فَلَمْ يَنْفُوا تَأْثِيرَ الْعَمَلِ مَعَ النِّيَّةِ، عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ الْمُطْلَقَةَ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يَمْلِكُهُ النَّاوِي، فَعَلِمَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالنِّيَّةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالْأَوَّلِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا إذَا نَوَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالْأَوَّلِ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ شَيْئًا كَمَا تَقَرَّرَ فَإِنَّ هَذِهِ النِّيَّةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِنِكَاحِ الثَّانِي، وَلَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ

يَقْتَضِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْعُرْفَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هِيَ نِيَّةُ مُرَاجَعَةِ الْأَوَّلِ إذَا أَمْكَنَتْ، فَأَمَّا إذَا نَوَتْ فِعْلًا مُحَرَّمًا أَوْ خَدِيعَةً أَوْ مَكْرًا وَفَعَلَتْ ذَلِكَ فَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ، وَبِهَذَا التَّقْسِيمِ يَظْهَرُ حَقِيقَةُ الْحَالِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَيَظْهَرُ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَانِبِ مَنْ اعْتَبَرَ نِيَّةَ الْمَرْأَةِ مُطْلَقًا، وَالْمَسْأَلَةُ تَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَلَكِنَّ هَذَا الَّذِي تَيَسَّرَ الْآنَ، وَهُوَ آخَرُ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ، وَهِيَ كَانَتْ الْمَقْصُودَةَ أَوَّلًا بِالْكَلَامِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ فِيهَا مَبْنِيًّا عَلَى قَاعِدَةِ الْحِيَلِ، وَالْتَمَسَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ مَزِيدَ بَيَانٍ فِيهَا ذَكَرْنَا فِيهَا مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ بِحَسَبِ مَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ. وَإِلَّا فَالْحِيَلُ يَحْتَاجُ اسْتِيفَاءُ الْكَلَامِ فِيهَا إلَى أَنْ يُفْرِدَ كُلَّ مَسْأَلَةٍ بِنَظَرٍ خَاصٍّ، وَيَذْكُرَ حُكْمَ الْحِيلَةِ فِيهَا، وَطُرُقَ إبْطَالِهَا إذَا وَقَعَتْ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ عِدَّةَ أَسْفَارٍ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَجْعَلُ ذَلِكَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ وَمُوَافِقًا لِمَحَبَّتِهِ وَمَرْضَاتِهِ آمِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة

[كِتَابٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الطَّوَائِفِ الْمُلْحِدَةِ وَالزَّنَادِقَةِ] [خِطْبَة الْكتاب] ِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْلِيمًا. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ فِي آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَسَبْعُمِائَةٍ، جَاءَ أَمِيرَانِ رَسُولَانِ مِنْ عِنْدِ الْمَلَإِ الْمُجْتَمِعِينَ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَمَنْ مَعَهُمْ، وَذَكَرَا رِسَالَةً مِنْ عِنْدِ الْأُمَرَاءِ، مَضْمُونُهَا طَلَبُ الْحُضُورِ وَمُخَاطَبَةُ الْقُضَاةِ لِتَخْرُجَ وَتَنْفَصِلَ الْقَضِيَّةُ، وَأَنَّ الْمَطْلُوبَ خُرُوجُك، وَأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مُخْتَصَرًا وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَقُلْت سَلِّمْ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَقُلْ لَهُمْ لَكُمْ سَنَةٌ وَقَبْلَ السَّنَةِ مُدَّةٌ أُخْرَى تَسْمَعُونَ كَلَامَ الْخُصُومِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَإِلَى السَّاعَةِ لَمْ تَسْمَعُوا مِنِّي كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ، فَلَوْ كَانَ الْخَصْمُ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ عَدُوًّا آخَرَ لِلْإِسْلَامِ وَلِدَوْلَتِكُمْ لَمَا جَازَ أَنْ تَحْكُمُوا عَلَيْهِ حَتَّى تَسْمَعُوا كَلَامَهُ، وَأَنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ كَلَامَ الْخُصُومِ وَحْدَهُمْ فِي مَجَالِسَ كَثِيرَةٍ، فَاسْمَعُوا كَلَامِي وَحْدِي فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَبَعْدَ ذَلِكَ نَجْتَمِعُ وَنَتَخَاطَبُ بِحُضُورِكُمْ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَقَلِّ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] . فَطَلَبَ الرَّسُولَانِ أَنْ أَكْتُبَ ذَلِكَ فِي وَرَقَةٍ فَكَتَبْته فَذَهَبَا ثُمَّ عَادَا، وَقَالَا: الْمَطْلُوبُ حُضُورُك لِتُخَاطِبَك الْقُضَاةُ بِكَلِمَتَيْنِ وَتَنْفَصِلَ

وَكَانَ فِي أَوَائِلِ النِّصْفِ مِنْ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ جَاءَنَا هَذَانِ الرَّسُولَانِ بِوَرَقَةٍ كَتَبَهَا لَهُمْ الْمُحَكَّمُ مِنْ الْقُضَاةِ، وَهِيَ طَوِيلَةٌ طَلَبَتْ مِنْهُمْ نُسَخًا فَلَمْ مِنْ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةً وَلَا تَشْبِيهَ. قُلْتُ: فِي خَطِّي وَخَاطَبَنِي بِخِطَابٍ فِيهِ طُولٌ قَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَنَدِمُوا عَلَى كِتَابَةِ تِلْكَ الْوَرَقَةِ وَكَتَبُوا هَذِهِ، فَقُلْت: أَنَا لَا أَحْضُرُ إلَى مَنْ يَحْكُمُ فِي بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ وَبِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَيَفْعَلُ بِي مَا لَا تَسْتَحِلُّهُ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى، كَمَا فَعَلْتُمْ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ، وَقُلْت لِلرَّسُولِ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ بِحُضُورِكُمْ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَمْكُرُوا بِي كَمَا مَكَرُوا فِي الْعَامِ الْمَاضِي، هَذَا لَا أُجِيبُ إلَيْهِ، وَلَكِنْ مَنْ زَعَمَ أَنِّي قُلْت قَوْلًا بَاطِلًا فَلْيَكْتُبْ خَطَّهُ بِمَا أَنْكَرَهُ مِنْ كَلَامِي وَيَذْكُرُ حُجَّتَهُ، وَأَنَا أَكْتُبُ جَوَابِي مَعَ كَلَامِهِ، وَيُعْرَضُ كَلَامِي وَكَلَامُهُ عَلَى عُلَمَاءِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، فَقَدْ قُلْت هَذَا بِالشَّامِ وَأَنَا قَائِلُهُ هُنَا، وَهَذِهِ عَقِيدَتِي الَّتِي بَحَثْت بِالشَّامِ بِحَضْرَةِ قُضَاتِهَا وَمَشَايِخِهَا وَعُلَمَائِهَا. وَقَدْ أَرْسَلَ إلَيْكُمْ نَائِبُكُمْ النُّسْخَةَ الَّتِي قُرِئَتْ وَأَخْبَرَكُمْ بِصُورَةِ مَا جَرَى، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّي، وَالْعُدْوَانِ وَالْإِغْضَاءِ عَنْ الْخُصُومِ مَا قَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ، فَانْظُرُوا النُّسْخَةَ الَّتِي عِنْدَكُمْ، وَكَانَ قَدْ حَضَرَ عِنْدِي نُسْخَةٌ أُخْرَى بِهَا فَقُلْت: خُذْ هَذِهِ النُّسْخَةَ فَهَذَا اعْتِقَادِي فَمَنْ أَنْكَرَ مِنْهُ شَيْئًا فَلْيَكْتُبْ مَا يُنْكِرُهُ وَحُجَّتَهُ لِأَكْتُبَ جَوَابِي. فَأَخَذَا الْعَقِيدَةَ وَذَهَبَا ثُمَّ عَادَا وَمَعَهُمَا وَرَقَةٌ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى كَلَامِي بَلْ قَدْ أَنْشَئُوا فِيهَا كَلَامًا طَلَبُوهُ وَذَكَرَ الرَّسُولُ أَنَّهُمْ كَتَبُوا وَرَقَةً ثُمَّ قَطَعُوهَا ثُمَّ كَتَبُوا هَذِهِ. وَلَفْظُهَا: " الَّذِي نَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَهُ أَنْ يَنْفِيَ الْجِهَةَ عَنْ اللَّهِ وَالتَّحَيُّزَ وَأَنْ لَا يَقُولَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ، بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ إشَارَةً حِسِّيَّةً، وَنَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامّ، وَلَا يَكْتُبُ بِهَا إلَى الْبِلَادِ، وَلَا فِي الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا. فَلَمَّا أَرَانِي الْوَرَقَةَ كَتَبْتُ جَوَابَهَا فِيهَا مُرْتَجِلًا مَعَ اسْتِعْجَالِ الرَّسُولِ.

أوجه الرد علي المعارضين

أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: " الَّذِي نَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَهُ أَنْ يَنْفِيَ الْجِهَةَ عَنْ اللَّهِ وَالتَّحَيُّزَ " فَلَيْسَ فِي كَلَامِي إثْبَاتٌ لِهَذَا اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ هَذَا اللَّفْظِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا بِدْعَةٌ، وَأَنَا لَا أَقُولُ إلَّا مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأَمَةِ، فَإِنْ أَرَادَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ، أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ رَبٌّ وَلَا فَوْقَ الْعَرْشِ إلَهٌ وَأَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَعْرُجْ بِهِ إلَى رَبِّهِ، وَمَا فَوْقَ الْعَالَمِ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ فَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا. وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَا تُحِيطُ بِهِ مَخْلُوقَاتُهُ، وَلَا يَكُونُ فِي جَوْفِ الْمَوْجُودَاتِ فَهَذَا مَذْكُورٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي كَلَامِي، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَجْدِيدِهِ؟ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: " لَا يَقُولُ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ " فَلَيْسَ فِي كَلَامِي هَذَا أَيْضًا وَلَا قُلْته قَطُّ. بَلْ قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْقُرْآنَ حَرْفٌ وَالصَّوْتَ قَائِمٌ بِهِ، بِدْعَةٌ، وَقَوْلُهُ: إنَّهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ بِدْعَةٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، وَأَنَا لَيْسَ فِي كَلَامِي شَيْءٌ مِنْ الْبِدَعِ، بَلْ فِي كَلَامِي مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ: أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: " إنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ إشَارَةً حِسِّيَّةً " فَلَيْسَ هَذَا اللَّفْظُ فِي كَلَامِي بَلْ فِي كَلَامِي إنْكَارُ مَا ابْتَدَعَهُ الْمُبْتَدَعُونَ مِنْ الْأَلْفَاظِ النَّافِيَةِ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا النَّفْيَ أَيْضًا بِدْعَةٌ، فَإِنْ أَرَادَ الْقَائِلُ أَنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الصَّحِيحَةِ، فَهَذَا حَقٌّ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مَنْ دَعَا اللَّهَ لَا يَرْفَعُ إلَيْهِ يَدَيْهِ، فَهَذَا خِلَافُ مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ مِنْ رَفْعِ الْأَيْدِي إلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إذَا رَفَعَ إلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا إلَيْهِ صِفْرًا» وَإِذَا سَمَّى الْمُسَمِّي ذَلِكَ إشَارَةً حِسِّيَّةً، وَقَالَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. [أَوْجُهٍ الرد عَلَيَّ الْمعَارضين] وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: " أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَامَّةِ " فَمَا فَاتَحْتُ عَامِّيًّا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَطُّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ: بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ الْمُسْتَرْشِدَ الْمُسْتَهْدِيَ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

«مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159] الْآيَةَ، فَلَا يُؤْمَرُ الْعَالِمُ بِمَا يُوجِبُ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَأَخَذَا الْجَوَابَ وَذَهَبَا فَأَطَالَا الْغَيْبَةَ، ثُمَّ رَجَعَا وَلَمْ يَأْتِيَا بِكَلَامٍ مُحَصَّلٍ إلَّا طَلَبَ الْحُضُورِ، فَأَغْلَظْتُ لَهُمْ فِي الْجَوَابِ وَقُلْتُ لَهُمْ بِصَوْتٍ رَفِيعٍ: يَا مُبَدِّلِينَ يَا مُرْتَدِّينَ عَنْ الشَّرِيعَةِ يَا زَنَادِقَةً، وَكَلَامًا آخَرَ كَثِيرًا، ثُمَّ قُمْتُ وَطَلَبْتُ فَتْحَ الْبَابِ وَالْعَوْدَ إلَى مَكَانِي. وَقَدْ كَتَبْت هُنَا بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمِحْنَةِ الَّتِي طَلَبُوهَا مِنِّي فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَبَيَّنْت بَعْضَ مَا فِيهَا مِنْ تَبْدِيلِ الدِّينِ، وَإِتْبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ نَكْتُبُ مِنْهَا مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِيهِ أَمْرٌ بِهَذَا الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ الَّذِي لَمْ يُؤْثَرْ عَنْ اللَّهِ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا بَلْ هُوَ مِنْ ابْتِدَاعِ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْجَهْمِيَّةِ الَّذِي وَصَفَ رَبَّهُ فِيهِ بِمَا وَصَفَهُ، وَنَهَى فِيهِ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ الَّذِي وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، أَنْ يُفْتَى بِهِ أَوْ يُكْتَبَ بِهِ أَوْ يُبَلَّغَ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ الْقُرْآنِ وَالشَّرِيعَةِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْهُدَى وَالرَّشَادِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعَنْ مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ. وَأَمْرٌ بِالنِّفَاقِ وَالْحَدِيثِ الْمُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْبِدْعَةِ وَالْمُنْكَرِ وَالضَّلَالِ وَالْغَيِّ وَطَاعَةِ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعٍ لِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ تَبْدِيلِ دِينِ الرَّحْمَنِ بِدِينِ الشَّيْطَانِ وَاِتِّخَاذِ أَنْدَادٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] وَقَالَ تَعَالَى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67] ، الْآيَةَ. وَهَذَا الْكَلَامُ نَهْيٌ فِيهِ عَنْ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمْرٌ بِسَبِيلِ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ تَعَالَى:

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 101] ، - إلَى قَوْلِهِ - {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102] فَذَمَّ سُبْحَانَهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ نَبَذَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَاتَّبَعَ مَا تَقُولُهُ الشَّيَاطِينُ، وَمَنْ أَمَرَ بِهَذَا الْكَلَامِ، فَقَدْ أَمَرَ بِنَبْذِ كِتَابِ اللَّهِ وَرَاءَ الظَّهْرِ حَيْثُ أَمَرَ بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، وَذَلِكَ آيَاتُ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثُ الصِّفَاتِ، فَأَمَرَ بِأَنْ لَا يُفْتَى بِهَا، وَلَا يُكْتَبَ بِهَا، وَلَا تُبَلَّغَ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا وَالنَّبْذِ لَهَا وَرَاءَ الظَّهْرِ، وَأَمْرٌ - مَعَ ذَلِكَ - بِاعْتِقَادِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِمُخَالَفَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112] ، {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] الْآيَةَ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ لِلْأَنْبِيَاءِ عَدُوًّا مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يَعْلَمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْقَوْلِ الْمُزَخْرَفِ غُرُورًا، وَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تُوحِي إلَى أَوْلِيَائِهَا بِمُجَادَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَالْكَلَامُ الَّذِي يُخَالِفُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، هُوَ مِنْ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ وَتِلَاوَتِهِمْ، فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِهِ، فَقَدْ نَبَذَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَاتَّبَعَ مَا تَتْلُوهُ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: نَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامّ وَلَا يَكْتُبَ بِهَا إلَى الْبِلَادِ وَلَا فِي الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ وَدَعَائِمِهِ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ الصِّفَاتِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، كَمَا اسْتَفَاضَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ الَّتِي لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا، وَهِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ الَّتِي لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ إلَّا بِهَا فَإِنَّ قَوْلَهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] . كُلُّ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ

ذَلِكَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَأَنَا أُحِبُّ أَقْرَأُ بِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ» . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَا كَانَ صِفَةً لِلَّهِ مِنْ الْآيَاتِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهُ، وَاَللَّهُ يُحِبُّ ذَلِكَ، وَيُحِبُّ مَنْ يُحِبُّ ذَلِكَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ آيَاتٍ فِي الصِّفَاتِ لِلصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ الَّتِي يَسْمَعُهَا الْعَامِّيُّ وَغَيْرُهُ، بَلْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَكَذَلِكَ أَوَّلُ سُورَةِ الْحَدِيدِ إلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] هِيَ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ. وَكَذَلِكَ آخِرُ سُورَةِ الْحَشْرِ هِيَ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ الصِّفَاتِ بَلْ جَمِيعُ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى هِيَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ كَقَوْلِهِ: الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ؛ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ، الْعَزِيزُ الْقَوِيُّ، الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ. وَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَرِضَاهُ وَسَخَطِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَبُغْضِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ، فَهَلْ يَأْمُر مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَنْ يُعْرَضَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ، وَأَنْ لَا يُبَلِّغَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوَهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَأَنْ لَا يَكْتُبَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ الَّذِي هُوَ آيَاتُ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثُهَا إلَى الْبِلَادِ وَلَا يُفْتِي فِي ذَلِكَ وِلَايَةً. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2] وَأَسْوَأُ أَحْوَالِ الْعَامَّةِ أَنْ يَكُونُوا أُمِّيِّينَ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى أَنْ يُتْلَى عَلَى الْأُمِّيِّينَ آيَاتِ اللَّهِ، أَوْ عَنْ أَنْ يُعَلِّمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ أُرْسِلَ إلَيْهِ الرَّسُولُ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا قَبْلَ مَعْرِفَةِ الرِّسَالَةِ أَجْهَلَ مِنْ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ، فَهَلْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَمْنُوعًا مِنْ تِلَاوَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ إيَّاهُ، أَوَ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ لَيْسَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ} [آل عمران: 99] الْآيَةَ، وَقَالَ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160]

أَوَلَيْسَ هَذَا نَوْعًا مِنْ الْأَمْرِ بِهَجْرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَتَرْكِ اسْتِمَاعِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 31] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] فَهَلَّا قَالَ فَاسْتَمِعُوا لَهُ لَا لِأَعْظَمَ مَا فِيهِ وَهُوَ مَا وَصَفْت بِهِ نَفْسِي فَلَا تَسْتَمِعُوهُ أَوْ لَا تُسْمِعُوهُ لِعَامَّتِكُمْ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] ، وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 18] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الكهف: 57] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء: 106] إلَى قَوْلِهِ: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ أَعْظَمَ مَا يَحْذَرُهُ الْمُنَازِعُ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ مَا يَزْعُمُ أَنَّ ظَاهِرَهَا كُفْرٌ وَتَجْسِيمٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] ، وقَوْله تَعَالَى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] .: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75] ، وقَوْله تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52] . {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22] الْآيَةَ. فَهَلْ سُمِعَ أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مَنَعَ أَنْ يَقْرَأَ هَذِهِ وَتُتْلَى عَلَى الْعَامَّةِ وَهَلْ ذَلِكَ إلَّا بِمَنْزِلَةِ مَنْ مَنَعَ مِنْ سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي يَزْعُمُ أَنَّ ظَاهِرَهَا كُفْرٌ وَتَجْسِيمٌ وَخَبَرٌ يُخَالِفُ رَأْيَهُ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] ، وَقَوْلُهُ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] وَقَوْلُهُ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] ، وَقَوْلُهُ: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] ، وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] ، وَقَوْلُهُ: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186]

وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125] وَكَذَلِكَ آيَاتُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَأَحَادِيثُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ هَلْ يَتْرُكُ تَبْلِيغَهَا لِمُخَالَفَتِهَا لَهُ، أَوْ الْوَعِيدِيَّةِ أَوْ الْمُرْجِئَةِ، وَآيَاتُ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ كَقَوْلِهِ: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] . وَقَوْلُهُ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] وَقَوْلُهُ: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: 94] إلَى قَوْلِهِ: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 98] ، وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، وَقَوْلُهُ: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22] . وَنَحْوُ ذَلِكَ هَلْ يَتْرُكُ تِلَاوَتَهَا وَتَبْلِيغَهَا لِمُخَالَفَتِهَا لِرَأْيِ أَهْلِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ؟ ،. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ كُتُبَ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ هِيَ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، بَلْ قَدْ بُوِّبَ فِيهَا أَبْوَابٌ مِثْلُ كِتَابِ التَّوْحِيدِ وَالرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ " الَّذِي هُوَ آخِرُ كِتَابِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمِثْلُ كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَكِتَابِ النُّعُوتِ " فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ فَإِنَّ هَذِهِ مُفْرَدَةٌ لِجَمْعِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَكَذَلِكَ قَدْ تَضَمَّنَ " كِتَابُ السُّنَّةِ " مِنْ سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مَا تَضَمَّنَهُ وَكَذَلِكَ تَضَمَّنَ صَحِيحُ مُسْلِمٍ، وَجَامِعُ التِّرْمِذِيِّ، وَمُوَطَّأُ مَالِكٍ. وَمُسْنَدُ الشَّافِعِيِّ، وَمُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَمُسْنَدُ مُوسَى بْنِ قُرَّةَ الزُّبَيْدِيِّ، وَمُسْنَدُ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ، وَمُسْنَدُ ابْنِ وَهْبٍ، وَمُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ. وَمُسْنَدُ مُسَدَّدٍ، وَمُسْنَدُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَمُسْنَدُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيِّ، وَمُسْنَدُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُسْنَدُ بَقِيٍّ بْنِ مَخْلَدٍ، وَمُسْنَدُ الْحُمَيْدِيِّ. وَمُسْنَدُ الدَّارِمِيِّ، وَمُسْنَدُ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَمُسْنَدُ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ، وَمُسْنَدُ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، وَمُسْنَدُ أَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ، وَمُعْجَمُ الْبَغَوِيّ، وَالطَّبَرَانِيِّ،

وَصَحِيحُ أَبِي حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ، وَصَحِيحُ الْحَاكِمِ، وَصَحِيحُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالْبَرْقَانِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ، وَالْجَوْزَقِيِّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمُصَنَّفَاتِ الْأُمَّهَاتِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إلَّا اللَّهُ: دَعْ مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ مُصَنَّفَاتِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَجَامِعِ الثَّوْرِيِّ، وَجَامِعِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَمُصَنَّفَاتِ وَكِيعٍ، وَهُشَيْمٍ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَمَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ. فَهَلْ امْتَنَعَ الْأَئِمَّة مِنْ قِرَاءَةِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ. أَمْ مَا زَالَتْ هَذِهِ الْكُتُبُ يَحْضُرُ قِرَاءَتَهَا أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَمَّا حَدَّثَ بِهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْمُخَالِفِينَ، هَلْ كَانُوا يُخْفُونَهَا عَنْ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَتَكَاتَمُونَهَا وَيُوصُونَ بِكِتْمَانِهَا، أَمْ كَانُوا يُحَدِّثُونَ بِهَا كَمَا كَانُوا يُحَدِّثُونَ بِسَائِرِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ رِوَايَةِ بَعْضِهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَهَذَا كَمَا قَدْ كَانَ هَذَا يَمْتَنِعُ عَنْ رِوَايَةِ بَعْضِ أَحَادِيثَ فِي الْفِقْهِ وَالْأَحْكَامِ وَبَعْضِ أَحَادِيثِ الْقَدْرِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مَخْصُوصًا بِهَذَا الْبَابِ، وَهَذَا كَانَ يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَيُخَالِفُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى أَنَّ رِوَايَتَهَا تَضُرُّ بَعْضَ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَيَرَى الْآخَرُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بَلْ يَنْفَعُ، فَكَانَ هَذَا مِمَّا قَدْ يَتَنَازَعُونَ فِيهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. فَأَمَّا الْمَنْعُ مِنْ تَبْلِيغِ عُمُومِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ، فَهَذَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَإِنَّمَا هَذَا وَنَحْوُهُ رَأْيُ الْخَارِجِينَ الْمَارِقِينَ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، كَالرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْحَرُورِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ وَهُوَ عَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ ثُمَّ الْأَحَادِيثُ الَّتِي يَتَنَازَعُ الْعُلَمَاءُ فِي رِوَايَتِهَا، أَوْ الْعَمَلُ بِهَا لَيْسَ لِأَحَدِ الْمُتَنَازِعِينَ أَنْ يُكْرِهَ الْآخَرَ عَلَى قَوْلِهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] . الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ إذَا قُدِّرَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْأُمَّةَ عِنْدَ التَّنَازُعِ بِالرَّدِّ إلَيْهِ وَإِلَى

رَسُولِهِ وَوَصَفَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ ذَلِكَ بِالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ، فَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 60 - 61] {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62] إلَى قَوْله: {بَلِيغًا} [النساء: 63] فَوَصَفَ سُبْحَانَهُ مَنْ دُعِيَ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَأَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ بِالنِّفَاقِ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّوْفِيقَ بِذَلِكَ بَيْنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُرِيدُ إحْسَانَ الْعِلْمِ أَوْ الْعَمَلِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170] الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [الأحزاب: 66] إلَى قَوْلِهِ: {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 68] . الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} [البقرة: 159] الْآيَةَ، وَيَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 174] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 187] الْآيَةَ فَمَنْ أَمَرَ بِكَتْمِ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ فَقَدْ كَتَمَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ، وَهَذَا مِمَّا ذَمَّ اللَّهُ بِهِ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الزَّائِغِينَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 140] .

الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ مَنْ أَمَرَ بِكِتْمَانِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ كَالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بِهَا رَسُولُهُ، وَأَمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِوَصْفِ اللَّهِ بِصِفَاتٍ أَحْدَثَهَا الْمُبْتَدِعُونَ، تَحْتَمِلُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، أَوْ تَجْمَعُ حَقًّا وَبَاطِلًا، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، وَهُوَ أَصْلُ الدِّينِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، فَهَذَا مُضَاهَاةٌ لِمَا ذَمَّ اللَّهُ بِهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59] ، وَقَالَ: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] إلَى قَوْلِهِ: {مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَتَبُوا هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا، وَقَالُوا لِلْعَامَّةِ هَذَا أَمْرُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ، وَهَذَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ، فَإِذَا جَمَعُوا إلَى ذَلِكَ كِتْمَانَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، فَقَدْ ضَاهُوا أَهْلَ الْكِتَابِ فِي لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَكِتْمَانِ الْحَقِّ قَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] إلَى قَوْلِهِ {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78] . الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ هَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا فِي هَذَا الْبَابِ وَفِي غَيْرِهِ عَلَى وُجُوبِ إتْبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَمِّ مَا أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْكَلَامِ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ. مِثْلُ مَا رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالْكَائِيُّ فِي أُصُولِ السُّنَّةِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صِفَةِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ وَلَا وَصْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، فَمَنْ فَسَّرَ الْيَوْمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَصِفُوا وَلَمْ يُفَسِّرُوا، وَلَكِنْ أَفْتُوا

بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ سَكَتُوا فَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فَقَدْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَفَهُ بِصِفَةٍ لَا شَيْءٍ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ: فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الْإِفْتَاءِ فِي بَابِ الصِّفَاتِ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، دُونَ قَوْلِ جَهْمٍ الْمُتَضَمِّنِ لِلنَّفْيِ، فَمَنْ قَالَ لَا يُتَعَرَّضُ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامّ، وَلَا يُكْتَبُ بِهَا إلَى الْبِلَادِ، وَلَا فِي الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، بَلْ يَعْتَقِدُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ النَّفْيِ، فَقَدْ خَالَفَ هَذَا الْإِجْمَاعَ، وَمِنْ أَقَلِّ مَا قِيلَ فِيهِمْ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَيُطَافُ بِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ، وَيُقَالُ هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ. الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: " لَا يَتَعَرَّضُ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامّ، وَلَا يَكْتُبُ بِهَا إلَى الْبِلَادِ، وَلَا فِي الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا ". إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا تُتْلَى هَذِهِ الْآيَاتُ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ عِنْدَ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ هَذَا الْقَوْلُ إنْ أُخِذَ عَلَى إطْلَاقِهِ، فَهُوَ كُفْرٌ صَرِيحٌ فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى مَا عَلِمُوهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي الصَّلَوَاتِ فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا، وَاسْتِمَاعِ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ تِلَاوَتُهَا وَإِقْرَاؤُهَا وَاسْتِمَاعُهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ هُوَ مِنْ الدِّينِ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ تَبْلِيغُ الْأَحَادِيثِ فِي الْجُمْلَةِ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ. إذْ مَا مِنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَّا وَلَا بُدَّ أَنْ تَرْوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ الْإِثْبَاتِ أَوْ النَّفْيِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُوصَفُ بِالْإِثْبَاتِ، وَهُوَ إثْبَاتُ مَحَامِدِهِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَتَمْجِيدِهِ، وَيُوصَفُ بِالنَّفْيِ، وَهُوَ نَفْيُ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ حُكْمُهَا كَذَا وَكَذَا إمَّا إقْرَارٌ وَتَأْوِيلٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَ هَذَا فَيَنْبَغِي لِقَائِلِ ذَلِكَ أَنْ يَلْتَزِمَ مَا أَلْزَمَ بِهِ غَيْرَهُ، فَلَا يَنْطِقُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ بِشَيْءٍ، وَلَا يَقُولُ الظَّاهِرُ مُرَادٌ أَوْ غَيْرُ مُرَادٍ، وَلَا التَّأْوِيلُ سَائِغٌ، وَلَا هَذِهِ النُّصُوصُ لَهَا مَعَانٍ أُخَرُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ إذْ هَذَا تَعَرُّضٌ لِآيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَإِذَا الْتَزَمَ هُوَ ذَلِكَ وَقَالَ لِغَيْرِهِ: الْتَزِمْ مَا الْتَزَمْتُهُ وَلَا تَزِدْ عَلَيْهَا وَلَا تَنْقُصْ مِنْهَا،

فَإِنَّ هَذَا عَدْلٌ بِخِلَافِ مَا إذَا نَهَى غَيْرَهُ عَنْ الْكَلَامِ عَلَيْهَا مَعَ تَكَلُّمِهِ هُوَ عَلَيْهَا، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَا يَكْتُبُ بِهَا إلَى الْبِلَادِ وَلَا فِي الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا. إنْ أَرَادَ أَنَّهَا أَنْفُسُهَا لَا تُكْتَبُ وَلَا يُفْتَى بِهَا، فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ أَرَادَ لَا يَكْتُبُ بِحُكْمِهَا، وَلَا يُفْتِي الْمُسْتَفْتِيَ عَنْ حُكْمِهَا، فَيُقَالُ لَهُ: فَعَلَيْك أَيْضًا أَنْ تَلْتَزِمَ ذَلِكَ وَلَا تُفْتِي أَحَدًا فِيهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْأُمُورِ النَّافِيَةِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ أَمْرُك لِغَيْرِك بِمِثْلِ مَا فَعَلْته عَدْلًا. أَمَّا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ إلَى هَذِهِ النُّصُوصِ فَيَتَصَرَّفُ فِيهَا بِأَنْوَاعِ التَّحْرِيفَاتِ وَالتَّأْوِيلَاتِ جُمْلَةً أَوْ تَفْصِيلًا، وَيَقُولُ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ أَنْتُمْ لَا تُعَارِضُونَ وَلَا تَتَكَلَّمُوا فِيهَا، فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَالْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ. الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ سَلَفَ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتَهَا مَا زَالُوا يَتَكَلَّمُونَ وَيُفْتُونَ وَيُحَدِّثُونَ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الصِّفَاتِ، وَهَذَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالسُّنَنِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهُ إلَّا اللَّهُ، حَتَّى إنَّهُ لَمَّا جَمَعَ النَّاسُ الْعِلْمَ وَبَوَّبُوهُ فِي الْكُتُبِ، فَصَنَّفَ ابْنُ جُرَيْجٍ التَّفْسِيرَ وَالسُّنَنَ، وَصَنَّفَ مَعْمَرٌ أَيْضًا، وَصَنَّفَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَصَنَّفَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَقْدَمِ مَنْ صَنَّفَ فِي الْعِلْمِ صَنَّفُوا هَذَا الْبَابَ، فَصَنَّفَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ كِتَابَهُ فِي الصِّفَاتِ، كَمَا صَنَّفَ كُتُبَهُ فِي سَائِرِ أَبْوَابِ الْعِلْمِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ مَالِكًا إنَّمَا صَنَّفَ الْمُوَطَّأَ تَبَعًا لَهُ، وَقَالَ: جَمَعْت هَذَا خَوْفًا مِنْ الْجَهْمِيَّةِ أَنْ يُضِلُّوا النَّاسَ، لَمَّا ابْتَدَعَتْ الْجَهْمِيَّةُ النَّفْيَ وَالتَّعْطِيلَ حَتَّى إنَّهُ لَمَّا صُنِّفَ الْكُتُبُ الْجَامِعَةُ، صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا كَمَا صَنَّفَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ كِتَابَهُ فِي الصِّفَاتِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَصَنَّفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ كِتَابَهُ فِي الصِّفَاتِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَصَنَّفَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ كِتَابَهُ فِي الصِّفَاتِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَكِتَابَهُ فِي النَّقْضِ عَلَى الْمَرِيسِيِّ وَصَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رِسَالَتَهُ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَأَمْلَى فِي أَبْوَابِ ذَلِكَ حَتَّى جَمَعَ كَلَامَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ وَصَنَّفَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ كِتَابَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَصَنَّفَ كُتُبَ السُّنَّةِ فِي الصِّفَاتِ طَوَائِفُ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، وَحَنْبَلِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ، وَخُشَيْشِ بْنِ أَصْرَمَ شَيْخِ أَبِي دَاوُد. وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ، وَالْحَكَمِ بْنِ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ

وَلِأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ، وَأَبِي الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ، وَأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ، وَأَبِي أَحْمَدَ الْعَسَّالِ وَأَبِي بَكْرٍ الْآجُرِّيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، كِتَابُ الصِّفَاتِ وَكِتَابُ الرُّؤْيَةِ؛ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بَطَّةَ، وَأَبِي قَاسِمٍ اللَّالَكَائِيِّ، وَأَبِي عُمَرَ الطَّلْمَنْكِيِّ، وَغَيْرِهِمْ. وَأَيْضًا فَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ، وَتَكَلَّمُوا فِي إثْبَاتِ مَعَانِيهَا، وَتَقْرِيرُ صِفَاتِ اللَّهِ دَلَّتْ عَلَيْهَا هَذِهِ النُّصُوصُ، لَمَّا ابْتَدَعَتْ الْجَهْمِيَّةُ جَحْدَ ذَلِكَ وَالتَّكْذِيبَ لَهُ، كَمَا فَعَلَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَكَمَا فَعَلَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَكَمَا فَعَلَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ، وَأَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ. الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَأَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةَ وَتَرَكَ أُمَّتَهُ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، وَبَيَّنَ لَهُمْ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ، وَكَانَ أَعْظَمُ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ تَعْرِيفَهُمْ رَبَّهُمْ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، وَمَا يَجِبُ وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَيَثْبُتُ لَهُ فَيُحْمَدُ وَيُثْنَى بِهِ عَلَيْهِ وَيُمَجَّدُ بِهِ، وَمَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ، فَيُنَزَّهُ عَنْهُ وَيُقَدَّسُ. ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْأُولَى الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعُهُ الَّذِينَ عَطَّلُوا حَقِيقَةَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، وَسَلَكُوا مَسْلَكَ إخْوَانِهِمْ الْمُعَطِّلَةِ الْجَاحِدِينَ لِلصَّانِعِ وَصَارَ أَغْلِبُ مَا يَصِفُونَ بِهِ الرَّبَّ هُوَ الصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ الْعَدَمِيَّةُ، وَلَا يُقِرُّونَ إلَّا بِوُجُودٍ مُجْمَلٍ، ثُمَّ يَقْرُنُونَهُ بِسَلْبٍ يَنْفِي الْوُجُودَ، وَمِنْ أَبْلَغِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ أَنَّ الطَّرِيقَةَ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهَا كُتُبَهُ، مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ الْمُفَصَّلِ، وَالنَّفْيِ الْمُجْمَلِ، كَمَا يُقَرِّرُ فِي كِتَابِهِ، وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَقُولُ فِي النَّفْيِ. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] ، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] . وَعَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ اتِّبَاعُ الْمُرْسَلِينَ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَأَمَّا طَرِيقَةُ هَؤُلَاءِ، فَهِيَ نَفْيٌ مُفَصَّلٌ، لَيْسَ بِكَذَا وَلَا كَذَا، وَإِثْبَاتٌ مُجْمَلٍ. يَقُولُونَ: هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ لَا

يُوصَفُ إلَّا بِسَلْبٍ أَوْ إضَافَةٍ أَوْ مُرَكَّبٍ مِنْهُمَا وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ، عَلِمَ أَنْ هَؤُلَاءِ فِي غَايَةِ الْمُشَاقَّةِ وَالْمُحَادَّةِ وَالْمُحَارَبَةِ لِلَّهِ وَرُسُلِهِ وَانْتَدَبَ هَؤُلَاءِ فِي تَقْرِيرِ شُبَهٍ عَقْلِيَّةٍ يَنْفُونَ بِهَا الْحَقَّ، وَتَأَوَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، فَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَأَلْحَدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، بِحَيْثُ حَمَلُوهَا عَلَى مَا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ خِلَافُ مُرَادِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا فَعَلَ إخْوَانُهُمْ الْقَرَامِطَةُ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَجَحَدُوا الْحَقَائِقَ الْعَقْلِيَّةَ، كَمَا فَعَلَ إخْوَانُهُمْ السُّوفِسْطَائِيَّة فَجَمَعُوا بَيْنَ السَّفْسَطَةِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَالْقَرَامِطَةِ فِي السَّمْعِيَّاتِ، فَلِهَذَا اُنْتُدِبَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَغَيْرُهُمْ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَتَقْرِيرِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَرَدِّ تَكْذِيبِهِمْ وَتَعْطِيلِهِمْ، وَذَكَرُوا دَلَائِلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى بَيَانِ الْحَقِّ وَرَدِّ بَاطِلِهِمْ، وَلَمَّا احْتَجَّ أُولَئِكَ بِشُبَهٍ عَقْلِيَّةٍ، بَيَّنُوا أَيْضًا لَهُمْ أَنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ وَصِحَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6] ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَنْ نَهَى عَنْ بَيَانِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْإِثْبَاتِ، وَأَمَرَ بِمَا أَحْدَثَ مِنْ النَّفْيِ الَّذِي لَا يُؤْثَرُ عَنْ الرُّسُلِ، كَانَ قَدْ أَخَذَ مِنْ مُشَاقَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمُحَادَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمُحَارَبَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بِحَسَبِ مَا سَعَى فِيهِ مِنْ ذَلِكَ، حَيْثُ أُمِرَ بِتَرْكِ مَا بَعَثَ بِهِ الرَّسُولُ، وَبِإِظْهَارِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ النَّاسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَجْعَلُوا كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ هُوَ الْأَصْلُ الْمُتَّبَعُ، وَالْإِمَامُ الْمُقْتَدَى بِهِ سَوَاءٌ عَلِمُوا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوهُ، فَيُؤْمِنُونَ بِلَفْظِ النُّصُوصِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ مَعْنَاهَا، وَأَمَّا مَا سِوَى كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلُ أَصْلًا بِحَالٍ، وَلَا يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِلَفْظٍ لَهُ حَتَّى يُفْهَمَ مَعْنَاهُ فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كَانَ مَقْبُولًا وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا كَانَ مَرْدُودًا، وَإِنْ كَانَ مُجْمَلًا مُشْتَمِلًا عَلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ، لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهُ أَيْضًا، وَلَا يَجُوزُ نَفْيُ جَمِيعِ مَعَانِيهِ. بَلْ يَجِبُ الْمَنْعُ مِنْ إطْلَاقِ نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ، وَالتَّفْصِيلِ وَالِاسْتِفْسَارِ وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الْمُبْتَدَعَةَ الْمُجْمَلَةَ أَصْلًا أُمِرُوا بِهَا وَجَعَلُوا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فَرْعًا يُعْرَضُ عَنْهَا وَلَا يُتَكَلَّمُ بِهَا وَلَا فِيهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ تَبْدِيلُ الدِّينِ إلَّا هَكَذَا؟ ،. الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ وَيُوجِبَ عَلَيْهِمْ إلَّا مَا

أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَحْظُرُ عَلَيْهِمْ إلَّا مَا حَظَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَمَنْ وَجَبَ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَحَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَقَدْ شَرَعَ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَهُوَ مُضَاهٍ لِمَا ذَمَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينًا لَمْ يَأْمُرْهُمْ اللَّهُ بِهِ، وَحَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَبَرَاءَةِ وَغَيْرِهِنَّ مِنْ السُّوَرِ، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ شِعَارِ أَهْلِ الْبِدَعِ، إحْدَاثُ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَإِلْزَامُ النَّاسِ بِهِ وَإِكْرَاهُهُمْ عَلَيْهِ، وَالْمُوَالَاةُ عَلَيْهِ وَالْمُعَادَاةُ عَلَى تَرْكِهِ، كَمَا ابْتَدَعَتْ الْخَوَارِجُ رَأْيَهَا، وَأَلْزَمَتْ النَّاسَ بِهِ وَوَالَتْ وَعَادَتْ عَلَيْهِ. وَابْتَدَعَتْ الرَّافِضَةُ رَأْيَهَا، وَأَلْزَمَتْ النَّاسَ بِهِ، وَوَالَتْ وَعَادَتْ عَلَيْهِ وَابْتَدَعَتْ الْجَهْمِيَّةُ رَأْيَهَا وَأَلْزَمَتْ النَّاسَ بِهِ وَوَالَتْ وَعَادَتْ عَلَيْهِ لَمَّا كَانَ لَهُمْ قُوَّةٌ فِي دَوْلَةِ الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ، الَّذِينَ اُمْتُحِنَ فِي زَمَنِهِمْ الْأَئِمَّةُ لِتَوَافُقِهِمْ عَلَى رَأْيِ جَهْمٍ الَّذِي مَبْدَؤُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَعَاقَبُوا مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْمُحَرَّمَةِ بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْعِقَابَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إلَّا عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ، أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ، وَلَا يَجُوزُ إكْرَاهُ أَحَدٍ إلَّا عَلَى ذَلِكَ، وَالْإِيجَابُ وَالتَّحْرِيمُ لَيْسَ إلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. فَمَنْ عَاقَبَ عَلَى فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَشَرَعَ ذَلِكَ دِينًا، فَقَدْ جَعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَلِرَسُولِهِ نَظِيرًا بِمَنْزِلَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا، أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَهُوَ مِمَّنْ قِيلَ فِيهِ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] . وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لَا يُلْزِمُونَ النَّاسَ بِمَا يَقُولُونَهُ مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ، وَلَا يُكْرِهُونَ أَحَدًا عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لِمَا اسْتَشَارَ هَارُونُ الرَّشِيدُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ فِي حَمْلِ النَّاسِ عَلَى مُوَطَّئِهِ، قَالَ لَهُ: لَا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَفَرَّقُوا فِي الْأَمْصَارِ، فَأَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ عَمَّنْ كَانَ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا جَمَعْتُ عِلْمَ أَهْلِ بَلَدِي، أَوْ كَمَا قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا: إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُصِيبُ وَأُخْطِئُ، فَاعْرِضُوا قَوْلِي عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هَذَا رَأْيٌ، فَمَنْ جَاءَنَا بِرَأْيٍ أَحْسَنَ مِنْهُ قَبِلْنَاهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ. وَقَالَ: إذَا رَأَيْت الْحُجَّةَ مَوْضُوعَةً عَلَى الطَّرِيقِ فَإِنِّي أَقُولُ بِهَا، وَقَالَ الْمُزَنِيّ فِي أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ، هَذَا كِتَابٌ اخْتَصَرْته مِنْ عِلْمِ

أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيِّ، لِمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ مَذْهَبِهِ. مَعَ إعْلَامِيَّةِ نَهْيِهِ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَا يَنْبَغِي لِلْفَقِيهِ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَلَا يُشَدِّدَ عَلَيْهِمْ قَالَ: لَا تُقَلِّدْ دِينَك الرِّجَالَ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَسْلَمُوا مِنْ أَنْ يَغْلَطُوا. فَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُمْ فِي الْأُصُولِ الْعِلْمِيَّةِ وَفُرُوعِ الدِّينِ لَا يَسْتَجِيزُونَ إلْزَامَ النَّاسِ بِمَذَاهِبِهِمْ مَعَ اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَيْهَا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَكَيْفَ بِإِلْزَامِ النَّاسِ وَإِكْرَاهِهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ لَا تُوجَدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا فِي حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا تُؤْثَرُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِابْنِ أَبِي دُؤَادٍ الْجَهْمِيِّ الَّذِي كَانَ قَاضِي الْقُضَاةِ فِي عَهْدِ الْمُعْتَصِمِ، لَمَّا دَعَا النَّاسَ إلَى التَّجَهُّمِ، وَأَنْ يَقُولُوا الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَأَكْرَهَهُمْ عَلَيْهِ بِالْعُقُوبَةِ، وَأَمَرَ بِعَزْلِ مَنْ لَمْ يُجِبْهُ وَقَطَعَ رِزْقَهُ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فَعَلَهُ فِي مِحْنَتِهِ الْمَشْهُورَةِ، فَقَالَ لَهُ فِي مُنَاظَرَتِهِ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُ الْخَلِيفَةُ أَنْ يُوَافِقَهُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ. ائْتُونِي بِشَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ حَتَّى أُجِيبَكُمْ بِهِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ: وَأَنْتَ لَا تَقُولُ إلَّا بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ؟ فَقَالَ لَهُ: هَبْ أَنَّكَ تَأَوَّلَتْ تَأْوِيلًا فَأَنْتَ أَعْلَمُ وَمَا تَأَوَّلْت، فَكَيْفَ تَسْتَجِيزُ أَنْ تُكْرِهَ النَّاسَ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ. فَبَيَّنَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا عَلَى تَرْكِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ، أَوْ فِعْلِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَقُولُوهُ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ إنَّمَا يُتَلَقَّى مِنْ الشَّارِعِ، وَإِنْ كَانَ لِلْقَوْلِ فِي نَفْسِهِ حَقًّا، أَوْ اعْتَقَدَ قَائِلُهُ أَنَّهُ حَقٌّ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ أَنْ يَقُولُوا مَا لَمْ يُلْزِمْهُمْ الرَّسُولُ أَنْ يَقُولُوهُ لَا نَصًّا وَلَا اسْتِنْبَاطًا، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُ الْقَائِلِ: الْمَطْلُوبُ مِنْ فُلَانٍ أَنْ يَعْتَقِدَ كَذَا وَكَذَا، وَأَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِكَذَا وَكَذَا، إيجَابٌ عَلَيْهِ لِهَذَا الِاعْتِقَادِ، وَتَحْرِيمٌ عَلَيْهِ لِهَذَا الْفِعْلِ. وَإِذَا كَانُوا لَا يَرَوْنَ

خُرُوجَهُ مِنْ السِّجْنِ إلَّا بِالْمُوَافَقَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ اسْتَحَلُّوا عُقُوبَتَهُ وَحَبْسَهُ حَتَّى يُطِيعَهُمْ فِي ذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا أَمَرُوا بِهِ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَمَا نَهُوا عَنْهُ قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ، كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ ذُكِرَ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْجَهْمِيَّةِ الْمُشَابِهِينَ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِحَالٍ، وَهُمْ أَيْضًا يُبَيِّنُوا أَنَّهُ يُوجَدُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَوْ كَانَ هَذَا مَوْجُودًا فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَكَانَ عَلَيْهِمْ بَيَانُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ لَا تَجُوزُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] فَإِذَا لَمْ يُقِيمُوا حُجَّةَ اللَّهِ الَّتِي يُعَاقَبُ مَنْ خَالَفَهَا، بَلْ لَا يُوجَدُ مَا ذَكَرُوهُ فِي حُجَّةِ اللَّهِ وَقَدْ نُهُوا عَنْ تَبْلِيغِ حُجَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ مُمَاثَلَةً لِمَا ذُكِرَ مِنْ حَالِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ الْمُضَاهِينَ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ وَالْمُنَافِقِينَ. الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي قَالُوهُ إنْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ لَمْ يَجُزْ الْإِلْزَامُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ دَلَالَتِهِ، فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ لَا تَجُوزُ قَبْلَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ مِمَّا أَظْهَرَهُ الرَّسُولُ وَبَيَّنَهُ، فَقَدْ قَامَتْ الْحُجَّةُ بِبَيَانِ رَسُولِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ حُجَّتِهِ وَإِظْهَارِهَا الَّتِي يَجِبُ مُوَافَقَتُهَا وَيَحْرُمُ مُخَالَفَتُهَا، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي أَهْلِ الْبَغْيِ الْمُتَأَوِّلِينَ: إنْ ذَكَرُوا مَظْلَمَةٌ أَزَالَهَا الْإِمَامُ، وَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً بَيَّنُوهَا لَهُ فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنُوا صَوَابَ الْقَوْلِ أَصْلًا بَلْ ادَّعَوْهُ دَعْوًى مُجَرَّدَةً حُورِبُوا. فَكَيْفَ يَجِبُ الْتِزَامُ مِثْلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ الرَّسُولِ، وَهَلْ يَفْعَلُ هَذَا مَنْ لَهُ عَقْلٌ أَوْ دِينٌ؟ ،. الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّهُمْ لَوْ بَيَّنُوا صَوَابَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْقَوْلِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِعُقُوبَةِ تَارِكِهِ، فَلَيْسَ كُلُّ مَسْأَلَةٍ فِيهَا نِزَاعٌ إذَا أَقَامَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ الْحُجَّةَ عَلَى صَوَابِ قَوْلِهِ مِمَّا يُسِيغُ لَهُ عُقُوبَةَ مُخَالِفَةِ، بَلْ عَامَّةُ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَنَازَعَتْ فِيهَا الْأُمَّةُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ الْمُتَنَازِعَيْنِ أَنْ يُعَاقِبَ الْآخَرَ عَلَى تَرْكِ اتِّبَاعِ قَوْلِهِ. فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَذْكُرُوا حُجَّةً أَصْلًا وَلَمْ يُظْهِرُوا صَوَابَ قَوْلِهِمْ. الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي أَلْزَمُوا بِهِ حَقٌّ وَصَوَابٌ قَدْ

ظَهَرَتْ حُجَّتُهُ، وَوَجَبَتْ عُقُوبَةُ تَارِكِ الْتِزَامِهِ، فَهَذَا لَمْ يَذْكُرُوهُ إلَّا فِي هَذَا الْوَقْتِ، بَعْدَ هَذَا الطَّلَبِ وَالْحَبْسِ وَالنِّدَاءِ عَلَى الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ بِالْمَنْعِ مِنْ مُوَافَقَتِهِ، وَنِسْبَتِهِ إلَى الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَمُخَالَفَةِ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَّامِ، وَخُرُوجِهِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ إلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ مِمَّا قَالُوهُ وَفَعَلُوهُ فِي حَقِّهِ، مِنْ الْإِيذَاءِ وَالْعُقُوبَةِ وَالضَّرَرِ زَاعِمِينَ أَنَّ مَا صَدَرَ عَنْهُ مِنْ الْفَتَاوَى وَالْكُتُبِ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ، فَإِذَا أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَمْ يُبَيِّنُوا فِي كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ شَيْئًا مِنْ الْخَطَإِ وَالضَّلَالِ الْمُوجِبِ لِلْعُقُوبَةِ، لَمْ يَكُنْ ابْتِدَاؤُهُمْ بِالدُّعَاءِ إلَى مَقَالَةٍ إنْشَاؤُهَا مُبِيحًا لِمَا فَعَلُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ الظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ، وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَالتَّبْدِيلِ لِدِينِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا هَذَا انْتِقَالٌ مِنْ ظُلْمٍ إلَى ظُلْمٍ؛ لِيُقَرِّرُوا بِالظُّلْمِ الْمُتَأَخِّرِ حُسْنَ الظُّلْمِ الْمُتَقَدِّمِ. كَمَنْ يَسْتَجِيرُ مِنْ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ، وَهَذَا يَزِيدُهُمْ إثْمًا وَعَذَابًا، فَهَبْ أَنَّ هَذَا الشَّخْصَ وَافَقَهُمْ الْآنَ عَلَى مَا أَنْشَأَهُ مِنْ الْقَوْلِ، أَيُّ شَيْءٍ فِي ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى خَطَئِهِ وَضَلَالِهِ فِي أَقْوَالِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ إذَا لَمْ تُنَافِ هَذَا الْقَوْلَ؟ دَعْ اسْتِحْقَاقَ الْعُقُوبَةِ وَالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ، فَمَا لَمْ يُبَيِّنُوا أَنَّ فِيمَا صَدَرَ عَنْهُ قَبْلَ طَلَبِهِ وَحَبْسِهِ وَإِعْلَامِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْهُمْ هَذَا وَهُمْ قَدْ عَجَزُوا عَنْ إبْدَاءِ خَطَأٍ أَوْ ضَلَالٍ فِيمَا صَدَرَ عَنْهُ مِنْ الْمَقَالِ، وَهُمْ دَائِمًا يَسْتَعْفُونَ مِنْ الْمُحَاقَّةِ وَالْمُنَاظَرَةِ بِلَفْظٍ أَوْ خَطٍّ، وَقَدْ قِيلَ لَهُمْ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً: مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا فَلْيَكْتُبْ مَا يُنْكِرُهُ بِخَطِّهِ، وَيَذْكُرُ حُجَّتَهُ، وَيَكْتُبُ جَوَابَهُ، وَيُعْرَضُ الْأَمْرَانِ عَلَى عُلَمَاءِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَأُبْلِسُوا وَبُهِتُوا وَطُلِبَ مِنْهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ الْمُخَاطَبَةُ فِي الْمُحَاضَرَةِ، وَالْمُحَاقَّةِ وَالْمُنَاظَرَةِ، فَظَهَرَ مِنْهُمْ مِنْ الْعِيِّ فِي الْخِطَابِ، وَالنُّكُوصِ عَلَى الْأَعْقَابِ، وَالْعَجْزِ عَنْ الْجَوَابِ مَا قَدْ اُشْتُهِرَ وَاسْتَفَاضَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدَائِنِ وَالْأَعْرَابِ. وَمِنْ قُضَاتِهِمْ الْفُضَلَاءِ مَنْ كَتَبَ اعْتِرَاضًا عَلَى الْفُتْيَا الْحَمَوِيَّةِ، وَضَمَّنَهُ أَنْوَاعًا مِنْ الْكَذِبِ وَأُمُورًا لَا تَتَعَلَّقُ بِكَلَامِ الْمُعْتَرَضِ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَتَبْت جَوَابَهُ فِي مُجَلَّدَاتٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَتَبَ شَيْئًا ثُمَّ خَبَّأَهُ وَطَوَاهُ عَنْ الْأَبْصَارِ. وَخَافَ مِنْ نَشْرِهِ ظُهُورَ الْعَارِ، وَخِزْيَ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالصَّغَارِ، إذْ مَدَارُ الْقَوْمِ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا الْكَذِبُ الصَّرِيحُ، وَإِمَّا الِاعْتِقَادُ الْقَبِيحُ. فَهُمْ لَنْ يَخْلُوا مِنْ كَذِبٍ كَذَبَهُ بَعْضُهُمْ وَافْتَرَاهُ، وَظَنٍّ بَاطِلٍ خَابَ مَنْ تَقَلَّدَهُ وَتَلَقَّاهُ. وَهَذِهِ حَالُ سَائِرِ الْمُبْطِلِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ.

فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: الَّذِي نَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَهُ أَنْ يَنْفِيَ الْجِهَةَ عَنْ اللَّهِ وَالتَّحَيُّزَ. فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ وَمَعْنَاهُ الَّذِي أَرَادُوهُ لَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ عِنْدِهِ، وَلَا هُوَ مَأْثُورًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، لَا خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا هُوَ أَيْضًا مَحْفُوظًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَصْلًا، وَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَكْمَلَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ دِينَهَا، وَأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ لِهَذِهِ مَا تَتَّقِيهِ، كَمَا قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الْآيَةَ، وَقَالَ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ لِلْأُمَّةِ الْإِيمَانَ الَّذِي أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عُلِمَ بِمَجْمُوعِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَيْسَ مِنْ دِينِ اللَّهِ، وَلَا مِنْ الْإِيمَانِ، وَلَا مِنْ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ الْتَزَمَ اعْتِقَادَهُ فَقَدْ جَعَلَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ، وَذَلِكَ تَبْدِيلٌ لِلدِّينِ، كَمَا بَدَّلَ مَنْ بَدَّلَ مِنْ مُبْتَدِعَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمُبْتَدِعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ دِينَ الْمُرْسَلِينَ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ نَزَّهَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ النَّقَائِصِ، تَارَةً بِنَفْيِهَا وَتَارَةً بِإِثْبَاتِ أَضْدَادِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] ، وقَوْله تَعَالَى {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111] ، وقَوْله تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] ، الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] ، وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 100]

إلَى قَوْلِهِ {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] ، وَقَوْلُهُ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون: 91] إلَى قَوْلِهِ: {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 92] وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت: 20] إلَى قَوْلِهِ: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23] وَقَوْلُهُ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] الْآيَةَ، وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ خَبَرِهِ عَنْ نَفْسِهِ، أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٍ، وَأَنَّهُ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، وَأَنَّ رَحْمَتَهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، الْأَعْلَى الْمُتَعَالِي، الْعَظِيمُ، الْكَبِيرُ. وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُوَافِقَةٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ أَوْ النَّارُ، وَلَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» . وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ: «شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَبَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا شَتْمُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ: إنِّي اتَّخَذْت وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي أَوَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إعَادَتِهِ» . وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ السُّنَنِ لِلْأَعْرَابِيِّ: «وَيْحَك إنَّ اللَّهَ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، إنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَاوَاتِهِ أَوْ قَالَ بِيَدِهِ مِثْلُ الْقُبَّةِ، وَإِنَّهُ لِيَئِطَّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ بِرَاكِبِهِ» وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنْتَ الْأَوَّلُ

فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ» إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ. وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ عَنْ اللَّهِ وَلَا وَصْفُهُ بِمَا يَسْتَلْزِمُ لُزُومًا بَيِّنًا نَفْيَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَصِحُّ مَعَ كَمَالِ الدِّينِ وَتَمَامِهِ، وَمَعَ كَوْنِ الرَّسُولِ قَدْ بَلَّغَ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ، أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ ثُمَّ لَا يَذْكُرُهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ قَطُّ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى النَّاسُ وَيُؤْمَرُونَ بِاعْتِقَادٍ فِي أُصُولِ الدِّينِ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ عَمَّنْ جَاءَ بِالدِّينِ، هَلْ هَذَا إلَّا صَرِيحُ تَبْدِيلِ الدِّينِ؟ ،. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَدْ قُلْت لَهُمْ: قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ لَيْسَ فِي السَّمَاوَاتِ رَبٌّ وَلَا فَوْقَ الْعَرْشِ إلَهٌ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَعْرُجْ بِهِ إلَى رَبِّهِ، وَمَا فَوْقَ الْعَالَمِ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ. فَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي يَعْنِيهِ جُمْهُورُ الْجَهْمِيَّةِ مِنْ مَشَايِخِ الْمُمْتَحِنِينَ وَنَحْوِهِمْ، يُصَرِّحُونَ بِهِ فِي كَلَامِهِمْ وَكِتَابِهِمْ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِيطُ بِهِ مَخْلُوقَاتُهُ وَلَا يَكُونُ فِي جَوْفِ الْمَوْجُودَاتِ، فَهَذَا مَذْكُورٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي كَلَامِي. وَإِثْبَاتُ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّهُ بِذَاتِهِ فِي الْمَوْجُودَاتِ لَيْسَ خَارِجًا عَنْهَا. هُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ أَيْضًا الَّذِينَ يَنْفُونَ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ أَيْضًا سَوَاءٌ قَالُوا إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَان، أَوْ قَالُوا إنَّهُ هُوَ الْمَوْجُودَاتُ كَمَا يَقُولُهُ الِاتِّحَادِيَّةُ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ الَّذِينَ يَنْفُونَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ دَاخِلُ الْعَالَمِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ دَاخِلُهُ وَخَارِجُهُ مُتَنَاهِيًا أَوْ غَيْرَ مُتَنَاهٍ جِسْمًا أَوْ غَيْرَ جِسْمٍ، كَمَا بَيَّنَّا مَقَالَاتِهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَصَارَتْ الْجَهْمِيَّةُ الَّذِينَ يَنْفُونَ عَنْ اللَّهِ الْجِهَةَ وَالْحَيِّزَ، مَقْصُودُهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ رَبٌّ، وَلَا فَوْقَ السَّمَاوَاتِ إلَهٌ. وَالْجَهْمِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ فِي الْمَوْجُودَاتِ، يُثْبِتُونَ لَهُ الْجِهَةَ وَالْحَيِّزَ. فَبَيَّنْت فِي الْجَوَابِ بُطْلَانَ قَوْلِ فَرِيقَيْ الْجَهْمِيَّةِ النُّفَاةِ وَالْمُثْبِتَةِ، فَإِنَّ نُفَاةَ الْجَهْمِيَّةِ لَا يَعْبُدُونَ شَيْئًا، وَمُثْبِتَتَهُمْ يَعْبُدُونَ كُلَّ شَيْءٍ، وَذَكَرْتُ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ

الْمُتَكَلِّمِينَ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَالْحَيِّزِ عَنْ اللَّهِ أَنَّهُمْ يَعْنُونَهَا، فَإِنْ كَانُوا عَنُوا مَعْنًى آخَرَ كَانَ عَلَيْهِمْ بَيَانُهُ إذْ اللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْتَحِنَ النَّاسَ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ ابْتَدَعَهُ هُوَ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لِمَعْنَاهُ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ طَلَبُوا اعْتِقَادَ نَفْيِ الْجِهَةِ وَالْحَيِّزِ عَنْ اللَّهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاعْتِقَادِ لِقَوْلٍ مِنْ الْأَقْوَالِ، إمَّا أَنْ يَكُونَ تَقْلِيدًا لِلْآمِرِ، أَوْ لِأَجْلِ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ، فَإِنْ كَانُوا أَمَرُوا بِأَنْ يَعْتَقِدَ هَذَا تَقْلِيدًا لَهُمْ وَلِمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّقْلِيدُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِغَيْرِ الرَّسُولِ، لَا سِيَّمَا وَعِنْدَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ لَمْ يُعْلَمْ بِأَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا عُلِمَ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالْعَقْلِيَّاتُ لَا يَجِبُ التَّقْلِيدُ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، فَهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا حُجَّةً لَا مُجْمَلَةً وَلَا مُفَصَّلَةً وَلَا أَحَالُوا عَلَيْهَا، بَلْ هُمْ يَفِرُّونَ مِنْ الْمُنَاظَرَةِ وَالْمُحَاجَّةِ بِخِطَابٍ أَوْ كِتَابٍ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَمْرَهُمْ لِهَذَا الِاعْتِقَادِ حَرَامٌ بَاطِلٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ لِلنَّاسِ أَنْ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ النَّاسَ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ فِي مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ، لِمَنْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ فِي الدِّينِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَّبِعِينَ فِيمَا يَقُولُونَهُ لِمَا ثَبَتَ عَنْ الْمُرْسَلِينَ، كَمَا يُقَلَّدُ مِثْلُ هَؤُلَاءِ فِي فُرُوعِ الدِّينِ. فَأَمَّا التَّقْلِيدُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَقُولُونَ أَنَّهَا عَقْلِيَّاتٌ، وَأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ بِالْعَقْلِ، يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى تَأْوِيلِ السَّمْعِ وَأَنَّهَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، فَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا جَوَّزَ التَّقْلِيدَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بَلْ النَّاسُ فِيهَا قِسْمَانِ مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُهَا عَلَى أَصْحَابِهَا وَيُبَيِّنُ أَنَّهَا جَهْلِيَّاتٌ لَا عَقْلِيَّاتٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ مَنْ نَظَرَ فِي أَدِلَّتِهَا الْعَقْلِيَّةِ عَلِمَ صِحَّتِهَا. فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي تَنَازَعَتْ فِيهَا الْأُمَّةُ وَادَّعَى كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ إنِّي أُقَلِّدُ مَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ قَوْلَهُ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ قَبْلَ أَنْ أَعْلَمَ صِحَّةَ مَا يَقُولُهُ بِالْعَقْلِ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يُرَجِّحُ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ قَوْلًا عَلَى قَوْلٍ وَقَائِلًا عَلَى قَائِلٍ إلَّا بِمُوجِبٍ. أَمَّا مُجَرَّدُ التَّقْلِيدِ لِأَحَدِ الْقَائِلِينَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، فَلَا يُسَوَّغُ فِي عَقْلٍ وَلَا دِينٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُسَوِّغُوا لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ حَتَّى يَعْلَمَهُ بِأَدِلَّتِهِ الْعَقْلِيَّةِ

فَكَيْفَ وَقَدْ أَوْجَبُوا اعْتِقَادَهُ إيجَابًا مُجَرَّدًا لَمْ يَذْكُرُوا عَلَيْهِ دَلِيلًا أَصْلًا وَهَلْ هَذَا إلَّا فِي غَايَةِ الْمُنَاقَضَةِ وَالتَّبْدِيلِ لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ؟ فَإِنَّ مَنْ أَبَاحَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْأَفْعَالِ كَانَ خَارِجًا عَنْ الشَّرِيعَةِ فَكَيْفَ بِمَنْ أَوْجَبَهَا وَعَاقَبَ عَلَيْهَا؟ فَكَيْفَ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الِاعْتِقَادَاتِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ الْأَفْعَالِ؟ . الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ جَوَازُ التَّقْلِيدِ أَوْ وُجُوبُهُ فِي مِثْلِ هَذَا لَكَانَ لِمَنْ يُسَوَّغُ تَقْلِيدُهُ فِي الدِّينِ، كَالْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ، الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يُسَوَّغُ لِلْمُسْلِمِينَ تَقْلِيدُهُ فِي فُرُوعِ دِينِهِمْ، فَكَيْفَ يُقَلِّدُونَهُ أُصُولَ دِينِهِمْ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ، فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَإِنْ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، فَلَيْسَ فِي قَائِلِيهِ مَنْ هُوَ مِنْ أَئِمَّةِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ الَّذِينَ لَهُمْ قَوْلٌ مَتْبُوعٌ بَيْنَ أَئِمَّةِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ الْوُجُوهِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَأَبِي عَلِيٍّ بْنِ خَيْرَانَ، وَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ، بَلْ الْمَحْفُوظُ عَمَّنْ حُفِظَ عَنْهُ كَلَامٌ فِي هَذَا ضِدُّ هَذَا الْقَوْلِ، وَغَايَتُهُ أَنْ يُحْكَى عَنْ مِثْلِ أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ، وَهُوَ أَجَلُّ مَنْ يُحْكَى عَنْهُ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَبُو الْمَعَالِي لَيْسَ لَهُ وَجْهٌ فِي الْمَذْهَبِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَوْ يَجِبُ تَقْلِيدُهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ هَذَا وَهُوَ الذَّكِيُّ اللَّوْذَعِيُّ، وَكِتَابُهُ فِي الْمَذْهَبِ هُوَ الَّذِي رَفَعَ قَدْرَهُ وَفَخَّمَ أَمْرَهُ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُهُ فِيمَا ارْتَفَعَ بِهِ قَدْرُهُ وَعَظُمَ بِهِ أَمْرُهُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ، فَكَيْفَ يُقَلَّدُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي كَثُرَ فِيهِ الِاضْطِرَابُ وَأَقَرَّ عِنْدَ مَوْتِهِ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ وَتَابَ، وَهَجَرَهُ عَلَى بَعْضِ مَسَائِلِهِ مِثْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيِّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَصْحَابِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ مَنْ يُقَلِّدُ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ الْأُسْتَاذَ الْمُطَاعَ، فَكَيْفَ بِمَنْ يُقَلِّدُ مَنْ هُوَ دُونَهُ بِلَا نِزَاعٍ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الْفُرُوعِ دُونَ الْأُصُولِ، إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ كَانَ عَالِمًا بِمَدَارِك الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَأَبُو الْمَعَالِي لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَلِيلَ الْمَعْرِفَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَامَّةِ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِجْمَاعُ فِي الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ، وَالْقِيَاسُ أَوْ التَّقْلِيدُ فِي الْمَسَائِلِ الظَّنِّيَّةِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ غَالِبُ أَمْرِهِ الدَّوَرَانُ بَيْنَ الْإِجْمَاعِ السَّمْعِيِّ الْقَطْعِيِّ وَالْقِيَاسِ

الْعَقْلِيِّ الَّذِي يَعْتَمِدُ أَنَّهُ قَطْعِيٌّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَبِالْخِلَافِ الْمَنْصُوبِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا بِالْأُصُولِ فَبِالدَّلَائِلِ وَالْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ، هَذَا وَهُوَ أَجَلُّ مَنْ يُقْرَنُ بِهِ مِنْ الْمُنَاظِرِينَ، وَعُمْدَةُ مَنْ يُسْلَكُ سَبِيلُهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ شَأْوَهُ فِي الْعِلْمِ وَالذَّكَاءِ، وَمُقَاوَمَةِ الْخُصُومِ الْفُضَلَاءِ. وَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ، كَالْبَاجِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ ابْنِ الْعَرَبِيِّ، وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُمْ فِي ذَلِكَ يُقَلِّدُونَ لِمَنْ أَخَذُوا ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَمُعْتَرَفُونَ بِأَنَّهُمْ لَهُمْ مِنْ التَّلَامِذَةِ الْمُتَّبِعِينَ، لَيْسَ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ اسْتِيفَاءُ الْحُجَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، وَلَا النُّهُوضُ بِأَعْبَاءِ هَذَا الْحَمْلِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى فَصْلِ الْخِطَابِ فِي الْقَوْلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ. وَأَمَّا أَئِمَّةُ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ إلَيْهِمْ الْمَرْجِعُ فِي الدِّينِ كَابْنِ الْقَاسِمِ، وَابْنِ وَهْبٍ وَأَشْهَبَ، وَسَحْنُونٍ وَابْنِهِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ، وَابْنِ وَضَّاحٍ وَغَيْرِهِمْ فَهُمْ بُرَآءُ مِنْ هَذَا النَّفْيِ وَالتَّكْذِيبِ، وَلَهُمْ فِي الْإِثْبَاتِ مِنْ الْأَقْوَالِ مَا يَعْرِفُهَا الْعَالِمُ اللَّبِيبُ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ حَقٌّ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ، لَمْ يَجِبْ اعْتِقَادُهُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ إذْ وُجُوبُ اعْتِقَادِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْعِ بِلَا نِزَاعٍ. أَمَّا الْمُنَازِعُونَ فَهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْوُجُوبَ كُلَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْعِ، وَأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُوجِبُ شَيْئًا وَإِنْ عَرَفَهُ. وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْوُجُوبَ قَدْ يُعْلَمْ بِالْعَقْلِ، فَهُوَ يَقُولُ ذَلِكَ فِيمَا يُعْلَمْ وُجُوبُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَوْ نَظَرِهِ، وَاعْتِقَادُ كَلَامٍ مُعَيَّنٍ مِنْ تَفَاصِيلِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ لَا يُعْلَمُ وُجُوبُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَلَا بِنَظَرِهِ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ عَامَّةُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولِ لَمْ يَخْطِرْ بِقَلْبِهِ هَذَا النَّفْيُ الْمُعَيَّنُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلْعَذَابِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَ تَرْكُهُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ. وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ بَعْضَ غَالِيَةِ الْجَهْمِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ يَزْعُمُ أَنَّ مَعْرِفَةَ هَذَا النَّفْيِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ أَوْ مِنْ أَجَلِّهَا، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ مِنْ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعَذَابِ، أَوْ فُرِضَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ إنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ يَجِبُ عَلَى الْخَاصَّةِ دُونَ الْعَامَّةِ.

فَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَسَادَ الْقَوْلِ بِإِيجَابِ هَذَا؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُوجِبُوا اعْتِقَادَ هَذَا النَّفْيِ، لَا عَلَى الْخَاصَّةِ وَلَا عَلَى الْعَامَّةِ، وَلَيْسَ وُجُوبُ هَذَا مِنْ الْحَوَادِثِ الَّتِي تَجَدَّدَتْ، فَإِنَّ وُجُوبَ هَذَا الِاعْتِقَادِ عَلَى الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ سَوَاءٌ لِوُجُوبِ اعْتِقَادِ {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19] {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 7] . وَإِذَا كَانَ مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ عَدَمُ إيجَابِ الشَّارِعِ لِهَذَا الِاعْتِقَادِ، كَانَ دَعْوَى وُجُوبِهِ بِالْعَقْلِ مَرْدُودًا فَإِنَّ الشَّارِعَ أَقَرَّ الْوَاجِبَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَأَوْجَبَهَا كَمَا أَوْجَبَ الصِّدْقَ وَالْعَدْلَ، وَحَرَّمَ الْكَذِبَ وَالظُّلْمَ. وَإِذَا كَانَ وُجُوبُ هَذَا الْقَوْلِ مُنْتَفِيًا، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُوجِبَهُ عَلَى النَّاسِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُعَاقِبَ تَارِكَهُ وَيَجْعَلَهُ مِحْنَةً، مَنْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ وَالَاهُ وَمَنْ خَالَفَهُ فِيهِ عَادَاهُ. وَهَذَا الْمَسْلَكُ هُوَ أَحَدُ مَا سَلَكَهُ الْعُلَمَاءُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ الْمُمْتَحِنِينَ لِلنَّاسِ. كَابْنِ أَبِي دَاوُد وَأَمْثَالِهِ لَمَّا نَاظَرَهُمْ مَنْ نَاظَرَهُمْ قُدَّامَ الْخُلَفَاءِ كَالْمُعْتَصِمِ وَالْوَاثِقِ، فَإِنَّهُمْ بَيَّنُوا لَهُمْ أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي أَوْجَبُوهُ عَلَى النَّاسِ، وَعَاقَبُوا تَارِكَهُ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ لَمْ يَقُلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ وَلَا أَصْحَابِهِ، وَلَا أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ، وَلَا أَمَرُوا بِهِ، وَلَا عَاقَبُوا عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مِنْ الدِّينِ الَّذِي يَجِبُ دُعَاءُ الْخَلْقِ إلَيْهِ وَعُقُوبَةُ تَارِكِيهِ، لَمْ يَجُزْ إهْمَالُهُمْ لِذَلِكَ، وَإِنَّ الْقَائِلَ لِهَذَا الْقَوْلِ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ مُصِيبٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوجِبَ عَلَى النَّاسِ وَيُعَاقِبَهُمْ عَلَى تَرْكِ كُلِّ قَوْلٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ صَوَابٌ، وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. وَذَلِكَ يَتَّضِحُ بِالْوَجْهِ الثَّامِنِ: وَهُوَ أَنَّ الِاعْتِقَادَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ وَيُعَاقَبُ تَارِكُوهُ هُوَ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِهِ وَأَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِهِ إذْ أُصُولُ الْإِيمَانِ الَّتِي يَجِبُ اعْتِقَادُهَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ وَتَكُونُ فَارِقَةً بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالسُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ، هِيَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ بَيَانُهُ وَتَبْلِيغُهُ، لَيْسَ حُكْمُ هَذِهِ كَحُكْمِ آحَادِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَمْ تَحْدُثْ فِي زَمَانِهِ حَتَّى شَاعَ الْكَلَامُ فِيهَا بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ إذْ الِاعْتِقَادُ فِي أُصُولِ الدِّينِ لِلْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَتَجَدَّدُ أَحْكَامُهَا، مِثْلُ أَسْمَاءِ

اللَّهِ وَصِفَاتِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا لَيْسَتْ مِمَّا يَحْدُثُ سَبَبُ الْعِلْمِ بِهِ أَوْ سَبَبُ وُجُوبِهِ. بَلْ الْعِلْمُ بِهَا وَوُجُوبُ ذَلِكَ مَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، وَالْأَوَّلُونَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ الْآخَرِينَ لِقُرْبِهِمْ مِنْ يَنْبُوعِ الْهُدَى، وَمِشْكَاةِ النُّورِ الْإِلَهِيِّ. فَإِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْهُدَى، هُمْ الَّذِينَ بَاشَرَهُمْ الرَّسُولُ بِالْخِطَابِ مِنْ خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ وَعَامَّتِهِمْ، وَهَذِهِ الْعَقَائِدُ الْأُصُولِيَّةُ مِنْ أَعْظَمِ الْهُدَى، فَهُمْ بِهَا أَحَقُّ. فَإِذَا كَانَ وُجُوبُ ذَلِكَ مُنْتَفِيًا فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَفِيمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، كَانَ عَدَمُ وُجُوبِهِ مَعْلُومٌ عِلْمًا وَيَقِينِيًّا، وَكَانَتْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقَالُ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ. وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ إنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الَّتِي تُسَمَّى الْعَقْلِيَّاتِ، غَايَتُهَا أَنْ يُجْهِدَ فِيهَا أَصْحَابُهَا عُقُولَهُمْ وَآرَاءَهُمْ، وَالْقَوْلُ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ وَإِنْ اعْتَقَدَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ عَقْلِيٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَإِنْ اعْتَقَدَ هُوَ أَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَكْثَرِ مَا يُوجَدُ بَيْنَهُمْ مِنْ أَقْوَالٍ يَقُولُ أَصْحَابُهَا إنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهَا فِي الْعَقْلِ، وَتَكُونُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، حَتَّى إنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ فِي الْقَوْلِ إنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَيَقُولُ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى إنَّهُ بَاطِلٌ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا بِهِ فَقَدْ يَكُونُ مَظْنُونًا غَيْرَ مَعْلُومِ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً مَعْلُومَ الْفَسَادِ أَوْ مَظْنُونَهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَشْكُوكًا فِيهِ، فَعَامَّةُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا الَّتِي يَقُولُ قَائِلُهَا إنَّهَا مَقْطُوعٌ بِهَا تَعْتَوِرُهَا هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ، وَعَدَمُ الْقَطْعِ بِهَا بَلْ ظَنُّهَا وَالشَّكُّ فِيهَا وَظَنُّ نَقِيضِهَا وَالْقَطْعُ بِنَقِيضِهَا. ثُمَّ غَايَةُ مَا يُقَدَّرُ أَنْ تَكُونَ صَوَابًا مَعْلُومًا أَنَّهَا صَوَابٌ عِنْدَ صَاحِبِهَا، فَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ اعْتِقَادُهُ، إذْ طُرُقُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ قَدْ تَكُونُ خَفِيَّةً مُشْتَبِهَةً، فَلَا يَجِبُ التَّكْلِيفُ بِمُوجَبِهَا لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْ كَانَتْ عَقْلِيَّةً ظَاهِرَةً مَعْلُومَةً بِأَدْنَى نَظَرٍ لَمْ يَجِبْ فِي كُلِّ مَا كَانَ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ، مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَالْهَيْئَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ ثَلَاثُ مُقَدِّمَاتٍ عَظِيمَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ مَا اعْتَقَدَ قَائِلُهُ أَنَّهُ حَقٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالشَّرْعِ يَكُونُ كَذَلِكَ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَيْسَ مَا عَلِمَ الْوَاحِدُ أَنَّهُ حَقٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ عِنْدَهُ، يَجِبُ اعْتِقَادُهُ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ مَا كَانَ مَعْلُومًا مَقْطُوعًا بِهِ بِأَدْنَى نَظَرٍ يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَغَايَةُ مَا يُبَيِّنُ مَنْ يُوجِبُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ أَنَّهَا حَقٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ عَقْلِيٌّ مَعْلُومٌ بِأَدْنَى نَظَرٍ وَإِذَا كَانَ مَعَ هَذَا لَا يَجِبُ اعْتِقَادُ ذَلِكَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ حَتَّى يَعْلَمَ وُجُوبَ ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا الْوُجُوبُ. لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوجِبَ عَلَى النَّاسِ هَذَا الِاعْتِقَادَ، وَيُعَاقِبَ تَارِكِيهِ، حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَذْكُرُوهُ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ، فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ عِنْدَ مَنْ يُبَيِّنُ أَنَّ مَا قَالُوهُ خَطَأٌ، مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ الصَّرِيحِ، وَلِلنَّقْلِ الصَّحِيحِ، مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَنَظَرُهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ الشَّارِعَ أَخْبَرَ بِنَقِيضِهِ، وَأَوْجَبَ اعْتِقَادَ ضِدِّهِ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِالْإِيمَانٍ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مُجْمَلًا، مُقِرًّا بِمَا بَلَّغَهُ مِنْ تَفْصِيلِ الْجُمْلَةِ، غَيْرَ جَاحِدٍ لِشَيْءٍ مِنْ تَفَاصِيلِهَا، أَنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ إذْ الْإِيمَانُ بِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْ تَفْصِيلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَأَمَرَ بِهِ غَيْرَ مَقْدُورٍ لِلْعِبَادِ، إذْ لَا يُوجَدُ أَحَدٌ إلَّا وَقَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ. وَلِهَذَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ فِي مَقَالَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا يُقِرُّ فِيهَا بِأَحَدِ النَّقِيضَيْنِ لَا يَنْفِيهَا وَلَا يُثْبِتُهَا، إذَا لَمْ يَبْلُغْهُ أَنَّ الرَّسُولَ نَفَاهَا أَوْ أَثْبَتَهَا، وَيَسَعُ الْإِنْسَانَ السُّكُوتُ عَنْ النَّقِيضَيْنِ فِي أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ إذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ بِوُجُوبِ قَوْلِ أَحَدِهِمَا. أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ هُوَ الَّذِي قَالَهُ الرَّسُولُ دُونَ الْآخَرِ، فَهُنَا يَكُونُ السُّكُوتُ عَنْ ذَلِكَ وَكِتْمَانُهُ مِنْ بَابِ كِتْمَانِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ وَمِنْ بَابِ كِتْمَانِ شَهَادَةِ الْعَبْدِ مِنْ اللَّهِ، وَفِي كِتْمَانِ الْعِلْمِ النَّبَوِيِّ مِنْ الذَّمِّ وَاللَّعْنَةِ لِكَاتِمِهِ مَا يَضِيقُ عَنْهُ هَذَا الْمَوْضِعَ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ مُتَضَمِّنًا لِنَقِيضِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْآخَرُ لَا يَتَضَمَّنُ مُنَاقَضَةَ الرَّسُولِ، لَمْ يَجُزْ السُّكُوتُ عَنْهُمَا جَمِيعًا بَلْ يَجِبُ نَفْيُ الْقَوْلِ الْمُتَضَمِّنِ لِمُنَاقَضَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِهَذَا أَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ عَلَى الْوَاقِفَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ حِينَ

تَنَازَعَ النَّاسُ، فَقَالَ قَوْمٌ بِمُوجَبِ السُّنَّةِ وَقَالَ قَوْمٌ بِخِلَافِ السُّنَّةِ، وَتَوَقَّفَ قَوْمٌ فَأَنْكَرُوا عَلَى الْوَاقِفَةِ، كَالْوَاقِفَةِ الَّذِينَ قَالُوا لَا نَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، هَذَا مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْوَاقِفَةِ يَكُونُ فِي الْبَاطِنِ مُضْمِرًا لِلْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِلسُّنَّةِ وَلَكِنْ يُظْهِرُ الْوَقْفَ نِفَاقًا وَمُصَانَعَةً فَمِثْلُ هَذَا مَوْجُودٌ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا مَنْصُوصًا وَلَا مُسْتَنْبَطًا، بَلْ يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا يُنَاقِضُهُ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ، فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً أَوْ خَاصَّةً اعْتِقَادُهُ، وَيَجْعَلُ ذَلِكَ مِحْنَةً لَهُمْ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ، مَا يَدُلُّ نَصًّا وَلَا اسْتِنْبَاطًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَنَّهُ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ رَبٌّ يُعْبَدُ، وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إلَهٌ يُدْعَى وَيُقْصَدُ، وَمَا هُنَاكَ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ وَسَوَاءٌ سُمِّيَ ثُبُوتُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلًا بِالْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ، أَوْ لَمْ يُسَمَّ، فَتَنَوُّعُ الْعِبَارَاتِ لَا يَضُرُّ إذَا عُرِفَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، كَانَ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ حَقًّا جَائِزًا، بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ الرَّجُلُ فِيهِ نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا لَمْ يُؤْمَرْ بِأَحَدِهِمَا. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِيمَا يُذْكَرُ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا الْكَلَامُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ تَأْسِيسَ التَّقْدِيسِ، وَكِتَابِهِ نِهَايَةِ الْعُقُولِ فِي دِرَايَةِ الْأُصُولِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ إذَا كَانَ قَدْ جَمَعَ فِي ذَلِكَ غَايَةَ مَا يَقُولُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ مِنْ حُجَجِ الثِّقَاتِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ لَيْسَ فِي جِهَةٍ وَلَا حَيِّزِ فَلَيْسَ هَذَا عَلَى الْعَرْشِ وَلَا فَوْقَ الْعَالَمِ. الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّ قَوْلَهُمْ: " الَّذِي نَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَهُ أَنْ يَنْفِيَ الْجِهَةَ عَنْ اللَّهِ وَالتَّحَيُّزَ ". لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ هَذَا نَفْيَ كَوْنِ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ وَكَوْنِهِ فَوْقَ الْعَالَمِ، بِحَيْثُ يُقَالُ إنَّهُ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ رَبٌّ وَلَا إلَهٌ، أَوْ مَا هُنَاكَ شَيْءٌ مَوْجُودٌ وَمَا هُنَاكَ إلَّا الْعَدَمُ الَّذِي لَيْسَ بِشَيْءٍ، أَوْ لَا يَتَضَمَّنُ هَذَا الْكَلَامُ نَفْيَ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ ذَلِكَ، كَانَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا وَأَنَا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِي قَطُّ إثْبَاتُ الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ لِلَّهِ مُطْلَقًا، حَتَّى يُقَالَ نَطْلُبُ مِنْهُ نَفْيَ مَا قَالَهُ أَوْ أَطْلَقَهُ مِنْ اللَّفْظِ، بَلْ كَلَامِي أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَأَلْفَاظُ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَمَنْ نَقَلَ مَذَاهِبَهُمْ أَوْ التَّعْبِيرَ عَنْ ذَلِكَ،

تَارَةً بِالْمَعْنَى الْمُطَابِقِ الَّذِي يَعْلَمُ الْمُسْتَمِعُ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَعْنَاهُمْ وَمَا يُذْكَرُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ فَإِنِّي أُبَيِّنُهُ وَأُفَصِّلُهُ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا خَرَّجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْ غَيْرَ تَأْوِيلِهِ. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانِ فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَدْعُونَ مِنْ ضَلَّ إلَى الْهُدَى وَيَصْبِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى، يُحْيُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ الْمَوْتَى، وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِ اللَّهِ أَهْلَ الْعَمَى، فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لِإِبْلِيسَ قَدْ أَحْيَوْهُ، وَكَمْ مِنْ ضَالٍّ تَائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ، فَمَا أَحْسَنَ أَثَرَهُمْ عَلَى النَّاسِ، وَمَا أَقْبَحَ أَثَرَ النَّاسِ عَلَيْهِمْ، يَنْفُونَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ، الَّذِينَ عَقَدُوا أَلْوِيَةَ الْبِدْعَةِ، وَأَطْلَقُوا عَنَانَ الْفِتْنَةِ فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُجْتَمِعُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ، يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ، وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ، فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ فِتَنِ الْمُضِلِّينَ فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ، يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ، بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ وَلَا فِي جِهَةٍ وَلَا كَذَا وَلَا كَذَا فَإِنَّ هَذِهِ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ مُتَشَابِهَةٌ، يُمْكِنُ تَفْسِيرُهَا بِوَجْهِ حَقٍّ وَيُمْكِنُ تَفْسِيرُهَا بِوَجْهِ بَاطِلٍ، فَالْمُطْلِقُونَ لَهَا يُوهِمُونَ عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَحْصُورًا فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيَفْتَرُونَ الْكَذِبَ عَلَى أَهْلِ الْإِثْبَاتِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ، كَقَوْلِ بَعْضِ قُضَاتِهِمْ لِبَعْضِ الْأُمَرَاءِ إنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ فِي هَذِهِ الزَّاوِيَةِ، وَقَوْلٌ آخَرُ مِنْ طَوَاغِيتِهِمْ إنَّهُمْ يَقُولُونَ، إنَّ اللَّهَ فِي حَشْوِ السَّمَاوَاتِ، وَلِهَذَا سُمُّوا حَشْوِيَّةً إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَكَاذِيبِ الَّتِي يَفْتَرُونَهَا عَلَى أَهْلِ الْإِثْبَاتِ، ثُمَّ يَأْتُونَ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ مُتَشَابِهٍ يَصْلُحُ لِنَفْيِ هَذَا الْمَعْنَى الْبَاطِلِ وَلِنَفْيِ مَا هُوَ حَقٌّ فَيُطْلِقُونَهُ فَيَخْدَعُونَ بِذَلِكَ جُهَّالَ النَّاسِ، فَإِذَا وَقَعَ الِاسْتِفْصَالُ وَالِاسْتِفْسَارُ، انْكَشَفَتْ الْأَسْرَارُ. وَتَبَيَّنَ اللَّيْلُ مِنْ النَّهَارِ، وَتَمَيَّزَ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ الْمُدَلِّسِينَ، الَّذِينَ لَبَّسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَكَتَمُوا الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. فَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ إنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ وَأَنَّهُ فَوْقَ خَلْقِهِ، لَمْ يُنَازَعْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ، لَكِنَّ لَفْظَهُ لَيْسَ بِدَالٍّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ هُوَ

مُفْهِمٌ أَوْ مُوهِمٌ لِنَفْيِ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: لَسْت أَقْصِدُ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ نَفْيَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ وَفَوْقَ خَلْقِهِ، وَحِينَئِذٍ فَيُوَافِقُهُ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ عَلَى نَفْيِ الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ بَعْدَ اسْتِفْصَالِهِ وَتَقْيِيدِ كَلَامِهِ بِمَا يُزِيلُ الِالْتِبَاسَ، وَأَمَّا إنْ تَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ وَلَا فَوْقَ الْعَالَمِ، فَلْيُصَرِّحْ بِذَلِكَ تَصْرِيحًا بَيِّنًا حَتَّى يَفْهَمَ الْمُؤْمِنُونَ قَوْلَهُ وَكَلَامَهُ وَيَعْلَمُوا مَقْصُودَهُ وَمَرَامَهُ، فَإِذَا كَشَفَ لِلْمُسْلِمِينَ حَقِيقَةَ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَنَّ مَضْمُونَهُ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ رَبٌّ، وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إلَهٌ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَعْرُجُ إلَى اللَّهِ وَلَا تَصْعَدُ إلَيْهِ، وَلَا تَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنَّ عِيسَى لَمْ يُرْفَعْ إلَيْهِ، وَمُحَمَّدٌ لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَيْهِ، وَأَنَّ الْعِبَادَ لَا يَتَوَجَّهُونَ بِقُلُوبِهِمْ إلَى إلَهٍ هُنَاكَ يَدْعُونَهُ وَيَقْصِدُونَهُ، وَلَا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي دُعَائِهِمْ إلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يَنْكَشِفُ لِلنَّاسِ حَقِيقَةُ هَذَا الْكَلَامِ وَيَظْهَرُ الضَّوْءُ مِنْ الظَّلَامِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لَا يَجْتَرِئُ أَنْ يَقُولَهُ فِي مَلَأٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا يَقُولُهُ بَيْنَ إخْوَانِهِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، الَّذِينَ إذَا اجْتَمَعُوا يَتَنَاجَوْنَ، وَإِذَا افْتَرَقُوا يَتَهَاجَوْنَ. وَهُمْ وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ الْمُحَقِّقِينَ، فَقَدْ شَابَهُوا مَنْ سَبَقَ إخْوَانَهُمْ الْمُنَافِقِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ - وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 13 - 14] إلَى قَوْلِهِ: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا} [النساء: 60] إلَى قَوْلِهِ: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62] . وَلَا رَيْبَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، بَلْ يَكُونُ مَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ، لَكِنْ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ أَمْرُ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى يَصِيرَ لَهُمْ مِنْ السَّمَّاعِينَ، قَالَ تَعَالَى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كَلَامَ أَهْلِ الْإِفْكِ فِي عَائِشَةَ كَانَ مَبْدَؤُهُ مِنْ

الْمُنَافِقِينَ وَتَلَطَّخَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْبِدَعِ كَالرَّفْضِ وَالتَّجَهُّمِ مَبْدَؤُهَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ، وَتَلَوَّثَ بِبَعْضِهَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكِنْ كَانَ فِيهِمْ مِنْ نَقْضِ الْإِيمَانِ بِقَدْرِ مَا شَارَكُوا فِيهِ أَهْلَ النِّفَاقِ وَالْبُهْتَانِ. الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّهُمْ إذَا بَيَّنُوا مَقْصُودَهُمْ كَمَا يُصَرِّحْ بِهِ أَئِمَّتُهُمْ وَطَوَاغِيتُهُمْ، مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ رَبٌّ، وَلَا فَوْقَ الْعَالَمِ مَوْجُودٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فَوْقَهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ بِالْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَبِالْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَبِالضَّرُورَةِ الْإِيمَانِيَّةِ السَّمْعِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَبِالنُّقُولِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ عَنْ خَيْرِ الْبَرِّيَّةِ، وَبِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ فِي آيَاتٍ تَبْلُغُ مِئِينَ، وَبِالْأَحَادِيثِ الْمُتَلَقَّاتِ بِالْقَبُولِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فِي جَمِيعِ الْقُرُونِ، وَبِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَهْلُ الْهُدَى مِنْ أَئِمَّتِهَا، وَبِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأُمَمُ بِجِبِلَّتِهَا وَفِطْرَتِهَا، وَمَا يُذْكَرُ فِي خِلَافِ ذَلِكَ مِنْ الشُّبْهَةِ الَّتِي يُقَالُ إنَّهَا بَرَاهِينُ عَقْلِيَّةٌ، أَوْ دَلَائِلُ سَمْعِيَّةٌ، فَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا بِالِاسْتِقْصَاءِ، حَتَّى تَبَيَّنَ أَنَّهَا مِنْ الْقَوْلِ الْهُرَاءِ فَهَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَجَامِعِ الضَّلَالِ فِيمَا أَوْجَبُوا اعْتِقَادَهُ، لَبَسَطْنَا الْقَوْلَ هُنَا وَبَيَّنَّا سَدَادَهُ، لَكِنْ قَدْ أَحَلْنَا عَلَى مَا هُوَ مَوْجُودٌ مَكْتُوبٌ أَيْضًا فَاكْتَسَبْنَاهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلِيُّ الْإِحْسَانِ. الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ لَفْظَ الْجِهَةِ عِنْدَ مَنْ قَالَهُ، إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وُجُودِيًّا أَوْ عَدَمِيًّا، فَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ وُجُودِيًّا فَنَفْيُ الْجِهَةِ عَنْ اللَّهِ نَفْيٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فِي شَيْءٍ مَوْجُودٍ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مَوْجُودٌ سِوَى اللَّهِ إلَّا الْعَالَمَ، فَهَذَا أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمَا فِي جَوَابِهِمْ، وَهُوَ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ دَاخِلًا فِي الْمَصْنُوعَاتِ هَذَا أَحَدُ أَقْوَالِ الْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ، وَنَفْيُهُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي كَلَامِنَا، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ عَدَمِيًّا كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَكُونُ حَيْثُ لَا مَوْجُودَ غَيْرَهُ، وَهُوَ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ فَإِنَّ كَوْنَ الْمَوْجُودِ فِي الْعَدَمِ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَدَمَ يَحْوِيهِ أَوْ يُحِيطُ بِهِ، إذْ الْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَصْلًا حَتَّى يُوصَفَ بِأَنَّهُ يُحِيطُ أَوْ يُحَاطُ بِهِ، بَلْ الْمَعْنَى بِذَلِكَ، أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ بِحَيْثُ لَا مَوْجُودَ غَيْرُهُ، وَأَنْ يَكُونَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ بِحَيْثُ لَا قَائِمَ بِنَفْسِهِ غَيْرُهُ، فَإِنَّ الْمَوْجُودَ نَوْعَانِ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَقَائِمٌ بِغَيْرِهِ، فَالْقَائِمُ بِغَيْرِهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضِ يَكُونُ بِحَيْثُ يَكُونُ غَيْرُهُ، فَإِنَّ الصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضَ تَقُومُ بِالْمَحَلِّ الْوَاحِدِ.

وَأَمَّا الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ حَيْثُ يَكُونُ آخَرُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ، فَيَكُونُ حَيْثُ لَا مَوْجُودَ غَيْرُهُ، أَوْ حَيْثُ لَا قَائِمَ بِنَفْسِهِ غَيْرُهُ، وَهُوَ الْمَعْنَى بِكَوْنِ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ وَفَوْقَ الْعَالَمِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْقُولُ مِنْ الْجِهَةِ الْعَدَمِيَّةِ فَأَكْثَرُ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوس وَالصَّابِئِينَ، عَلَى أَنَّ نَفْيَ هَذَا عَنْ الْمَوْجُودِ وَاجِبُهُ وَمُمْكِنُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُ مَوْجُودٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ حَيْثُ يَكُونُ مَوْجُودًا آخَرَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ إلَّا حَيْثُ لَا يَكُونُ مَوْجُودٌ آخَرُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ، وَأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ مُنْفَصِلًا عَنْهُ، فَيَكُونُ فِي الْجِهَةِ الْعَدَمِيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحَايِثًا لَهُ دَاخِلًا فِيهِ، فَيَكُونُ فِي الْجِهَةِ الْوُجُودِيَّةِ، وَوُجُودُ مَوْجُودٍ لَا فِي جِهَةٍ وُجُودِيَّةٍ وَلَا جِهَةٍ عَدَمِيَّةٍ مُمْتَنِعٌ عِنْدَهُمْ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ. ثُمَّ إنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ مُوَافِقٌ لِمَا عَلَيْهِ بَنُو آدَمَ مِنْ الْفِطْرَةِ مُوَافِقٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا. وَبِالْجُمْلَةِ فَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ مَشْهُورٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ نَفْيُ ذَلِكَ بِالْهَيِّنِ حَتَّى يَدَّعِيَ دَعْوًى مُجَرَّدَةً بِلَا دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ وَلَا عَقْلِيٍّ ثُمَّ يُوجِبُ اعْتِقَادَ ذَلِكَ وَيُعَاقِبُ تَارِكَهُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَدْ يَعْنِي بِالْجِهَةِ مَا لَيْسَ مُغَايِرًا لِذِي الْجِهَةِ، فَيَكُونُ كَوْنُهُ فِي جِهَةٍ بِحَيْثُ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ أَوْ يُشَارُ إلَيْهِ، وَلَا يَعْنِي الْجِهَةَ مَوْجُودًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ، وَلَا يَعْنِي عَدَمِيًّا وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَقُولُونَ الْجِهَةُ مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ، فَكَوْنُ الشَّيْءِ فِي الْجِهَةِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُبَايِنٌ لِغَيْرِهِ، وَكُلُّ مَوْجُودٍ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ مُبَايِنٌ لِغَيْرِهِ. وَقَدْ يَقُولُونَ كَوْنُهُ فِي الْجِهَةِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُتَمَيِّزٌ بِذَاتِهِ مُحَقَّقُ الْوُجُودِ وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ مَوْجُودٌ سِوَاهُ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ هُوَ فِي الْجِهَةِ قَبْلَ وُجُودِ الْعَالَمِ، وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ لَا تُعْقَلُ الْجِهَةُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْعَالَمِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ مُسَمَّى الْجِهَةِ نَوْعَانِ إضَافِيٌّ مُنْتَقِلٌ وَثَابِتٌ لَازِمٌ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَهِيَ الْجِهَاتُ السِّتُّ لِلْحَيَوَانِ، أَمَامَهُ وَهُوَ مَا يَؤُمُّهُ، وَخَلْفَهُ وَهُوَ مَا يَخْلُفُهُ وَيَمِينَهُ، وَيَسَارَهُ وَفَوْقَهُ، وَتَحْتَهُ وَهُوَ مَا يُحَاذِي ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْجِهَاتُ لَيْسَتْ جِهَاتٍ لِمَعْنًى يَقُومُ بِهَا، وَلَا ذَلِكَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهَا، بَلْ تَصِيرُ الْيَمِينُ يَسَارًا وَالْيَسَارُ يَمِينًا وَالْعُلُوُّ سُفْلًا وَالسُّفْلُ عُلُوًّا، يَتَحَرَّكُ الْحَيَوَانُ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فِي الْجِهَاتِ، وَأَمَّا الثَّانِي، فَهُوَ جِهَتَا الْعَالَمِ وَهِيَ الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ، فَلَيْسَ لِلْعَالَمِ إلَّا جِهَتَانِ،

إحْدَاهُمَا الْعُلُوُّ وَهُوَ جِهَةُ السَّمَاوَاتِ وَمَا فَوْقَهَا، وَجِهَةُ السُّفْلِ وَهُوَ جِهَةُ الْأَرْضِ وَمَا تَحْتَهَا وَفِي جَوْفِهَا، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَكُلُّ مَا كَانَ خَارِجَ الْعَالَمِ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ فَهُوَ فَوْقَهُ وَهُوَ فِي الْجِهَةِ الْعُلْيَا، فَالْبَارِي تَعَالَى إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ مُنْفَصِلًا عَنْهُ، أَوْ لَا يَكُونُ مُبَايِنًا لَهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، كَانَ خَارِجًا عَنْهُ عَالِيًا عَلَيْهِ بِالْجِهَةِ الْعُلْيَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، كَانَ حَالًّا فِي الْعَالَمِ قَائِمًا بِهِ مَحْمُولًا فِيهِ. قَالَ هَؤُلَاءِ: وَهَذَا كُلُّهُ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ، فَالْبَارِي قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْعَالَمَ كَانَ هُوَ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُ فِي ذَاتِهِ، فَيَكُونُ هُوَ مَحَلًّا لِلْمَخْلُوقَاتِ، وَلَا جَعَلَ ذَاتَه فِيهِ، فَيَكُونُ مُفْتَقِرًا مَحْمُولًا قَائِمًا بِالْمَصْنُوعَاتِ، بَلْ خَلْقُهُ بَائِنًا عَنْهُ فَيَكُونُ فَوْقَهُ وَهُوَ جِهَةُ الْعُلُوِّ، وَقَدْ بَسَطْنَا كَلَامَ هَؤُلَاءِ وَخُصُومِهِمْ فِي الْحُكُومَةِ الْعَادِلَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ الرَّازِيّ فِي تَأْسِيسِهِ مِنْ الْمُجَادَلَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالدَّاعِي لِلنَّاسِ إلَى اعْتِقَادِ نَفْيِ الْجِهَةِ إمَّا أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ وَيَكْشِفَ هَذِهِ الْحَقَائِقَ، وَإِمَّا أَنْ يُعْرِضَ عَنْ هَذَا وَيَقِفَ عِنْدَ الْجُمَلِ الَّتِي عَلَيْهَا الْمُؤْمِنُونَ. فَإِمَّا أَنْ يَدْعُوَ إلَى قَوْلٍ لَا يُبَيِّنُ حَقِيقَتَهُ وَأَقْسَامَهُ، وَلَا يُبَيِّنُ حُجَّتَهُ الَّتِي تُصَحِّحُ مَرَامَهُ، وَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ مَوْجُودًا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ، وَكَلَامِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، فَهَذَا غَايَةٌ مَا يَكُونُ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالظُّلْمِ فِي الْكَلَامِ. الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ قَوْلَهُمْ يَنْفِي التَّحَيُّزَ لَفْظٌ مُجْمَلٌ، فَإِنَّ التَّحَيُّزَ الْمَعْرُوفَ فِي اللُّغَةِ، هُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ بِحَيْثُ يَحُوزُهُ وَيُحِيطُ بِهِ مَوْجُودٌ غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] فَإِنَّ التَّحَيُّزَ مَأْخُوذٌ مِنْ حَازَهُ يَحُوزُهُ، فَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا بِقَوْلِنَا: إنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا تُحِيطُ بِهِ الْمَخْلُوقَاتُ وَلَا يَكُونُ فِي جَوْفِ الْمَوْجُودَاتِ، فَهَذَا مَذْكُورٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي كَلَامِي، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَحْدِيدِهِ. وَأَمَّا التَّحَيُّزُ الَّذِي يَعْنِيهِ الْمُتَكَلِّمُونَ فَأَعَمُّ مِنْ هَذَا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ الْعَالَمُ كُلُّهُ مُتَحَيِّزٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ آخَرَ مَوْجُودٍ، إذْ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ مِنْ الْعَالَمِ وَقَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ، فَيَقُولُونَ الْحَيِّزُ: تَقْدِيرُ الْمَكَانِ، وَكُلُّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ مُبَايِنٌ لِغَيْرِهِ بِالْجِهَةِ فَإِنَّهُ مُتَحَيِّزٌ عِنْدَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مَوْجُودٌ.

وَلِهَذَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ: التَّحَيُّزُ مِنْ لَوَازِمِ الْجِسْمِ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْقِيَامِ بِالنَّفْسِ كَالتَّمَيُّزِ وَالْمُبَايِنَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَالْحَيِّزُ إمَّا وُجُودِيٌّ، وَإِمَّا عَدَمِيٌّ، فَإِنْ كَانَ عَدَمِيًّا فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي مَعْنَى الْجِهَةِ الْعَدَمِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ وُجُودِيًّا فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا لَيْسَ خَارِجًا، أَوْ مَا هُوَ خَارِجًا عَنْهُ فَالْأَوَّلُ مِثْلُ حُدُودِ الْمُتَحَيِّزِ وَجَوَانِبِهِ فَلَا يَكُونُ الْحَيِّزُ شَيْئًا خَارِجًا عَلَى الْمُتَحَيِّزِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، وَإِمَّا أَنْ يُعْنَى بِهِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْمُتَحَيِّزِ خَارِجٌ عَنْهُ، فَهَذَا هُوَ التَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ وَلَيْسَ غَيْرَ اللَّهِ إلَّا الْعَالَمُ، فَمَنْ قَالَ إنَّهُ فِي حَيِّزٍ مَوْجُودٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، فَقَدْ قَالَ إنَّهُ فِي الْعَالَمِ أَوْ بَعْضِهِ وَهَذَا مِمَّا قَدْ صَرَّحْنَا بِنَفْيِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلِ الْمَقَالِ لِيَزُولَ هَذَا الْإِبْهَامُ وَالْإِجْمَالُ. الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: وَلَا يَقُولُ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ، بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ. فَقَدْ قُلْت فِي الْجَوَابِ الْمُخْتَصَرِ الْبَدِيهِيِّ لَيْسَ فِي كَلَامِي هَذَا أَيْضًا وَلَا قُلْتُهُ قَطُّ، بَلْ قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْقُرْآنَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ بِدْعَةٌ، وَقَوْلُهُ: إنَّهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِهِ بِدْعَةٌ، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، وَأَنَا لَيْسَ فِي كَلَامِي شَيْءٌ مِنْ الْبِدَعِ، بَلْ فِي كَلَامِي مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ، أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَذَلِكَ أَنِّي قَدْ أَجَبْتُ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ، وَمَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ النِّزَاعِ وَالِاضْطِرَابِ فِي جَوَابِ الْفُتْيَا الدِّمَشْقِيَّةِ وَفَصَّلْتُ الْقَوْلَ فِيهَا وَفِي مَسْأَلَةِ الْعَرْشِ وَبَيَّنْتُهُ. وَكَذَلِكَ فِي جَوَابِ الْفُتْيَا الْمِصْرِيَّةِ، قَدْ بَيَّنْتُهُ وَفَصَّلْتُهُ فِي هَذَا وَفِي هَذَا، وَأَزَلْتُ مَا وَقَعَ فِيهِ أَكْثَرُ النَّاسِ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالشِّقَاقِ الَّذِي خَرَجُوا بِهِ عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، إلَى الْبِدْعَةِ وَالِافْتِرَاقِ، وَبَسَطْتُ ذَلِكَ بَسْطًا مُتَوَسِّطًا فِي جَوَابِ الِاسْتِفْتَاءِ الَّذِي وَرَدَ بِهِ قَاضِي جَيْلَانَ لِمَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْفِتْنَةِ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، وَأَظْهَرُوا مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْغُلُوِّ فِي الْإِثْبَاتِ، وَنَفْيِ الْخَلْقِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْجَهَالَاتِ وَالضَّلَالَاتِ. وَقَدْ كَتَبْتُ جُمَلًا مِنْ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ فِي جَوَابِ الِاعْتِرَاضَاتِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى الْفُتْيَا الْحَمَوِيَّةِ، وَفِي فَتَاوَى أُخَرَ وَمَوَاضِعَ أُخَرَ. قَالَ مَسْأَلَةُ الْقُرْآنِ وَقَعَ فِيهَا بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الِاضْطِرَابِ وَالنِّزَاعِ مَا لَمْ يَقَعْ نَظِيرُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ، إذْ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ السَّلَفِ مَنْ يَبُوحُ بِإِنْكَارِ ذَلِكَ وَنَفْيِهِ كَمَا كَانَ عَلَى عَهْدِهِمْ مِمَّنْ أَبَاحَ بِإِظْهَارِ

الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَلَا اجْتَرَأَتْ الْجَهْمِيَّةُ إذْ ذَاكَ عَلَى دُعَاءِ النَّاسِ إلَى نَفْيِ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ، بَلْ وَلَا أَظْهَرَتْ ذَلِكَ كَمَا اجْتَرَءُوا عَلَى دُعَاءِ النَّاسِ إلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَامْتِحَانِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَعُقُوبَةِ مَنْ لَمْ يُجِبْهُمْ بِالْحَبْسِ، وَالضَّرْبِ، وَالْقَتْلِ وَقَطْعِ الرِّزْقِ، وَالْعَزْلِ عَنْ الْوِلَايَاتِ، وَمَنْعِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَتَرْكِ افْتِدَائِهِمْ مِنْ أَسْرِ الْعَدُوِّ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي إنَّمَا تَصْلُحُ لِمَنْ خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَبَدَّلُوا بِذَلِكَ الدِّينَ نَحْوَ تَبْدِيلِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ، فَأَتَى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ، يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ، فَجَاهَدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، مُتَّبِعِينَ سَبِيلَ الصِّدِّيقِ وَإِخْوَانِهِ الَّذِينَ جَاهَدُوا الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى وَسَمَ الْمُسْلِمُونَ بِالْإِمَامَةِ وَبِأَنَّهُ الصِّدِّيقَ الثَّانِيَ مَنْ كَانَ أَحَقَّ بِهَذَا التَّحْقِيقِ عِنْدَ فُتُورِ الْوَانِي فَإِنَّ أُولَئِكَ الْجَهْمِيَّةُ جَعَلُوا الْمُؤْمِنِينَ كُفَّارًا مُرْتَدِّينَ، وَجَعَلُوا مَا هُوَ مِنْ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ لِلرَّسُولِ إيمَانًا وَعِلْمًا، وَلَبَّسُوا عَلَى الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَّةِ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَكَانَتْ فِتْنَتُهُمْ فِي الدِّينِ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِنْ فِتْنَةِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ. فَإِنَّ أُولَئِكَ وَإِنْ كَفَّرُوا الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ الْجُحُودَ لِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ فِي حَقِيقَةِ ذَاتِهِ، بَلْ كَانَتْ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ السُّنَّةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْمَقَالَاتِ قَدْ نَقَلُوا أَنَّ قَوْلَ الْخَوَارِجِ فِي التَّوْحِيدِ هُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ. فَهَذَا سِرٌّ لِلْجَهْمِيَّةِ لَكِنْ يُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ قَالَهُ مِنْ بَقَايَا الْخَوَارِجِ مَنْ كَانَ مَوْجُودًا حِينَ حُدُوثِ مَقَالَةِ جَهْمٍ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ قَوْلُ جَهْمٍ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ، وَالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَلَا يَصِحُّ إضَافَةُ هَذَا الْقَوْلِ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ، لَا مِنْ الْخَوَارِجِ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْإِسْلَامِ إذْ ذَاكَ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ السُّلُوبِ الْجَهْمِيَّةِ، وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ عَنْ الْخَوَارِجِ الْمَعْرُوفِينَ إذْ ذَاكَ وَلَا عَنْ غَيْرِهِمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الْجَهْمِيَّةِ وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ بِدَعِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، قُصُورُهُمْ فِي مُنَاظَرَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ يُنَاظِرُونَهُمْ وَيُحَاجُّونَهُمْ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، لِيَنْصُرُوا الْإِسْلَامَ زَعَمُوا بِذَلِكَ، فَيَسْقُطُ عَلَيْهِمْ أُولَئِكَ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَيُحَاجُّونَهُمْ بِمُمَانَعَاتٍ وَمُعَارَضَاتٍ؛

فَيَحْتَاجُونَ حِينَئِذٍ إلَى جَحْدِ طَائِفَةٍ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ لِإِخْوَانِهِمْ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا اسْتَظْهَرَ عَلَيْهِمْ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ فَصَارَ قَوْلُهُمْ مُشْتَمِلًا عَلَى إيمَانٍ وَكُفْرٍ وَهُدًى وَضَلَالٍ، وَرُشْدٍ وَغَيٍّ، وَجَمَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَصَارُوا مُخَالِفِينَ لِلْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ كَاَلَّذِي يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَمِثْلُهُمْ فِي ذَلِكَ مِثْلُ مَنْ فَرَّطَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ مِنْ مُلُوكِ النَّوَاحِي وَالْأَطْرَافِ، حَتَّى يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ الْعَدُوَّ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155] . يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ قِتَالًا مُشْتَمِلًا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ مِنْ الْغَدْرِ وَالْمُثْلَةِ وَالْغُلُولِ وَالْعُدْوَانِ، حَتَّى احْتَاجُوا فِي مُقَاتَلَةِ ذَلِكَ الْعَدُوِّ إلَى الْعُدْوَانِ عَلَى إخْوَانِهِمْ الْمُؤْمِنِينَ، وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَبِلَادِهِمْ، وَصَارُوا يُقَاتِلُونَ إخْوَانَهُمْ الْمُؤْمِنِينَ بِنَوْعٍ مِمَّا كَانُوا يُقَاتِلُونَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ وَرُبَّمَا رَأَوْا قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ آكَدُ وَبِهَذَا وَصَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَوَارِجَ حَيْثُ قَالَ: «يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدْعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ» وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي سِيرَةِ كَثِيرِ مِنْ مُلُوكِ الْأَعَاجِمِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَأَهْلِ الْفُجُورِ فَحَالُ أَهْلِ الْأَيْدِي وَالْقِتَالِ، يُشْبِهُ حَالَ أَهْلِ الْأَلْسِنَةِ وَالْجِدَالِ. وَهَكَذَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ مَبْدَأَ حَالِ جَهْمٍ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا أَخْرَجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ قَالَ أَحْمَدُ: وَكَذَلِكَ الْجَهْمُ وَشِيعَتُهُ دَعَوْا النَّاسَ إلَى الْمُتَشَابِهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا بِكَلَامِهِمْ بَشَرًا كَثِيرًا فَكَانَ مِمَّا بَلَغَنَا مِنْ أَمْرِ الْجَهْمِ عَدُوِّ اللَّهِ: أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ مِنْ أَهْلِ التِّرْمِذِ، وَكَانَ صَاحِبَ خُصُومَاتٍ وَكَلَامٍ وَكَانَ أَكْثَرُ كَلَامِهِ فِي اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَلَقِيَ نَاسًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهُمْ السُّمَنِيَّةُ، فَعَرَفُوا الْجَهْمَ فَقَالُوا لَهُ: نُكَلِّمُكَ فَإِنْ ظَهَرَتْ حُجَّتُنَا عَلَيْكَ دَخَلْتَ فِي دِينِنَا، وَإِنْ ظَهَرَتْ حُجَّتُك عَلَيْنَا دَخَلْنَا فِي دِينِكَ، فَكَانَ مِمَّا كَلَّمُوا بِهِ الْجَهْمَ أَنْ قَالُوا لَهُ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ لَكَ إلَهًا؟ قَالَ الْجَهْمُ: نَعَمْ فَقَالُوا لَهُ: فَهَلْ رَأَيْتَ إِلَهَكَ؟ قَالَ لَا فَقَالُوا لَهُ هَلْ سَمِعْتَ كَلَامَهُ قَالَ لَا قَالُوا فَشَمَمْتَ لَهُ رَائِحَةً؟ قَالَ: لَا قَالُوا: فَوَجَدْتَ لَهُ حِسًّا؟ قَالَ: لَا قَالُوا: فَوَجَدْتَ لَهُ

مَجَسًّا؟ قَالَ: لَا قَالُوا فَمَا يَدْرِيكَ أَنَّهُ إلَهٌ؟ قَالَ فَتَحَيَّرَ الْجَهْمُ فَلَمْ يَدْرِ مَنْ يَعْبُدُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. ثُمَّ إنَّهُ اسْتَدْرَكَ حُجَّةً مِنْ جِنْسِ حُجَّةِ الزَّنَادِقَةِ مِنْ النَّصَارَى، وَذَلِكَ أَنَّ زَنَادِقَةَ النَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّ الرُّوحَ الَّتِي فِي عِيسَى هِيَ مِنْ رُوحِ اللَّهِ مِنْ ذَاتِ اللَّهِ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُحْدِثَ أَمْرًا دَخَلَ فِي بَعْضِ خَلْقِهِ فَتَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِ بَعْضِ خَلْقِهِ فَيَأْمُرُ بِمَا شَاءَ وَيَنْهَى عَنْ مَا شَاءَ وَهُوَ رُوحٌ غَائِبٌ عَنْ الْأَبْصَارِ. فَاسْتَدْرَكَ الْجَهْمُ حُجَّةً مِثْل هَذِهِ الْحُجَّةِ فَقَالَ لِلسُّمَنِيِّ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ فِيكَ رُوحًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ قَالَ فَهَلْ رَأَيْت رُوحَكَ؟ قَالَ لَا. قَالَ: فَسَمِعْتَ كَلَامَهُ قَالَ لَا: قَالَ فَوَجَدْتَ لَهُ حِسًّا؟ قَالَ لَا. قَالَ: فَكَذَلِكَ اللَّهُ لَا يُرَى لَهُ وَجْهٌ، وَلَا يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ، وَلَا يُشَمُّ لَهُ رَائِحَةٌ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْ الْأَبْصَارِ، وَلَا يَكُونُ فِي مَكَان دُونَ مَكَان قَالَ وَوَجَدَ ثَلَاثَ آيَاتٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ قَوْلُهُ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] . {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] . {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] . فَبَنَى أَصْلَ كَلَامِهِ كُلِّهِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ، وَتَأَوَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَكَذَّبَ بِأَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَزَمَ أَنَّ مَنْ وَصَفَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا مِمَّا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ حَدَّثَ عَنْهُ رَسُولُهُ كَانَ كَافِرًا، وَكَانَ مِنْ الْمُشَبِّهَةِ، وَأَضَلَّ بَشَرًا كَثِيرًا، وَتَبِعَهُ عَلَى قَوْلِهِ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ بِالْبَصْرَةِ، وَوَضَعَ دِينَ الْجَهْمِيَّةِ. وَهَكَذَا وَصَفَ الْعُلَمَاءُ حَالَ جَهْمٍ كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ الْبَيْكَنْدِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ تَأْلِيفِهِ، مَا جَاءَ فِي بُدُوِّ الْجَهْمِيَّةِ وَالسُّمَنِيَّةِ وَكَيْفَ كَانَ شَأْنُهُمْ وَكُفْرُهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ قَالَ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ أَكْذَبَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ مِنْ السُّمَنِيَّةِ. قَالَ: وَهُوَ عِنْدَنَا كَمَا قَالَ لَا أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَجْهَلَ وَلَا أَحَقَّ قَوْلًا مِنْهُمْ، لَا يَتَعَلَّقُونَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ بِشَيْءٍ وَلَا يَحْتَجُّونَ إنَّمَا هُوَ حُبٌّ وَبُغْضٌ، وَمَنْ أَحَبَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ أَبْغَضَ دَخَلَ النَّارَ، وَصَارَتْ طَائِفَةً جَهْمِيَّةً لَمْ تَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ مُحْدَثٌ وَيَرَوْنَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ، وَكَانَ جَهْمٌ فِيمَا بَلَغَنَا لَا يُعْرَفُ بِفِقْهٍ وَلَا وَرَعٍ وَلَا صَلَاحٍ، أُعْطِيَ لِسَانًا مُنْكِرًا، فَكَانَ يُجَادِلُ وَيَقُولُ

بِرَأْيِهِ، يُجَادِلُ السُّمَنِيَّةَ وَهُمْ شَبَهُ الْمَجُوسِ يَعْتَقِدُونَ الْأَصْنَامَ، فَكَلَّمَهُمْ فَأَخْرَجُوهُ حَتَّى تَرَكَ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا يَعْرِفُ رَبَّهُ وَكَلَامُهُمْ يَدْعُو إلَى الزَّنْدَقَةِ، وَكَلَامُهُمْ وَضَعْنَاهُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْبَصَرِ، فَمَالُوا آخَرَ أَمْرِهِمْ إلَى الزَّنْدَقَةِ، وَالرَّجُلُ إذَا رَسَخَ فِي كَلَامِهِمْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَاتَّبَعَ الشَّهَوَاتِ وَكَانَ أَبُو الْجَوْزَاءِ صَاحِبَ جَهْمٍ، وَكَانَ أَقْوَى فِي أَمْرِهِمْ مِنْ جَهْمٍ فِيمَا بَلَغَنَا، وَكَانَ يَسْكُنُ الْغَارِيَاتِ، وَأَخْبَرَنَا أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِهَا مِنْ صَالِحِيهِمْ أَنَّهُ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَشَرِبَ الْخَمْرَ، وَاتَّبَعَ الشَّهَوَاتِ، وَأَفْسَدَ عَالَمًا مِنْ النَّاسِ فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلَالَةِ بَعْدَ الْهُدَى، مَا أَعْلَمُ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي الْإِسْلَامِ قَوْمًا أَخْبَثَ مِنْ كَلَامِهِمْ. الْقُرْآنُ كُلُّهُ نَقْضٌ عَلَى كَلَامِهِمْ، وَبَلَغَنَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّ مَا يُفْسِدُ عَلَيْنَا كَلَامَنَا الْقُرْآنُ وَيُكَسِّرُهُ، لَا يَرَوْنَ أَنَّ فِي السَّمَاءِ سَاكِنًا، وَذَكَرَ طَوْفًا مِنْ كَلَامِهِمْ ثُمَّ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: إنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّةِ وَقَالَ فِي شَعْرٍ لَهُ: وَلَا أَقُولُ بِقَوْلِ الْجَهْمِ إنَّ لَهُ ... قَوْلًا يُضَارِعُ قَوْلَ الشِّرْكِ أَحْيَانَا ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ وَاصِلٍ - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ - حَدَّثَنَا ابْنُ صَالِحٍ قَالَ: لَقِيتُ جَهْمًا فَقُلْتُ: نَطَقَ اللَّهُ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَهُوَ يَنْطِقُ؟ قَالَ: لَا قُلْتُ: فَمَنْ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] وَمِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] . قَالَ: إنَّهُمْ زَادُوا فِي الْقُرْآنِ وَنَقَصُوا مِنْهُ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالْخَلَّالُ وَغَيْرُهُمَا عَنْ ابْنِ شَوْذَبٍ: تَرَكَ جَهْمٌ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكَانَ فِيمَنْ خَرَجَ مَعَ الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَعَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيِّ وَذَكَرَ جَهْمًا فَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ جَهْمًا حَدَّثَنِي ابْنُ عَمٍّ لِي أَنَّهُ شَكَّ فِي اللَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا. وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ: كُنَّا يَوْمًا عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيِّ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ حَدِيثِ الرُّؤْيَةِ فَلَمْ يُحَدِّثْهُ بِهِ، قَالَ: إنْ لَمْ تُحَدِّثْنِي بِهِ فَأَنْتَ جَهْمِيٌّ. فَقَالَ مَرْوَانُ: أَتَقَوَّلُ لِي جَهْمِيٌّ وَجَهْمٌ مَكَثَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً لَا يَعْرِفُ رَبَّهُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ ضَمْرَةُ بْنُ شَوْذَبٍ: تَرَكَ جَهْمٌ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَى وَجْهِ

الشَّكِّ، فَخَاصَمَهُ بَعْضُ السُّمَنِيَّةِ فَشَكَّ، فَأَقَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا يُصَلِّي. قَالَ ضَمْرَةُ: وَقَدْ رَآهُ ابْنُ شَوْذَبٍ. قَالَ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: كَلَامُ جَهْمٍ صِفَةٌ بِلَا مَعْنًى، وَبِنَاءٌ بِلَا أَسَاسٍ، وَلَمْ يُعَدَّ قَطُّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد الْخَلَّالُ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ قَالَ: مَا ذَكَرْتُهُ وَلَا ذُكِرَ عِنْدِي إلَّا دَعَوْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ؛ مَا أَعْظَمَ مَا أَوْرَثَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ مِنْ مَنْطِقِهِ هَذَا الْعَظِيمَ يَعْنِي جَهْمًا، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ شِبْلٍ قَالَ: كُنْت جَالِسًا مَعَ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، إذْ جَاءَ شَابٌّ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص: 88] ، فَقَالَ مُقَاتِلٌ هَذَا جَهْمِيٌّ، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ إنَّ جَهْمًا وَاَللَّهِ مَا حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ قَطُّ وَلَا جَالَسَ الْعُلَمَاءَ. إنَّمَا كَانَ رَجُلًا أُعْطِيَ لِسَانًا. هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ مُقَاتِلٍ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: مَنْ قَالَ إنِّي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَلَا يَنْبَغِي لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ قَالَ: وَقَالَ أَيْضًا: وَلَا أَقُولُ بِقَوْلِ الْجَهْمِ إنَّ لَهُ ... قَوْلًا يُضَارِعُ قَوْلَ الشِّرْكِ أَحْيَانَا وَلَا أَقُولُ تَخَلَّى مِنْ بَرِيَّتِهِ ... رَبُّ الْعِبَادِ وَوَلَّى الْأَمْرَ شَيْطَانَا مَا قَالَ فِرْعَوْنُ هَذَا فِي تَجَبُّرِهِ ... فِرْعَوْنَ مُوسَى وَلَا فِرْعَوْنَ هَامَانَا قَالَ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَا تَقُولُ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّةُ، إنَّهُ فِي الْأَرْضِ هَهُنَا بَلْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى. وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ نَعْرِفُ رَبَّنَا، قَالَ: فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ. وَقَالَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ أَبَطْنُكَ خَالٍ مِنْهُ؟ فَبُهِتَ الْآخَرُ، وَقَالَ: مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّةِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ: الْجَهْمِيَّةُ شَرٌّ قَوْلًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَدْ اجْتَمَعَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَأَهْلُ الْأَدْيَانِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ، وَقَالُوا هُمْ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ، أَنَّهُ قَالَ: لَا تَسْتَخِفُّوا بِقَوْلِهِمْ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، فَإِنَّهُ مِنْ شَرِّ قَوْلِهِمْ إنَّمَا يَذْهَبُونَ إلَى التَّعْطِيلِ. فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ مَبْدَإِ حَالِ جَهْمٍ إمَامِ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ النُّفَاةِ

يُبَيِّنُ مَا ذَكَرْتُهُ فَإِنَّهُ لَمَّا نَاظَرَ مَنْ نَاظَرَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ السُّمَنِيَّةِ مِنْ الْهِنْدِ، وَجَحَدُوا الْإِلَهَ لِكَوْنِ الْجَهْمِ لَمْ يُدْرِكْهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَوَاسِّهِ، لَا بِبَصَرِهِ، وَلَا بِسَمْعِهِ، وَلَا بِشَمِّهِ وَلَا بِذَوْقِهِ وَلَا بِحِسِّهِ، كَانَ مَضْمُونُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُحِسُّهُ الْإِنْسَانُ بِحَوَاسِّهِ الْخَمْسِ فَإِنَّهُ يُنْكِرُهُ وَلَا يَقْرَبُهُ، فَأَجَابَهُمْ الْجَهْمُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْمَوْجُودِ مَا لَا يُمْكِنُ إحْسَاسُهُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْحَوَاسِّ، وَهِيَ الرُّوحُ الَّتِي فِي الْعَبْدِ، وَزَعَمَ أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَمْكِنَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ قَوْلُ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ الْمَشَّائِينَ، وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ قُتَيْبَةُ يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ: بَلَغَنِي أَنَّ جَهْمًا كَانَ يَأْخُذُ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ الْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: شَهِدْتَ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقُشَيْرِيَّ بِوَاسِطَ يَوْمَ أَضْحَى، قَالَ: ارْجِعُوا فَضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا، ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ، وَهَذَا الْجَعْدُ قَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ وَهُوَ مُعَلِّمُ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُ الْجَعْدِيُّ، وَكَانَ حَرَّانُ إذْ ذَاكَ دَارُ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ الْبَاقِينَ عَلَى مِلَّةِ سَلَفِهِمْ أَعْدَاءِ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ كَانَ مِنْهُمْ وَدَعَاهُمْ إلَى الْحَنَفِيَّةِ وَكَانَ مِنْ قِصَّةِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحُجَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا مُشْرِكُو الْهِنْدِ بَاطِلَةٌ وَالْجَوَابُ الَّذِي أَجَابَ بِهِ مُبْتَدِعَةُ الصَّابِئِينَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ مُبْتَدِعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَاطِلٌ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِل مَا لَا يُحِسُّ بِهِ الْعَبْدُ لَا يَقِرُّ بِهِ أَوْ يُنْكِرُهُ أَوْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ لَا يُقِرُّ إلَّا بِمَا أَحَسَّهُ هُوَ بِشَيْءٍ مِنْ حَوَاسِّهِ الْخَمْسِ أَوْ يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُقِرُّ الْعَبْدُ إلَّا بِمَا أَحَسَّ بِهِ الْعِبَادُ فِي الْجُمْلَةِ، أَوْ بِمَا يُمْكِنُ الْإِحْسَاسُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنْ كَانَ أَرَادُوا الْأَوَّلَ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَقَالَاتِ. حَيْثُ ذَكَرُوا عَنْ السُّمَنِيَّةِ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ مِنْ الْعُلُومِ مَا سِوَى الْحِسِّيَّاتِ فَيُنْكِرُونَ الْمُتَوَاتِرَاتِ وَالْمُجَرَّبَاتِ وَالضَّرُورِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ لَا تَصِحُّ عَلَى إطْلَاقِهَا عَنْ جَمْعٍ مِنْ الْعُقَلَاءِ فِي مَدِينَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ مُنَاظَرَةِ الْجَهْمِ لَهُمْ يَدُلُّ عَلَى إقْرَارِهِمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ حَيَاةَ بَنِي آدَمَ وَعَيْشَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِمُعَاوَنَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الْأَقْوَالِ أَخْبَارِهَا وَغَيْرِ أَخْبَارِهَا وَفِي الْأَعْمَالِ أَيْضًا فَالرَّجُلُ

مِنْهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُقِرَّ أَنَّهُ مَوْلُودٌ، وَأَنَّ لَهُ أَبًا وَطِئَ أُمَّهُ، وَأُمًّا وَلَدَتْهُ وَهُوَ لَمْ يُحِسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ حَوَاسِّهِ الْخَمْسِ، بَلْ أُخْبِرَ بِذَلِكَ وَوَجَدَ فِي قَلْبِهِ مَيْلًا إلَى مَا أُخْبِرَ بِهِ، وَكَذَلِكَ عِلْمُهُ بِسَائِرِ أَقَارِبِهِ مِنْ الْأَعْمَامِ وَالْأَخْوَالِ وَالْأَجْدَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي بَنِي آدَمَ أُمَّةٌ تُنْكِرُ الْإِقْرَارَ بِهَذَا وَكَذَلِكَ لَا يُنْكِرُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنَّهُ وُلِدَ صَغِيرًا وَأَنَّهُ رُبِّيَ بِالتَّغْذِيَةِ وَالْحَضَانَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى كَبُرَ وَهُوَ إذَا كَبُرَ لَمْ يَذْكُرْ إحْسَاسَهُ بِذَلِكَ قَبْلَ تَمْيِيزِهِ، بَلْ لَا يُنْكِرُ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أُمُورَهُمْ الْبَاطِنَةَ مِثْلَ جُوعِ أَحَدِهِمْ وَشِبَعِهِ وَلَذَّتِهِ وَأَلَمِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَحُبِّهِ وَبُغْضِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَشْعُرْ بِهِ بِحَوَاسِّهِ الْخَمْسِ الظَّاهِرَةِ بَلْ يَعْلَمُونَ أَنَّ غَيْرَهُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ يُصِيبُهُمْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ مَا لَمْ يَشْعُرُوا بِهِ بِالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ الظَّاهِرَةِ وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي بَنِي آدَمَ مَنْ لَا يُقِرَّ بِمَا كَانَ فِي غَيْرِ مَدِينَتِهِمْ مِنْ الْمَدَائِنِ وَالسِّيَرِ وَالْمَتَاجِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ وَهُمْ مُضْطَرُّونَ إلَى ذَلِكَ وَكَذَا لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ الدُّورَ الَّتِي سَكَنُوهَا قَدْ بَنَاهَا الْبَنَّاءُونَ، وَالطَّبِيخَ الَّذِي يَأْكُلُونَهُ طَبَخَهُ الطَّبَّاخُونَ وَالثِّيَابَ الْمَنْسُوجَةَ الَّتِي يَلْبَسُونَهَا نَسَجَهَا النَّسَّاجُونَ، وَإِنْ كَانَ مَا يُقِرُّونَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُحِسَّهُ أَحَدُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ حَوَاسِّهِ الْخَمْسِ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ فَمَنْ قَالَ إنَّ أُمَّةً مِنْ الْأُمَمِ تُنْكِرُ هَذِهِ الْأُمُورَ، فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلُ. وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّ السُّوفِسْطَائِيَّة قَوْمٌ يُنْكِرُونَ حَقَائِقَ الْأُمُورِ، وَأَنَّهُمْ مُنْتَسِبُونَ إلَى رَئِيسٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ سُوفُسْطًا وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ الْعِلْمَ بِشَيْءٍ مِنْ الْحَقَائِقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ الْحَقَائِقَ الْمَوْجُودَةَ أَيْضًا مَعَ الْعُلُومِ، وَمِنْهُمْ اللَّا أدرية الَّذِينَ يَشُكُّونَ فَلَا يَجْزِمُونَ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُقِرُّ إلَّا بِمَا أَحَسَّهُ. وَقَدْ رَدَّ هَذَا النَّقْلَ وَالْحِكَايَةَ مَنْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَقَالَ إنَّ لَفْظَ السُّوفِسْطَائِيَّة فِي الْأَصْلِ كَلِمَةٌ يُونَانِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ أَصْلُهَا سُوفُسْقَيَا أَيْ الْحِكْمَةُ الْمُمَوَّهَةُ فَإِنَّ لَفْظَ سو مَعْنَاهُ فِي لُغَةِ الْيُونَانِ الْحِكْمَةُ وَلِهَذَا يَقُولُونَ فِيلًا سُوفَا أَيْ مُحِبُّ الْحِكْمَةِ وَلَفْظُ فُسْقَيَا مَعْنَاهُ الْمُمَوَّهَةُ. وَمُعَلِّمُ الْمُسْتَأْخِرِينَ الْمُبْتَدِعِينَ مِنْهُمْ أَرِسْطُو لَمَّا قَسَّمَ حِكْمَتَهُمْ الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى عِلْمِهِمْ إلَى بُرْهَانِيَّةٍ وَخَطَابِيَّةٍ وَجَدَلِيَّةٍ وَشِعْرِيَّةٍ وَمُمَوَّهٍ وَهِيَ الْمَغَالِيطُ سَمَّوْهَا سُوفُسْقِيَا فَعُرِّبَتْ وَقِيلَ سُوفُسْطَا ثُمَّ ظَنَّ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ ذَلِكَ اسْمُ رَجُلٍ وَإِنَّمَا أَصْلُهَا مَا ذُكِرَ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ السَّفْسَطَةِ قَدْ صَارَ فِي عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِينَ عِبَارَةً عَنْ حَجَرِ الْحَقَائِقِ فَلَا رَيْبَ

أَنَّ هَذَا يَكُونُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ، فَمِنْ الْأُمَمِ مَنْ يُنْكِرُ كَثِيرًا مِنْ الْحَقَائِقِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] وَقَدْ تَشْتَبِهُ كَثِيرٌ مِنْ الْحَقَائِقِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ كَمَا قَدْ يَقَعُ الْغَلَطُ لِلْحِسِّ أَوْ الْعَقْلِ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، فَهَذَا كُلُّهُ مَوْجُودٌ كَوُجُودِ الْكَذِبِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، أَمَّا اتِّفَاقُ أُمَّةٍ عَلَى إنْكَارِ جَمِيعِ الْعُلُومِ وَالْحَقَائِقِ، أَوْ عَلَى إنْكَارِ كُلٍّ مِنْهُمْ لِمَا لَمْ يَحْسَبْهُ، فَهُوَ كَاتِّفَاقِ أُمَّةٍ عَلَى الْكَذِبِ فِي كُلِّ خَبَرٍ أَوْ التَّكْذِيبِ لِكُلِّ خَبَرٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْعُلَمَاءِ وَالْعِلْمِ بِعَدَمِ وُجُودِ أُمَّةٍ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ كَالْعِلْمِ بِعَدَمِ وُجُودِ أُمَّةٍ بِلَا وِلَادَةٍ وَلَا اغْتِذَاءٍ وَأُمَّةٍ لَا يَتَكَلَّمُونَ وَلَا يَتَحَرَّكُونَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّ الْبَشَرَ لَا يُوجَدُونَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ. فَكَيْفَ وَالْإِنْسَانُ هُوَ حَيٌّ نَاطِقٌ وَنُطْقُهُ هُوَ أَظْهَرُ صِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23] وَالنُّطْقُ إمَّا إخْبَارٌ وَإِمَّا إنْشَاءٌ وَالْإِخْبَارُ أَصْلٌ فَالْقَوْلُ بِوُجُودِ أُمَّةٍ لَا تُقِرُّ بِشَيْءٍ مِنْ الْمُخْبَرَاتِ إلَّا أَنْ تُحِسَّ الْمُخْبَرَ بِعَيْنِهِ يُنَافِي ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالسُّمَنِيَّةِ الَّذِينَ نَاظَرُوا الْجَهْمَ، قَدْ غَالَطُوا الْجَهْمَ وَلَبَّسُوا عَلَيْهِ فِي الْجِدَالِ حَيْثُ أَوْهَمُوهُ أَنَّ مَا لَا يُحِسُّهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ لَا يُقِرُّ بِهِ وَكَأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا لَا يُتَصَوَّرُ الْإِحْسَاسُ بِهِ لَا يُقِرُّ بِهِ فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَسْتَفْسِرَهُمْ عَنْ قَوْلِهِمْ مَا لَا يُحِسُّهُ الْإِنْسَانُ لَا يُقِرُّ بِهِ هَلْ الْمُرَادُ بِهِ هَذَا أَوْ هَذَا فَإِنْ أَرَادَ أُولَئِكَ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ، أَمْكَنَ بَيَانُ فَسَادِ قَوْلِهِمْ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ أَهْلُ بَلْدَتِهِمْ وَجَمِيعُ بَنِي آدَمَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَإِنْ أَرَادُوا الْمَعْنَى الثَّانِيَ، وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ الْإِحْسَاسَ بِهِ لَا يُقِرُّ بِهِ فَهَذَا لَا يَضُرُّ تَسْلِيمُهُ لَهُمْ، بَلْ يُسَلَّمُ لَهُمْ. يُقَالُ لَهُمْ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ وَسَمْعُ كَلَامِهِ بَلْ قَدْ سَمِعَ بَعْضُ الْبَشَرِ كَلَامَهُ وَهُوَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَسَوْفَ يَرَاهُ عِبَادُهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الشَّيْءِ مَوْجُودًا أَنْ يُحِسَّ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ، أَوْ أَنْ يُمْكِنَ إحْسَاسُ كُلِّ أَحَدٍ بِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ بَلْ مَتَى كَانَ الْإِحْسَاسُ بِهِ مُمْكِنًا وَلَوْ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، صَحَّ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْإِحْسَاسُ بِهِ.

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي ضَلَّ بِهِ جَهْمٌ وَشِيعَتُهُ، حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَى وَلَا يُحِسُّ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْحَوَاسِّ، كَمَا أَجَابَ إمَامُهُمْ الْأَوَّلُ لِلسُّمَنِيَّةِ بِإِمْكَانِ وُجُودِ مَوْجُودٍ لَا يُمْكِنُ إحْسَاسُهُ. وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ قَاطِبَةً مُتَكَلِّمُوهُمْ وَغَيْرُ مُتَكَلِّمِيهِمْ، عَلَى نَقْضِ هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي بَنَاهُ الْجَهْمِيَّةُ، وَأَثْبَتُوا مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، مِنْ أَنَّ اللَّهَ يُرَى وَيُسْمَعُ كَلَامُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَأَثْبَتُوا أَيْضًا بِالْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ الرُّؤْيَةَ يَجُوزُ تَعَلُّقُهَا بِكُلِّ مَوْجُودٍ، فَيَصِحُّ إحْسَاسُ كُلِّ مَوْجُودٍ، فَمَا لَا يُمْكِنُ إحْسَاسُهُ يَكُونُ مَعْدُومًا، وَمِنْهُمْ مَنْ طَرَدَ ذَلِكَ فِي اللَّمْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ طَرَدَهُ فِي سَائِرِ الْحَوَاسِّ. كَمَا فَعَلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ الصَّفَائِيَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْمُنَاظِرِينَ قَالُوا كَلَامًا مُجْمَلًا فَجَعَلُوا الْخَاصَّ عَامًّا، وَالْمَعْنَى مُطْلَقًا، حَيْثُ قَالُوا: أَنْتَ لَمْ تُحِسُّهُ وَمَا لَمْ تُحِسُّهُ أَنْتَ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ لَكِنْ مَوَّهُوهَا بِالْمَعْنَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ إحْسَاسُهُ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا فَنَاظَرَهُمْ الْمُنَاظِرُونَ مِنْ الصَّائِبَةِ وَالْمُقْتَدِي بِهِمْ جَهْمٌ وَأَصْحَابُهُ بِحَالٍ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ حَتَّى نَكَّرُوا الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ مَوَّهُوهُ بِالْبَاطِلِ وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَوْجُودَ مَا لَا يُمْكِنُ إحْسَاسُهُ بِحَالٍ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لِشَيْءٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَزَعَمُوا أَنَّ الرُّوحَ كَذَلِكَ، ثُمَّ أَخَذُوا هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ الْبَاطِلَةَ الَّتِي نَازَعُوا فِيهَا أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ فَنَازَعُوا فِيهَا إخْوَانَهُمْ الْمُؤْمِنِينَ، فَصَارُوا مُجَادِلِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمِثْلِ مَا جَادَلُوا بِهِ الْمُشْرِكِينَ، كَمَنْ قَاتَلَ الْمُشْرِكِينَ زَعْمًا مِنْهُ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُقَاتِلْ ذَلِكَ الْقِتَالَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ كَمَا زَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ إنْ لَمْ يُنَاظِرُوا الْمُشْرِكِينَ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ اسْتَعْلَى عَلَيْهِمْ الْمُشْرِكُونَ وَانْقَطَعَتْ حُجَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمُنَاظَرَةِ، وَصَارُوا عَاجِزِينَ فِي النَّظَرِ وَالْمُنَاظَرَةِ إذْ لَمْ يَجِدُوا بِزَعْمِهِمْ طَرِيقًا إلَّا هَذِهِ الطَّرِيقَ الْمُبْتَدَعَةَ الَّتِي أَحْدَثُوهَا الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ الْمُتَضَمَّنَةَ لِجِدَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ الْمُقَاتِلِينَ لَمْ يَجِدُوا بِزَعْمِهِمْ قِتَالًا إلَّا هَذَا الْقِتَالَ الْمُبْتَدَعَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَلَفْظُ الْإِحْسَاسِ عَامٌّ يُسْتَعْمَلُ فِي الرُّؤْيَةِ

وَالْمُشَاهَدَةِ الظَّاهِرَةِ أَوْ الْبَاطِنَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ وُلِدُوا عَلَى الْفِطْرَةِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالْفِطْرَةِ أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ إحْسَاسُهُ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا لَا وُجُودَ لَهُ، وَالْعَقْلُ هُوَ الَّذِي ضَبَطَ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ الْكُلِّيَّ، الَّذِي بَيْنَ أَفْرَادِ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي أَحَسَّهَا، وَالْكُلِّيَّ لَا وُجُودَ لَهُ كُلِّيًّا إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ. فَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ الْفِطْرِيَّةُ هِيَ الَّتِي عَلَيْهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ، وَمَنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى الْفِطْرَةِ فِيهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَغَيْرِهِمْ كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْفِطَرِ كُلَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصَّانِعِ، وَأَنَّهُ فَوْقَ الْعَالَمِ، وَأَنَّهُمْ حِينَ دُعَائِهِ يَتَوَجَّهُونَ إلَى فَوْقَ بِقُلُوبِهِمْ وَعُيُونِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ. وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ قَوْلِ جَهْمٍ هُوَ قَوْلُ الْمُبَدِّلِينَ مِنْ الصَّابِئَةِ وَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، كَانَ الْأَئِمَّةُ يَقُولُونَ إنَّ قَوْلَهُمْ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَإِنْ كَانُوا خَيْرًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، كَاَلَّذِينَ نَاظَرَهُمْ جَهْمٌ وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ يُعَطِّلُ وُجُودَ الصَّانِعِ، أَوْ يُوجِبُ عِبَادَةَ إلَهٍ مَعَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الصَّابِئَةَ لَيْسُوا كَذَلِكَ، لَكِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يُوجِبُوا الشِّرْكَ فَقَدْ لَا يُحَرِّمُونَهُ، بَلْ يُسَوِّغُونَ التَّوْحِيدَ وَالْإِشْرَاكَ جَمِيعًا، وَيَسْتَحْسِنُونَ عِبَادَةَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةَ أَهْلِ الْإِشْرَاكِ جَمِيعًا وَلَا يُنْكِرُونَ هَذَا وَلَا هَذَا، كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِهِمْ وَمُصَنَّفَاتِهِمْ لَكِنْ لَيْسَ النَّاسُ فِي التَّجَهُّمِ عَلَى مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ انْقِسَامُهُمْ فِي التَّجَهُّمِ يُشْبِهُ انْقِسَامُهُمْ فِي التَّشَيُّعِ. فَإِنَّ التَّجَهُّمَ وَالرَّفْضَ هُمَا أَعْظَمُ الْبِدَعِ أَوْ مِنْ أَعْظَمِ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِي الْإِسْلَامِ. وَلِهَذَا كَانَ الزَّنَادِقَةُ الْمَحْضَةُ مِثْلُ الْمَلَاحِدَةِ مِنْ الْقَرَامِطَةِ وَنَحْوِهِمْ إنَّمَا يَتَسَتَّرُونَ بِهَذَيْنِ بِالتَّجَهُّمِ وَالتَّشَيُّعِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: مَا أُبَالِي أَصْلَيْت خَلْفَ الْجَهْمِيِّ أَوْ الرَّافِضِيِّ، أَوْ صَلَّيْت خَلْفَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، وَلَا

يُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُعَادُونَ وَلَا يُنَاكَحُونَ وَلَا يَشْهَدُونَ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ. قَالَ: وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: هُمَا مِلَّتَانِ الْجَهْمِيَّةُ وَالرَّافِضَةُ هَذَانِ، وَقَدْ كَانَ أَمْرُهُمْ إذْ ذَاكَ لَمْ يَنْتَشِرْ وَيَتَفَرَّعْ وَيَظْهَرْ فَسَادُهُ كَمَا ظَهَرَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ. فَإِنَّ الرَّافِضَةَ الْقُدَمَاءَ لَمْ يَكُونُوا جَهْمِيَّةً، بَلْ كَانُوا مُثْبِتَةً لِلصِّفَاتِ وَغَالِبُهُمْ يُصَرِّحُ بِلَفْظِ الْجِسْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا قَدْ ذَكَرَ النَّاسُ مَقَالَاتِهِمْ، كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ وَالْجَهْمِيَّةِ لَمْ يَكُونُوا رَافِضَةً، بَلْ كَانَ الِاعْتِزَالُ فَاشِيًّا فِيهِمْ وَالْمُعْتَزِلَةُ كَانُوا ضِدَّ الرَّافِضَةِ وَهُمْ إلَى النَّصْبِ أَقْرَبُ، فَإِنَّ الِاعْتِزَالَ حَدَثَ مِنْ الْبَصْرَةِ وَالرَّفْضَ حَدَثَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ، وَالتَّشَيُّعَ كَثُرَ فِي الْكُوفَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ كَانُوا بِالضِّدِّ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ زَمَنِ الْبُخَارِيِّ مِنْ عَهْدِ بَنِي بُوَيْهٍ الدَّيْلَمِ فَشَا فِي الرَّافِضَةِ التَّجَهُّمُ وَأَكْثَرُ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَظَهَرَتْ الْقَرَامِطَةُ ظُهُورًا كَثِيرًا وَجَرَى حَوَادِثُ عَظِيمَةٌ. وَالْقَرَامِطَةُ بَنَوْا أَمْرَهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِ الْمَجُوسِ، وَشَيْءٍ مِنْ دِينِ الصَّابِئَةِ، فَأَخَذُوا عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَصْلَيْنِ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ، وَعَنْ هَؤُلَاءِ الْعَقْلَ وَالنَّفْسَ، وَرَتَّبُوا لَهُمْ دِينًا آخَرَ لَيْسَ هُوَ هَذَا وَلَا هَذَا، وَجَعَلُوا عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ سِيمَا الرَّافِضَةِ، مَا يَظُنُّ الْجُهَّالُ بِهِ أَنَّهُمْ رَافِضَةٌ. وَإِنَّمَا هُمْ زَنَادِقَةٌ مُنَافِقُونَ، اخْتَارُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ وَالْهَوَى فِي الرَّافِضَةِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي سَائِرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ. وَالشِّيعَةُ هُمْ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ، شَرُّهَا الْغَالِيَةُ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ لِعَلِيٍّ شَيْئًا مِنْ الْإِلَهِيَّةِ أَوْ يَصِفُونَهُ بِالنُّبُوَّةِ، وَكُفْرُ هَؤُلَاءِ بَيِّنٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَعْرِفُ الْإِسْلَامَ، وَكُفْرُهُمْ مِنْ جِنْسِ كُفْرِ النَّصَارَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُمْ يُشْبِهُونَ الْيَهُودَ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى. وَالدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: وَهُمْ الرَّافِضَةُ الْمَعْرُوفُونَ، كَالْإِمَامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ عَلِيًّا هُوَ الْإِمَامُ الْحَقُّ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَصٍّ جَلِيٍّ أَوْ خَفِيٍّ وَأَنَّهُ ظُلِمَ وَمُنِعَ حَقَّهُ، وَيُبْغِضُونِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَيَشْتُمُونَهُمَا، وَهَذَا هُوَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ سِيمَا الرَّافِضَةَ وَهُوَ بُغْضُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَسَبُّهُمَا. وَالدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُفَضِّلَةُ مِنْ الزَّيْدِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، الَّذِينَ يُفَضِّلُونَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَلَكِنْ يَعْتَقِدُونَ إمَامَتَهُمَا وَعَدَالَتَهُمَا وَيَتَوَلَّوْنَهُمْ ا، فَهَذِهِ الدَّرَجَةُ وَإِنْ كَانَتْ بَاطِلَةً، فَقَدْ نُسِبَ إلَيْهَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْعِبَادَةِ، وَلَيْسَ أَهْلُهَا قَرِيبًا مِمَّنْ قَبْلَهُمْ،

بَلْ هُمْ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ أَقْرَبُ مِنْهُمْ إلَى الرَّافِضَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يُنَازِعُونَ الرَّافِضَةَ فِي إمَامَةِ الشَّيْخَيْنِ وَعَدْلِهِمَا وَمُوَالَاتِهِمَا، وَيُنَازِعُونَ أَهْلَ السُّنَّةِ فِي فَضْلِهِمَا عَلَى عَلِيٍّ - وَالنِّزَاعُ الْأَوَّلُ أَعْظَمُ، وَلَكِنْ هُمْ الْمِرْقَاةُ الَّتِي تَصْعَدُ مِنْهُ الرَّافِضَةُ فَهُمْ لَهُمْ بَابٌ. وَكَذَلِكَ الْجَهْمِيَّةُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ فَشَرُّهَا الْغَالِيَةُ الَّذِينَ يَنْفُونَ أَسْمَاءَ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَإِنْ سَمُّوهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى قَالُوا: هُوَ مَجَازٌ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِحَيٍّ وَلَا عَالِمٍ وَلَا قَادِرٍ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ وَلَا مُتَكَلِّمٍ وَلَا يَتَكَلَّمُ. وَكَذَلِكَ وَصَفَ الْعُلَمَاءُ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ كَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا أَخْرَجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَ شَيْئًا وَلَكِنَّهُمْ يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ الشَّنِعَةَ بِمَا يُقِرُّونَ فِي الْعَلَانِيَةِ فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: فَمَنْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: نَعْبُدُ مَنْ يُدَبِّرُ أَمْرَ هَذَا الْخَلْقِ. فَقُلْنَا: فَهَذَا الَّذِي يُدَبِّرُ أَمْرَ هَذَا الْخَلْقِ هُوَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ بِصِفَةٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ قُلْنَا: قَدْ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّكُمْ لَا تُثْبِتُونَ شَيْئًا إنَّمَا تَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ الشَّنِعَةَ بِمَا تُظْهِرُونَ. فَقُلْنَا لَهُمْ: هَذَا الَّذِي يُدَبِّرُ هُوَ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى قَالُوا: لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا بِجَارِحَةٍ وَالْجَوَارِحُ عَنْ اللَّهِ مُنْتَفِيَةٌ وَإِذَا سَمِعَ الْجَاهِلُ قَوْلَهُمْ يَظُنُّ أَنَّهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَقُودُونَ قَوْلَهُمْ إلَى ضَلَالٍ وَكُفْرٍ، وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ، بَابُ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ فِي نَفْيِهِمْ عِلْمَ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11] . وَذَكَرَ الْعِلْمَ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] .

وَذَكَرَ تَعَالَى الْقُوَّةَ فَقَالَ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] وَقَالَ: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] . وَزَعَمَتْ الْجَهْمِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ: أَنَّ اللَّهَ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا حَيَاةَ وَلَا سَمْعَ وَلَا بَصَرَ، وَأَرَادُوا أَنْ يَنْفُوا أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ قَادِرٌ حَيٌّ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ خَوْفُ السَّيْفِ مِنْ إظْهَارِ نَفْيِ ذَلِكَ، فَأَتَوْا بِمَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا قَالُوا لَا عِلْمَ وَلَا قُدْرَةَ لِلَّهِ فَقَدْ قَالُوا إنَّهُ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا قَادِرٍ وَوَجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَهَذَا إنَّمَا أَخَذُوهُ عَنْ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالتَّعْطِيلِ؛ لِأَنَّ الزَّنَادِقَةَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا قَادِرٍ وَلَا حَيٍّ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ، فَلَمْ تَقْدِرْ الْمُعْتَزِلَةُ أَنْ تُفْصِحَ بِذَلِكَ فَأَتَتْ بِمَعْنَاهُ وَقَالَتْ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَالِمٌ قَادِرٌ حَيٌّ سَمِيعٌ بَصِيرٌ مِنْ طَرِيقِ التَّسْمِيَةِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تُثْبِتَ لَهُ عِلْمًا أَوْ قُدْرَةً أَوْ سَمْعًا أَوْ بَصَرًا. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَصَّرَنَا خَطَأَ الْمُخْطِئِينَ، وَعَمَى الْعَمِينَ، وَحَيْرَةَ الْمُتَحَيِّرِينَ، الَّذِينَ نَفَوْا صِفَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَالُوا إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، لَا صِفَاتٍ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ، وَلَا قُدْرَةَ وَلَا حَيَاةَ لَهُ وَلَا سَمْعَ لَهُ وَلَا بَصَرَ لَهُ. وَلَا عِزَّةَ لَهُ وَلَا جَلَالَ لَهُ وَلَا عَظَمَةَ لَهُ وَلَا كِبْرِيَاءَ لَهُ. وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي سَائِرِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ قَالَ: وَهَذَا قَوْلٌ أَخَذُوهُ عَنْ إخْوَانِهِمْ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ، الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعًا لَمْ يَزَلْ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا قَادِرٍ وَلَا حَيٍّ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ وَلَا قَدِيرٍ، وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِأَنْ قَالُوا نَقُولُ: غَيْرَ لَمْ يَزَلْ وَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْنَا قَوْلَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الصِّفَاتِ، لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُظْهِرُوا مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَتْ الْفَلَاسِفَةُ تُظْهِرُهُ، فَأَظْهَرُوا مَعْنَاهُ، فَنَفَوْا أَنْ يَكُونَ لِلْبَارِي عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَحَيَاةٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ وَلَوْلَا الْخَوْفُ لَأَظْهَرُوا مَا كَانَتْ الْفَلَاسِفَةُ تُظْهِرُهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَأَفْصَحُوا بِهِ، غَيْرَ أَنَّ خَوْفَ السَّيْفِ يَمْنَعُهُمْ مِنْ إظْهَارِ ذَلِكَ، قَالَ: وَقَدْ أَفْصَحَ بِذَلِكَ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، كَانَ يَنْتَحِلُ قَوْلَهُمْ فَزَعَمَ أَنَّ الْبَارِيَ عَالِمٌ قَادِرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ فِي الْمَجَازِ لَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْغَالِيَةِ النُّفَاةِ

لِلْأَسْمَاءِ حَقِيقَةً، هُوَ قَوْلُ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَمَنْ سَبَقَهُمْ مِنْ إخْوَانِهِمْ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ. وَالدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ التَّجَهُّمِ هُوَ تَجَهُّمُ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ، الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ يَنْفُونَ صِفَاتِهِ، وَهُمْ أَيْضًا لَا يُقِرُّونَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى كُلِّهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، بَلْ يَجْعَلُونَ كَثِيرًا مِنْهَا عَلَى الْمَجَازِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْجَهْمِيَّةُ الْمَشْهُورُونَ. وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: فَهُمْ الصِّفَاتِيَّةُ الْمُثْبِتُونَ الْمُخَالِفُونَ لِلْجَهْمِيَّةِ، لَكِنْ فِيهِمْ نَوْعٌ مِنْ التَّجَهُّمِ، كَاَلَّذِينَ يُقِرُّونَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ يَرُدُّونَ طَائِفَةً مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الْخَبَرِيَّةِ، أَوْ غَيْرِ الْخَبَرِيَّةِ، وَيَتَأَوَّلُونَهَا كَمَا تَأَوَّلَ الْأَوَّلُونَ صِفَاتِهِ كُلَّهَا، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُقِرُّ بِصِفَاتِهِ الْخَبَرِيَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ دُونَ الْحَدِيثِ، كَمَا عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَخْبَارِ أَيْضًا فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ مَعَ نَفْيٍ وَتَعْطِيلٍ لِبَعْضِ مَا ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ وَبِالْمَعْقُولِ، وَذَلِكَ كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كِلَابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ. وَفِي هَذَا الْقِسْمِ يَدْخُلُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ، وَهَؤُلَاءِ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَحْضَةِ أَقْرَبُ مِنْهُمْ إلَى الْجَهْمِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ، لَكِنْ انْتَسَبَ إلَيْهِمْ طَائِفَةٌ هُمْ إلَى الْجَهْمِيَّةِ أَقْرَبُ مِنْهُمْ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَحْضَةِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُنَازِعُونَ الْمُعْتَزِلَةَ نِزَاعًا عَظِيمًا فِيمَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الصِّفَاتِ أَعْظَمَ مِنْ مُنَازَعَتِهِمْ لِسَائِرِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ فِيمَا يَنْفُونَهُ. وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَإِنَّهُمْ وَالَوْا الْمُعْتَزِلَةَ وَقَارَبُوهُمْ أَكْثَرَ وَقَدَّمُوهُمْ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْإِثْبَاتِ، وَخَالَفُوا أَوَّلِيهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَقَارَبُ نَفْيُهُ وَإِثْبَاتُهُ وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَقُولُونَ إنَّ هَؤُلَاءِ يَتَنَاقَضُونَ فِيمَا يَجْمَعُونَهُ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. وَفِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ حَصَلَ النِّزَاعُ فِي مَسْأَلَةِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ وَالْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ لَمَّا أَحْدَثَتْ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَصِفْ نَفْسَهُ بِالْكَلَامِ أَصْلًا بَلْ حَقِيقَةٌ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمْ، كَمَا أَفْصَحَ بِهِ رَأْسُهُمْ الْأَوَّلُ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ، حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى

تَكْلِيمًا؛ لِأَنَّ الْخِلَّةَ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ الْمَحَبَّةِ، وَعِنْدَهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ شَيْئًا فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَا يُحِبُّهُ شَيْءٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يَتَّخِذُ شَيْئًا خَلِيلًا، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ يَمْتَنِعُ عِنْدَهُ عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ نَفَتْ الْجَهْمِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ كَلَامٌ قَائِمٌ بِهِ، أَوْ إرَادَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ، وَادَّعَوْا مَا بَاهَتُوا بِهِ صَرِيحَ الْعَقْلِ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ، أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ يَكُونُ فِي غَيْرِهِ. وَقَالُوا أَيْضًا: يَكُونُ مُرِيدًا بِإِرَادَةٍ لَيْسَتْ فِيهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، أَوْ الْإِرَادَةُ وَصْفٌ عَدَمِيٌّ، أَوْ لَيْسَتْ غَيْرَ الْمُرَادَاتِ الْمَخْلُوقَةِ وَغَيْرَ الْأَمْرِ وَهُوَ الصَّوْتُ الْمَخْلُوقُ فِي غَيْرِهِ، فَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ التَّكْذِيبَ بِحَقِيقَةِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُقِرُّونَ بِإِطْلَاقِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي أَطْلَقَتْهَا الرُّسُلُ وَهَذَا حَالُ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ، مِنْ الصَّابِئِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَنَحْوِهِمْ: فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ فِي بَابِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ، بَلْ وَفِيمَا أَمَرَتْ بِهِ أَيْضًا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُقِرُّونَ بِكَثِيرٍ مِمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَتَعْظِيمِ أَقْدَارِهِمْ، فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةَ يَقُولُونَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ مَا يُفِيضُ عَلَى نُفُوسِ الْأَنْبِيَاءِ الصَّافِيَةِ الْقُدْسِيَّةِ، مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الرُّوحُ الْمُفَارِقُ لِلْأَجْسَامِ، الَّذِي هُوَ الْعَقْلُ الْعَاشِرُ كَفَلَكِ الْقَمَرِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ الَّذِي يُفِيضُ مِنْهُ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ الصُّوَرِ وَالْأَعْرَاضِ. وَيَزْعُمُ مَنْ يَزْعُمُ مِنْ مُنَافِقِيهِمْ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ جِبْرِيلُ، وَيَقُولُونَ: إنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ الَّتِي تُفِيضُ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ وَالْحُرُوفُ الَّتِي تَتَشَكَّلُ فِي نَفْسِهِ، هِيَ كَلَامُ اللَّهِ، كَمَا يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا يُتَصَوَّرُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الصُّوَرِ النُّورَانِيَّةِ، هِيَ مَلَائِكَةُ اللَّهِ، فَلَا وُجُودَ لِكَلَامِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ خَارِجًا عَنْ نَفْسِ النَّبِيِّ، وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ غَيْرُ الْعُقُولِ الْعَشَرَةِ وَالنُّفُوسِ التِّسْعَةِ، أَكْثَرُهُمْ مُتَنَازِعُونَ فِيهَا، هَلْ هِيَ جَوَاهِرُ أَوْ أَعْرَاضٌ. إنَّمَا الْمَلَائِكَةُ مَا يُوجَدُ فِي النُّفُوسِ وَالْأَبْدَانِ مِنْ الْقُوَى الصَّالِحَةِ وَالْمَعَارِفِ وَالْإِرَادَاتِ الصَّالِحَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ إنْشَاءُ الرَّسُولِ وَكَلَامُهُ كَمَا قَالَ ذَلِكَ فَيْلَسُوفُ قُرَيْشٍ وَطَاغُوتُهَا الْوَحِيدُ ابْنُ الْمُغِيرَةِ، الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ:

{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا - وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا - وَبَنِينَ شُهُودًا - وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا - ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ - كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا - سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا - إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} [المدثر: 11 - 18] {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر: 19] {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر: 20] إلَى قَوْلِهِ: {إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 25] وَهَذَا قَوْلٌ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ مُتَأَخِّرِي غَالِيَةِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ، الَّذِينَ ضَلُّوا بِكَلَامِ الْمُتَفَلْسِفَةِ فَوَقَعُوا فِيمَا يُنَافِي أَصْلَيْ الْإِسْلَامِ، شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، بِمَا وَقَعُوا فِيهِ مِنْ الْإِشْرَاكِ وَجُحُودِ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ، فَهَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ غَالِيَةِ الْجَهْمِيَّةِ. وَأَمَّا الْجَهْمِيَّةُ الْمَشْهُورُونَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ، فَقَالُوا: إنَّهُ يَخْلُقُ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ إمَّا فِي الْهَوَاء وَإِمَّا بَيْنَ وَرَقِ الشَّجَرَةِ الَّتِي كَلَّمَ مِنْهَا مُوسَى، وَإِمَّا غَيْرَ ذَلِكَ فَذَلِكَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ عِنْدَهُمْ، فَإِذَا قَالُوا: إنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً، وَإِنَّ لَهُ كَلَامًا حَقِيقَةً، فَهَذَا مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ وَهُوَ تَبْدِيلٌ لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا عِبَادَهُ، وَاللُّغَةُ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا بَنُو آدَمَ، وَالْكُتُبُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالْفِطْرَةِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا بَنُو آدَمَ إلَّا مَنْ اجْتَالَتْ الشَّيَاطِينُ فِطْرَتَهُ، أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْكَلَامُ وَيَتَّصِفُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُحِبُّ وَالْمُرِيدُ مَنْ تَقُومُ بِهِ الْمَحَبَّةُ وَالْإِرَادَةُ، كَمَا أَنَّ الْعَلِيمَ وَالْقَدِيرَ مَنْ يَقُومُ بِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ، وَقَدْ قَالُوا: لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ إلَّا مَا يَكُونُ قَائِمًا بِغَيْرِهِ، كَالشَّجَرَةِ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الشَّجَرَةُ هِيَ الْمُتَكَلِّمَةَ بِالْكَلَامِ الَّذِي خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: مَنْ قَالَ إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ. وَلَا يَنْبَغِي لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ إنَّ الْمَخْلُوقَ هُوَ الْقَائِلُ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَذُكِرَ لَهُ أَنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، فَقَالَ: كَيْفَ يَصْنَعُونَ بِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، كَيْفَ يَصْنَعُونَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا} [طه: 14] . وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْهَاشِمِيُّ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا كَمَا زَعَمُوا، فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى بِأَنْ يُخَلَّدَ فِي النَّارِ إذْ قَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى، وَقَالَ غَيْرُهُ إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي فَهَذَا أَيْضًا قَدْ ادَّعَى مَا ادَّعَى

فِرْعَوْنَ، فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى بِأَنْ يُخَلَّدَ فِي النَّارِ مِنْ هَذَا وَكِلَاهُمَا عِنْدَهُ مَخْلُوقٌ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ فَاسْتَحْسَنَهُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إنَّ لِلَّهِ وَلَدًا أَكَفْرُ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ، وَقَالَ: احْذَرْ ابْنَ الْمَرِيسِيِّ وَأَصْحَابَهُ؛ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ ابْنُ جَدِّ الزَّنْدَقَةِ، وَأَنَا كَلَّمْت أُسْتَاذَهُمْ جَعْدًا فَلَمْ يُثْبِتْ أَنَّ فِي السَّمَاءِ إلَهًا قَالَ الْبُخَارِيُّ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَفَّانَ، سَمِعْت سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ فِي السَّنَةِ الَّتِي ضُرِبَ فِيهَا الْمَرِيسِيِّ فَقَامَ ابْنُ عُيَيْنَةَ مِنْ مَجْلِسِهِ مُغْضَبًا فَقَالَ: وَيْحَكُمْ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ قَدْ صَحِبْت النَّاسَ وَأَدْرَكْتُهُمْ، هَذَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَهَذَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ، حَتَّى ذَكَرَ مَنْصُورًا أَوْ الْأَعْمَشَ وَمِسْعَرَ بْنَ كِدَامٍ، فَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ قَدْ تَكَلَّمُوا فِي الِاعْتِزَالِ وَالرَّفْضِ وَالْقَدَرِ، وَأَمَرُونَا بِاجْتِنَابِ الْقَوْمِ، فَمَا نَعْرِفُ الْقُرْآنَ إلَّا كَلَامَ اللَّهِ فَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ مَا أَشْبَهَ هَذَا الْقَوْلُ بِقَوْلِ النَّصَارَى، لَا تُجَالِسُوهُمْ وَلَا تَسْمَعُوا كَلَامَهُمْ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ أَدْرَكْت مَشَايِخَنَا مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَالُوا: اللَّهُ تَعَالَى قَدْ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] . وَمِنْ ذَلِكَ كَلَامُ الذِّرَاعِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَسْلِيمُ الْحَجَرِ عَلَيْهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ، لَا سِيَّمَا مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ كَلَامِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَكُلُّ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا لِلَّهِ إنْ كَانَ مَا خَلَقَهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي غَيْرِهِ يَكُونُ كَلَامًا لَهُ، وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ، وَيُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكُفْرَ وَالْكَذِبَ. وَقَوْلُ الشَّاةِ: إنِّي مَسْمُومَةٌ فَلَا تَأْكُلْنِي، وَقَوْلُ الْبَقَرَةِ: إنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا إنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ وَشَهَادَةُ الْجُلُودِ وَالْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ كَلَامُ اللَّه وَإِلَّا يُفَرِّقُ بَيْنَ نُطْقِهِ وَبَيْنَ إنْطَاقِهِ لِغَيْرِهِ.

وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] فَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ؛ فَلَوْ كَانَ تَكْلِيمُهُ لَيْسَ هُوَ نَفْسُهُ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ، وَلَا هُوَ قَائِمٌ بِهِ بَلْ هُوَ بِأَنْ يَخْلُقَ كَلَامًا فِي شَجَرَةٍ أَوْ نَحْوِهَا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ، لَمْ يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ هَذِهِ الْوُجُوهِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ مَا يَقُومَ بِالْمَخْلُوقَاتِ يَسْمَعُهُ كُلُّ أَحَدٍ، كَمَا يَسْمَعُونَ مَا يُحْدِثُهُ فِي الْجَمَادَاتِ مِنْ الْإِنْطَاقِ، وَكَمَا سَمِعُوا مَا يُحْدِثُهُ فِي الْأَحْيَاءِ مِنْ الْإِنْطَاقِ، وَلِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَحْيِ وَبَيْنَ التَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، فَلَوْ كَانَ كَلَامُهُ هُوَ مَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ كَلَامٌ، لَمْ يَحْصُلْ الْفَرْقُ وَلِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الرَّسُولُ لَمْ يَسْمَعْ إلَّا مَا خُلِقَ فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ لَكَانَ هَذَا مِنْ جِنْسِ مَا يَخْلُقُهُ فَيَسْمَعُهُ الْبَشَرُ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ كِلَاهُمَا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فَلَا يَكُونُ اللَّهُ مُكَلِّمًا لِلْمَلَائِكَةِ قَطُّ إلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. وَقَوْلُهُ: {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُكَلِّمُ مِنْ شَاءَ بِلَا حِجَابٍ، كَمَا اسْتَفَاضَتْ بِذَلِكَ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا ابْتَدَعَتْ الْجَهْمِيَّةُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ، أَنْكَرَ ذَلِكَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَبَقَايَا التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعُهُمْ وَصَارُوا يُظْهِرُونَ أَعْظَمَ الْمَقَالَاتِ شُبْهَةً كَقَوْلِهِمْ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ؛ لِأَنَّهُمْ يُشَبِّهُونَ بِهَذَا عَلَى الْعَامَّةِ مَا لَا يُشَبِّهُونَهُ بِغَيْرِهِمْ إذْ يَقُولُ الْقَائِلُ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَلِأَنَّ نَقِيضَ هَذَا اللَّفْظِ لَيْسَ مَشْهُورًا كَشُهْرَةِ أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ وَالْعَرْشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا فَكَانَ إنْكَارُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لِذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَنْكَارِ دَعْ مَا هُوَ أَظْهَرُ فَسَادًا. قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ: وَقَدْ ذَكَرَ أَقْوَالَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا وَرَدَ عَنْهُمْ مِنْ تَكْفِيرِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: فَهَؤُلَاءِ خَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ نَفْسًا وَأَكْثَرُ مِنْ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِ التَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَرْضِيِّينَ سِوَى الصَّحَابَةِ الْخَبِيرِينَ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَمُضِيِّ السِّنِينَ وَالْأَعْوَامِ وَفِيهِمْ نَحْوٌ مِنْ مِائَةِ إمَامٍ مِمَّنْ أَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِهِمْ وَتَدَيَّنُوا بِمَذَاهِبِهِمْ، قَالَ: وَلَوْ اشْتَغَلْتُ بِنَقْلِ قَوْلِ

الْمُحْدِثِينَ لَبَلَغَتْ أَسْمَاؤُهُمْ أُلُوفًا كَثِيرَةً، لَكِنْ اخْتَصَرْتُ فَنَقَلْتُ عَنْ هَؤُلَاءِ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ، لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ، وَمَنْ أَنْكَرَ قَوْلَهُمْ اسْتَتَابُوهُ وَأَمَرُوا بِقَتْلِهِ أَوْ نَفْيِهِ أَوْ صَلْبِهِ، قَالَ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ فِي سِنِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ ثُمَّ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ، فَأَمَّا جَعْدٌ فَقَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُشَيْرِيُّ، وَأَمَّا جَهْمٌ فَقُتِلَ بِمُرَوٍّ فِي خِلَافَةِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَسَأَذْكُرُ قِصَّتَهُمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَصْلٌ: وَمَعَ هَذَا فَقَدْ حُفِظَ عَنْ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ كَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا الْقَوْلُ، وَفِي ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ أَقْوَالَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ بِدُونِ الصَّحَابَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. فَرَوَى اللَّالَكَائِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُصَفَّى، وَمِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ جُمَيْعٍ أَبِي الْمُنْذِرِ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا حَكَّمَ عَلِيٌّ الْحَكَمَيْنِ، قَالَتْ لَهُ الْخَوَارِجُ: حَكَّمْت رَجُلَيْنِ؟ قَالَ: مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا إنَّمَا حَكَّمْت الْقُرْآنَ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ آخَرَ إلَى عَلِيٍّ، وَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَجَّاجٍ الْحَضْرَمِيُّ الْمُضَرِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا عُتْبَةُ بْنُ السَّكَنِ الْفَزَارِيّ، حَدَّثَنَا الْفَرَجُ بْنُ يَزِيدَ الْكَلَاعِيُّ، قَالَ: قَالُوا لِعَلِيٍّ يَوْمَ صِفِّينَ حَكَّمْت كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا؟ قَالَ: مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا، مَا حَكَّمْت إلَّا الْقُرْآنَ. وَهَذَا السِّيَاقُ يُبْطِلُ تَأْوِيلَ مَنْ يُفَسِّرُ كَلَامَ السَّلَفِ، بِأَنَّ الْمَخْلُوقَ هُوَ الْمُفْتَرِي الْمَكْذُوبُ، وَالْقُرْآنَ غَيْرُ مُفْتَرٍ وَلَا مَكْذُوبٍ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: حَكَّمْت مَخْلُوقًا، إنَّمَا أَرَادُوا مَرْبُوبًا مَصْنُوعًا خَلَقَهُ اللَّهُ، لَمْ يُرِيدُوا مَكْذُوبًا. فَقَوْلُهُ: مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا، نَفْيٌ لِمَا ادَّعَوْهُ، وَقَوْلُهُ: مَا حَكَّمْت إلَّا الْقُرْآنَ، نَفْيٌ لِهَذَا الْخَلْقِ عَنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ طَرِيقٍ ثَالِثٍ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَمِنْ الْمَحْفُوظِ الثَّابِتِ عَنْهُ، الَّذِي رَوَاهُ النَّاسُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ. مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَغَيْرِهِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي كَنَفٍ. قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ، قَالَ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ

فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ، وَمَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ أَجْمَعَ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرُّويَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ الْعَنَزِيِّ، قَالَ: أَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بِيَدِي، فَلَمَّا أَشْرَفْنَا عَلَى السَّدِّ إذْ نَظَرَ إلَى السُّوقِ، قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَهَا وَخَيْرَ أَهْلِهَا، وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا. قَالَ: فَمَرَّ بِرَجُلٍ يَحْلِفُ بِسُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَآيَةٍ، قَالَ فَغَمَزَنِي عَبْدُ اللَّهِ بِيَدِي ثُمَّ قَالَ: أَتَرَاهُ مُكَفِّرًا؟ أَمَا إنَّ كُلَّ آيَةٍ فِيهَا يَمِينٌ. وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَجِبُ فِي الْحَلِفِ بِهَا يَمِينٌ، كَالْكَعْبَةِ وَغَيْرِهَا، إلَّا مَا نَازَعَ فِيهِ بَعْضُهُمْ مِنْ الْحَلِفِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَوْنِ الْإِيمَانِ بِهِ أَحَدَ رُكْنَيْ الْإِيمَانِ. وَقَوْلُهُ: عَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ. قَدْ اتَّبَعَهُ الْأَئِمَّةُ وَعَمِلُوا بِهِ؛ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمَا، لَكِنْ هَلْ تَتَدَاخَلُ الْأَيْمَانُ إذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَاحِدًا، كَمَا لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ لَا يَفْعَلُ، ثُمَّ حَلَفَ بِاَللَّهِ لَا يَفْعَلُ، هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا ابْنُ صَالِحِ بْنُ جَابِرٍ الْأَنْمَاطِيُّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جِنَازَةٍ، فَلَمَّا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي لَحْدِهِ، قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ الْقُرْآنِ اغْفِرْ لَهُ. فَوَثَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: مَهْ الْقُرْآنُ مِنْهُ. زَادَ الصُّهَيْبِيُّ فِي حَدِيثِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَرْبُوبٍ، مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. فَلَمَّا ابْتَدَعَتْ الْجَهْمِيَّةُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ، أَنْكَرَ ذَلِكَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا، ثُمَّ اسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمْ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ بِسَبَبِ مَنْ أَدْخَلُوهُ فِي شِرْكِهِمْ وَفِرْيَتِهِمْ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَجَرَتْ الْمِحْنَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَكَانَ أَئِمَّةُ الْهُدَى عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ، مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ بِهِ هُوَ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ مِنْهُ وَقَائِمٌ بِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا، إنَّمَا الْمَخْلُوقُ مَا يَخْلُقُهُ مِنْ الْأَعْيَانِ الْمُحْدَثَةِ وَصِفَاتِهَا. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَرُدُّ قَوْلَ الْجَهْمِيَّةِ بِإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ، أَنَّهُ لَيْسَ كَلَامَهُ، وَلَا تَكَلَّمَ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْمُسْتَقِرَّ فِي فِطْرِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ، أَنَّ الْمُتَكَلَّمَ بِالْكَلَامِ، لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْكَلَامُ فَلَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِشَيْءٍ لَمْ يَقُمْ بِهِ بَلْ هُوَ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ كَمَا لَا يَكُونُ عَالِمًا بِعِلْمٍ قَائِمًا بِغَيْرِهِ، وَلَا حَيًّا بِحَيَاةٍ

قَائِمَةٍ بِغَيْرِهِ وَلَا مُرِيدًا بِإِرَادَةٍ قَائِمَةٍ بِغَيْرِهِ وَلَا مُحِبًّا وَمُبْغِضًا وَلَا رَاضِيًا وَسَاخِطًا بِحُبٍّ وَبُغْضٍ وَرِضًا وَسُخْطٍ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ، وَلَا مُتَأَلِّمًا وَلَا مُتَنَعِّمًا وَفَرِحًا وَضَاحِكًا بِتَأَلُّمٍ وَتَنَعُّمٍ وَفَرَحٍ وَضَحِكٍ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ. فَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ الْبَدِيهِيَّةِ الْفِطْرِيَّةِ الَّتِي لَا يُنَازِعُهُمْ فِيهَا إلَّا مَنْ أُحِيلَتْ فِطْرَتُهُ. وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ آمِرًا وَنَاهِيًا بِأَمْرٍ وَنَهْيٍ لَا يَقُومُ بِهِ بَلْ يَقُومُ بِغَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ مُخْبِرًا وَمُحَدِّثًا وَمُنْبِئًا بِخَبَرٍ وَحَدِيثٍ وَنَبَأٍ لَا يَقُومُ بِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ حَامِدًا أَوْ ذَامًّا وَمَادِحًا وَمُثْنِيًا بِحَمْدٍ وَذَمٍّ وَمَدْحٍ وَثَنَاءٍ لَا يَقُومُ بِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ مُنَاجِيًا وَمُنَادِيًا وَدَاعِيًّا بِنَجَاءٍ وَدُعَاءٍ وَنِدَاءٍ لَا يَقُومُ بِهِ بَلْ لَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ وَاعِدًا وَمُوعِدًا بِوَعْدٍ وَوَعِيدٍ لَا يَقُومُ بِهِ بَلْ لَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ مُصَدِّقًا وَمُكَذِّبًا بِتَصْدِيقٍ وَتَكْذِيبٍ لَا يَقُومُ بِهِ بَلْ لَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ حَالِفًا وَمُقْسِمًا مُولِيًا بِحَلِفٍ وَقَسَمٍ وَيَمِينٍ لَا يَقُومُ بِهِ وَلَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ بَلْ مِنْ أَظْهَرِ الْعُلُومِ الْفِطْرِيَّةِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي عَلِمَهَا بَنُو آدَمَ، وُجُوبَ قِيَامِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِالْمَوْصُوفِ بِهَا، وَامْتِنَاعَ أَنَّهَا لَا تَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ. فَمَنْ قَالَ إنَّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ، وَالْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَالنَّبَأَ وَالْخَبَرَ، وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، وَالْحَلِفَ وَالْيَمِينَ، وَالْمُنَادَاةَ وَالْمُنَاجَاةَ، وَسَائِرِ مَا يُسَمَّى وَيُوصَفُ بِهِ أَنْوَاعُ الْكَلَامِ، يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ قَائِمَةً بِالْآمِرِ النَّاهِي الْمُنَاجِي الْمُنَادِي الْمُنْبِئِ الْمُخْبِرِ الْوَاعِدِ الْمُتَوَعِّدِ الْحَامِدِ الْمُثْنِي الَّذِي هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ قَائِمَةً بِغَيْرِهِ، فَقَدْ خَالَفَ الْفِطْرَةَ الضَّرُورِيَّةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ، وَبَدَّلَ لُغَاتِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْمَعْقُولَاتِ وَاللُّغَاتِ فَقَدْ كَذَّبَ الْمُرْسَلِينَ أَجْمَعِينَ، وَنَسَبَهُمْ إلَى غَايَةِ التَّدْلِيسِ وَالتَّلْبِيسِ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ؛ لِأَنَّ الرُّسُلَ أَجْمَعِينَ أَخْبَرُوا أَنَّ لِلَّهِ أَمْرًا وَنَهْيًا، وَقَالَ وَيَقُولُ، وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ نَفْسُهُ الَّذِي أَمَرَ وَنَهَى، وَقَالَ: لَا. إنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ لَمْ يَقُمْ بِهِ، بَلْ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ. ثُمَّ لَوْ كَانَ مَقْصُودُهُمْ ذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ الْمَعْرُوفَ مِنْ الْخِطَابِ، وَلَا الْمَفْهُومَ مِنْهُ، لَا عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَلَا عِنْدَ الْعَامَّةِ: بَلْ الْمَعْرُوفُ الْمَعْلُومُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ قَائِمًا بِالْمُتَكَلِّمِ. فَلَوْ أَرَادُوا بِكَلَامِهِ وَقَوْلِهِ أَنَّهُ خَلَقَ فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ كَلَامًا؛ لَكَانُوا قَدْ أَضَلُّوا الْخَلْقَ عَلَى زَعْمِ الْجَهْمِيَّةِ وَلَبَّسُوا عَلَيْهِمْ غَايَةَ التَّلْبِيسِ، وَأَرَادُوا

بِاللَّفْظِ مَا لَمْ يَدُلُّوا الْخَلْقَ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ. فَمَنْ نَسَبَهُمْ إلَى هَذَا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ، الَّذِينَ هُمْ أَصْلُ الْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ يَصِفُونَ الرُّسُلَ بِذَلِكَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَنَحْوِهِمْ بَلْ كَوْنُ الْمُتَكَلِّمِ الْآمِرِ النَّاهِي لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ إلَّا لِقِيَامِ الْكَلَامِ بِغَيْرِهِ مَعَ امْتِنَاعِ قِيَامِهِ بِهِ أَمْرٌ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا. وَزَعَمَتْ الْجَهْمِيَّةُ الْمُلْحِدَةُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ الْمُحَرَّفَةِ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ الْمُبَدِّلَةِ لِدِينِ اللَّهِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ فِي اللُّغَةِ مِنْ فِعْلِ الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِغَيْرِهِ، كَالْجِنِّيِّ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى لِسَانِ الْإِنْسِيِّ الْمَصْرُوعِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِمَا يُسْمَعُ مِنْ الْمَصْرُوعِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ لَمْ يَقَعْ إلَّا بِالْإِنْسِيِّ دُونَ الْجِنِّيِّ. وَهَذَا مِنْ التَّمْوِيهِ وَالتَّدْلِيسِ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ الْمُتَكَلِّمُ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ فَقَدْ نَازَعَهُمْ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِيَّةِ وَقَالُوا بَلْ الْمُتَكَلِّمُ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ كَمَا يَقُولُهُ الْكِلَابِيَّةُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَبَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ طَوِيلٌ. وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَأَكْثَرُ النَّاسِ فَلَمْ يُنَازِعُوهُمْ هَذَا النِّزَاعَ، بَلْ قَالُوا: الْكَلَامُ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ فِعْلٌ لِلْمُتَكَلِّمِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِهِ فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ لَازِمًا لِمُتَكَلِّمٍ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْكَلَامُ، وَجَمِيعُ الْمَسْمُوعِ مِنْ اللُّغَاتِ وَالْمَعْلُومِ فِي فِطْرَةِ الْبَرِّيَّاتِ يُوَافِقُ ذَلِكَ، وَأَمَّا تَكَلُّمُ الْجِنِّيِّ، عَلَى لِسَانِ الْإِنْسِيِّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْجِنِّيِّ كَلَامٌ وَلَكِنْ تَحْرِيكُهُ مَعَ ذَلِكَ لِجَوَارِحِ الْإِنْسِيِّ يُشْبِهُ تَحْرِيكَ رُوحِ الْإِنْسِيِّ لِجَوَارِحِهِ بِكَلَامِهِ وَيُشْبِهُ تَحْرِيكَ الْإِنْسَانِ بِكَلَامِهِ وَحَرَكَتِهِ وَتَصْوِيتِهِ كَمَا يُصَوِّتُ بِقَصَبَةٍ وَنَحْوِهَا مَعَ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ قَدْ قَامَ بِهِ مِنْ الْفِعْلِ مَا يَصِحُّ بِهِ نِسْبَةُ ذَلِكَ إلَيْهِ. وَقَوْلُهُمْ: الْمُتَكَلِّمُ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِغَيْرِهِ. كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّ الْفِعْلَ أَيْضًا لَا يَقُومُ بِغَيْرِ الْفَاعِلِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَقُومُ بِغَيْرِهِ هُوَ الْمَفْعُولُ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْخَلْقَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. فَهُوَ مِنْ بِدَعِ الْجَهْمِيَّةِ، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى خِلَافِ هَذَا وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَئِمَّةُ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا خَرَّجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ قَالَ: فَفِيمَا يَسْأَلُ عَنْهُ بِأَوَّلًا يُقَالُ لَهُ: تَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ الْقُرْآنِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ؟ فَلَا يَجِدُ، فَيُقَالُ لَهُ فَبِمَ قُلْتَ؟

فَيَقُولُ. مِنْ قَوْلِ اللَّهِ: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] وَزَعَمَ أَنَّ كُلَّ مَجْعُولٍ مَخْلُوقٌ، فَادَّعَى كَلِمَةً مِنْ الْكَلَامِ الْمُتَشَابِهِ يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ أَرَادَ أَنْ يُلْحِدَ فِي تَنْزِيلِهَا وَيَبْتَغِيَ الْفِتْنَةَ فِي تَأْوِيلِهَا. وَذَلِكَ أَنَّ جَعَلَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى وَجْهَيْنِ عَلَى مَعْنَى التَّسْمِيَةِ، وَعَلَى مَعْنَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِمْ. قَوْلُهُ: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91] قَالُوا: هُوَ شِعْرٌ وَأَنْبَاءُ الْأَوَّلِينَ وَأَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، فَهَذَا عَلَى مَعْنَى التَّسْمِيَةِ، وَقَالَ: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19] يَعْنِي أَنَّهُمْ سَمُّوهُمْ إنَاثًا ثُمَّ ذَكَرَ جَعَلَ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى تَسْمِيَةٍ فَقَالَ: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة: 19] فَهَذَا عَلَى مَعْنَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَقَالَ: {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} [الكهف: 96] هَذَا عَلَى مَعْنَى فِعْلٍ، هَذَا جَعْلُ الْمَخْلُوقِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ جَعَلَ مِنْ اللَّهِ عَلَى مَعْنَى خَلَقَ، وَجَعَلَ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى خَلَقَ، وَاَلَّذِي قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَعَلَ عَلَى مَعْنَى خَلَقَ لَا يَكُونُ إلَّا خَلْقًا وَلَا يَقُومُ إلَّا مَقَامَ خَلَقَ لَا يَزُولُ عَنْ الْمَعْنَى فَمَا قَالَ اللَّهُ جَعَلَ عَلَى مَعْنَى خَلَقَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] يَعْنِي خَلْقَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ. {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء: 12] يَقُولُ خَلَقْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ: قَالَ {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 16] وَقَالَ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] يَقُولُ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا خَلَقَ مِنْ آدَمَ حَوَّاءَ. وَقَالَ: {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} [النمل: 61] وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ فَهَذَا وَمَا كَانَ مِثَالُهُ لَا يَكُونُ مِثَالُهُ إلَّا عَلَى مَعْنَى خَلَقَ وَقَوْلُهُ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} [المائدة: 103] لَا يَعْنِي مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ.

وَقَالَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] لَا يَعْنِي أَنِّي خَالِقُك لِلنَّاسِ إمَامًا لِأَنَّ خَلْقَ إبْرَاهِيمَ كَانَ مُتَقَدِّمًا قَالَ إبْرَاهِيمُ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] ، وَقَالَ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ} [إبراهيم: 40] لَا يَعْنِي، خَلَقَنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ، وَقَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ} [آل عمران: 176] لَا يَعْنِي يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ لَا يَخْلُقَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ لِأُمِّ مُوسَى {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] لَا يَعْنِي وَخَالِقُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ أُمَّ مُوسَى أَنْ يَرُدَّهُ إلَيْهَا ثُمَّ يَجْعَلَهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ مُرْسَلًا، وَقَالَ: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [الأنفال: 37] لَا يَعْنِي فَيَخْلُقَهُ فِي جَهَنَّمَ، وَقَالَ: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] وَقَالَ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] لَا يَعْنِي خَلَقَهُ دَكًّا وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ وَمَا كَانَ عَلَى مِثَالِهِ لَا يَكُونُ عَلَى مَعْنَى خَلَقَ. فَإِذَا قَالَ تَعَالَى جَعَلَ عَلَى مَعْنَى خَلَقَ وَقَالَ جَعَلَ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى خَلَقَ فَبِأَيِّ حُجَّةٍ قَالَ الْجَهْمِيُّ جَعَلَ عَلَى مَعْنَى الْخَلْقِ، فَإِنْ رَدَّ الْجَهْمِيُّ الْجَعْلَ إلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ فِيهِ وَإِلَّا كَانَ مِنْ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3] يَقُولُ جَعَلَهُ جَعْلًا عَلَى مَعْنَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى خَلَقَ. وَقَالَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2] ، وَقَالَ:

{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] وَقَالَ: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [مريم: 97] فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا وَيَسَّرَهُ بِلِسَانِ نَبِيِّهِ كَانَ ذَلِكَ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ جَعَلَ بِهِ الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا، فَفِي هَذَا بَيَانٌ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ هُدَاهُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي تَخْلِيقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْخَلَائِقِ، وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ وَأَمْرُهُ فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَكَلَامِهِ هُوَ الْخَالِقُ الْمُكَوِّنُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ فَهُوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ مُكَوَّنٌ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا خَرَّجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، بَيَانُ مَا أَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّةُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ. قُلْنَا: لِمَ أَنْكَرْتُمْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ إنَّمَا كَوَّنَ شَيْئًا فَعَبَّرَ عَنْ اللَّهِ وَخَلَقَ صَوْتًا فَسَمِعَ. فَزَعَمُوا أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جَوْفٍ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ. فَقُلْنَا فَهَلْ يَجُوزُ لِمُكَوِّنٍ أَوْ لِغَيْرِ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ لِمُوسَى {لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] وَإِنِّي أَنَا رَبُّك؟ فَمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ الْجَهْمِيَّةُ أَنَّ اللَّهَ كَوَّنَ شَيْئًا كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ الْمُكَوَّنُ يَا مُوسَى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] ، وَقَالَ: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] وَقَالَ: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: 144] فَهَذَا مَنْصُوصُ الْقُرْآنِ قَالَ: وَأَمَّا مَا قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ. فَكَيْفَ يَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ» قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جَوْفٍ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ.

أَلَيْسَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] أَتَرَاهُ أَنَّهَا قَالَتْ بِجَوْفٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ؟ وَقَالَ اللَّهُ: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} [الأنبياء: 79] أَتَرَاهَا أَنَّهَا سَبَّحَتْ بِفَمٍ وَجَوْفٍ وَلِسَانٍ وَشَفَتَيْنِ وَالْجَوَارِحُ إذَا شَهِدَتْ عَلَى الْكَافِرِ فَقَالُوا: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] أَتَرَاهَا نَطَقَتْ بِجَوْفٍ وَشَفَتَيْنِ وَفَمٍ وَلِسَانٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْطَقَهَا كَيْفَ شَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ فَمٌ وَلِسَانٌ وَشَفَتَانِ. قَالَ: فَلَمَّا خَنَقَتْهُ الْحُجَجُ قَالَ إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى إلَّا أَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُهُ. فَقُلْنَا وَغَيْرُهُ مَخْلُوقٌ؟ قَالَ نَعَمْ قُلْنَا هَذَا مِثْلُ قَوْلِكُمْ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّكُمْ تَدْفَعُونَ الشَّنِعَةَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ بِمَا تُظْهِرُونَ وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ قَالَ «لَمَّا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ رَبِّهِ قَالَ يَا رَبِّ هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي سَمِعْته هُوَ كَلَامُك قَالَ نَعَمْ يَا مُوسَى هُوَ كَلَامِي وَإِنَّمَا كَلَّمْتُك بِقُوَّةِ عَشَرَةِ آلَافِ لِسَانٍ وَلِي قُوَّةُ الْأَلْسُنِ كُلِّهَا وَأَنَا أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا كَلَّمْتُك عَلَى قَدْرِ مَا يُطِيقُ بَدَنُك وَلَوْ كَلَّمْتُك بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِتَّ قَالَ: فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ قَالُوا لَهُ: صِفْ لَنَا كَلَامَ رَبِّك، فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَهَلْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصِفَهُ لَكُمْ قَالُوا تُشَبِّهُهُ. قَالَ: أَسْمَعْتُمْ أَصْوَاتَ الصَّوَاعِقِ الَّتِي تُقْبِلُ فِي أَحْلَى حَلَاوَةٍ سَمِعْتُمُوهَا فَكَأَنَّهُ مِثْلُهُ» . قَالَ وَقُلْنَا لِلْجَهْمِيَّةِ: مَنْ الْقَائِلُ لِعِيسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] أَلَيْسَ اللَّهُ هُوَ الْقَائِلُ قَالُوا: يَكُونُ اللَّهُ شَيْئًا يُعَبِّرُ عَنْ اللَّهِ كَمَا يَكُونُ فَعَبَّرَ لِمُوسَى فَقُلْنَا: فَمَنْ الْقَائِلُ: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6] أَلَيْسَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ؟ قَالُوا: هَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَكُونُ اللَّهُ شَيْئًا فَيُعَبِّرُ عَنْ اللَّهِ قُلْنَا قَدْ أَعْظَمْتُمْ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ حَتَّى زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ فَشَبَّهْتُمُوهُ بِالْأَصْنَامِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تَتَحَرَّك وَلَا تَزُولُ عَنْ مَكَان إلَى مَكَان، فَلَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ قَالَ أَقُولُ إنَّ اللَّهَ قَدْ يَتَكَلَّمُ وَلَكِنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ. قُلْنَا: وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ كَلَامُهُمْ مَخْلُوقٌ، فَفِي مَذْهَبِكُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى

خَلَقَ التَّكَلُّمَ، وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ كَانُوا لَا يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى خَلَقَ لَهُمْ كَلَامًا، فَقَدْ جَمَعْتُمْ بَيْنَ كُفْرٍ وَتَشْبِيهٍ فَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ، بَلْ نَقُولُ إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ، وَلَا نَقُولُ إنَّهُ كَانَ وَلَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ كَلَامًا وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ لَا يَعْلَمُ حَتَّى خَلَقَ عِلْمًا فَعَلِمَ، وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا قُدْرَةَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ قُدْرَةً وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا نُورَ لَهُ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ نُورًا، وَلَا نَقُولُ إنَّهُ كَانَ وَلَا عَظَمَةَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ عَظَمَةً. فَقَالَتْ الْجَهْمِيَّةُ لَنَا لَمَّا وَصَفْنَا مِنْ اللَّهِ هَذِهِ الصِّفَاتِ: إنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ وَنُورَهُ وَاَللَّهَ وَقُدْرَتَهُ وَاَللَّهَ وَعَظَمَتَهُ. فَقَدْ قُلْتُمْ بِقَوْلِ النَّصَارَى حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ وَنُورُهُ وَلَمْ يَزَلْ وَقُدْرَتُهُ فَقُلْنَا: لَا نَقُول إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ وَقُدْرَتُهُ وَلَمْ يَزَلْ وَنُورُهُ وَلَكِنْ نَقُولُ: لَمْ يَزَلْ بِقُدْرَتِهِ وَنُورِهِ لَا مَتَى قَدَرَ وَلَا كَيْفَ قَدَرَ. فَقَالُوا لَا تَكُونُونَ مُوَحِّدِينَ أَبَدًا حَتَّى تَقُولُوا كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ فَقُلْنَا: نَحْنُ نَقُولُ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ وَلَكِنْ إذَا قُلْنَا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ كُلِّهَا أَلَيْسَ إنَّمَا نَصِفُ إلَهًا وَاحِدًا بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ. وَضَرَبْنَا لَهُمْ مَثَلًا فِي ذَلِكَ فَقُلْنَا لَهُمْ: أَخْبِرُونَا عَنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَلَيْسَ لَهَا جُذُوعٌ وَكُرَبٌ وَلِيفٌ وَسَعَفٌ وَخُوصٌ وَجُمَّارٌ وَاسْمُهَا اسْمٌ وَاحِدٌ وَسُمِّيَتْ نَخْلَةً بِجَمِيعِ صِفَاتِهَا فَكَذَلِكَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَلَهُ الْمِثْلُ الْأَعْلَى بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ إلَهٌ وَاحِدٌ، لَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ حَتَّى خَلَقَ قُدْرَةً وَاَلَّذِي لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ هُوَ عَاجِزٌ، وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَلَا عِلْمَ لَهُ حَتَّى خَلَقَ فَعَلِمَ وَاَلَّذِي لَا يَعْلَمُ فَهُوَ جَاهِلٌ وَلَكِنْ نَقُولُ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ قَادِرًا عَالِمًا مَالِكًا لَا مَتَى وَلَا كَيْفَ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ رَجُلًا كَافِرًا اسْمُهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ فَقَالَ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] أَوَقَدْ كَانَ لِهَذَا الَّذِي سَمَّاهُ وَحِيدًا عَيْنَانِ وَأُذُنَانِ وَلِسَانٌ وَشَفَتَانِ وَيَدَانِ وَرِجْلَانِ وَجَوَارِحُ كَثِيرَةٌ فَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ وَحِيدًا بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ، فَكَذَلِكَ اللَّهُ وَلَهُ الْمِثْلُ الْأَعْلَى هُوَ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ إلَهٌ وَاحِدٌ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ فِي الْمَقَالَاتِ اخْتِلَافَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ الْبَارِيَ مُتَكَلِّمٌ فَقَالَ: اخْتَلَفَتْ الْمُعْتَزِلَةُ فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ الْبَارِيَ مُتَكَلِّمًا. وَمِنْهُمْ مَنْ امْتَنَعَ أَنْ

يُثْبِتَ الْبَارِي مُتَكَلِّمًا وَلَوْ أَثْبَتَهُ مُتَكَلِّمًا لَأَثْبَتَهُ مُنْفَصِلًا، وَالْقَائِلُ لِهَذَا الْإِسْكَافِيُّ، وَعَبَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قُلْت: وَأَمَّا نَقْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ اتِّفَاقَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْبَارِيَ مُتَكَلِّمٌ، وَنَقَلَ مَنْ أُخِذَ ذَلِكَ عَنْهُ كَالرَّازِيِّ وَغَيْرِهِ. فَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ، فَإِنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ كَانَ يَأْخُذُ مَا يَذْكُرُهُ مَشَايِخُهُ الْبَصْرِيُّونَ وَمَا نَقَلُوهُ، وَهَؤُلَاءِ يُوَافِقُونَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ، فَيُوَافِقُونَ أَهْلَ الْإِيمَانِ فِي اللَّفْظِ وَهُمْ فِي الْمَعْنَى قَائِلُونَ بِقَوْلِ مَنْ نَفَى ذَلِكَ، فَإِذَا ذُكِرَ الْإِجْمَاعُ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ ظَنَّ الْمُسْتَمِعُ لِذَلِكَ أَنَّ النِّزَاعَ فِي تَغْيِيرِ اللَّفْظِ كَالنِّزَاعِ فِي تَغْيِيرِ بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ النُّفَاةُ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا كَمَا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ مَنْ يُصَرِّحُ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ وَافَقُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى إطْلَاقِ اللَّفْظِ نِفَاقًا مِنْ زَنَادِقَتِهِمْ وَجَهْلًا مِنْ سَائِرِهِمْ. وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هُوَ مَحْضُ السُّنَّةِ وَصَرِيحُهَا الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَئِمَّتُهَا وَقَدْ خَلَّصَهُ تَخْلِيصًا لَا يَعْرِفُ قَدْرَهُ إلَّا خَوَاصُّ الْأُمَّةِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ مَزَالَّ أَقْدَامِ الْأَذْكِيَاءِ الْفُضَلَاءِ فِي هَذِهِ الْمُهِمَّةِ الْغَبْرَاءِ، حَتَّى كَثُرَ بَيْنَ الْفَرْقِ مِنْ الْخُصُومَاتِ وَالْأَهْوَاءِ وَسَائِرِ النَّاسِ يَقُولُونَ بِذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ: قَرَأْت فِي كِتَابِ شَاكِرٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، قَالَ: إنَّ الَّذِي عِنْدَنَا أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَزَالُوا يَعْبُدُونَ خَالِقًا كَامِلًا لِصِفَاتِهِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ كَانَ وَلَا عِلْمَ ثُمَّ خَلَقَ عِلْمًا فَعَلِمَ بِخَلْقِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا فَخَلَقَ كَلَامًا ثُمَّ تَكَلَّمَ بِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ سَمِيعًا بَصِيرًا ثُمَّ خَلَقَ سَمْعًا وَبَصَرًا: فَقَدْ نَسَبَهُ إلَى النَّقْصِ، وَقَائِلُ هَذَا كَافِرٌ. لَمْ يَزَلْ اللَّهُ كَامِلًا بِصِفَاتِهِ لَمْ تَحْدُثْ فِيهِ صِفَةٌ، وَلَا تَزُولُ عَنْهُ صِفَةٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ وَبَعْدَ مَا خَلَقَ الْخَلْقَ كَامِلًا بِصِفَاتِهِ، فَمِنْ وَجْهٍ أَنَّ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَتَكَلَّمُ كَيْفَ يَتَكَلَّمُ بِشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ وَلَهَوَاتٍ، فَهَذِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ قَالَ لَهُمَا: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] أَفَهَاهُنَا شَفَتَانِ وَلِسَانٌ وَلَهَوَاتٌ. قُلْت: أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيّ كَانَ يُشَبَّهُ بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي حِفْظِهِ وَفِقْهِهِ وَدِينِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَأَحْمَدُ كَانَ عَظِيمَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، دَاعِيًا لَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مَوَاضِعَ. كَمَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنْ حَنْبَلٍ. وَقَدْ ذَكَرَهُ حَنْبَلٌ فِي كُتُبِهِ مِثْلَ كِتَابِ السُّنَّةِ وَالْمِحْنَةِ لِحَنْبَلٍ. قَالَ حَنْبَلٌ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُرْوَى أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَأَنَّ اللَّهَ يُرَى وَأَنَّ اللَّهَ يَضَعُ قَدَمَهُ، وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَقَالَ

أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: نُؤْمِنُ بِهَا وَنُصَدِّقُ بِهَا وَلَا كَيْفَ وَلَا مَعْنَى وَلَا نَرُدُّ مِنْهَا شَيْئًا، وَنَعْلَمُ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ حَقٌّ إذَا كَانَتْ بِأَسَانِيدَ صِحَاحٍ، وَلَا نَرُدُّ عَلَى اللَّهِ قَوْلَهُ وَلَا يُوصَفُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِأَكْثَرَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، بِلَا حَدٍّ وَلَا غَايَةٍ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] . وَقَالَ حَنْبَلٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي ذَاتِهِ كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَقَدْ أَجْمَلَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِالصِّفَةِ لِنَفْسِهِ، فَحَدَّ لِنَفْسِهِ صِفَةً لَيْسَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ فَنَعْبُدُ اللَّهَ بِصِفَاتٍ غَيْرِ مَحْدُودَةٍ وَلَا مَعْلُومَةٍ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ. قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . قَالَ حَنْبَلٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَهُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، بَصِيرٌ بِلَا حَدٍّ وَلَا تَقْدِيرٍ وَلَا يَبْلُغُهُ الْوَاصِفُونَ وَصِفَاتُهُ مِنْهُ وَلَهُ وَلَا نَتَعَدَّى الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ، فَنَقُولُ كَمَا قَالَ، وَنَصِفُهُ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَلَا نَتَعَدَّى ذَلِكَ وَلَا تَبْلُغُهُ صِفَةَ الْوَاصِفِينَ، نُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ مُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَلَا نُزِيلُ عَنْهُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ بِشَنَاعَةٍ شُنِّعَتْ وَوَصْفٍ وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ كَلَامٍ وَنُزُولٍ وَخُلُوِّهِ بِعَبْدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَضْعِهِ كَنَفَهُ عَلَيْهِ. هَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُرَى فِي الْآخِرَةِ. وَالتَّحْدِيدُ فِي هَذَا بِدْعَةٌ وَالتَّسْلِيمُ لِلَّهِ بِأَمْرِهِ بِغَيْرِ صِفَةٍ وَلَا حَدٍّ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا غَفُورًا عَالَمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ عَلَّامَ الْغُيُوبِ، فَهَذِهِ صِفَاتٌ وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ لَا تُرَدَّ وَلَا تُدْفَعُ وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ بِلَا حَدٍّ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة: 4] كَيْفَ شَاءَ، الْمَشِيئَةُ إلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالِاسْتِطَاعَةُ لَهُ. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ بِلَا حَدٍّ وَلَا تَقْدِيرٍ. وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ. {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم: 42] فَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ صِفَاتُهُ مِنْهُ لَا نَتَعَدَّى الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ. وَالْخَبَرُ بِضَحِكِ اللَّهِ، وَلَا نَعْلَمُ كَيْفَ ذَلِكَ إلَّا بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ وَتَبْيِينِ الْقُرْآنِ، لَا يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ وَلَا يَحُدُّهُ أَحَدٌ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَهْمِيَّةُ وَالْمُشْتَبِهَةُ قُلْت لَهُ: وَالْمُشَبِّهَةُ مَا يَقُولُونَ؟ قَالَ: مَنْ قَالَ بَصَرٌ كَبَصَرِي. وَيَدٌ كَيَدِي - وَقَالَ حَنْبَلٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ - وَقَدَمٌ كَقَدَمِي. فَقَدْ شَبَّهَ اللَّهُ بِخَلْقِهِ وَهَذَا يَحُدُّهُ. وَهَذَا كَلَامٌ سُوءٌ وَهَذَا مَحْدُودُ الْكَلَامِ فِي هَذَا لَا أُحِبُّهُ.

قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ جَرِّدُوا الْقُرْآنَ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " يَضَعُ قَدَمَهُ ". نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَحُدُّهُ وَلَا نَرُدُّهُ عَلَى رَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ نُؤْمِنُ بِهِ. قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] فَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْأَخْذِ بِمَا جَاءَ وَالنَّهْيِ عَمَّا نَهَى. وَأَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الزَّلَلِ وَالِارْتِيَابِ وَالشَّكِّ إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٌ قَدِيرٌ، قَالَ الْخَلَّالُ: وَنَادَانِي أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْجَبَلِيِّ مِنْ حَنْبَلٍ فِي هَذَا الْكَلَامِ وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] {لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23] هَذِهِ صِفَاتُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَسْمَاؤُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ إنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ. قَالَ: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27] ، {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42] {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] . فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَالَ {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات: 27]- إلَى قَوْلِهِ - {دَحَاهَا} [النازعات: 30] فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9]- إلَى - {طَائِعِينَ} [فصلت: 11] فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ السَّمَاءِ وَقَالَ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] {عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56] {سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى. فَقَالَ لَا أَنْسَابَ فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] فَلَا أَنْسَابَ عِنْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ. فِي النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42] . فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ قَالَ الْمُشْرِكُونَ تَعَالَوْا نَقُلْ لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ فَخَتَمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ عَرَفُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا وَعِنْدَهُ {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 42] الْآيَةَ، وَخَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ، ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ وَدَحَاهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالْآكَامَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ فَخُلِقَتْ الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَخُلِقَتْ السَّمَاوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ إنِّي لَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إلَّا أَصَابَ فِيهِ الَّذِي أَرَادَ فَلَا يَخْتَلِفُ عَلَيْك الْقُرْآنُ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا وَرَوَاهُ الْبَرْقَانِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ الطَّرِيقِ الَّذِي أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ بِعَيْنِهَا مِنْ طَرِيقِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ بِعَيْنِهِ بِأَلْفَاظِهِ التَّامَّةِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ:

يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي صَدْرِي فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَكْذِيبٌ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا هُوَ بِتَكْذِيبٍ وَلَكِنْ اخْتِلَافٌ قَالَ: فَهَلُمَّ مَا وَقَعَ فِي نَفْسِك فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: اسْمَعْ، اللَّهُ يَقُولُ: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] ، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 50] . وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42] . وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْلِ: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات: 27] {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا - وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات: 28 - 29] {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: " خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ الْأَرْضِ ". وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9] {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 10] {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 158] {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134] ، وَكَأَنْ كَانَ ثُمَّ انْقَضَى. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَاتِ مَا فِي نَفْسِك مِنْ هَذَا، فَقَالَ السَّائِلُ: إذَا أَنْبَأْتَنِي بِهَذَا فَحَسْبِي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] ، فَهَذَا فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى يُنْفَخُ فِي الصُّوَرِ فَيُصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ثُمَّ إذَا كَانَ فِي النَّفْخَةِ الْأُخْرَى قَامُوا فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ. وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] وَقَوْلُهُ:

{وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42] فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ لَا يَتَعَاظَمُ عَلَيْهِ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ وَلَا يَغْفِرُ شِرْكًا، فَلَمَّا رَأَى الْمُشْرِكُونَ قَالُوا إنَّ رَبَّنَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَلَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ تَعَالَوْا نَقُولُ إنَّا كُنَّا أَهْلَ ذُنُوبٍ وَلَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَمَا إذَا كَتَمُوا الشِّرْكَ فَاخْتِمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَيُخْتَمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عَرَفَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَكْتُمُ حَدِيثًا. فَذَلِكَ قَوْلُهُ {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات: 27] {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا - وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات: 28 - 29] {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] فَإِنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ يَعْنِي ثُمَّ دَحَى الْأَرْضَ وَدَحْيُهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى وَشَقَّ فِيهَا الْأَنْهَارَ وَجَعَلَ فِيهَا السُّبُلَ وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالرِّمَالَ وَالْآكَامَ وَمَا فِيهَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] وَقَوْلُهُ: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9] {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 10] وَجُعِلَتْ السَّمَاوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134] ، {غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 23] {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 158] . فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَلِكَ، وَسَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْحَلْهُ أَحَدٌ غَيْرَهُ وَكَانَ اللَّهُ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: احْفَظْ عَنِّي مَا حَدَّثْتُك وَاعْلَمْ أَنَّ مَا اخْتَلَفَ عَلَيْك مِنْ الْقُرْآنِ أَشْبَاهُ مَا حَدَّثْتُك، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ شَيْئًا إلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ وَلَكِنَّ النَّاسَ لَا يَعْلَمُونَ، فَلَا يَخْتَلِفُ عَلَيْك الْقُرْآنُ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ كَمَا رَوَاهُ الْبَرْقَانِيُّ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي يَسِيرٍ مِنْ الْأَحْرُفِ، وَمَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مُتَعَيَّنٌ لِمَا جَاءَ فِي الْآثَارِ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ كَامِلًا بِصِفَاتِهِ، لَمْ تَحْدُثُ لَهُ صِفَةٌ وَلَا تَزُولُ عَنْهُ صِفَةٌ،

لَيْسَ هُوَ بِمُخَالِفٍ لِقَوْلِهِمْ أَنَّهُ يَنْزِلُ كَمَا يَشَاءُ وَيَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يَشَاءُ وَأَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ. وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ، وَأَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ فَإِنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ لَيْسَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ صِفَاتِهِ؛ وَلَكِنَّ كَوْنَهُ بِحَيْثُ يَفْعَلُ إذَا شَاءَ هُوَ صِفَتُهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْفِعْلِ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ تَجَدُّدَ الصِّفَةِ أَوْ زَوَالَهَا يَقْتَضِي تَغَيُّرَ الْمَوْصُوفِ وَاسْتِحَالَتَهُ، وَيَقْتَضِي تَجَدُّدَ كَمَالٍ لَهُ بَعْدَ نَقْصٍ، أَوْ تَجَدُّدَ نَقْصٍ لَهُ بَعْدَ كَمَالٍ، كَمَا فِي صِفَاتِ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا إذَا حَدَثَ لِلْمَوْصُوفِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ، مِثْلُ تَجَدُّدِ الْعِلْمِ بِمَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، أَوْ زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْفِعْلِ. وَهَكَذَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُخَالِفِينَ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَاَلَّذِينَ هُمْ أَقْرَبُ إلَى السُّنَّةِ مِنْهُمْ، مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَطَوَائِفَ مِنْ الشِّيعَةِ كَمَا نَقَلُوا عَنْ الْكَرَّامِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ تَحُلُّهُ الْحَوَادِثُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْإِرَادَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَالنَّظَرِ، وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَلَمْ يَزَلْ بِمَشِيئَتِهِ الْقَدِيمَةِ وَلَمْ يَزَلْ سَمِيعًا بَصِيرًا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحَوَادِثَ لَا تُوجِبُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَصْفًا وَلَا هِيَ صِفَاتٌ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَاَلَّذِينَ يُنَازِعُونَ فِي هَذَا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، فَيَقُولُونَ لَوْ قَامَ فِعْلٌ حَادِثٌ بِذَاتِ الْقَدِيمِ لَاتَّصَفَ بِهِ وَصَارَ الْحَادِثُ صِفَةً لَهُ إذْ لَا مَعْنَى لِقِيَامِ الْمَعَانِي وَاخْتِصَاصِهَا بِالذَّوَاتِ إلَّا كَوْنُهَا صِفَاتٍ لَهَا، فَلَوْ قَامَتْ الْحَوَادِثُ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْإِرَادَاتِ بِذَاتِ الْقَدِيمِ لَاتَّصَفَ بِهَا كَمَا اتَّصَفَ بِالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْمَشِيئَةِ، وَلَوْ اتَّصَفَ بِهَا لَتَغَيَّرَ بِهَا، وَالتَّغَيُّرُ عَلَيْهِ مُمْتَنِعٌ، وَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ فَإِنَّ تَسْمِيَةَ هَذَا صِفَةً وَتَغَيُّرًا لَا يُوَافِقُهُمْ الْأَوَّلُونَ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ اللُّغَةُ أَيْضًا مُوَافِقَةً عَلَيْهِ، فَإِنَّهَا لَا تُسَمِّي قِيَامَ الْإِنْسَانِ وَقُعُودَهُ تَغَيُّرًا لَهُ، وَلَا يُطْلَقَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ صِفَةٌ لَهُ وَإِنْ أُطْلِقَ ذَلِكَ فَالنِّزَاعُ اللَّفْظِيُّ لَا يَضُرُّ إلَّا إذَا خُولِفَتْ أَلْفَاظُ الشَّرِيعَةِ، وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ كَثِيرًا مَا يَتَنَازَعُونَ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ الْمُتَشَابِهَةِ وَقَدْ قِيلَ أَكْبَرُ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتَرَاك الْأَسْمَاءِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي وَصْفِ أَهْلِ الْبِدَعِ فَهُمْ مُخَالِفُونَ الْكِتَابَ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُجْتَمِعُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْحَرَكَةِ فِي الْجِهَاتِ لَيْسَتْ تَغَيُّرًا مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ

عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» () فَأَمَرَ بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ أَوْ اللِّسَانِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ هُوَ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِزَالَةِ صُورَتِهِ وَصِفَتِهِ بِتَحْرِيكِهِ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ، فَتَغْيِيرُ الْخَمْرِ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ نَقْلِهَا مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ، بَلْ بِإِرَاقَتِهَا أَوْ إفْسَادِهَا مِمَّا فِيهِ اسْتِحَالَةُ صُورَتِهَا وَذَلِكَ مَنْ رَأَى مَنْ يَقْتُلُ غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ تَغْيِيرُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ النَّقْلِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ زَوَالُ صُورَةِ الْقَتْلِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ زَوَالِ صُورَةِ الْقِتَالِ وَكَذَلِكَ الزَّانِيَانِ وَكَذَلِكَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْبِدْعَةِ وَالدَّاعِي لَيْسَ تَغْيِيرُ هَذَا الْمُنْكَرِ بِمُجَرَّدِ التَّحْوِيلِ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ قَدْ أَمَرَ بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ قَطُّ بِمُجَرَّدِ النَّقْلِ فِي الْأَحْيَازِ وَالْجِهَاتِ إذْ الْأَحْيَازُ وَالْجِهَاتُ مُتَسَاوِيَةٌ فَهُوَ مُنْكَرٌ هُنَا كَمَا أَنَّهُ مُنْكَرٌ هُنَاكَ عُلِمَ أَنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى التَّغْيِيرِ بَلْ لَا بُدَّ فِي التَّغْيِيرِ مِنْ إزَالَةِ صُورَةٍ مَوْجُودَةٍ وَإِنَّ ذَاكَ قَدْ يَحْصُلُ بِالنَّقْلِ لَكِنَّ الْعَرْضَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْحَرَكَةِ كَحَرَكَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ لَا يُسَمَّى تَغَيُّرًا بِخِلَافِ مَا يَعْرِضُ لِلْجَسَدِ مِنْ الْخَوْفِ وَالْمَرَضِ وَالْجُوعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُغَيِّرُ صِفَتَهُ. قُلْت وَفِي هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَدٌّ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ فِي مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ وَسَائِرِ السَّلَفِ فِي مَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ هَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ كَالْعِلْمِ أَوْ الْمُرَادِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَمَا يُقَالُ لَمْ يَزَلْ خَالِقًا، وَقَدْ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي كِتَابِ الْمُقْنِعِ، وَذَكَرَهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ الْبَيَانِ فِي الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّ الْقَاضِيَ وَأَتْبَاعَهُ يَقُولُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَيَتَأَوَّلُونَ كَلَامَ أَحْمَدَ الْمُخَالِفَ لِذَلِكَ عَلَى الْأَسْمَاعِ وَنَحْوِهِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الَّتِي وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ بِهَا بَيْنَ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ وَالْأَئِمَّةُ لَيْسَ هُوَ قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَلَا قَوْلَ هَؤُلَاءِ، بَلْ فِيهِ مَا أَثْبَتَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْحَقِّ وَمَا أَثْبَتَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْحَقِّ وَكُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ أَثْبَتُ مِنْ الْحَقِّ مَا أَثْبَتَهُ فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَإِذَا نَظَرَ ذَلِكَ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالنُّورِ فَلَيْسَ كَالْمَخْلُوقَاتِ الْبَايِنَةِ عَنْهُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مِنْ صِفَاتِهِ وَلَيْسَ كَالصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِهِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ

بِمَشِيئَتِهِ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا غَفُورًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا كَلَامَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ فَذَكَرَ أَحْمَدُ ثَلَاثَ صِفَاتٍ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا غَفُورًا، فَالتَّكَلُّمُ يُشْبِهُ الْعِلْمَ مِنْ وَجْهٍ وَيُشْبِهُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يُشَبَّهُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَالطَّائِفَةُ الَّتِي جَعَلَتْهُ كَالْعِلْمِ مِنْ وَجْهٍ وَالطَّائِفَةُ الَّتِي جَعَلَتْهُ كَالْمَغْفِرَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ قَصُرَتْ فِي مَعْرِفَتِهِ وَلَيْسَ هَذَا وَصْفًا لَهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَلَامِ بَلْ هُوَ وَصْفٌ لَهُ بِوُجُودِ الْكَلَامِ إذَا شَاءَ، وَسَيَجِيءُ كَلَامُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ. مِنْ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ " وَلَيْسَا مِنْ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُ مِنْهُمَا وَلَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا، فَقَدْ نَفَى عَنْهُمَا الْخَلْقَ فِي ذَاتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَاتِهِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ مِنْهُمَا، وَهُنَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ الْقُرْآنَ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا خَارِجًا عَنْهُ، وَفِي كَلَامِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ تَحِلُّهُ الْحَوَادِثُ أَوْ لَا تَحِلُّهُ الْحَوَادِثُ كِلَاهُمَا مُنْكَرٍ عِنْدَهُ، وَهُوَ تَقْتَضِي أُصُولُهُ لِأَنَّ فِي نَفْيِ ذَلِكَ بِدْعَةً وَفِي إثْبَاتِهِ أَيْضًا بِدْعَةً وَلِهَذَا أَنْكَرَ أَحْمَدُ عَلَى مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مُحْدَثٌ إذْ كَانَ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ مَعْنَى الْخَلْقِ الْمَخْلُوقِ، كَمَا رَوَى الْخَلَّالُ عَنْ الْمَيْمُونِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ. مَا تَقُولُ فِيمَنْ قَالَ إنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ مُحْدَثَةٌ. فَقَالَ: كَافِرٌ. ثُمَّ قَالَ لِي: اللَّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ، فَمَنْ قَالَ إنَّهَا مُحْدَثَةٌ، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ مَخْلُوقٌ، وَأَعْظَمَ أَمْرَهُمْ عِنْدَهُ وَجَعَلَ يُكَفِّرُهُمْ، وَقَرَأَ عَلَيَّ {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الصافات: 126] وَذَكَرَ آيَةً أُخْرَى. وَقَالَ الْخَلَّالُ سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَحْكِي عَنْ أَبِيهِ كَلَامَهُ فِي دَاوُد الْأَصْبَهَانِيِّ، وَكِتَابَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ فَقَالَ: جَاءَنِي دَاوُد فَقَالَ: تَدْخُلُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَتُعْلِمُهُ قِصَّتِي وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنِّي يَعْنِي مَا حَكَوْا عَنْهُ. قَالَ: فَدَخَلْت عَلَى أَبِي فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ قَالَ: وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى الْبَابِ - فَقَالَ لِي: كَذَبَ قَدْ جَاءَنِي كِتَابُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، هَاتِ تِلْكَ الضُّبَارَةَ قَالَ الْخَلَّالُ وَذَكَرَ الْكَلَامَ فَلَمْ أَحْفَظْهُ جَيِّدًا، فَأَخْبَرَنِي أَبُو يَحْيَى عَنْ زَكَرِيَّا أَبُو الْفَرَجِ الرَّازِيّ قَالَ: جِئْت يَوْمًا إلَى أَبِي بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ وَإِذَا عِنْدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أُحِبُّ أَنْ تُخْبِرَ أَبَا يَحْيَى مَا سَمِعْت مِنْ أَبِيك فِي دَاوُد الْأَصْبَهَانِيِّ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَمَّا قَدِمَ دَاوُد مِنْ خُرَاسَانَ جَاءَنِي فَسَلَّمَ عَلَيَّ فَسَلَّمْت عَلَيْهِ فَقَالَ لِي قَدْ عَلِمْت شِدَّةَ مَحَبَّتِي لَكُمْ وَلِلشَّيْخِ. وَقَدْ بَلَغَهُ عَنِّي كَلَامٌ فَأُحِبُّ أَنْ تَعْذُرَنِي عِنْدَهُ وَتَقُولَ لَهُ أَنْ لَيْسَ هَذَا مَقَالَتِي أَوْ لَيْسَ كَمَا قِيلَ لَك. فَقُلْت: لَا تُرِيدُ؟

فَأَبِي فَدَخَلْت إلَى أَبِي فَأَخْبَرْته أَنَّ دَاوُد جَاءَ فَقَالَ إنَّهُ لَا يَقُولُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ وَأَنْكَرَ. قَالَ: جِئْنِي بِتِلْكَ الْإِضْبَارَةِ [الْكُتُبِ] فَأَخْرَجَ مِنْهَا كِتَابًا فَقَالَ هَذَا كِتَابُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ وَفِيهِ أَنَّهُ يَعْنِي دَاوُد الْأَصْبَهَانِيَّ - أَحَلَّ فِي بَلَدِنَا الْحَالَ وَالْمَحَلَّ. وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ قَالَ الْقُرْآنُ مُحْدَثٌ فَقُلْت لَهُ إنَّهُ يُنْكِرُ ذَلِكَ. فَقَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى أَصْدَقُ مِنْهُ لَا نَقْبَلُ قَوْلَ عَدُوِّ اللَّهِ. أَوْ نَحْوَ مَا قَالَ أَبُو يَحْيَى وَأَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ بِنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ الْخَلَّالُ، وَأَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي الْخِرَقِيِّ - وَالِدَ أَبِي الْقَاسِمِ صَاحِبَ الْمُخْتَصَرِ، قَالَ: سَأَلْت أَبَا بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ قِصَّةِ دَاوُد الْأَصْبَهَانِيِّ وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: كَانَ دَاوُد خَرَجَ إلَى خُرَاسَانَ إلَى إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، فَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ شَهِدَ عَلَيْهِ أَبُو نَصْرِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ وَشَيْخٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّبِيعِ، شَهِدُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ الْقُرْآنُ مُحْدَثٌ. فَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: مَنْ دَاوُد بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ لَا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ. فَقُلْت: هَذَا مِنْ غِلْمَانِ أَبِي ثَوْرٍ، قَالَ جَاءَنِي كِتَابُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ أَنَّ دَاوُد الْأَصْبَهَانِيَّ قَالَ بِبَلَدِنَا: إنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ. ثُمَّ إنَّ دَاوُد قَدِمَ إلَى هَهُنَا فَذَكَرَ نَحْوَ قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ الْمَرْوَزِيِّ وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ النَّيْسَابُورِيُّ أَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ إبْرَاهِيمَ بْنِ رَاهْوَيْهِ لَمَّا سَمِعَ كَلَامَ دَاوُد فِي بَيْتِهِ وَثَبَ عَلَيْهِ إِسْحَاقُ فَضَرَبَهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ. هَذِهِ قِصَّتُهُ. قَالَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّاشِدِيُّ قَالَ: لَقِيت ابْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بِالْبَصْرَةِ عِنْدَ بِنْدَارٍ، فَسَأَلْته عَنْ دَاوُد فَأَخْبَرَنِي بِمِثْلِ مَا كَتَبَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى إلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقَالَ: خَرَجَ مِنْ عِنْدِنَا مِنْ خُرَاسَانَ بِأَسْوَإِ حَالٍ وَكَتَبَ لِي بِخَطِّهِ وَقَالَ شَهِدَ عَلَيْهِ بِهَذَا الْقَوْلِ بِخُرَاسَانَ عُلَمَاءُ نَيْسَابُورَ. قُلْت: أَمَّا الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ عِنْدَ إِسْحَاقَ فَأَظُنُّهُ كَلَامُهُ فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ فَإِنَّهُ قَالَ: الْأَمْرَيْنِ كَمَا قَالَ الْخَلَّالُ، سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَدَقَةَ، سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ صُبَيْحٍ قَالَ سَمِعْت دَاوُد الْأَصْبَهَانِيَّ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مُحْدَثٌ وَلَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ. قُلْت فَأَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ عَلَى دَاوُد قَوْلَهُ إنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَى هَذَا عِنْدَ النَّاسِ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. وَكَانَتْ الْوَاقِفَةُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْخَلْقَ مَخْلُوقٌ وَيُظْهِرُونَ الْوَقْفَ، فَلَا يَقُولُونَ

مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَيَقُولُونَ إنَّهُ مُحْدَثٌ، وَمَقْصُودُهُمْ مَقْصُودُ الَّذِينَ قَالُوا هُوَ مَخْلُوقٌ فَيُوَافِقُونَهُمْ فِي الْمَعْنَى وَيَسْتَتِرُونَ بِهَذَا اللَّفْظِ فَيَمْتَنِعُونَ عَنْ نَفْيِ الْخَلْقِ عَنْهُ، وَكَانَ إمَامُ الْوَاقِفَةِ فِي زَمَنِ أَحْمَدَ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الثَّلْجِيِّ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَهُوَ تِلْمِيذُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ تُرْسُ الْجَهْمِيَّةِ، وَلِهَذَا حَكَى أَهْلُ الْمَقَالَاتِ عَنْهُ ذَلِكَ. قَالَ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ " الْقَوْلُ فِي الْقُرْآنِ " قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَأَكْثَرُ الزَّيْدِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ الرَّافِضَةِ: " إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ لَمْ يَكُنْ ثُمَّ كَانَ وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْقُرْآنَ صِفَةٌ لِلَّهِ لَا يُقَالُ مَخْلُوقٌ وَلَا أَنَّهُ خَالِقٌ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْهُ وَزَادَ الثَّلْجِيُّ فِي الْحِكَايَةِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُقَالُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَيْضًا كَمَا لَا يُقَالُ مَخْلُوقٌ لِأَنَّ الصِّفَاتِ لَا تُوصَفُ. وَحَكَى زُرْقَانُ عَنْهُ أَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى ضَرْبَيْنِ إنْ كُنْت تُرِيدُ الْمَسْمُوعَ فَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ الصَّوْتَ الْمُقَطَّعَ وَهُوَ رَسْمُ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَفِعْلُ اللَّهِ، مِثْلُ الْعِلْمِ وَالْحَرَكَةِ مِنْهُ لَا هُوَ هُوَ وَلَا هُوَ غَيْرُهُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثَّلْجِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْوَاقِفَةِ: إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّهُ مُحْدَثٌ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَبِاَللَّهِ كَانَ وَهُوَ الَّذِي أَحْدَثَهُ وَامْتَنَعُوا مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ. أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَالَ زُهَيْرٌ: أَلَا يَرَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُحْدَثٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُ يُوجَدُ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَبَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْمُتَفَقِّهِينَ كَانَ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ، وَيَقُولُ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُحْدَثٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، قَالَ وَهَذَا قَوْلُ دَاوُد الْأَصْبَهَانِيِّ، وَقَالَ أَبُو مُعَاذٍ التُّومُنِيُّ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ حَدَثَ وَلَيْسَ بِمُحْدَثٍ وَفُعِلَ لَيْسَ بِمَفْعُولٍ وَامْتَنَعَ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّهُ خُلِقَ وَيَقُولُ لَيْسَ يُخْلَقُ وَلَا مَخْلُوقٌ وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِاَللَّهِ وَمُحَالٌ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِكَلَامٍ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ، كَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَحَرَّكَ بِحَرَكَةٍ قَائِمَةٍ بِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي إرَادَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَبُغْضِهِ أَنَّ ذَلِكَ أَجْمَعَ قَائِمٌ بِاَللَّهِ، وَكَانَ يَقُولُ: إنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ أَمْرٌ وَهُوَ الْإِرَادَةُ مِنْ اللَّهِ الْإِيمَانَ لِأَنَّ مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْإِيمَانَ هُوَ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ. وَحَكَى زُرْقَانُ عَنْ مَعْمَرٍ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَوْهَرَ، وَالْأَعْرَاضَ الَّتِي هِيَ فِيهِ هِيَ فِعْلُ الْجَوْهَرِ إنَّمَا هِيَ فِعْلُ الطَّبِيعَةِ. فَالْقُرْآنُ فِعْلُ الْجَوْهَرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ بِطَبْعِهِ فَهُوَ لَا خَالِقٌ وَلَا مَخْلُوقٌ. وَهُوَ مُحْدِثٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي هُوَ حَالٌّ فِيهِ بِطَبْعِهِ وَحُكِيَ عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ أَشْرَسَ النُّمَيْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ اللَّهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى يَبْتَدِئُهُ فَإِنْ كَانَ اللَّهُ ابْتَدَأَهُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَإِنْ كَانَ فِعْلَ الطَّبِيعَةِ فَهُوَ لَا خَالِقٌ وَلَا مَخْلُوقٌ، قَالَ وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِلَابٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كِلَابٍ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ صِفَةٌ لَهُ قَائِمَةٌ بِهِ وَإِنَّهُ قَدِيمٌ بِكَلَامِهِ. وَإِنَّ كَلَامَهُ قَائِمٌ بِهِ. كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ قَائِمٌ بِهِ. وَالْقُدْرَةَ قَائِمَةٌ بِهِ. وَهُوَ قَدِيمٌ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَإِنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ، وَلَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَجَزَّأُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَغَايَرُ. وَإِنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّ الرَّسْمَ هُوَ الْحُرُوفُ الْمُتَغَايِرَةُ دُونَ قِرَاءَةِ الْقَارِئِ. وَإِنَّهُ خَطَأٌ أَنْ يُقَالَ كَلَامُ اللَّهِ هُوَ هُوَ أَوْ بَعْضُهُ أَوْ غَيْرُهُ، وَإِنَّ الْعِبَارَاتِ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَخْتَلِفُ وَتَتَغَايَرُ وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمُخْتَلِفٍ وَلَا مُتَغَايِرٍ كَمَا أَنَّ ذِكْرَنَا اللَّهَ يَخْتَلِفُ وَيَتَغَايَرُ وَالْمَدْلُولُ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَغَايَرُ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ كَلَامُ اللَّهِ عَرَبِيًّا لِأَنَّ الرَّسْمَ الَّذِي هُوَ الْعِبَارَةُ عَنْهُ وَهُوَ قِرَاءَتُهُ عَرَبِيٌّ فَسُمِّيَ عَرَبِيًّا لِعِلَّةٍ وَكَذَلِكَ سُمِّيَ عِبْرَانِيَّا لِعِلَّةٍ وَهِيَ أَنَّ الرَّسْمَ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ عِبْرَانِيٌّ وَكَذَلِكَ سُمِّيَ أَمْرًا لِعِلَّةٍ وَنَهْيًا وَخَبَرًا لِعِلَّةٍ وَلَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا قَبْلَ أَنْ يُسَمَّى كَلَامُهُ أَمْرًا قَبْلَ وُجُودِ الْعِلَّةِ الَّتِي بِهَا يُسَمَّى كَلَامُهُ أَمْرًا وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَسْمِيَةِ كَلَامِهِ نَهْيًا وَخَبَرًا، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْبَارِئُ لَمْ يَزَلْ مُخْبِرًا أَوْ لَمْ يَزَلْ نَاهِيًا وَقَالَ إنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا إلَّا قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ كُنْ مَخْلُوقًا قَالَ: وَزَعَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كِلَابٍ أَنَّ مَا يَسْمَعُ النَّاسَ يَتْلُونَهُ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ وَأَنَّ مُوسَى سَمِعَ اللَّهَ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِهِ وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] مَعْنَاهُ حَتَّى يَفْهَمَ كَلَامَ اللَّهِ قَالَ وَيُحْتَمَلُ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ حَتَّى يَسْمَعَ التَّالِينَ يَتْلُونَهُ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ مَنْ أَنْكَرَ خَلْقَ الْقُرْآنِ إنَّ الْقُرْآنَ قَدْ يُكْتَبُ وَيُسْمَعُ وَإِنَّهُ مُتَغَايِرٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ غَيْرُ الْقُدْرَةِ وَالْقُدْرَةُ غَيْرُ الْعِلْمِ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيَّرَ صِفَاتِهِ وَصِفَاتُهُ مُتَغَايِرَةٌ وَهُوَ غَيْرُ مُتَغَايِرٍ قَالَ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ صَاحِبِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنَّهُ قَالَ: بَعْضُ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَبَعْضُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَمَا كَانَ مِنْهُ مَخْلُوقًا فَمِثْلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَالْأَخْبَارُ عَنْ أَفْعَالِهِمْ قَالَ وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْكَلَامَ غَيْرُ مُحْدَثٍ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ بِهِ مُتَكَلِّمًا وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ وَأَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ الْكَثِيرَةَ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا بِهَا وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ: أَنَّ نِصْفَ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَنِصْفُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَحَكَى بَعْضُ مَنْ يُخْبِرُ عَنْ

الْمَقَالَاتِ: أَنَّ قَائِلًا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ قَالَ مَا كَانَ عِلْمًا مِنْ عِلْمِ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ فَلَا نَقُولُ مَخْلُوقٌ وَلَا نَقُولُ غَيْرُ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْهُ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا فَهُوَ مَخْلُوقٌ. وَحَكَى هَذَا الْحَاكِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ جَرِيرٍ قَالَ وَهُوَ مَعَهُ عِنْدِي قَالَ وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ أَنَّ فِرْقَةً قَالَتْ إنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْخَالِقُ وَأَنَّ فِرْقَةً قَالَتْ هُوَ بَعْضُهُ، وَحَكَى زُرْقَانُ أَنَّ الْقَائِلَ بِهَذَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَنَّ فِرْقَةً قَالَتْ إنَّ اللَّهَ هُوَ بَعْضُ الْقُرْآنِ وَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ مُسَمًّى فِيهِ فَلَمَّا كَانَ اسْمُ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ وَالِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى كَانَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَنَّ فِرْقَةً قَالَتْ هُوَ أَوْلَى قَائِمٌ بِاَللَّهِ لَمْ يَسْبِقْهُ قَالَ الْأَشْعَرِيُّ وَكُلُّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَنَحْوِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِلَابٍ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مُحْدَثٌ كَنَحْوِ زُهَيْرٍ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مُحْدَثٌ كَنَحْوِ أَبِي مُعَاذٍ التُّونِيُّ يَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ قُلْت: مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ وِزْر قَالَ وَنَحْوُهُمَا هُمْ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَنَقْلُهُمْ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِيهِ تَحْرِيفٌ فِي النَّقْلِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ فِي الْمَقَالَاتِ أَنَّهُ وَجَدَ ذَلِكَ فِي نَقْلِ الْمَقَالَاتِ فَإِنَّهُ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ الدَّيَّانَاتِ وَالتَّمْيِيزَ بَيْنَهَا مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَذَاهِبِ وَالْمَقَالَاتِ وَرَأَيْت النَّاسَ فِي حِكَايَةٍ مَا يَحْكُونَ مِنْ ذِكْرِ الْمَقَالَاتِ وَيُصَنِّفُونَ فِي النِّحَلِ وَالدَّيَّانَاتِ، مِنْ بَيْنِ مُقَصِّرٍ فِيمَا يَحْكِيهِ، وَغَالِطٍ فِيمَا يَذْكُرُ مِنْ قَوْلِ مُخَالِفِيهِ، وَبَيْنَ مُعْتَمَدٍ لِلْكَذِبِ فِي الْحِكَايَةِ إرَادَةَ التَّشْنِيعِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَمِنْ بَيْنِ تَارِكٍ لِلتَّقَضِّي فِي رِوَايَتِهِ لِمَا يَرْوِيهِ مِنْ اخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَمِنْ بَيْنِ مَنْ يُضِيفُ إلَى قَوْلِ مُخَالِفِيهِ مَا يَظُنُّ أَنَّ الْحُجَّةَ تَلْزَمُهُمْ بِهِ. قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا سَبِيلُ الدَّيَّانِينَ وَلَا سَبِيلُ أَلْفَاظِ الْمُتَمَيِّزِينَ، فَحَدَانِي مَا رَأَيْت مِنْ ذَلِكَ عَلَى شَرْحِ مَا الْتَمَسْت شَرْحُهُ مِنْ أَمْرِ الْمَقَالَاتِ وَاخْتِصَارٍ ذَلِكَ. قُلْت: وَهُوَ نَفْسُهُ وَإِنْ تَحَدَّى فِيمَا يَنْقُلُهُ ضَبْطًا وَصِدْقًا، لَكِنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَنْقُلُهُ مِنْ مَذَاهِبِ الَّذِينَ لَمْ يَقِفْ عَلَى كُتُبِهِمْ وَكَلَامِهِمْ هُوَ مِنْ نَقْلِ هَؤُلَاءِ الْمُصَنَّفِينَ فِي الْمَقَالَاتِ، كَزُرْقَانَ وَهُوَ مُعْتَزِلِيٌّ وَابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ وَهُوَ شِيعِيٌّ، وَكَتَبَ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَنَحْوُهُمْ فَيَقَعُ فِي النَّقْلِ مَا فِيهِ مِنْ جِهَةِ هَؤُلَاءِ مِثْلُ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ إنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْخَالِقُ وَفِرْقَةٌ قَالَتْ هُوَ بَعْضُهُ، وَحِكَايَةُ زُرْقَانَ أَنَّ الْقَائِلَ بِهَذَا هُوَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، هُوَ مِنْ بَابِ النَّقْلِ بِتَأْوِيلِهِمْ الْفَاسِدِ،

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ إنَّ فِرْقَةً قَالَتْ إنَّ اللَّهَ بَعْضُ الْقُرْآنِ وَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ مُسَمًّى فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ اسْمُ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ وَالِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى كَانَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ وَكِيعٌ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ إنَّ الْقُرْآنَ مِنْ اللَّهِ، يَعْنُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ صِفَةُ اللَّهِ وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ، وَأَنَّ الصِّفَةَ هِيَ مِمَّا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْمَوْصُوفِ، كَمَا رَوَى الْخَلَّالُ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ السَّالِمِيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُول: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَرَوَاهُ اللَّالْكَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْوَاسِطِيُّ، سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْمَعْمَرِيَّ، سَمِعْت ابْنَ أَبِي أُوَيْسٍ يَقُولُ، سَمِعْت خَالِي مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَجَمَاعَةَ الْعُلَمَاءِ بِالْمَدِينَةِ يَذْكُرُونَ الْقُرْآنَ، فَقَالُوا: كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ مِنْهُ لَيْسَ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ وَقَالَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عِيسَى أَنَّ حَنْبَلًا حَدَّثَهُمْ سَمِعْت أَبَا نُعَيْمٍ الْفَضْلَ بْنَ دُكَيْنٍ يَقُولُ: أَدْرَكْت النَّاسَ مَا يَتَكَلَّمُونَ فِي هَذَا وَلَا عَرَفْنَا هَذَا إلَّا بَعْدَ مُنْذُ سِنِينَ، الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا يَئُولُ إلَى خَالِقٍ وَلَا مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، هَذَا الَّذِي لَمْ نَزَلْ عَلَيْهِ وَلَا نَعْرِفُ غَيْرَهُ. قَالَ الْخَلَّالُ أَنْبَأْنَا الْمَرْوَزِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو سَعِيدٍ ابْن أَخِي حَجَّاجٍ الْأْنَمَاطِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَمَّهُ يَقُولُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ وَهُوَ مِنْهُ. وَرَوَى اللَّالْكَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الصُّوفِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ مَرْدُوَيْهِ قَالَ: اجْتَمَعْنَا إلَى إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ بَعْدَ مَا رَجَعَ مِنْ كَلَامِهِ. فَكُنْت أَنَا وَعَلِيٌّ فَتَى هُشَيْمٍ وَأَبُو الْوَلِيدِ خَلَفُ الْجَوْهَرِيُّ وَأَبُو كِنَانَةَ الْأَعْوَرُ وَأَبُو مُحَمَّدٍ سُرُورٌ مَوْلَى الْمُعَلَّى صَاحِبُ هُشَيْمٍ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ فَتَى هُشَيْمٍ: نُحِبُّ أَنْ نَسْمَعَ مِنْك مَا نُؤَدِّيهِ إلَى النَّاسِ فِي أَمْرِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ وَمَنْ قَالَ إنَّ شَيْئًا مِنْ اللَّهِ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ، وَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا كَانَ مِنِّي فِي الْمَجْلِسِ. وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ أَخْبَرْت عَنْ مُحْرِزِ بْنِ عَوْنٍ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْوَاسِطِيُّ: عِلْمُهُ وَكَلَامُهُ مِنْهُ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْبَأْنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْبَهْلُولِ. سَمِعْت ابْنَ أَبِي أُوَيْسٍ يَقُولُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَمِنْ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ. وَقَالَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ. أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ عَنْ أَيِّ قَالَةٍ تَسْأَلُ قُلْت كَلَامُ اللَّهِ قَالَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَلَا تَجْزَعْ أَنْ تَقُولَ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ

وَمِنْ ذَاتِ اللَّهِ وَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ. وَرَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ سَأَلْت أَحْمَدَ فَقُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ وَقَعَ فِي أَمْرِ الْقُرْآنِ مَا قَدْ وَقَعَ فَإِنْ سُئِلْت عَنْهُ مَاذَا أَقُولُ، فَقَالَ لِي أَلَسْت أَنْتَ مَخْلُوقًا؟ قُلْت نَعَمْ، فَقَالَ أَلَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْك مَخْلُوقًا؟ قُلْت نَعَمْ، قَالَ فَكَلَامُ اللَّهِ أَلَيْسَ هُوَ مِنْهُ؟ قُلْت نَعَمْ قَالَ فَيَكُونُ شَيْءٌ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَخْلُوقًا قَالَ الْخَلَّالُ وَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنِي حَنْبَلٌ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] فَجِبْرِيلُ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَمِعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جِبْرِيلَ وَسَمِعَهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ مِنْ النَّبِيِّ فَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا نَشُكُّ، وَلَا نَرْتَابُ فِيهِ وَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ وَصِفَاتُهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ مِنْهُ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَقَدْ كُنَّا نَهَابُ الْكَلَامَ فِي هَذَا حَتَّى أَحْدَثَ هَؤُلَاءِ مَا أَحْدَثُوا وَقَالُوا مَا قَالُوا وَدَعَوْا النَّاسَ إلَى مَا دَعَوْهُمْ إلَيْهِ فَبَانَ لَنَا أَمْرُهُمْ وَهُوَ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَزَالُ اللَّهُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا نَعْبُدُ اللَّهَ بِصِفَاتٍ غَيْرِ مَحْدُودَةٍ وَلَا مَعْلُومَةٍ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 181] {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] {عَلامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109] ؛ فَهَذِهِ صِفَاتُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ لَا تُدْفَعُ وَلَا تُرَدُّ وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ بِلَا حَدٍّ كَمَا قَالَ {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] كَيْفَ شَاءَ، الْمَشِيئَةُ إلَيْهِ وَالِاسْتِطَاعَةُ لَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَا يَبْلُغُهُ صِفَةُ الْوَاصِفِينَ وَهُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ نُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ مُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدَ رَبِّنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] نَتْرُكُ الْجِدَالَ فِي الْقُرْآنِ وَالْمُرَادُ فِيهِ لَا نُجَادِلُ وَلَا نُمَارِي وَنُؤْمِنُ بِهِ كُلُّهُ وَنَرُدُّهُ إلَى عَالِمِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ لِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ كَانَ اللَّهُ وَلَا قُرْآنَ فَقُلْت مُجِيبًا لَهُ: كَانَ اللَّهُ وَلَا عِلْمَ، فَالْعِلْمُ مِنْ اللَّهِ وَلَهُ وَعِلْمُ اللَّهِ مِنْهُ، وَالْعِلْمُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَمَنْ قَالَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ مَخْلُوقٌ فَهَذَا الْكُفْرُ الْبَيِّنُ الصُّرَاحُ.

قَالَ وَسَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ قَالَ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْيَنُ قَالَ سُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ، الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ فَقَالَ أَحْمَدُ مِنْهُ خَرَجَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَإِلَيْهِ يَعُودُ قَالَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنِي حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْكَرْمَانِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ يَعْنِي ابْنَ رَاهْوَيْهِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ أَدْرَكْت النَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً أَدْرَكْت أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنْ دُونَهُمْ يَقُولُونَ اللَّهُ خَالِقٌ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ إلَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ قَالَ الْخَلَّالُ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصغاني، حَدَّثَنِي أَبُو حَاتِمٍ الطَّوِيلُ، قَالَ قَالَ وَكِيعٌ: مَنْ قَالَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ قَالَ إنَّ شَيْئًا مِنْهُ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ -. وَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ قَالَ ذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ فَرَحٍ الضَّرِيرُ، وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْهَاشِمِيُّ حَدَّثَنَا عَمِّي قَالَ سَمِعْت وَكِيعَ بْنَ الْجَرَّاحِ يَقُولُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ شَيْئًا مِنْ اللَّهِ مَخْلُوقٌ فَقُلْت يَا أَبَا سُفْيَانَ مِنْ أَيْنَ قُلْت هَذَا؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13] وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ اللَّهِ مَخْلُوقًا، قَالَ اللَّالَكِائِيُّ وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَالْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ فَهَذَا لَفْظُ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ الَّذِي سَمَّاهُ زُرْقَانُ وَهُوَ لَفْظُ سَائِرِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ حَرَّفَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ قَوْلَهُمْ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ يُرِيدُونَ بِهِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ وَالصِّفَةُ مِمَّا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ وَهَذَا كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَالْعِلْمُ مِنْ اللَّهِ وَلَهُ وَعِلْمُ اللَّهِ مِنْهُ وَكَقَوْلِهِ وَقَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ مَا وَصَفَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ وَسَمَّى مِنْ نَفْسِهِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يُقَالُ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ كَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ كُلَّهَا مِنْ اللَّهِ أَيْ مِمَّا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ. وَالثَّانِي: يُرِيدُونَ بِقَوْلِهِمْ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ أَيْ خَرَجَ مِنْهُ وَتَكَلَّمَ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا} [الكهف: 5] وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13] . وَقَوْلِهِ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1] وَهَذَا

اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى مِمَّا اسْتَفَاضَتْ بِهِ الْآثَارُ كَمَا قَدْ تَقَدَّمَ رِوَايَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ فِي جِنَازَةٍ فَلَمَّا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي اللَّحْدِ قَامَ رَجُلٌ وَقَالَ اللَّهُمَّ رَبَّ الْقُرْآنِ اغْفِرْ لَهُ فَوَثَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ مَهْ الْقُرْآنُ مِنْهُ. وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَرْبُوبٍ مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ أَيْضًا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ مُسَاوِرٍ الْجَوْهَرِيُّ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جِنَازَةٍ فَلَمَّا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي لَحْدِهِ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ الْقُرْآنِ أَوْسِعْ عَلَيْهِ مُدْخَلَهُ اللَّهُمَّ رَبَّ الْقُرْآنِ اغْفِرْ لَهُ فَالْتَفَتَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: مَهْ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَرْبُوبٍ مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ وَقَالَ الْخَلَّالُ حَدَّثَنِي الْمَرُّوذِيُّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي عَرَضَهُ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ وَقَدْ أَخْبَرَنِي شَيْخٌ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ الْقُرْآنُ خَرَجَ مِنْ اللَّهِ قَالَ وَحَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " إنَّكُمْ لَنْ تَرْجِعُوا إلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ " يَعْنِي الْقُرْآنَ قَالَ وَحَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الْوَرَّاقُ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ حُنَيْسٍ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ» يَعْنِي الْقُرْآنَ الْحَدِيثَ. قُلْت: وَالْأَوَّلُ الْمُرْسَلُ أَثْبَتُ مِنْ هَذَا، وَقَدْ رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ خُنَيْسٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِعَبْدٍ فِي شَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ يُصَلِّيهِمَا، وَإِنَّ الْبِرَّ لَيُذَرُّ عَلَى رَأْسِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي صَلَاتِهِ، وَمَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ» . قَالَ أَبُو النَّضْرِ يَعْنِي الْقُرْآنَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَبَكْرُ بْنُ خُنَيْسٍ قَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَتَرَكَهُ فِي آخِرِ أَمْرِهِ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا، حَدَّثَنَا بِذَلِكَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ

عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّكُمْ لَنْ تَرْجِعُوا إلَى اللَّهِ بِأَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ يَعْنِي الْقُرْآنَ» . وَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالْكَائِيُّ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ الْمُتَقَدِّمُ وَذَكَرَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو مَرْوَانَ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُيَيْنَةَ سَمِعْت عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ يَقُولُ: أَدْرَكْت مَشَايِخَنَا وَالنَّاسُ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. قَالَ اللَّالْكَائِيُّ رَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُنِيبٍ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ، قَالَ وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ حُرَيْثٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ الطَّبَرِيُّ بِمَكَّةَ وَكَانَ فَاضِلًا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ سَمِعْت شَيْخَتَنَا مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. قَالَ مُحَمَّد بْن عَمَّارٍ وَأَنَّ شَيْخَتَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ، وَذَكَرَ جَمَاعَةً. قَالَ وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْت أَبَا وَهْبٍ وَكَانَ مِنْ سَاكِنِي مَكَّةَ وَكَانَ رَجُلُ صِدْقٍ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ وَهْبٍ عَنْ سُفْيَانَ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسَرَّةَ عَنْ سُفْيَانَ بِهَذَا اللَّفْظِ. قُلْت: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ الْحَكَمِ بِهَذَا اللَّفْظِ لَكِنَّهُ اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى سُفْيَانَ، فَقَالَ حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّبَرِيُّ كَتَبْت عَنْهُ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: أَدْرَكْت شَيْخَتَنَا مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ يَقُولُونَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَلَمْ يَرْوِهِ اللَّالْكَائِيُّ هَكَذَا عَنْ غَيْرِ الْبُخَارِيِّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ قَدْ أَثْبَتَ اللَّفْظَيْنِ جَمِيعًا عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو مُكْتَمِلَ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ وَإِنَّمَا سَمَّى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ زُرْقَانَ وَكِيعًا لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَعْلَمْ الْأَئِمَّةِ بِكُفْرِ الْجَهْمِيَّةِ وَبَاطِنِ قَوْلِهِمْ وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِهِمْ ذَمًّا لَهُمْ وَتَنْفِيرًا عَنْهُمْ، فَبَلَغَ الْجَهْمِيَّةَ مِنْ ذَمِّهِ لَهُمْ مَا لَمْ يَبْلُغْهُمْ مِنْ ذَمِّ غَيْرِهِ إذْ هُمْ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِالْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كَمَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ كُتُبُهُمْ، وَمُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ هَذَا مَجْرُوحٌ مُتَّهَمٌ فِي رِوَايَتِهِ وَتَرْجَمَتِهِ فِي كُتُبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ تَرْجَمَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَتَجْرِيحُ حُكَّامِ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيل لَهُ مَشْهُورٌ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ، حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ اللال الْأَنْصَارِيُّ قَالَ سَمِعْت وَكِيعًا يَقُولُ لَا تَسْتَخِفُّوا بِقَوْلِهِمْ

الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَإِنَّهُ شَرُّ قَوْلِهِمْ إنَّمَا يَذْهَبُونَ إلَى التَّعْطِيلِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ وَكِيعٌ الرَّافِضَةُ شَرٌّ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ وَالْحَرُورِيَّةِ شَرٌّ مِنْهُمَا وَالْجَهْمِيَّةُ شَرُّ هَذِهِ الْأَصْنَافِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] وَيَقُولُونَ لَمْ يُكَلِّمْ وَيَقُولُونَ الْإِيمَانُ بِالْقَلْبِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ وَكِيعٌ احْذَرُوا هَؤُلَاءِ الْمُرْجِئَةِ وَهَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ كُفَّارٌ وَالْمَرِيسِيُّ جَهْمِيٌّ وَعَلِمْتُمْ كَيْفَ كَفَرُوا قَالُوا تَكْفِيك الْمَعْرِفَةُ وَهَذَا كُفْرٌ، وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِلَا فِعْلٍ وَهَذَا بِدْعَةٌ، فَمَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، قَالَ: وَقَالَ وَكِيعٌ عَلَى الْمَرِيسِيِّ لَعَنَهُ اللَّهُ يَهُودِيٌّ هُوَ أَوْ نَصْرَانِيٌّ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ كَانَ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا قَالَ وَكِيعٌ وَعَلَى أَصْحَابِهِ لَعْنَةُ اللَّهِ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ، وَضَرَبَ وَكِيعٌ إحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى فَقَالَ هُوَ بِبَغْدَادَ يُقَالُ لَهُ الْمَرِيسِيِّ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَسُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ عَنْ الصَّلَاةِ خَلْفَ أَهْلِ الْبِدَعِ فَقَالَ لَمْ يَزَلْ فِي النَّاسِ إذَا كَانَ فِيهِمْ مَرْضَى أَوْ عَدْلٌ فَصَلِّ خَلْفَهُ، فَقُلْت: فَالْجَهْمِيَّةُ قَالَ لَا، هَذِهِ مِنْ الْمَقَاتِلِ هَؤُلَاءِ لَا يُصَلَّى خَلْفَهُمْ وَلَا يُنَاكَحُونَ وَعَلَيْهِمْ التَّوْبَةُ. وَسُئِلَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٌ فَقَالَ فِيهِمْ مَا قَالَ ابْنُ إدْرِيسَ قِيلَ فَالْجَهْمِيَّةُ قَالَ لَا أَعْرِفُهُمْ قِيلَ لَهُ: قَوْمٌ يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. قَالَ: لَا جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا أَوْرَدَتْ عَلَى قَلْبِي شَيْئًا لَمْ يَسْمَعْ بِهِ قَطُّ. قُلْت فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَهُ، قَالَ: هَؤُلَاءِ لَا يُنَاكَحُونَ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ. وَسُئِلَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، فَقَالَ نَحْوُ ذَلِكَ، قَالَ: فَأَتَيْت وَكِيعًا فَوَجَدْته مِنْ أَعْلَمِهُمْ بِهِمْ فَقَالَ: يَكْفُرُونَ مِنْ وَجْهِ كَذَا وَيَكْفُرُونَ مِنْ وَجْهِ كَذَا حَتَّى أَكْفَرَهُمْ كَذَا وَكَذَا وَجْهًا. قُلْت: وَهَكَذَا رَأَيْت الْجَاحِظَ قَدْ شَنَّعَ عَلَى حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَمُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ قَاضِي الْبَصْرَةِ بِمَا لَمْ يُشَنِّعْ بِهِ عَلَى غَيْرِهِمَا لِأَنَّ حَمَّادًا كَانَ مُعْتَنِيًا بِجَمْعِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَإِظْهَارِهَا، وَمُعَاذٌ لَمَّا تَوَلَّى الْقَضَاءَ رَدَّ شَهَادَةَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ فَلَمْ يَقْبَلْ شَهَادَةَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَرَفَعُوا عَلَيْهِ إلَى الرَّشِيدِ فَلَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ حَمِدَهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَظَّمَهُ فَلِأَجَلِ مُعَادَاتِهِمْ لِمِثْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَئِمَّةٌ فِي السُّنَّةِ يُشَنِّعُونَ عَلَيْهِمْ بِمَا إذَا حَقَّقَ لَمْ يُوجَدْ مُقْتَضِيًا لِذَمٍّ.

وَأَمَّا مَا حَكَاهُ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ أَنَّ فِرْقَةً قَالَتْ إنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْخَالِقُ، وَفِرْقَةً قَالَتْ هُوَ بَعْضُهُ. فَقَدْ ذَكَرَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ تَرْجَمَةَ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ وَسَبَبَ أَمْرِ أَحْمَدَ أَهْلَ السُّنَّةِ بِهَجْرِهِ، فَرَوَى الْخَلَّالُ مِنْ مَسَائِلِ أَبِي الْحَارِثِ قَالَ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لِي ابْنُ الثَّلَّاجِ سَمِعْت رَجُلًا يَقُولُ الْقُرْآنُ هُوَ اللَّهُ، فَقَالَ لِي عَمُّهُ إنَّا بِتْنَا عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ وَكَانَ ابْنُ الثَّلَّاجِ مَعَنَا وَكَانَ عَبَّاسٌ الْأَعْوَرُ فَتَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} [النساء: 59] قَالَ: إلَى كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ يَتَأَوَّلُ عَلَيْهِ هَذَا قُلْت لَهُ إنَّا قُلْنَا لِابْنِ الثَّلَّاجِ يَقُولُ إنَّ لِلَّهِ عِلْمًا قَالَ أَنَا لَا أَقُولُ إنَّ لِلَّهِ عِلْمًا، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ اللَّهَ، وَقُلْت لَهُ إنِّي سَمِعْته يَقُولُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ، فَقَالَ دَعْهُ يَقُولُ مَا شَاءَ كَمَا يَقُولُ لِي قَالَ ابْنُ الثَّلَّاجِ وَشَكَانِي. قُلْت: فَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا أَصْلُ حِكَايَتِهِ وَهُوَ أَنَّ ذِكْرَ أَنَّ الرَّدَّ إلَى اللَّهِ هُوَ الرَّدُّ إلَى الْقُرْآنِ فَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ اللَّهُ، وَلَعَلَّهُ كَانَ مِنْ مَقْصُودِ ذَاكَ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ صِفَةُ اللَّهِ وَأَنَّ الرَّدَّ إلَيْهِ، هُوَ الرَّدُّ إلَى اللَّهِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ هُوَ كَلَامُهُ الْقَائِمُ بِهِ كَمَا أَنَّ الرَّدَّ إلَى الرَّسُولِ هُوَ الرَّدُّ إلَى كَلَامِهِ الَّذِي قَامَ بِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ إنَّمَا هُوَ قَائِمٌ بِبَعْضِ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ، لَكَانَ الرَّدُّ إلَيْهِ رَدًّا إلَى ذَلِكَ الْجِسْمِ الْمَخْلُوقِ لَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْقُرْآنَ هُوَ الْخَالِقَ وَهَذَا ابْنُ الثَّلَّاجِ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ فَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَظْهَرَ الْوَقْفَ فِي لَفْظِ الْمَخْلُوقِ دُونَ لَفْظِ الْمُحْدَثِ كَمَا حَكَاهُ الْأَشْعَرِيُّ عَنْهُ وَمَقْصُودُهُ مَقْصُودُ مَنْ يَقُولُ هُوَ مَخْلُوقٌ، وَعَرَفَ الْأَئِمَّةُ حَقِيقَةَ حَالِهِ فَلَمْ يَقْبَلْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ هَذِهِ التَّوْبَةَ لِأَنَّهَا تَوْبَةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، حَتَّى كَانَ يُعَادِي أَهْلَ السُّنَّةِ وَيَكْذِبُ عَلَيْهِمْ حَتَّى كَذَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّتَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخِرَقِيِّ خَلِيفَةُ الْمَرُّوذِيِّ وَالِدُ أَبِي الْقَاسِمِ صَاحِبُ الْمُخْتَصَرِ فِي الْفِقْهِ فِي قَصَصِ الَّذِينَ أَمَرَ أَحْمَدُ بِهِجْرَانِهِمْ. وَمَسْأَلَتُهُ لِلْمَرُّوذِيِّ عَنْهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا وَأَخْبَار الْمَرُّوذِيِّ لَهُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ وَنَقَلَ الْخَلَّالُ أَخْبَارَهُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ مَا يُوَضِّحُ الْأَمْرَ، فَقَالَ أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَأَلْت أَبَا بَكْرٍ الْمَرُّوذِيَّ عَنْ قِصَّةِ ابْنِ الثَّلَّاجِ، فَقَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ جَاءَنِي هَارُونُ الْحَمَّالُ فَقَالَ إنَّ ابْنَ الثَّلَّاجِ تَابَ عَنْ صُحْبَةِ الْمَرِيسِيِّ فَأَجِيءُ بِهِ إلَيْك قَالَ، قُلْت لَا مَا أُرِيدُ أَنْ

يَرَاهُ أَحَدٌ عَلَى بَابِي، قَالَ أُحِبُّ أَنْ أَجِيءَ بِهِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَلَمْ يَزَلْ يَطْلُبُ إلَيَّ قَالَ قُلْت هُوَ ذَا يَقُولُ أَجِبْ فَأَيُّ شَيْءٍ أَقُولُ لَك، قَالَ: فَجَاءَ بِهِ فَقُلْت لَهُ اذْهَبْ حَتَّى تَصِحَّ تَوْبَتُك وَأَظْهَرَهَا ثُمَّ رَجَعَ قَالَ فَبَلَغَنَا أَنَّهُ أَظْهَرَ الْوَقْفَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ فَمَضَيْت وَمَعِي نَفْسَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَقُلْت لَهُ: قَدْ بَلَغَنِي عَنْك شَيْءٌ وَلَمْ أُصَدِّقْ بِهِ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قُلْت: نَقِفُ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ: أَنَا أَقُولُ كَلَامُ اللَّهِ فَجَعَلَ يَحْتَجُّ بِيَحْيَى بْنِ آدَمَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ وَقَفُوا، فَقُلْت لَهُ: هَذَا مِنْ الْكِتَابِ الَّذِي أَوْصَى لَكُمْ بِهِ عُبَيْدُ بْنُ نُعَيْمٍ. فَقَالَ: لَا تَذْكُرُ النَّاسَ. فَقُلْت لَهُ: أَلَيْسَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا أَنَّهُ مَنْ حَلَفَ بِمَخْلُوقٍ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت فَمَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ أَلَيْسَ قَدْ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ كَفَّارَةً لِأَنَّهُ حَلَفَ بِغَيْرِ مَخْلُوقٍ؟ فَقَالَ: هَذَا مَتَاعُ أَصْحَابِ الْكَلَامِ، ثُمَّ قَالَ إنَّمَا أَقُولُ كَلَامُ اللَّهِ كَمَا أَقُولُ أَسْمَاءُ اللَّهِ فَإِنَّهُ مِنْ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ وَأَيُّ شَيْءٍ قَامَ بِهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، ثُمَّ قَالَ عَلَّمُوكُمْ الْكَلَامَ وَأَوْمَأَ إلَى نَاحِيَةِ الْكَرْخِ يُرِيدُ أَبَا ثَوْر وَغَيْرَهُ، فَقُمْنَا مِنْ عِنْدِهِ فَمَا كَلَّمْنَاهُ حَتَّى مَاتَ. وَرَوَى الْخَلَّالُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ قَالَ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَعُلَمَاءُ الْوَاقِفَةِ جَهْمِيَّةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ مِثْلُ ابْنِ الثَّلَّاجِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ. قُلْت: وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الصِّفَاتِ بَعْضُهُ فَهَذَا إمَّا أَنْ يُنْكِرَ لَأَنْ يُقَالَ الصِّفَةُ الْقَائِمَةُ بِالْمَوْصُوفِ كَالْعِلْمِ وَالْكَلَامِ لَا يُقَالُ هِيَ بَعْضُهُ أَوْ لِأَنَّ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُقَالُ: إنَّ لَهُ بَعْضًا كَمَا لِلْأَجْسَامِ بَعْضٌ، فَإِنْ كَانَ الْإِنْكَارُ لِأَجْلِ الْأَوَّلِ فَأَهْلُ الْكَلَامِ مُتَنَازِعُونَ فِي صِفَاتِ الْجِسْمِ، هَلْ يُقَالُ إنَّهَا بَعْضُ الْجِسْمِ أَوْ يُقَالُ هِيَ غَيْرُهُ أَوْ لَا يُقَالُ هِيَ غَيْرُهُ فَذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ الْأَلْوَانُ وَالطُّعُومُ وَالرَّوَائِحُ وَالْحَرَارَةُ وَالْبُرُودَةُ وَالرُّطُوبَةُ وَالْيُبُوسَةُ وَالرِّقَّةُ أَبْعَاضُ الْأَجْسَامِ وَأَنَّهَا مُتَجَاوِرَةٌ، قَالَ وَحُكِيَ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِطَاعَةِ وَالْحَيَاةِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْحَرَكَاتِ وَالسُّكُونَ وَسَائِرَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَكُونُ مِنْ الْأَجْسَامِ أَعْرَاضٌ لَا أَجْسَامٌ. وَحُكِيَ عَنْهُ فِي التَّأْلِيفِ أَنَّهُ كَانَ يَثْبُتُهُ بَعْضُ الْجِسْمِ فَأَمَّا غَيْرُهُ مِمَّنْ كَانَ يُنَافِي قَوْلَهُ فِي الْأَجْسَامِ فَإِنَّهُ كَانَ يَثْبُتُ التَّأْلِيفَ وَالِاجْتِمَاعَ وَالِافْتِرَاقَ، وَالِاسْتِطَاعَةَ غَيْرُ الْأَجْسَامِ

وَقَطَعَ عَنْهُ الْأَشْعَرِيُّ فِي مَوْضِعٍ أَنَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ وَمَعَ الْفِعْلِ وَأَنَّهَا بَعْضُ الْمُسْتَطِيعِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ أَعْرَاضٌ مُجْتَمَعَةٌ، وَكَذَلِكَ الْجِسْمُ أَعْرَاضٌ مُجْتَمَعَةٌ مِنْ لَوْنٍ وَطَعْمٍ وَرَائِحَةٍ وَحَرَارَةٍ وَبُرُودَةٍ وَمَحَبَّةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَأَنَّ الْأَعْرَاضَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَنْقَلِبَ أَجْسَامًا، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ حَفْصٌ الْفَرْدُ وَغَيْرُهُ وَأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَفْعَلُ الطُّولَ وَالْعَرْضَ وَالْعُمْقَ وَأَنَّ ذَلِكَ أَبْعَاضُ الْجِسْمِ. قَالَ: وَقَالَ الْأَصَمُّ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَيْسَانَ الْأَصَمُّ أُسْتَاذُ إبْرَاهِيمَ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ الَّذِي كَانَ يُنَاظِرُ قَالَ الْأَشْعَرِيُّ فَقَالَ الْأَصَمُّ لَا أُثْبِتُ إلَّا الْجِسْمَ الطَّوِيلَ الْعَرِيضَ الْعَمِيقَ وَلَمْ يُثْبِتْ حَرَكَةَ غَيْرِ الْجِسْمِ وَلَا يُثْبِتُ سُكُونًا غَيْرَهُ وَلَا قِيَامًا غَيْرَهُ وَلَا قُعُودًا غَيْرَهُ وَلَا اجْتِمَاعًا غَيْرَهُ وَلَا حَرَكَةً وَلَا سُكُونًا وَلَا لَوْنًا وَلَا صَوْتًا وَلَا طَعْمًا غَيْرَهُ وَلَا رَائِحَةً. قَالَ الْأَشْعَرِيُّ فَأَمَّا بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْأَصَمَّ قَدْ عَلِمَ الْحَرَكَاتِ وَالسُّكُونَ وَالْأَلْوَانَ ضَرُورَةً وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا غَيْرُ الْجِسْمِ فَإِنَّهُ يَحْكِي عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُثْبِتُ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ وَسَائِرَ الْأَفْعَالِ وَغَيْرَ الْجِسْمِ، وَلَا يَحْكِي عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُثْبِتُ حَرَكَةً وَلَا سُكُونًا وَلَا قِيَامًا وَلَا قُعُودًا وَلَا اجْتِمَاعًا وَلَا افْتِرَاقًا عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي سَائِرِ الْأَعْرَاضِ. قُلْت: هَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهَا ثَابِتَةٌ لَكِنْ لَيْسَتْ غَيْرَ الْجِسْمِ هُوَ الَّذِي قَدْ يَقُولُهُ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ، فَأَمَّا نَفْيُ وُجُودِهَا فَهُوَ سَفْسَطَةٌ مِنْ جِنْسِ نَفْيِ الْجِسْمِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ غَيْرِ هَذَا مِثْلَ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ وَغَيْرِهِ. قَالَ الْأَشْعَرِيُّ وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ الْحَرَكَاتُ وَسَائِرُ الْأَفْعَالِ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَسَائِرِ مَا يُثْبِتُ الْمُثْبِتُونَ أَعْرَاضًا أَنَّهَا صِفَاتُ الْأَجْسَامِ لَا هِيَ الْأَجْسَامُ وَلَا غَيْرُهَا إنَّهَا لَيْسَتْ بِأَجْسَامٍ فَيَقَعُ عَلَيْهَا التَّغَايُرُ. قَالَ وَقَدْ حُكِيَ هَذَا عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ كَمَا حَكَيْنَا عَنْ هِشَامٍ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُثْبِتُ أَعْرَاضًا غَيْرَ الْأَجْسَامِ وَحُكِيَ عَنْ هِشَامٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَزْعُمُ أَنَّ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ أَشْيَاءُ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ هِيَ الْأَجْسَامُ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّهَا مَعَانٍ وَلَيْسَتْ بِأَشْيَاءَ. قُلْت: وَهِشَامٌ يَقُولُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي صِفَاتِ اللَّهِ أَنَّهَا لَيْسَتْ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ وَطَرَدَ الْقَوْلَ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ وَدَفَعَ بِذَلِكَ مَا كَانَتْ الْمُعْتَزِلَةُ تُورِدُهُ عَلَى الصِّفَاتِيَّةِ مِنْ التَّنَاقُضِ، قَالَ: وَقَالَ قَائِلُونَ مِنْهُمْ أَبُو الْهُذَيْلِ وَهِشَامٌ وَبِشْرُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَجَعْفَرُ بْنُ حَرْبٍ،

وَالْإِسْكَافِيُّ وَغَيْرُهُمْ، الْحَرَكَاتُ وَالسُّكُونُ وَالْقِيَامُ وَالْقُعُودُ وَالِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ وَالطُّولُ وَالْعَرْضُ وَالْأَلْوَانُ وَالطُّعُومُ وَالرَّوَائِحُ وَالْأَصْوَاتُ وَالْكَلَامُ وَالسُّكُوتُ وَالطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ وَالْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ وَسَائِرُ أَفْعَالِ الْإِنْسَانِ وَالْحَرَارَةُ وَالْبُرُودَةُ وَالرُّطُوبَةُ وَالْيُبُوسَةُ وَاللِّينُ وَالْخُشُونَةُ أَعْرَاضٌ غَيْرُ الْأَجْسَامِ قَالَ: وَحَكَى زُرْقَانُ عَنْ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ أَنَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ الْحَرَكَةَ جِسْمٌ وَمُحَالٌ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ الْجِسْمِ لِأَنَّ غَيْرَ الْجِسْمِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ يُشْبِهُهُ، قَالَ وَكَانَ إبْرَاهِيمُ النَّظَّامُ فِيمَا حُكِيَ عَنْهُ يَزْعُمُ أَنَّ الطُّولَ هُوَ الطَّوِيلُ وَأَنَّ الْعَرْضَ هُوَ الْعَرِيضُ وَكَانَ يُثْبِتُ الْأَلْوَانَ وَالطُّعُومَ وَالرَّوَائِحَ وَالْأَصْوَاتَ وَالْآلَامَ وَالْحَرَارَةَ وَالْبُرُودَةَ وَالرُّطُوبَةَ وَالْيُبُوسَةَ أَجْسَامًا لِطَافًا وَيَزْعُمُ أَنَّ حَيِّزَ اللَّوْنِ هُوَ حَيِّزُ الطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ وَأَنَّ الْأَجْسَامَ اللِّطَافَ قَدْ تَحُلُّ فِي حَيِّزٍ وَاحِدٍ وَكَانَ لَا يُثْبِتُ عَرْضًا إلَّا الْحَرَكَةَ فَقَطْ. قَالَ: وَكَانَ عَبَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ يُثْبِتُ الْأَعْرَاضَ غَيْرَ الْأَجْسَامِ فَإِذَا قِيلَ لَهُ تَقُولُ الْحَرَكَةُ غَيْرُ الْمُتَحَرِّكِ وَالْأَسْوَدُ غَيْرُ السَّوَادِ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ: قَوْلِي فِي الْجِسْمِ مُتَحَرِّكٌ إخْبَارٌ عَنْ جِسْمٍ وَحَرَكَةٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ أَقُولَ الْحَرَكَةُ غَيْرُ الْمُتَحَرِّكِ قَالَ: وَقَالَ قَائِلُونَ مِنْ أَصْحَابِ الطَّبَائِعِ، أَنَّ الْأَجْسَامَ كُلَّهَا مِنْ أَرْبَعَةِ طَبَائِعَ حَرَارَةٍ وَبُرُودَةٍ وَرُطُوبَةٍ وَيُبُوسَةٍ وَأَنَّ الطَّبَائِعَ الْأَرْبَعَةَ أَجْسَامٌ وَلَمْ يُثْبِتُوا شَيْئًا إلَّا هَذِهِ الطَّبَائِعَ الْأَرْبَعَةَ وَأَنْكَرُوا الْحَرَكَاتِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْأَلْوَانَ وَالطُّعُومَ وَالرَّوَائِحَ هِيَ الطَّبَائِعُ الْأَرْبَعُ، وَقَالَ قَائِلُونَ مِنْهُمْ أَنَّ الْأَجْسَامَ مِنْ أَرْبَعَةِ طَبَائِعَ وَأَثْبَتُوا الْحَرَكَاتِ وَلَمْ يُثْبِتُوا عَرْضًا غَيْرَهَا وَيُثْبِتُونَ الْأَلْوَانَ وَالرَّوَائِحَ مِنْ هَذِهِ الطَّبَائِعِ، وَقَالَ قَائِلُونَ: الْأَجْسَامُ مِنْ أَرْبَعَةِ طَبَائِعَ، رُوحٌ سَائِحَةٌ فِيهَا وَأَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ جِسْمًا إلَّا هَذِهِ الْخَمْسَةَ الْأَشْيَاءَ وَأَثْبَتُوا الْحَرَكَاتِ أَعْرَاضًا. قَالَ: وَقَالَ قَائِلُونَ بِإِبْطَالِ الْأَعْرَاضِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسُّكُونِ وَأَثْبَتُوا السَّوَادَ وَهُوَ الشَّيْءُ الْأَسْوَدُ لَا غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ الْبَيَاضُ وَسَائِرُ الْأَلْوَانِ، وَكَذَلِكَ الْحَلَاوَةُ وَالْحُمُوضَةُ وَسَائِرُ الطُّعُومِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الرَّوَائِحِ وَالْحَرَارَةِ أَنَّهَا الشَّيْءُ الْحَارُّ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الرُّطُوبَةِ وَالْبُرُودَةِ وَالْيُبُوسَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْحَيَاةِ أَنَّهَا هِيَ الْحَيُّ وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ حَرَكَةَ الْجِسْمِ وَفِعْلُهُ غَيْرُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُثْبِتُ عَرْضًا غَيْرَ الْجِسْمِ عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ. قُلْت: هَذَا الْقَوْلُ فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ يُضَاهِي قَوْلَ شَيْخِ الْمُعْتَزِلَةِ أَبِي الْهُذَيْلِ

فِي صِفَاتِ اللَّهِ قَالَ الْأَشْعَرِيُّ: قَالَ شَيْخُهُمْ أَبُو الْهُذَيْلِ الْعَلَّافُ، أَنَّ عِلْمَ الْبَارِي تَعَالَى هُوَ هُوَ، وَكَذَلِكَ قُدْرَتُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَحِكْمَتُهُ، وَكَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ فِي سَائِرِ صِفَاتِ ذَاتِهِ وَكَانَ يَزْعُمُ إذَا زَعَمَ أَنَّ الْبَارِيَ عَالِمٌ فَقَدْ أَثْبَتَ عِلْمًا هُوَ اللَّهُ وَنَفَى عَنْ اللَّهِ جَهْلًا وَدَلَّ عَلَى مَعْلُومٍ كَانَ أَوْ يَكُونُ، وَإِذَا قَالَ إنَّ الْبَارِيَ قَادِرٌ فَقَدْ أَثْبَتَ قُدْرَةً هِيَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَفَى عَنْ اللَّهِ عَجْزًا وَدَلَّ عَلَى مَقْدُورٍ كَانَ أَوْ يَكُونُ، وَكَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ فِي سَائِرِ صِفَاتِ الذَّاتِ عَلَى هَذَا التَّثْبِيتِ وَكَانَ إذَا قِيلَ لَهُ حَدِّثْنَا عَنْ عِلْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ اللَّهُ أَتَزْعُمُ أَنَّهُ قُدْرَتُهُ أَبَى ذَلِكَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ فَهُوَ غَيْرُ قُدْرَتِهِ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَهَذَا نَظِيرُ مَا أَنْكَرَهُ مِنْ قَوْلِ مُخَالِفِيهِ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَا يُقَالُ هُوَ اللَّهُ وَلَا يُقَالُ غَيْرُهُ، وَكَانَ إذَا قِيلَ لَهُ فَقُلْ إنَّ اللَّهَ عِلْمٌ نَاقِضٌ وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُ عِلْمُ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ. قَالَ وَكَانَ يَسْأَلُ فِيمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ طُولَ الشَّيْءِ هُوَ هُوَ: وَكَذَلِكَ عَرْضُهُ فَيَقُولُ إنَّ طُولَهُ هُوَ عَرْضُهُ. قَالَ وَهَذَا رَاجِعٌ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ إنَّ عِلْمَ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ وَإِنَّ قُدْرَتَهُ هِيَ هُوَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عِلْمُهُ هُوَ هُوَ وَقُدْرَتُهُ هِيَ هُوَ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ هُوَ قُدْرَتُهُ وَالْإِلْزَامُ التَّنَاقُضُ، قَالَ: وَهَذَا أَخَذَهُ أَبُو الْهُذَيْلِ عَنْ أَرِسْطَاطَالِيسَ وَذَلِكَ أَنَّ أَرِسْطَاطَالِيسَ قَالَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ إنَّ الْبَارِيَ عِلْمٌ كُلُّهُ قُدْرَةٌ كُلُّهُ حَيَاةٌ كُلُّهُ سَمْعٌ كُلُّهُ بَصَرٌ كُلُّهُ فَحُسْنُ اللَّفْظِ عِنْدَ نَفْسِهِ وَقَالَ عِلْمُهُ هُوَ هُوَ. قُلْت: هُوَ قَوْلُ أَرِسْطُو وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْعَقْلَ وَالْعَاقِلَ وَالْمَعْقُولَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَكَذَلِكَ الْعِنَايَةُ. قُلْت: فَهَذِهِ نُقُولُ أَهْلِ الْكَلَامِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفَ الْخَالِقَ وَالْمَخْلُوقَ فَهُوَ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُمْ إنَّ الْكَلَامَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ. وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْإِثْبَاتُ فَقَدْ ظَهَرَ كَذِبُ النَّقْلِ عَنْهُمْ، وَأَمَّا إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الصِّفَةَ بَعْضُ الْمَوْصُوفِ أَوْ أَنَّهَا لَيْسَتْ غَيْرَهُ فَقَدْ قَالَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَفُرْسَانِهِمْ، وَإِذَا حَقَّقَ الْأَمْرُ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْمُنَازَعَاتِ لَمْ يَجِدْ الْعَاقِلُ السَّلِيمُ الْعَقْلَ مَا يُخَالِفُ ضَرُورَةَ الْعَقْلِ لِغَيْرِ غَرَضٍ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنَازَعَاتِ يَكُونُ لَفْظِيًّا أَوْ اعْتِبَارِيًّا فَمَنْ قَالَ إنَّ الْأَعْرَاضَ بَعْضُ الْجِسْمِ أَوْ أَنَّهَا لَيْسَتْ غَيْرَهُ، وَمَنْ قَالَ إنَّهَا غَيْرُهُ يَعُودُ النِّزَاعُ بَيْنَ مُحَقِّقِيهِمْ إلَى لَفْظٍ وَاعْتِبَارٍ وَاخْتِلَافِ اصْطِلَاحٍ فِي مُسَمَّى بَعْضٍ وَغَيْرِهِ كَمَا قَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي بَيَانِ تَلْبِيسِ الْجَهْمِيَّةِ فِي تَأْسِيسِ بِدَعِهِمْ الْكَلَامِيَّةِ وَيُسَمَّى أَيْضًا تَخْلِيصُ التَّلْبِيسِ مِنْ كِتَابِ التَّأْسِيسِ الَّذِي وَضَعَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ

الْخَبَرِيَّةِ، وَبَيْنَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ثُبُوتَهَا يَسْتَلْزِمُ افْتِقَارَ الرَّبِّ تَعَالَى إلَى غَيْرِهِ وَتَرْكِيبِهِ مِنْ الْأَبْعَاضِ، وَبَيَّنَّا مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ الْجُمْلَةِ فَهَذَا إنْ كَانَ أَحَدٌ أَطْلَقَ لَفْظَ الْبَعْضِ عَلَى الذَّاتِ وَغَيْرِهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَقَالَ إنَّهُ بَعْضُ اللَّهِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَيْسَتْ غَيْرَ الْمَوْصُوفِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ الْإِنْكَارُ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ لَفْظُ الْبَعْضِ، فَهَذَا اللَّفْظُ قَدْ نَطَقَ بِهِ أَئِمَّةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ ذَاكِرِينَ وَآثِرِينَ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الْكِلَابِيُّ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَن عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُخَوِّفَ عِبَادَهُ أَبْدَى عَنْ بَعْضِهِ لِلْأَرْضِ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَزَلْزَلَتْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُدَمْدِمَ عَلَى قَوْمٍ تَجَلَّى لَهَا عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ فِي تَجَلِّيهِ سُبْحَانَهُ لِلْجَبَلِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَعْنِي الدَّارِمِيَّ أَنْبَأْنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] قَالَ حَمَّادٌ هَكَذَا وَأَمْسَكَ سُلَيْمَانُ بِطَرَفِ إبْهَامِهِ عَلَى أُنْمُلَةِ أُصْبُعِهِ الْيُمْنَى قَالَ فَسَاخَ الْجَبَلُ وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ الْأَسْوَدِ. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ العنقزي، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ عَنْ السُّدِّيَّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ:

{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] قَالَ مَا تَجَلَّى مِنْهُ إلَّا مِثْلُ الْخِنْصَرِ قَالَ فَجَعَلَهُ دَكًّا، قَالَ تُرَابًا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقَا، غُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَك تُبْت إلَيْك عَنْ أَنْ أَسْأَلَك الرُّؤْيَةَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِك مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ بْنِ عَاصِمٍ الْحَمَّالُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَنْقَرِيُّ فَذَكَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] ، قَالَ مَا تَجَلَّى مِنْهُ إلَّا مِثْلُ الْخِنْصَرِ فَجَعَلَهُ دَكًّا قَالَ تُرَابًا. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ لَهُ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ يَعْنِي الْعَدْفَانِيَّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ طَلْحَةَ فِي التَّفْسِيرِ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ عَنْ السُّدِّيَّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: تَجَلَّى مِنْهُ مِثْلُ طَرَفِ الْخِنْصَرِ فَجَعَلَهُ دَكًّا. وَالصَّفَّانِيُّ وَمِنْ فَوْقِهِ إلَى عِكْرِمَةَ رَوَى لَهُمْ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ؟ وَعِكْرِمَةُ رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. وَرَوَى الثَّوْرِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بَعْضُهُمْ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَبَعْضُهُمْ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ فِي قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ دَاوُد: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] قَالَ يُدْنِيهِ حَتَّى يَمَسَّ بَعْضُهُ، وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْ هَؤُلَاءِ، وَمِمَّنْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} [ص: 25] قَالَ ذَكَرَ الدُّنُوَّ مِنْهُ حَتَّى أَنَّهُ يَمَسُّ بَعْضَهُ، وَقَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ فعنيل عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] قَالَ: يُقْعِدُهُ مَعَهُ عَلَى الْعَرْشِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ، حَدَّثَنَا فُضَيْلٍ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ طَلْحَةَ الْقَنَّادُ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] قَالَ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَبَّهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] فَقَالَ لَهُ عِكْرِمَةُ أَلَيْسَ تَرَى السَّمَاءَ؟ قَالَ بَلَى. قَالَ أَفَكُلُّهَا تُرَى؟ فَفِي هَذِهِ أَنَّ عِكْرِمَةَ أَخْبَرَ قُدَّامَ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ إدْرَاكَ الْبَصَرِ هُوَ رُؤْيَةُ الْمُدْرَكِ كُلِّهِ دُونَ رُؤْيَةِ بَعْضِهِ، فَاَلَّذِي يَرَى السَّمَاءَ وَلَا يَرَاهَا كُلَّهَا وَلَا يَكُونُ مُدْرِكًا لَهَا، وَجَعَلَ هَذَا تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] وَأَقَرَّهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى ذَلِكَ وَمَعَ هَذَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نُقِلَ عَنْهُمْ هَذَا اللَّفْظُ فَقَدْ نُقِلَ عَنْهُمْ أَيْضًا إنْكَارُ تَبَعُّضِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَبَيَّنَ النَّاقِلُونَ مَعْنَى ذَلِكَ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْآمِلِيُّ عَنْ

مُوسَى بْنُ عِيسَى بْنِ حَمَّادِ بْنِ زُغْبَةَ. حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا نُوحُ ابْنُ مَرْيَمَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: جَاءَ نَجْدَةُ الْحَرُورِيُّ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ يَا أَبَا عَبَّاسٍ، نَبِّئْنَا كَيْفَ مَعْرِفَتُك بِرَبِّك تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَإِنَّ مَنْ قَبْلَنَا اخْتَلَفُوا عَلَيْنَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ نَصَبَ دِينَهُ عَلَى الْقِيَاسِ لَمْ يَزَلْ الدَّهْرَ فِي الْتِبَاسٍ، مَائِلًا عَنْ الْمِنْهَاجِ، ظَاعِنًا فِي الِاعْوِجَاجِ، ضَالًّا عَنْ السَّبِيلِ، قَائِلًا غَيْرَ جَمِيلٍ، أَعْرِفُهُ بِمَا عَرَّفَ بِهِ نَفْسَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ. قَالَ نُعَيْمٌ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا وَأَصِفُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، لَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ، وَلَا يُقَاسُ بِالنَّاسِ، مَعْرُوفٌ بِغَيْرِ شَبِيهٍ، وَمُتَدَانٍ فِي بُعْدِهِ. قَالَ نُعَيْمٌ: يَقُولُ هُوَ عَلَى الْعَرْشِ. وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. لَا تُتَوَهَّمُ دَيْمُومَتُهُ وَلَا يُمَثَّلُ بِخَلِيقَتِهِ. وَلَا يَجُورُ فِي قَضِيَّةٍ. الْخَلْقُ إلَى مَا عَلِمَ مُنْقَادُونَ. وَعَلَى مَا سَطَّرَ فِي الْمَكْنُونِ مِنْ كِتَابِهِ مَاضُونَ. لَا يَعْلَمُونَ بِخِلَافِ مَا مِنْهُمْ عِلْمٌ وَلَا غَيْرُهُ. يُرِيدُونَ فَهُوَ قَرِيبٌ غَيْرُ مُلْتَزِقٍ يَعْنِي قَرِيبًا بِعِلْمِهِ وَبَعِيدًا غَيْرَ مُنْقَضٍ يُحَقِّقُ وَلَا يُمَثَّلُ وَيُوجَدُ وَلَا يُبَعَّضُ. قَالَ نُعَيْمٌ لَا يُقَالُ بَعْضُهُ عَلَى الْعَرْضِ وَبَعْضُهُ عَلَى الْأَرْضِ يُدْرَكُ بِالْآيَاتِ. وَيَثْبُتُ بِالْعَلَامَاتِ. هُوَ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. قُلْت: هَذَا الْكَلَامُ فِي صِحَّتِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَظَرٌ وَاَلَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَنُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ لَهُ مَفَارِيدُ مِنْ هَذَا النَّمَطِ. وَلَكِنْ لَا رَيْبَ أَنَّ نُعَيْمَ بْنَ حَمَّادٍ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ الَّتِي صَنَّفَهَا فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ. وَهُوَ قَدْ نَفَى تَبْعِيضَهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرَهُ. وَهَذَا مَا لَا يَسْتَرِيبُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ. وَهَذَا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] كَمَا قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فِي مَوْضِعِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهَا وَلَا رَيْبَ أَنَّ لَفْظَ الْبَعْضِ وَالْجُزْءِ وَالْغَيْرِ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ فِيهَا إيهَامٌ وَإِبْهَامٌ فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ ذَلِكَ عَلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَيَنْفَصِلُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ أَوْ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ. كَمَا يُقَالُ: حَدُّ الْغِيَرَيْنِ مَا جَازَ مُفَارَقَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ كَصِفَاتِ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ مِنْ أَجْزَائِهَا وَأَعْرَاضِهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَتَفَرَّقَ وَتَنْفَصِلَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مُقَدَّسٌ عَنْ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ، وَقَدْ يُرَادُ بِذَلِكَ مَا يُعْلَمُ مِنْهُ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ

فَيَكُونُ الْمَعْلُومُ لَيْسَ هُوَ غَيْرُ الْمَعْلُومِ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ لَا يُفَارِقُهُ وَالتَّغَايُرُ بِهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ فَإِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَعْلَمُ وُجُودَ الْحَقِّ ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَادِرٌ ثُمَّ أَنَّهُ عَالِمٌ ثُمَّ أَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَكَذَلِكَ رُؤْيَتُهُ تَعَالَى كَالْعِلْمِ بِهِ فَمَنْ نَفَى عَنْهُ وَعَنْ صِفَاتِهِ التَّغَايُرَ وَالتَّبْعِيضَ بِهَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مُعَطِّلٌ جَاحِدٌ لِلرَّبِّ فَإِنَّ هَذَا التَّغَايُرَ لَا يَنْتَفِي إلَّا عَنْ الْمَعْدُومِ. وَهَذَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي كِتَابِ بَيَانِ تَلْبِيسِ الْجَهْمِيَّةِ فِي تَأْسِيسِ بِدَعِهِمْ الْكَلَامِيَّةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى سُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بَسْطًا بَيِّنًا وَمَنْ عَلِمَ ذَلِكَ زَالَتْ عَنْهُ الشُّبُهَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ، فَقَوْلُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مَا وَصَفَ اللَّهُ مِنْ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ مِنْهُ، وَعِلْمُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ وَلَهُ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَعْمَلُوا فِيهِ لَفْظَ مِنْ، وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مَعْنَاهَا التَّبْعِيضُ فَهُوَ تَبْعِيضٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَمَا يُقَالُ إنَّهُ تَغَايُرٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ثُمَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَمْتَنِعُ أَوْ يَنْفِي لَفْظَ التَّغَايُرِ وَالتَّبْعِيضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبَعْضُ النَّاسِ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ لَفْظِ التَّغَايُرِ وَيَمْتَنِعُ مِنْ لَفْظِ التَّبْعِيضِ، وَبَعْضُهُمْ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ اللَّفْظَيْنِ إذَا فَسَّرَ الْمَعْنَى وَأُزِيلَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ وَالْإِجْمَالُ الَّذِي فِي اللَّفْظِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ تَقُولُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا هُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِيهِ تَنَاقُضًا مَعْلُومًا بِالْبَدِيهَةِ ثُمَّ إنَّ الَّذِينَ يَنْفُونَ أَنْ لَا يَتَّصِفَ إلَّا بِالْمَعْدُومِ فَيَتَنَاقَضُونَ وَيُعَطِّلُونَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ كَوْنَهُ وَاحِدًا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ صِفَةٌ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْكَثْرَةَ وَالْعَدَدِيَّةَ قَالُوا وَيَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْ ثُبُوتِ عَدَدٍ وَكَثْرَةٍ فِي وَصْفٍ أَوْ قُدْرَةٍ ثُمَّ إنَّهُمْ يَضْطَرُّونَ إلَى أَنْ يَقُولُوا هُوَ قَدِيمٌ حَقٌّ رَبٌّ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يُمْكِنُ عِلْمُنَا بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ وَالْمَعْلُومُ لَيْسَ هُوَ الَّذِي لَيْسَ بِمَعْلُومٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي مَا فَرُّوا مِنْهُ مِمَّا سَمُّوهُ تَعَدُّدًا وَكَثْرَةً وَتَبْعِيضًا وَتَغَايُرًا، فَهَذَا تَنَاقُضُهُمْ ثُمَّ إنْ سَلَبَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ الْمَعْدُومِ وَأَمَّا الْمَوْجُودُ فَإِمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا مُحْدَثٌ وَإِمَّا مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا مُمْكِنٌ مُفْتَقِرٌ إلَى غَيْرِهِ وَأَنَّ الْمَوْجُودَ إمَّا قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا قَائِمٌ بِغَيْرِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تُمَيَّزُ بِهَا الْمَوْجُودَاتُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ إذْ لِكُلِّ مَوْجُودٍ حَقِيقَةٌ خَاصَّةٌ يُمَيَّزُ بِهَا يُعْلَمُ مِنْهَا شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ وَذَلِكَ هُوَ التَّبْعِيضُ وَالتَّغَايُرُ الَّذِي يُطْلِقُونَ إنْكَارَهُ وَهَذَا أَصْلُ نُفَاةِ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعَطِّلَةِ وَهُمْ كَمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ لَا يُثْبِتُونَ شَيْئًا فِي الْحَقِيقَةِ. وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الَّذِي أَقُولُ إنَّهُ إذَا نَظَرَ إلَى إسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَسَعْدٍ وَسَعِيدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَائِرِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَجَمِيعِ

الْوُفُودِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَعْرِفْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إلَّا بِتَصْدِيقِ النَّبِيِّينَ وَبِإِعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَدَلَائِلِ الرِّسَالَةِ. لَا مِنْ قِبَلِ حَرَكَةٍ وَلَا سُكُونٍ وَلَا مِنْ بَابِ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ وَلَا مِنْ بَابِ كَانَ وَيَكُونُ وَلَوْ كَانَ النَّظَرُ فِي الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ عَلَيْهِمْ وَاجِبًا وَفِي الْجِسْمِ وَنَفْيِهِ وَالتَّشْبِيهِ وَنَفْيِهِ لَازِمًا مَا أَضَاعُوهُ، وَلَوْ أَضَاعُوا الْوَاجِبَاتِ لَمَا نَطَقَ الْقُرْآنُ بِتَزْكِيَتِهِمْ وَتَقْدِيمِهِمْ وَلَا أَطْنَبَ فِي مَدْحِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِهِمْ مَشْهُورًا وَمِنْ أَخْلَاقِهِمْ مَعْرُوفًا لَاسْتَفَاضَ عَنْهُمْ وَاشْتَهَرُوا بِهِ كَمَا اشْتَهَرُوا بِالْقُرْآنِ وَالرِّوَايَاتِ وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا» عِنْدَهُمْ مِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] كُلُّهُمْ يَقُولُ يَنْزِلُ وَيَتَجَلَّى وَيَجِيءُ بِلَا كَيْفٍ، وَلَا يَقُولُونَ كَيْفَ يَجِيءُ وَكَيْفَ يَتَجَلَّى وَكَيْفَ يَنْزِلُ، وَفِي قَوْلِهِ {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتَجَلِّيًا لِلْجَبَلِ، وَفِي مَا يُفَسِّرُ لَك حَدِيثَ التَّنْزِيلِ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقِفَ عَلَى أَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] فَلْيَنْظُرْ فِي تَفْسِيرِ بَقِيٍّ بْنِ مَخْلَدٍ وَتَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ وَلْيَقِفْ عَلَى مَا ذَكَرَا مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ أَبْطَالِ التَّأْوِيلَاتِ لِأَخْبَارِ الصِّفَاتِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ الْخَوْلَانِيُّ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: إنَّ اللَّهَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُخَوِّفَ عِبَادَهُ أَبْدَى عَنْ بَعْضِهِ إلَى الْأَرْضِ فَعِنْدَ ذَلِكَ تُزَلْزَلُ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُدَمِّرَ عَلَى قَوْمٍ تَجَلَّى لَهَا قَالَ وَرَوَاهُ ابْنُ فُورَكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إذَا أَرَادَ أَنْ يُخَوِّفَ أَهْلَ الْأَرْضِ أَبْدَى عَنْ بَعْضِهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُدَمِّرَ عَلَيْهَا تَجَلَّى لَهَا ثُمَّ قَالَ أَمَّا قَوْلُهُ أَبْدَى عَنْ بَعْضِهِ فَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الذَّاتِ إذْ لَيْسَ فِي حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ مَا يُحِيلُ صِفَاتِهِ وَلَا يُخْرِجُهَا عَمَّا تَسْتَحِقُّ. فَإِنْ قِيلَ بَلْ فِي حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ مَا يُحِيلُ صِفَاتِهِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ وَصْفُهُ بِالْكُلِّ وَالْبَعْضِ وَالْجُزْءِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى إبْدَاءِ بَعْضِ آيَاتِهِ وَعَلَامَاتِهِ تَحْذِيرًا وَإِنْذَارًا قِيلَ لَا يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ هَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُفْضِي إلَى التَّجْزِئَةِ وَالتَّبْعِيضِ، كَمَا أَطْلَقْنَا تَسْمِيَةَ يَدٍ وَوَجْهٍ لَا عَلَى وَجْهِ التَّجْزِئَةِ وَالتَّبْعِيضِ وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْيَدَ فِي الشَّاهِدِ بَعْضُ الْجُمْلَةِ قَالَ: وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُحْمَلَ

قَوْلُهُ وَإِذَا أَبْدَى عَنْ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضِ آيَاتِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَحْمِلَ قَوْلَهُ أَرَادَ أَنْ يُدَمِّرَ عَلَى قَوْمٍ تَجَلَّى لَهَا عَلَى جَمِيعِ آيَاتِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُدَمِّرْ قَرْيَةً بِجَمِيعِ آيَاتِهِ لِأَنَّهُ قَدْ أَهْلَكَ بِلَادًا كُلُّ بَلَدٍ بِغَيْرِ مَا أَهْلَكَ بِهِ الْآخَرُ وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا أَخْرَجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ جَهْمٍ قَالَ فَتَأَوَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَكَذَبَ بِأَحَادِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَعَمَ أَنَّ مَنْ وَصَفَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا مِمَّا يَصِفُ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ حَدَّثَ عَنْهُ رَسُولُهُ كَانَ كَافِرًا فَبَيَّنَ أَحْمَدُ فِي كَلَامِهِ أَنَّ مِنْ اللَّهِ مَا يُوصَفُ وَأَنَّهُ يُوصَفُ بِذَلِكَ فَذَلِكَ مَوْصُوفٌ وَالرَّبُّ مَوْصُوفٌ بِهِ وَهَذَا كَلَامٌ سَدِيدٌ، فَإِنَّ اللَّهَ فِي كَلَامِهِ وَصَفَ مَا وَصَفَ مِنْ عِلْمِهِ وَكَلَامِهِ وَخَلْقِهِ بِيَدَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي وَصَفَهَا وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ صِفَاتٍ فَإِنَّ الصِّفَةَ أَصْلُهَا وَصْفَةٌ مِثْلُ جِهَةٍ أَصْلُهَا وُجْهَةٌ وَعِدَةٌ وَزِنَةٌ أَصْلُهَا وَعْدَةٌ وَوَزْنَةٌ وَهَذَا الْمِثَالُ وَهُوَ فِعْلُهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرًا كَالْعِدَّةِ وَالْوَعْدِ فَكَذَلِكَ الصِّفَةُ وَمُوصِفٌ وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِمْ، حِلْيَةٌ وَوِجْهَةٌ وَشِرْعَةٌ وَبِدْعَةٌ فَإِنَّ فِعْلًا يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ {بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] أَيْ بِمَذْبُوحٍ وَالشِّرْعَةُ الْمَشْرُوعَةُ وَالْبِدْعَةُ وَالْوَجْهُ هِيَ الْجِهَةُ الَّتِي يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا، فَكَذَلِكَ قَدْ يُقَالُ فِي لَفْظِ الصِّفَةِ إنْ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ الْمَصْدَرِ أَنَّهُمَا الْمَوْصُوفَةُ. وَعَلَى هَذَا يَنُبْنِي نِزَاعُ النَّاسِ هَلْ الْوَصْفُ وَالصِّفَةُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ بِمَعْنَى الْأَقْوَالِ ثُمَّ اسْتَعْمَلَا فِي الْمَعَانِي تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ إذْ الْوَصْفُ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ الْمَصْدَرُ وَالصِّفَةُ هِيَ الْمَفْعُولُ الَّذِي يُوصَفُ بِالْقَوْلِ وَأَكْثَرُ الصِّفَاتِيَّةِ عَلَى هَذَا الثَّانِي، وَقَوْلُهُمْ أَيْضًا يَصِحُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ كَمَا كُنَّا نُقْرِرْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، إذْ أَهْلُ الْعُرْفِ قَدْ يَخُصُّونَ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ بِالنَّقْلِ دُونَ الْآخَرِ، لَكِنْ تَقْرِيرُ قَوْلِهِمْ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ كَمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا. فَقَوْلُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: فَمَنْ وَصَفَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا مِمَّا يَصِفُ بِهِ نَفْسَهُ فَالشَّيْءُ الْمَوْصُوفُ هُوَ الصِّفَةُ كَعِلْمِهِ وَيَدَيْهِ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ الْمَوْصُوفَةُ وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ أَيْ أَخْبَرَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَأَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] وَقَوْلُهُ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] . ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ: فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَنْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: نَعْبُدُ مَنْ يُدَبِّرُ أَمْرَ هَذَا الْخَلْقِ.

فَقُلْنَا: هَذَا الَّذِي يُدَبِّرُ أَمْرَ هَذَا الْخَلْقِ هُوَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ بِصِفَةٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقُلْنَا: قَدْ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّكُمْ لَا تَأْتَمُّونَ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا تَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ الشُّنْعَةَ بِمَا تُظْهِرُونَ إلَى أَنْ قَالَ لَهُمْ فَقَدْ جَمَعْتُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ لَفْظِهِ بَيْنَ كُفْرٍ وَتَشْبِيهٍ فَتَعَالَى عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ إلَى قَوْلِهِ قَالَ فَقَالُوا: لَا تَكُونُونَ مُوَحِّدِينَ أَبَدًا حَتَّى تَقُولُوا قَدْ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ، فَقُلْنَا نَحْنُ نَقُولُ قَدْ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ، وَلَكِنْ إذَا قُلْنَا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ كُلِّهَا أَلَيْسَ إنَّمَا نَصِفُ إلَهًا وَاحِدًا بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ وَضَرَبْنَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَثَلًا فَقُلْنَا أَخْبِرُونَا عَنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَلَيْسَ لَهَا جِذْعٌ وَكَرَبٌ وَلِيفٌ وَسَعَفٌ وَخُوصٌ وَجُمَّارٌ وَاسْمُهَا اسْمُ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَسُمِّيَتْ نَخْلَةً بِجَمِيعِ صِفَاتِهَا فَكَذَلِكَ اللَّهُ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ إلَهٌ وَاحِدٌ لَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَعْلَمُ حَتَّى خَلَقَ فَعَلِمَ وَاَلَّذِي لَا يَعْلَمُ هُوَ جَاهِلٌ وَلَكِنْ نَقُولُ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا قَادِرًا مَالِكًا لَا مَتَى وَلَا كَيْفَ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ رَجُلًا كَافِرًا اسْمُهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ فَقَالَ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] وَقَدْ كَانَ اللَّهُ سَمَّاهُ وَحِيدًا لَهُ عَيْنَانِ وَأُذُنَانِ وَلِسَانٌ وَشَفَتَانِ وَيَدَانِ وَرِجْلَانِ وَجَوَارِحُ كَثِيرَةٌ، فَقَدْ سَمَّاهُ وَحِيدًا بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ فَكَذَلِكَ اللَّهُ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى هُوَ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ إلَهٌ وَاحِدٌ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَا لَا يُعْرَفُ بِصِفَةٍ فَهُوَ مُعْدَمٌ وَهَذَا حَقٌّ وَبَيِّنٌ أَنَّهُ مُتَعَالٍ عَنْ الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهُ بِهَا الْجَهْمِيَّةُ وَذَكَرَ أَنَّهُ إذَا قُلْنَا لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ كُلِّهَا إنَّمَا نَصِفُ إلَهًا وَاحِدًا وَبَيَّنَ أَنَّ النَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ يُسَمَّى وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ لَهُ صِفَاتٌ هِيَ كَالْجِذْعِ وَالْكَرَبِ مِنْ النَّخْلَةِ، وَكَالْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ الْإِنْسَانِ فَالرَّبُّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ لَهُ صِفَاتٌ، إذْ هُوَ أَحَقُّ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَاسْمُ الْوَاحِدِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي قَدْ تَتَفَرَّقُ صِفَاتُهَا وَتَتَبَعَّضُ وَتَكُونُ مُرَكَّبَةً مِنْهَا، وَالرَّبُّ تَعَالَى " أَحَدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ " وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ سَمَّى هَذِهِ الْأُمُورَ صِفَاتٍ أَيْضًا. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّإِ بَعْدَ أَنْ قَالَ: أَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِيمَانِ بِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ، إلَّا أَنَّهُمْ يُكَيِّفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَجِدُونَ فِيهِ صِفَةً مَحْصُورَةً. وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ كُلُّهَا وَالْخَوَارِجُ فَكُلُّهُمْ يُنْكِرُهَا وَلَا يَحْمِلُ شَيْئًا

مِنْهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِهَا مُشَبِّهٌ وَهُمْ عِنْدَ مَنْ أَقَرَّ بِهَا نَافُونَ لِلْمَعْبُودِ بِلَا سَوْفٍ، وَالْحَقُّ فِيمَا قَالَهُ الْقَائِلُونَ بِمَا يَنْطِقُ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَهُمْ أَئِمَّةُ الْجَمَاعَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. رَوَى حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَهْبٍ يَقُولُ سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: مَنْ وَصَفَ شَيْئًا مِنْ ذَاتِ اللَّهِ مِثْلَ قَوْلِهِ {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] فَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى عُنُقِهِ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] فَأَشَارَ إلَى عَيْنِهِ وَأُذُنِهِ أَوْ شَيْئًا مِنْ يَدَيْهِ قُطِعَ ذَلِكَ مِنْهُ لِأَنَّهُ شَبَّهَ اللَّهَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ مَالِكٌ: أَمَا سَمِعْت قَوْلَ الْبَرَاءِ حِينَ حَدَّثَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُضَحِّي بِأَرْبَعٍ مِنْ الضَّحَايَا وَأَشَارَ الْبَرَاءُ بِيَدِهِ كَمَا أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْبَرَاءُ وَيَدَيَّ أَقْصَرُ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» فَكَرِهَ الْبَرَاءُ أَنْ يَصِفَ يَدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إجْلَالًا لَهُ وَهُوَ مَخْلُوقٌ فَكَيْفَ الْخَالِقُ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ انْتَهَى. وَالْمَقْصُودُ قَوْلُهُ مَنْ وَصَفَ شَيْئًا مِنْ ذَاتِ اللَّهِ فَجَعَلَ الْمَوْصُوفَ مِنْ ذَاتِ اللَّهِ وَغَالِبُ كَلَامِ السَّلَفِ عَلَى هَذَا، كَقَوْلِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ نَظِيرُ مَالِكٍ فِي كَلَامِهِ الْمَشْهُورِ فِي الصِّفَاتِ. وَقَدْ رَوَاهُ بِالْإِسْنَادِ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ وَأَبُو عَمْرٍو الطَّلْمَنْكِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي كُتُبِهِمْ وَغَيْرِهِمْ قَالَ: أَمَّا بَعْدَ فَقَدْ فَهِمْت مَا سُئِلْت فِيمَا تَتَابَعَتْ الْجَهْمِيَّةُ وَمَنْ خَلَفَهَا فِي صِفَةِ الرَّبِّ الْعَظِيمِ الَّذِي فَاقَتْ عَظَمَتُهُ الْوَصْفَ وَالتَّقْدِيرَ وَكَلَّتْ الْأَلْسُنُ عَنْ تَفْسِيرِ صِفَتِهِ وَانْحَسَرَتْ الْعُقُولُ دُونَ مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ رُدَّتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولُ فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغًا فَرَجَعَتْ خَاسِئَةً وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِالنَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فِيمَا خَلَقَ بِالتَّقْدِيرِ وَإِنَّمَا يُقَالُ كَيْفَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَرَّةً ثُمَّ كَانَ فَأَمَّا الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ وَلَمْ يَزَلْ وَلَيْسَ لَهُ مَثَلٌ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ إلَّا هُوَ، وَكَيْفَ يَعْرِفُ قَدْرَ مَنْ لَمْ يَبْدَأْ وَمَنْ لَا يَمُوتُ وَلَا يَبْلَى وَكَيْفَ يَكُونُ لِصِفَةِ شَيْءٍ مِنْهُ حَدٌّ أَوْ مُنْتَهًى يَعْرِفُهُ عَارِفٌ أَوْ يَحُدُّ قَدْرَهُ وَاصِفٌ، عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ لَا حَقَّ أَحَقُّ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ أَبَيْنَ مِنْهُ. الدَّلِيلُ عَلَى عَجْزِ الْعُقُولِ عَنْ تَحْقِيقِ صِفَتِهِ عَجْزُهَا عَنْ تَحْقِيقِ صِفَةٍ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ لَا تَكَادُ تَرَاهُ صَغِيرًا يَحُولُ وَيَزُولُ وَلَا يُرَى لَهُ سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ لِمَا يَتَقَلَّبُ بِهِ وَيَحْتَالُ مِنْ عَقْلِهِ أَعْضَلَ بِك وَأَخْفَى عَلَيْك مِمَّا ظَهَرَ مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وَخَالِقُهُمْ وَسَيِّدُ السَّادَةِ وَرَبُّهُمْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ،

اعْرِفْ رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى وَغَنَاكَ عَنْ تَكَلُّفِ صِفَةِ مَا لَمْ يَصِفْ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ بِعَجْزِك عَنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِ مَا وَصَفَ مِنْهَا إذَا لَمْ تَعْرِفْ قَدْرَ مَا وَصَفَ، فَمَا كَلَّفَك عِلْمَ مَا لَمْ يَصِفْ، هَلْ يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ طَاعَتِهِ أَوْ يَنْزَجِرُ بِهِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. فَأَمَّا الَّذِي جَحَدَ مَا وَصَفَ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ تَعَمُّقًا وَتَكَلُّفًا قَدْ اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ فَصَارَ يُسْتَدَلُّ بِزَعْمِهِ عَلَى جَحْدِ مَا وَصَفَ الرَّبُّ مِنْ وَسَمَّى نَفْسَهُ بِأَنْ قَالَ لَا بُدَّ إنْ كَانَ لَهُ كَذَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ كَذَا فَعَمِيَ عَنْ الْبَيِّنِ بِالْخَفِيِّ فَجَحَدَ مَا سَمَّى الرَّبَّ مِنْ نَفْسِهِ لِصَمْتِ الرَّبِّ عَمَّا لَمْ يُسَمِّ مِنْهَا فَلَمْ يَزَلْ يُمْلِي لَهُ الشَّيْطَانُ حَتَّى جَحَدَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] : فَقَالَ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَجَحَدَ وَاَللَّهِ أَفْضَلُ كَرَامَةِ اللَّهِ الَّتِي أَكْرَمَ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ وَنَظْرَتِهِ إيَّاهُمْ {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55] ، فَهُمْ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ يَنْظُرُونَ إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنَّمَا جَحَدَ رُؤْيَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إقَامَةً لِلْحُجَّةِ الضَّالَّةِ الْمُضِلَّةِ لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ إذَا تَجَلَّى لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَأَوْا مِنْهُ مَا كَانُوا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ قَالُوا لَا» : قَالَ: مُؤْمِنِينَ وَكَانَ لَهُ جَاحِدًا. «وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلْ نَرَى رَبَّنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ، قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَئِذٍ كَذَلِكَ» . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَمْتَلِئُ النَّارُ حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ قَطُّ قَطُّ وَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ» . «وَقَالَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ: لَقَدْ ضَحِكَ اللَّهُ مِمَّا فَعَلَتْ بِضَيْفِك الْبَارِحَةَ» . وَقَالَ فِيمَا بَلَغَنَا: «أَنَّ اللَّهَ لَيَضْحَكُ مِنْ أَزْلِكُمْ وَقُنُوطِكُمْ وَسُرْعَةِ إجَابَتِكُمْ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ: إنَّ رَبَّنَا لَيَضْحَكُ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: لَا نَعْدَمُ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ» خَيْرًا فِي أَشْبَاهٍ لِهَذَا مِمَّا لَمْ يَخُصَّهُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وَقَالَ:

{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] ، وَقَالَ: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] ، وَقَالَ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] ، وَقَالَ: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] فَوَاَللَّهِ مَا دَلَّهُمْ عَلَى عِظَمِ مَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ وَمَا تُحِيطُ بِهِ قَبْضَتُهُ إلَّا صِغَرُ نَظِيرِهَا مِنْهُمْ عِنْدَهُمْ، أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي أُلْقِيَ فِي رُوعِهِمْ وَخُلِقَ عَلَى مَعْرِفَةِ قُلُوبِهِمْ فَمَا وَصَفَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ فَسَمَّاهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ سَمَّيْنَاهُ كَمَا سَمَّاهُ وَلَمْ نَتَكَلَّفْ مِنْهُ صِفَةَ مَا سِوَاهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا لَا نَجْحَدُ مَا وَصَفَ وَلَا نَتَكَلَّفُ مَعْرِفَةَ مَا لَمْ يَصِفْ. اعْلَمْ رَحِمَك اللَّهُ أَنَّ الْعِصْمَةَ فِي الدِّينِ أَنْ تَنْتَهِيَ حَيْثُ انْتَهَى بِك وَلَا تُجَاوِزُ مَا قَدْ حُدَّ لَك فَإِنَّ مِنْ قِوَامِ الدِّينِ مَعْرِفَةَ الْمَعْرُوفِ وَإِنْكَارَ الْمُنْكَرِ فَمَا بُسِطَتْ عَلَيْهِ الْمَعْرِفَةُ وَسَكَنَتْ إلَيْهِ الْأَفْئِدَةُ وَذُكِرَ أَصْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَوَارَثَتْ عِلْمَهُ الْأُمَّةُ فَلَا تَخَافَنَّ فِي ذِكْرَهُ وَصِفَتِهِ مِنْ رَبِّك مَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ عَيْنًا وَلَا تَتَكَلَّفَنَّ بِمَا وَصَفَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرًا، وَمَا أَنْكَرَتْهُ نَفْسُك وَلَمْ تَجِدْ ذِكْرَهُ فِي كِتَابِ رَبِّك وَلَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ نَبِيِّك مِنْ ذِكْرِ رَبِّك فَلَا تَتَكَلَّفَنَّ عِلْمَهُ بِعَقْلِك وَلَا تَصِفَهُ بِلِسَانِك وَاصْمُتْ عَنْهُ كَمَا صَمَتَ الرَّبُّ عَنْهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ تَكَلُّفَك مَعْرِفَةَ مَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ مِثْلُ إنْكَارِك مَا وَصَفَ مِنْهَا، فَكَمَا أَعْظَمْت مَا جَحَدَ الْجَاحِدُونَ مِمَّا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ أَعْظِمْ تَكَلُّفَ مَا وَصَفَ الْوَاصِفُونَ مِمَّا لَمْ يَصِفْ مِنْهَا، فَقَدَّرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْمَعْرُوفَ وَبِمَعْرِفَتِهِمْ يُعْرَفُ، وَيُنْكِرُونَ الْمُنْكَرَ وَبِإِنْكَارِهِمْ يُنْكَرُ يَسْمَعُونَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِهِ وَمَا يَبْلُغُهُمْ مِثْلُهُ عَنْ نَبِيِّهِ، فَمَا مَرِضَ مِنْ ذِكْرِ هَذَا وَتَسْمِيَتِهِ مِنْ الرَّبِّ قَلْبُ مُسْلِمٍ، وَلَا تَكَلَّفَ صِفَةَ قَدْرِهِ وَلَا تَسْمِيَةَ غَيْرِهِ مِنْ الرَّبِّ مُؤْمِنٌ. وَمَا ذُكِرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَمَّاهُ مِنْ صِفَةِ رَبِّهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا سَمَّى وَوَصَفَ الرَّبُّ تَعَالَى مِنْ نَفْسِهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الْوَاقِفُونَ حَيْثُ انْتَهَى عِلْمُهُمْ الْوَاصِفُونَ لِرَبِّهِمْ بِمَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ، التَّارِكُونَ لِمَا تَرَكَ مِنْ ذِكْرِهَا لَا يُنْكِرُونَ صِفَةَ مَا سَمَّى مِنْهَا جَحْدًا، وَلَا يَتَكَلَّفُونَ وَصْفَهُ بِمَا لَمْ يُسَمِّ تَعَمُّقًا لِأَنَّ الْحَقَّ تَرَكَ مَا تَرَكَ وَسَمَّى مَا سَمَّى

فَمَنْ {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] ، وَهَبَ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ حُكْمًا وَأَلْحَقَنَا بِالصَّالِحِينَ. فَتَدَبَّرْ كَلَامَ هَذَا الْإِمَامِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْبَيَانِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا تَكَلُّمُهُ بِلَفْظِ مِنْ فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ كَقَوْلِهِ: وَكَيْفَ يَكُونُ لِصِفَةِ شَيْءٍ مِنْهُ حَدٌّ أَوْ مُنْتَهًى يَعْرِفُهُ عَارِفٌ أَوْ يَحُدُّ قَدْرَهُ وَاصِفٌ فَذَكَرَ أَنَّ صِفَةَ شَيْءٍ مِنْهُ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ حَدَّهَا وَلَا قَدْرَهَا ثُمَّ قَالَ: الدَّلِيلُ عَلَى عَجْزِ الْعُقُولِ عَنْ تَحْقِيقِ صِفَةِ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ فَجَعَلَ الصِّفَةَ هُنَا لَهُ لَا لِشَيْءٍ مِنْهُ، لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِالْعَجْزِ عَنْ تَحْقِيقِ صِفَتِهِ عَجْزُهَا عَنْ تَحْقِيقِ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ تَمَّ أَمَرَ بِمَعْرِفَةِ مَا ظَهَرَ عِلْمُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالسُّكُوتِ عَمَّا لَمْ يَظْهَرْ عِلْمُهُ، وَذَمِّ مَنْ نَفَى مَا ذَكَرَ أَوْ تَكَلَّفَ عِلْمَ مَا لَمْ يُذْكَرْ، فَقَالَ: اعْرِفْ غِنَاك عَنْ تَكَلُّفِ صِفَةِ مَا لَمْ يَصِفْ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ بِعَجْزِك عَنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِ مَا وَصَفَ مِنْهَا فَذَكَرَ أَنَّ مِنْ نَفْسِهِ مَا لَمْ يَصِفْهُ وَنَهَى عَنْ تَكَلُّفِ صِفَتِهِ، لِأَنَّ الَّذِي وَصَفَهُ مِنْ نَفْسِهِ يَعْجِزُ عَنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ، فَالْعَجْزُ عَمَّا لَمْ يُذْكَرْ أَوْلَى، قَالَ: إذَا لَمْ تَعْرِفْ قَدْرَ مَا وُصِفَ فَمَا كَلَّفَك عِلْمَ مَا لَمْ يَصِفْ، ثُمَّ قَالَ: فَأَمَّا الَّذِي جَحَدَ مَا وَصَفَ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ تَعَمُّقًا وَتَكَلُّفًا فَصَارَ يُسْتَدَلُّ بِزَعْمِهِ عَلَى جَحْدِ مَا وَصَفَ الرَّبُّ وَسَمَّى مِنْ نَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ لَا بُدَّ إنْ كَانَ لَهُ كَذَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ هَذَا فَجَحَدَ مَا سَمَّى الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ لِصَمْتِ الرَّبِّ عَمَّا لَمْ يُسَمِّ مِنْهَا فَذَكَرَ أَيْضًا فِي هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الرَّبَّ وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ وَسَمَّى مِنْ نَفْسِهِ مَا وَصَفَ وَسَمَّى وَصَمَتَ عَمَّا لَمْ يُسَمِّ مِنْ نَفْسِهِ وَأَنَّ الْجَهْمِيَّةَ يَجْحَدُونَ الْمَوْصُوفَ الْمُسَمَّى مِنْ نَفْسِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَذَا وَيَنْفُونَ اللَّازِمَ الَّذِي صَمَتَ الرَّبُّ عَنْهُ فَلَمْ يَذْكُرْهُ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْجَهْمَيْ يُنْكِرُ الرُّؤْيَةَ لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ إذَا تَجَلَّى لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَأَوْا مِنْهُ مَا كَانُوا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مُؤْمِنِينَ وَكَانَ لَهُ جَاحِدًا، فَذَكَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا صَدَقُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا وَجَحَدَتْهُ الْجَهْمِيَّةُ، وَأَنَّ الْجَهْمَيَّ عَلِمَ أَنَّ رُؤْيَتَهُ تَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ مَا جَحَدَهُ فَلِذَلِكَ أَنْكَرَهَا. وَهَكَذَا فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ تَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ ذَلِكَ لَا رَيْبَ، وَلِهَذَا كَانَ مَنْ أَثْبَتَ الرُّؤْيَةَ وَوَافَقَ الْجَهْمَيَّ عَلَى نَفْيِ لَوَازِمِهَا مُخَالِفًا لِلْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ الْمُثْبِتَةِ وَالنَّافِيَةِ، ثُمَّ قَالَ: لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، فَوَاَللَّهِ مَا دَلَّهُمْ عَلَى عِظَمِ مَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ وَمَا تُحِيطُ بِهِ قَبْضَتُهُ إلَّا صِغَرُ نَظِيرِهَا مِنْهُمْ.

فَذَكَرَ أَنَّ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ هُوَ مَا وَصَفَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنَّ هَذَا الْمَوْصُوفَ مِنْهُ نَظِيرُهُ مِنْهُمْ صَغِيرٌ، فَإِذَا كَانَ هَذَا عَظَمَةَ الَّذِي هُوَ صَغِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ فَكَيْفَ بِعَظَمَةِ مَا لَمْ يَصِفْ مِنْ نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ قَالَ: فَمَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ فَسَمَّاهُ سَمَّيْنَاهُ كَمَا سَمَّاهُ وَلَمْ تَتَكَلَّفْ مِنْ صِفَةِ مَا سِوَاهُ. فَذَكَرَ أَنَّا نُسَمِّي وَنَصِفُ مَا سَمَّى وَوَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا نَتَكَلَّفُ أَنْ نَصِفَ مِنْهُ مَا سِوَى ذَلِكَ، لَا نَجْحَدُ الْمَوْصُوفَ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا نَتَكَلَّفُ مَعْرِفَةَ مَا لَمْ يَصِفْهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَسَائِرُ كَلَامِهِ يُوَافِقُ هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ مَوْصُوفَاتٍ وَسَكَتَ عَمَّا لَمْ يَصِفْهُ مِنْ نَفْسِهِ كَقَوْلِهِ فَإِنَّ تَكَلُّفَك مَعْرِفَة مَا لَمْ يَصِفْ مِنْ نَفْسِهِ مِثْلُ إنْكَارِك مَا وَصَفَ مِنْهَا، فَكَمَا أَعْظَمْت مَا جَحَدَ الْجَاحِدُونَ مِمَّا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ أَعْظِمْ تَكَلُّفَ مَا وَصَفَ الْوَاصِفُونَ مِمَّا لَمْ يَصِفْ مِنْهَا. فَقَدْ وَاَللَّهِ عَزَّ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْمَعْرُوفَ وَبِمَعْرِفَتِهِمْ يُعْرَفُ، وَيُنْكِرُونَ الْمُنْكَرَ، وَبِإِنْكَارِهِمْ يُنْكَرُ وَيَسْمَعُونَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِهِ وَمَا يُبَلِّغُهُمْ مِثْلُهُ عَنْ نَبِيِّهِ فَمَا مَرِضَ مَنْ ذَكَرَ هَذَا وَتَسْمِيَتَهُ مِنْ الرَّبِّ قَلْبُ مُسْلِمٍ، وَلَا تَكَلَّفَ صِفَةَ قَدْرِهِ وَلَا تَسْمِيَةَ غَيْرِهِ مِنْ الرَّبِّ قَلْبٌ مُؤْمِنٌ. قَوْلُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَسْمَعُونَ مَا وَصَفَ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِهِ، فَاَللَّهُ قَالَ هُنَا مَا وَصَفَ الرَّبُّ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ هَذَا وَفِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ يَقُولُ مَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ هُنَا قَالَ يَسْمَعُونَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُذْكَرَ الْكَلَامُ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ، وَالْمَسْمُوعُ يَتَضَمَّنُ مَا وَصَفَهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَلِهَذَا قَالَ يَسْمَعُونَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ هَذَا وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فَمَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ فَسَمَّاهُ سَمَّيْنَاهُ كَمَا سَمَّاهُ، أَرَادَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَبَيَّنَهُ وَوَصَفَهُ وَهُوَ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ وَسَمَّاهُ، وَذَلِكَ يَعْلَمُ وَيُعْرَفُ وَيُذْكَرُ وَلَا يُسْمَعُ إلَّا إذَا وُصِفَ وَذُكِرَ وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْمَوْصُوفَاتِ الَّتِي وَصَفَهَا اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ يُوصَفُ بِهَا أَيْضًا فَهِيَ مَوْصُوفَةٌ بِاعْتِبَارٍ وَالرَّبُّ يُوصَفُ بِهَا بِاعْتِبَارٍ. وَذَكَرَ أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ لَهُ قَالَ وَفِيمَا أَجَازَنِي جَدِّي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ مِنْ كِتَابِهِ بِصِفَاتٍ اسْتَغْنَى الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَنْ أَنْ يَصِفُوهُ بِغَيْرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَأَجَلَّهُ فِي كِتَابِهِ، فَإِنَّمَا فَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْنَى إرَادَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ ذَكَرَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَقَالَ:

{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] () وَقَالَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] ، {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] () ، وَقَالَ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] وَقَالَ: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] . وَقَالَ: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وَقَالَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وَقَالَ: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] وَكُلُّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِمَّا هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا لَمْ نَذْكُرْ فَهُوَ كَمَا ذُكِرَ. وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْعِبَادَ الِاسْتِسْلَامُ لِذَلِكَ وَالتَّعَبُّدُ لَا نُزِيلُ صِفَةً مِمَّا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَ الرَّسُولُ عَنْ جِهَتِهِ لَا بِكَلَامٍ وَلَا بِإِرَادَةٍ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ الْأَدَاءُ وَيُوقِنُ بِقَلْبِهِ أَنَّ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي الْقُرْآنِ إنَّمَا هِيَ صِفَاتُهُ، وَلَا يَعْقِلُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ تِلْكَ الصِّفَاتِ إلَّا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي عَرَّفَهُمْ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَأَمَّا أَنْ يُدْرِكَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ مَعْنَى تِلْكَ الصِّفَاتِ فَلَا يُدْرِكُهُ أَحَدٌ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا وَصَفَ مِنْ صِفَاتِهِ قَدْرَ مَا تَحْتَمِلُهُ عُقُولُ ذَوِي الْأَلْبَابِ. لِيَكُونَ إيمَانُهُمْ بِذَلِكَ وَمَعْرِفَتُهُمْ بِأَنَّهُ الْمَوْصُوفُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا يَعْقِلُ أَحَدٌ مُنْتَهَاهُ وَلَا مُنْتَهَى صِفَاتِهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ أَنْ يُثْبِتَ مَعْرِفَةَ صِفَاتِ اللَّهِ بِالْإِتْبَاعِ وَالِاسْتِسْلَامِ كَمَا جَاءَ، فَمَنْ جَهِلَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ حَتَّى يَقُولَ إنَّمَا أَصِفُ مَا قَالَ اللَّهُ وَلَا أَدْرِي مَا مَعَانِي ذَلِكَ حَتَّى يُفْضِيَ إلَى أَنْ يَقُولَ بِمَعْنَى قَوْلِ الْجَهْمِيَّةِ يَدٌ نِعْمَةٌ وَيَحْتَجْ بِقَوْلِهِ أَيْدِينَا أَنْعَامًا وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَقَدْ ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ. هَذَا مَحْضُ كَلَامِ الْجَهْمِيَّةِ حَيْثُ يُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِ مَا وَصَفْنَا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، ثُمَّ يُحَرِّفُونَ مَعْنَى الصِّفَاتِ عَنْ جِهَتِهَا الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ، حَتَّى يَقُولُوا مَعْنَى السَّمِيعِ هُوَ الْبَصِيرُ وَمَعْنَى الْبَصِيرِ هُوَ السَّمِيعُ، وَيَجْعَلُونَ الْيَدَ يَدَ نِعْمَةٍ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ يُحَرِّفُونَهَا عَنْ جِهَتِهَا لِأَنَّهُمْ هُمْ الْمُعَطِّلَةُ. فَقَدْ تَبَيَّنَ مُسْتَنِدُ حِكَايَةِ ابْنِ شُجَاعٍ الثَّلْجِيِّ وَزُرْقَانَ وَغَيْرِهِمَا، لِمَا يَنْقُلُونَهُ عَنْ

أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مِنْ التَّحْرِيفِ، كَقَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْقُرْآنُ أَوْ إنَّ الْقُرْآنَ بَعْضُهُ وذكر أَنْ مُحَمَّد بْن شُجَاع إمَام الْوَاقِف هُوَ وَأَصْحَابه الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُحْدَثٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَحْدَثَهُ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ إلَّا فِي اللَّفْظِ، وَقَدْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ، يَقُولُونَ هُوَ مُحْدَثٌ مَجْعُولٌ وَلَا يَقُولُونَ هُوَ مَخْلُوقٌ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ لَفْظَ الْخَلْقِ يَحْتَمِلُ الْمُفْتَرِيَ، وَهُمْ فِي الْمَعْنَى مُوَافِقُونَ لِأَصْحَابِ الْمَخْلُوقِ. وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى التَّرَادُفِ طَوَائِفُ الْكِلَابِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ، يَقُولُونَ الْمُحْدَثُ هُوَ الْمَخْلُوقُ فِي غَيْرِهِ لَا يُسَمُّونَ مُحْدَثًا إلَّا مَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ مَنْ قَالَ إنَّهُ مُحْدَثٌ كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَلَزِمَهُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِلْإِنْكَارِ عَلَى دَاوُد الْأَصْبَهَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ قَالَ إنَّهُ مُحْدَثٌ وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ دَاوُد وَأَبُو مُعَاذٍ وَغَيْرُهُمَا لَمْ يُرِيدُوا بِقَوْلِهِمْ أَنَّهُ مُحْدَثٌ أَنَّهُ بَائِنٌ عَنْ اللَّهِ كَمَا يُرِيدُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ، بَلْ ذَهَبَ دَاوُد وَغَيْرُهُ مِمَّنْ قَالَ إنَّهُ مُحْدَثٌ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ مُسْتَنَدُ دَاوُد فِي قَوْلِهِ لِعَبْدِ اللَّهِ أُحِبُّ أَنْ تَعْذُرَ بِي عِنْدَهُ، وَتَقُولَ لَهُ لَيْسَ هَذَا مَقَالَتِي أَوْ لَيْسَ كَمَا قِيلَ لَك، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ قَصَدَ بِذَلِكَ أَنِّي لَا أَقُولُ إنَّهُ مُحْدَثٌ بِالْمَعْنَى الَّذِي فَهِمُوهُ وَأَفْهَمُوهُ وَهُوَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ، وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبِي، وَلَمْ يَقْبَلْ أَحْمَدُ قَوْلَهُ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُنْكَرٌ، وَلَوْ فَسَّرَهُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ لَمَا ذَكَرْنَاهُ وَلِأَنَّهُ أَنْكَرَ مُطْلَقًا فَلَمْ يَقْرَبَا لِلَّفْظِ الَّذِي قَالَهُ وَقَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ إنْكَارُهُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ أَظْهَرَ مَعَ هَذِهِ الْبِدْعَةِ بِدْعَةً أُخْرَى وَهِيَ إبَاحَةُ التَّحْلِيلِ وَهُوَ مَذْهَبُهُ. وَأَهْلُ الْحَدِيثِ لَمْ يَكُونُوا يَتَنَازَعُونَ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّابِعِينَ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، كَمَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْحَاكِمَ، سَمِعْت يَحْيَى بْنَ مَنْصُورٍ الْقَاضِي يَقُولُ سَمِعْت خَالِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْجَارُودِ يَقُولُ: سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَدَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى فَقَامَ إلَيْهِ أَحْمَدُ وَتَعَجَّبَ مِنْهُ النَّاسُ ثُمَّ قَالَ لِبَنِيهِ وَأَصْحَابِهِ اذْهَبُوا إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَاكْتُبُوا عَنْهُ،

وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي لَفْظِ الْمُحْدَثِ هَلْ هُوَ مُرَادِفٌ لِلَّفْظِ الْمَخْلُوقِ أَمْ لَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، قَالَ الْأَشْعَرِيُّ فِي الْمَقَالَاتِ، لَمَّا ذَكَرَ النِّزَاعَ فِي الْخَلْقِ وَالْكَسْبِ وَالْفِعْلِ قَالَ وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى مَخْلُوقٍ مَعْنَى مُحْدَثٍ، وَمَعْنَى مُحْدَثٍ مَعْنَى مَخْلُوقٍ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدِي وَإِلَيْهِ أَذْهَبُ وَبِهِ أَقُولُ. وَقَالَ زُهَيْرٌ الْأَبَرِيُّ وَأَبُو مُعَاذٍ التُّومُنِيُّ مَعْنَى مَخْلُوقٍ أَنَّهُ وَقَعَ عَنْ إرَادَةٍ مِنْ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ لَهُ كُنْ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ بِذَلِكَ مِنْهُمْ أَبُو الْهُذَيْلِ وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ مَعْنَى الْمَخْلُوقِ أَنَّ لَهُ خَلْقًا، وَلَمْ يَجْعَلُوا الْخَلْقَ قَوْلًا عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ مِنْهُمْ أَبُو مُوسَى وَبِشْرُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْمُحْدَثِ هُوَ اصْطِلَاحُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ حَدَثٍ وَمُحْدَثٍ كَمَا حَكَى الْقَوْلَيْنِ الْأَشْعَرِيُّ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ فِي أَثْنَاءِ أَبْوَابِ الْقُرْآنِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي تَخْلِيقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْخَلَائِقِ وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ وَأَمْرُهُ فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَكَلَامِهِ هُوَ الْخَالِقُ الْمُكَوِّنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ وَأَمْرُهُ وَتَخْلِيقُهُ وَتَكْوِينُهُ فَهُوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ مُكَوَّنٌ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] وَلَمْ يَقُلْ مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ وَقَالَ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] . وَقَالَ مَسْرُوقٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ شَيْئًا، حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَسَكَنَ الصَّوْتُ عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ، وَنَادَوْا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ، قَالَ: وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ سَمِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ» . ثُمَّ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَلَغَ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتْ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى الصَّفْوَانِ حَتَّى إذَا

فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَبْوَابٍ بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] ، {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] ، وَقَوْلُهُ، {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] وَإِنَّ حَدَثَهُ لَا يُشْبِهُ حَدَثَ الْمَخْلُوقِينَ، لِقَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ» . وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ كُتُبِهِمْ وَعِنْدَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ أَقْرَبُ الْكُتُبِ عَهْدًا بِاَللَّهِ تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يَشُكَّ فِيهِ. وَرُوِيَ الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي، عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ بِاَللَّهِ مَحْضًا لَمْ يَشُكَّ فِيهِ، وَقَدْ حَدَّثَكُمْ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ بَدَّلُوا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَغَيَّرُوا فَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكُتُبَ، وَقَالُوا هُوَ مِنْ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِذَلِكَ ثَمَنًا قَلِيلًا أَوَ لَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ، فَلَا وَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكُمْ. وَاَلَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ هُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي يَعْلَمُ الْمُسْلِمُونَ، أَنَّهُ الْقُرْآنُ وَالْقُرْآنُ وَسَائِرُ الْكَلَامِ لَهُ حُرُوفٌ وَمَعَانٍ فَلَيْسَ الْكَلَامُ وَلَا الْقُرْآنُ إذَا أُطْلِقَ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الْحُرُوفِ وَلَا أَسْمَاءً لِمُجَرَّدِ الْمَعَانِي، بَلْ الْكَلَامُ اسْمٌ لِلْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي جَمِيعًا فَنَشَأَ بَعْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِمَّنْ هُوَ مُوَافِقٌ لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ عَلَى إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ طَائِفَتَانِ. طَائِفَةٌ قَالَتْ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ مَعْنًى قَائِمٍ بِالنَّفْسِ وَحُرُوفُ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَلَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا وَلَا يَتَكَلَّمُ اللَّهُ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ، وَ " الم " وَ " طس " وَ " ن " وَغَيْرِ ذَلِكَ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ هُوَ بِهِ، وَلَكِنْ خَلَقَهَا ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ خَلَقَهَا فِي الْهَوَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ خَلَقَهَا مَكْتُوبَةً فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ جِبْرِيلُ هُوَ الَّذِي أَحْدَثَهَا وَصَنَّفَهَا بِأَقْدَارِ اللَّهِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الَّذِي أَحْدَثَهَا وَصَنَّفَهَا بِأَقْدَارِ اللَّهِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَهَؤُلَاءِ وَافَقُوا الْجَهْمِيَّةَ فِي نَفْيِهِمْ عَنْ اللَّهِ مِنْ الْكَلَامِ مَا نَفَتْهُ الْجَهْمِيَّةُ، وَفِي أَنَّهُمْ جَعَلُوا هَذَا مَخْلُوقًا كَمَا جَعَلَتْهُ الْجَهْمِيَّةُ مَخْلُوقًا، لَكِنْ فَارَقُوهُمْ فِي أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا مَعْنَى الْقُرْآنِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ، وَقَالُوا إنَّ كَلَامَ اللَّهِ اسْمٌ لِمَا يَقُومُ بِهِ

وَيَتَّصِفُ بِهِ، لَا لِمَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ، وَأَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُرِيدُونَ جَمِيعَ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَالْعَامَّةُ بَلْ بَعْضُهُ، كَمَا أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ تُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقَوْلَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَا يَعْنُونَ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي يَعْنِيهِ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَالْعَامَّةُ وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ مَنَعُوا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْحُرُوفُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَالْجَهْمِيَّةُ الْمَحْضَةُ سَمُّوهَا كَلَامَ اللَّهِ، لَكِنْ قَالُوا هِيَ مَعَ ذَلِكَ مَخْلُوقَةٌ، وَأُولَئِكَ لَا يَجْعَلُونَ مَا يُسَمُّونَهُ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يُسَمَّى كَلَامُ اللَّهِ أَيْضًا عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ، وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ نُسَمِّيهَا بِذَلِكَ مَجَازًا، وَأَيْضًا فَجَعَلَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مَعْنَى وَاحِدًا قَائِمًا بِذَاتِ الرَّبِّ هُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ وَاسْتِخْبَارٌ وَهُوَ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَكُلُّ مَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَهُوَ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةُ الدَّيْنِ وَجُمْهُورُ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ يَقُولُونَ إنَّ فَسَادَ هَذَا مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَفِطْرَةِ بَنِي آدَمَ وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُعَبِّرُ عَنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ نَفْسَهُ لَا يُعَبِّرُ بِنَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ الْأُخْرَى الْأَخْرَسَ الَّذِي يَقُومُ بِنَفْسِهِ مَعَانٍ فَيُعَبِّرُ غَيْرُهُ عَنْهُ بِعِبَارَتِهِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُشَارِكُونَ لِلْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ جَعَلُوا غَيْرَ اللَّهِ يُعَبِّرُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ قَامَ بِنَفْسِهِ مَعْنَى فَتَجْعَلُهُ كَالْأَخْرَسِ وَالْجَهْمِيَّةُ تَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّنَمِ الَّذِي لَا يَقُومُ بِهِ مَعْنًى وَلَا لَفْظٌ. فَعَارَضَ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ قَالَتْ إنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْحَرْفُ وَالصَّوْتُ أَوْ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ وَقَالُوا إنَّ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ، وَلَمْ يَجْعَلُوا الْمَعَانِيَ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ، وَهَؤُلَاءِ وَافَقُوا الْمُعْتَزِلَةَ الْجَهْمِيَّةَ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ هُوَ إلَّا الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ، لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَا يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ قَائِمٍ بِهِ، وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ وَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَائِمٌ بِهِ وَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَؤُلَاءِ أَخْرَجُوا الْمَعَانِيَ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَكَلَامُ اللَّهِ كَمَا أَخْرَجَ الْأَوَّلُونَ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَكَلَامُ اللَّهِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ هُوَ إلَّا الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ لَا يَمْنَعُونَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَعْنًى بَلْ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا الْمُتَكَلِّمُ تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ هَلْ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ أَمْ هِيَ حَقِيقَةٌ

أُخْرَى لَيْسَتْ هِيَ الْعُلُومُ وَالْإِرَادَاتُ فَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى حَقِيقَةً غَيْرَ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ لَيْسَتْ حَقِيقَتُهُ تَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ. وَالنِّزَاعُ الثَّانِي: أَنَّ مُسَمَّى الْكَلَامِ هَلْ هُوَ الْمَعْنَى أَوْ هُوَ اللَّفْظُ فَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَيَقُولُونَ الْكَلَامُ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ هُمْ وَإِنْ وَافَقُوا الْمُعْتَزِلَةَ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ أَوْ أَمْرًا آخَر قَائِمًا بِذَاتِ اللَّهِ وَالْجَهْمِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرُهُمْ نَحْوَهُمْ لَا تُثْبِتُ مَعْنَى قَائِمًا بِذَاتِ اللَّهِ بَلْ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ الْكَلَامَ الَّذِي هُوَ الْحُرُوفُ قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ أَيْضًا فَمُوَافَقَةُ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ أَقَلُّ مِنْ مُوَافَقَةِ الْأَوَّلِينَ بِكَثِيرٍ وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا أَنَّ الْكَلَامَ اسْمٌ لِلْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي جَمِيعًا فَاللَّفْظُ وَالْمَعْنَى دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَالْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَلَامَ حَقِيقَةٌ فِي اللَّفْظِ مَجَازٌ فِي الْمَعْنَى كَمَا تَقُولُهُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَى مَجَازٌ فِي اللَّفْظِ كَمَا يَقُولُهُ جُمْهُورُ الْأَوَّلِينَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْأَوَّلِينَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْمَجْمُوعِ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ احْتَاجَ إلَى قَرِينَةٍ وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ. وَقَدْ يَحْكِي الْأَوَّلُونَ عَنْ الْآخَرِينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِنَّ الْقَدِيمَ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ الْقَائِمَةُ بِالْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ أَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَمِدَادُ الْمَصَاحِفِ فَيَحْكُونَ عَنْهُمْ أَنَّ نَفْسَ صَوْتِ الْعَبْدِ وَنَفْسِ الْمِدَادِ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ فَسَادَهُ بِالْحِسِّ وَالِاضْطِرَارِ وَمَا وَجَدْت أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ يُقِرُّ بِذَلِكَ بَلْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَلَكِنْ قَدْ يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ فِي بَعْضِ الْجُهَّالِ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالْجِبَالِ وَنَحْوِهِ وَإِنْكَارُ ذَلِكَ مَأْثُورٌ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ قَالَ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيم فَأَمَّا الْأَوْعِيَةُ فَمَنْ شَكَّ فِي خَلْقِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 2] {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 3] . وَقَالَ: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج: 21] {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 22] .

فَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَحْيَةُ فِي كِتَابِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدَانَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ الْوَرَقُ وَالْمِدَادُ مَخْلُوقٌ فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَلَيْسَ بِخَالِقٍ وَلَا مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَكِنَّ مِنْهُمْ طَائِفَةً يَقُولُونَ إنَّ لَفْظَهُمْ بِالْقُرْآنِ أَوْ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ أَنَّهُ يُسْمَعُ مِنْهُمْ الصَّوْتُ الْمَخْلُوقُ وَالصَّوْتُ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ لَكِنْ هَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ أَئِمَّتُهُمْ وَجَمَاهِيرُهُمْ. وَالْآخَرُونَ يَحْكُونَ عَنْ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ كَلَامٌ وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَأهُ الْمُسْلِمُونَ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ كَلَامٌ وَإِنَّمَا هَذَا حِكَايَةٌ أَوْ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ صَادِقُونَ فِي هَذَا النَّقْلِ فَإِنَّ هَذَا قَوْلُ الْأَوَّلِينَ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ ابْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ الْقَوْلَ بِالْحِكَايَةِ وَالْعِبَارَةِ وَهِيَ الْبِدْعَةُ الَّتِي أَضَافَهَا الْمُسْلِمُونَ إلَى ابْنِ كِلَابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ فَإِنَّ ابْنَ كِلَابٍ قَالَ الْحُرُوفُ حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ وَلَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْمُتَكَلِّمِ وَاَللَّهُ يُمْتَنَعُ أَنْ يَقُومَ بِهِ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ فَوَافَقَ الْجَهْمِيَّةَ وَالْمُعْتَزِلَةَ فِي هَذَا النَّفْيِ فَجَاءَ الْأَشْعَرِيُّ بَعْدَهُ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِابْنِ كِلَابٍ عَلَى عَامَّةِ أُصُولِهِ فَقَالَ الْحِكَايَةُ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مِثْلَ الْمَحْكِيِّ وَلَيْسَ الْحُرُوفُ مِثْلَ الْمَعْنَى بَلْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْنَى وَدَالَّةٌ عَلَيْهِ وَهُمْ وَأَتْبَاعُهُمْ يَقُولُونَ إنَّ تَسْمِيَةَ ذَلِكَ كَلَامًا لِلَّهِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً وَيُطْلِقُونَ الْقَوْلَ الْحَقِيقِيَّ بِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَ اللَّهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ سَوَاءٌ قَالُوا إنَّ الْحُرُوفَ تُسَمَّى كَلَامًا مَجَازًا أَوْ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَعَانِي لِأَنَّهَا وَإِنْ سُمِّيَتْ كَلَامًا بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ فَالْكَلَامُ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ الْجَمَاعَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْمُتَكَلِّمِ فَيَصِحُّ عَلَى أَحَدِ قَوْلِهِمْ أَنْ تَكُونَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ كَلَامًا لِلْعِبَادِ حَقِيقَةً لِقِيَامِهَا بِهِمْ وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ كَلَامًا لِلَّهِ حَقِيقَةً لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ بِهِ عِنْدَهُمْ بِحَالٍ فَلَوْ قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ الْحُرُوفَ الَّتِي يَخْلُقُهَا اللَّهُ فِي الْهَوَاءِ تُسَمَّى كَلَامًا لَهُ حَقِيقَةً أَوْ إنَّ مَا يُسْمَعُ مِنْ الْعِبَادِ أَوْ يُوجَدُ فِي الْمَصَاحِفِ يُسَمَّى كَلَامَ اللَّهِ حَقِيقَةً لَلَزِمَهُ أَنْ يَجْعَلَ مُسَمَّى الْكَلَامِ مَا لَا يَقُومُ بِالْمُتَكَلِّمِ بَلْ يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى مَا يَقُومُ الْمُتَكَلِّمُ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا لَهُ وَهَذَا مَا وَجَدْته لَهُمْ وَهُوَ مُمْكِنٌ أَنْ يُقَالَ لَكِنْ مَتَى قَالُوهُ انْتَقَضَ عَلَيْهِمْ عَامَّةُ الْحُجَجِ الَّتِي أَبْطَلُوا بِهَا مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَيْهِمْ وَصَارَ لِلْمُعْتَزِلَةِ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ. وَقَدْ يَحْكِي الْآخَرُونَ عَنْ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُمْ يَسْتَهِينُونَ بِالْمَصَاحِفِ فَيَطَئُونَهَا وَيَنَامُونَ عَلَيْهَا وَيَجْعَلُونَهَا مَعَ نِعَالِهِمْ وَرُبَّمَا كَتَبُوا الْقُرْآنَ بِالْعَذِرَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُنَافِقِينَ الْمُلْحِدِينَ وَهَذَا يُوجَدُ فِي أَهْلِ الْجَفَاءِ وَالْغُلُوِّ مِنْهُمْ لِمَا أَلْقَى إلَيْهِمْ أَئِمَّتُهُمْ أَنْ

هَذَا لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ صَارُوا يُفَرِّعُونَ عَلَى ذَلِكَ فُرُوعًا مِنْ عِنْدِهِمْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهَا أَئِمَّتُهُمْ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ أَفْعَالِ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ وَإِلَّا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ يَعْتَقِدُ الْإِسْلَامَ فِي وُجُوبِ احْتِرَامِ الْمَصَاحِفِ وَإِكْرَامِهَا وَإِجْلَالِهَا وَتَنْزِيهِهَا وَفِي الْعَمَلِ يَقُولُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ» . وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْبِدْعَةِ يَتَنَاقَضُونَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَمَا اعْتَقَدُوهُ مِنْ الْبِدْعَةِ لَكِنَّ التَّنَاقُضَ جَائِزٌ عَلَى الْعِبَادِ وَهُوَ أَيْسَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْتِزَامِ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ وَالْإِلْحَادِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْبِدْعَةُ هِيَ الْمِرْقَاةَ إلَى هَذَا الْفَسَادِ. وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي جَعَلَتْ الْقُرْآنَ هُوَ مُجَرَّدُ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فَإِنَّهُمْ وَافَقُوا الْجَهْمِيَّةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ أُولَئِكَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ وَسَائِرَ الْكَلَامِ هُوَ مُجَرَّدُ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعَانِي لَكِنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا لِلَّهِ كَلَامًا تَكَلَّمَ هُوَ بِهِ وَقَامَ بِهِ وَلَا جَعَلُوا لِهَذِهِ الْحُرُوفِ مَعَانِيَ تَقُومُ بِاَللَّهِ أَصْلًا إذْ عِنْدَهُمْ لَمْ يَقُمْ بِاَللَّهِ لَا عِلْمٌ وَلَا إرَادَةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ بَلْ جَعَلُوا الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ مَخْلُوقَةً خَلَقَهَا اللَّهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ كَمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ خَلَقَ فِي نَفْسِ الشَّجَرَةِ صَوْتًا سَمِعَهُ مُوسَى حُرُوفُ ذَلِكَ الصَّوْتِ {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةَ إنَّنِي، أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي إذْ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلَامِ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِهِ كَمَا أَنَّ الْمُتَحَرِّكَ بِالْحَرَكَةِ وَالْعَالِمَ بِالْعِلْمِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَغَيْرَهَا هُوَ مَنْ يَقُومُ بِهِ الصِّفَةُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِشَيْءٍ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ يَقُومُ بِغَيْرِهِ وَلَا يَقُومُ بِهِ أَصْلًا كَمَا لَا يَكُونُ عَالِمًا قَادِرًا بِعِلْمٍ وَقُدْرَةٍ لَا تَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ وَمُتَحَرِّكًا بِحَرَكَةٍ لَا تَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ وَطَرَدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الصِّفَاتِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَاعِلًا خَالِقًا وَمُكَوِّنًا بِفِعْلٍ وَخَلْقٍ وَتَكْوِينٍ لَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَهَاءِ وَطَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ. وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَوْلُهَا قَوْلُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالتَّعْطِيلِ وَلَيْسَ هُوَ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْكُتُبِ فِي الظَّاهِرِ كَانُوا فِي ذَلِكَ مُنَافِقِينَ عَالِمِينَ بِنِفَاقِ أَنْفُسِهِمْ كَمَا عَلَيْهِ طَوَاغِيتُهُمْ الَّذِينَ عَلِمُوا بِمُخَالَفَةِ أَنْفُسِهِمْ لِلرُّسُلِ وَأَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ مُنَافِقُونَ زَنَادِقَةٌ.

وَأَمَّا الْجُهَّالُ بِنِفَاقِ أَنْفُسِهِمْ صَارُوا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ تَكْذِيبِهِمْ الْبَاطِنِ وَتَصْدِيقِهِمْ الظَّاهِرِ جَامِعِينَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ مُضْطَرِّينَ إلَى السَّفْسَطَةِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالْقَرَامِطَةِ فِي السَّمْعِيَّاتِ مُفْسِدِينَ لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ وَقَوْلُهُمْ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَنَفْيِ الصِّفَاتِ مِنْ أُصُولِ نِفَاقِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِبِدَايَةِ الْعُقُولِ أَنَّ الْحَيَّ لَا يَكُونُ حَيًّا إلَّا بِحَيَاةٍ تَقُومُ بِهِ وَلَا يَكُونُ حَيًّا بِلَا حَيَاةٍ أَوْ بِحَيَاةٍ تَقُومُ بِغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ الْعَالِمُ وَالْقَادِرُ لَا يَكُونُ عَالِمًا قَادِرًا إلَّا بِعِلْمٍ وَقُدْرَةٍ تَقُومُ بِهِ وَلَا يَكُونُ عَالِمًا قَادِرًا بِلَا عِلْمٍ وَلَا قُدْرَةٍ أَوْ بِعِلْمٍ وَقُدْرَةٍ تَقُومُ بِغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ الْحَكِيمُ وَالرَّحِيمُ وَالْمُتَكَلِّمُ وَالْمُرِيدُ لَا يَكُونُ حَكِيمًا وَلَا رَحِيمًا أَوْ مُتَكَلِّمًا أَوْ مُرِيدًا إلَّا بِحِكْمَةٍ وَرَحْمَةٍ أَوْ كَلَامٍ وَإِرَادَةٍ تَقُومُ بِهِ وَلَا يَكُونُ حَكِيمًا بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا رَحِيمًا بِلَا رَحْمَةٍ أَوْ بِحِكْمَةٍ وَرَحْمَةٍ تَقُومُ بِغَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا وَلَا مُرِيدًا بِلَا كَلَامٍ وَلَا إرَادَةٍ أَوْ بِكَلَامٍ وَإِرَادَةٍ تَقُومُ بِغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ مِنْ الْمَعْلُومِ بِبِدَايَةِ الْعُقُولِ أَنَّ الْكَلَامَ وَالْإِرَادَةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ لَا تَقُومُ إلَّا بِمَحِلٍّ إذْ هَذِهِ صِفَاتٌ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِبِدَايَةِ الْعُقُولِ أَنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْعِلْمُ يَكُونُ عَالِمًا وَاَلَّذِي تَقُومُ بِهِ الْقُدْرَةُ يَكُونُ قَادِرًا وَاَلَّذِي يَقُومُ بِهِ الْكَلَامُ يَكُونُ مُتَكَلِّمًا وَاَلَّذِي تَقُومُ بِهِ الرَّحْمَةُ يَكُونُ رَحِيمًا وَاَلَّذِي تَقُومُ بِهِ الْإِرَادَةُ يَكُونُ مُرِيدًا فَهَذِهِ الْأُمُورُ مُسْتَقِرَّةٌ فِي فِطْرِ النَّاسِ تَعْلَمُهَا قُلُوبُهُمْ عِلْمًا فِطْرِيًّا ضَرُورِيًّا وَالْأَلْفَاظُ الْمُعَبِّرَةُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي هِيَ مِنْ اللُّغَاتِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا بَنُو آدَمَ فَلَا يُسَمُّونَ عَالِمًا قَادِرًا إلَّا مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَمَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ سَمُّوهُ عَالِمًا قَادِرًا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ إنَّ الصِّفَةَ إذَا قُدِّمَتْ بِمَحَلٍّ عَادَ حُكْمُهَا عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ دُونَ غَيْرِهِ أَيْ إذَا قَامَ الْعِلْمُ وَالْكَلَامُ بِمَحَلٍّ كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْعَالِمُ الْمُتَكَلِّمُ دُونَ غَيْرِهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ إنَّ الصِّفَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحِلٍّ اُشْتُقَّ لَهُ مِنْهَا اسْمٌ كَمَا يُشْتَقُّ لِمَحَلِّ الْعِلْمِ عَلِيمٌ وَلِمَحِلِّ الْكَلَامِ مُتَكَلِّمٌ وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ أَنَّ صِدْقَ الْمُشْتَقِّ لَا يَنْفَكُّ عَنْ صِدْقِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ أَيْ أَنَّ لَفْظَ الْعَلِيمِ وَالْمُتَكَلِّمِ مُشْتَقٌّ مِنْ لَفْظِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ فَإِذَا صَدَقَ عَلَى الْمَوْصُوفِ أَنَّهُ عَلِيمٌ لَزِمَ أَنْ يَصْدُقَ حُصُولُ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ لَهُ وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ الَّذِينَ عَرَفُوا حَقِيقَةَ قَوْلِ مَنْ قَالَ مَخْلُوقٌ وَأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُمْ بِهِ كَلَامٌ بَلْ الْكَلَامُ قَامَ بِجِسْمٍ مِنْ الْأَجْسَامِ غَيْرِهِ وَعَلِمُوا أَنَّ هَذَا يُوجِبُ بِالْفِطْرَةِ الضَّرُورِيَّةِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْجِسْمُ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ دُونَ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا أَصْلًا وَصَارُوا

يَذْكُرُونَ قَوْلَهُمْ بِحَسَبِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ وَإِنَّمَا خَلَقَ شَيْئًا تَكَلَّمَ عَنْهُ وَهَكَذَا كَانَتْ الْجَهْمِيَّةُ تَقُولُ أَوَّلًا ثُمَّ أَنَّهَا زَعَمَتْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ وَلَوْ فِي غَيْرِهِ وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا عَلَى قَوْلَيْنِ فَلَهُمْ فِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا بِالْكَلَامِ الْمَخْلُوقِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ وَهُمْ فِيهِ أَصْدَقُ لِإِظْهَارِهِمْ كُفْرِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا تَكَلَّمَ وَلَا يَتَكَلَّمُ. وَالثَّانِي: وَهُمْ فِيهِ مُتَوَسِّطُونَ فِيهِ النِّفَاقُ أَنَّهُ يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ. وَالثَّالِثُ: وَهُمْ فِيهِ مُنَافِقُونَ نِفَاقًا مَحْضًا أَنَّهُ يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَأَسَاسُ النِّفَاقِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ فَلِهَذَا كَانُوا مِنْ أَكْذَبِ النَّاسِ فِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ لَيْسَ قَائِمًا بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَخْلُوقٌ فِي غَيْرِهِ كَمَا كَانُوا كَاذِبِينَ مُفْتَرِينَ فِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ عَالِمًا قَادِرًا مُرِيدًا مُتَكَلِّمًا بِلَا عِلْمٍ يَقُومُ بِهِ وَلَا قُدْرَةٍ وَلَا إرَادَةٍ وَلَا كَلَامٍ فَكَانُوا وَإِنْ نَطَقُوا بِأَسْمَائِهِ فَهُمْ كَاذِبُونَ بِتَسْمِيَتِهِ بِهَا وَهُمْ مُلْحِدُونَ فِي الْحَقِيقَةِ كَإِلْحَادِ الَّذِينَ نَفْوًا عَنْهُ أَنْ يُسَمَّى بِالرَّحْمَنِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60] وَبِذَلِكَ وَصَفَهُمْ الْأَئِمَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ خَبِرَ مَقَالَاتِهِمْ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا خَرَّجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَنْ تَعْبُدُونَ قَالُوا: نَعْبُدُ مَنْ يُدَبِّرُ أَمْرَ هَذَا الْخَلْقِ. قُلْنَا: فَهَذَا الَّذِي يُدَبِّرُ أَمْرَ هَذَا الْخَلْقِ هُوَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ بِصِفَةٍ قَالُوا نَعَمْ قُلْنَا قَدْ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّكُمْ لَا تُثْبِتُونَ شَيْئًا إنَّمَا تَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ الشُّنْعَةَ بِمَا تُظْهِرُونَ وَقُلْنَا، لَهُمْ: هَذَا الَّذِي يُدَبِّرُ هُوَ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى، قَالُوا: لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا بِجَارِحَةٍ وَالْجَوَارِحُ عَنْ اللَّهِ مَنْفِيَّةٌ فَإِذَا سَمِعَ الْجَاهِلُ قَوْلَهُمْ يَظُنُّ أَنَّهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَقُودُونَ بِقَوْلِهِمْ إلَى ضَلَالَةٍ وَكُفْرٍ. وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بَيَانُ مَا أَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّةُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ قُلْنَا لِمَ أَنْكَرْتُمْ ذَلِكَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ إنَّمَا كَوَّنَ شَيْئًا فَعَبَّرَ عَنْ اللَّهِ وَخَلَقَ صَوْتًا فَسُمِعَ وَزَعَمُوا أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جَوْفٍ وَفَمٍ

وَلِسَانٍ وَشَفَتَيْنِ فَقُلْنَا هَلْ يَجُوزُ لِمُكَوِّنٍ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ: يَا مُوسَى {أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14] أَوْ {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه: 12] فَمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ بِأَوَّلًا أَنَّ اللَّهَ كَوَّنَ الْأَشْيَاءَ كَأَنْ يَقُولُ ذَلِكَ الْمُكَوَّنُ يَا مُوسَى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] وَقَالَ {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] وَقَالَ {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: 144] فَهَذَا مَنْصُوصُ الْقُرْآنِ وَأَمَّا مَا قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ فَكَيْفَ يَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ» . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جَوْفٍ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ أَلَيْسَ اللَّهُ قَالَ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] أَتَرَاهَا أَنَّهَا قَالَتْ بِجَوْفٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} [الأنبياء: 79] أَتَرَاهَا أَنَّهَا سَبَّحَتْ بِجَوْفٍ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ وَالْجَوَارِحُ إذَا شَهِدَتْ عَلَى الْكَافِرِ {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] أَتَرَاهَا نَطَقَتْ بِجَوْفٍ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْطَقَهَا كَمَا شَاءَ فَكَذَلِكَ تَكَلَّمَ اللَّهُ كَيْف شَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقُولَ جَوْفٌ وَلَا فَمٌ وَلَا شَفَتَانِ وَلَا لِسَانٌ فَلَمَّا خَنَقَتْهُ الْحُجَجُ قَالَ إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى إلَّا أَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُهُ قُلْنَا غَيْرُهُ مَخْلُوقٌ قَالَ نَعَمْ قُلْنَا هَذَا مِثْلُ قَوْلِكُمْ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّكُمْ تَدْفَعُونَ الشُّنْعَةَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ بِمَا تُظْهِرُونَ وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ قَالَ «لَمَّا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ رَبِّهِ قَالَ يَا رَبِّ هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي سَمِعْته هُوَ كَلَامُك قَالَ نَعَمْ يَا مُوسَى هُوَ كَلَامِي وَإِنَّمَا كَلَّمْتُك بِقُوَّةِ عَشَرَةِ آلَافِ لِسَانٍ وَلِي قُوَّةُ الْأَلْسُنِ كُلِّهَا وَأَنَا أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا كَلَّمْتُك عَلَى قَدْرِ مَا تُطِيقُ بِذَلِكَ وَلَوْ كَلَّمْتُك بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمُتّ قَالَ فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ قَالُوا أَتَصِفُ لَنَا كَلَامَ رَبِّك قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَهَلْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصِفَهُ لَكُمْ قَالُوا فَشَبِّهْهُ لَنَا قَالَ: أُسْمِعْتُمْ الصَّوَاعِقَ الَّتِي تُقْبِلُ فِي أَحْلَى حَلَاوَةٍ سَمِعْتُمُوهَا فَكَأَنَّهُ مِثْلُهُ» . وَقُلْنَا لِلْجَهْمِيَّةِ مَنْ الْقَائِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] أَلَيْسَ اللَّهُ هُوَ الْقَائِلُ قَالُوا يَكُونُ اللَّهُ شَيْئًا فَيُعَبِّرُ عَنْ اللَّهِ كَمَا كَوَّنَ فَعَبَّرَ لِمُوسَى قُلْنَا فَمَنْ الْقَائِلُ {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ - فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 6 - 7]

أَلَيْسَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ قَالُوا هَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَكُونُ شَيْئًا فَيُعَبِّرُ عَنْ اللَّهِ قُلْنَا قَدْ أَعْظَمْتُمْ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ فَشَبَّهْتُمُوهُ بِالْأَصْنَامِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَكَلَّمُ وَلَا تَحَرَّكَ وَلَا تَزُولُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان. فَلَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ قَالَ إنَّ اللَّهَ قَدْ يَتَكَلَّمُ وَلَكِنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَقُلْنَا وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَلَامُهُمْ مَخْلُوقٌ فَقَدْ شَبَّهْتُمْ اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَفِي مَذْهَبِكُمْ أَنَّ اللَّهَ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ التَّكَلُّمَ وَكَذَلِكَ بَنُو آدَم كَانُوا لَا يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى خَلَقَ لَهُمْ كَلَامًا فَقَدْ جَمَعْتُمْ بَيْنَ كُفْرٍ وَتَشْبِيهٍ فَتَعَالَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ بَلْ نَقُولُ إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ لَا يَعْلَمُ حَتَّى خَلَقَ فَعَلِمَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا قُدْرَةَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ قُدْرَةً وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا نُورَ لَهُ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ نُورًا وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا عَظَمَةَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ عَظَمَةً فَقَالَتْ الْجَهْمِيَّةُ لَنَا لَمَّا وَصَفْنَا مِنْ اللَّهِ هَذِهِ الصِّفَاتِ إنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ وَنُورَهُ وَاَللَّهَ وَقَدَرَتْهُ وَاَللَّهَ وَعَظَمَتَهُ فَقَدْ قُلْتُمْ بِقَوْلِ النَّصَارَى حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ وَنُورُهُ وَلَمْ يَزَلْ وَقُدْرَتُهُ فَقُلْنَا لَا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ وَقُدْرَتُهُ وَلَمْ يَزَلْ وَنُورُهُ وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ بِنُورِهِ وَبِقُدْرَتِهِ لَا مَتَى قَدَرَ وَلَا كَيْفَ قَدَرَ فَقَالُوا لَا تَكُونُونَ مُوَحِّدِينَ أَبَدًا حَتَّى تَقُولُوا كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ فَقُلْنَا نَحْنُ نَقُولُ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ وَلَكِنْ إذَا قُلْنَا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ كُلِّهَا أَلَيْسَ إنَّمَا نَصِفُ إلَهًا وَاحِدًا بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ وَضَرَبَنَا لَهُمْ مَثَلًا فِي ذَلِكَ فَقُلْنَا لَهُمْ أَخْبِرُونَا عَنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَلَيْسَ لَهَا جُذُوعٌ وَكَرَبٌ وَلِيفٌ وَسَعَفٌ وَخُوصٌ وَجُمَّارٌ وَاسْمُهَا اسْمٌ وَاحِدٌ سُمِّيَتْ نَخْلَةً بِجَمِيعِ صِفَاتِهَا فَكَذَلِكَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ إلَهً وَاحِدً لَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَلَا قُدْرَةَ حَتَّى خَلَقَ وَاَلَّذِي لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ هُوَ عَاجِزٌ وَلَا نَقُولُ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَلَا يَعْلَمُ حَتَّى خَلَقَ فَعَلِمَ وَاَلَّذِي لَا يَعْلَمُ فَهُوَ جَاهِلٌ. وَلَكِنْ نَقُولُ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ قَادِرًا عَالِمًا مَالِكًا لَا مَتَى وَلَا كَيْفَ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ رَجُلًا كَافِرًا اسْمُهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ فَقَالَ {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] وَقَدْ كَانَ اللَّهُ سَمَّاهُ وَحِيدًا لَهُ عَيْنَانِ وَأُذُنَانِ وَلِسَانٌ وَشَفَتَانِ وَيَدَانِ وَرِجْلَانِ وَجَوَارِحُ كَثِيرَةٌ فَقَدْ سَمَّاهُ وَحِيدًا

بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ فَكَذَلِكَ اللَّهُ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى هُوَ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ إلَهٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ وَهَذَا ذِكْرُ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَصَّرَنَا خَطَأَ الْمُخْطِئِينَ وَعَمَى الْعَمِينَ وَحَيْرَةَ الْمُتَحَيِّرِينَ الَّذِينَ نَفَوَا صِفَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَالُوا إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ لَا صِفَاتٍ لَهُ وَإِنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا حَيَاةَ لَهُ وَلَا سَمْعَ لَهُ وَلَا بَصَرَ لَهُ وَلَا عِزَّ لَهُ وَلَا جَلَالَ لَهُ وَلَا عَظَمَةَ لَهُ وَلَا كِبْرِيَاءَ لَهُ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي سَائِرِ صِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي يُوصِفُ بِهَا نَفْسَهُ قَالَ وَهَذَا قَوْلٌ أَخَذُوهُ عَنْ إخْوَانِهِمْ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعًا لَمْ يَزَلْ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا قَادِرٍ وَلَا حَيٍّ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ وَلَا قَدِيرٍ وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِأَنْ قَالُوا عَيْنُ لَمْ يَزَلْ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْنَا قَوْلَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الصِّفَاتِ لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُظْهِرُوا مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَتْ الْفَلَاسِفَةُ تُظْهِرُهُ فَأَظْهَرُوا مَعْنَاهُ بِنَفْيِهِمْ أَنْ يَكُونَ لِلْبَارِي عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَحَيَاةٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ وَلَوْلَا الْخَوْفُ لَأَظْهَرُوا مَا كَانَتْ الْفَلَاسِفَةُ تُظْهِرُهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَأَفْصَحُوا بِهِ غَيْرَ أَنَّ خَوْفَ السَّيْفِ يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ أَفْصَحَ بِذَلِكَ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِابْنِ الْإِيَادِيِّ كَانَ يَنْتَحِلُ قَوْلَهُمْ فَزَعَمَ أَنَّ الْبَارِّي تَعَالَى عَالِمٌ قَادِرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ فِي الْمَجَازِ لَا فِي الْحَقِيقَةِ وَمِنْهُمْ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِعَبَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يُقَالُ إنَّ الْبَارِيَ عَالِمٌ قَادِرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ حَكِيمٌ جَلِيلٌ فِي حَقِيقَةِ الْقِيَاسِ قَالَ لِأَنِّي لَوْ قُلْت إنَّهُ عَالِمٌ فِي حَقِيقَةِ الْقِيَاسِ لَكَانَ لَا عَالِمَ إلَّا هُوَ وَكَانَ يَقُولُ الْقَدِيمُ لَمْ يَزَلْ فِي حَقِيقَةِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَنْعَكِسُ لِأَنَّ الْقَدِيمَ لَمْ يَزَلْ وَمَنْ لَمْ يَزَلْ فَقَدِيمٌ فَلَوْ كَانَ الْبَارِي عَالِمًا فِي حَقِيقَةِ الْقِيَاسِ لَكَانَ لَا عَالِمَ إلَّا هُوَ قَالَ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ اخْتِلَافًا تَشَتَّتَ فِيهِ أَهْوَاؤُهُمْ وَاضْطَرَبَتْ فِيهِ أَقَاوِيلُهُمْ ثُمَّ سَاقَ اخْتِلَافَهُمْ. وَكَذَلِكَ قَالَ: فِي الْإِبَانَةِ فَصْلٌ وَزَعَمَتْ الْجَهْمِيَّةُ أَنَّ اللَّهَ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا حَيَاةَ وَلَا سَمْعَ وَلَا بَصَرَ لَهُ وَأَرَادُوا أَنْ يَنْفُوا أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ قَادِرٌ حَيٌّ سَمِيعٌ بَصِيرٌ فَمَنَعَهُمْ خَوْفُ السَّيْفِ مِنْ إظْهَارِهِمْ نَفْيُ ذَلِكَ فَأَتَوْا بِمَعْنَاهُ لِأَنَّهُمْ إذَا قَالُوا لَا عِلْمَ لِلَّهِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ فَقَدْ قَالُوا إنَّهُ لَيْسَ بِعَالِمٍ؛ وَلَا قَادِرٍ وَوَجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَهَذَا إنَّمَا أَخَذُوهُ عَنْ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالتَّعْطِيلِ لِأَنَّ الزَّنَادِقَةَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا قَادِرٍ وَلَا حَيٍّ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ فَلَمْ تَقْدِرْ الْمُعْتَزِلَةُ أَنْ تُفْصِحَ بِذَلِكَ فَأَتَتْ بِمَعْنَاهُ وَقَالَتْ إنَّ اللَّهَ عَالِمٌ قَادِرٌ حَيٌّ سَمِيعٌ بَصِيرٌ مِنْ طَرِيقِ التَّسْمِيَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُثْبِتُوا لَهُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ.

وَمَقْصُودُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْمُسْتَقِرِّ فِي الْمَعْقُولِ وَالْمَسْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ مَعَ أَنَّ الْحَيَّ الْعَالِمَ الْقَادِرَ الْمُتَكَلِّمَ الْمُرِيدَ لَا بُدَّ أَنْ تَقُومَ بِهِ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْكَلَامُ وَالْإِرَادَةُ وَإِنَّ مَا قَامَ بِهِ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ مُتَكَلِّمٌ مُرِيدٌ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ ثُبُوتُ حُكْمِ الصِّفَةِ لِمَحِلِّهَا وَانْتِفَاؤُهُ عَنْ غَيْرِ مَحِلِّهَا وَثُبُوتُ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ مِنْ اسْمِهَا لِمَحَلِّهَا وَانْتِفَاءُ الِاسْمِ عَنْ غَيْرِ مَحِلِّهَا وَالْجَهْمِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرُهُمْ خَالَفُوا ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: زَعْمُهُمْ أَنَّ اللَّهَ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقُومَ بِهِ حَيَاةٌ وَلَا عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ فَأَثْبَتُوا الْأَسْمَاءَ وَالْأَحْكَامَ مَعَ نَفْيِ الصِّفَاتِ. الثَّانِي: أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ أَنَّهُمْ قَالُوا هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ يَقُومُ بِغَيْرِهِ وَلَيْسَ الْجِسْمُ الَّذِي قَامَ بِهِ الْكَلَامَ مُتَكَلِّمًا بِهِ فَأَثْبَتُوا الِاسْمَ وَالْحُكْمَ بِدُونِ الصِّفَةِ وَنَفَوْا الِاسْمَ وَالْحُكْمَ عَنْ مَوْضِعِ الصِّفَةِ لَكِنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا مُتَكَلِّمًا إلَّا مَنْ لَهُ كَلَامٌ وَجَعَلُوا هُنَاكَ عَالِمًا قَادِرًا مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ. الثَّالِثُ: أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ مَا قَالُوهُ فِي الْإِرَادَةِ تَارَةً يَنْفُونَهَا وَتَارَةً يَقُولُونَ هُوَ مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ لَا فِي مَحَلٍّ فَأَثْبَتُوا الِاسْمَ وَالْحُكْمَ بِدُونِ الصِّفَةِ وَجَعَلُوا الصِّفَةَ تَقُومُ بِغَيْرِ مَحَلٍّ وَكُلُّ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ مِمَّا يُعْلَمُ بِبِدَايَةِ الْعَقْلِ وَبِمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعِبَادَ بِالْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ وَهُوَ مِنْ النِّفَاقِ لَكِنَّهُمْ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِحُجَّةٍ أَلْزَمَهَا لَهُمْ الْكِلَابِيَّةُ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ وَهُوَ الصِّفَاتُ الْفِعْلِيَّةُ مِثْلُ كَوْنِهِ خَالِقًا رَازِقًا عَادِلًا مُحَيِّيًا مُمِيتًا وَتُسَمَّى صِفَةَ التَّكْوِينِ وَتُسَمَّى الْخَالِقَ وَتُسَمَّى صِفَةَ الْفِعْلِ وَتُسَمَّى التَّأْثِيرَ فَقَالُوا هُوَ خَالِقٌ فَاعِلٌ مُكَوِّنٌ عَادِلٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ خَلْقٌ وَلَا تَكْوِينٌ وَلَا فِعْلٌ وَلَا تَأْثِيرٌ وَلَا عَدْلٌ فَكَذَلِكَ الْمُتَكَلِّمُ وَالْمُرِيدُ وَقَالُوا إنَّ الْخَلْقَ هُوَ نَفْسُ الْمَخْلُوقِ وَاتَّبَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْكِلَابِيَّةُ وَالْأَشْعَرِيَّةِ فَصَارَ لِلْأَوَّلِينَ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا قَرَنَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا إنْ قُلْنَا إنَّ التَّكْوِينَ قَدِيمٌ لَزِمَ قِدْمُ الْمُكَوَّنَاتِ وَالْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا وَهَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالْحِسِّ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ مُحْدَثٌ لَزِمَ قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِهِ. وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الرَّادِّينَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَالشِّيعَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فَيَطْرُدُونَ مَا ذَكَرَ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَيَقُولُونَ لَا يَكُونُ فَاعِلًا إلَّا بِفِعْلٍ يَقُومُ بِذَاتِهِ وَتَكْوِينٌ يَقُومُ بِذَاتِهِ وَالْخَلْقُ الَّذِي يَقُومُ بِذَاتِهِ غَيْرُ الْخَلْقِ

الَّذِي هُوَ الْمَخْلُوقُ وَهَذَا هُوَ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ فِي كُتُبِهِمْ كَمَا ذَكَرَهُ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ كَالطَّحَاوِيِّ وَأَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَكَمَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَكَمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ أَحْمَدَ كَأَبِي إِسْحَاقَ وَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُمْ لَكِنَّ الْقَاضِي ذَكَرَ فِي الْخَلْقِ هَلْ هُوَ الْمَخْلُوقُ أَوْ غَيْرُهُ قَوْلَيْنِ وَلَكِنْ اسْتَقَرَّ قَوْلُهُ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ وَإِنْ خَالَفَهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ وَكَمَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْكَلَابَاذِيُّ فِي كِتَابِ اعْتِقَادِ الصُّوفِيَّةِ وَكَمَا ذَكَرَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي آخِرِ الصَّحِيحِ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ وَالزَّنَادِقَةِ بَابَ مَا جَاءَ فِي تَخْلِيقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْخَلَائِقِ وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ وَأَمْرُهُ فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلُهُ وَأَمْرُهُ وَكَلَامُهُ هُوَ الْخَالِقُ الْمُكَوِّنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرُهُ وَتَخْلِيقُهُ وَتَكْوِينَهُ فَهُوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ مُكَوِّنٌ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ هُوَ الْحَقُّ. فَإِنَّ مَا ذَكَرَ مِنْ الْحُجَّةِ أَنَّ الْعَالِمَ الْقَادِرَ الْمُتَكَلِّمَ الْمُرِيدَ لَا يَكُونُ إلَّا بِأَنْ يَقُومَ بِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْكَلَامُ وَالْإِرَادَةُ هُوَ بِعَيْنِهِ يُقَالُ فِي الْخَالِقِ وَالْفَاعِلِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِبِدَايَةِ الْعُقُولِ وَضَرُورَتِهَا أَنَّ الصَّانِعَ الْفَاعِلَ لَا يَكُونُ صَانِعًا فَاعِلًا إلَّا أَنْ يَقُومَ بِهِ مَا يَكُونُ بِهِ فَاعِلًا صَانِعًا وَلَا يُسَمَّى الْفَاعِلُ فَاعِلًا كَالضَّارِبِ وَالْقَاتِلِ وَالْمُحْسِنِ وَالْمُطْعِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إلَّا إذَا قَامَ بِهِ الْفِعْلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الِاسْمُ وَلَكِنَّ الْجَهْمِيَّةَ نَفَتْ هَذَا كُلُّهُ وَفُرُوخُهُمْ وَافَقَتْهُمْ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ وَأَمَّا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ فَبَاقُونَ عَلَى الْفِطْرَةِ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَكَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِأَفْعَالِهِ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَمِنْ ذَلِكَ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالنُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِهِ وَلَكِنْ هُنَا أَخْبَرَ بِأَفْعَالِهِ وَهُنَاكَ ذَكَرَ أَسْمَاءَهُ الْمُتَضَمَّنَةَ لِلْأَفْعَالِ وَلَمْ يُفَرِّقُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ بَيْنَ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ وَأَسْمَاءِ الْكَلَامِ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ إنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ فَذَكَرَ مَسَائِلَهُ وَمِنْهَا قَالَ وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 158] {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134] فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقَوْلُهُ {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ أَيْ

لَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ بِتَمَامِهِ وَاخْتَصَرَ الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ الْبَرْقَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ بِتَمَامِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَمَّا قَوْلُهُ {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] وَ {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220] {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134] فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَلِكَ وَسَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْحَلْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ وَكَانَ اللَّهُ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ هَذَا لَفْظُ الْحُمَيْدِيِّ صَاحِبِ الْجَمْعِ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْبَرْقَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدٍ إبْرَاهِيمَ الْبُوشْنَجِيُّ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَدِيٍّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ قَالَ إنَّ اللَّهَ سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْحَلْهُ غَيْرُهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَكَانَ اللَّهُ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ يُوسُفَ وَلَفْظُ السَّائِلِ فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى وَلَفْظُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّ اللَّهَ سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَجْعَلْهُ غَيْرُهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَكَانَ اللَّهُ أَيْ لَمْ يَزَلْ يُقَالُ جَعَلْت زَيْدًا عَالِمًا إذْ جَعَلْته فِي نَفْسِك وَجَعَلْته عَالِمًا إذَا جَعَلْته فِي نَفْسِي أَيْ اعْتَقَدْته عَالِمًا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19] أَيْ اعْتَقَدُوهُمْ {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا} [النحل: 91] أَيْ فِي نُفُوسِكُمْ بِمَا عَقَدْتُمُوهُ مِنْ الْيَمِينِ. فَقَوْلُهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَلِكَ وَسَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ يَخْرُجُ عَلَى الثَّانِي أَيْ هُوَ الَّذِي حَكَمَ بِذَلِكَ وَأَخْبَرَ بِثُبُوتِهِ لَهُ وَسَمَّى بِهِ نَفْسَهُ لَمْ يَنْحَلْهُ ذَلِكَ أَحَدٌ غَيْرُهُ. وَقَوْلُهُ: وَكَانَ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ لِنَفْسِهِ وَسَمَّى بِهِ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ الْخَلْقُ هُمْ الَّذِينَ حَكَمُوا بِذَلِكَ لَهُ وَسَمَّوْهُ بِذَلِكَ فَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَفَادًا مِنْ نِحْلَةِ الْخَلْقِ لَهُ لَكَانَ مُحْدَثًا لَهُ بِحُدُوثِ الْخَلْقِ فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي سَمَّى نَفْسَهُ وَجَعَلَ نَفْسَهُ كَذَلِكَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ فَلِهَذَا أَخْبَرَ بِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ وَلِهَذَا اتَّبَعَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ ذَلِكَ كَقَوْلِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا غَفُورًا وَقَالَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا قَادِرًا مَالِكًا لَا مَتَى وَلَا كَيْفَ وَلِهَذَا احْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعَاذَ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ فَقَالَ: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ» . فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ يَعُوذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إذَا نَزَلَ مَنْزِلًا قَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ

قَالَ حِينَ يُمْسِي أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ» . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ قَالَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالُ أُعِيذُك بِالسَّمَاءِ أَوْ بِالْجِبَالِ أَوْ بِالْأَنْبِيَاءِ أَوْ بِالْمَلَائِكَةِ أَوْ بِالْعَرْشِ أَوْ بِالْأَرْضِ أَوْ بِشَيْءٍ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ وَلَا يَعُوذُ إلَّا بِاَللَّهِ أَوْ بِكَلِمَاتِهِ وَقَدْ ذَكَرَ الِاحْتِجَاجَ بِهَذَا الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ لَكِنْ نُقِلَ احْتِجَاجُ أَحْمَدَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ وَعُورِضَ بِمُعَارَضَةٍ فَلَمْ يُجِبْ عَنْهَا ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْ مَخْلُوقٍ بِمَخْلُوقٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ وَهِيَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَسْتَعِيذُ بِذَاتِهِ وَذَاتُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ ثُمَّ قَالَ وَبَلَغَنِي عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ مَخْلُوقٍ إلَّا وَفِيهِ نَقْصٌ. قُلْت: احْتِجَاجُ أَحْمَدَ هُوَ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ كَمَا حَكَيْنَا لَفْظَ الْمَرُّوذِيِّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي عَرَضَهُ عَلَى أَحْمَدَ وَالْمَقْصُودُ هُنَا ثُمَّ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ دُونَ الْمَعَانِي ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتِ الَّتِي سَمِعَهَا مُوسَى عِبْرِيَّةٌ وَاَلَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ عَرَبِيَّةٌ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ إلَّا مُجَرَّدَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْكَلَامِ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سَمِعَهُ قَدْرَ مُشْتَرَكٍ أَصْلُهُ بَلْ كَانَ يَكُونُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ سَمِعَ هَذِهِ الْأَصْوَاتَ الَّتِي لَمْ يَسْمَعْهَا كَذِبٌ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَنْ حَكَى اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ قَالَ مِنْ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا بِلُغَتِهِمْ وَقَدْ حَكَى اللَّهُ ذَلِكَ بِاللُّغَةِ الَّتِي أَنْزَلَ بِهَا الْقُرْآنَ وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ وَكَلَامُ اللَّهِ صِدْقٌ فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُمْ مُجَرَّدَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ الَّتِي قَالُوهَا لَيْسَتْ مِثْلَ هَذِهِ لَمْ تَكُنْ الْحِكَايَةُ عَنْهُمْ مُطْلَقًا بَلْ كَلَامُهُمْ كَانَ حُرُوفًا وَمَعَانِيَ فَحَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ بِلُغَةٍ أُخْرَى وَالْحُرُوفُ تَابِعَةٌ لِلْمَعَانِي وَالْمَعَانِي هِيَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ. كَمَا يُتَرْجِمُ كَلَامُ سَائِرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَهَؤُلَاءِ الْمُثْبِتَةُ الَّذِينَ وَافَقُوا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَوَافَقُوا الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ هُوَ إلَّا مُجَرَّدَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ يَقُولُونَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ الْقَائِمَ بِهِ لَيْسَ هُوَ إلَّا مُجَرَّدَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي بَيَّنْته أَيْضًا فِي جَوَابِ الْمِحْنَةِ وَبَيَّنْت أَنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ

أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَلَا قَالُوا أَيْضًا إنَّهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ بَلْ كِلَاهُمَا بِدْعَةٌ وَأَنَّ لَيْسَ فِي كَلَامِي شَيْءٌ مِنْ الْبِدَعِ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ مَعَ ذَلِكَ قَدِيمٌ غَيْرُ حَادِثٍ لِمُوَافَقَتِهِمْ الطَّائِفَةَ الْأُولَى عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، إنَّهُ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ قَطُّ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ بَلْ يَقُولُ هُوَ وَإِنْ كَانَ مُجَرَّدَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَهُوَ قَائِمٌ بِهِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَإِنَّهُ إذَا شَاءَ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ وَإِذَا شَاءَ سَكَتَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ. وَظَنَّ الْمُوَافِقُونَ لِلسَّلَفِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى فِي النَّفْسِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَيْسَ إلَّا الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَنَّهُ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَهَذَا اعْتَقَدُوهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ الْمُضَافَةِ إلَى اللَّهِ أَنَّهَا إمَّا أَنْ تَكُونَ مَخْلُوقَةً مُنْفَصِلَةً عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةً غَيْرَ مُتَعَلِّقَةٍ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَنَعُوا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ أَوْ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ أَوْ إنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْكَلَامِ أَوْ التَّكَلُّمِ أَوْ إنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ أَوْ إنَّهُ إنْ شَاءَ تَكَلَّمَ وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ أَوْ إنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ وَالسُّكُوتِ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يَحْيَا إذَا شَاءَ أَوْ إنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَحْيَا وَعَلَى أَنْ لَا يَحْيَا إنَّ الْحَيَاةَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ إلَّا حَيًّا قَيُّومًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا فَاعْتَقَدَ هَؤُلَاءِ فِي الْكَلَامِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْبُغْضِ وَالرِّضَاءِ وَالسَّخَطِ وَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَالْفَرَحِ وَالضَّحِكِ مِثْلُ الْحَيَاةِ. وَأَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ الْمُوَافِقِينَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْأُصُولِ الْكِبَارِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ وَهَذَا مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ الْأَشْعَرِيُّ فِي الْمَقَالَاتِ فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ بَلْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْمُرْجِئَةِ أَنَّهُ يَقُولُ بِقَوْلِهِ وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الزَّيْدِيَّةِ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِبَعْضِ قَوْلِهِ وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ قَوْلَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ فَقَالَ هَلْ هَذِهِ حِكَايَةُ قَوْلِ جُمْلَةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ. جُمْلَةُ مَا عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُرِيدُونَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَاَللَّهُ تَعَالَى إلَهٌ

وَاحِدٌ فَرْدٌ صَمَدٌ لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وَكَمَا قَالَ {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] وَأَنَّ لَهُ عَيْنَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] وَأَنَّ لَهُ وَجْهًا كَمَا قَالَ {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] وَأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ لَا يُقَالُ إنَّهَا غَيْرُ اللَّهِ كَمَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَأَقَرُّوا أَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا كَمَا قَالَ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] وَكَمَا قَالَ: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11] وَأَثْبَتُوا السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَلَمْ يَنْفُوا ذَلِكَ عَنْ اللَّهِ كَمَا نَفَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَأَثْبَتُوا لِلَّهِ الْقُوَّةَ كَمَا قَالَ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] وَقَالُوا إنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ خَيْرٍ وَلَا شَرٍّ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَأَنَّ الْأَشْيَاءَ تَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] . وَلَمَّا قَالَ الْمُسْلِمُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَا يَكُونُ وَقَالُوا إنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ يَكُونُ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ أَوْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ وَأَقَرُّوا أَنَّهُ لَا خَالِقَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَنَّ الْعِبَادَ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَخْلُقُوا شَيْئًا وَأَنَّ اللَّهَ وَفَّقَ الْمُؤْمِنِينَ لِطَاعَتِهِ وَخَذَلَ الْكَافِرِينَ وَلَطَفَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَأَصْلَحَهُمْ وَهَدَاهُمْ وَلَمْ يَلْطُفْ بِالْكَافِرِينَ وَلَا أَصْلَحَهُمْ وَلَا هَدَاهُمْ وَلَوْ أَصْلَحَهُمْ لَكَانُوا صَالِحِينَ وَلَوْ هَدَاهُمْ لَكَانُوا مُهْتَدِينَ وَأَنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ أَنْ يُصْلِحَ الْكَافِرِينَ وَيَلْطُفَ بِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونُوا كَافِرِينَ. كَمَا عَلِمَ وَأَخْذَلَهُمْ وَلَمْ يُصْلِحْهُمْ وَطَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدْرِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدْرِهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ حُلْوِهِ وَمُرِّهِ وَيُؤْمِنُونَ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ كَمَا قَالَ وَيُلْجِئُونَ أَمْرَهُمْ إلَى اللَّهِ وَيُثْبِتُونَ الْحَاجَةَ إلَى اللَّهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَالْفَقْرَ إلَى اللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍّ وَيَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.

الكلام في الوقف واللفظ

[الْكَلَامُ فِي الْوَقْفِ وَاللَّفْظِ] ِ مَنْ قَالَ بِاللَّفْظِ أَوْ بِالْوَقْفِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ عِنْدَهُمْ لَا يُقَالُ اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَلَا يُقَالُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَيَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ يُرَى بِالْأَبْصَارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يُرَى الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وَلَا يَرَاهُ الْكَافِرُونَ لِأَنَّهُمْ عَنْ اللَّهِ مَحْجُوبُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] وَإِنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَأَلَ اللَّهَ الرُّؤْيَةَ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّ اللَّهَ تَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَجَعَلَهُ دَكًّا فَأَعْلَمهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ فِي الدُّنْيَا بَلْ يَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ يَرْتَكِبُهُ كَنَحْوِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَهُمْ بِمَا مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ مُؤْمِنُونَ وَإِنْ ارْتَكَبُوا الْكَبَائِرَ. وَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِالْقَدْرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ وَمَا أَخْطَأَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُمْ وَمَا أَصَابَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُمْ وَالْإِسْلَامُ أَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَالْإِسْلَامُ عِنْدَهُمْ غَيْرُ الْإِيمَانِ وَيُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ يُقِرُّونَ بِشَفَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهَا لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ وَأَنَّ الْحَشْرَ حَقٌّ وَالصِّرَاطَ حَقٌّ وَالْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ حَقٌّ وَالْمُحَاسَبَةَ مِنْ اللَّهِ لِلْعِبَادِ حَقٌّ وَالْوُقُوفَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ حَقٌّ وَيُقِرُّونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَلَا يَقُولُونَ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَيَقُولُونَ أَسْمَاءُ اللَّهِ هِيَ اللَّهُ وَلَا يَشْهَدُونَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ بِالنَّارِ وَلَا يَحْكُمُونَ بِالْجَنَّةِ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُوَحِّدِينَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ يُنْزِلُهُمْ حَيْثُ شَاءَ وَيَقُولُونَ أَمْرُهُمْ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخْرِجُ قَوْمًا مِنْ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ النَّارِ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُنْكِرُونَ الْجَدَلَ وَالْمِرَاءَ فِي الدِّينِ وَالْخُصُومَةَ فِي الْقَدْرِ وَالْمُنَاظَرَةَ فِيمَا يَتَنَاظَرُ فِيهِ أَهْلُ الْجَدَلِ وَيَتَنَازَعُونَ فِيهِ مِنْ دِينِهِمْ بِالتَّسْلِيمِ لِلرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ وَلِمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ الَّتِي رَوَاهَا الثِّقَاتُ عَدْلًا عَنْ عَدْلٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَا يَقُولُونَ كَيْفَ وَلَا لِمَ لِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ وَيَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ بِالشَّرِّ بَلْ نَهَى عَنْهُ وَأَمَرَ بِالْخَيْرِ وَلَمْ يَرْضَ بِالشَّرِّ وَإِنْ كَانَ مُرِيدًا لَهُ وَيَعْرِفُونَ حَقَّ السَّلَفِ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَيَأْخُذُونَ بِفَضَائِلِهِمْ وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ وَيُقَدِّمُونَ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ ثُمَّ عُثْمَانَ ثُمَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَيُقِرُّونَ أَنَّهُمْ الْخُلَفَاءُ

الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ أَفْضَلُ النَّاسِ كُلِّهِمْ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُصَدِّقُونَ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ كَمَا جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَأْخُذُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. كَمَا قَالَ اللَّهُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وَيَرَوْنَ اتِّبَاعَ مَنْ سَلَف مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَأَنْ لَا يَبْتَدِعُوا فِي دِينِهِمْ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَيُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] وَأَنَّ اللَّهَ يَقْرَبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ كَمَا قَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] . وَيَرَوْنَ الْعِيدَ وَالْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ خَلْفَ كُلِّ إمَامٍ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَيُثْبِتُونَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ سُنَّةً وَيَرَوْنَهُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَيُثْبِتُونَ فَرْضَ الْجِهَادِ لِلْمُشْرِكِينَ مُنْذُ بُعِثَ نَبِيُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى آخِرِ عِصَابَةٍ تُقَاتِلُ الدَّجَّالُ وَبَعْدَ ذَلِكَ. وَيَرَوْنَ الدُّعَاءَ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّلَاحِ وَأَنْ لَا يَخْرُجُوا عَلَيْهِمْ بِالسَّيْفِ وَأَنْ لَا يُقَاتِلُوا فِي الْفِتْنَةِ وَيُصَدِّقُوا بِخُرُوجِ الدَّجَّالِ وَأَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يَقْتُلُهُ وَيُؤْمِنُونَ بِمُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ وَالْمِعْرَاجَ وَالرُّؤْيَا فِي الْمَنَامِ وَأَنَّ الدُّعَاءَ لِمَوْتَى الْمُسْلِمِينَ وَالصَّدَقَةَ عَنْهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ تَصِلُ إلَيْهِمْ وَيُصَدِّقُونَ بِأَنَّ فِي الدُّنْيَا سَحَرَةً وَأَنَّ السَّاحِرَ كَافِرٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ وَأَنَّ السِّحْرَ كَائِنٌ مَوْجُودٌ فِي الدُّنْيَا وَيَرَوْنَ الصَّلَاةَ عَلَى كُلِّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مُؤْمِنِهِمْ وَفَاجِرِهِمْ وَمُوَارَاتِهِمْ وَيُقِرُّونَ بِأَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ وَأَنَّ مَنْ مَاتَ مَاتَ بِأَجَلِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ قُتِلَ قُتِلَ بِأَجَلِهِ وَأَنَّ الْأَرْزَاقَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى يَرْزُقُهَا عِبَادَهُ حَلَالًا كَانَتْ أَوْ حَرَامًا وَأَنَّ الشَّيْطَانَ يُوَسْوِسُ لِلْإِنْسَانِ وَيُشَكِّكُهُ وَيَخْبِطُهُ وَأَنَّ الصَّالِحِينَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِآيَاتٍ تَظْهَرُ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ وَأَنَّ الْأَطْفَالَ أَمْرُهُمْ إلَى اللَّه تَعَالَى إنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ فَعَلَ بِهِمْ مَا أَرَادَ عَالِمٌ مَا الْعِبَادُ عَامِلُونَ وَكَتَبَ أَنَّ ذَلِكَ يَكُون وَأَنَّ الْأُمُورَ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَرَوْنَ الصَّبْرَ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَالْأَخْذَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَالِانْتِهَاءَ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَإِخْلَاصَ الْعَمَلِ وَالنَّصِيحَةَ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَدِينُونَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَابِدِينَ وَالنَّصِيحَةَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَاجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ وَالزِّنَا وَقَوْلِ الزُّورِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْفَخْرِ

وَالْكِبْرِ وَالِازْدِرَاءِ عَلَى النَّاسِ وَالْعُجْبِ وَيَرَوْنَ مُجَانَبَةَ كُلِّ دَاعٍ إلَى بِدْعَةٍ، وَالتَّشَاغُلَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَكِتَابَةَ الْآثَارِ، وَالنَّظَرَ فِي الْفِقْهِ مَعَ التَّوَاضُعِ وَالِاسْتِكَانَةِ وَحُسْنَ الْخُلُقِ وَبَذْلَ الْمَعْرُوفِ وَكَفَّ الْأَذَى وَتَرْكَ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالسِّعَايَةِ وَنَفَقَةَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ. وَقَالَ فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ وَيَسْتَعْمِلُونَهُ وَيَرَوْنَهُ وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ نَقُولُ وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ وَمَا تَوْفِيقُنَا إلَّا بِاَللَّهِ وَهُوَ حَسْبُنَا وَبِهِ نَسْتَعِينُ وَعَلَيْهِ نَتَوَكَّلُ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ. قَالَ: فَأَمَّا أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَيُثْبِتُونَ أَنَّ الْبَارِيَ لَمْ يَزَلْ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا سَمِيعًا بَصِيرًا عَزِيزًا عَظِيمًا جَلِيلًا كَبِيرًا كَرِيمًا مُرِيدًا مُتَكَلِّمًا جَوَادًا وَيُثْبِتُونَ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالْحَيَاةَ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْعَظَمَةَ وَالْجَلَالَ وَالْكِبْرِيَاءَ وَالْإِرَادَةَ وَالْكَلَامَ صِفَاتٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَقَالَ وَيَقُولُونَ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ لَا يُقَالُ هِيَ غَيْرُهُ وَلَا يُقَالُ إنَّ عِلْمَهُ غَيْرُهُ. كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّةُ وَلَا يُقَالُ إنَّ عِلْمَهُ هُوَ هُوَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ فَذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّ أَصْحَابَ ابْنِ كِلَابٍ يَقُولُونَ بِأَكْثَرِ قَوْلِ أَهْلِ الْحَدِيث وَأَنَّ لَهُمْ زِيَادَةً أُخْرَى وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَنْقُصُونَ عَنْ أَقْوَالِهِمْ فَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ كِلَابٍ فِي الْقُرْآنِ فَلَمْ يَذْكُرْهُ الْأَشْعَرِيُّ إلَّا عَنْهُ وَحْدَهُ وَجَعَلَ لَهُ تَرْجَمَةً فَقَالَ: وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِلَابٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كِلَابٍ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ صِفَةٌ لَهُ قَائِمَةٌ بِهِ وَإِنَّهُ قَدِيمٌ بِكَلَامِهِ وَإِنَّ كَلَامَهُ قَائِمٌ بِهِ كَمَا إنَّ الْعِلْمَ قَائِمٌ بِهِ وَالْقُدْرَةَ قَائِمَةٌ بِهِ وَهُوَ قَدِيمٌ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ وَلَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَجَزَّأُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَغَايَرُ وَإِنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّ الرَّسْمَ هُوَ الْحُرُوفُ الْمُتَغَايِرَةُ وَهُوَ قِرَاءَةُ الْقَارِئِ وَإِنَّهُ خَطَأٌ أَنْ يُقَالَ كَلَامُ اللَّهِ هُوَ هُوَ أَوْ بَعْضُهُ أَوْ غَيْرُهُ وَإِنَّ الْعِبَارَاتِ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ تَخْتَلِفُ وَتَتَغَايَرُ وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمُخْتَلِفٍ وَلَا مُتَغَايِرٍ كَمَا إنَّ ذِكْرَنَا لِلَّهِ يَخْتَلِفُ وَيَتَغَايَرُ وَالْمَذْكُورُ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَغَايَرُ وَإِنَّمَا سُمِّيَ كَلَامُ اللَّهِ عَرَبِيًّا لِأَنَّ الرَّسْمَ الَّذِي هُوَ الْعِبَارَةُ عَنْهُ وَهُوَ قِرَاءَتُهُ عَرَبِيٌّ فَسُمِّيَ عَرَبِيًّا لِعِلَّةٍ وَكَذَلِكَ سُمِّيَ عِبْرَانِيَّا وَكَذَلِكَ سُمِّيَ أَمْرًا لِعِلَّةٍ وَسُمِّيَ نَهْيًا لِعِلَّةٍ وَخَبَرِ الْعِلَّةِ وَلَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا قَبْلَ أَنْ يُسَمَّى كَلَامُهُ أَمْرًا وَقَبْلَ وُجُودِ الْعِلَّةِ الَّتِي بِهَا سُمِّيَ كَلَامُهُ أَمْرًا وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَسْمِيَته نَهْيًا وَخَبَرًا وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْبَارِي لَمْ يَزَلْ مُخْبِرًا وَكَذَلِكَ لَمْ يَزَلْ نَاهِيًا.

فَهَذِهِ حِكَايَةُ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ ابْنِ كِلَابٍ أَنَّهُ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَإِنَّ كَلَامَهُ صِفَةٌ لَهُ قَائِمٌ بِهِ كَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصِّفَاتِ الَّتِي يُثْبِتُهَا لِلَّهِ تَعَالَى هِيَ عِنْدَهُ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِاَللَّهِ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَأَمَّا الْجَهْمِيَّةُ الْمَحْضَةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فَعِنْدَهُمْ لَا يَقُومُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَا غَيْرِهَا بَلْ كُلُّ مَا يُضَافُ إلَيْهِ فَإِنَّمَا يَعُودُ مَعْنَاهُ إلَى أَمْرٍ مَخْلُوقٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ كَمَا قَالُوهُ فِي الْكَلَامِ. وَلَمَّا قَالَ أُولَئِكَ لِهَؤُلَاءِ إنَّ الْحُرُوفَ لَا تَكُونُ إلَّا مُتَعَاقِبَةً وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَخَارِجَ وَكِلَاهُمَا يَمْنَعُ قِدَمَهَا قَالَ لَهُمْ هَؤُلَاءِ هَذَا بِعَيْنِهِ وَارِدٌ فِي الْمَعْنَى فَإِنَّ الْمَعَانِيَ مُطَابِقَةٌ لِلْحُرُوفِ فِي التَّرْتِيبِ وَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ إلَى مَحِلٍّ كَافْتِقَارِ الْحُرُوفِ فَمَا قِيلَ فِي أَحَدِهِمَا قِيلَ فِي الْآخَرِ. وَلَمَّا زَعَمَ أُولَئِكَ أَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ قَالَ هَؤُلَاءِ إنْ جَازَ أَنْ يُعْقَلَ أَنَّ الْمَعَانِيَ الْمُتَنَوِّعَةَ تَعُودُ إلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ جَازَ أَنْ يُعْقَلَ أَنَّ الْحُرُوفَ الْمُتَنَوِّعَةَ تَعُودُ إلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَقَالُوا لَهُمْ أَيْضًا التَّرْتِيبُ نَوْعَانِ تَرْتِيبٌ ذَاتِيٌّ وَتَرْتِيبٌ وُجُودِيٌّ فَالْأَوَّلُ كَتَرْتِيبِ الْعِلْمِ عَلَى الْحَيَاةِ وَالْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ التَّامَّةِ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَسَرُّوا قَوْلَهُمْ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ سَوَاءٌ قَالُوا إنَّهُ مَعْنًى أَوْ هُوَ حُرُوفٌ أَوْ هُوَ مَعْنًى وَحَرْفٌ. يَقُولُونَ إنَّ الْمَخْلُوقَ هُوَ الْمُحْدَثُ وَهُوَ مَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى مُنْفَصِلًا عَنْهُ وَإِنَّهُ مَا ثَمَّ إلَّا قَدِيمٌ أَوْ مَخْلُوقٌ وَمَا كَانَ قَدِيمًا فَإِنَّهُ لَازِمٌ لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يَكُونُ فِعْلًا لَهُ وَمَا كَانَ مُحْدَثًا فَهُوَ الْمَخْلُوقُ الْمُنْفَصِلُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يَقُومُ عِنْدَهُمْ بِذَاتِ اللَّهِ فِعْلٌ وَلَا كَلَامٌ وَلَا إرَادَةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَيَقُولُونَ لَا تَحُلُّ الْحَوَادِثُ بِذَاتِهِ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَلَا فِعْلٌ حَادِثٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ يَتَأَوَّلُونَ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا كَقَوْلِهِ {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] ثُمَّ اسْتَوْلَى إلَى السَّمَاءِ، وَكَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالنُّزُولِ وَغَضَبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرِضَاهُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَتَكْلِيمِهِ لِمُوسَى وَلِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَكَلُّمِهِ بِالْوَحْيِ إذَا تَكَلَّمَ بِهِ فَسَمِعَتْهُ الْمَلَائِكَةُ. وَهَؤُلَاءِ جَمِيعًا يَحْتَجُّونَ عَلَى قِدَمِ الْقُرْآنِ بِحُجَّتِهِمْ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ

الْمَذْهَبِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الْأَشْعَرِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَقِيلٍ وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزَّاغُونِيِّ وَغَيْرُهُمْ وَهِيَ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي بَيَانِ أَصْلِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى عَنْ أَبِي الْمَعَالِي لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ صَاغَهَا عَلَى وَجْهٍ يَدْفَعُ بِهَا بَعْضَ الْأَسْئِلَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ وَنُبَيِّنُ أَنَّهُ بَنَاهَا عَلَى امْتِنَاعِ حُلُولِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَاهُنَا كَمَا ذَكَرَهَا هَؤُلَاءِ فَإِنَّ هَذَا مَشْهُورٌ فِي كَلَامِهِمْ كُلِّهِمْ وَقَدْ اعْتَرَفَ أَصْحَابُ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ هِيَ عُمْدَتُهُ وَعُمْدَةُ غَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ وَابْنِ فُورَكٍ وَأَبِي مَنْصُورٍ عَلَى قِدَمِ الْكَلَامِ قَالَ لَوْ كَانَ كَلَامُ الْبَارِي حَادِثًا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَقُومَ بِذَاتِ الْبَارِي تَعَالَى فَيَكُونَ مَحِلًّا لِلْحَوَادِثِ بِمَثَابَةِ الْجَوَاهِرِ أَوْ يَحْدُثَ لَا فِي مَحِلٍّ وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ مَا لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّ نَفْسَ الْمَحِلِّ نَفَى اخْتِصَاصَهُ إذْ لَيْسَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ سُبْحَانَهُ أَوْلَى مِنْ اخْتِصَاصِهِ بِغَيْرِهِ وَإِنْ حَدَثَ فِي مَحِلٍّ آخَرَ وَقَامَ بِهِ كَانَ كَلَامًا لِذَلِكَ الْمَحِلِّ وَكَانَ الْمَحِلُّ بِهِ مُتَكَلِّمًا آمِرًا نَاهِيًا لِأَنَّ كُلَّ قَائِمٍ بِمَحِلٍّ اخْتَصَّ بِهِ اخْتِصَاصًا يَجِبُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ عِنْدَ الْعِبَارَةِ بِأَخَصِّ أَوْصَافِهِ يُشْتَقُّ لَهُ أَوْ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي الْمَحِلُّ مِنْهَا وَصْفٌ مِنْهُ إمَّا مِنْ أَخَصِّ وَصْفِهِ أَوْ أَعَمِّ أَوْصَافِهِ أَوْ مِنْ مَعْنَاهُ أَوْ يَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَيْهِ بِأَخَصِّ وَصْفه فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَطَلَ أَنْ يَخْلُقَ كَلَامَهُ فِي مَحِلٍّ وَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ بَطَلَ كَوْنُهُ حَادِثًا. وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الْقَاضِيَانِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَقِيلٍ وَأَبُو الْحَسَنِ الزَّاغُونِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ قَالَ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي الْمَعْقُولُ وَفِيهِ أَدِلَّةٌ نَذْكُرُ مِنْهَا الْجَلِيَّ مِنْ مُعْتَمَدَاتِهَا فَمِنْ ذَلِكَ تَقُولُ لَوْ كَانَ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقًا لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا فِي مَحِلٍّ أَوْ لَا فِي مَحِلٍّ فَإِنْ كَانَ فِي مَحِلٍّ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَحِلُّهُ ذَاتَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ أَوْ ذَاتًا غَيْرَ ذَاتِهِ مَخْلُوقَةً وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي ذَاتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَ ذَاتِهِ تَعَالَى مَحِلًّا لِلْحَوَادِثِ وَهَذَا مُحَالٌ اتَّفَقَتْ الْأَئِمَّةُ قَاطِبَةً عَلَى إحَالَتِهِ وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ فِي مَحِلٍّ هُوَ ذَاتٌ غَيْرُ ذَاتِهِ تَعَالَى لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا لِتِلْكَ الذَّاتِ وَلَا يَكُونُ كَلَامًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا لِلَّهِ تَعَالَى يُقَالُ لَهُ كَلَامُهُ وَصِفَتُهُ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ مِثْلُ الْكَوْنِ وَاللَّوْنِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالْإِرَادَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى بُطْلَانِهِ.

وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ لَا فِي مَحِلٍّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْكَلَامَ صِفَةٌ وَالصِّفَاتُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَحِلٍّ تَقُومُ بِهِ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ كَلَامُ اللَّهِ لَا فِي مَحِلٍّ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ إرَادَةٌ وَحَرَكَةٌ وَشَهْوَةٌ وَفِعْلٌ وَلَوْنٌ لَا فِي مَحِلٍّ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ إحَالَتُهُ قَطْعًا وَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ثُمَّ قَالَ قَالُوا قَدْ وَصَفَ الْبَارِيَ بِأَشْيَاءَ حَدَثَتْ فِي غَيْرِهِ أَلَا نَرَى أَنَّا نَصِفُهُ بِأَنَّهُ مُحْسِنٌ بِإِحْسَانٍ أَحْدَثَهُ فِي حَقِّ عِبَادِهِ وَنَصِفُهُ بِأَنَّهُ كَاتِبٌ لِوُجُودِ كِتَابِهِ أَحْدَثَهَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَمَا كَانَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هَهُنَا مِثْلَهُ قُلْنَا الْإِحْسَانُ صِفَةٌ قَائِمَة بِنَفْسِ الْمُحْسِنِ وَلَيْسَ تَوَقُّفُ وَصْفِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى وُجُودِ الْإِحْسَانِ مِنْهُ وَإِذَا ظَهَرَ إحْسَانُهُ عَلَى خَلْقِهِ كَانَ ذَلِكَ أَثَرَ وَصْفِهِ بِالْإِحْسَانِ لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ هُوَ صِفَتُهُ وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ صَانِعٌ فَإِنَّهُ يُوصَفُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِحَقِيقَةِ الْمَصْنُوعِ لَا أَنَّ الصِّفَةَ هِيَ الْمَصْنُوعُ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي وَصْفِهِ بِأَنَّهُ كَاتِبٌ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَجْرِي مَجْرَى الصَّنْعَةِ فِي أَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ بِكَيْفِيَّاتِ الْمُنْفَعِلِ فِي إيجَادِ فِعْلِهِ وَذَلِكَ أَمْرٌ غَيْرُ الْمَصْنُوعِ وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ. قُلْت هَذَا الِالْتِزَامُ بِالْمُحْسِنِ وَالْكَاتِبِ وَالْعَادِلِ وَالْخَالِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ إلْزَامُ مَشْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ، بَاطِنُهُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْكَلَامُ فَأَلْزَمُوهُمْ أَسْمَاءَ الْأَفْعَالِ وَهَذَا السُّؤَالُ هُوَ الَّذِي ضَعْضَعَ هَذِهِ الْحُجَّةَ عِنْدَ أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ وَالرَّازِيِّ وَغَيْرِهِمْ لِمَا أَلْزَمهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ بِذَلِكَ وَلِهَذَا عَدَلَ عَنْهَا أَبُو الْمَعَالِي إلَى أَنْ قَالَ قَدْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامِهِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ضَرْبٍ مِنْ الِاخْتِصَاصِ فِي إضَافَةِ الْكَلَامِ إلَيْهِ ثُمَّ الِاخْتِصَاصُ: إمَّا اخْتِصَاصُ قِيَامٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اخْتِصَاصَ فِعْلٍ بِفَاعِلٍ. وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ خَلْقِ الْأَجْسَامِ وَأَنْوَاعِ الْأَعْرَاضِ وَبَيْنَ خَلْقِ الْكَلَامِ فِي أَنَّهُ لَا يُرْجَعُ إلَى الْقَدِيمِ سُبْحَانَهُ صِفَةٌ حَقِيقَةٌ مِنْ جَمِيعِ مَا خَلَقَهُ قُلْت فَهُوَ فِي هَذَا لَمْ يَلْتَزِمْ أَنَّ الصِّفَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحِلٍّ عَادَ حُكْمُهَا عَلَى ذَلِكَ الْمَحِلِّ لِئَلَّا تَرِدَ عَلَيْهِ الْمُعَارِضَاتُ لَكِنْ قَالَ يَزُولُ الِاخْتِصَاصُ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْحَقِيقَةِ يَسْتَلْزِمُ لِذَلِكَ وَمَلْزُومٌ لَهُ فَإِنَّ الْكَلَامَ لَهُ اخْتِصَاصٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِفَاعِلِهِ كَانَ بِمَحِلِّهِ وَالْمُعَارِضَاتُ وَارِدَةٌ لَا مَحَالَةَ وَأَجَابَ غَيْرُهُ عَنْ اسْمِ الْعَادِلِ وَالْمُحْسِنِ وَنَحْوِهِمَا بِأَنْ قَالُوا الْعَادِلُ مِنْ تَمَامِ الْأَسْمَاءِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ فَاعِلُ الْعَدْلِ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْعَدْلِ بِالْعَادِلِ مِنَّا لَا مِنْ حَيْثُ كَانَ

فَاعِلًا لِلْعَدْلِ، بَلْ لِخُصُوصِ وَصْفِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَإِنَّ الْعَدْلَ قَدْ يَكُونُ حَرَكَةً أَوْ سُكُونًا أَوْ نَحْوَهُمَا، فَمِنْ ذَلِكَ الْوَجْهُ يَجِبُ قِيَامُهُ بِهِ وَكُلُّ مَعْنًى لَهُ ضِدٌّ فَشَرْطُ قِيَامِهِ بِالْمَوْصُوفِ بِهِ وَاَلَّذِي يُسَمَّى عَدْلًا فِينَا مِنْ الْأَفْعَالِ فَلَهُ ضِدٌّ وَهُوَ الْجَوْرُ، فَمِنْ ذَلِكَ يَجِبُ قِيَامُهُ بِالْفَاعِلِ مِنَّا قُلْت هَذِهِ فُرُوقٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا عِنْدَ التَّأَمُّلِ فَإِنَّ قِيَامَ الْكَلَامِ بِالْمُتَكَلِّمِ كَقِيَامِ الْفِعْلِ بِالْفَاعِلِ سَوَاءٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لَا فِي الْمُشَاهَدِ وَلَا فِي اللُّغَةِ وَالِاشْتِقَاقِ وَلَا فِي الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ وَلِهَذَا عَدَلَ الرَّازِيّ عَنْ تَقْرِيرِ الطَّرِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ مِنْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ إذَا كَانَتْ تَحْتَاجُ إلَى هَذِهِ الْمُقَدَّمَةِ وَإِلَى نَفْيِ جَوَازِ كَوْنِهِ مَحِلًّا لِلْحَوَادِثِ وَأَثْبَتَ ذَلِكَ بِطَرِيقَةٍ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَهِيَ الْإِجْمَاعُ الْجَدَلِيُّ الْمُرَكَّبُ وَالْمُعْتَزِلَةُ طَرَدُوا هَذَا الْأَصْلَ الْفَاسِدَ لَهُمْ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْقَدْرِ فَجَعَلُوهُ مَوْصُوفًا بِمَفْعُولَاتِهِ الْقَائِمَةِ بِغَيْرِهِ حَتَّى قَالُوا مَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ فَهُوَ ظَالِمٌ وَمَنْ فَعَلَ السَّفَهَ فَهُوَ سَفِيهٌ وَمَنْ فَعَلَ الْكَذِبَ فَهُوَ كَاذِبٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ بَلْ الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَنْ قَامَتْ بِهِ هَذِهِ الْأَفْعَالُ لَا مَنْ جَهِلَهَا فِعْلًا لِغَيْرِهِ أَوْ قَائِمَةً بِغَيْرِهِ. وَالْأَشْعَرِيَّةُ عَجَزُوا عَنْ مُنَاظَرَتِهِمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَمَسَائِلِ الْقَدَرِ بِكَوْنِهِمْ سَلَّمُوا لَهُ أَنَّ الرَّبَّ لَا تَقُومُ بِهِ صِفَةٌ فِعْلِيَّةٌ فَلَا يَقُومُ بِهِ عَدْلٌ وَلَا إحْسَانٌ وَلَا تَأْثِيرٌ أَصْلًا فَلَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا هُوَ مَوْصُوفٌ بِمَفْعُولَاتِهِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ قَائِمًا بِهِ وَيَكُونَ مُسَمًّى بِأَسْمَاءِ الْقَبَائِحِ الَّتِي خَلَقَهَا لَكِنْ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ كِلَابٍ يَقُولُ لَمْ يَزَلْ كَرِيمًا جَوَادًا فَهَذَا قَدْ يُجِيبُ عَنْ صِفَةِ الْإِحْسَانِ وَحْدَهَا بِذَلِكَ وَأَمَّا سَائِرُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَالشِّيعَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فَيَقُولُونَ إنَّ الرَّبَّ تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ فَيَتَّصِفُ بِهِ طَرْدًا لِمَا ذُكِرَ فِي الْكَلَامِ وَأَنَّ الْفَاعِلَ مَنْ قَامَ بِهِ الْفِعْلُ فَالْعَادِلُ وَالْمُحْسِنُ مَنْ قَامَ بِهِ الْعَدْلُ وَالْإِحْسَانُ كَمَا أَشَرْنَا إلَى هَذَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَبِهَذَا أَجَابَ الْقَاضِي وَابْنُ الْحَسَنِ وَابْنُ الزَّاغُونِيِّ وَغَيْرُهُمْ فَجَوَابُ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ جَيِّدٌ لَكِنَّ تَنَازُعَ هَؤُلَاءِ هَلْ مَا يَقُومُ بِهِ يَمْتَنِعُ تَعَلُّقُهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؟ فَالْقَاضِي وَابْنُ الزَّاغُونِيِّ وَغَيْرُهُمْ مَشَوْا عَلَى أَصْلِهِمْ فِي امْتِنَاعِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَلَكِنَّ تَفْسِيرَهُمْ لِلصَّانِعِ وَالْكَاتِبِ بِالْعَالَمِ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَإِنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ تُفَسَّرَ الْأَفْعَالُ بِالْعِلْمِ قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْجَمِيعِ فَبَطَلَ الْأَصْلُ بَلْ الْكِتَابَةُ وَالصَّنْعَةُ فِعْلٌ يَقُومُ بِهِ وَإِنْ اسْتَلْزَمَ الْعِلْمَ وَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ

وَقُدْرَتِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْكَلَامِ وَالْأَفْعَالِ وَقَدْ ظَنَّ مَنْ ذُكِرَ مِنْ هَؤُلَاءِ كَأَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِيِّ أَنَّ الْأُمَّةَ قَاطِبَةً اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّهُ لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ وَجَعَلُوا ذَلِكَ الْأَصْلَ الَّذِي اعْتَمَدُوهُ وَهَذَا مَبْلَغَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَهَذَا الْإِجْمَاعُ نَظِيرُ غَيْرِهِ مِنْ الْإِجْمَاعَاتِ الْبَاطِلَةِ الْمُدَّعَاةِ فِي الْكَلَامِ وَنَحْوِهِ وَمَا أَكْثَرَهَا فَمَنْ تَدَبَّرَهَا وَجَدَ عَامَّةَ الْمَقَالَاتِ الْفَاسِدَةِ يَبْنُونَهَا عَلَى مُقَدِّمَاتِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِإِجْمَاعٍ مُدَّعًى أَوْ قِيَاسٍ وَكِلَاهُمَا عِنْدَ التَّحْقِيقِ يَكُونُ بَاطِلًا. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ بَعْضَ مُتَكَلِّمَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ يَدَّعُونَ مِثْلَ هَذَا الْإِجْمَاعِ مَعَ النُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ عَنْ أَصْحَابِهِمْ بِنَقِيضِ ذَلِكَ بَلْ عَنْ إمَامِهِمْ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ حَتَّى فِي لَفْظِ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَقَدْ أَثْبَتَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِثْلُ ابْنِ حَامِدٍ وَغَيْرِهِ وَقَدْ ذَكَرَ إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى ذَلِكَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورِينَ فَلْيَتَدَبَّرْ الْعَاقِلُ مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ مِنْ الِاضْطِرَابِ وَلْيَحْمَدْ اللَّهَ عَلَى الْهِدَايَةِ وَلْيَقُلْ {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] . وَلَكِنْ نَعْرِفُ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ تُبَيِّنُ فَسَادَ قَوْلِ الْجَهْمِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ خَلَقَ اللَّهُ كَلَامَهُ فِي مَحِلٍّ فَمَا ذَكَرُوهُ يُبَيِّنُ فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي اتَّفَقَتْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى ضَلَالَةِ قَائِلِهِ بَلْ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالْإِضْرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَكِنَّ هَذَا يَسْلَمُ وَيَطَّرِدُ لِمَنْ جَعَلَ الْأَفْعَالَ قَائِمَةً بِهِ وَجَعَلَ صِفَةَ التَّكْوِينِ قَائِمَةً بِهِ. وَلِهَذَا انْتَقَضْت عَلَى الْأَشْعَرِيَّةِ دُونَ الْجُمْهُورِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَائِمٌ بِهِ وَهَذَا حَقٌّ وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَا شَاءَ فَهَذَا لَا يَصِحُّ إلَّا بِمَا ابْتَدَعَتْهُ الْجَهْمِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِمْ لَا يَتَحَرَّكُ وَلَا تَحِلُّ بِهِ الْحَوَادِثُ وَبِذَلِكَ نَفَوْا أَنْ يَكُونَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَوِيًا وَأَنْ يَجِيءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَمَّا قَوْلُ هَؤُلَاءِ لَوْ خَلَقَهُ فِي نَفْسِهِ لَكَانَتْ ذَاتُهُ مَحِلًّا لِلْحَوَادِثِ فَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ لَا يَقُولُونَ إنَّهُ يَخْلُقُ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا إذْ الْخَلْقُ هُوَ فِعْلٌ أَيْضًا قَائِمٌ بِهِ عِنْدَهُمْ بِمَشِيئَتِهِ فَلَا يَكُونُ لِلْخَلْقِ خَلْقٌ آخَرُ وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ وَالتَّسَلْسُلُ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ إنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ بَلْ كُلُّ مَنْ قَالَ إنَّ

كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ يَخْلُقُهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ وَالسَّلَفُ عَلِمُوا أَنَّ هَذَا مُرَادُهُمْ فَجَعَلُوا يُبَيِّنُونَ فَسَادَ ذَلِكَ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ وَلَا يَكُونُ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ وَقَوْلُهُمْ كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنٍ عَنْهُ وَقَوْلُ أَحْمَدَ لِمَنْ سَأَلَهُ أَلَيْسَ كَلَامُك مِنْك قَالَ بَلَى فَكَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ فَلَوْ أَنَّ الْمُحْتَجَّ قَالَ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُقُ فِي ذَاتِهِ شَيْئًا لَكَانَ هَذَا كَلَامًا صَحِيحًا فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُطْلِقْ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَخْلُقُ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا فِيمَا أَعْلَمُ بِخِلَافِ اللَّفْظِ الَّذِي ادَّعَاهُ فَإِنَّ النِّزَاعَ فِيهِ مِنْ أَشْهَرِ الْأُمُورِ وَاَلَّذِينَ أَثْبَتُوا ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ الَّذِينَ نَفَوْهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ جَمِيعًا. وَلَكِنَّ اتِّفَاقَ الْأُمَّةِ فِيمَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْلُقُ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا يُبْطِلُ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدِيمٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَعَلَّ هَذِهِ حُجَّةُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيُّ وَلِهَذَا النِّزَاعِ الْعَظِيمِ بَيْنَ الَّذِينَ يَقُولُونَ هُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ مُحْدَثٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَحْدَثَهُ فِي غَيْرِهِ وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ هُوَ قَدِيمٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ إذَا تَدَبَّرَهُ اللَّبِيبُ وَجَدَ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ إنَّمَا تُقِيمُ الْحُجَجَ عَلَى إبْطَالِ قَوْلِ خَصْمِهَا لَا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهَا أَمَّا الَّذِينَ يَنْفُونَ الْخَلْقَ عَنْهُمْ فَأَدِلَّتُهُمْ عَامَّتُهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْكَلَامِ بِهِ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ لَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ وَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ وَهُوَ مِنْ أُصُولِ السَّلَفِ الَّذِي بَيَّنُوا بِهِ فَسَادَ قَوْلِ الْجَهْمِيَّةِ وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا مَخْلُوقٌ فَلَيْسَ لَهُمْ حُجَّةٌ إلَّا مَا يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ كَوْنَهُ قَدِيمًا وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} [نوح: 1] {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [النساء: 163] وَ {أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ} [يونس: 13] لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَإِلَّا كَانَ كَذِبًا لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ الْمَاضِي. وَكَذَلِكَ إخْبَارُهُ عَنْ أَقْوَالِ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَمُخَاطَبَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِقَوْلِهِ قَالُوا وَقَالُوا كَذَلِكَ فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ مَجْعُولٌ عَرَبِيًّا وَإِنَّهُ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ وَهَذَا إخْبَارٌ بِفِعْلٍ مِنْهُ تَعَلَّقَ بِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ تَعَلُّقُهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ الْجَعْلَ فِعْلٌ مِنْ اللَّهِ غَيْرُ الْخَلْقِ كَمَا تَقَدَّمَ ذَكَرَ لَفْظَهُ وَقَدْ حَقَّقُوا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَنَّهُ جَعَلَهُ عَرَبِيًّا عَلَى وَجْهِ الِامْتِنَانِ عَلَيْنَا بِهِ وَالِامْتِنَانُ إنَّمَا يَكُونُ بِفِعْلِهِ الْمُتَعَلِّقِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَا بِالْأُمُورِ اللَّازِمَةِ لِذَاتِهِ وَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ أَجَابُوا بِجَوَابٍ ضَعِيفٍ كَقَوْلِ ابْنِ الزَّاغُونِيِّ جَعَلْنَاهُ أَيْ أَظْهَرْنَاهُ وَأَنْزَلْنَاهُ فَيُقَالُ لَهُمْ يَكْفِي فِي

ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا فَإِنَّهُ عِنْدَكُمْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْزِلَهُ وَيُظْهِرَهُ غَيْرَ عَرَبِيٍّ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ كَيْفَ يَمْتَنُّ بِتَرْكِ فِعْلِهِ وَإِنَّمَا الْمُمْكِنُ أَنْ يُنْزِلَهُ أَوْ لَا يُنْزِلَهُ أَمَّا أَنْ يُنْزِلَهُ عَرَبِيًّا وَغَيْرَ عَرَبِيٍّ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ عِنْدَهُمْ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: 44] فَعُلِمَ أَنَّ جَعْلَهُ عَجَمِيًّا كَانَ مُمْكِنًا وَعِنْدَهُمْ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَهَذَا أَيْضًا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْعِبَارَةَ مَخْلُوقَةً مُنْفَصِلَةً عَنْ اللَّهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ عَرَبِيًّا وَعَجَمِيًّا وَعِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي الْعِبَارَةِ الْمَخْلُوقَةِ لَا فِي نَفْسِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَعِنْدَهُمْ الْمَعْنَى الَّذِي عِبَارَتُهُ عَرَبِيَّةٌ هُوَ الَّذِي عِبَارَتُهُ سُرْيَانِيَّةٌ وَعِبْرَانِيَّةٌ فَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ هُوَ عَرَبِيٌّ لِكَوْنِ عِبَارَتِهِ كَذَلِكَ كَانَ كَلَامُ اللَّهِ هُوَ عَرَبِيٌّ عَجَمِيٌّ سُرْيَانِيٌّ عِبْرَانِيٌّ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَكِتَابُ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ يَقْدِرُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَرَبِيًّا وَأَنْ يَجْعَلَهُ عَجَمِيًّا وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِهِ لَيْسَ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ وَأَمَّا أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَطَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ خَالَفُوا الْمُعْتَزِلَةَ قَدِيمًا مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَالشِّيعَةِ ثُمَّ الْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فَيُخَالِفُونَ فِي ذَلِكَ وَيَجْعَلُونَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ الْقَائِمَةَ بِذَاتِهِ مُتَعَلِّقَةً بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَدْ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ كَمَا تَنَازَعَ غَيْرُهُمْ وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْهُمْ فِي الْمُقْنِعِ قَوْلَيْنِ. وَحَكَى الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ الْقَوْلَيْنِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَكِنَّ الْمَنْصُوصَ الصَّرِيحَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ يُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَلَامِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ فَإِنَّ بِأَوَّلًا لَمَا قَالَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ فَنَفَى الْمُسْتَقْبَلَ كَمَا نَفَى الْمَاضِيَ قَالَ أَحْمَدُ فَكَيْف يَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ» ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ وَالْخَوَارِجُ إذَا شَهِدَتْ عَلَى الْكَافِرِينَ فَقَالُوا لَمْ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقْنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أَتَرَاهَا نَطَقَتْ بِجَوْفٍ وَشَفَتَيْنِ وَفَمٍ وَلِسَانٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْطَقَهَا كَمَا شَاءَ فَكَذَلِكَ تَكَلُّمُ اللَّهِ كَيْفَ شَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقُولَ جَوْفٌ وَلَا فَمٌ وَلَا شَفَتَانِ وَلَا لِسَانٌ فَذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ كَيْفَ يَشَاءُ. وَمَنْ يَقُولُ بِالْأَوَّلِ يَقُولُ إنَّ تَكَلُّمَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ إذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ عِنْدَهُمْ

إلَّا الْمُحْدَثَ الَّذِي هُوَ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ «وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ قَالَ لَمَّا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ رَبِّهِ قَالَ يَا رَبِّ هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي سَمِعْته هُوَ كَلَامُك قَالَ نَعَمْ يَا مُوسَى هُوَ كَلَامِي وَإِنَّمَا كَلَّمْتُك بِقُوَّةِ عَشَرَةِ آلَافِ لِسَانٍ وَلِي قُوَّةُ الْأَلْسُنِ كُلِّهَا وَأَنَا أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا كَلَّمْتُك عَلَى قَدْرِ مَا تُطِيقُ بِذَلِكَ وَلَوْ كَلَّمْتُك بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمِتَّ قَالَ فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ قَالُوا صِفْ لَنَا كَلَامَ رَبِّك فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَهَلْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصِفَهُ لَكُمْ قَالُوا فَشَبِّهْ قَالَ أَسْمَعْتُمْ الصَّوَاعِقَ الَّتِي تُقْبِلُ فِي أَحْلَى حَلَاوَةٍ سَمِعْتُمُوهَا» فَكَأَنَّهُ مِثْلُهُ فَقَوْله إنَّمَا كَلَّمْتُك بِقُوَّةِ عَشَرَةِ آلَافِ لِسَانٍ أَيْ لُغَةٍ وَلِي قُوَّةُ الْأَلْسُنِ كُلِّهَا أَيْ اللُّغَاتُ كُلُّهَا وَأَنَا أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْكَلَامَ يَكُونُ بِقُوَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ أَقْوَى مِنْ كَلَامٍ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي قَوْلِ هَؤُلَاءِ كَمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ كَلَّمَهُ بِصَوْتٍ وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ الصَّوْتِ وَبِدُونِ ذَلِكَ الصَّوْتِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَقُلْنَا لِلْجَهْمِيَّةِ مَنْ الْقَائِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا عِيسَى وَقُلْنَا فَمَنْ الْقَائِلُ {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6] فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُمْ عَنْ تَكْلِيمِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ حَيْثُ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ تَكْلِيمٌ فِي الْمُسْتَقْبِلِ ثُمَّ لَمَّا قَالُوا إنَّمَا يَكُونُ شَيْئًا فَيُعَبِّرُ عَنْ اللَّهِ قَالَ قُلْنَا قَدْ أَعْظَمْتُمْ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ فَشَبَّهْتُمُوهُ بِالْأَصْنَامِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَكَلَّمُ وَلَا تَحَرَّكَ وَلَا تَزُولَ مِنْ مَكَان. فَقَدْ حَكَى عَنْهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ نَفْيَهُمْ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَتَكَلَّمَ أَوْ يَتَحَرَّكَ أَوْ يَزُولَ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان ثُمَّ إنَّهُ قَالَ فَلَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ قَالَ إنَّ اللَّهَ قَدْ يَتَكَلَّمُ وَلَكِنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَقُلْنَا كَذَلِكَ بَنُو آدَمَ كَلَامُهُمْ مَخْلُوقٌ فَقَدْ شَبَّهْتُمْ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِخَلْقِهِ حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَفِي مَذْهَبِكُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ التَّكَلُّمَ وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ كَانُوا لَا يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى خَلَقَ لَهُمْ كَلَامًا فَقَدْ جَمَعْتُمْ بَيْنَ كُفْرٍ وَتَشْبِيهٍ فَتَعَالَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ بَلْ نَقُولُ إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ كَانَ وَلَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ لَا يَعْلَمُ حَتَّى خَلَقَ فَعَلِمَ وَلَا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ قَدْ كَانَ وَلَا قُدْرَةَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ قُدْرَةً فَهَذَا مِنْ كَلَامِهِ يُبَيِّنُ أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَالُوا كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ أَرَادُوا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا حَتَّى خَلَقَ الْكَلَامَ إذْ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ قَدْ يَتَكَلَّمُ وَلَكِنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ إذْ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْقَائِمُ بِبَعْضِ الْأَجْسَامِ فَعِنْدَهُمْ تَكَلُّمُهُ مِثْلُ بَعْضِ الْأَعْيَانِ الْمَخْلُوقَةِ وَلِهَذَا يَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ ذَلِكَ مُتَكَلِّمًا.

فَرَدَّ أَحْمَدُ هَذَا بِأَنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ بِالْإِنْسَانِ الَّذِي كَانَ عَاجِزًا عَنْ التَّكَلُّمِ لِصِغَرِهِ حَتَّى خَلَقَ اللَّهُ لَهُ كَلَامًا فَمَنْ مَرَّ عَلَيْهِ وَقْتٌ وَهُوَ غَيْرُ مَوْصُوفٍ فِيهِ بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ إذَا شَاءَ مُقْتَدِرٌ عَلَى الْكَلَامِ كَانَ نَاقِصًا فَفِي ذَلِكَ كُفْرٌ بِجَحْدِ كَمَالِ الرَّبِّ وَصِفَتِهِ وَتَشْبِيهِهِ لَهُ بِالْإِنْسَانِ الْعَاجِزِ وَلِهَذَا قَالَ بَلْ نَقُولُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بَيْنَ كَوْنِهِ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَبَيْنَ كَوْنِ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِمَشِيئَتِهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَفْيُ التَّكَلُّمِ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَخْلُقَ التَّكَلُّمَ كَمَا لَا يَجُوزُ نَفْيُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالنُّورِ وَهَذَا هُوَ الْكَمَالُ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَتَكَلَّمَ الْمُتَكَلِّمُ إذَا شَاءَ فَأَمَّا الْعَاجِزُ عَنْ الْكَلَامِ فَهُوَ نَاقِصٌ قَبِيحٌ وَأَمَّا الَّذِي يَلْزَمُهُ الْكَلَامُ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَيْضًا عَاجِزًا نَاقِصًا كَاَلَّذِي يُصَوِّتُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَالْأَصْوَاتِ الدَّائِمَةِ الَّتِي تَلْزَمُ الْجَمَادَاتِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا مِثْلُ النَّوَاعِيرِ. وَلَمَّا أَقَامَ الْحُجَّةَ بِتَكْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى مُوسَى وَأَنَّهُ تَكَلَّمَ وَيَتَكَلَّمُ وَأَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى جَوْفٍ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ إذَا كَانَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَيَتَكَلَّمُ وَيُنْطِقُهَا اللَّهُ تَعَالَى بِدُونِ حَاجَةٍ إلَى ذَلِكَ فَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ أَوْلَى بِالْغِنَاءِ مِنْ الْمَخْلُوقِ إذْ كُلُّ مَا ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ صِفَةِ كَمَالٍ كَالْغِنَاءِ فَاَللَّهُ تَعَالَى أَوْلَى بِهِ فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ مَا اسْتَغْنَتْ عَنْهُ الْمَخْلُوقَاتُ فِي كَلَامِهَا. ذَكَرَ أَنَّ الْجَهْمَيْ لَمَا خَنَقَتْهُ الْحُجَجُ قَالَ إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى إلَّا أَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُهُ قُلْنَا غَيْرُهُ مَخْلُوقٌ، قَالَ نَعَمْ قُلْنَا هَذَا مِثْلُ قَوْلِكُمْ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّكُمْ تَدْفَعُونَ الشُّنْعَةَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ بِمَا تُظْهِرُونَ فَأَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ إطْلَاقَ الْغَيْرِ عَلَى الْقُرْآنِ حَتَّى اسْتَفْسَرَهُ مَا أَرَادَ بِهِ إذْ لَفْظُ الْغَيْرِ مُجْمَلٌ يُرَادُ بِهِ الَّذِي يُفَارِقُ الْآخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ إنَّهُ مَخْلُوقٌ، وَيُرَادُ بِهِ مَا لَا يَكُونُ هُوَ إيَّاهُ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ عَلَى الصِّفَةِ بِأَنَّهَا هِيَ الْمَوْصُوفُ أَوْ غَيْرُهُ، كَلَامٌ مُجْمَلٌ يُقْبَلُ بِوَجْهٍ وَيُرَدُّ بِوَجْهٍ، فَمَتَى أُرِيدَ بِالْغَيْرِ الْمُبَايَنَةَ لِلرَّبِّ كَانَ الْمَعْنَى فَاسِدًا وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِأَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ، كَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ يَتَمَسَّكُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَلَفْظُ الْغَيْرِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ فَإِذَا قَالَ هُوَ غَيْرُهُ فَقِيلَ لَهُ نَعَمْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إيَّاهُ، قَالَ وَمَا كَانَ غَيْرُ اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَغَيْرٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الثَّانِي إنَّمَا يَصِحُّ إذَا أُرِيدَ بِهَا مَا كَانَ بَائِنًا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَخْلُوقٌ فَيُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الْغَيْرِ فِي إحْدَى الْمُقَدَّمَتَيْنِ بِمَعْنًى وَفِي الْمُقَدَّمَةِ الْأُخْرَى بِمَعْنًى آخَرَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِجْمَالِ وَالِاشْتِرَاكِ فَلِهَذَا اسْتَفْسَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَلَمَّا فَسَّرَ مُرَادَهُ قَالَ فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ مَتَى قُلْت هُوَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ قُلْت بِأَنَّهُ خَلَقَ شَيْئًا فَعَبَّرَ عَنْهُ وَأَنَّهُ لَا تَكَلَّمَ وَلَا يَتَكَلَّمُ ثُمَّ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا

دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ تَكَلُّمِهِ فِي الْآخِرَةِ وَخِطَابِهِ لِلرُّسُلِ فَلَمَّا أَقَرُّوا بِنَفْيِ التَّكَلُّمِ عَنْهُ أَزَلًا وَأَبَدًا وَلَمْ يُفَسِّرُوا ذَلِكَ إلَّا بِخَلْقِ الْكَلَامِ فِي غَيْرِهِ قَالَ قَدْ أَعْظَمْتُمْ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتَكَلَّمُ فَشَبَّهْتُمُوهُ بِالْأَصْنَامِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَكَلَّمُ وَلَا تَحَرَّكَ وَلَا تَزُولُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان. وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الْأَوْلَى وَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْأَمْثَالِ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَابَ الْأَصْنَامَ بِأَنَّهَا لَا تَرْجِعُ قَوْلًا وَأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَهَذَا مِنْ الْمَعْلُومِ بِبِدَايَةِ الْعُقُولِ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّكَلُّمِ صِفَةُ نَقْصٍ وَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَكْمَلُ مِنْ الْعَاجِزِ عَنْ الْكَلَامِ وَكُلَّمَا تَنَزَّهَ الْمَخْلُوقُ عَنْهُ مِنْ صِفَةِ نَقْصٍ فَاَللَّهُ تَعَالَى أَحَقُّ بِتَنْزِيهِهِ عَنْهُ وَكُلَّمَا ثَبَتَ لِشَيْءٍ مِنْ صِفَةِ كَمَالٍ فَاَللَّهُ تَعَالَى أَحَقُّ بِاتِّصَافِهِ بِذَلِكَ فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِتَنْزِيهِهِ عَنْ كَوْنِهِ لَا يَتَكَلَّمُ مِنْ الْأَحْيَاءِ الْآدَمِيِّينَ وَأَحَقُّ بِالْكَلَامِ مِنْهُمْ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ مُمَاثَلَةِ النَّاقِصَيْنِ الْمَعْدُومُ وَالْمَوَاتُ وَأَمَّا قَوْلُ أَحْمَدَ فَلَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ قَالَ إنَّهُ قَدْ يَتَكَلَّمُ وَلَكِنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَقُلْنَا وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ كَلَامُهُمْ مَخْلُوقٌ فَقَدْ شَبَّهْتُمْ اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَفِي مَذْهَبِكُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ التَّكَلُّمَ وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ لَا يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى خَلَقَ لَهُمْ كَلَامًا فَقَدْ جَمَعْتُمْ بَيْنَ كُفْرٍ وَتَشْبِيهٍ فَتَعَالَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ بَلْ نَقُولُ إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ لَا يَعْلَمُ حَتَّى خَلَقَ فَعَلِمَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا قُدْرَةَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ قُدْرَةً وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا نُورَ لَهُ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ نُورًا وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا عَظَمَةَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ عَظَمَةً. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَرَادَ بِهِ بِأَوَّلًا أَنَّهُ قَدْ يَتَكَلَّمُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ مَخْلُوقٍ يَخْلُقُهُ لِنَفْسِهِ فِي ذَاتِهِ أَوْ يَخْلُقُهُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لِيَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ غَيْرَ الْأَوَّلِ الَّذِي قَالَ إنَّهُ يَخْلُقُ شَيْئًا فَيُعَبِّرُ عَنْ اللَّهِ وَقَالَ إنَّكُمْ شَبَّهْتُمُوهُ بِالْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تَتَحَرَّكُ وَلَا تَزُولُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان ثُمَّ انْتَقَلَ الْجَهْمِيُّ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ إلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الْجَوَابِ فَقُلْنَا وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ كَلَامُهُمْ مَخْلُوقٌ فَقَدْ شَبَّهْتُمْ اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَفِي مَذْهَبِكُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ التَّكَلُّمَ وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ لَا يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى خَلَقَ لَهُمْ كَلَامًا

فَقَدْ جَمَعْتُمْ بَيْنَ كُفْرٍ وَتَشْبِيهٍ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ فَفِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ كَوْنَهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ كَلَامًا فِي نَفْسِهِ فَصَارَ حِينَئِذٍ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا وَبَيْنَ أَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ كَانَ نَاقِصًا فَصَارَ كَامِلًا لِأَنَّ عَدَمَ التَّكَلُّمِ صِفَةُ نَقْصٍ وَهَذَا هُوَ الْكُفْرُ فَإِنَّ وَصْفَ اللَّهِ بِالنَّقْصِ كُفْرٌ وَفِيهِ تَشْبِيهٌ لَهُ بِمَنْ كَانَ نَاقِصًا عَاجِزًا عَنْ الْكَلَامِ حَتَّى خَلَقَ لَهُ الْكَلَامَ. وَلِهَذَا قَالَ: بَلْ نَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَبَيَّنَ أَنَّ كَوْنَهُ مَوْصُوفًا بِالتَّكَلُّمِ إذَا شَاءَ أَمْرٌ لَمْ يَزَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُحْدَثًا لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ كَمَالَهُ بَعْدَ نَقْصِهِ وَفِيهِ تَشْبِيهٌ لَهُ بِالْآدَمِيِّينَ كَمَا أَنَّ مَنْعَ تَكَلُّمِهِ بِالْكُلِّيَّةِ تَشْبِيهٌ لَهُ بِالْجَمَادَاتِ مِنْ الْأَصْنَامِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرِهِ ثُمَّ إنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ ثُبُوتَ هَذِهِ الصِّفَةِ لَهُ فِيمَا لَمْ يَزَلْ كَثُبُوتِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالنُّورِ وَالْعَظَمَةِ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِهَا لَا يُقَالُ إنَّهُ كَانَ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَاتِ حَتَّى أَحْدَثهَا لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ كَانَ نَاقِصًا فَكَمُلَ بَعْدَ نَقْصِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. وَلِهَذَا كَانَ كَلَامُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ مَعَ الْجَهْمِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيهِ بَيَانُ الْفَصْلِ بَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلِهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ وَأَنَّ هَذَا لَيْسَ هَذَا وَيَذْكُرُونَ هَذَا الْفَرْقَ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ وَأَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْحُجَجِ لَهُمْ فَإِنَّ مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ كَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَيْسَ يَعُودُ إلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ أَصْلًا بَلْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَكَلَامِ الذِّرَاعِ الْمَسْمُومِ وَنُطْقِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْمَوْصُوفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ وَمِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَصِفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْخَلْقِ كَمَا وَصَفَ غَيْرَهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُضَافَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إضَافَةَ اخْتِصَاصٍ يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ إذْ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ أَصْلًا فَلَا يَكُونُ كَلَامًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا قَوْلًا أَصْلًا وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ يُثْبِتُ لَهُ صِفَةَ الِاخْتِصَاصِ بِالْقَوْلِ وَالْكَلَامِ وَلَمْ يُثْبِتْ قَطُّ لَهُ الصِّفَةَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ صِفَةِ الْخَلْقِ فَالْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْمَقُولِ وَبَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْمَفْعُولِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى كَلَامَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَسَمَّاهُ كَلَامًا وَلَمْ يُسَمِّهِ خَلْقًا قَالَ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37] . وَقَالَ: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} [البقرة: 75]

وَقَالَ: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] وَقَالَ: {اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: 144] وَقَالَ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] وَقَالَ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف: 158] فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَبِكَلَامِ اللَّهِ وَقَالَ: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح: 15] ، وَقَالَ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف: 109] . وَقَالَ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى يَسْمَعَ خَلْقَ اللَّهِ فَهَذَا الْمَنْصُوصُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَفْسِيرٍ هُوَ بَيِّنٌ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قُلْت وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا أَنَّ اللَّهَ إذَا سَمَّاهُ كَلَامًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَلَمْ يُسَمِّهِ خَلْقًا وَمِنْ الْمَعْلُومِ الْمُسْتَقِرِّ فِي الْفِطَرِ أَنَّ الْكَلَامَ هُوَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ لَا يَكُونُ مُنْفَصِلًا وَلِهَذَا قَالَ فَهَذَا الْمَنْصُوصُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَفْسِيرٍ هُوَ بَيِّنٌ يَعْنِي أَنَّ بَيَانَ اللَّهِ مِمَّا ذَكَرَهُ مِنْ كَلَامِهِ وَأَنَّ كَلَامَهُ هُوَ بَيِّنٌ لِكُلِّ أَحَدٍ لَيْسَ مِنْ الْخَفِيِّ وَلَا مِنْ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى تَفْسِيرِ الْجَهْمِيِّ الَّذِي يَجْعَلُهُ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ كَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ. حَرَّفَ هَذَا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَأَلْحَدَ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَحْرِيفًا وَإِلْحَادًا يَعْلَمُهُ كُلُّ ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ وَلِهَذَا تَجِدُ ذَوَيْ الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ إذَا ذُكِرَ لَهُمْ هَذَا الْمَذْهَبُ يَقُولُونَ هَذَا يَقُولُ إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ حَتَّى إنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ عَمَّنْ يَقُولُ حُرُوفُ الْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ هَذَا يَقُولُ الْقُرْآنُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ لَا يَقُولُونَ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِمَا اسْتَقَرَّ فِي فِطَرِهِمْ أَنَّ مَا يَكُونُ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْ اللَّهِ لَا يَكُونُ كَلَامَ اللَّهِ فَمَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِحُرُوفِ الْقُرْآنِ بَلْ جَعَلَهُ خَالِقًا لَهَا فِي جِسْمٍ مِنْ الْأَجْسَامِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ يَقُولُ إنَّ الْقُرْآنَ

لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ سَوَاءٌ جَعَلَ تِلْكَ الْحُرُوفَ هِيَ الْقُرْآنَ أَوْ ادَّعَى أَنَّ ثَمَّ مَعْنًى قَدِيمًا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ دُونَ سَائِرِ الْحُرُوفِ فَإِنَّ الْمُسْتَقِرَّ فِي فِطَرِ النَّاسِ الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ خَلْفًا عَنْ سَلَفٍ عَنْ نَبِيّهَا أَنَّ الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ كَلَامُ اللَّهِ وَكُلُّهُمْ فَهِمَ هَذَا الْمَعْنَى الْمَنْصُوصَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ كَمَا ذَكَرَ أَحْمَدُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ لَا أَنَّهُ خَلَقَهُ فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَحْمَدُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْقَوْلِ وَمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْقَوْلِ وَأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ قُولُوا عَنْ الْقُرْآنِ إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَلَا فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا تَقُولُوا إنَّهُ كَلَامِي قَالَ أَحْمَدُ وَقَدْ سَأَلْت الْجَهْمِيَّةَ أَلَيْسَ إنَّمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 136] {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا - وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت: 83 - 46] {وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] وَقَالَ: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [الكهف: 29] وَقَالَ: {وَقُلْ سَلامٌ} [الزخرف: 89] وَلَمْ نَسْمَعْ اللَّهَ يَقُولُ قُولُوا إنَّ كَلَامِي خُلِقَ وَقَالَ: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا} [النساء: 171] وَقَالَ: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} [البقرة: 154] {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] . وَقَالَ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] وَقَالَ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [القصص: 88] وَقَالَ: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام: 151] {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] ، {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء: 37] وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. فَهَذَا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَقُلْ لَنَا لَا تَقُولُوا إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامِي.

قُلْت: وَهَذِهِ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَوْ كَانَ كَمَا يَزْعُمُهُ الْجَهْمِيُّ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَكَلَامِ الذَّارِعِ وَالْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ لَكَانَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ وَاجِبًا لَا سِيَّمَا وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ الَّذِي لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ وَقَدْ يَقُولُونَ إنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ وَاجِبَةٌ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الرِّسَالَةِ وَأَنَّ مَعْرِفَةَ الرِّسَالَةِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِتَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ كَلَامٍ يَقُومُ بِهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَقُومُ إلَّا بِجِسْمٍ مُتَحَيِّزٍ وَنَفْيُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَاجِبٌ قَبْلَ الْإِقْرَارِ بِالرَّسُولِ فَإِنَّ الْجِسْمَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا مَخْلُوقًا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَاجَةُ وَذَلِكَ يَمْنَعُ مَا بَنَوْا عَلَيْهِ الْعِلْمَ بِصِدْقِ الرَّسُولِ وَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ بَيَانُ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَإِذَا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ قَطُّ مَعَ حَاجَةِ الْمُكَلَّفِينَ إلَيْهِ وَمَعَ أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ عِلْمُ أَنَّهُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ وَلَا وَاجِبًا وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ وَأَيْضًا فَلَمْ يَنْهَ الْعِبَادَ عَنْ أَنْ يُسَمُّوهُ كَلَامَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ فِي جِسْمِ غَيْرِهِ وَالْجَهْمِيُّ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ الْكَلَامَ يُقَالُ لِمَنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِهِ كَمَا مَثَّلَهُ مِنْ تَكَلُّمِ الْجِنِّيِّ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ فَهُوَ لَا يُنَازِعُ فِي أَنَّ غَالِبَ النَّاسِ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ الْكَلَامِ إلَّا مَا يَقُومُ بِالْمُتَكَلِّمِ بَلْ لَا يَعْرِفُونَ كَلَامًا مُنْفَصِلًا عَنْ مُتَكَلِّمِهِ قَطُّ وَأَمْرُ الْجِنِّيِّ فِيهِ مِنْ الْإِشْكَالِ وَالنِّزَاعِ بَلْ بُطْلَانُ قَوْلِ الْمُسْتَدِلِّ بِهِ مِمَّا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ظَاهِرًا لِعُمُومِ النَّاسِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى قَوْلِ الْجَهْمِيِّ مَا نَهَى النَّاسُ عَنْ أَنْ يَقُولُوا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ حَتَّى لَا يَقُولُوا بِالْبَاطِلِ وَأَمَّا الْبَيَانُ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ كَلَامُ اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ ذَلِكَ الْكَلَامَ فِي جِسْمِ غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْجَهْمِيَّةُ مِنْ أَنَّهُ خَلَقَ شَيْئًا فَعَبَّرَ عَنْهُ فَلَمَّا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهَذَا وَلَمْ يُنْهَوْا عَنْ ذَلِكَ مَعَ الْحَاجَةِ إلَى هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى زَعْمِ الْجَهْمِيُّ عُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ الْمُسْتَلْزِمَ لَازِمٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الَّذِي لَمْ يَقَعْ مِنْ الشَّارِعِ بَاطِلٌ وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَدُ يَقُولُ لَهُمْ فِيمَا يَقُولُهُ فِي الْمُنَاظَرَةِ الْخَطَابِيَّةِ كَيْفَ أَقُولُ مَا لَمْ يُقَلْ أَيْ هَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ قَبْلَنَا وَلَوْ كَانَ مِنْ الدِّينِ لَكَانَ قَوْلُهُ فَعَدَمُ قَوْلِ أُولَئِكَ لَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ وَكَذَلِكَ احْتِجَاجُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَدْرَمِيِّ وَهُوَ الشَّيْخُ الْأَدْنَى الَّذِي قَدَّمَهُ ابْنُ أَبِي دَاوُد عَلَى الْوَاثِقِ فَنَاظَرَهُ أَمَامَهُ كَمَا حَكَاهُ ابْنُهُ الْمُهْتَدِي وَقَطَعَهُ الْأَدْنَى فِي الْمُنَاظَرَةِ وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ وَقَالَ لِابْنِ أَبِي دَاوُد يَا أَحْمَدُ أَرَأَيْت مَقَالَتَك هَذِهِ الَّتِي تَدْعُو النَّاسَ إلَيْهَا هَلْ هِيَ دَاخِلَةٌ فِي عَقْدِ الدِّينِ لَا يَتِمُّ الدَّيْنُ إلَّا بِهَا وَهَلْ عَلِمَهَا رَسُولُ اللَّهِ وَهَلْ أَمَرَ بِهَا وَهَلْ وَسِعَهُ

وَوَسِعَ خُلَفَاءَهُ السُّكُوتُ عَنْهَا فَكَانَتْ هَذِهِ الْحُجَجُ كُلُّهَا تُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَوْ كَانَ مِنْ الدِّينِ لَوَجَبَ بَيَانُهُ وَعَدَمُ ذَلِكَ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضَى لَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الدِّينِ كَانَ بَاطِلًا لِأَنَّ الدِّينَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَبِسَائِرِ كَلَامِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْأَمْرُ وَجْهًا ثَالِثًا فَإِذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الدِّينِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الْآخَرُ مِنْ الدِّينِ وَهُوَ أَنَّهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ فَمِنْهُ بَدَأَ وَمِنْهُ يَعُودُ وَمِنْهُ حَقَّ الْقَوْلُ وَمِنْ لَدُنْهُ نَزَلَ وَلَوْ كَانَ مَخْلُوقًا فِي جِسْمِ غَيْرِهِ لَكَانَ بِمَثَابَةِ مَا يَخْلُقُهُ فِي الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَالذِّرَاعِ وَالصَّخْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْسَامِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مِنْهُ أَيْ مِنْ خَلْقِهِ فَلَيْسَ مِنْ لَدُنْهُ وَلَا هُوَ قَوْلًا مِنْهُ وَلَا بَدَأَ مِنْهُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَدْ سَمَّتْ الْمَلَائِكَةُ كَلَامَ اللَّهِ كَلَامًا وَلَمْ تُسَمِّهِ خَلْقًا فِي قَوْله تَعَالَى {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} [سبأ: 23] . وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ يَسْمَعُوا صَوْتَ الْوَحْيِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَهَا سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ فَلَمَّا أَوْحَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ الْمَلَائِكَةُ صَوْتَ الْوَحْيِ كَوَقْعِ الْحَدِيدِ عَلَى الصَّفَاءِ وَظَنُّوا أَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ فَفَزِعُوا وَخَرُّوا لِوُجُوهِهِمْ سُجَّدًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ: 23] يَقُولُ حَتَّى إذَا تَجَلَّى الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبِهِمْ رَفَعَ الْمَلَائِكَةُ رُءُوسَهُمْ فَسَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَقَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ وَلَمْ يَقُولُوا مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ فَهَذَا بَيَانٌ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ هُدَاهُ. قُلْت: احْتَجَّ أَحْمَدُ بِمَا سَمِعَتْهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ الْوَحْيِ إذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ كَمَا قَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ الْمُتَعَدِّدَةُ وَسَمِعُوا صَوْتَ الْوَحْيِ فَقَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ وَلَمْ يَقُولُوا مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ فَبَيَّنَ أَنَّ تَكَلُّمَ اللَّهِ بِالْوَحْيِ الَّذِي سَمِعُوا صَوْتَهُ هُوَ قَوْلُهُ لَيْسَ هُوَ خَلْقُهُ وَمِثْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ الْإِمَامُ صَاحِبُ الصَّحِيحِ إمَّا تَلَقِّيًا لَهُ عَنْ أَحْمَدَ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ مُوَافِقَةً اتِّفَاقِيَّةَ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّحِيحِ وَفِي كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ فَقَالَ فِي الصَّحِيحِ فِي آخِرِهِ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ بَابُ قَوْلِ اللَّهِ {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] . وَلَمْ يَقُلْ مَاذَا خَلَقَ لَكُمْ وَقَالَ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] . قَالَ وَقَالَ مَسْرُوقٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ شَيْئًا فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَسَكَنَ الصَّوْتُ عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ وَنَادَوْا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ.

قَالَ: وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ سَمِعَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ أَنَا الْمِلْكُ أَنَا الدَّيَّانُ» ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتْ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ» قَالَ وَقَالَ غَيْرُهُ صَفْوَانٌ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ قَالَ وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْت عِكْرِمَةَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ عَلَيَّ قُلْت لِسُفْيَانَ قَالَ سَمِعْت عِكْرِمَةَ قَالَ سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ نَعَمْ قُلْت لِسُفْيَانَ إنَّ إنْسَانًا رَوَى عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ أَنَّهُ قَرَأَ فُزِّعَ قَالَ سُفْيَانُ هَكَذَا قَرَأَ عَمْرٌو فَلَا أَدْرِي سَمِعَهُ هَكَذَا أَمْ لَا قَالَ سُفْيَان وَهِيَ قِرَاءَاتُنَا. وَمَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ مِنْ الْفَتْرَةِ وَتَكَلُّمِهِ بِالْوَحْيِ بَعْدَهَا قَالَهُ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ كَمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ وَالْكَلْبِيِّ فِي قَوْلِهِ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ: 23] قَالَا لَمَّا كَانَتْ الْفَتْرَةُ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ فَنَزَلَ الْوَحْيُ قَالَ قَتَادَةُ نَزَلَ مِثْلُ صَوْتِ الْحَدِيدِ عَلَى الصَّخْرِ فَأَفْزَعَ الْمَلَائِكَةَ ذَلِكَ فَقَالَ حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ يَقُولُ إذَا خَلَّى عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ وَهَذِهِ الْآيَةُ وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَدِّدَةِ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمُسَانَدِ وَالْآثَارِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِهَا فِيهَا أُصُولٌ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ يُبَيِّنُ بِهَا ضَلَالُ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الصَّابِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ فَفِيهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَشْفَعُونَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَصَرَّفُوا ابْتِدَاءً. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] . وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 27 - 28] وَقَالَ: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] وَقَالَ: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38] .

فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَلَا يَعْمَلُونَ إلَّا بِأَمْرِهِ وَأَنَّهُمْ لَا يَتَكَلَّمُونَ بِالشَّفَاعَةِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُونَ مَا قَالَ حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أَيْ خُلِّيَ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَأُزِيلَ الْفَزَعُ كَمَا يُقَالُ قُرِّدَتْ الْبَعِيرُ إذَا أَزَلَّتْ قُرَادَهُ وَتَحَرَّبَ وَتَحَرَّجَ وَتَأَثَّمَ وَتَحَنَّثَ إذَا أَزَالَ عَنْ نَفْسِهِ الْحَرْبَ وَالْإِثْمَ وَالْحَرَجَ وَالْحِنْثَ فَإِذَا أُزِيلَ الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا حِينَئِذٍ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَفِي كُلِّ ذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِلْمُتَفَلْسِفَةِ مِنْ الصَّائِبَةِ وَنَحْوِهِمْ وَمِنْ أَتْبَاعِهِمْ مِنْ أَصْنَافِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَعَفِّفَةِ الَّذِينَ خَلَطُوا الْحَنِيفِيَّةَ بِالصَّابِئَةِ فِيمَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ تَعْظِيمِ الْعُقُولِ أَوْ النُّفُوسِ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا هِيَ الْمَلَائِكَةُ وَأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ عَنْ اللَّهِ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ وَهِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِلْعَالَمِ بِطَرِيقِ التَّوَلُّدِ وَالتَّعْلِيلِ لَا بِأَمْرٍ مِنْ اللَّهِ وَإِذْنٍ يَكُونُ إذَا شَاءَ بَلْ يَجْعَلُونَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْعَقْلَ الْفَعَّالَ هُوَ الْمُدَبِّرَ لِهَذَا الْعَالَمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْدِثَ اللَّهُ نَفْسُهُ شَيْئًا أَصْلًا وَهَذَا عَبَّدَ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ وَالْكَوَاكِبَ وَعَظَّمُوا ذَلِكَ جِدًّا وَهَذِهِ النُّصُوصُ الْمُتَوَاتِرَةُ تُكَذِّبُهُمْ وَتُبَيِّنُ بُعْدَهُمْ عَنْ الْحَقِّ بِمَرَاتِبَ مُتَعَدِّدَةٍ خَمْسَةً وَأَكْثَرَ. فَإِنَّ الْمَرْتَبَةَ الْأُولَى: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ هَلْ تَتَصَرَّفُ وَتَتَكَلَّمُ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ سَائِرُ الْأَحْيَاءِ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْ اللَّهِ وَأَمْرٍ وَقَوْلٍ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ خَالِقَ أَفْعَالِهِمْ كَمَا هُوَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْحَيَوَانِ كُلِّهِ فَإِنَّ الْحَيَوَانَ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ خَالِقَ أَفْعَالِهِمْ فَإِنَّ أَفْعَالَهُمْ قَدْ تَكُونُ مَعْصِيَةً وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهَا وَلَا مَنْهِيٍّ عَنْهَا بَلْ يَتَصَرَّفُونَ بِمُوجِبِ إرَادَتِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً وَالْمَلَائِكَةُ لَيْسُوا كَذَلِكَ بَلْ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ فَلَا يَفْعَلُونَ مَا يَكُون مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ بَلْ لَا يَفْعَلُونَ إلَّا مَا هُوَ مِنْ الطَّاعَاتِ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ لَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنْ ارْتَضَى فَلَا يَشْفَعُونَ عِنْدَهُ لِمَنْ لَا يُحِبُّ الشَّفَاعَةَ لَهُ كَمَا قَدْ يَفْعَلُهُ بَعْضُ مَنْ يَدْعُو اللَّهَ بِمَا لَا يُحِبُّهُ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ أَيْضًا لَا يَبْتَدِئُونَ بِالشَّفَاعَةِ فَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ.

وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُمْ لَا يَسْتَأْذِنُونَ فِي أَنْ يَشْفَعُوا إذْ هُمْ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ بَلْ هُوَ يَأْذَنُ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ ابْتِدَاءً فَيَأْمُرُهُمْ بِهَا فَيَفْعَلُونَهَا عِبَادَةً لِلَّهِ وَطَاعَةً. وَالْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُمْ يَسْجُدُونَ إذَا سَمِعُوا كَلَامَهُ وَأَمْرَهُ وَإِذْنَهُ وَلَمْ يُطِيقُوا فَهْمَهُ ابْتِدَاءً بَلْ خَضَعَتْ وَفَزِعَتْ وَضَرَبَتْ بِأَجْنِحَتِهَا وَضَعُفَتْ وَسَجَدَتْ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَجَلَّى عَنْهُمْ الْفَزَعَ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فَهَذِهِ حَالُهُمْ عِنْدَ تَكَلُّمِهِ بِالْوَحْيِ أَمَّا وَحَيُّ كَلَامِهِ الَّذِي يَبْعَثُ بِهِ رُسُلَهُ كَمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ وَأَمَّا أَمْرُهُ الَّذِي، يَقْضِي بِهِ مِنْ أَمْرٍ يَكُونُهُ فَذَلِكَ حَاصِلٌ فِي أَمْرِ التَّشْرِيعِ وَأَمْرِ التَّكْوِينِ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ: 23] وَحَتَّى حَرْفُ غَايَةٍ يَكُونُ مَا بَعْدَهَا دَاخِلًا فِيمَا قَبْلَهَا لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ إلَى الَّتِي قَدْ يَكُونُ مَا بَعْدَهَا خَارِجًا عَمَّا قَبْلَهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَهِيَ سَوَاءٌ كَانَتْ حَرْفَ عَطْفٍ أَوْ حَرْفَ جَرٍّ تَتَضَمَّنُ ذَلِكَ وَمَا بَعْدَهَا يَكُونُ النِّهَايَةُ الَّتِي يُنَبَّهُ بِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا فَتَقُولُ قَدِمَ الْحُجَّاجَ حَتَّى الْمُشَاةَ فَقُدُومُ الْمُشَاةِ تَنْبِيهٌ عَلَى قُدُومِ الرُّكَّابِ وَتَقُولُ أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسَهَا فَأَكْلُ رَأْسِهَا تَنْبِيهٌ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ أَكْلَ رُءُوسِ السَّمَكِ قَدْ يَبْقَى فِي الْعَادَةِ وَهَذِهِ الْآيَةُ أَخْبَرَ فِيهَا سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ مُلْكٌ وَلَا شِرْكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَا مُعَاوَنَةٌ لَهُ وَلَا شَفَاعَةٌ إلَّا بَعْدَ إذْنِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ - وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 - 23] . ثُمَّ قَالَ: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ: 23] وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ (عَنْ قُلُوبِهِمْ) يَعُودُ إلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَلَهُ مَنْ أَذِنَ لَهُ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَدْخُلُونَ فِي قَوْلِهِ {مَنْ أَذِنَ لَهُ} [طه: 109] وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ} [سبأ: 22] . فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ فَسَلَبَهُمْ الْمُلْكَ وَالشَّرِكَةَ وَالْمُعَاوَنَةَ وَالشَّفَاعَةَ إلَّا بِإِذْنِهِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ حَتَّى أَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ لَا يَثْبُتُونَ لِكَلَامِهِ وَلَا يَسْتَقِرُّونَ بَلْ يُفَزَّعُونَ وَلَا يَفْهَمُونَ ثُمَّ إذَا أُزِيلَ عَنْهُمْ

فصل قالوا ولا نقول إن كلام الله حرف وصوت قائم به

الْفَزَعُ يَقُولُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَذَلِكَ أَنَّ مَا بَعْدَ حَتَّى هُنَا جُمْلَةٌ تَامَّةٌ وَهُوَ قَوْلُهُ {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ: 23] وَالْعَامِلُ فِي إذَا هُوَ قَوْلُهُ قَالُوا مَاذَا وَإِذَا ظَرْفٌ لِمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ الزَّمَانِ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ أَيْ لَمَّا زَالَ الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ وَالْغَايَةُ بَعْدَ حَتَّى يَكُونُ مُفْرَدًا كَمَا تَقَدَّمَ وَيَكُونُ جُمْلَةً وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ - حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} [الزخرف: 37 - 38] . وقَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [يونس: 22] فَأَخْبَرَ عَنْ ضَلَالِ أُولَئِكَ إلَى تِلْكَ الْغَايَةِ وَعَنْ تَسْيِيرِ هَؤُلَاءِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا} [الأعراف: 38] الْآيَةَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [يوسف: 109] إلَى قَوْلِهِ: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ - حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} [يوسف: 109 - 110] . [فَصْلٌ قَالُوا وَلَا نَقُولُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ] فَصْلٌ فَلَمَّا قَالُوا وَلَا نَقُولُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ قُلْت إخْبَارًا عَمَّا وَقَعَ مِنِّي قَبْلَ ذَلِكَ لَيْسَ فِي كَلَامِي هَذَا أَيْضًا بَلْ قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ الْقُرْآنَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ بِدْعَةٌ وَقَوْلُهُ إنَّهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِهِ بِدْعَةٌ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَأَنَا لَيْسَ فِي كَلَامِي شَيْءٌ مِنْ الْبِدَعِ بَلْ فِي كَلَامِي مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ فَلَمْ أَقُلْ أَنَّ الْحُرُوفَ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَأَنَّ الْمَعَانِيَ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْحُرُوفِ

وَالْأَصْوَاتِ وَمَعَانٍ قَائِمَةٍ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنْ بَيَّنْت أَنَّ مَنْ جَعَلَ الْقُرْآنَ مُجَرَّدَ حَرْفٍ وَصَوْتٍ قَائِمٍ بِاَللَّهِ فَإِنَّهُ مُبْتَدِعٌ وَقَوْلُهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْمَعَانِيَ لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَمَنْ جَعَلَ الْقُرْآنَ مُجَرَّدَ مَعْنًى قَائِمٍ بِهِ مُبْتَدِعٌ وَقَوْلُهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهَا وَأَنَّ جَمِيعَ كَلَامِ اللَّهِ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا. وَقَدْ قُلْت قَبْلَ هَذَا فِي جَوَابِ الْفُتْيَا الْمِصْرِيَّةِ وَقَدْ قِيلَ فِيهَا الْمَسْئُولُ بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْتَقِدَهُ وَيَصِيرَ بِهِ مُسْلِمًا بِأَوْضَحِ عِبَارَةٍ وَأَبْيَنِهَا مِنْ أَنَّ مَا فِي الْمَصَاحِفِ هَلْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الْقَدِيمُ أَمْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ لَا نَفْسُهُ وَأَنَّهُ حَادِثٌ أَوْ قَدِيمٌ وَأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ أَمْ كَلَامُهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ لَا تُفَارِقُهُ وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] حَقِيقَةٌ أَمْ لَا وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَجْرَى الْقُرْآنَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَأَوَّلَ شَيْئًا مِنْهُ وَيَقُولَ أُومِنُ بِهِ كَمَا أُنْزِلَ هَلْ يَكْفِيهِ ذَلِكَ فِي الِاعْتِقَادِ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّأْوِيلُ. فَقُلْت فِي الْجَوَابِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ اعْتِقَادُهُ فِي ذَلِكَ وَغَيْرُهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ وَذَمَّ مَنْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ مُنْزَلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] وَأَنَّهُ {قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج: 21] {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 22] وَأَنَّهُ كَمَا قَالَ: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4] وَأَنَّهُ فِي الصُّدُورِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ مِنْ عُقُلِهَا» وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْجَوْفُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ» وَأَنَّ مَا بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ الَّذِي كَتَبَتْهُ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَلَامُ اللَّهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ» فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَكْفِي الْمُسْلِمَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا تَفْصِيلُ مَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ النِّزَاعِ فَكَثِيرٌ مِنْهُ يَكُونُ كَالْإِطْلَاقَيْنِ خَطَأً وَيَكُونُ الْحَقُّ فِي التَّفْصِيلِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مَعَ كُلٍّ مِنْ الْمُتَنَازِعَيْنِ نَوْعٌ مِنْ الْحَقِّ وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا يُنْكِرُ حَقَّ صَاحِبِهِ وَهَذَا مِنْ التَّفْرِيقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَنَهَى عَنْهُ فَقَالَ: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176] وَقَالَ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]

وَقَالَ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وَقَالَ: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة: 213] . فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَلْزَمَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُنَّةَ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ وَمَا تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ وَتَفَرَّقَتْ فِيهِ إنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَفْصِلَ النِّزَاعَ بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَإِلَّا اسْتَمْسَكَ بِالْجُمَلِ الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَأَعْرَضَ عَنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا فَإِنَّ مَوَاضِعَ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ عَامَّتَهَا تَصْدُرُ عَنْ اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى. وَقَدْ بَسَطْت الْقَوْلَ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِبَيَانِ مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ وَبَيَانُ مَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الِاشْتِرَاكِ وَالِاشْتِبَاهِ وَالْغَلَطِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ وَلَكِنْ نَذْكُرُ مِنْهَا جُمْلَةً مُخْتَصَرَةً بِحَسَبِ حَالِ السَّائِلِ بَعْدَ الْجَوَابِ بِالْجُمَلِ الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَمَنْعِهِمْ مِنْ الْخَوْضِ فِي التَّفْصِيلِ الَّذِي يُوقِعُ بَيْنَهُمْ الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ فَإِنَّ الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ مِنْ أَعْظَمِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَالتَّفْصِيلُ الْمُخْتَصَرُ أَنْ نَقُولَ: مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ وَأَصْوَاتَ الْعِبَادِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ فَهُوَ ضَالٌّ مُخْطِئٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأَوَّلِينَ وَسَائِرِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ قَطُّ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ ذَلِكَ قَدِيمٌ لَا مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ وَمَنْ نَقَلَ قِدَمَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي النَّقْلِ أَوْ مُتَعَمِّدٌ لِلْكَذِبِ بَلْ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ تَبْدِيعُ مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَمَا جَهَّمُوا مَنْ قَالَ اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ. وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ أَخَصُّ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِهِ فِي ذَلِكَ رِسَالَةً

كَبِيرَةً مَبْسُوطَةً وَنَقَلَهَا عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ كَلَامَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَبْوَابِ الِاعْتِقَادِ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ إذْ ذَاكَ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مُعَارَضَةً لِمَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ إنْكَارًا شَدِيدًا وَبَدَّعَ مَنْ قَالَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فَكَيْفَ بِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ صَوْتَ الْعَبْدِ قَدِيمٌ. وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ يَحْكِي عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ قَدِيمٌ وَجَمِيعُ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ الْإِمَام وَغَيْرُهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَمَا عَلِمْت أَنَّ عَالِمًا يَقُولُ ذَلِكَ إلَّا مَا يَبْلُغُنَا عَنْ بَعْضِ الْجُهَّالِ وَقَدْ مَيَّزَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْكَلَامِ وَالْمِدَادِ فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] فَهَذَا خَطَأٌ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَعْلُومٌ بِالْقُلُوبِ وَأَنَّهُ مَتْلُوٌّ بِالْأَلْسُنِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَذْكُورٌ بِالْأَلْسُنِ وَأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْمُصْحَفِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَكْتُوبٌ وَجَعَلَ ثُبُوتَ الْقُرْآنِ فِي الصُّدُورِ وَالْأَلْسِنَةِ وَالْمَصَاحِفِ مِثْلَ ثُبُوتِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَهَذَا أَيْضًا مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ ثُبُوتِ الْأَعْيَانِ فِي الْمُصْحَفِ وَبَيْنَ ثُبُوتِ الْكَلَامِ فِيهَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ فَإِنَّ الْمَوْجُودَاتِ لَهَا أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: مُرَتَّبَةً فِي الْأَعْيَانِ وَمُرَتَّبَةً فِي الْأَذْهَانِ وَمُرَتَّبَةً فِي اللِّسَانِ وَمُرَتَّبَةً فِي الْبَنَانِ فَالْعِلْمُ يُطَابِقُ الْعَيْنَ وَاللَّفْظُ يُطَابِقُ الْعِلْمَ وَالْخَطُّ يُطَابِقُ اللَّفْظَ. فَإِذَا قِيلَ إنَّ الْعَيْنَ فِي الْكِتَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52] فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِي فِي الزُّبُرِ إنَّمَا هُوَ الْخَطُّ الْمُطَابِقُ لِلْعِلْمِ فَبَيْنَ الْأَعْيَانِ وَبَيْنَ الْمُصْحَفِ مَرْتَبَتَانِ وَهِيَ اللَّفْظُ وَالْخَطُّ وَأَمَّا الْكَلَامُ نَفْسُهُ فَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّحِيفَةِ مَرْتَبَةٌ بَلْ نَفْسُ الْكَلَامِ يُجْعَلُ فِي الْكِتَابِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْحَرْفِ الْمَلْفُوظِ وَالْحَرْفِ الْمَكْتُوبِ فَرْقٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ إلَّا إذَا أُرِيدَ أَنَّ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ هُوَ ذِكْرُهُ وَالْخَبَرُ عَنْهُ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ - نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ - عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 192 - 194] إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 197] فَاَلَّذِي فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ذِكْرُ الْقُرْآنِ وَخَبَرُهُ كَمَا فِيهَا ذِكْرُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَبَرُهُ كَمَا أَنَّ

أَفْعَالَ الْعِبَادِ فِي الزُّبُرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52] فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الزُّبُرِ وَبَيْنَ كَوْنِ الْكَلَامِ نَفْسِهِ فِي الزُّبُرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] وَقَالَ تَعَالَى: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً - فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 2 - 3] فَمَنْ قَالَ إنَّ الْمِدَادَ قَدِيمٌ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَمَنْ قَالَ لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّمَا فِيهِ الْمِدَادُ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ فَقَدْ أَخْطَأَ بَلْ الْقُرْآنُ فِي الْمُصْحَفِ كَمَا أَنَّ سَائِرَ الْكَلَامِ فِي الْوَرَقِ كَمَا عَلَيْهِ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ وَكَمَا هُوَ فِي فِطَرِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ كُلَّ مَرْتَبَةٍ لَهَا حُكْمٌ يَخُصُّهَا وَلَيْسَ وُجُودُ الْكَلَامِ فِي الْكِتَابِ كَوُجُودِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ مِثْلُ وُجُودِ الْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ فِي مَحِلِّهِمَا حَتَّى يُقَالَ إنَّ صِفَةَ اللَّهِ حَلَّتْ بِغَيْرِهِ أَوْ فَارَقَتْهُ وَلَا وُجُودُهُ فِيهِ كَالدَّلِيلِ الْمَحْضِ مِثْلُ وُجُودِ الْعَالَمِ الدَّالِّ عَلَى الْبَارِي تَعَالَى حَتَّى يُقَالَ لَيْسَ فِيهِ إلَّا مَا هُوَ عَلَامَةً عَلَى كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَلْ هُوَ قِسْمٌ آخَرُ. وَمَنْ لَمْ يُعْطِ كُلَّ مَرْتَبَةٍ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ فِيهَا أَدَاةُ الظَّرْفِ حَقَّهَا فَيُفَرِّقَ بَيْنَ وُجُودِ الْجِسْمِ فِي الْحَيِّزِ وَفِي الْمَكَانِ وَوُجُودِ الْعَرَضِ لِلْجِسْمِ وَوُجُودِ الصُّورَةِ بِالْمِرْآةِ وَيُفَرِّقَ بَيْنَ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ بِالْعَيْنِ يَقَظَةً وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِ بِالْقَلْبِ يَقَظَةً وَمَنَامًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَإِلَّا اضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ وَكَذَلِكَ سُؤَالُ السَّائِلِ عَمَّا فِي الْمُصْحَفِ هَلْ هُوَ حَادِثٌ أَوْ قَدِيمٌ سُؤَالٌ مُجْمَلٌ فَإِنَّ لَفْظَ الْقَدِيمِ أَوَّلًا لَيْسَ مَأْثُورًا عَنْ السَّلَفِ وَإِنَّمَا الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ تُلِيَ وَحَيْثُ كُتِبَ وَهُوَ قُرْآنٌ وَاحِدٌ وَكَلَامٌ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ الصُّوَرُ الَّتِي يُتْلَى فِيهَا وَيُكْتَبُ مِنْ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ وَمِدَادُهُمْ الْكَلَامُ كَلَامُ مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا كَلَامُ مَنْ بَلَّغَهُ مُؤَدِّيًا فَإِذَا سَمِعْنَا مُحَدِّثَا يُحَدِّثُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» قُلْنَا هَذَا كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ مَعَ عِلْمِنَا أَنَّ الصَّوْتَ صَوْتُ الْمُبَلِّغِ لَا صَوْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ مِنْ نَظْمٍ وَنَثْرٍ. وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا هَذَا كَلَامُ اللَّهِ لِمَا نَسْمَعُهُ مِنْ الْقَارِئِ وَنَرَى فِي الْمُصْحَفِ

فَالْإِشَارَةُ إلَى الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ الْبَلَاغُ مِنْ صَوْتِ الْمُبَلِّغِ وَمِدَادِ الْكَاتِبِ فَمَنْ قَالَ صَوْتُ الْقَارِئِ وَمِدَادُ الْكَاتِبِ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَقَدْ أَخْطَأَ وَهَذَا الْفَرْقُ الَّذِي بَيَّنَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِمَنْ سَأَلَهُ. وَقَدْ قَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فَقَالَ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَالَ نَعَمْ فَنَقَلَ السَّائِلُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَدَعَا بِهِ وَزَبَرَهُ زَبْرًا شَدِيدًا وَطَلَبَ عُقُوبَتَهُ وَتَعْزِيرَهُ وَقَالَ أَنَا قُلْت لَك لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَالَ لَا وَلَكِنْ قُلْت لِي لَمَّا قَرَأْت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] هَذَا كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ فَلِمَ تَنْقُلْ عَنِّي مَا لَمْ أَقُلْهُ؟ فَبَيَّنَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ لِمَا سَمِعَهُ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ الْمُؤَدِّينَ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ فَالْإِشَارَةُ إلَى حَقِيقَتِهِ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا وَإِنْ كُنَّا إنَّمَا سَمِعْنَاهَا بِبَلَاغِ الْمُبَلِّغِ وَحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ فَإِذَا أَشَارَ إلَى شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ لَفْظُهُ أَوْ صَوْتُهُ أَوْ فِعْلُهُ وَقَالَ هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَدْ ضَلَّ وَأَخْطَأَ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَالْقُرْآنُ فِي الْمَصَاحِفِ كَمَا أَنَّ سَائِرَ الْكَلَامِ فِي الْمُصْحَفِ وَلَا يُقَالُ إنَّ شَيْئًا مِنْ الْمِدَادِ وَالْوَرَقِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بَلْ كُلُّ وَرَقٍ وَمِدَادٍ فِي الْعَالَمِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَيُقَالُ أَيْضًا الْقُرْآنُ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَيَتَبَيَّنُ هَذَا بِالْجَوَابِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ هَلْ هُوَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ أَمْ لَا فَإِنَّ إطْلَاقَ الْجَوَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا خَطَأٌ وَهِيَ مِنْ الْبِدَعِ الْمُوَلَّدَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ. لَمَّا قَالَ قَوْمٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ الصِّفَاتِيَّةِ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاَلَّذِي لَمْ يُنْزِلْهُ وَالْكَلِمَاتُ الَّتِي كَوَّنَ بِهَا الْكَائِنَاتِ وَالْكَلِمَاتُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى أَمْرِهِ وَخَبَرِهِ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدِ مَعْنًى وَاحِدٍ هُوَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ، قَامَتْ بِاَللَّهِ إنْ عَبَّرَ عَنْهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ كَانَتْ التَّوْرَاةَ وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهَا بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ الْقُرْآنَ وَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ صِفَاتٌ لَهَا لَا أَقْسَامٌ لَهَا وَأَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا وَلَيْسَتْ مِنْ كَلَامِهِ إذْ كَلَامُهُ لَا يَكُونُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ. عَارَضَهُمْ آخَرُونَ مِنْ الْمُثْبِتَةِ فَقَالُوا: بَلْ الْقُرْآنُ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ وَتَوَهَّمَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ بِالْحُرُوفِ الْمِدَادَ، وَبِالْأَصْوَاتِ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ عَالِمٌ. وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهِ وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُمْ وَبَعْدَهُمْ اتِّبَاعُ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ؟

وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأَمَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيه لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَلَامًا لِغَيْرِهِ وَلَكِنْ أَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ وَلَيْسَ الْقُرْآنُ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الْمَعْنَى وَلَا لِمُجَرَّدِ الْحَرْفِ بَلْ لِمَجْمُوعِهِمَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْكَلَامِ لَيْسَ هُوَ الْحُرُوفَ فَقَطْ وَلَا الْمَعَانِيَ فَقَطْ، كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ الْمُتَكَلِّمَ النَّاطِقَ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ الرُّوحِ وَلَا مُجَرَّدَ الْجَسَدِ بَلْ مَجْمُوعَهُمَا، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ بِصَوْتٍ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَأَصْوَاتِ الْعِبَادِ لَا صَوْتُ الْقَارِئِ وَلَا غَيْرِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ، فَكَمَا لَا يُشْبِهُ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَحَيَاتُهُ عِلْمَ الْمَخْلُوقِ وَقُدْرَتَهُ وَحَيَاتَهُ فَكَذَلِكَ لَا يُشْبِهُ كَلَامُهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ وَلَا مَعَانِيهِ تُشْبِهُ مَعَانِيَهُ وَلَا حُرُوفُهُ تُشْبِهُ حُرُوفَهُ وَلَا صَوْتُ الرَّبِّ يُشْبِهُ صَوْتَ الْعَبْدِ فَمَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ، وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ. وَقَدْ كَتَبْتُ فِي الْجَوَابِ الْمَبْسُوطِ الْمُسْتَوْفِي مَرَاتِبَ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ تَزْعُمُ أَنَّ كَلَامَ اللَّه لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ إلَّا فِي نُفُوسِ الْأَنْبِيَاءِ تُفَاضُ عَلَيْهِمْ الْمَعَانِي مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ فَيَصِيرُ فِي نُفُوسِهِمْ حُرُوفًا، كَمَا أَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ مَا يَحْدُثُ فِي نُفُوسِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الصُّوَرِ النُّورَانِيَّةِ، وَهَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ فَيْلَسُوفِ قُرَيْشٍ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: (إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) . فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْقُرْآنَ تَصْنِيفُ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ لَكِنَّهُ كَلَامٌ شَرِيفٌ صَادِرٌ عَنْ نَفْسٍ صَافِيَةٍ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ الصَّابِئَةُ فَتَقَرَّبَتْ مِنْهُمْ الْجَهْمِيَّةُ فَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ وَلَا قَامَ بِهِ كَلَامٌ وَإِنَّمَا كَلَامُهُ مَا يَخْلُقُهُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرُهُ. فَأَخَذَ بِبَعْضِ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ الصِّفَاتِيَّةِ فَقَالُوا: بَلْ نِصْفُهُ وَهُوَ الْمَعْنَى كَلَامُ اللَّهِ وَنِصْفُهُ وَهُوَ الْحُرُوفُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ بَلْ هُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ وَقَدْ تَنَازَعَ الصِّفَاتِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ هَلْ يُقَالُ إنَّهُ قَدِيمٌ لَمْ يَزُلْ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَشِيئَتِهِ، أَمْ يُقَالُ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ فِي ذَلِكَ ذَكَرَهُمَا الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَذَكَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ النِّزَاعُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ الصُّوفِيَّةِ وَفَرَّقَ الْفُقَهَاء مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ بَلْ وَبَيَّنَ فِرَقَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ فِي جِنْسِ هَذَا الْبَابِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعًا لِبَسْطِ ذَلِكَ هَذَا لَفْظُ الْجَوَابِ فِي الْفُتْيَا الْمِصْرِيَّةِ.

قُلْت: وَأَمَّا سُؤَالُ السَّائِلِ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فَهُوَ حَقٌّ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا قَالَهُ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّ الِاسْتِوَاءَ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفَ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانَ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالَ عَنْ الْكَيْفِ بِدْعَةٌ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ مُفْتَقِرٌ إلَى عَرْشٍ يُقِلُّهُ أَوْ أَنَّهُ مَحْصُورٌ فِي سَمَاءٍ تُظِلُّهُ، أَوْ أَنَّهُ مَحْصُورٌ فِي شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، أَوْ أَنَّهُ يُحِيطُ بِهِ جِهَةٌ مِنْ جِهَاتِ مَصْنُوعَاتِهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ رَبٌّ وَلَا فَوْقَ السَّمَوَاتِ خَالِقٌ بَلْ مَا هُنَالِكَ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ وَالنَّفْيُ الصَّرْفُ فَهُوَ مُعَطِّلٌ جَاحِدٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مُضَاهٍ لِفِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ - أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37] بَلْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ لَيْسَ فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَلَا فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَعَلَى ذَلِكَ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّة وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ بَلْ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَأَهْلِ السُّنَّةِ، وَسَلَفُ الْأُمَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ تَأَوَّلَ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى أَوْ بِمَعْنًى آخَرَ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ فَهُوَ جَهْمِيٌّ ضَالٌّ. قُلْتُ: وَأَمَّا سُؤَالُهُ عَنْ إجْرَاءِ الْقُرْآنِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ إذَا آمَنَ بِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَكْيِيفٍ فَقَدْ اتَّبَعَ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَفْظُ الظَّاهِرِ فِي عُرْفِ الْمُسْتَأْخِرِينَ قَدْ صَارَ فِيهِ اشْتِرَاكٌ فَإِنْ أَرَادَ بِإِجْرَائِهِ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ حَتَّى يُشَبِّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَهَذَا ضَلَالٌ، بَلْ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ يَعْنِي أَنَّ مَوْعُودَ اللَّهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَالْخَمْرِ وَاللَّبَنِ تُخَالِفُ حَقَائِقُهُ حَقَائِقَ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فِي الدُّنْيَا فَاَللَّهُ تَعَالَى أَبْعَدُ عَنْ مُشَابَهَةِ مَخْلُوقَاتِهِ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الْعِبَادُ لَيْسَ حَقِيقَتُهُ كَحَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنْهَا وَأَمَّا إنْ أَرَادَ بِإِجْرَائِهِ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي هُوَ الظَّاهِرُ فِي عُرْفِ سَلَفِ الْأُمَّةِ بِحَيْثُ لَا يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَلَا يُلْحِدُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ بِمَا يُخَالِفُ تَفْسِيرَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ، بَلْ يُجْرِيَ ذَلِكَ عَلَى

مَا اقْتَضَتْهُ النُّصُوصُ وَتَطَابَقَ عَلَيْهِ دَلَائِلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، فَهَذَا مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْحَقُّ وَهَذَا جُمْلَةٌ لَا يَسَعُ هَذَا الْمَوْضِعَ تَفْصِيلُهَا. وَقُلْتُ فِي جَوَابِ الْفُتْيَا الدِّمَشْقِيَّةِ وَقَدْ سُئِلْتُ فِيهَا عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّ الْقُرْآنَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ، وَأَنَّ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] عَلَى مَا يُفِيدُهُ الظَّاهِرُ وَيَفْهَمُهُ النَّاسُ مِنْ ظَاهِرِهِ، هَلْ يَحْنَثُ هَذَا أَمْ لَا، فَقُلْتُ فِي الْجَوَابِ إنْ كَانَ مَقْصُودُ هَذَا الْحَالِفِ أَنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ وَالْمِدَادَ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ، فَقَدْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ يَقُولُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُكْرَهُ تَجْرِيدُ الْكَلَامِ فِي الْمِدَادِ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ وَفِي صَوْتِ الْعَبْدِ لِئَلَّا يَتَذَرَّعَ بِذَلِكَ إلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ تَكَلَّمَ فِي صَوْتِ الْعَبْدِ وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي نَقْرَؤُهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً لَا كَلَامُ غَيْرِهِ، وَأَنَّ الَّذِي بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ مَا عَلِمْتُ أَحَدًا حَكَمَ عَلَى مَجْمُوعِ الْمِدَادِ الْمَكْتُوبِ بِهِ وَصَوْتِ الْعَبْدِ بِالْقُرْآنِ بِأَنَّهُ قَدِيمٌ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ وَكَلَامِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي بَابِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا الْمَعَانِيَ الَّتِي تَلِيقُ بِالْخَلْقِ لَا بِالْخَالِقِ، ثُمَّ يُرِيدُونَ تَحْرِيفَ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ إذَا وَجَدُوا ذَلِكَ فِيهِمَا، وَإِنْ وَجَدُوهُ فِي كَلَامِ التَّابِعِينَ لِلسَّلَفِ افْتَرَوْا الْكَذِبَ عَلَيْهِمْ وَنَقَلُوا عَنْهُمْ بِحَسَبِ الْفَهْمِ الْبَاطِلِ الَّذِي فَهِمُوهُ، أَوْ زَادُوا عَلَيْهِمْ فِي الْأَلْفَاظِ أَوْ غَيَّرُوهَا قَدْرًا وَوَصْفًا، كَمَا نَسْمَعُ مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ وَنَرَى فِي كُتُبِهِمْ، ثُمَّ بَعْضُ مَنْ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِهَؤُلَاءِ النَّقَلَةِ قَدْ يَحْكِي هَذَا الْمَذْهَبَ عَمَّنْ حَكَوْهُ عَنْهُمْ وَيَذُمُّ وَيَحْنَثُ مَعَ مَنْ لَا وُجُودَ لَهُ وَذَمُّهُ وَاقِعٌ عَلَى مَوْصُوفٍ غَيْرِ مَوْجُودٍ، نَظِيرُ مَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ: «أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ يَشْتُمُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَهَذَا نَظِيرُ مَا تَحْكِي الرَّافِضَةُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْعِبَادَةِ وَالْمَعْرِفَةِ أَنَّهُمْ نَاصِبَةٌ وَتَحْكِي الْقَدَرِيَّةُ عَنْهُمْ: أَنَّهُمْ مُجَبِّرَةٌ، وَتَحْكِي الْجَهْمِيَّةُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مُشَبِّهَةٌ وَتَحْكِي مَنْ خَالَفَ الْحَدِيثَ وَنَابَذَ أَهْلَهُ عَنْهُمْ: أَنَّهُمْ نَابِتَةٌ وَحَشْوِيَّةٌ وَغَثًّا وَغَثَرٌ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَكْذُوبَةِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ كُتُبَ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ

هَذَا الْقَوْلَ وَجَدَهُمْ لَا يَبْحَثُونَ فِي الْغَالِبِ أَوْ فِي الْجَمِيعِ إلَّا مَعَ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي مَا عَلِمْنَا لِقَائِلِهِ وُجُودًا وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ الْحَالِفِ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ هَذِهِ الْمِائَةُ وَالْأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً حُرُوفُهَا وَمَعَانِيهَا، وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ هُوَ الْحُرُوفَ دُونَ الْمَعَانِي وَلَا الْمَعَانِيَ دُونَ الْحُرُوفِ، بَلْ هُوَ مَجْمُوعُ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي، وَأَنَّ تِلَاوَتَنَا لِلْحُرُوفِ وَتَصَوُّرَنَا لِلْمَعَانِي لَا يُخْرِجُ الْمَعَانِيَ، وَالْحُرُوفَ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُجُودِنَا، فَهَذَا مَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَكْتُبُونَهُ فِي مَصَاحِفِهِمْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَفْيُ كَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ إذْ الْكَلَامُ يُضَافُ حَقِيقَةً لِمَنْ قَالَهُ مُتَّصِفًا بِهِ مُبْتَدَأً وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا وَهُوَ كَلَامٌ لِمَنْ اتَّصَفَ بِهِ مُبْتَدَأً لَا لِمَنْ بَلَّغَهُ مَرْوِيًّا فَإِنَّا بِاضْطِرَارٍ نَعْلَمُ مِنْ دِينِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدِينِ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ إنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ حُرُوفُ الْقُرْآنِ مَا هِيَ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ اسْمٌ لِمُجَرَّدِ الْمَعَانِي لَأَنْكَرُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، وَكَانَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ إنَّ جَسَدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي اسْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا هُوَ اسْمٌ لِلرُّوحِ دُونَ الْجَسَدِ، أَوْ يَقُولُ إنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ اسْمًا لِحَرَكَاتِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَإِنَّمَا هِيَ اسْمٌ لِأَعْمَالِ الْقَلْبِ فَقَطْ. وَلِذَلِكَ ذَكَرَ الشِّهْرِسْتَانِيّ، وَهُوَ مَنْ أَخْبَرَ النَّاسَ بِالْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَالْمَقَالَاتِ فِي نِهَايَةِ الْأَقْدَامِ، أَنَّ الْقَوْلَ بِحُدُوثِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ قَوْلٌ مُحْدَثٌ، وَأَنَّ مَذْهَبَ سَلَفِ الْأُمَّةِ نَفْيُ الْخَلْقِ عَنْهَا، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الطَّائِفَةِ الْقَائِلَةِ بِحُدُوثِهَا وَلَا يَحْسَبُ اللَّبِيبُ أَنَّ فِي الْعَقْلِ وَفِي السَّمْعِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، بَلْ مَنْ تَبَحَّرَ فِي الْمَعْقُولَاتِ وَوَقَفَ عَلَى أَسْرَارِهَا عَلِمَ قَطْعًا أَنْ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ الصَّرِيحِ الَّذِي لَا يُكَذِّبُ قَطُّ مَا يُخَالِفُ مَذْهَبَ السَّلَفِ وَأَهْلَ الْحَدِيثِ، بَلْ يُخَالِفُ مَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ الْمُنَازِعُونَ لَهُمْ بِظُلْمَةِ قُلُوبِهِمْ وَأَهْوَاءِ نُفُوسِهِمْ أَوْ مَا قَدْ يَفْتَرُونَهُ عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ التَّقْوَى وَقِلَّةِ الدِّينِ، وَلَوْ فُرِضَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ أَنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ الَّذِي لَا يُكَذِّبُ يُنَاقِضُ بَعْضَ الْأَخْبَارِ لَلَزِمَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إمَّا تَكْذِيبُ النَّاقِلِ أَوْ تَأْوِيلُ الْمَنْقُولِ، لَكِنْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ هَذَا لَمْ يَقَعْ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ قَطُّ فَإِنَّ حِفْظَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا أَنْزَلَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَأْبَى ذَلِكَ، نَعَمْ يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا فِي أَحَادِيثَ وَضَعَتْهَا الزَّنَادِقَةُ لِيَشِينُوا بِهَا أَهْلَ الْحَدِيثِ كَحَدِيثِ عَرَقِ الْخَيْلِ وَالْجَمَلِ الْأَوْرَقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا

يَعْلَمُ الْعُلَمَاءُ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ كَذِبٌ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا مَا قَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ مِثْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَالْحُمَيْدِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ إنْكَارِهِمْ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، وَالْآثَارُ بِذَلِكَ مَشْهُورَةٌ فِي كِتَابِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَكِتَابِ اللَّالَكَائِيِّ تِلْمِيذِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَكِتَابِ الطَّبَرَانِيِّ وَكِتَابِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَطُولُ ذِكْرُهُ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ التَّقْرِيرِ بِالْأَدِلَّةِ وَالْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَقْصُودُ الْحَالِفِ بِذِكْرِ الصَّوْتِ التَّصْدِيقَ بِالْآثَارِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَحَابَتِهِ وَتَابِعِيهِمْ الَّتِي وَافَقَتْ الْقُرْآنَ وَتَلَقَّاهَا السَّلَفُ بِالْقَبُولِ مِثْلُ مَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَقُولُ اللَّهُ يَا آدَم فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ فَيُنَادِي بِصَوْتٍ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِك بَعْثًا إلَى النَّارِ» . وَمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ: «أَنَّ اللَّهَ يُنَادِي عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ» وَمِثْلُ: «إنَّ اللَّهَ إذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ الْقُرْآنِ أَوْ غَيْرِهِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ صَوْتَهُ» ، وَفِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمِعُوا صَوْتَ الْجَبَّارِ وَأَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى بِصَوْتٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ الَّتِي قَالَهَا إمَّا ذَاكِرًا وَإِمَّا آثِرًا مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَمَسْرُوقٍ أَحَدِ أَعْيَانِ كِبَارِ التَّابِعِينَ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَحَدِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمَنْ لَا يُحْصَى كَثْرَةً وَلَا يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَلَا قَالَ خِلَافَهُ، بَلْ كَانَتْ الْآثَارُ مَشْهُورَةً بَيْنَهُمْ مُتَدَاوَلَةً فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ، بَلْ أَنْكَرَ ذَلِكَ شَخْصٌ فِي زَمَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ أَوَّلُ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي نَبَغَتْ فِيهَا الْبِدَعُ بِإِنْكَارِ ذَلِكَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَإِلَّا فَقَبْلَهُ قَدْ نَبَغَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَغَيْرُهُ، فَهَجَرَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَصَارَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَالْجَمَلِ الْأَجْرَبِ، فَإِنْ أَرَادَ الْحَالِفُ مَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ نَقْلًا صَحِيحًا فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَأَمَّا حَلِفُهُ أَنَّ الرَّحْمَنَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، عَلَى مَا يُفِيدُهُ الظَّاهِرُ وَيَفْهَمُهُ النَّاسُ، مِنْ ظَاهِرِهِ فَلَفْظَةُ الظَّاهِرِ قَدْ صَارَتْ مُشْتَرَكَةً فَإِنَّ الظَّاهِرَ فِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ وَاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَالدِّينِ الْقَيِّمِ وَلِسَانِ السَّلَفِ غَيْرُ الظَّاهِرِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ،

فَإِنْ أَرَادَ الْحَالِفُ بِالظَّاهِرِ شَيْئًا مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ الْمُحْدَثَيْنِ، أَوْ مَا يَقْتَضِي نَوْعَ نَقْصٍ بِأَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مِثْلُ اسْتِوَاءِ الْأَجْسَامِ عَلَى الْأَجْسَامِ، أَوْ كَاسْتِوَاءِ الْأَرْوَاحِ إنْ كَانَتْ عِنْدَهُ لَا تَدْخُلُ فِي أُمَمِ الْأَجْسَامِ فَقَدْ حَنِثَ فِي ذَلِكَ وَكَذَبَ، وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا يَقُولُ ذَلِكَ إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ مِثْلِ دَاوُد الْجَوَارِبِيِّ الْبَصْرِيِّ وَمُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْخُرَاسَانِيِّ وَهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ الرَّافِضِيِّ وَنَحْوِهِمْ إنْ صَحَّ النَّقْلُ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَأَنَّ مُبَايَنَتَهُ لِلْمَخْلُوقِينَ وَتَنَزُّهَهُ عَنْ مُشَارَكَتِهِمْ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِمَّا يَعْرِفُهُ الْعَارِفُونَ مِنْ خَلِيقَتِهِ وَيَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ، وَأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ تَسْتَلْزِمُ حُدُوثَهُ أَوْ نَقْصًا غَيْرَ الْحُدُوثِ فَيَجِبُ نَفْيُهَا عَنْهُ. وَمَنْ حَكَى عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، أَنَّهُ قَاسَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ فَهُوَ إمَّا كَاذِبٌ أَوْ مُخْطِئٌ، وَإِنْ أَرَادَ الْحَالِفُ بِالظَّاهِرِ مَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي فِطَرِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ ظُهُورِ الْأَهْوَاءِ وَتَشَتُّتِ الْآرَاءِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا أَنَّ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي سَائِرِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَى. وَ {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وَ «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إذَا أُطْلِقَتْ عَلَيْنَا أَنْ تَكُونَ أَعْرَاضًا وَأَجْسَامًا لِأَنَّ ذَوَاتِنَا كَذَلِكَ وَلَيْسَ ظَاهِرُهَا إذَا أُطْلِقَتْ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَّا مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَيُنَاسِبُ نَفْسَهُ. فَكَمَا أَنَّ لَفْظَ ذَاتٍ وَوُجُودٍ وَحَقِيقَةٍ يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى عِبَادِهِ وَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْإِطْلَاقَيْنِ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَيْسَ ظَاهِرُهُ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى مُسَاوِيًا لِظَاهِرِهِ فِي حَقِّنَا وَلَا مُشَارِكًا لَهُ فِيمَا يُوجِبُ نَقْصًا وَحُدُوثًا سَوَاءٌ جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُتَوَاطِئَةً أَوْ مُشْتَرِكَةً أَوْ مُشَكِّكَةً، كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] وَ {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ} [الذاريات: 58] {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] الْبَابُ فِي الْجَمِيعِ وَاحِدٌ، وَكَانَ قُدَمَاءُ الْجَهْمِيَّةِ يُنْكِرُونَ جَمِيعَ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ فِينَا أَعْرَاضٌ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَأَجْسَامٌ كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ، وَحُدَثَاؤُهُمْ أَقَرُّوا بِكَثِيرٍ مِنْ الصِّفَاتِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَأَنْكَرُوا بَعْضَهَا وَالصِّفَاتُ الَّتِي هِيَ فِينَا أَجْسَامٌ هِيَ فِينَا أَعْرَاضٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَقَرَّ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ فِينَا أَجْسَامٌ كَالْيَدِ وَأَمَّا السَّلَفِيَّةُ فَعَلَى مَا حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا: مَذْهَبُ السَّلَفِ

إجْرَاءُ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا فَلَا نَقُولُ إنَّ مَعْنَى الْيَدِ الْقُدْرَةُ وَلَا إنَّ مَعْنَى السَّمْعِ الْعِلْمُ وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ يُحْتَذَى فِيهِ حَذْوُهُ وَيُتْبَعُ فِيهِ مِثَالُهُ فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ الذَّاتِ إثْبَاتَ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ كَيْفِيَّةٍ فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتُ كَيْفِيَّةٍ، فَقَدْ أَخْبَرَك الْخَطَّابِيُّ وَالْخَطِيبُ وَهُمَا إمَامَانِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُتَّفَقٌ عَلَى عِلْمِهِمَا بِالنَّقْلِ وَعَلِمَ الْخَطَّابِيُّ بِالْمَعَانِي أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ إجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنِّي قَدْ بَالَغْتُ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَذَاهِبِ السَّلَفِ فَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ خَالَفَ ذَلِكَ. وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ، فَيَجِبُ لِمَنْ أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ الظَّاهِرُ الَّذِي يَلِيقُ بِالْمَخْلُوقِ لَا بِالْخَالِقِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مُرَادٌ فَهُوَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ كَافِرٌ. فَهُنَا بَحْثَانِ لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ أَمَّا الْمَعْنَوِيُّ فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ فِي قَوْلِهِ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وَنَحْوُهُ أَنْ يُقَالَ اسْتِوَاءٌ كَاسْتِوَاءِ مَخْلُوقٍ أَوْ يُفَسَّرَ بِاسْتِوَاءٍ يَسْتَلْزِمُ حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُحْكَى عَنْ الضُّلَّالِ الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا بِالْقُرْآنِ وَبِالْعَقْلِ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ مَا ثَمَّ اسْتِوَاءٌ حَقِيقِيٌّ أَصْلًا وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إلَهٌ وَلَا فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ فَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْجَهْمِيَّةِ الضَّالَّةِ الْمُعَطِّلَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا بِمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ لِمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي الْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ وَبِمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَلِيقَتَهُ مِنْ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ فَوْقَ خَلْقِهِ كَإِقْرَارِهِمْ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَا زَالَتْ الْأُمَمُ عَرَبُهَا وَعَجَمُهَا فِي جَاهِلِيَّتِهَا وَإِسْلَامِهَا مُعْتَرِفَةً بِأَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ، أَيْ عَلَى السَّمَاءِ أَوْ يُقَالُ بَلْ اسْتَوَى سُبْحَانَهُ عَلَى الْعَرْشِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَيُنَاسِبُ كِبْرِيَاءَهُ وَأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ وَأَنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ حَامِلٌ لِلْعَرْشِ وَلِحَمَلَةِ الْعَرْشِ، وَأَنَّ الِاسْتِوَاءَ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفَ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانَ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالَ عَنْهُ بِدْعَةٌ، كَمَا قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، فَهَذَا مَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ اسْتَوَى عِنْدَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَاقِينَ عَلَى الْفِطْرَةِ السَّالِمَةِ الَّتِي لَمْ تَنْحَرِفْ إلَى تَعْطِيلٍ وَلَا إلَى تَمْثِيلٍ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ الْوَاسِطِيُّ الْمُتَّفَقُ عَلَى إمَامَتِهِ وَجَلَالَتِهِ وَفَضْلِهِ،

وَهُوَ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ حَيْثُ قَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّحْمَنَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى خِلَافُ مَا يَقِرُّ فِي نُفُوسِ الْعَامَّةِ فَهُوَ جَهْمِيٌّ، فَإِنَّ الَّذِي أَقَرَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي فِطَرِ عِبَادِهِ وَجَبَلَهُمْ عَلَيْهِ أَنَّ رَبَّهُمْ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ كَمَا أَنْشَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ... وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ ... وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ الَّذِي أَجْمَعَتْ فِرَقُ الْأُمَّةِ عَلَى إمَامَتِهِ وَجَلَالَتِهِ حَتَّى قِيلَ إنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَقِيلَ مَا أَخْرَجَتْ خُرَاسَانُ مِثْلَ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَقَدْ أَخَذَ عَنْ عَامَّةِ عُلَمَاءِ وَقْتِهِ مِثْلَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَطَبَقَتِهِمْ حِينَ قِيلَ لَهُ بِمَاذَا تَعْرِفُ رَبَّنَا، قَالَ: بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ الْمُلَقَّبُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ مِمَّنْ يَفْرَحُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ بِمَا يَنْصُرُهُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَيَكَادُ يُقَالُ لَيْسَ فِيهِمْ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُ، مَنْ لَمْ يَقُلْ إنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَجَبَ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِنَتْنِ رِيحِهِ أَهْلُ الْمِلَّةِ وَلَا أَهْلُ الذِّمَّةِ، وَكَانَ مَالُهُ فَيْئًا. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ الْإِمَامُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ: اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَان لَا يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكَانٌ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مِثْلَ مَا قَالَ مَالِكٌ وَمَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ. وَالْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ وَسَائِرِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ بِذَلِكَ مُتَوَافِرَةٌ عِنْدَ مَنْ تَتَبَّعَهَا، قَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا مُصَنَّفَاتٍ صِغَارًا وَكِبَارًا، وَمَنْ تَتَبَّعَ الْآثَارَ عَلِمَ أَيْضًا قَطْعًا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ حَرْفٌ وَاحِدٌ يُنَاقِضُ ذَلِكَ، بَلْ كُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَعَقِيدَةٍ وَاحِدَةٍ يُصَدِّقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَعْلَمَ مِنْ بَعْضٍ كَمَا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِخَصَائِصِ النُّبُوَّةِ وَمَزَايَاهَا وَحُقُوقِهَا وَمُوجِبَاتِهَا وَحَقِيقَتِهَا وَصِفَاتِهَا ثُمَّ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَالَ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ ظَاهِرُ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ، وَلَا قَالَ هَذِهِ الْآيَةُ أَوْ هَذَا الْحَدِيثُ مَصْرُوفٌ عَنْ ظَاهِرِهِ، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي آيَاتِ الْأَحْكَامِ الْمَصْرُوفَةِ عَنْ عُمُومِهَا وَظُهُورِهَا، وَتَكَلَّمُوا فِيمَا يَسْتَشْكِلُ مِمَّا قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ، وَهَذَا مَشْهُورٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ أَطْلَقُوهَا بِسَلَامَةٍ وَطَهَارَةٍ وَصَفَاءٍ لَمْ يُشْرِبُوهُ بِكَدَرٍ وَلَا غِشٍّ،

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ لَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ سَلَفُ الْأُمَّةِ قَالُوا لِلْأُمَّةِ الظَّاهِرُ الَّذِي تَفْهَمُونَهُ غَيْرُ مُرَادٍ، أَوْ لَكَانَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اسْتَشْكَلَ هَذِهِ الْآيَةَ وَغَيْرَهَا، فَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ زَاغَ قَلْبُهُ حَتَّى صَارَ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ الْآيَةِ مَعْنًى فَاسِدٌ مِمَّا يَقْتَضِي حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا، فَلَا شَكَّ أَنَّ الظَّاهِرَ لِهَذَا الْوَاقِعِ غَيْرُ مُرَادٍ، وَإِذَا رَأَيْنَا رَجُلًا يَفْهَمُ مِنْ الْآيَةِ هَذَا الظَّاهِرَ الْفَاسِدَ قَرَّرَنَا عِنْدَهُ أَوَّلًا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ مَفْهُومًا مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ، ثُمَّ قَرَّرَنَا عِنْدَهُ ثَانِيًا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مَعْنًى فَاسِدٌ حَتَّى لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا فَرْضَ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ لَوَجَبَ صَرْفُ الْآيَةِ عَنْ ظَاهِرِهَا كَسَائِرِ الظَّوَاهِرِ الَّتِي عَارَضَهَا مَا أَوْجَبَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا غَيْرُ الظَّاهِرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ لَمْ يُحْكِمْ دَلَالَاتِ اللَّفْظِ وَيَعْلَمْ أَنَّ ظُهُورَ الْمَعْنَى مِنْ اللَّفْظِ تَارَةً يَكُونُ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ أَوْ الْعُرْفِيِّ أَوْ الشَّرْعِيِّ إمَّا فِي الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ وَإِمَّا فِي الْمُرَكَّبَةِ، وَتَارَةً بِمَا اقْتَرَنَ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ مِنْ التَّرْكِيبِ الَّذِي يَتَغَيَّرُ بِهِ دَلَالَتُهُ فِي نَفْسِهِ، وَتَارَةً بِمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي تَجْعَلُهَا مَجَازًا، وَتَارَةً بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَالُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ وَالْمُتَكَلَّمِ فِيهِ وَسِيَاقُ الْكَلَامِ الَّذِي يُعَيِّنُ أَحَدَ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِ أَوْ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُوَ مَجَازُهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُعْطِي اللَّفْظَ صِفَةَ الظُّهُورِ وَإِلَّا فَقَدْ يَتَخَبَّطُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ. نَعَمْ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِاللَّفْظِ قَطُّ شَيْءٌ مِنْ الْقَرَائِنِ الْمُتَّصِلَةِ تَبَيَّنَ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ، بَلْ عُلِمَ مُرَادُهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ لَفْظِيٍّ مُنْفَصِلٍ، فَهُنَا أُرِيدَ بِهِ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَفِي تَسْمِيَةِ الْمُرَادِ خِلَافُ الظَّاهِرِ كَالْعَامِّ الْمَخْصُوصِ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَإِنْ كَانَ الصَّارِفُ عَقْلِيًّا ظَاهِرًا فَفِي تَسْمِيَةِ الْمُرَادِ خِلَافُ الظَّاهِرِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَإِذَا عُرِفَ الْمَقْصُودُ فَقَوْلُنَا هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ أَلَيْسَ هُوَ الظَّاهِرَ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ. فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ مِمَّنْ فِي عُرْفِ خِطَابِهِ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا هُوَ مُمَاثِلٌ لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَقَدْ حَنِثَ، وَإِنْ كَانَ فِي عُرْفِ خِطَابِهِ أَنَّ ظَاهِرَهَا هُوَ مَا يَلِيقُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عُرْفَ أَهْلِ نَاحِيَتِهِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَبَبٌ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مُرَادِهِ وَتَعَذَّرَ الْعِلْمُ بِنِيَّتِهِ، فَقَدْ جَازَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَعْنًى صَحِيحًا وَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَعْنًى بَاطِلًا فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ، وَهَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ حَنِثَ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَحْنَثْ فَالْحُكْمُ فِي يَمِينِهِ ظَاهِرٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ مَنْ يُنْكِرُ هَذِهِ الصِّفَةَ وَأَمْثَالَهَا إذَا بَحَثْتَ عَنْ الْوَجْهِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَجَدَّتَهُمْ قَدْ اعْتَقَدُوا أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ أَوْ اسْتِوَاءٍ يَسْتَلْزِمُ حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا. ثُمَّ حَكَوْا عَنْ مُخَالِفِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ ثُمَّ تَعِبُوا فِي إقَامَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِهِ، ثُمَّ يَقُولُونَ فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ إمَّا بِالِاسْتِيلَاءِ أَوْ بِالظُّهُورِ وَالتَّجَلِّي أَوْ بِالْفَضْلِ وَالرُّجْحَانِ الَّذِي هُوَ عُلُوُّ الْقَدْرِ وَالْمَكَانَةِ، وَيَبْقَى الْمَعْنَى الثَّالِثُ وَهُوَ اسْتِوَاءٌ يَلِيقُ بِجَلَالِهِ تَكُونُ دَلَالَةُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَيْهِ كَدَلَالَةِ لَفْظِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ عَلَى مَعَانِيهَا قَدْ دَلَّ السَّمْعُ عَلَيْهِ، بَلْ مَنْ أَكْثَرَ النَّظَرَ فِي آثَارِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ قَدْ أُلْقِيَ إلَى الْأُمَّةِ، أَنَّ رَبَّكُمْ الَّذِي تَعْبُدُونَهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَوْقَ الْعَرْشِ فَوْقَ السَّمَوَاتِ، وَعَلِمَ أَنَّ عَامَّةَ السَّلَفِ كَانَ هَذَا عِنْدَهُمْ مِثْلَ مَا عِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ لَا يُنْقَلُ عَنْ وَاحِدٍ لَفْظٌ يَدُلُّ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ إنَّ رَبَّنَا لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ، أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ أَنَّ اسْتِوَاءَهُ عَلَى الْعَرْشِ كَاسْتِوَائِهِ عَلَى الْبَحْرِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تُرَّهَاتِ الْجَهْمِيَّةِ وَلَا مَثَّلَ اسْتِوَاءَهُ بِاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا أَثْبَتَ لَهُ صِفَةً تَسْتَلْزِمُ حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا، وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ لَكَ خَطَأَ مَنْ أَطْلَقَ الظَّاهِرَ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَلِيقُ بِالْخَلْقِ، أَنَّ الْأَلْفَاظَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا مَا مَعْنَاهُ مُفْرَدٌ كَلَفْظِ الْأَسَدِ وَالْحِمَارِ وَالْبَحْرِ وَالْكَلْبِ فَهَذَا إذَا قِيلَ أَسَدُ اللَّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ، أَوْ قِيلَ لِلْبَلِيدِ حِمَارٌ أَوْ قِيلَ لِلْعَالِمِ أَوْ السَّخِيِّ أَوْ الْجَوَادِ مِنْ الْخَيْلِ بَحْرٌ أَوْ قِيلَ لِلْأَسَدِ كَلْبٌ فَهَذَا مَجَازٌ ثُمَّ إنْ قُرِنَتْ بِهِ قَرِينَةٌ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ «كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَرَسِ، أَبِي طَلْحَةَ: إنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا» ، وَقَوْلِهِ: «إنَّ خَالِدًا سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ» . وَقَوْلِهِ لِعُثْمَانَ: «إنَّ اللَّهَ قَمَّصَكَ قَمِيصًا» وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ اسْتَلَمَهُ وَصَافَحَهُ فَكَأَنَّمَا بَايَعَ رَبَّهُ. أَوْ كَمَا قَالَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهُنَا اللَّفْظُ فِيهِ تَجَوُّزٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ ظَهَرَ مِنْ اللَّفْظِ مُرَادُ صَاحِبِهِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ فِي اسْتِعْمَالِ هَذَا الْمُتَكَلِّمِ لَا عَلَى الظَّاهِرِ فِي الْوَضْعِ الْأَوَّلِ، وَكُلُّ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْقَوْلَ عَلِمَ الْمُرَادَ بِهِ وَسَبَقَ ذَلِكَ إلَى ذِهْنِهِ بَلْ أَحَالَ إرَادَةَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ. وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ نَصًّا لَا مُحْتَمَلًا، وَلَيْسَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ

التَّأْوِيلِ الَّذِي هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ فِي شَيْءٍ، وَهَذَا أَحَدُ مَثَارَاتِ غَلَطِ الْغَالِطِينَ فِي هَذَا الْبَابِ حَيْثُ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمَعْنَى الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ وَأَنَّ اللَّفْظَ يُؤَوَّلُ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا فِي مَعْنَاهُ إضَافَةٌ إمَّا بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إضَافَةً مَحْضَةً كَالْعُلُوِّ وَالسُّفُولِ وَفَوْقَ وَتَحْتَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مَعْنًى ثُبُوتِيًّا فِيهِ إضَافَةٌ كَالْعِلْمِ وَالْحُبِّ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْأَلْفَاظِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ لَهُ مَعْنًى مُفْرَدٌ بِحَسَبِ بَعْضِ مَوَارِدِهِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مُفْرَدًا قَطُّ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ أَوْ الْمَجَازُ بَلْ يُجْعَلُ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ بَيْنَ مَوَارِدِهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ لَفْظَ اسْتَوَى لَمْ تَسْتَعْمِلْهُ الْعَرَبُ فِي خُصُوصِ جُلُوسِ الْآدَمِيِّ مَثَلًا عَلَى سَرِيرِهِ حَقِيقَةً حَتَّى يَصِيرَ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْعِلْمِ لَمْ تَسْتَعْمِلْهُ الْعَرَبُ فِي خُصُوصِ جُلُوسِ الْآدَمِيِّ مَثَلًا عَلَى سَرِيرِهِ حَقِيقَةً حَتَّى يَصِيرَ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْعِلْمِ لَمْ تَسْتَعْمِلْهُ الْعَرَبُ فِي خُصُوصِ الْعَرَضِ الْقَائِمِ بِقَلْبِ الْبَشَرِ الْمُنْقَسِمِ إلَى ضَرُورِيٍّ وَنَظَرِيٍّ حَقِيقَةً وَاسْتَعْمَلَتْهُ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا بَلْ هَذَا الْمَعْنَى تَارَةً يُسْتَعْمَلُ بِلَا تَعْدِيَةٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: 14] وَتَارَةً يُعَدَّى بِحَرْفِ الْغَايَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] وَتَارَةً يُعَدَّى بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ، ثُمَّ هَذَا تَارَةً يَكُونُ صِفَةً لِلَّهِ وَتَارَةً يَكُونُ صِفَةً لِخَلْقِهِ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يُجْعَلَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ حَقِيقَةً وَفِي الْآخَرِ مَجَازًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ اسْتِوَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْخَاصِّيَّةُ الَّتِي تَثْبُتُ لِلْمَخْلُوقِ دُونَ الْخَالِقِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] وقَوْله تَعَالَى {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] وقَوْله تَعَالَى {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] . وقَوْله تَعَالَى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء: 105] .

فصل القرآن كلام الله حروفه ومعانيه

{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ} [الأعراف: 145] فَهَلْ يَسْتَحِلُّ مُسْلِمٌ أَنْ يُثْبِتَ لِرَبِّهِ خَاصِّيَّةَ الْآدَمِيِّ الْبَانِي الصَّانِعِ الْعَامِلِ الْكَاتِبِ، أَمْ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ حَقِيقَةَ الْعَمَلِ وَالْبِنَاءِ كَمَا يَخْتَصُّ بِهِ وَيَلِيقُ بِجَلَالِهِ، أَمْ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَصْرُوفَةٌ عَنْ ظَاهِرِهَا، أَمْ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَقُولَ عَمَلُ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِهِ فَكَمَا أَنَّ ذَاتَه لَيْسَتْ مِثْلَ ذَوَاتِ خَلْقِهِ فَعَمَلُهُ وَصُنْعُهُ وَبِنَاؤُهُ لَيْسَ مِثْلَ عَمَلِهِمْ وَصُنْعِهِمْ وَبِنَائِهِمْ، وَنَحْنُ لَمْ نَفْهَمْ مِنْ قَوْلِنَا بَنَى فُلَانٌ وَكَتَبَ فُلَانٌ مَا فِي عَمَلِهِ مِنْ الْمُعَالَجَةِ وَالتَّأْثِيرِ إلَّا مِنْ جِهَةِ عِلْمِنَا بِحَالِ الْبَانِي لَا مِنْ جِهَةِ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ، فَفَرِّقْ أَصْلَحَكَ اللَّهُ بَيْنَ مَا دَلَّ مُجَرَّدُ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ لَفْظُ الْفِعْلِ وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِخُصُوصِ إضَافَتِهِ إلَى الْفَاعِلِ الْمُعَيَّنِ، وَبِهَذَا يَنْكَشِفُ لَكَ كَثِيرٌ مِمَّا يُشْكِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ وَتَرَى مَوَاقِعَ اللَّبْسِ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَاَللَّهُ يُوَفِّقُنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُؤْمِنِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَيَجْمَعُ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِنَفْسِهِ وَبَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [فَصْلٌ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ] فَصْلٌ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ، هُوَ الْمَنْصُوص عَنْ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَفِ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَأَمَّا نُصُوصُهُمْ الَّتِي فِيهَا بَيَانٌ أَنَّ كَلَامَهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، بَلْ الْمَعْنَى أَيْضًا مِنْ كَلَامِهِمْ فَكَثِيرٌ مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِثْلُ مَا ذَكَرَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنْ الْأَثْرَمِ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ الْعَبَّادِيُّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَثْرَمِ وَعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيِّ فَابْتَدَأَ عَبَّاسٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَوْمٌ قَدْ حَدَثُوا يَقُولُونَ لَا نَقُولُ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ. هَؤُلَاءِ أَضَرُّ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ عَلَى النَّاسِ، وَيْلَكُمْ فَإِنْ لَمْ تَقُولُوا لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَقُولُوا مَخْلُوقٌ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَوْمُ سُوءٍ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ الَّذِي أَعْتَقِدُهُ وَأَذْهَبُ إلَيْهِ وَلَا أَشُكُّ فِيهِ أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ يَشُكُّ فِي هَذَا، ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُسْتَعْظِمًا لِلشَّكِّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ فِي هَذَا شَكٌّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54] فَفَرَّقَ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فَالْقُرْآنُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ وَالْقُرْآنُ فِيهِ أَسْمَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ

أَيُّ شَيْءٍ يَقُولُونَ لَا يَقُولُونَ أَسْمَاءُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ فَقَدْ كَفَرَ، لَمْ يَزَلْ اللَّهُ تَعَالَى قَدِيرًا عَلِيمًا عَزِيزًا حَكِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا، لَسْنَا نَشُكُّ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ لَيْسَتْ بِمَخْلُوقَةٍ، وَلَسْنَا نَشُكُّ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَيْسَ مَخْلُوقٍ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا. ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَأَيُّ أَمْرٍ أَبْيَنَ مِنْ هَذَا، وَأَيُّ كُفْرٍ أَكْفَرُ مِنْ هَذَا إذَا زَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، فَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ، وَأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَلَكِنَّ النَّاسَ يَتَهَاوَنُونَ بِهَذَا وَيَقُولُونَ إنَّمَا يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَيَتَهَاوَنُونَ بِهِ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُ هَيِّنٌ وَلَا يَدْرُونَ مَا فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ. قَالَ وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ أَبُوحَ بِهَا لِكُلِّ أَحَدٍ وَهُمْ يَسْأَلُونَنِي فَأَقُولُ إنِّي أَكْرَهُ الْكَلَامَ فِي هَذَا، فَيَبْلُغُنِي أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ عَلَيَّ أَنِّي أُمْسِكُ قَالَ الْأَثْرَمُ فَقُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَمَنْ قَالَ إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَقَالَ لَا قَوْلَ إنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ وَلَا عِلْمُهُ لَمْ يَرُدَّ عَلَى هَذَا أَقُولُ هُوَ كَافِرٌ؟ فَقَالَ: هَكَذَا هُوَ عِنْدَنَا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَنَحْنُ نَحْتَاجُ أَنْ نَشُكَّ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، عِنْدَنَا فِيهِ أَسْمَاءُ اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، فَمَنْ قَالَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ عِنْدَنَا كَافِرٌ. ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا خَالِدٍ وَمُوسَى بْنَ مَنْصُورٍ وَغَيْرَهُمَا يَجْلِسُونَ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ فَيَعِيبُونَ قَوْلَنَا وَيَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَنْ لَا يُقَالَ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَيَعِيبُونَ مَنْ يُكَفِّرُ وَيَقُولُونَ إنَّا نَقُولُ بِقَوْلِ الْخَوَارِجِ، ثُمَّ تَبَسَّمَ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ كَالْمُغْتَاظِ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِعَبَّاسٍ وَذَاكَ السِّجِسْتَانِيُّ الَّذِي عِنْدَكُمْ بِالْبَصْرَةِ ذَاكَ الْخَبِيثُ بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ وَضَعَ فِي هَذَا أَيْضًا، يَقُولُ لَا أَقُولُ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ، ذَاكَ خَبِيثٌ ذَاكَ الْأَحْوَلُ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: كَانَ يَقُولُ مَرَّةً بِقَوْلِ جَهْمٍ ثُمَّ صَارَ إلَى أَنْ يَقُولَ بِهَذَا الْقَوْلِ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: مَا بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ جَهْمٌ إلَّا السَّاعَةَ. فَقَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إذَا زَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ وَأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، يُبَيِّنُ أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي تَضْمَنَّهُ الْقُرْآنُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْقُرْآنِ. وَقَدْ نَبَّهْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ حَقٌّ فَإِنَّ الْعِلْمَ أَصْلُ مَعْنَاهُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْضَمُّ إلَى الْعِلْمِ مَعْنَى الْحُبِّ وَالْبُغْضِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ خَبَرٌ أَوْ طَلَبٌ أَمَّا الْخَبَرُ الْحَقُّ فَإِنَّ مَعْنَاهُ عِلْمٌ بِلَا رَيْبٍ، وَأَمَّا الْإِنْشَاءُ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّهُ مَسْبُوقٌ بِتَصَوُّرِ الْمَأْمُورِ وَالْمَأْمُورِ

بِهِ وَغَيْرِ ذَاكَ فَالْعِلْمُ أَيْضًا أَصْلُهُ وَاسْمُ الْقُرْآنِ وَالْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ هَذَا كُلَّهُ فَقَوْلُ الْقَائِلِ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ يَتَضَمَّنُ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ اللَّهِ هِيَ فِي الْقُرْآنِ فَمَنْ قَالَ هُوَ مَخْلُوقٌ وَالْمَخْلُوقُ هُوَ الصَّوْتُ الْقَائِمُ بِبَعْضِ الْأَجْسَامِ يَكُونُ ذَلِكَ الْجِسْمُ هُوَ الَّذِي سَمَّى اللَّهَ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ الْجِسْمِ وَصَوْتُهُ لِلَّهِ اسْمٌ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ الِاسْمُ قَدْ نَحَلَهُ إيَّاهُ ذَلِكَ الْجِسْمُ. وَلِهَذَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ سَائِلٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا عَزِيزًا حَكِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا، فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ أَنِّي لَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ، هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ رَوَاهُ مُخْتَصَرًا وَلَفْظُ الْبُوشَنْجِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ عَنْ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ الَّذِي رَوَاهُ مِنْ جِهَتِهِ الْبَرْقَانِيُّ فِي صَحِيحِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْحَلْهُ غَيْرُهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَكَانَ اللَّهُ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ هَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْبَرْقَانِيِّ. وَذَكَرَ الْحُمَيْدِيُّ لَفْظَهُ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَلِكَ وَسَمَّى نَفْسَهُ وَجَعَلَ نَفْسَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْحَلْهُ أَحَدًا غَيْرُهُ، وَكَانَ اللَّهُ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، وَلَفْظُ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَدِيٍّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ: فَإِنَّ اللَّهَ سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَجْعَلْهُ غَيْرُهُ وَكَانَ اللَّهُ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ. فَقَدْ أَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ مَعْنَى الْقُرْآنِ إنَّ اللَّهَ سَمَّى نَفْسَهُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَمْ يَنْحَلْهُ ذَلِكَ غَيْرُهُ، وَقَوْلُهُ وَكَانَ اللَّهُ يَقُولُ إنِّي لَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ، الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ مَدْلُولُ الْآيَاتِ فَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: إنَّهُ إذَا كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا وَلَمْ يَزَلْ عَزِيزًا حَكِيمًا، وَالْحِكْمَةُ تَتَضَمَّنُ كَلَامَهُ وَمَشِيئَتَهُ كَمَا أَنَّ الرَّحْمَةَ تَتَضَمَّنُ مَشِيئَتَهُ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا مَرِيدًا، وَقَوْلُهُ غَفُورًا أَبْلَغُ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَمْ يَزَلْ غَفُورًا فَأَوْلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا، وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ: بَلْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا وَلَا رَحِيمًا وَلَا غَفُورًا إذْ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بِخَلْقِ أُمُورٍ مُنْفَصِلَةٍ عَنْهُ فَحِينَئِذٍ كَانَ كَذَلِكَ. الثَّانِي: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّ اللَّهَ سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَمَّى نَفْسَهُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَا أَنَّ الْمَخْلُوقَ هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ بِهَا، وَمَنْ قَالَ إنَّهَا مَخْلُوقَةٌ فِي جِسْمٍ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْجِسْمُ هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ بِهَا. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ وَلَمْ يَنْحَلْهُ ذَلِكَ غَيْرُهُ وَفِي اللَّفْظِ الْآخَرِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ ذَلِكَ غَيْرُهُ وَهَذَا

يَبِينُ بِجَعْلِهِ ذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ أَيْ هُوَ الَّذِي حَكَمَ بِنَفْسِهِ بِذَلِكَ لَا غَيْرُهُ، وَمَنْ جَعَلَهُ مَخْلُوقًا لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ الْغَيْرُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ كَذَلِكَ وَنَحَلَهُ ذَلِكَ. الرَّابِعُ: إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بَيَانِ مَعْنَى قَوْلِهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا عَزِيزًا حَكِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا لِيُبَيِّنَ حِكْمَةَ الْإِتْيَانِ بِلَفْظِ كَانَ فِي مِثْلِ هَذَا، فَأَخْبَرَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْحَلْهُ ذَلِكَ غَيْرُهُ، وَوَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذَا الْجَوَاب أَنَّهُ إذَا نَحَلَ ذَلِكَ غَيْرُهُ كَانَ ذَلِكَ مَخْلُوقًا بِخَلْقِ ذَلِكَ الْغَيْرِ فَلَا يُخْبِرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ نَاسَبَ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ وَمَا زَالَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ هُوَ لَمْ يَزَلْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَهَذَا التَّفْرِيقُ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ لِيَصِحَّ أَنْ يُقَالَ لَمَّا كَانَ هُوَ الْمُسَمِّي لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ كَانَ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، فَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ بِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَأَنَّ أَسْمَاءَهُ مَخْلُوقَةٌ لِأَنَّ ظُهُورَ عَدَمِ خَلْقِ هَذَيْنِ لِلنَّاسِ أَبْيَنُ مِنْ ظُهُورِ عَدَمِ الْقَوْلِ بِفَسَادِ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِخَلْقِ هَذَيْنِ وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ لَمْ يَصِحَّ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ الْحُجَّةِ، فَإِنَّ خَلْقَ الْحُرُوفِ وَحْدَهَا لَا تَسْتَلْزِمُ خَلْقَ الْعِلْمِ، وَهَكَذَا الْقَائِلُونَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ إنَّمَا يَقُولُونَ بِخَلْقِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ لِأَنَّ هَذَا هُوَ عِنْدَهُمْ الْقُرْآنُ لَيْسَ لِلْعِلْمِ عِنْدَهُمْ دَخْلٌ فِي مُسَمَّى الْقُرْآنِ. وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ لَهُ الْأَثْرَمُ فَمَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَقَالَ لَا أَقُولُ إنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ وَلَا عِلْمُهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا أَقُولُ هُوَ كَافِرٌ، فَقَالَ هَكَذَا هُوَ عِنْدَنَا ثُمَّ اسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامَ الْمُنْكِرِ فَقَالَ أَنَحْنُ نَحْتَاجُ أَنْ نَشُكَّ فِي هَذَا الْقُرْآنِ عِنْدَنَا فِيهِ أَسْمَاءُ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، فَمَنْ قَالَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ عِنْدَنَا كَافِرٌ فَأَجَابَ أَحْمَدُ بِأَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا بِخَلْقِ أَسْمَائِهِ وَعِلْمِهِ، فَقَوْلُهُمْ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ وَنَحْنُ لَا نَشُكُّ فِي ذَلِكَ حَتَّى نَقِفَ فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ خَلْقَ أَسْمَائِهِ وَعِلْمِهِ، وَلَمْ يَقْبَلْ أَحْمَدُ قَوْلَهُمْ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَإِنْ لَمْ يُدْخِلُوا فِيهِ أَسْمَاءَ اللَّهِ وَعِلْمَهُ لِأَنَّ دُخُولَ ذَلِكَ فِيهِ لَا رَيْبَ فِيهِ كَمَا أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي جِسْمٍ لَكِنْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَا ذَلِكَ الْجِسْمُ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ كَلَامُ ذَلِكَ الْجِسْمِ لَا كَلَامُ اللَّهِ، كَإِنْطَاقِ جَوَارِحِ الْعَبْدِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ نُطْقِهِ وَبَيْنَ إنْطَاقِهِ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَجْسَامِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ فِيهِ أَسْمَاءُ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ عِلْمُ اللَّهِ لِأَنَّ كَوْنَ أَسْمَاءِ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ يَعْلَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ وَلَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يُنَازِعَ فِيهِ، وَأَمَّا اشْتِمَالُ الْقُرْآنِ عَلَى الْعِلْمِ فَهَذَا يُنَازِعُ فِيهِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقُرْآنَ هُوَ مُجَرَّدُ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَجْعَلُونَ الْقُرْآنَ فِيهِ عِلْمُ اللَّهِ بَلْ وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ الْكَلَامُ مَعْنًى قَائِمٌ بِالذَّاتِ وَالْخَبَرِ وَالطَّلَبِ وَأَنَّ مَعْنَى الْخَبَرِ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ وَمَعْنَى الطَّلَبِ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِرَادَةَ، يُنَازِعُونَ فِي أَنَّ مُسَمَّى الْقُرْآنِ يَدْخُلُ فِيهِ الْعِلْمُ، فَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَإِنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ، فَذَكَرَ أَحْمَدُ لَفْظَ الْقُرْآنِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَوَارِدِ النِّزَاعِ فَإِنَّ قَوْلَهُ الْقُرْآنُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] . وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145] وَلِقَوْلِهِ: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران: 61] الْآيَةَ وَلِقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ} [الرعد: 37] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِاَلَّذِي جَاءَك مِنْ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ إنَّمَا هُوَ مَا جَاءَهُ مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَاتِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَجِيءَ الْقُرْآنِ إلَيْهِ مَجِيءُ مَا جَاءَهُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ مَا فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ قَدْ يُقَالُ هَذَا الْكَلَامُ فِيهِ عِلْمٌ عَظِيمٌ. وَقَدْ يُقَالُ هَذَا الْكَلَامُ عِلْمٌ عَظِيمٌ، فَأَطْلَقَ أَحْمَدُ عَلَى الْقُرْآنِ أَنَّهُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي فِيهِ عِلْمٌ هُوَ نَفْسُهُ يُسَمَّى عِلْمًا وَذَلِكَ هُوَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ كَمَا قَالَ: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران: 61] فَفِيهِ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ مَا شَاءَهُ سُبْحَانَهُ لَا جَمِيعُ عِلْمِهِ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ كَمَا رَوَاهُ الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي الْحَارِثِ قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ عِلْمَ

اللَّه مَخْلُوقٌ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ حَتَّى خَلَقَهُ، وَكَمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْهَاشِمِيِّ قَالَ: دَخَلْت عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَا وَأَبِي فَقَالَ لَهُ أَبِي يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ الْقُرْآنُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، وَمَنْ قَالَ إنَّ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ شَيْئًا مَخْلُوقًا فَقَدْ كَفَرَ. ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ مَنْ يَقُولُ عِلْمُ اللَّهِ بَعْضُهُ مَخْلُوقٌ وَبَعْضُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَقَدْ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ وَإِنْ جَعَلَ الْقُرْآنَ مِنْ عِلْمِهِ فَبَعْضُ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ. كَمَا رَوَى الْخَلَّالُ عَنْ الْمَيْمُونِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قُلْتُ مَنْ قَالَ كَانَ اللَّهُ وَلَا عِلْمَ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ تَغَيُّرًا شَدِيدًا وَأَكْبَرَ غَيْظَهُ ثُمَّ قَالَ لِي: كَافِرٌ، وَقَالَ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ أَزْدَادُ فِي الْقَوْمِ بَصِيرَةً. قَالَ: وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلِمْتُ أَنَّ بِشْرًا الْمَرِيسِيَّ كَانَ يَقُولُ الْعِلْمُ عِلْمَانِ فَعِلْمٌ مَخْلُوقٌ وَعِلْمٌ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَهَذَا أَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ هَذَا؟ قُلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَيْفَ يَكُونُ إذَا قَالَ لَا أَدْرِي أَيَكُونُ عِلْمُهُ كُلُّهُ بَعْضُهُ مَخْلُوقٌ وَبَعْضُهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ لَا أَدْرِي كَيْفَ ذَا بِشْرٌ كَذَا كَانَ يَقُولُ وَتَعَجَّبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ تَعَجُّبًا شَدِيدًا وَرُوِيَ عَنْ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قُلْت لِابْنِ الْحَجَّامِ - يَعْنِي يَوْمَ الْمِحْنَةِ - مَا تَقُولُ فِي عِلْمِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَخْلُوقٌ فَنَظَرَ ابْنُ رَبَاحٍ إلَى ابْنِ الْحَجَّامِ نَظَرًا مُنْكِرًا عَلَيْهِ لَمَّا أَسْرَعَ، فَقُلْت لِابْنِ رَبَاحٍ أَيُّ شَيْءٍ تَقُولُ أَنْتَ فَلَمْ يَرْضَ مَا قَالَ ابْنُ الْحَجَّامِ فَقُلْت لَهُ كَفَرْت قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ كَانَ لَا عِلْمَ لَهُ فَهَذَا الْكُفْرُ بِاَللَّهِ، وَقَدْ كَانَ الْمَرِيسِيِّ يَقُولُ إنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَكَلَامَهُ مَخْلُوقٌ وَهَذَا الْكُفْرُ بِاَللَّهِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ سَمِعْت أَبِي يَقُولُ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ عِنْدَنَا كُفْرٌ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَفِيهِ أَسْمَاءُ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران: 61] . وَعَنْ الْمَرُّوذِيِّ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْحُجَّةُ {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران: 61] الْآيَةَ وَقَالَ: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145]

وَقَالَ {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] وَقَالَ {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ} [الرعد: 37] وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقُرْآنُ وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي جَاءَهُ وَالْعِلْمُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْقُرْآنُ مِنْ الْعِلْمِ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ، وَقَالَ: {الرَّحْمَنُ} [الرحمن: 1] {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 2] {خَلَقَ الإِنْسَانَ} [الرحمن: 3] وَقَالَ: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54] . فَأَخْبَرَ أَنَّ الْخَلْقَ خَلْقٌ وَالْخَلْقُ غَيْرُ الْأَمْرِ وَأَنَّ الْأَمْرَ غَيْرُ الْخَلْقِ وَهُوَ كَلَامُهُ وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَخْلُ مِنْ الْعِلْمِ وَقَالَ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . وَالذِّكْرُ هُوَ الْقُرْآنُ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُ مِنْهُمَا وَلَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَلَيْسَا مِنْ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُ مِنْهُمَا، فَالْقُرْآنُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ ثَوَابٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مِنْ أَيْنَ أَكْفَرْتَهُمْ؟ قَالَ: قَرَأْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ غَيْرَ مَوْضِعٍ: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 120] فَذَكَرَ الْكَلَامَ قَالَ ابْنُ ثَوَابٍ ذَاكَرْتُ ابْنِ الدَّوْرَقِيِّ فَذَهَبَ إلَى أَحْمَدَ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ لِي سَأَلْتُهُ فَقَالَ لِي كَمَا قَالَ لَكَ إلَّا أَنَّهُ قَدْ زَادَنِي أَنْزَلَهُ بِعَمَلِهِ، ثُمَّ قَالَ لِي أَحْمَدُ إنَّمَا أَرَادُوا الْإِبْطَالَ. وَقَدْ فَسَّرَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ حَزْمٍ كَلَامَ أَحْمَدَ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِلَفْظِ الْقُرْآنِ الْمَعْنَى فَقَطْ، وَأَنَّ مَعْنَى الْقُرْآنِ يَعُودُ إلَى الْعِلْمِ فَهُوَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَلَمْ يُرِدْ بِالْقُرْآنِ الْحُرُوفَ وَالْمَعَانِيَ فَمَنْ جَعَلَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ لَيْسَ لَهُ مَعْنًى إلَّا الْعِلْمُ فَقَدْ كَذَبَ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا أَحْمَدُ أَنَّ مَعْنَاهَا الْعِلْمُ لِأَنَّهَا كُلَّهَا مِنْ بَابِ الْخَبَرِ وَمَعْنَى الْخَبَرِ الْعِلْمُ فَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ الْأَوَّلِ، وَهَذَا إذَا صَحَّ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِالْكَلَامِ الْمَعْنَى تَارَةً كَمَا يُرَادُ بِهِ الْحُرُوفُ أُخْرَى، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ أَحْمَدُ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِالْحُرُوفِ فَهَذَا خِلَافُ نُصُوصِهِ الصَّرِيحَةِ عَنْهُ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ قَدِيمٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ هُوَ الْمَعْنَى

الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَكْفُرُ مَنْ قَالَ بِحُدُوثِهِ. قَالَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ رَدًّا عَلَى الْجَهْمِيَّةِ الضُّلَّالِ: إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ، وَرَوَى عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ بُخْتَانَ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَمَّنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ، قَالَ بَلَى تَكَلَّمَ بِصَوْتٍ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كَمَا جَاءَتْ نَرْوِيهَا لِكُلِّ حَدِيثٍ وَجْهٌ يُرِيدُونَ أَنْ يُمَوِّهُوا عَلَى النَّاسِ، مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسًى فَهُوَ كَافِرٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " إذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ صَوْتَهُ أَهْلُ السَّمَاءِ فَيَخِرُّونَ سُجُودًا حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، قَالَ سَكَنَ عَنْ قُلُوبِهِمْ - نَادَى أَهْلَ السَّمَاءِ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ "، قَالَ كَذَا وَكَذَا، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ، وَذَكَرَهُ عَنْهُ الْخَلَّالُ قَالَ سَأَلْت أَبِي عَنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى لَمْ يَتَكَلَّمْ بِصَوْتٍ فَقَالَ أَبِي بَلْ تَكَلَّمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِصَوْتٍ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ نَرْوِيهَا كَمَا جَاءَتْ، وَقَالَ أَبِي حَدِيث ابْنِ مَسْعُودٍ إذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سُمِعَ لَهُ صَوْتٌ كَجَرِّ سِلْسِلَةٍ عَلَى الصَّفْوَانِ قَالَ أَبِي وَالْجَهْمِيَّةُ تُنْكِرُهُ وَقَالَ أَبِي هَؤُلَاءِ كُفَّارٌ يُرِيدُونَ أَنْ يُمَوِّهُوا عَلَى النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ فَهُوَ كَافِرٌ، إنَّمَا نَرْوِي هَذِهِ الْأَحَادِيثَ كَمَا جَاءَتْ. وَرَوَى الْمَرُّوذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَقِيلَ لَهُ إنَّ عَبْدَ الْوَهَّابِ قَدْ تَكَلَّمَ، وَقَالَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسًى بِلَا صَوْتٍ فَهُوَ جَهْمِيٌّ عَدُوُّ اللَّهِ وَعَدُوُّ الْإِسْلَامِ، أَيْ حَقًّا جَهْمِيٌّ عَدُوُّ اللَّهِ مِنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ يَا ضَالًّا مُضِلًّا مَنْ ذَبَّ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ مَنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ يُجَانِبُ أَشَدَّ الْمُجَانَبَةَ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ سَأَلَ حَتَّى انْتَهَى إلَى آخِرِ كَلَامِ عَبْدِ الْوَهَّابِ. فَتَبَسَّمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا تَكَلَّمَ عَافَاهُ اللَّهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ مِنْهُ شَيْئًا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ صَاحِبُ الصَّحِيحِ فِي كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَيَذْكُرُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ اللَّهَ يُنَادِي بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ فَلَيْسَ هَذَا لِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ صَوْتَ اللَّهِ لَا يُشْبِهُ أَصْوَاتَ الْخَلْقِ، لِأَنَّ صَوْتَ اللَّهِ يُسْمِعُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يُسْمِعُ مَنْ قَرُبَ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُصْعَقُونَ مِنْ صَوْتِهِ فَإِذَا تَنَادَى الْمَلَائِكَةُ لَمْ يُصْعَقُوا. وَقَالَ: لَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا فَلَيْسَ لِصِفَةِ اللَّهِ نِدٌّ وَلَا مِثْلٌ وَلَا يُوجَدُ

شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ فِي الْمَخْلُوقِينَ، حَدَّثَنَا بِهِ دَاوُد بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ أَخْبَرْنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُمْ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ يَقُولُ، سَمِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ، أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلِمَةٍ» وَهَذَا قَدْ اسْتَشْهَدَ بِهِ فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَا آدَم فَيَقُولُ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ: فَيُنَادِي بِصَوْتٍ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِك بَعْثًا إلَى النَّارِ، قَالَ يَا رَبِّ مَا بَعْثُ النَّارِ قَالَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ. أُرَاهُ قَالَ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ فَحِينَئِذٍ تَضَعُ الْحَامِلُ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: مَنْ كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ لَوْلَا ابْنُ مَسْعُودٍ سَأَلْنَاهُ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ: 23] قَالَ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ صَلْصَلَةً مِثْلَ صَلْصَلَةِ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ فَيَخِرُّونَ حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ سَكَنَ الصَّوْتُ عَرَفُوا أَنَّهُ الْوَحْيُ وَنَادَوْا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ، وَقَالَ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِهَذَا وَقَالَ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ إنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتْ الْمَلَائِكَةُ أَجْنِحَتَهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى الصَّفْوَانِ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» : قَالَ وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: إذَا قَضَى اللَّهُ أَمْرًا تَكَلَّمَ رَجَفَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَخَرَّتْ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ سُجَّدًا. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ حَدَّثَنَا زِيَادٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُمْ «مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي هَذَا النَّجْمِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ، قَالَ كُنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ نَقُولُ حِينَ رَأَيْنَاهَا يُرْمَى بِهَا مَاتَ مَلَكٌ

الأصل التاسع في كونه تعالى متكلما

وُلِدَ مَوْلُودٌ مَاتَ مَوْلُودٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ. وَلَكِنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى فِي حَقِّهِ أَمْرًا يَسْمَعُهُ أَهْلُ الْعَرْشِ فَيُسَبِّحُونَ فَيُسَبِّحُ مَنْ تَحْتَهُمْ بِتَسْبِيحِهِمْ فَيُسَبِّحُ مَنْ تَحْتَ ذَلِكَ فَلَمْ يَزَلْ التَّسْبِيحُ يَهْبِطُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لِمَ سَبَّحْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ سَبَّحَ مَنْ فَوْقَنَا فَسَبَّحْنَا بِتَسْبِيحِهِمْ، فَيَقُولُونَ أَفَلَا تَسْأَلُونَ مَنْ فَوْقَكُمْ مِمَّ سَبَّحُوا، فَيَسْأَلُونَهُمْ فَيَقُولُونَ قَضَى اللَّهُ فِي خَلْقِهِ كَذَا وَكَذَا الْأَمْرُ الَّذِي كَانَ فَيَهْبِطُ بِهِ الْخَبَرُ مِنْ سَمَاءٍ إلَى سَمَاءٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَتَحَدَّثُونَ بِهِ فَتَسْتَرِقُهُ الشَّيَاطِينُ بِالسَّمْعِ عَلَى تَوَهُّمٍ مِنْهُمْ وَاخْتِلَافٍ، ثُمَّ يَأْتُونَ بِهِ إلَى الْكُهَّانِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَيُحَدِّثُونَهُمْ فَيُخْطِئُونَ وَيُصِيبُونَ فَتُحَدِّثُ بِهِمْ الْكُهَّانُ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ حَجَبَ الشَّيَاطِينَ عَنْ السَّمَاءِ بِهَذِهِ النُّجُومِ وَانْقَطَعَتْ الْكِهَانَةُ الْيَوْمَ فَلَا كِهَانَةَ» ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِيّ فِي كِتَابِهِ (نِهَايَةِ الْعُقُولِ فِي دِرَايَةِ الْأُصُولِ) الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ أَوْرَدَ فِيهِ مِنْ الدَّقَائِقِ مَا لَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَالسَّابِقِينَ وَاللَّاحِقِينَ وَالْمُوَافِقِينَ. [الْأَصْلُ التَّاسِعُ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَحِلِّ النِّزَاعِ] الْأَصْلُ التَّاسِعُ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا وَفِيهِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَحِلِّ النِّزَاعِ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ زَعَمُوا أَنَّ الْمَعْنَى بِكَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا أَنَّهُ خَلَقَ هَذِهِ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ فِي جِسْمٍ، وَنَحْنُ نَزْعُمُ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ مُغَايِرَةٌ لِهَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، وَأَنَّ ذَاتَه تَعَالَى مَوْصُوفَةٌ بِتِلْكَ الصِّفَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ، لِأَنَّ النِّزَاعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ إمَّا فِي الْمَعْنَى وَإِمَّا فِي اللَّفْظِ. أَمَّا فِي الْمَعْنَى فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ فِي الصِّحَّةِ أَوْ فِي الْوُقُوعِ، أَمَّا النِّزَاعُ فِي الصِّحَّةِ، فَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّا تَوَافَقْنَا جَمِيعًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَصِحُّ مِنْهُ إيجَادُ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، أَمَّا فِي الْوُقُوعِ فَذَلِكَ عِنْدَنَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى مُوجِدٌ لِجَمِيعِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَمِنْهَا هَذِهِ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُنَا إنْكَارُ كَوْنِهِ مُوجِدًا لَهَا عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَهُمْ يُثْبِتُونَ ذَلِكَ بِالسَّمْعِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَزْمَ بِوُقُوعِ الْجَائِزَاتِ الَّتِي لَا تَكُونُ مَحْسُوسَةً لَا يُسْتَفَادُ إلَّا مِنْ السَّمْعِ، فَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى بِكَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا عِنْدَهُمْ أَنَّهُ خَلَقَ هَذِهِ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ وَلَمْ يُثْبِتُوا لَهُ مِنْ كَوْنِهِ

تَعَالَى خَالِقًا صِفَةً أَوْ حَالَةً وَحُكْمًا أَزْيَدَ مِنْ كَوْنِهِ خَالِقًا لَهَا، فَقَدْ تَعَيَّنَ أَنَّهُ يُمْكِنُ مُنَازَعَتُهُمْ فِي ذَلِكَ، ثَبَتَ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فِي كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي قَالُوهُ. وَأَمَّا النِّزَاعُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَفْظَةَ الْمُتَكَلِّمِ فِي اللُّغَةِ مَوْضُوعَةٌ لِمُوجِدِ الْكَلَامِ، وَالنَّاسُ قَدْ أَطْنَبُوا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الْإِطْنَابَ لِأَنَّهُ بَحْثٌ لُغَوِيٌّ وَيَنْبَغِي أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إلَى الْأُدَبَاءِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْمَبَاحِثِ الْعَقْلِيَّةِ فِي شَيْءٍ، وَأَقْوَى مَا تَمَسَّكَ بِهِ أَصْحَابُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اللَّفْظِيَّةِ أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ: أَوَّلُهَا: إنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ مَتَى سَمِعُوا مِنْ إنْسَانٍ كَلَامًا سَمَّوْهُ مُتَكَلِّمًا، مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كَوْنَهُ فَاعِلًا لِذَلِكَ الْكَلَامِ وَلَوْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ هُوَ الْفَاعِلُ لِلْكَلَامِ لَمَا أَطْلَقُوا اسْمَ الْمُتَكَلِّمِ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ فَاعِلًا. وَثَانِيهَا: إنَّ الِاسْتِقْرَارَ لِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَسْوَدَ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالسَّوَادِ، وَكَذَلِكَ الْأَبْيَضُ وَالْعَالِمُ وَالْقَادِرُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ فِي اللُّغَةِ هُوَ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ. وَثَالِثُهَا: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْكَلَامَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حِينَ قَالَ: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] ثُمَّ إنَّهُ أَضَافَ ذَلِكَ الْقَوْلَ إلَيْهِمَا، وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا بِقَوْلِهِ: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَخَطَأٌ. وَرَابِعُهَا: إنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْكَلَامَ فِي الذِّرَاعِ الَّتِي أَكَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ لَا تَأْكُلْ مِنِّي فَإِنِّي مَسْمُومَةٌ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَأَقْوَى مَا تَمَسَّكَ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّ الْعَرَبَ يَقُولُونَ: تَكَلُّمُ الْجِنِّيِّ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ فَأَضَافُوا الْكَلَامَ الْقَائِمَ بِالْمَصْرُوعِ إلَى الْجِنِّيِّ لِاعْتِقَادِهِمْ كَوْنَ الْجِنِّيِّ فَاعِلًا لَهُ فَلَوْلَا اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ هُوَ الْفَاعِلُ لِلْكَلَامِ وَإِلَّا لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَجَازًا وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فَرُبَّمَا كَانَ مُرَادُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ هُوَ كَلَامُ الْجِنِّيِّ حَالَ كَوْنِهِ قَرِيبًا مِنْ لِسَانِ الْمَصْرُوعِ فَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي الْبَحْثِ اللُّغَوِيِّ الْخَالِي عَنْ الْفَوَائِدِ الْعَقْلِيَّةِ فَهَذَا هُوَ الْبَحْثُ عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ. فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَنَحْنُ نُثْبِتُ لِلَّهِ تَعَالَى كَلَامًا مُغَايِرًا لِهَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَنَدَّعِي قِدَمَ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَلِلْمُعْتَزِلَةِ فِيهِ ثَلَاثُ مَقَامَاتٍ:

الفصل الثاني كونه تعالى متكلما وإثبات قدم كلامه

الْأَوَّلُ: مُطَالَبَتُهُمْ إيَّانَا بِإِفَادَةِ تَصَوُّرِ مَاهِيَّةِ هَذَا الْكَلَامِ. الثَّانِي: الْمُطَالَبَةُ بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى اتِّصَافِهِ تَعَالَى بِهَا. الثَّالِثُ: الْمُطَالَبَةُ بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ قَدِيمًا فَثَبَتَ أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ لَيْسَ فِي كَيْفِيَّةِ الصِّفَةِ فَقَطْ، بَلْ فِي وَجْهِ تَصَوُّرِ مَاهِيَّتِهَا أَوَّلًا ثُمَّ فِي إثْبَاتِ قِدَمِهَا وَهَذَا الْقَدْرُ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُلَخَّصًا، وَنَحْنُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى نَذْكُرُ دَلَالَةً وَافِيَةً بِالْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ [الْفَصْلُ الثَّانِي كَوْنِهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا وَإِثْبَاتِ قِدَمِ كَلَامِهِ] الْفَصْلُ الثَّانِي فِي كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا وَإِثْبَاتِ قِدَمِ كَلَامِهِ فَالدَّلِيلُ حُصُولُ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ آمِرُنَا مُخْبِرٌ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ الْأَلْفَاظِ أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ اللَّفْظَةَ الْمَوْضُوعَةَ لِلْأَمْرِ قَدْ كَانَ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَضَعَ اللَّفْظَةَ الَّتِي وَضَعَهَا لِأَنَّ إفَادَةَ مَعْنَى الْأَمْرِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى الْخَبَرِ وَبِالْعَكْسِ، فَإِذْنُ كَوْنِ اللَّفْظَةِ الْمُعَيَّنَةِ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ خَبَرًا إنَّمَا كَانَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَاهِيَّةِ الطَّلَبِ وَالزَّجْرِ وَالْحُكْمِ، وَهَذِهِ الْمَاهِيَّاتُ لَيْسَتْ أُمُورًا وَصْفِيَّةً لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ السَّوَادَ لَا يَنْقَلِبُ بَيَاضًا أَوْ غَيْرَهُ وَبِالْعَكْسِ، وَكَذَلِكَ مَاهِيَّةُ الطَّلَبِ لَا تَنْقَلِبُ مَاهِيَّةُ الزَّجْرِ وَلَا الزَّجْرُ مِنْهَا مَاهِيَّةَ الْحُكْمِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى آمِرًا نَاهِيًا مُخْبِرًا وَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا إذَا كَانَ اللَّهُ مَوْصُوفًا بِطَلَبٍ وَزَجْرٍ وَحُكْمٍ. فَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ ظَاهِرًا أَنَّهَا لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْبَقَاءِ بَلْ الَّذِي يَشْتَبِهُ الْحَالُ فِيهِ، أَمَّا فِي الطَّلَبِ وَالزَّجْرِ فَهِيَ الْإِرَادَةُ وَالْكَرَاهِيَةُ وَأَمَّا فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الْعِلْمُ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِمَا ثَبَتَ فِي خَلْقِ الْأَعْمَالِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ وَيَنْهَى عَمَّا يُرِيدُ، فَمُوجِبٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ فِي حَقِّ اللَّهِ شَيْئًا سِوَى الْإِرَادَةِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى بِالْكَلَامِ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ فِي الشَّاهِدِ قَدْ يَحْكُمُ الْإِنْسَانُ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَعْتَقِدُهُ وَلَا يَظُنُّهُ فَإِذَنْ الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ فِي الشَّاهِدِ مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ ثَبَتَ فِي الْغَائِبِ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَاهِيَّةَ الْخَبَرِ لَا تَخْتَلِفُ فِي الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ قَالَ فَثَبَتَ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ وَخَبَرَهُ صِفَاتٌ حَقِيقِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ مُغَايِرَةٌ لِذَاتِهِ وَعِلْمِهِ، وَأَنَّ الْأَلْفَاظَ الْوَارِدَةَ فِي الْكُتُبِ الْمُنْزَلَةِ دَلِيلٌ عَلَيْهَا، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ الْقَطْعُ بِقِدَمِهَا لِأَنَّ الْأُمَّةَ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْهُمْ مَنْ نَفَى كَوْنَ اللَّهِ مَوْصُوفًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ بِهَذَا الْمَعْنَى. وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَهُ

مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ قَدِيمَةٌ فَلَوْ أَثْبَتَ كَوْنَهُ تَعَالَى مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ ثُمَّ حَكَمْنَا بِحُدُوثِ هَذِهِ الصِّفَاتِ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا ثَالِثًا خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ وَهُوَ بَاطِلٌ، ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَسْئِلَةً مِنْهَا مِمَّا نَعَاهُ تَارَةً فِي إثْبَاتِ هَذِهِ الْمَعَانِي لِلَّهِ وَتَارَةً فِي قِدَمِهَا وَقَالَ وَمِنْهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْجِعَ بِالْحُكْمِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْخَبَرِ إلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِذَلِكَ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا كَوْنَهُ تَعَالَى مَوْصُوفًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ قَدِيمَةٌ بِقَوْلِكُمْ كُلُّ مَنْ أَثْبَتَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ، أَثْبَتَهَا قَدِيمَةً قُلْت الْقَوْلُ فِي إثْبَاتِهَا مَسْأَلَةٌ، وَالْقَوْلُ فِي قِدَمِهَا مَسْأَلَةٌ أُخْرَى. فَلَوْ لَزِمَ مِنْ ثُبُوتِ إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ ثُبُوتُ الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى لَزِمَ مِنْ إثْبَاتِ كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِعِلْمٍ قَدِيمٍ إثْبَاتُ كَوْنِهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ قَدِيمٍ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا فَكَذَا مَا ذَكَرْتُمُوهُ، ثُمَّ لَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْإِجْمَاعِ يَقْتَضِي قِدَمَ كَلَامِ اللَّهِ لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ لَمْ يُثْبِتْ قِدَمَ كَلَامِ اللَّهِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ فَيَكُونُ التَّمَسُّكُ بِمَا ذَكَرْتُمُوهُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ، ثُمَّ ذَكَرَ مُعَارَضَاتِ الْمُخَالِفِ بِوُجُوهٍ عَقْلِيَّةٍ وَنَقْلِيَّةٍ تِسْعَةً، وَقَالَ فِي الْجَوَابِ قَوْلُهُ سَلَّمْنَا أَنَّ خَبَرَ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ حَكَمَ بِنِسْبَةِ أَمْرٍ إلَى أَمْرٍ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحُكْمُ هُوَ الْعِلْمُ، قُلْنَا هَذَا بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ: أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ الْقَائِلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَائِلَانِ، قَائِلٌ يَقُولُ نُثْبِتُ لِلَّهِ تَعَالَى خَبَرًا قَدِيمًا وَنُثْبِتُ كَوْنَهُ مُغَايِرًا لِلْعِلْمِ، وَقَائِلٌ لَا نُثْبِتُ لَهُ خَبَرًا قَدِيمًا أَصْلًا فَلَوْ قُلْنَا إنَّ اللَّهَ لَهُ خَبَرٌ قَدِيمٌ ثُمَّ قُلْنَا إنَّهُ هُوَ الْعِلْمُ، كَانَ ذَلِكَ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّا بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ فَائِدَةَ الْخَبَرِ فِي الشَّاهِدِ لَيْسَتْ هِيَ الظَّنَّ وَالْعِلْمَ وَالِاعْتِقَادَ، وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْغَائِبِ، كَذَلِكَ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ فَائِدَةَ الْخَبَرِ لَا تَخْتَلِفُ فِي الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ قَوْلُهُ سَلَّمْنَا ثُبُوتَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِلَّهِ فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّهَا قَدِيمَةٌ، قُلْنَا لِلْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ لَوْ لَزِمَ مِنْ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَةِ لِلَّهِ إثْبَاتُ قِدَمِهَا لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ بِالثَّانِي لَزِمَ مِنْ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ الْعِلْمِ الْقَدِيمِ إثْبَاتُ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ بِالثَّانِي، قُلْنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ مَذْكُورٌ فِي الْمَحْصُولِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يُسَاعِدُونَنَا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ إثْبَاتَ قِدَمِ كَلَامِ اللَّه بِهَذِهِ الطَّرِيقِ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ، قُلْنَا قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمَحْصُولِ أَنَّ إحْدَاثَ دَلِيلٍ لَمْ يَذْكُرْهُ أَهْلُ

الفصل الثالث في بيان أن كلام الله واحد

الْإِجْمَاعِ لَا يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ، وَقَالَ فِي الْجَوَابِ عَنْ الْمُعَارَضَةِ، وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الْخَامِسَةُ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ الْوُجُوهِ السَّمْعِيَّةِ فَالْجَوَابُ عَنْهَا حَرْفٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّا لَا نُنَازِعُ فِي إطْلَاقِ لَفْظِ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ فَهُوَ إنَّمَا يُفِيدُ حُدُوثَ الْقُرْآنِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا نَحْنُ بَعْدَ ذَلِكَ نَدَّعِي صِفَةً قَائِمَةً بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَدَّعِي قِدَمَهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ يَسْتَحِيلُ وَصْفُهَا بِكَوْنِهَا عَرَبِيَّةً وَعَجَمِيَّةً وَمُحْكَمَةً وَمُتَشَابِهَةً، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَلَامِ الَّذِي حَاوَلُوا إثْبَاتَ حُدُوثِهِ فَنَحْنُ لَا نُنَازِعُهُمْ فِي حُدُوثِهِ، وَالْكَلَامُ الَّذِي نَدَّعِي قِدَمَهُ لَا يَجْرِي فِيهِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ [الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ وَاحِدٌ] ثُمَّ قَالَ فِي الْأَصْلِ الْعَاشِرِ الَّذِي هُوَ فِي الْكَلَامِ عَلَى بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْهُ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ وَاحِدٌ الْمَشْهُورُ اتِّفَاقُ الْأَصْحَابِ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ نَقَلَ أَبُو الْقَاسِمِ الْإسْفَرايِينِيّ مِنَّا عَنْ بَعْضِ قُدَمَاءِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا لِلَّهِ خَمْسَ كَلِمَاتٍ، الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِخْبَارُ وَالنِّدَاءُ. قَالَ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إمَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيهَا مَعَ الْقَوْلِ بِنَفْيِ الْحَالِ أَوْ مَعَ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ضُعِّفَتْ الْمَسْأَلَةُ جِدًّا، لِأَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ عَيَّنَ حَقِيقَتَهُ فَإِذَا كَانَتْ حَقِيقَةُ الطَّلَبِ مُخَالِفَةً لِحَقِيقَةِ الْخَبَرِ كَانَ وُجُودُ الطَّلَبِ مُخَالِفًا لِوُجُودِ الْخَبَرِ أَيْضًا إذْ لَوْ اتَّحَدَا فِي الْوُجُودِ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْحَقِيقَةِ كَانَ الْوُجُودُ غَيْرَ الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إثْبَاتَ الْأَحْوَالِ لَا يُقَالُ لَا نُسَلِّمُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ خَبَرًا وَطَلَبًا حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً، بَلْ حَقِيقَةُ الْكَلَامِ هُوَ الْخَبَرُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ طَلَبَ مِنْ غَيْرِهِ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا فَقَدْ أَخْبَرَ ذَلِكَ الْغَيْرَ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ لَعَاقَبَهُ أَوْ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الْإِحْلَالُ وَمَنْ اسْتَفْهَمَ فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ الْإِفْهَامَ وَإِذَا صَارَ الْكَلَامُ كُلُّهُ خَبَرًا زَالَ الْإِشْكَالُ، لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ هَذَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ الطَّلَبِ مُغَايِرَةٌ لِحَقِيقَةِ حُكْمِ الذِّهْنِ بِنِسْبَةِ أَمْرٍ إلَى أَمْرٍ وَتِلْكَ الْمُغَايَرَةُ مَعْلُومَةٌ بِالضَّرُورَةِ وَلِهَذَا يَتَطَرَّقُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ إلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ قَالَ وَإِنْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الْقَوْلِ بِالْحَالِ فَيَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِي أَنَّ الْحَقَائِقَ الْكَثِيرَةَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ تَتَّصِفَ بِوُجُودٍ وَاحِدٍ أَمْ لَا، فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ الْوَاحِدَةُ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً وَإِلَّا بَطَلَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ. وَأَنَا إلَى الْآنِ لَمْ يَتَّضِحْ لِي فِيهِ دَلِيلٌ لَا نَفْيًا وَلَا

إثْبَاتًا وَاَلَّذِي يُقَالُ فِي امْتِنَاعِهِ أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا شَيْئًا وَاحِدًا لَهُ يَكُونُ لَهُ حَقِيقَتَانِ فَإِذَا طَرَأَ عَلَيْهِمَا مَا يُضَادُّ إحْدَى الْحَقِيقَتَيْنِ لَزِمَ أَنْ نُقَدِّمَ تِلْكَ الصِّفَةَ مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَلَا نُقَدِّمَ مِنْ الْوَجْهِ الْآخَرِ، قَالَ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّا حَكَيْنَا عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ اسْتِدْلَالَهُمْ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ صِفَاتِ الْأَجْنَاسِ لَا تَقَعُ بِالْفَاعِلِ، ثُمَّ زَيَّفْنَا ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ وَتِلْكَ الْوُجُوهُ بِأَسْرِهَا عَائِدَةٌ هَاهُنَا فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ عَلَى مَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا وَاسْتِخْبَارًا مَعًا، وَأَمَّا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنْ أَنْ نُعَوِّلَ فِيهِ عَلَى الْإِجْمَاعِ مِنْ الْحِكَايَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ نَصًّا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ فَبَقِيَتْ الْمَسْأَلَةُ بِلَا دَلِيلٍ وَإِنَّمَا قَالَ لَا يُمْكِنُ التَّعْوِيلُ فِيهَا عَلَى الْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الَّذِي اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَاحِدٌ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ عَوَّلَ فِيهَا عَلَى الْإِجْمَاعِ، فَقَالَ الْقَائِلُ قَائِلَانِ، قَائِلٌ يَقُولُ: اللَّهُ عَالِمٌ بِالْعِلْمِ قَادِرٌ بِالْقُدْرَةِ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: اللَّهُ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِالْعِلْمِ وَلَا قَادِرًا بِالْقُدْرَةِ وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ إنَّهُ عَالِمٌ بِعِلْمٍ وَاحِدٍ قَادِرٌ بِقُدْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَوْ قُلْنَا إنَّهُ عَالِمٌ بِعِلْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا ثَالِثًا خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ وَهُوَ بَاطِلٌ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ أَبِي سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ أَنَّهُ قَالَ إنَّهُ عَالِمٌ بِعُلُومٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ لَكِنْ قَالَ هُوَ مَسْبُوقٌ بِهَذَا الْإِجْمَاعِ. قُلْت وَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ أُمُورٌ يَتَبَيَّنُ بِهَا مِنْ الْهُدَى لِمَنْ يَهْدِيهِ اللَّهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ. أَحَدُهَا: إنَّهُ لَمْ يَعْتَمِدْ فِي كَوْنِ كَلَامِ اللَّهِ قَدِيمًا عَلَى حُجَّةٍ عَقْلِيَّةٍ وَلَا عَلَى كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّة، بَلْ ادَّعَى فِيهَا الْإِجْمَاعَ قَالَ لِأَنَّ الْأُمَّةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ نَفَى كَوْنَ اللَّهِ مَوْصُوفًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ، وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَهُ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ قَدِيمَةٌ، فَلَوْ أَثْبَتْنَا كَوْنَهُ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ ثُمَّ حَكَمْنَا بِحُدُوثِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا ثَالِثًا خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ يُقَالُ لَهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَثْبَتَ اتِّصَافَهُ وَأَنَّهُ يَقُومُ بِهِ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ يَقُولُ بِقَدَمِهِ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يَقُولُ بِقِدَمِهِ فَمِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَالشِّيعَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَأَمَّا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ فَطَوَائِفُ كَثِيرَةٌ وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي الْكُتُبِ الْحَدِيثِيَّةِ وَالْكَلَامِيَّةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّهُ يَقُومُ بِهِ حُرُوفٌ لَيْسَتْ قَدِيمَةً لَكِنْ لَا يَقُولُونَ إنَّهُ يَقُومُ بِهِ مَعَانٍ لَيْسَتْ قَدِيمَةً لِأَنَّ أَقْوَالَهُمْ الْمَنْقُولَةَ تَنْطِقُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا.

الْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّة لَمْ يَقُلْ إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَةِ وَقُدْرَتِهِ، وَلَكِنْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْمَخْلُوقُ عِنْدَهُمْ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهَا، وَاَلَّذِينَ قَالُوا هُوَ مَخْلُوقٌ قَالُوا إنَّهُ خَلَقَهُ فِي جِسْمٍ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ فَقَالَ السَّلَفُ: إنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَأَنَّ الْكَلَامَ كَلَامُ ذَلِكَ الْجِسْمِ الْمَخْلُوقِ، فَتَكُونُ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةَ لِمُوسَى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14] وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِخَطَإِ مَنْ يَقُولُ إنَّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالْفِطْرَةِ شَرْعًا وَعَقْلًا وَلُغَةً أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِهِ، وَرُبَّمَا قَدْ يَقُولُونَ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا حَتَّى خَلَقَ الْكَلَامَ فَصَارَ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَلَامِ. فَتَوَهَّمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ السَّلَفَ عَنَوْا بِقَوْلِهِمْ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَدِيمٌ كَتَوَهُّمِ مَنْ تَوَهَّمَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ أَنَّهُمْ عَنَوْا بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُفْتَرٍ مَكْذُوبٌ كَمَا ذَكَرَهُ هُوَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ لَهُمْ مِنْ السَّمْعِيَّاتِ مَا رَوَى أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي الْغُرَرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا سَهْلٍ وَلَا جَبَلٍ أَعْظَمَ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ» . وَرَوَى عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «يَا رَبَّ طَه وَيس وَيَا رَبَّ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ» قَالَ وَلَا يُقَالُ هَذَا مُعَارِضٌ بِمُبَالَغَةِ السَّلَفِ مِنْ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ لِأَنَّا نَقُولُ بِحَمْلِ ذَلِكَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ إطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ لِأَنَّ لَفْظَ الْخَلْقِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الِافْتِرَاءِ ضَرُورَةَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ. قُلْت: وَجَوَابُ هَذِهِ الْحُجَّةِ سَهْلٌ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مُفْتَرًى عَلَيْهِ بِالضَّرُورَةِ، كَمَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ عَلَيْهِ، وَيَكْفِي أَنَّ نَقْلَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ أَصْلًا بِإِسْنَادٍ مَعْرُوفٍ، بَلْ الَّذِي رَوَوْهُ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِالْإِسْنَادِ الْمَعْرُوفِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ بِشَهْرَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ صَلَّيْت مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى رَجُلٍ فَلَمَّا دُفِنَ قَامَ رَجُلٌ

فَقَالَ يَا رَبَّ الْقُرْآنِ اغْفِرْ لَهُ فَوَثَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ مَهْ إنَّ الْقُرْآنَ مِنْهُ وَفِي رِوَايَةٍ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَرْبُوبٍ مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ فَهَذَا الْأَثَرُ الْمَأْثُورُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ ضِدُّ مَا رَوَوْهُ. وَأَمَّا مَا رَوَوْهُ فَلَا يُؤْثَرُ لَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ أَصْلًا وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ «مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ» فَإِنَّ هَذَا لَا يُؤْثَرُ عَنْ النَّبِيِّ أَصْلًا وَلَكِنْ يُؤْثَرُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ نَفْسِهِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ بِنَقْلِ الْعُدُولِ أَنَّهُ قَالَ مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ وَمَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ أَجْمَعَ ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ بِمَا يَخْلُقُهُ فِي الْأَجْسَامِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَانَ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ صِفَةً لِلَّهِ لَا مَخْلُوقًا لَهُ وَأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ الْأَثَرِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَوْجُودَاتِ الْمَخْلُوقَةِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ لِأَنَّهَا هِيَ مَخْلُوقَةٌ كَمَا يُقَالُ اللَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْكَبِيرُ مَخْلُوقًا وَاَللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَ الْأَئِمَّةُ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ. ذَكَرَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي يُرْوَى «مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا جَبَلٍ أَعْظَمَ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ» قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ هُوَ هَكَذَا «مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إلَّا وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ أَعْظَمُ مِمَّا خَلَقَ» . وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: وَقَدْ قَالَ رَجُلٌ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ أَعْظَمَ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ أَفَلَيْسَ يَدُلُّك عَلَى أَنَّ هَذَا مَخْلُوقٌ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إنَّمَا قَالَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ أَعْظَمَ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ آيَةَ الْكُرْسِيِّ الَّتِي هِيَ مِنْ صِفَاتِهِ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا الْعَظِيمِ الْمَخْلُوقِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هَذَا الْحَدِيثُ «مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا كَذَا أَعْظَمَ» فَقُلْت لَهُمْ إنَّ الْخَلْقَ هَاهُنَا وَقَعَ عَلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا عَلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ قَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ، فَلَمْ يَذْكُرْ خَلْقَ الْقُرْآنَ هَاهُنَا، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ عَنْ تُسْتَرَ بْنِ شَكْلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ «مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا جَنَّةٍ وَلَا نَارٍ أَعْظَمَ مِنْ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] » .

قَالَ سُفْيَانُ تَفْسِيرُهُ إنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَكَلَامُهُ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِمَّا يَكُونُ بِهِ الْخَلْقُ، وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ. وَأَمَّا تَأْوِيلُهُمْ أَنَّ السَّلَفَ امْتَنَعُوا مِنْ لَفْظِ الْخَلْقِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الِافْتِرَاءِ فَأَلْفَاظُ السَّلَفِ مَنْقُولَةٌ عَنْهُمْ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ نَحْوِ خَمْسِمِائَةٍ مِنْ السَّلَفِ كُلُّهَا تُصَرِّحُ بِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْخَلْقَ الَّذِي تَعْنِيهِ الْجَهْمِيَّةُ مِنْ كَوْنِهِ مَصْنُوعًا فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ، كَمَا أَنَّهُمْ سَأَلُوا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ الْقُرْآنِ هَلْ هُوَ خَالِقٌ أَوْ هُوَ مَخْلُوقٌ، فَقَالَ: لَيْسَ بِخَالِقٍ وَلَا مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. وَمِثْلُ قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا قِيلَ لَهُ حَكَّمْت مَخْلُوقًا فَقَالَ مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا وَإِنَّمَا حَكَّمْت الْقُرْآنَ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ السَّلَفَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَهَذَا الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ لَيْسَ مَعْنَاهُ مَا قَالَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَلَا مَا قَالَتْهُ الْكِلَابِيَّةُ، وَهَذَا الرَّازِيّ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ يُنَافِي مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ لَمْ يَقُلْ هَذَا وَلَا هَذَا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا، وَيَكْفِي أَنْ يَكُونَ اعْتِصَامُهُ فِي هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ بِدَعْوَى إجْمَاعٍ وَالْإِجْمَاعُ الْمُحَقَّقُ عَلَى خِلَافِهِ، فَلَوْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ لَمْ تَصِحَّ الْحُجَّةُ فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ الْمُحَقَّقُ السَّلَفِيُّ عَلَى خِلَافِهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إنَّ الرَّجُلَ قَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فِي خَلْقِ الْكَلَامِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ لَفْظِيٌّ حَيْثُ إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ سَمَّتْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ كَلَامَ اللَّهِ وَهُمْ لَمْ يُسَمُّوهُ كَلَامَ اللَّهِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ لَمَّا ابْتَدَعَتْ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ أَوْ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَقَالُوا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، فَلَوْ كَانَ مَا وَصَفَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ هُوَ مَخْلُوقٌ عِنْدَهُمْ أَيْضًا وَإِنَّمَا خَالَفُوهُمْ فِي تَسْمِيَةِ كَلَامِ اللَّه أَوْ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الْمُخَالَفَةُ الْعَظِيمَةُ وَالتَّكْفِيرُ الْعَظِيمُ بِمُجَرَّدِ نِزَاعٍ لَفْظِيٍّ كَمَا قَالَ هُوَ إنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ يَسِيرٌ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الْإِطْنَابَ لِأَنَّهُ بَحْثٌ لُغَوِيٌّ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الْمَعْقُولَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَإِذَا كَانَتْ الْمُعْتَزِلَةُ فِيمَا أَطْلَقَتْهُ لَمْ تُنَازِعْ إلَّا فِي بَحْثٍ لُغَوِيٍّ، لَمْ يَجِبْ تَكْفِيرُهُمْ وَتَضْلِيلُهُمْ وَهِجْرَانُهُمْ بِذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لَا يُضَلِّلُونَهُمْ فِي تَأْوِيلِ

ذَلِكَ وَإِنْ نَازَعُوهُمْ فِي لَفْظِهِ وَمُجَرَّدُ النِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ لَا يَكُونُ كُفْرًا وَلَا ضَلَالًا فِي الدِّينِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ اسْتَخَفَّ بِالْبَحْثِ فِي مُسَمَّى الْمُتَكَلِّمِ وَقَالَ إنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الْإِطْنَابَ لِأَنَّهُ بَحْثٌ لُغَوِيٌّ، وَهَذَا غَايَةُ الْجَهْلِ بِأَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ هِيَ سَمْعِيَّةٌ كَمَا قَدْ ذَكَرَ هُوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَثْبَتَ ذَلِكَ بِالنَّقْلِ، الْمُتَوَاتِرِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ لَهُ الْمُنَازِعُ إثْبَاتَ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا أَمْرًا نَاهِيًا مُخْبِرًا بِالْإِجْمَاعِ لَا يَصِحُّ لِتَنَازُعِهِمْ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ (أَجَابَ) بِأَنَّا نُثْبِتُهَا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِكَذَا وَنَهَى عَنْ كَذَا وَأَخْبَرَ بِكَذَا وَقَالَ كَذَا وَتَكَلَّمَ بِكَذَا، وَبِأَنَّا نُثْبِتُهَا أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ كَمَا قَرَّرُوهُ، وَإِذَا كَانَ أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ الِاسْتِدْلَال بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ آمِرٌ نَاهٍ كَانَ الْعِلْمُ بِمَعْنَى الْمُتَكَلِّمِ الْآمِرِ النَّاهِي هَلْ هُوَ الَّذِي قَامَ بِهِ الْكَلَامُ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ أَوْ هُوَ مِنْ فِعْلِهِ وَلَوْ فِي غَيْرِهِ هُوَ أَحَدُ مُقَدِّمَتَيْ دَلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي لَا تَتِمُّ إلَّا بِهِ، فَإِنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ الْآمِرُ النَّاهِي الْمُخْبِرُ لَمْ يَقُمْ بِهِ كَلَامٌ وَلَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَلَا خَبَرٌ بَطَلَتْ حُجَّةُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَالْإِطْنَابُ فِي هَذَا الْأَصْلِ هُوَ أَهَمُّ مَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَلْ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَصْلٌ أَهَمُّ مِنْ هَذَا وَبِهَذَا الْأَصْلِ كَفَّرَ الْأَئِمَّةُ الْجَهْمِيَّةَ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْكَلَامُ وَأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَاللُّغَةِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَلَيْسَ هَذَا بَحْثًا لَفْظِيًّا لُغَوِيًّا كَمَا زَعَمَهُ بَلْ هُوَ بَحْثٌ عَقْلِيٌّ مَعْنَوِيٌّ شَرْعِيٌّ مَعَ كَوْنِهِ أَيْضًا لُغَوِيًّا كَمَا نَذْكُرُهُ فِي الْوَجْهِ الْخَامِسِ: وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ الْمُتَكَلِّمِ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْكَلَامُ أَوْ لَا يَقُومُ بِهِ الْكَلَامُ. وَكَوْنُ الْحَيِّ يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ يَقُومُ بِغَيْرِهِ هُوَ مِثْلُ كَوْنِهِ حَيًّا عَالِمًا وَقَادِرًا وَسَمِيعًا وَبَصِيرًا وَمَرِيدًا بِصِفَاتٍ تَقُومُ بِغَيْرِهِ، وَكَوْنِ الْحَيِّ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ لَا تَقُومُ بِهِ حَيَاةٌ وَلَا عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ، وَهَذِهِ كُلُّهَا بُحُوثٌ مَعْقُولَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ لَا تُخَصُّ بِلُغَةٍ بَلْ تَشْتَرِكُ فِيهَا الْأُمَمُ كُلُّهُمْ، وَهِيَ أَيْضًا دَاخِلَةٌ فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ، فَإِنَّ ثُبُوتَ حُكْمِ الصِّفَةِ لِلْمَحِلِّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الصِّفَةُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَمْرٌ مَعْقُولٌ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مُقَامٌ عَقْلِيٌّ وَهُوَ مُقَامٌ لَهُ سَمْعِيٌّ، وَلِهَذَا يُبْحَثُ مَعَهُمْ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ بِأَنَّ

الْحَيَّ لَا يَكُونُ عَلِيمًا قَدِيرًا إلَّا بِمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: إنَّهُ لَوْلَا ثُبُوتُ هَذَا الْمَقَامِ لَمَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُثْبِتَ قِيَامَ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ لِأَنَّهُ قَرَّرَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ اللَّهَ آمِرٌ وَنَاهٍ وَمُخْبِرٌ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ اللَّفْظَ بَلْ هُوَ مَعْنًى هُوَ الطَّلَبُ وَالزَّجْرُ وَالْحُكْمُ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي سَوَاءٌ كَانَتْ هِيَ الْإِرَادَةَ وَالْعِلْمَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ يُقَالُ لَهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْآمِرَ النَّاهِيَ الْمُخْبِرَ هُوَ مَنْ قَامَ بِهِ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهَا مَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ فِي الْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ أَمَّا أَنْ يَقُولُوا يَقُومُ بِغَيْرِ مَحِلٍّ، أَوْ يَقُولُوا كَوْنَهُ آمِرًا وَمُخْبِرًا مِثْلُ كَوْنِهِ عَالِمًا وَذَلِكَ حَالٌ أَوْ صِفَةٌ. فَإِنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ وَالْمُخْبِرُ لَمْ يَقُمْ بِهِ خَبَرٌ وَلَا أَمْرٌ لَمْ يُمْكِنْهُ ثُبُوتُ هَذِهِ الْمَعَانِي قَائِمَةً بِذَاتِ اللَّهِ، بَلْ يُقَالُ لَهُ هَبْ أَنَّ لَهَا مَعَانِيَ وَرَاءَ الْأَلْفَاظِ وَوَرَاءَ هَذِهِ لَكِنْ لِمَ قُلْتَ أَنَّ الْآمِرَ النَّاهِيَ هُوَ مَنْ قَامَ بِهِ تِلْكَ الْمَعَانِي دُونَ أَنْ يَكُونَ مَنْ فَعَلَ تِلْكَ الْمَعَانِيَ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: إنَّهُ عَدَلَ عَنْ الطَّرِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ لِأَصْحَابِهِ فِي هَذَا الْأَصْلِ فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ، وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ هُوَ الطَّلَبُ وَالزَّجْرُ وَالْحُكْمُ ثُمَّ يَقُولُونَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَادِثًا فِي غَيْرِهِ لَا فِي ذَاتِهِ لِأَنَّ ذَاتَه لَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَبِذَلِكَ أَثْبَتُوا قِدَمَ الْكَلَامِ فَقَالُوا لَوْ كَانَ مُحْدَثًا لَكَانَ إمَّا أَنْ يُحْدِثَهُ فِي نَفْسِهِ فَيَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَهُوَ مُحَالٌ أَوْ غَيْرَهُ فَيَكُونُ كَلَامًا لِذَلِكَ الْمَحَلِّ أَوْ لَا فِي مَحِلٍّ فَيَلْزَمُ قِيَامُ الصِّفَةِ بِنَفْسِهَا وَهُوَ مُحَالٌ وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهَا لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِهِ مُحَالٌ بَلْ ذَلِكَ لَازِمٌ لِجَمِيعٍ الطَّوَائِفِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إذَا جَوَّزَ قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِهِ بَطَلَ قَوْلُ أَصْحَابِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَامْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ هُوَ قَدِيمٌ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ هُوَ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ أَوْ أَثْبَتَ أَنَّ اللَّهَ آمِرٌ نَاهٍ مُخْبِرٌ بِمَعْنًى يَقُومُ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا وَيَكُونَ صِفَةً لِلَّهِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ كَمَا يَقُولُهُ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَالشِّيعَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ بِقِدَمِهِ بِلَا دَلِيلٍ إلَّا كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَيُرِيدُونَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ إذَا شَاءَ وَهُوَ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي قَرَّرَهُ يُبْطِلُ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَوْلَ أَصْحَابِهِ، وَلَا يَنْفَعُ حِينَئِذٍ احْتِجَاجُهُ بِاجْتِمَاعِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ.

الْوَجْهُ الثَّامِنُ: إنَّهُ لَمَّا عَارَضَ، الْإِجْمَاعُ الَّذِي ادَّعَاهُ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ لَمْ يُثْبِتْ قِدَمَ كَلَامِ اللَّهِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ فَيَكُونُ التَّمَسُّكُ بِمَا ذَكَرْتُمُوهُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ أَجَابَ بِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمَحْصُولِ أَنَّ إحْدَاثَ دَلِيلٍ لَمْ يَذْكُرْهُ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ لَا يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ فَيُقَالُ لَهُ هَذَا إذَا كَانَ قَدْ اسْتَدَلَّ بِدَلِيلٍ آخَرَ مُنْضَمًّا إلَى دَلِيلِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ تَخْطِئَةَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَأَمَّا إذَا بَطَلَ مُعْتَمَدُ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَدَلِيلُهُمْ وَذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ كَانَ هَذَا تَخْطِئَةً مِنْهُ لِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِقِدَمِهَا إنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ عِنْدَهُمْ وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِخَلْقِهَا قَالُوا ذَلِكَ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الصِّفَاتِ بِهِ وَعِنْدَهُ كِلَا الْحُجَّتَيْنِ بَاطِلَةٌ وَهُوَ احْتَجَّ بِإِجْمَاعِ الطَّائِفَتَيْنِ وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ حُجَّةَ كُلٍّ مِنْهُمَا بَاطِلَةٌ فَلَزِمَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى بَاطِلٍ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ سِوَى مَا ذَكَرَهُ وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ قَدْ عَلِمَ الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهُ وَذَلِكَ حُكْمٌ عَلَى الْأُمَّةِ قَبْلَهُ بِعَدَمِ عِلْمِ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى ضَلَالَةٍ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَالثَّانِي عَدَمُ صِحَّةِ احْتِجَاجٍ بِإِجْمَاعِهِمْ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ فَإِنَّهُمْ إذَا قَالُوا بِلَا عِلْمٍ وَلَا دَلِيلٍ لَزِمَ هَذَانِ الْمَحْذُورَانِ. الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ مُرَكَّبٌ كَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى قِدَمِ الْكَلَامِ بِقِدَمِ الْعِلْمِ وَتَفْرِيقِهِ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ صُورِيٌّ وَقَوْلُهُ لِلْمُعْتَزِلَةِ نُسَلِّمُ ذَلِكَ لَيْسَ كَذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمَّةَ إذَا اخْتَلَفَتْ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ وَالْمُعْتَزِلَةُ تُوَافِقُ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ اعْتَقَدَ هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ ذَلِكَ وَإِذَا اخْتَلَفَتْ فِي مَسْأَلَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يَقُولَ بِقَوْلِ طَائِفَةٍ فِي مَسْأَلَةٍ وَبِقَوْلِ طَائِفَةٍ أُخْرَى فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى بِنَاءً عَلَى الْمَنْعِ فِي الْأَوْلَى عَلَى قَوْلَيْنِ وَقِيلَ بِالتَّفْصِيلِ وَهُوَ أَنَّهُ اتَّحَدَ مَأْخَذُهُمَا لَمْ يَجُزْ الْفَرْقُ وَإِلَّا جَازَ وَقِيلَ إنْ صَرَّحَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ بِالتَّسْوِيَةِ لَمْ يَجُزْ الْفَرْقُ وَإِلَّا جَازَ وَاذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ فَإِنَّ النِّزَاعَ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ فِي مَسَائِلَ كُلُّ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مُسْتَلْزِمَةٍ لِلْأُخْرَى. إحْدَاهُنَّ: إنَّ الْكَلَامَ هَلْ هُوَ قَائِمٌ بِهِ أَمْ لَا. وَالثَّانِيَةُ: الْكَلَامُ هَلْ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ أَوْ الْمَعَانِي أَوْ مَجْمُوعُهُمَا.

وَالثَّالِثَةُ: إنَّ الْقَائِمَ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا لَهُ قَدِيمًا أَوْ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ. وَالرَّابِعَةُ: إنَّ الْمَعَانِي هَلْ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ أَوْ جِنْسٍ آخَرَ. الْخَامِسَةُ: إنَّ الْمَعَانِيَ هَلْ هِيَ مَعْنًى وَاحِدٌ أَوْ خَمْسُ مَعَانٍ أَوْ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ وَهَذَا كُلُّهُ فِيهِ نِزَاعٌ فَكَيْفَ يُعْتَقَدُ أَنَّ هَذَا هُوَ اخْتِلَافُ الْأُمَّةِ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَثْبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ الطَّلَبُ وَالزَّجْرُ وَالْحُكْمُ ثُمَّ احْتَجَّ بِقَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ قَدِيمَةٌ لِكَوْنِهِمْ قَالُوا بِهَذَا وَبِهَذَا وَهَذَا بِعَيْنِهِ احْتِجَاجٌ بِالْإِجْمَاعِ الْمُرَكَّبِ وَهُوَ لُزُومُ مُوَافَقَتِهِمْ فِي مَسْأَلَةٍ قَدْ قَامَ عَلَيْهَا الدَّلِيلُ لِمُوَافَقَتِهِمْ فِي مَسْأَلَةٍ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهَا دَلِيلٌ وَأُولَئِكَ قَالُوا هُوَ مُحْدَثٌ وَلَيْسَ هُوَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَافِقَ هَؤُلَاءِ فِي الْحُرُوفِ وَهَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْمَعَانِي وَهُوَ فِي بِنَائِهِ خَاصَّةً مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بِمَنْزِلَةِ الرَّافِضَةِ فِي بِنَائِهِمْ لِإِمَامَةِ عَلِيٍّ الَّتِي هِيَ خَاصَّةُ مَذْهَبِهِمْ عَلَى نَظَرِ هَذَا الْأَصْلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَاصَّةَ مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ كِلَابٍ الَّتِي تَمَيَّزَ بِهَا هُوَ مَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنًى وَاحِدٌ قَدِيمٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ إذْ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ فِي الْأُصُولِ هُمَا مَسْبُوقَانِ إلَيْهِ إمَّا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَإِمَّا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَمَا أَنَّ خَاصَّةَ مَذْهَبِ الرَّافِضَةِ الْإِمَامِيَّةِ مِنْ الِاثْنَا عَشَرِيَّةَ وَنَحْوِهِمْ هُوَ إثْبَاتُ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ وَادِّعَاءِ ثُبُوتِ إمَامَةِ عَلِيٍّ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ ثُمَّ عَلَى غَيْرِهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا يَدَّعُونَ فِي ذَلِكَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا بَيْنَهُمْ فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ جَمِيعَ الْأُمَّةِ تُنْكِرُ ذَلِكَ وَتَقُولُ إنَّهَا تَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ وَبِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ بُطْلَانَ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ النَّقْلِ وَبُطْلَانَ كَوْنِهِ صَحِيحًا مِنْ جِهَةِ الْآحَادِ فَضْلًا عَنْ التَّوَاتُرِ. وَقَدْ عَلِمَ مُتَكَلِّمُو الْإِمَامِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَقُومُ عَلَى أَحَدٍ حُجَّةٌ بِمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ التَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا لَمْ يَتَوَاتَرْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ لَمْ يَلْزَمْهُمْ اتِّبَاعُهُ وَإِجْمَاعُهُمْ الَّذِي يُسَمُّونَهُ إجْمَاعَ الطَّائِفَةِ الْمُحِقَّةِ لَا يَصِحُّ حَتَّى يُثْبِتُ أَنَّهُمْ الطَّائِفَةَ الْمُحِقَّةَ وَذَلِكَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْمَعْصُومِ وَهُمْ يَجْعَلُونَ مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ الَّذِي لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا إلَّا بِهِ هُوَ الْإِقْرَارُ بِالْإِمَامِ الْمَعْصُومِ الْمُنْتَظَرِ وَيُضَمُّ إلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ مُتَأَخِّرِيهِمْ الْمُوَافِقِينَ لِلْمُعْتَزِلَةِ التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ الَّذِي ابْتَدَعَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُصُولٌ مُبْتَدَعَةٌ وَالْأَصْلُ الرَّابِعُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَافَقَهُ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَالْغَرَضُ هُنَا بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ نَظِيرُ حُجَّةِ الرَّافِضَةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَنْصِبَ فِي

كُلِّ وَقْتٍ إمَامًا مَعْصُومًا لِأَنَّهُ لُطْفٌ فِي التَّكْلِيفِ وَاللُّطْفُ عَلَى اللَّهِ وَاجِبٌ وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَقْيِسَةٍ يَذْكُرُونَهَا. كَمَا ثَبَتَ هَذَا وَنَحْوُهُ أَنَّ الْكَلَامَ مَعْنًى مُبَايِنٌ لِلْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ بِأَقْيِسَةٍ يَذْكُرُونَهَا فَإِذَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ وَيَقُولُونَ إنَّ الْمَعْصُومَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِالنَّصِّ إذْ لَا طَرِيقَ إلَى الْعِلْمِ بِالْعِصْمَةِ إلَّا النَّصُّ ثُمَّ يَقُولُونَ وَلَا مَنْصُوصَ عَلَيْهِ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا عَلِيٌّ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ ادَّعَى النَّصَّ لِغَيْرِهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ لَزِمَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى الْبَاطِلِ إذْ الْقَائِلُ قَائِلَانِ قَائِلٌ بِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَقَائِلٌ بِأَنَّهُ لَا نَصَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ فِيمَا زَعَمُوا بِمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ وُجُوبِ النَّصِّ عَقْلًا فَيَتَعَيَّنُ صِحَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّهُ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأُمَّةَ إذَا اجْتَمَعَتْ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ كَانَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْحَقُّ وَلَمْ يَكُنْ الْحَقُّ فِي ثَالِثٍ فَهَذَا نَظِيرُ حُجَّتِهِ. وَلِهَذَا لَمَّا تَكَلَّمْنَا عَلَى بُطْلَانِ هَذِهِ الْحُجَّةِ لَمَّا خَاطَبْتُ الرَّافِضَةَ وَكَتَبْتُ فِي ذَلِكَ مَا يَظْهَرُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَأَبْطَلْنَا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ مَعْصُومٍ وَبَيَّنْت تَنَاقُضَ هَذَا الْأَصْلِ وَامْتِنَاعَ تَوَقُّفِ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَخَاطَبْتُ بِذَلِكَ أَفْضَلَ مَنْ رَأَيْته مِنْهُمْ وَاعْتَرَفَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ وَبِالْإِنْصَافِ فِي مُخَاطَبَتِهِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذَلِكَ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ وَالِاحْتِجَاجَ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّا قُلْنَا لَهُمْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ لَمْ يَدَّعِ النَّصَّ عَلَى غَيْرِ عَلِيٍّ بَلْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَقُولُونَ إنَّ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِنَصٍّ جَلِيٍّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول بِنَصٍّ خَفِيٍّ، وَأَيْضًا فَالرَّوانْدِيَّةُ تَدَّعِي النَّصَّ عَلَى الْعَبَّاسِ، وَأَيْضًا فَالْمُدَّعُونَ لِلنَّصِّ عَلَى عَلِيٍّ مُخْتَلِفُونَ فِي أَنْ يُقَالَ النَّصُّ عَنْهُ فِي وَلَدِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ النَّصَّ عَلَى وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ إلَّا مَا ادَّعَوْهُ فِي الْمُنْتَظَرِ بَلْ إخْوَانُهُمْ الشِّيعَةُ يَدَّعُونَ دَعَاوَى مِثْلَ دَعَاوِيهمْ لِغَيْرِ الْمُنْتَظَرِ فَبَطَلَ الْأَصْلُ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ إمَامَةُ الْمَعْصُومِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ طَاعَتُهُ وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ هُوَ الْإِمَامَ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْنَا طَاعَةُ مَنْ قَدْ مَاتَ بِعَيْنِهِ إلَّا الرَّسُولَ وَإِنَّمَا الْمُتَعَلِّقُ بِنَا مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ وُجُوبِ طَاعَتِنَا لِهَذَا الْحَيِّ الْمَعْصُومِ وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ النَّصَّ غَيْرُهُمْ فَهَذِهِ الْحِيلَةُ الَّتِي سَلَكُوهَا فِي تَقْرِيرِ النَّصِّ عَلَى عَلِيٍّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى كَذِبٍ افْتَرَوْهُ وَقِيَاسٍ وَضَعُوهُ لِنِفَاقِ ذَلِكَ الْكَذِبِ فَإِنَّهُمْ

افْتَرَوْا النَّصَّ ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّ مَا ابْتَدَعُوهُ وَافْتَرَوْهُ عَنْ الْعَبَّاسِ مَعَ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ هَذَا الَّذِي افْتَرَوْهُ كَمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ ابْتَدَعُوا مَقَالَةً افْتَرَوْهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ لَمْ يُسْبَقُوا إلَيْهَا ثُمَّ ادَّعَوْا أَنَّ مَا ابْتَدَعُوهُ وَافْتَرَوْهُ عَنْ الْقِيَاسِ مَعَ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ يُحَقِّقُ هَذِهِ الْفِرْيَةَ وَعَامَّةُ أُصُولِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَجِدُهَا مَبْنِيَّةً عَلَى ذَلِكَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْقِيَاسِ الَّذِي وَضَعُوهُ وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبُوهُ يُعَارِضُونَ بِهِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَنَوْعٌ مِنْ الْإِجْمَاعِ الَّذِي يَدَّعُونَهُ فَيُرَكِّبُونَ مِنْ ذَلِكَ الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ وَمِنْ هَذَا الْإِجْمَاعِ السَّمْعِيِّ أَصْلَ دِينِهِمْ. وَلِهَذَا تَجِدُ أَبَا الْمَعَالِي وَهُوَ أَحَدُ الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّمَا يَعْتَمِدُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْقَوَاطِعِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ وَهَكَذَا أَئِمَّةُ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي الْأَهْوَاءِ كَأَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَشَايِخِهِمْ وَنَحْوِهِمْ لَا يَعْتَمِدُونَ لَا عَلَى كِتَابٍ وَلَا عَلَى سُنَّةٍ وَلَا عَلَى إجْمَاعٍ مَقْبُولٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ بَلْ يُفَارِقُونَ أَهْلَ الْجَمَاعَةِ ذَاتِ الْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ بِمَا يَدَّعُونَهُ هُمْ مِنْ الْإِجْمَاعِ الْمُرَكَّبِ كَمَا يُخَالِفُونَ صَرَائِحَ الْمَعْقُولِ بِمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْمَعْقُولِ وَكَمَا يُخَالِفُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ اللَّذَيْنِ هُمَا أَصْلُ الدِّينِ مَا يَضَعُونَهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ. الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: إنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ نَظِيرُ الْحُجَجِ الْإِلْزَامِيَّةِ وَقَدْ قَرَّرَ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ أَنَّهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لَا لِلنَّظَرِ وَلَا لِلْمُنَاظَرَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَازِعَ لَهُ يَقُولُ لَهُ إنَّمَا قُلْت بِقِدَمِهَا لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ فَأَمَّا أَنْ يَصِحَّ هَذَا الْأَصْلُ أَوْ لَا يَصِحَّ فَإِنْ صَحَّ كَانَ هُوَ الْحُجَّةَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَكِنْ قَدْ ذَكَرْت أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ بَطَلَ مُسْتَنَدُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالْقِدَمِ وَصَحَّ مَنْعُ الْقِدَمِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ إذَا جَازَ أَنْ تُحِلَّهُ الْحَوَادِثُ وُجُوبُ قِدَمِ مَا يَقُومُ بِهِ وَهَذَا مَنْعٌ ظَاهِرٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ إقَامَةِ قَوْلِهِ بِحُجَّةٍ إلْزَامِيَّةٍ وَبَيْنَ إبْطَالِ قَوْلِ مُنَازِعِيهِ بِحُجَّةٍ إلْزَامِيَّةٍ. الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ: إنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَيْسَ هُوَ الْإِرَادَةَ وَالْكَرَاهَةَ إلَّا بِمَا ذَكَرَهُ فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْإِرَادَةِ الْعَامَّةِ الشَّامِلَةِ لِكُلِّ مَوْجُودٍ الْمُنْتَفِيَةِ عَنْ كُلِّ مَعْدُومٍ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَتِلْكَ الْإِرَادَةُ لَيْسَتْ هِيَ الْإِرَادَةَ الَّتِي هِيَ مَدْلُولُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ فِي الْأُولَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]

وَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41] . وَقَالَ: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] . وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] . وَقَالَ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] وَقَالَ تَعَالَى {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26] {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا} [النساء: 27] {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] . الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: إنَّهُ لَمَّا طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَاهِيَّةِ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ ذَكَرَ وَجْهَيْنِ أَحَدَهُمَا أَنَّ الْقَائِلَ قَدْ يَقُولُ لِغَيْرِهِ إنِّي أُرِيدُ مِنْك الْأَمْرَ الْفُلَانِيَّ وَإِنْ كُنْت لَا آمُرُك بِهِ وَالثَّانِي هَبْ أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّصْ لَنَا فِي الشَّاهِدِ الْفَرْقُ بَيْنَ طَلَبِ الْفِعْلِ وَإِرَادَتِهِ لَكِنَّا دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ لَفْظَ افْعَلْ إذَا وَرَدَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ وَبَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ الطَّلَبَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْسَ تَصَوُّرِ الْحُرُوفِ وَلَا إرَادَةِ الْفِعْلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مُغَايِرًا لَهُمَا فَلَيْسَ كُلُّ مَا لَا نَجِدُ لَهُ فِي الشَّاهِدِ نَظِيرًا وَجَبَ نَفْيُهُ غَالِبًا وَلَا تَعَذَّرَ إثْبَاتُ الْإِلَهِ وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ ضَعِيفَانِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ يُقَالُ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِرَادَةِ وَقَدْ يُقَالُ هُوَ نَوْعٌ خَاصٌّ، مِنْ الْإِرَادَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعْلَاءِ فَإِذَا قِيلَ أُرِيدُ مِنْك فِعْلَ هَذَا وَلَا آمُرُك بِهِ أَيْ لَا أَسْتَعْلِي عَلَيْك فَإِنَّ الْمُرِيدَ قَدْ يَكُونُ سَائِلًا خَاضِعًا كَإِرَادَةِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَيُقَالُ لَهُ إذَا أَثْبَتَّ أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ فِي الشَّاهِدِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَةِ كَانَتْ

هَذِهِ حَقِيقَتَهُ وَالْحَقَائِقُ لَا تَخْتَلِفُ شَاهِدًا وَلَا غَائِبًا وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ هَذِهِ الصِّفَةِ هِيَ هَذِهِ أَوْ مُسْتَلْزِمَةً لِهَذِهِ أَوْ غَيْرِهِ إنَّمَا نَعْلَمُهُ بِمَا نَعْلَمُهُ فِي الشَّاهِدِ. الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: إنَّ النَّهْيَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَرَاهِيَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ مُسْتَلْزِمٌ لِمَحَبَّةِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَكْرُوهُ لَا يَكُون مُرَادًا فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْإِرَادَةُ الْمَنْفِيَّةُ عَنْ الْمَكْرُوهِ الْوَاقِعِ غَيْرَ الْإِرَادَةِ اللَّازِمَةِ لَهُ وَهَذَا أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ إرَادَةِ الْكَائِنَاتِ وَلَمْ يُجِبْ عَنْهُ إلَّا بِأَنْ قَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ بَلْ هِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ لِمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الدِّينِ وَيُخَالِفُ مَا قَرَّرَهُ هُوَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] . الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: إنَّ طَوَائِفَ يَقُولُونَ لَهُمْ مَعْنَى الْخَبَرِ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعِلْمَ لَا سِيَّمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَقُولُونَ إنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ يُؤَوَّلُ إلَى الْخَبَرِ وَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ يُؤَوَّلُ إلَى الْخَبَرِ وَمَعْنَى الْخَبَرِ يُؤَوَّلُ إلَى الْعِلْمِ كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ يُؤَوَّلُ إلَى الْعِلْمِ لَكِنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْكَلَامَ يُؤَوَّلُ كُلُّهُ إلَى الْخَبَرِ الْمَحْضِ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ وَطَائِفَةٌ هُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الطَّلَبُ الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ يَسْتَلْزِمُ عِلْمًا وَخَبَرًا لَكِنْ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ ذَلِكَ بَلْ حَقِيقَةَ الطَّلَبِ يَجِدُهَا الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ وَيَعْلَمُهَا بِالْإِحْسَاسِ الْبَاطِنِ وَيَجِدُ الْفَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُخْبِرًا مَحْضًا مَعَ أَنَّ الْخَبَرَ أَيْضًا قَدْ يَسْتَلْزِمُ طَلَبًا وَإِرَادَةً فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لَكِنَّ تَلَازُمَ الْخَبَرِ وَالطَّلَبِ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُعْلَمَ أَنْ أَحَدَهُمَا لَيْسَ هُوَ الْآخَرَ فَالْإِنْسَانُ يُخْبِرُ عَنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ بِالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ خَبَرًا مَحْضًا وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ غَرَضٌ مِنْ حُبٍّ وَبُغْضٍ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ لَكِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ السَّمَاءُ فَوْقَنَا وَالْأَرْضُ تَحْتَنَا خَبَرٌ مَحْضٌ وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ خَبَرٌ لَكِنْ يَتْبَعُهُ مَحَبَّةٌ وَتَعْظِيمٌ وَطَاعَةٌ وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ اذْهَبْ وَتَعَالَ وَأَطْعِمْنِي وَاسْقِنِي وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ طَلَبٌ مَحْضٌ وَلَكِنَّهُ مَسْبُوقٌ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعِلْمِ وَالشُّعُورِ بِذَلِكَ كَالْأَفْعَالِ الْإِرَادِيَّةِ كُلِّهَا فَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ كَالْأَفْعَالِ الْإِرَادِيَّةِ كُلُّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِمَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ مِنْ حُبٍّ وَطَلَبٍ وَإِرَادَةٍ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ بُغْضٍ وَكَرَاهَةٍ وَالْخَبَرُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعِلْمِ وَالْعِلْمُ يَسْتَلْزِمُ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ وَالْعَمَلَ أَيْضًا فِي عَامَّةِ الْأُمُورِ وَلِهَذَا يَخْتَلِطُ بَابُ الْإِنْشَاءِ بِبَابِ

الْإِخْبَارِ لِتَلَازُمِ النَّوْعَيْنِ حَيْثُ تَلَازَمَا وَلِهَذَا تُسْتَعْمَلُ صِيغَةُ الْخَبَرِ فِي الطَّلَبِ كَثِيرًا كَمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الدُّعَاءِ فِي بَابِ غَفَرَ اللَّهُ لِفُلَانٍ وَيَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ وَفِي الْأَمْرِ وَمِثْلِ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ اسْتِعْمَالِ صِيغَةِ الطَّلَبِ فِي الْخَبَرِ الْمَحْضِ كَمَا قَدْ قِيلَ إنْ كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي قَوْله تَعَالَى {مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75] «وَإِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ مُتَلَازِمَانِ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ فَإِذَا اسْتَعْمَلَ صِيغَةَ الْخَبَرِ فِي الطَّلَبِ فَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَ فِي لَازِمِهِ وَجَعَلَ اللَّازِمَ لِقُوَّةِ الطَّلَبِ لَهُ وَالْإِرَادَةَ كَأَنَّهُ مَوْجُودٌ مُحَقَّقٌ مُخْبَرٌ عَنْهُ فَكَانَ هَذَا طَلَبًا مُؤَكَّدًا. وَلِهَذَا يَكْثُرُ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِيهِ الدَّاعِي وَهَذَا حَسَنٌ فِي الْكَلَامِ أَمَّا إذَا اسْتَعْمَلَ صِيغَةَ الْخَبَرِ فِي الْأَمْرِ الْمَحْضِ فَالْأَمْرُ فِيهِ الطَّلَبُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْعِلْمِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْخَبَرِ فَإِذَا لَمْ يُفِدْ إلَّا مَعْنَى الْخَبَرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ سَلَبَ مَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ الطَّلَبُ وَنَقَصَ ذَلِكَ وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَاهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ الطَّلَبَ وَالْإِرَادَةَ هُوَ تَصَوُّرُ الْمَطْلُوبُ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمُ بِوُقُوعِهِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ فَإِذَا اسْتَعْمَلَ اللَّفْظَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ وُقُوعِ الْمَطْلُوبِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ كَانَ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ مَعْنَى اللَّفْظِ وَلَا مِنْ لَوَازِمِهِ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ التَّحْقِيقِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِي الْخَبَرِ لَمْ يَقَعْ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدٌ وَالْقِيَاسُ يَأْبَاهُ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِلَّفْظِ فِي شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَاهُ وَلَا مِنْ مَلْزُومَاتِهِ فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْخَبَرَ بَلْ الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَمَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَاَللَّهُ مَسْئُولٌ مَدْعُوٌّ بِأَنْ يَمُدَّ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ مَدًّا وَإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِطَلَبِ نَفْسِهِ وَدُعَاءِ نَفْسِهِ كَمَا فِي الدُّعَاءِ الَّذِي يَدْعُو بِهِ وَهُوَ صَلَاتُهُ وَلَعْنَتُهُ كَمَا قَالَ {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] وَقَوْلُهُ {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43] فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَتَضَمَّنُ ثَنَاءَهُ وَدُعَاءَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّ طَلَبَ الطَّالِبِ مِنْ نَفْسِهِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ فِي حَقِّ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ كَأَمْرِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] وَقَدْ يُقَالُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127] وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ أَوْرَدَهُ الرَّازِيّ سُؤَالًا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ الْكَلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ لَفْظُهُ فِي ذَلِكَ وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الطَّلَبِ كَحَقِيقَةِ حُكْمِ

الذِّهْنِ بِنِسْبَةِ أَمْرٍ إلَى أَمْرٍ وَتِلْكَ الْمُغَايِرَةُ مَعْلُومَةٌ بِالضَّرُورَةِ وَلِهَذَا يَتَطَرَّقُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ إلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الْفَرْقِ صَحِيحٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَنَحْنُ إنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِتَوْكِيدِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إنَّ مَعْنَى الْخَبَرِ هُوَ الْعِلْمُ وَبِأَنَّهُ مِنْ الِاعْتِقَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا قَالَهُ طَوَائِفُ بَلْ أَكْثَرُ النَّاسِ بَلْ عَامَّةُ النَّاسِ يَقُولُونَ ذَلِكَ وَلَا نَجِدُ النَّاسَ فِي نُفُوسِهِمْ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ يَكُونُ مَعْنَى الْخَبَرِ. وَكَوْنُ مَعْنَى الْخَبَرِ هُوَ الْعِلْمُ أَوْ نَوْعٌ مِنْهُ أَظْهَرُ مِنْ كَوْنِ الطَّلَبِ هُوَ الْإِرَادَةُ أَوْ نَوْعُهَا مِنْهَا لِأَنَّهُ هُنَاكَ أَمْكَنَهُمْ دَعْوَى الْفَرْقِ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَ بِمَأْمُورَاتٍ وَهُوَ لَمْ يُرِدْ وُجُودهَا كَمَا أَمَرَ بِهِ مَنْ لَمْ يُطِعْهُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَإِنَّمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْقَدَرِيَّةُ. ثُمَّ كَوْنُ الْأَمْرِ مُسْتَلْزِمًا لِإِرَادَةٍ لَيْسَتْ هِيَ إرَادَةَ الْوُقُوعِ كَلَامٌ آخَرُ وَأَمَّا هُنَا فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَقُولُوا إنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ أَوْ بِمَا يَعْلَمُ ضِدَّهُ بَلْ عِلْمُهُ مِنْ لَوَازِمِ خَبَرِهِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ مَعْنَى الْخَبَرِ أَوْ لَازِمًا لِمَعْنَى الْخَبَرِ وَلِهَذَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا جَاءَهُ جَاءَهُ الْعِلْمُ فَقَالَ {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران: 61] وَقَالَ: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 120] وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْأَئِمَّةُ فِي تَكْفِيرِ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَقَالُوا قَوْلُهُمْ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ اللَّهِ مَخْلُوقًا لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الَّذِي جَاءَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَلَمْ يَعْنِ عِلْمَ غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنَى أَنَّهُ مِنْ عِلْمِهِ. وَمَنْ جَعَلَ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقًا قَائِمًا بِغَيْرِهِ فَهُوَ كَافِرٌ وَلَا رَيْبَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَخَبَرِهِ يَتَضَمَّنُ عِلْمَهُ سُبْحَانَهُ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنَّ أَمْرَهُ فِيهِ الطَّلَبُ الَّذِي وَقَعَ التَّنَازُعُ فِيهِ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ غَيْرُ الْإِرَادَةِ أَوْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِنَوْعٍ مِنْ الْإِرَادَةِ أَوْ هُوَ نَوْعٌ مِنْهَا أَوْ هُوَ الْإِرَادَةُ وَهَذَا لَيْسَ الْعِلْمَ وَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِعِلْمِ اللَّهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَنَازَعَ فِي كَوْنِ مَعْنَى خَبَرِ اللَّهِ يُوجَدُ بِدُونِ عِلْمِهِ فَظَهَرَ الْأَمْرُ فِي هَذَا الْبَابِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى ذَلِكَ إلَّا مَا ادَّعَاهُ مِنْ إمْكَانِ وُجُودِ مَعْنَى خَبَرٍ بِدُونِ الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَالظَّنِّ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ وَهُوَ الْخَبَرُ الْكَاذِبُ فَقَدَّرُوا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُخْبِرُ بِخَبَرٍ هُوَ فِيهِ كَاذِبٌ وَذَلِكَ يَكُونُ مَعَ عِلْمِهِ بِخِلَافِ الْمُخْبَرِ كَمَا قَدَّرُوا أَنْ يَأْمُرَ آمِرٌ امْتِحَانًا بِمَا لَا يُرِيدُهُ ثُمَّ ادَّعَوْا أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَهُ حُكْمٌ ذِهْنِيٌّ فِي النَّفْسِ غَيْرُ الْعِلْمِ كَمَا أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لَهُ طَلَبٌ نَفْسَانِيٌّ فِي النَّفْسِ غَيْرُ الْإِرَادَةِ.

وَهَذِهِ الْحُجَّةُ قَدْ نُوزِعُوا فِي صِحَّتِهَا نِزَاعًا عَظِيمًا لَيْسَتْ هِيَ مِثْلَ مَا أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ مِنْ وُجُودِ آمِرٍ لَمْ يُرِدْ وُقُوعَ مَأْمُورِهِ. الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ: إنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِي مَعْنَى الْخَبَرِ وَإِنَّهُ غَيْرُ الْعِلْمِ قَدْ أَقَرُّوا هُمْ أَيْضًا بِفَسَادِهَا فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ لَفْظُ الرَّازِيّ فِي هَذِهِ الْحُجَّةِ بِقَوْلِهِ وَأَمَّا شَبِيهُ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، بِالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَمَعْنَى الْخَبَرِ بِالْعِلْمِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِمَا ثَبَتَ فِي خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ وَيَنْهَى عَمَّا يُرِيدُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ فِي حَقِّ اللَّهِ شَيْئًا سِوَى الْإِرَادَةِ وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الْكَلَامِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ فِي الشَّاهِدِ قَدْ يَحْكُمُ الْإِنْسَانُ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَعْتَقِدُهُ وَلَا يَظُنُّهُ فَإِذَنْ الْحُكْمِ الذِّهْنِيِّ فِي الشَّاهِدِ مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الْأُمُورِ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ ثَبَتَ فِي الْغَائِبِ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَاهِيَّةَ الْخَبَرِ لَا تَخْتَلِفُ فِي الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي مَحْصُولِهِ أَيْضًا حَيْثُ جَعَلَ مَعْنَى الْخَبَرِ هُوَ الْحُكْمُ الذِّهْنِيَّ الَّذِي انْفَرَدُوا بِإِثْبَاتِهِ دُونَ سَائِرِ الْعُقَلَاءِ وَأَمَّا أَبُو الْمَعَالِي وَنَحْوِهِ فَلَمْ يَذْكُرُوا دَلِيلًا عَلَى إثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ سِوَى مَا دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الطَّلَبِ الَّذِي ادَّعَوْا أَنَّهُ مُغَايِرٌ لِلْإِرَادَةِ وَذَاكَ إنْ دَلَّ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ غَيْرُ الْإِرَادَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْخَبَرِ غَيْرُ الْعِلْمِ لَكِنْ اسْتَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ التَّصْدِيقِ النَّفْسَانِيِّ بِأَنَّهُ مَدْلُولُ الْمُعْجِزَةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ غَيْرُ الْعِلْمِ فَيُقَالُ لَهُمْ أَنْتُمْ مُصَرِّحُونَ بِنَقِيضِ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ الذِّهْنِيِّ عَلَى خِلَافِ الْعِلْمِ وَأَنَّهُ إنْ جَازَ وُجُودُهُ فَلَيْسَ هُوَ كَلَامًا عَلَى التَّحْقِيقِ وَإِذَا انْقَسَمَ وُجُودُهُ هَذَا الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ الْمُخَالِفُ لِلْعِلْمِ أَوْ كَوْنُهُ كَلَامًا عَلَى التَّحْقِيقِ امْتَنَعَ مِنْكُمْ حِينَئِذٍ إثْبَاتُ وُجُودِهِ وَدَعْوَى أَنَّهُ هُوَ الْكَلَامُ عَلَى التَّحْقِيقِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَى وُجُوبِ الصِّدْقِ لِلَّهِ بِأَنَّ الْكَلَامَ النَّفْسَانِيَّ يَمْتَنِعُ فِيهِ الْكَذِبُ لِوُجُوبِ الْعِلْمِ لِلَّهِ وَامْتِنَاعُ الْجَهْلِ وَهَذَا الدَّلِيلُ قَدْ ذَكَرَهُ جَمْعُ أَئِمَّتِهِمْ حَتَّى الرَّازِيّ ذَكَرَهُ لَكِنْ قَالَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ لَا عَلَى صِدْقِ الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَتَّصِفَ الْحَيُّ بِحُكْمٍ نَفْسَانِيٍّ لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَعْتَقِدُهُ وَلَا يَظُنُّهُ بَلْ يُعْلَمُ خِلَافُهُ امْتَنَعَ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ الْحُكْمُ النَّفْسَانِيُّ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعِلْمِ أَوْ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بِخِلَافِ الْعِلْمِ فَيَكُونُ كَذِبًا. وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ تَنَاقُضٌ فِي عَيْنِ الشَّيْءِ لَيْسَ تَنَاقُضًا مِنْ جِهَةِ اللُّزُومِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا

أَثْبَتُوا أَنَّ مَعْنَى الْخَبَرِ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ أَثْبَتُوا حُكْمًا نَفْسَانِيَّا يُنَافِي الْعِلْمَ فَيَكُونُ كَذِبًا وَيَكُونُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ وَلَمَّا أَثْبَتُوا الصِّدْقَ قَالُوا إنَّ مَعْنَى الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ النَّفْسَانِيُّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِدُونِ الْعِلْمِ أَوْ خِلَافِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ شَيْخُ الشِّهْرِسْتَانِيّ وَتِلْمِيذُ أَبِي الْمَعَالِي فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ فَصْلٌ كَلَامُ اللَّهِ صِدْقٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَذِبُ نَقْصٌ قَالَ وَمِمَّا تَمَسَّكَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُمَا أَنْ قَالُوا الْكَلَامُ الْقَدِيمُ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَوْ كَانَ كَذِبًا لَنَافَى الْعِلْمَ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَالِمَ بِالشَّيْءِ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ إخْبَارٌ عَنْ الْمَعْلُومِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ مَعْلُومٌ لَهُ وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْكَلَامِ الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ شَاهِدٌ أَوْ هُوَ الَّذِي يُسَمَّى التَّدْبِيرَ أَوْ حَدِيثَ النَّفْسِ وَهُوَ مَا يُلَازِمُ الْعِلْمَ. قَالَ فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ يُنَافِي الْكَذِبَ لَمْ يَصِحَّ مِنْ الْوَاحِدِ مِنَّا كَذِبٌ عَلَى طَرِيقِ الْجَحْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ مُتَصَوَّرٌ مَوْهُومٌ. قُلْنَا الْجَحْدُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْعَالِمِ بِالشَّيْءِ فِي الْعِبَارَةِ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ وَصَاحِبُ الْجَحْدِ وَإِنْ جَحَدَهُ بِاللِّسَانِ هُوَ مُعْتَرِفٌ بِالْقَلْبِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْجَحْدُ بِالْقَلْبِ. فَإِنْ قَالُوا لَا يَمْتَنِعُ تَصَوُّرُ الْجَحْدِ بِالْقَلْبِ وَتَصَوُّرُ الْعِلْمِ فِي النَّفْسِ جَمِيعًا قُلْنَا إنْ قُدِّرَ ذَلِكَ عَلَى مَا تَتَصَوَّرُونَهُ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَلَامًا عَلَى التَّحْقِيقِ وَإِنَّمَا هُوَ تَقْدِيرُ كَلَامٍ كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِوَحْدَانِيِّتِهِ قَدْ يُقَدَّرُ فِي نَفْسِهِ مَذْهَبُ الثَّنَوِيَّةِ ثُمَّ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِعِلْمِهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ اعْتِقَادًا حَقِيقِيًّا لَنَافَاهُ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ يَدُلُّ عَلَى الْخَبَرِ الصِّدْقِ فَإِذَا تَعَلَّقَ الْخَبَرُ بِالْمُخْبِرِ عَلَى وَجْهِ الصِّدْقِ فَتَقْدِيرُ خَبَرٍ خَلَفٍ مُسْتَحِيلٍ مَعَ الْخَبَرِ الْقَدِيمِ إذْ لَا يَتَجَدَّدُ الْكَلَامُ قَالَ فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ أَمْرًا مِنْ وَجْهٍ نَهْيًا مِنْ وَجْهٍ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا مِنْ وَجْهٍ كَذِبًا مِنْ وَجْهٍ. قُلْنَا الْأَمْرُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ النَّهْيُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ وَالْآمِرُ بِالشَّيْءِ نَاهٍ عَنْ ضِدِّهِ وَلَا تَنَاقُضَ فِيهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلصِّدْقِ كَذِبًا بِوَجْهٍ وَتَعَلُّقُ الْخَبَرِ بِالْمُخْبِرِ بِمَثَابَةِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومِ وَإِذَا تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِوُجُودِ الشَّيْءِ فَلَا يَكُونُ عِلْمًا بِعَدَمِهِ فِي حَالِ وُجُودِهِ. وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي إرْشَادِهِ الْمَشْهُورُ الَّذِي هُوَ زَبُورُ الْمُسْتَأْخِرِينَ مِنْ أَتْبَاعِهِ

كَمَا أَنَّ الْغَرَرَ وَتَصَفُّحَ الْأَدِلَّةِ لِأَبِي الْحُسَيْنِ زَبُورُ الْمُسْتَأْخِرِينَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَمَا أَنَّ الْإِشَارَاتِ لِابْنِ سِينَا زَبُورُ الْمُسْتَأْخِرِينَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ. وَإِنْ كَانَتْ طَائِفَةُ أَبِي الْمَعَالِي أَمْثَلَ وَأَوْلَى بِالْإِسْلَامِ قَالَ فَصْلٌ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ، اعْلَمُوا أَنَّ غَرَضَنَا مِنْ هَذَا الْفَصْلِ يَسْتَدْعِي ذِكْرَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَهَذَا مِمَّا تَبَايَنَتْ فِيهِ مَذَاهِبُ الْإِسْلَامِيِّينَ فَذَهَبَ الْخَوَارِجُ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الطَّاعَةُ وَمَالَ إلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَاخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُهُمْ فِي تَسْمِيَةِ النَّوَافِلِ إيمَانًا. وَصَارَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ مَعْرِفَةٌ بِالْجَنَانِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْقُدَمَاءِ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارُ بِهَا وَذَهَبَتْ الْكَرَّامِيَّةُ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ فَحَسْبُ وَمُضْمِرُ الْكُفْرِ إذَا أَظْهَرَ الْإِيمَانَ مُؤْمِنٌ حَقًّا عِنْدَهُمْ غَيْرَ أَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَلَوْ أَضْمَرَ الْإِيمَانَ وَلَمْ يُتَيَقَّنْ مِنْهُ إظْهَارُهُ فَهُوَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَهُ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ وَالْمَرْضِيُّ عِنْدَنَا أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ بِاَللَّهِ فَالْمُؤْمِنُ بِاَللَّهِ مَنْ صَدَّقَهُ ثُمَّ التَّصْدِيقُ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَلَامُ النَّفْسِ وَلَا يَثْبُتُ كَلَامُ النَّفْسِ كَذَلِكَ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ فَإِنَّا أَوْضَحْنَا أَنَّ كَلَامَ النَّفْسِ يَثْبُتُ عَلَى حَسَبِ الِاعْتِقَادِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ صَرِيحُ اللُّغَةِ وَأَصْلُ الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ لَا يُنْكَرُ فَيَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِهِ وَمِنْ التَّنْزِيلِ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17] مَعْنَاهُ مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا ثُمَّ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ مَنْ خَالَفَ أَهْلَ الْحَقِّ لَمْ يَصِفْ الْفَاسِقَ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ كَلَامَ النَّفْسِ لَا يَثْبُتُ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ وَأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ عَلَى حَسَبِ الِاعْتِقَادِ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ وَلَا يَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَقَدِ وَهَذَا يُنَاقِضُ مَا أَثْبَتُوا بِهِ كَلَامَ النَّفْسِ وَادَّعَوْا أَنَّهُ مُغَايِرٌ لِلْعِلْمِ، وَقَالَ صَاحِبُهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ شَيْخُ الشِّهْرِسْتَانِيّ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ شَرْحَ قَوْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ، قَالَ وَأَمَّا مَذَاهِبُ أَصْحَابِنَا فَصَارَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالنُّظَّارُ مِنْهُمْ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ وَبِهِ قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ وَاخْتَلَفَ جَوَابُهُ فِي مَعْنَى التَّصْدِيقِ فَقَالَ مَرَّةً هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِوُجُودِهِ وَقِدَمِهِ وَإِلَهِيَّته وَقَالَ مَرَّةً التَّصْدِيقُ

قَوْلٌ فِي النَّفْسِ غَيْرَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْمَعْرِفَةَ وَلَا يُوجَدُ دُونَهَا وَهَذَا مِمَّا ارْتَضَاهُ الْقَاضِي فَإِنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَالتَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ بِالْأَقْوَالِ أَجْدَرُ فَالتَّصْدِيقُ إذًا قَوْلٌ فِي النَّفْسِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللِّسَانِ فَتُوصَفُ الْعِبَارَةُ بِأَنَّهَا تَصْدِيقٌ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ التَّصْدِيقِ هَذَا مَا حَكَاهُ شَيْخُنَا الْإِمَامُ. قُلْت: فَقَدْ ذَكَرَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ التَّصْدِيقَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَهَذَا قَوْلُ جَهْمٍ. وَالثَّانِي: إنَّ التَّصْدِيقَ قَوْلٌ فِي النَّفْسِ يَتَضَمَّنُ الْمَعْرِفَةَ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ وَابْنِ الْجُوَيْنِيِّ وَهَؤُلَاءِ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْمَعْرِفَةَ وَلَا يَنْتَصِرُ أَنْ يَقُومَ فِي النَّفْسِ تَصْدِيقُ مُخَالِفٍ لِمَعْرِفَةٍ كَمَا ذَكَرُوهُ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُصَدَّقَ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ عِلْمِهِ وَاعْتِقَادِهِ لَانْتُقِضَ أَصْلُهُمْ فِي الْإِيمَانِ إذَا كَانَ التَّصْدِيقُ لَا يُنَافِي اعْتِقَادَ خِلَافِ مَا صَدَّقَ بِهِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقِ النَّفْسِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَكُلٌّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ يَنْقُضُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ غَيْرُ الْعِلْمِ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ وَحَكَى الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْإسْفَرايِينِيّ اخْتِلَافًا عَنْ أَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ فِي التَّصْدِيقِ ثُمَّ قَالَ وَالصَّحِيحُ مِنْ الْأَقَاوِيلِ فِي مَعْنَى التَّصْدِيقِ مَا يُوَافِقُ اللُّغَةَ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْإِيمَانِ وَرَدَ بِمَا يُوَافِقُ اللُّغَةَ وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى مُوَافَقَةِ اللُّغَةِ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَادِقَانِ فِي جَمِيعِ مَا أَخْبَرَا بِهِ وَالْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ مُطْلَقًا هُوَ اعْتِقَادُ صِدْقِ الْمُخْبِرِ فِي خَبَرِهِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ هَذَا التَّصْدِيقَ عِلْمًا وَلَا يَكْفِي أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عِلْمًا لِأَنَّ مَنْ صَدَّقَ الْكَاذِبَ وَاعْتَقَدَ صِدْقَهُ فَقَدْ آمَنَ بِهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي صِفَةِ الْيَهُودِ: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51] يَعْنِي يَعْتَقِدُونَ صِدْقَهُمَا. قُلْت لَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا ذِكْرُ تَنَاقُضِهِمْ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَفِي التَّصْدِيقِ هَلْ هُوَ التَّصْدِيقُ بِوُجُودِ اللَّهِ وَقِدَمِهِ وَإِلَهِيَّته كَمَا قَالَهُ الْأَشْعَرِيُّ أَوْ هُوَ تَصْدِيقٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ، أَوْ التَّنَاقُضُ كَمَا فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْإِرْشَادِ حَيْثُ قَالَ: الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِاَللَّهِ فَالْمُؤْمِنُ بِاَللَّهِ مَنْ صَدَّقَهُ فَجَعَلَ التَّصْدِيقَ بِوُجُودِهِ هُوَ تَصْدِيقُهُ فِي خَبَرِهِ مَعَ تَبَايُنِ الْحَقِيقَتَيْنِ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ التَّصْدِيقِ بِوُجُودِ الشَّيْءِ وَتَصْدِيقِهِ وَلِهَذَا يُفَرِّقُ الْقُرْآنُ بَيْنَ

الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ لِلرَّسُولِ إذْ الْأَوَّلُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِذَلِكَ وَالثَّانِي هُوَ الْإِقْرَارُ لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] . وَفِي قَوْلِهِ: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] . وَفِي قَوْلِهِ: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} [التوبة: 94] . وَقَدْ قَالَ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف: 158] . فَمَيَّزَ الْإِيمَانَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ بِكَلِمَاتِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] الْآيَةَ وَقَوْلُهُ {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] فَلَيْسَ الْغَرَضُ أَنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا لِمِثْلِ هَذَا فِي مِثْلِ هَذَا الْأَصْلِيِّ الَّذِي لَمْ يَعْرِفُوا فِيهِ لَا الْإِيمَانَ وَلَا الْقُرْآنَ وَهُمَا نُورُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى: 53] . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنَّ التَّصْدِيقَ قَدْ صَرَّحَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُ هُوَ الْعِلْمُ أَوْ هُوَ الِاعْتِقَادُ إذَا لَمْ يَكُنْ عِلْمًا وَأَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ إلَى أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعِلْمِ فِي تَمَامِ مَا ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْإسْفَرايِينِيّ. وَقَالَ حَكَى الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ الْإِيمَانُ هُوَ اعْتِقَادُ صِدْقِ الْمُخْبِرِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ ثُمَّ مِنْ الِاعْتِقَادِ مَا هُوَ عِلْمٌ وَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِعِلْمٍ فَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ هُوَ اعْتِقَادُ صِدْقِهِ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ عَالِمًا بِصِدْقِهِ فِي إخْبَارِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ حَيٌّ وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ حَيٌّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ وَبَعْدَ الْعِلْمِ بِالْفِعْلِ وَكَوْنُ الْعَالَمِ فِعْلًا لَهُ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ قَادِرًا وَعَالِمًا وَلَهُ عِلْمٌ وَمُرِيدًا وَلَهُ إرَادَةً وَسَائِرُ مَا لَا يَصِحُّ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ تَعَالَى إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ شَرَائِطِ الْإِيمَانِ. قَالَ ثُمَّ السَّمْعُ قَدْ وَرَدَ بِضَمِّ شَرَائِطَ أُخَرَ إلَيْهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى كُفْرِ مَنْ يَأْتِيهِ فِعْلًا وَتَرْكًا وَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَهُ بِتَرْكِ السُّجُودِ وَالْعِبَادَةِ لِلصَّنَمِ فَلَوْ أَتَى بِهِ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ اسْتَخَفَّ بِهِ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ تَعْظِيمَ الْمُصْحَفِ وَالْكَعْبَةِ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ فِي شَيْءٍ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ دَلَّ خِلَافُهُ إيَّاهُمْ عَلَى كُفْرِهِ فَأَيُّ وَاحِدٍ مِمَّا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى كُفْرِهِ مِمَّا مَنَعَ الشَّرْعُ أَنْ يَقْرِنَهُ بِالْإِيمَانِ إذَا وَجَبَ ضَمُّهُ إلَى الْإِيمَانِ لَوْ وُجِدَ، دَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ مَفْقُودٌ مِنْ قَلْبِهِ.

فَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَفَّرْنَا بِهِ الْمُخَالِفَ مِنْ طَرِيقِ التَّأْوِيلِ فَإِنَّمَا كَفَّرْنَاهُ بِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى فَقْدِ مَا هُوَ إيمَانٌ مِنْ قَلْبِهِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَقْضِيَ السَّمْعُ بِكُفْرِ مَنْ مَعَهُ الْإِيمَانُ، وَالتَّصْدِيقُ بِقَلْبِهِ. قَالَ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ بِالْمُوَافَاةِ فَيُشْتَرَطُ فِي الْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ أَنْ يُوَافِيَ رَبَّهُ بِهِ وَيَخْتِمَ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهِ فِي الْحَالِ وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْإِيمَانِ الْإِقْرَارُ اخْتَلَفُوا فِيهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ تَرْكَ الْعِنَادِ شَرْطٌ وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ مَتَى طُولِبَ بِالْإِقْرَارِ فَأَتَى بِهِ أَمَّا قَبْلَ أَنْ يُطَالَبَ بِهِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهِ حَتَّى يَكُونَ مُؤْمِنًا وَهَذَا الْقَائِلُ يَقُولُ التَّصْدِيقُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ جَمِيعًا وَهَذَا قَوْلُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ الْبَجَلِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَيَقْرَبُ مِنْ هَذَا مَا كَانَ يَقُولُهُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا وَنَحْنُ نَقُولُ مَنْ أَتَى التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَهُوَ الْمُؤْمِنُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَمَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَامْتَنَعَ مِنْ الْإِقْرَارِ فَهُوَ مُعَانِدٌ كَافِرٌ يَكْفُرُ كُفْرَ عِنَادٍ وَمَنْ أَقَرَّ بِلِسَانِهِ وَجَحَدَ بِقَلْبِهِ فَهُوَ كَافِرٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ نَفْسِهِ وَيَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِيمَانِ لِمَا أَظْهَرَ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِيمَانِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ الْمَعَارِفَ مَجْمُوعَةً تَصْدِيقًا وَاحِدًا وَهُوَ الْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَرَسُولِهِ وَأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ: قَالَ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَصْدِيقٌ وَاحِدٌ ثُمَّ قَالَ هَذَا مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْإسْفَرايِينِيّ، قُلْت لَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ قَوْلِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ فِي الْإِيمَانِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّنَاقُضِ حَيْثُ جَعَلَهُ التَّصْدِيقَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ ثُمَّ سَلَبَهُ عَمَّنْ تَرَكَ النُّطْقَ عِنَادًا وَأَنَّ عِنْدَهُ كُلُّ مَا سُمِّيَ كُفْرًا فَلِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ هَذَا التَّصْدِيقِ لَكِنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الْعَدَمِ تُعْلَمُ تَارَةً بِالْعَقْلِ وَتَارَةً بِالشَّرْعِ لِأَنَّ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنْ الِاسْتِكْبَارِ عَلَى اللَّهِ وَالْبُغْضِ لَهُ وَلِرُسُلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَكُونُ هُوَ فِي نَفْسِهِ كُفْرًا وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ التَّصْدِيقِ الْخَاصِّ الَّذِي وَصَفُوهُ وَهُوَ تَصْدِيقٌ بِأُصُولِ الْكَلَامِ الَّذِي وَضَعُوهُ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ التَّصْدِيقَ هُوَ نَفْسُ الْمَعْرِفَةِ كَمَا فِي كَلَامِ هَذَا وَغَيْرُهُ وَكَمَا ذَكَرُوهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ وَغَايَتُهُمْ إذَا لَمْ يَجْعَلُوهُ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَعْرِفَةِ أَنْ يَجْعَلُوهُ مُسْتَلْزَمًا لَهَا. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي الْمُخْتَصَرِ. الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرِيعَةِ التَّصْدِيقُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ، وَتَقُومُ الْإِشَارَةُ وَالِانْقِيَادُ مُقَامَ الْعِبَارَةِ، قَالَ وَتَحْقِيقُ الْمَعْرِفَةِ تَحْصِيلُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَتَحْقِيقُهُ قَالَ

النَّيْسَابُورِيُّ أَرَادَ بِالْكِتَابِ هُوَ الْمُخْتَصَرُ وَأَشَارَ بِمَا قَدَّمَهُ فِيهِ إلَى جُمْلَةِ مَا قَدَّمَهُ مِنْ قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ. قَالَ: وَقَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْإِيمَانُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ، وَاعْتِقَادُ الْإِقْرَارِ عِنْدَ الْحَاجَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مُقَامَ الْإِقْرَارِ فِي كِتَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُكَلَّفُ اسْمَ الْإِيمَانِ فِي الشَّرِيعَةِ أَوْصَافٌ كَثِيرَةٌ وَعَقَائِدُ مُخْتَلِفَةٌ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى تَفْصِيلٍ ذَكَرْنَاهُ وَاخْتَلَفُوا فِي إضَافَةِ مَا لَا يَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ التَّصْدِيقِ إلَيْهِ لِصِحَّةِ الِاسْمِ فَمِنْهَا تَرْكُ قَتْلِ الرَّسُولِ وَتَرْكُ تَعْظِيمِهِ وَتَرْكُ تَعْظِيمِ الْأَصْنَامِ فَهَذَا مِنْ التُّرُوكِ وَمِنْ الْأَفْعَالِ نُصْرَةُ الرَّسُولِ وَالذَّبُّ عَنْهُ فَقَالُوا إنَّ جَمِيعَهُ مُضَافٌ إلَى التَّصْدِيقِ شَرْعًا، وَقَالَ آخَرُونَ إنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا يُخْرِجُ الْمَرْءَ بِالْمُخَالَفَةِ فِيهِ عَنْ الْإِيمَانِ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ هَذِهِ جُمْلَةُ كَلَامِ مَشَايِخِنَا فِي ذَلِكَ قَالَ وَذَهَبَ أَهْلُ الْأَثَرِ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ إتْيَانُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَرْضًا وَنَفْلًا وَالِانْتِهَاءُ عَمَّا نَهَى عَنْهُ تَحْرِيمًا وَإِذْنًا وَبِهَذَا كَانَ يَقُولُ أَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ، وَمِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا أَبُو عَبَّاسٍ الْقَلَانِسِيُّ، وَقَدْ مَالَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُجَاهِدٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَمُعْظَمُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَكَانُوا يَقُولُونَ الْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ: قُلْت وَذَكَرَ الْكَلَامَ إلَى آخِرِهِ مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا ذِكْرَ أَقْوَالِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّة وَاعْتِرَافَ هَؤُلَاءِ بِمَا اجْتَرَءُوا عَلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ فِي الْإِيمَانِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ لِمَا عَنَّتْ لَهُمْ مِنْ شُبْهَةِ الْجَهْمِيَّةِ الْمُرْجِئَةِ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بَيَانُ مَا ذَكَرَهُ الْإسْفَرايِينِيّ مِنْ أَنَّ التَّصْدِيقَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ وَإِنْ كَانَ أَرَادَ الْمَعْرِفَةَ كَمَا قَرَّرَهُ هُوَ مِنْ قَوَاعِدِهِ وَلَمْ يُحِلْ ذَلِكَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ فَإِذَا كَانَ التَّصْدِيقُ لَا يَتَحَقَّقُ بِالْمَعْرِفَةِ إلَّا بِالْإِقْرَارِ أَيْضًا بِاللِّسَانِ كَانَ هَذَا مِنْ كَلَامِهِمْ دَلِيلًا عَلَى امْتِنَاعِ وُجُودِ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَتَحَقُّقِهِ إلَّا مَعَ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ مُجَرَّدُ مَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ فَهَذِهِ مُنَاقَضَةٌ ثَابِتَةٌ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ إنْ تَحَقَّقَ بِدُونِ لَفْظٍ يَظَلُّ هَذَا وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ إلَّا بِلَفْظٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ يَظَلُّ ذَاكَ. فَهَذَا كَلَامُهُمْ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِأَنْ جَعَلُوا الْعِلْمَ يُنَافِي الْكَذِبَ النَّفْسَانِيَّ حَتَّى جَعَلُوهُ يُوجِبُ الصِّدْقَ النَّفْسَانِيَّ فَيَمْتَنِعُ وُجُودُ الْعِلْمِ بِدُونِ الصِّدْقِ فَصَارَ هَذَا مَطْلًا لِمَا أَثْبَتُوا بِهِ الْخَبَرَ النَّفْسَانِيَّ مِنْ أَنَّهُ يُمْكِنُ ثُبُوتُهُ بِدُونِ الْعِلْمِ وَعَلَى خِلَافِ الْعِلْمِ وَهُوَ الْكَذِبُ وَهُمْ كَمَا احْتَجُّوا بِالْعِلْمِ عَلَى انْتِفَاءِ الْكَذِبِ النَّفْسَانِيِّ وَثُبُوتِ الصِّدْقِ النَّفْسَانِيِّ فَقَدْ احْتَجُّوا بِهِ أَيْضًا عَلَى أَصْلِ ثُبُوتِ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ.

قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ النَّيْسَابُورِيُّ، وَمِمَّا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ يَعْنِي فِي إثْبَاتِ كَلَامِ اللَّهِ النَّفْسَانِيِّ الَّذِي أَثْبَتُوهُ أَنْ قَالَ: الْأَحْكَامُ لَا تَرْجِعُ إلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَلَا إلَى أَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا تَرْجِعُ إلَى قَوْلِ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَوُرُودُ التَّكْلِيفِ عَلَى الْعِبَادِ دَلِيلٌ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ، وَجَوَازِ إرْسَالِ الرُّسُلِ وَوُرُودِ التَّكْلِيفِ دَالٌّ عَلَى عِلْمِهِ، وَعِلْمُهُ دَالٌّ عَلَى ثُبُوتِ الْكَلَامِ الصِّدْقِ أَوْ لَا، إذْ الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْ نُطْقِ النَّفْسِ بِمَا يَعْلَمُهُ وَذَلِكَ هُوَ التَّدْبِيرُ وَالْخَبَرُ، وَرُبَّمَا يُعَبَّرُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْقَدِيمُ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمًا لَاسْتَحَالَ مِنْهُ التَّعْرِيفُ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى التَّكْلِيفِ لِأَنَّ طُرُقَ التَّعْرِيفِ مَعْلُومَةٌ، وَذَلِكَ كَالْكِتَابَةِ وَالْعِبَارَةِ وَالْإِشَارَةِ، وَشَيْءٌ مِنْ هَذَا لَا يَقَعُ بِهِ التَّعْرِيفُ دُونَ أَنْ يَكُونَ تَرْجَمَةً عَنْ الْكَلَامِ الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ وَمَنْ لَا كَلَامَ لَهُ اسْتَحَالَ أَنْ يُنَبِّهَ غَيْرَهُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَسْتَنِدُ إلَى الْكَلَامِ. قَالَ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْكَلَامِ لِلَّهِ آيَاتُ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - فَإِنَّهَا كَانَتْ أَدِلَّةً وَلَا تَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ لِأَنْفُسِهَا وَإِنَّمَا كَانَتْ دَالَّةً مِنْ حَيْثُ كَانَتْ لِإِزَالَةِ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ لِمُدَّعِي الرِّسَالَةِ صَدَقْت وَالتَّصْدِيقُ مِنْ قِبَلِ الْأَقْوَالِ وَلَا يَكُونُ الْمُصَدِّقُ مُصَدِّقًا لِغَيْرِهِ بِفِعْلِهِ التَّصْدِيقَ وَإِنَّمَا يَكُونُ مُصَدِّقًا لَهُ لِقِيَامِ التَّصْدِيقِ بِذَاتِهِ بِأَمْرِ اللَّهِ مَنْهِيًّا بِنَهْيِهِ. قُلْت: أَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى ثُبُوتِ كَلَامِ اللَّهِ بِالتَّكْلِيفِ وَالْأَحْكَامِ، فَهَذَا مِنْ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، بَلْ مِنْ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الشَّيْءِ بِمَا هُوَ أَخْفَى مِنْهُ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ التَّكْلِيفُ وَالْأَحْكَامُ إنَّمَا تَثْبُتُ بِالرُّسُلِ، فَالرُّسُلُ كُلُّهُمْ مُطْبِقُونَ عَلَى تَبْلِيغِ كَلَامِ اللَّهِ وَرِسَالَتِهِ وَأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ وَقَالَ وَيَتَكَلَّمُ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ نُطْقَ الرُّسُلِ بِإِثْبَاتِ كَلَامِ اللَّهِ وَقَوْلِهِ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ وَأَظْهَرُ مِنْ نُطْقِهِمْ بِلَفْظِ تَكْلِيفٍ وَأَحْكَامٍ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الدَّلِيلُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَبِمَا أَخْبَرُوا بِهِ، فَإِخْبَارُهُمْ بِكَلَامِ اللَّهِ وَقَوْلِهِ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى دَلِيلٍ، وَلِهَذَا عَدَلَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ الْغَثِّ وَاحْتَجُّوا عَلَى ثُبُوتِ كَلَامِ اللَّهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْمُرْسَلِينَ. وَقَوْلُهُ الْأَحْكَامُ مِنْ أَدَلِّ الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، يُقَالُ لَهُ فَهَلْ الْأَحْكَامُ عِنْدَك شَيْءٌ غَيْرُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ حَتَّى يُسْتَدَلَّ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، أَمْ اسْمُ الْأَحْكَامِ هَلْ هُوَ أَظْهَرُ فِي كَلَامِ الرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ مِنْ اسْمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فَوُرُودُ التَّكْلِيفِ عَلَى الْعِبَادِ دَلِيلٌ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ وَجَوَازِ إرْسَالِ الرُّسُلِ فَإِنَّ التَّكْلِيفَ إذَا

الوجه السابع عشر إن هذا يهدم عليهم إثبات العلم بصدق الكلام النفساني

كَانَ عِنْدَهُ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِالرُّسُلِ، كَانَ الْعِلْمُ بِجَوَازِ إرْسَالِ الرُّسُلِ سَابِقًا عَلَى الْعِلْمِ بِالتَّكْلِيفِ، فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِمَا يَتَأَخَّرُ عِلْمُهُ عَلَى مَا يَتَقَدَّمُ عِلْمُهُ، وَمِنْ حَقِّ الدَّلِيلِ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ حَيْثُ جُعِلَ دَلِيلًا عَلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ مِمَّنْ يُسَوِّغُ التَّكْلِيفُ الْعَقْلِيُّ فَذَاكَ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ يَرْجِعُ إلَى صِفَاتٍ تَقُومُ بِالْأَفْعَالِ فَلَا يُفْتَقَرُ إلَى ثُبُوتِ الْكَلَامِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بَيَانَ هَذَا وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ قَوْلَهُمْ: وُرُودُ التَّكْلِيفِ دَالٌّ عَلَى عِلْمِهِ، وَعِلْمُهُ دَالٌّ عَلَى ثُبُوتِ الْمُصَدَّقِ، إذْ الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْ نُطْقِ النَّفْسِ بِمَا يَعْلَمُهُ، وَذَلِكَ هُوَ التَّدْبِيرُ وَالْخَبَرُ، فَقَدْ جَعَلُوا الْعِلْمَ مُسْتَلْزِمًا لِلْكَلَامِ بِنَوْعَيْهِ الْخَبَرُ وَالصِّدْقُ وَالتَّدْبِيرُ الَّذِي هُوَ الطَّلَبُ، وَهَذَا إلَى التَّحْقِيقِ أَقْرَبُ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُ الْعِلْمِ وَالْكَذِبِ النَّفْسَانِيِّ، فَإِنْ قِيلَ لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ مِنْهُمْ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ بِإِثْبَاتِهِ تَارَةً وَجَعْلِهِ كَلَامًا مُحَقَّقًا وَنَفْيِهِ أُخْرَى وَنَفْيِ تَسْمِيَتِهِ كَلَامًا مُحَقَّقًا إذَا قُدِّرَ وُجُودُهُ، لَكِنَّ التَّنَاقُضَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَقَدْ يَكُونُ الْبَاطِلُ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ اسْتِلْزَامِ الْعِلْمِ لِلصِّدْقِ النَّفْسَانِيِّ وَمُنَافَاتِهِ لِلْكَذِبِ دُونَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ إمْكَانِ اجْتِمَاعِهِمَا وَعَدَمِ اسْتِلْزَامِهِ لِلصِّدْقِ، [الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ إنَّ هَذَا يَهْدِمُ عَلَيْهِمْ إثْبَاتَ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ] قِيلَ تَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا وَهُوَ. الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ: إنَّ هَذَا يَهْدِمُ عَلَيْهِمْ إثْبَاتَ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ، وَإِذَا فَسَدَ ذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْهُمْ إثْبَاتُ الْكَلَامِ لَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا بَلْ لَمْ يَنْفَعْهُمْ إثْبَاتُ كَلَامٍ لَمْ يَعْلَمُوا وُجُودَهُ إلَّا وَهُوَ كَذِبٌ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا الْخَبَرَ النَّفْسَانِيَّ إلَّا بِتَقْدِيرِ الْخَبَرِ الْكَذِبِ، فَهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا وُجُودَ خَبَرٍ نَفْسَانِيٍّ إلَّا مَا كَانَ كَذِبًا. فَإِنْ أَثْبَتُوا لِلَّهِ ذَلِكَ كَانَ كُفْرًا بَاطِلًا خِلَافَ مَقْصُودِهِمْ وَخِلَافَ إجْمَاعِ الْخَلَائِقِ إذْ أَحَدٌ لَا يُثْبِتُ لِلَّهِ كَلَامًا لَازِمًا لِذَاتِهِ هُوَ كَذِبٌ، وَإِنْ لَمْ يُثْبِتُوا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَرِيقٌ إلَى إثْبَاتِ الْخَبَرِ النَّفْسَانِيِّ بِحَالٍ. لِأَنَّا حِينَئِذٍ لَمْ نَعْلَمْ وُجُودَ مَعْنًى نَفْسَانِيٍّ صِدْقًا غَيْرَ الْعِلْمِ وَنَحْوِهِ لَا شَاهِدًا وَلَا غَائِبًا فَإِنَّ خَبَرَ اللَّهِ لَا يَنْفَعُك عَنْ الْعِلْمِ، وَإِذَا امْتَنَعَ إثْبَاتُ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ الْخَبَرِ امْتَنَعَ حِينَئِذٍ وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ صِدْقًا، فَإِنَّ ثُبُوتِ الصِّفَةِ بِدُونِ الْمَوْصُوفِ مُحَالٌ، فَعُلِمَ أَنَّ الطَّرِيقَةَ الَّتِي سَلَكُوهَا فِي إثْبَاتِ صِدْقِ الْخَبَرِ يُبْطِلُ عَلَيْهِمْ إثْبَاتَ أَصْلِ الْخَبَرِ النَّفْسَانِيِّ، فَلَا يَثْبُتُ حِينَئِذٍ لَا خَبَرٌ نَفْسَانِيٌّ وَلَا صِدْقُهُ، وَالطَّرِيقَةُ الَّتِي سَلَكُوهَا فِي إثْبَاتِ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ إنَّمَا يَثْبُتُ بِهَا لَوْ قُدِّرَ صِحَّتُهَا خَبَرٌ هُوَ كَذِبٌ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي

حَقِّهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مَعَ التَّنَاقُضِ لَمْ يُثْبِتُوا لَا الْكَلَامَ النَّفْسَانِيَّ وَلَا صِدْقَهُ فَلَمْ يُثْبِتُوا وَاحِدًا مِنْ الْمُتَنَاقِضَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَخْلُو الْأَمْرُ عَنْ النَّقِيضَيْنِ وَيُمْكِنُ رَفْعُهُمَا جَمِيعًا. قِيلَ: هَذَا لَا يُمْكِنُ فِي الْحَقَائِقِ الثَّابِتَةِ وَلَكِنْ يُمْكِنُ فِي الْمُقَدَّرَاتِ الْمُمْتَنِعَةِ، فَإِنَّ مَنْ فَرَضَ تَقْدِيرًا مُمْتَنِعًا لَزِمَهُ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ وَانْتِفَاؤُهُمَا وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ لَازِمٌ لِلْمُحَالِ الَّذِي قَدَّرَهُ وَهَذَا دَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ. الْوَجْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ: وَهُوَ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا لِلْخَبَرِ مَعْنًى لَيْسَ هُوَ الْعِلْمُ وَبَابُهُ فَهَذَا إثْبَاتُ أَمْرٍ مُمْتَنِعٍ، وَإِذَا كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ صِفَةٍ بِأَنَّهُ صِدْقٌ أَوْ كَذِبٌ مُمْتَنِعٌ أَيْضًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَقَوْلُهُمْ بَعْدَ هَذَا الْعِلْمِ يَسْتَلْزِمُ الصِّدْقَ مِنْهُ وَيُنَافِي الْكَذِبَ، وَإِنْ كَانَ يُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ الْعِلْمُ لَا يَسْتَلْزِمُ الصِّدْقَ وَلَا يُنَافِي الْكَذِبَ، فَهَذَانِ النَّقِيضَانِ كِلَاهُمَا مُنْتَفٍ لِأَنَّ كِلَاهُمَا إنَّمَا يَلْزَمُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ مَعْنًى لِلْخَبَرِ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ وَبَابَهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا بَاطِلًا مُمْتَنِعًا كَانَ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ قَدْ يَكُونُ بَاطِلًا إذْ حَاصِلُهُ لُزُومُ اجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ وَلَزِمَ الْخُلُوُّ عَنْ النَّقِيضَيْنِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَهَذِهِ اللَّوَازِمُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَلْزُومِ الَّذِي هُوَ مَعْنًى لِلْخَبَرِ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ وَنَحْوَهُ، وَلِهَذَا يُجْعَلُ فَسَادُ اللَّوَازِمِ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ الْمَلْزُومِ. وَإِذَا أُرِيدَ تَحْرِيرُ الدَّلِيلِ بِهَذَا الْوَجْهِ قِيلَ لَوْ كَانَ لِلْخَبَرِ مَعْنًى لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ وَنَحْوَهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ مُسْتَلْزِمًا لِصِدْقِهِ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِصِدْقِهِ لَمْ يُعْلَمْ حِينَئِذٍ أَنَّهُ غَيْرُ الْعِلْمِ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ إلَّا إمْكَانَ تَقْدِيرِ الْكَذِبِ مَعَ الْعِلْمِ فَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ مُسْتَلْزِمًا لِلصِّدْقِ النَّفْسَانِيِّ مُنَافِيًا لِلْكَذِبِ النَّفْسَانِيِّ كَانَ هَذَا التَّقْدِيرُ مُمْتَنِعًا فَلَا يُعْلَمُ حِينَئِذٍ ثُبُوتُ مَعْنًى لِلْخَبَرِ غَيْرَ الْعِلْمِ لَا فِي حَقِّ الْخَالِقِ وَلَا فِي حَقِّ الْعِبَادِ، فَيَكُونُ قَائِلُ ذَلِكَ قَائِلًا بِلَا عِلْمٍ وَلَا دَلِيلٍ أَصْلًا فِي بَابِ كَلَامِ اللَّهِ وَخَبَرِهِ وَهَذَا مُحَرَّمٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَهَذَا بِعَيْنِهِ يَبْطُلُ بِبُطْلَانِ قَوْلِهِمْ، أَيْ أَنَّهُمْ قَالُوا بِلَا حُجَّةٍ أَصْلًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ مُسْتَلْزِمًا لِلصِّدْقِ النَّفْسَانِيِّ وَلَا مُنَافِيًا لِلْكَذِبِ النَّفْسَانِيِّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَرِيقٌ إلَى إثْبَاتِ كَلَامِ نَفْسَانِيٍّ هُوَ صِدْقٌ، لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَسْتَلْزِمُهُ وَلَا يُنَافِي ضِدَّهُ، فَلَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَسَائِرُ مَا يُذْكَرُ غَيْرُ الْعِلْمِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ فِي الْجُمْلَةِ وَأَنَّ الْكَذِبَ

مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ بَيْنَ النَّاسِ فِيهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ إثْبَاتُ كَلَامٍ نَفْسَانِيٍّ هُوَ صِدْقٌ وَقِيَامُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ كَقِيَامِ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ، وَهَذَا لَا يَنْفَعُهُمْ فِي إثْبَاتِ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ، الَّذِي ادَّعَوْهُ مُنْفَرِدِينَ بِهِ فَكَذَلِكَ هَذَا لَا يَنْفَعُهُمْ فِي إثْبَاتِ مَعْنَى الْخَبَرِ النَّفْسَانِيِّ الصَّادِقِ الَّذِي انْفَرَدُوا بِإِثْبَاتِهِ مِنْ بَيْنِ فِرَقِ الْأُمَّةِ وَابْتَدَعُوهُ وَفَارَقُوا بِهِ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا أَقَرُّوا هُمْ بِهَذَا الشُّذُوذِ وَالِانْفِرَادِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَحْصُولِ. الْوَجْهُ التَّاسِعَ عَشَرَ: وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلْجَوَابِ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ السُّؤَالِ عَنْ أَنَّ الْمُتَنَاقِضَيْنِ لَا يُعَيِّنُ الصَّادِقَ وَهُوَ أَنْ نَقُولَ لَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَهُمْ إنَّ الْعِلْمَ يُنَافِي الْكَذِبَ النَّفْسَانِيَّ هُوَ الصَّوَابُ دُونَ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ قَدْ يُجَامِعُ الْكَذِبَ النَّفْسَانِيَّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ مُسْتَلْزِمًا لِخَبَرٍ نَفْسَانِيٍّ صُدِّقَ وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْمَرْءُ مِنْ نَفْسِهِ وَيَعْلَمُهُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَا عَلِمَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ بِنَفْسِهِ خَبَرٌ يُنَافِي ذَلِكَ، بَلْ لَوْ كُلِّفَ ذَلِكَ كُلِّفَ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَلِهَذَا لَمْ يَتَنَازَعْ النَّاسُ فِي أَنَّهُ يَمْتَنِعُ تَكْلِيفُ الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْتَقِدَ خِلَافَ مَا يَعْلَمُهُ وَلَوْ كَانَ فِي الْإِمْكَانِ خَبَرٌ نَفْسَانِيٌّ يُنَافِي الْعِلْمَ لَأَمْكَنَ أَنْ يُطْلَبَ ذَلِكَ مِنْ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ كُلُّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الشَّرِيعَةِ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ كَمَا أَنَّ طَلَبَ الْكَذِبِ مُمْكِنٌ وَالتَّكْلِيفَ بِهِ مُمْكِنٌ. وَأَمَّا طَلَبُ كَذِبٍ نَفْسَانِيٍّ يُخَالِفُ الْعِلْمَ فَهَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ طَلَبُهُ وَالتَّكْلِيفُ بِهِ إذْ هُوَ أَمْرٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُمْ أَنَّ الْجَحْدَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ فِي الْعِبَارَةِ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ، وَصَاحِبُ الْجَحْدِ وَإِنْ جَحَدَهُ بِاللِّسَانِ هُوَ مُعْتَرِفٌ بِالْقَلْبِ فَلَا يَصِحُّ الْجَحْدُ مِنْهُ بِالْقَلْبِ، هُوَ أَصْدَقُ مِنْ قَوْلِهِمْ الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ قَدْ يَقُومُ بِقَلْبِهِ كَذِبٌ نَفْسَانِيٌّ يُنَافِي عِلْمَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَطَلَ مَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَى إثْبَاتِ الْخَبَرِ النَّفْسَانِيِّ الَّذِي ادَّعَوْهُ وَرَاءَ الْعِلْمِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ. الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ: أَنْ يُقَالَ لَا رَيْبَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُخْبِرُ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَظُنُّهُ وَبِمَا يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّ خِلَافَهُ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَهُ مَعْنًى يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَرَاءَ الْعِلْمِ وَلِهَذَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ هَذَا الْمَعْنَى قَبْلَ تَقْدِيرِ الْعِبَارَةِ عَنْهُ فَضْلًا عَنْ وُجُودِ التَّعْبِيرِ عَنْهُ فَإِنَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُخْبِرَ بِخِلَافِ عِلْمِهِ وَيَعْتَقِدَ ذَلِكَ يُقَدِّرُهُ وَيُصَوِّرُهُ فِي نَفْسِهِ قَبْلَ التَّعْبِيرِ عَنْهُ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْكَذِبَ لَفْظٌ لَهُ مَعْنًى كَمَا أَنَّ الصِّدْقَ لَفْظٌ لَهُ مَعْنًى وَلَوْ كَانَ

لَفْظًا لَا مَعْنَى لَهُ فِي النَّفْسِ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْوَاتِ وَالْأَلْفَاظِ الْمُهْمَلَةِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكِنْ يُقَالُ هَذَا لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الِاعْتِقَادِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ فَإِنَّ الْمُعْتَقِدَ لِلشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ لَا رَيْبَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِهِ وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِهِ فَالْكَذِبُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، لَكِنَّ الْكَذِبَ يَعْلَمُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَالْجَهْلَ الْمُرَكَّبَ لَا يَعْلَمُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ بَاطِلٌ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاعْتِقَادَاتِ فِي كَوْنِهَا حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَوْ مَعْلُومَةً أَوْ مَجْهُولَةً لَا يُخْرِجُ عَنْ الِاشْتِرَاكِ فِي مُسَمَّى الِاعْتِقَادِ وَالْخَبَرِ النَّفْسَانِيِّ كَمَا لَا تُخْرِجُ الْعِبَارَةُ عَنْهَا بِكَوْنِهَا حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَوْ مَعْلُومَةً أَوْ مَجْهُولَةً عَنْ أَنْ تَكُونَ لَفْظًا وَعِبَارَةً وَكَلَامًا فَإِذَا كَانَتْ الْعِبَارَاتُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا يَجْمَعُهَا النُّطْقُ اللِّسَانِيُّ فَالْمَعْنَى الَّذِي هُوَ الِاعْتِقَادُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ يَجْمَعُهُ النُّطْقُ النَّفْسَانِيُّ وَالْخَبَرُ النَّفْسَانِيُّ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِرَادَةَ أَوْ الطَّلَبَ سَوَاءٌ كَانَتْ إرَادَةَ شَرٍّ أَوْ كَانَ صَاحِبُهَا عَالِمًا بِحَقِيقَةِ مُرَادِهِ وَعَاقِبَتِهِ أَوْ كَانَ جَاهِلًا بِعَاقِبَتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ الِاشْتِرَاكِ فِي مُسَمَّى الْإِرَادَةِ أَوْ الطَّلَبِ. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] فَنَفَى عَنْهُمْ التَّكْذِيبَ وَأَثْبَتَ الْجُحُودَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّكْذِيبَ بِاللِّسَانِ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفِيًا عَنْهُمْ فَعُلِمَ أَنَّهُ نَفَى عَنْهُمْ تَكْذِيبَ الْقَلْبِ وَلَوْ كَانَ الْمُكَذِّبُ الْجَاحِدُ عِلْمُهُ يَقُومُ بِقَلْبِهِ خَبَرٌ نَفْسَانِيٌّ لَكَانُوا مُكَذِّبِينَ بِقُلُوبِهِمْ فَلَمَّا نَفَى عَنْهُمْ تَكْذِيبَ الْقُلُوبِ عُلِمَ أَنَّ الْجُحُودَ الَّذِي هُوَ ضَرْبٌ مِنْ الْكَذِبِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ الْمَعْلُومِ لَيْسَ هُوَ كَذِبًا فِي النَّفْسِ وَلَا تَكْذِيبًا فِيهَا وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ الْعَالِمَ بِالشَّيْءِ لَا يُكَذِّبُ بِهِ وَلَا يُخَيَّرُ فِي نَفْسِهِ بِخِلَافِ عِلْمِهِ فَإِنْ قِيلَ الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ الْعَارِفُ بِهِ قَدْ يُؤْمِنُ بِذَلِكَ وَقَدْ يَكْفُرُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] وَذَلِكَ مَثَلُ الْمُعَانِدِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَلَيْسَ كُفْرُهُمْ لِمُجَرَّدِ لَفْظِهِمْ فَإِنَّهُمْ أَيْضًا قَدْ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا يَعْلَمُونَهُ وَلَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ مِثْلُ مَا كَانَ يَقُولُهُ أَبُو طَالِبٍ مِنْ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَمِثْلُ إخْبَارِ كَثِيرٍ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ بِرِسَالَتِهِ وَمَعَ هَذَا فَلَيْسُوا مُؤْمِنِينَ وَلَا مُصَدِّقِينَ وَمِنْهُمْ الْيَهُودُ الَّذِينَ جَاوَرُوهُ وَقَالُوا نَشْهَدُ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ قِيلَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا هُوَ. الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: وَهُوَ أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْحَقِّ لَيْسَ إيمَانُ

الْقَلْبِ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِقَلْبِهِ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ وَكَانَ مُبْغِضًا لَهُ وَلِلرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَلِمَنْ أَرْسَلَهُ مُعَادِيًا لِذَلِكَ مُسْتَكْبِرًا عَلَيْهِمْ مُمْتَنِعًا عَنْ الِانْقِيَادِ لِذَلِكَ الْحَقِّ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُؤْمِنًا مُثَابًا فِي الْآخِرَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ تَنَازُعِهِمْ الْكَثِيرِ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَلِهَذَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي كُفْرِ إبْلِيسَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا عَارِفًا بَلْ لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ عِلْمٍ فِي الْقَلْبِ وَعَمَلٍ فِي الْقَلْبِ أَيْضًا وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ أَئِمَّةِ الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْإِيمَانَ مُجَرَّدَ مَا فِي الْقَلْبِ أَوْ مَا فِي الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ يُدْخِلُونَ فِي ذَلِكَ مَحَبَّةَ الْقَلْبِ وَخُضُوعَهُ لِلْحَقِّ لَا يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مُجَرَّدَ عِلْمِ الْقَلْبِ. وَلَفْظُ التَّصْدِيقِ يَتَنَاوَلُ الْعِلْمَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَيَتَنَاوَلُ أَيْضًا ذَلِكَ الْعَمَلَ فِي الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مُوجَبُ الْعِلْمِ وَمُقْتَضَاهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ صَدَقَ عِلْمُهُ بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُودَ الْعِلْمِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ هَذَا الْعَمَلِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ إسْلَامُ الْقَلْبِ بِمَحَبَّتِهِ وَخُشُوعِهِ فَإِذَا عُدِمَ مُقْتَضَى الْعِلْمِ فَإِنَّهُ قَدْ يَزُولُ الْعِلْمُ مِنْ الْقَلْبِ بِالْكُلِّيَّةِ وَيُطْبَعُ عَلَى الْقَلْبِ حَتَّى يَصِيرَ مُنْكِرًا لِمَا عَرَفَهُ جَاهِلًا بِمَا كَانَ يَعْلَمُهُ وَهَذَا الْعِلْمُ وَهَذَا الْعَمَلُ كِلَاهُمَا يَكُونُ مِنْ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ. فَلَفْظُ الشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ وَالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ يَنْظِمُ هَذَا كُلَّهُ لَكِنَّ لَفْظَ الْخَبَرِ وَالْبِنَاءِ وَأَحَدُ ذَلِكَ هُوَ الْعِلْمُ وَإِنْ اسْتَلْزَمَ هَذِهِ الْأَعْمَالَ فَهُوَ كَمَا يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمُ لِذَلِكَ فَإِذَا قَالَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ الْعَالَمِينَ الْجَاحِدِينَ الَّذِينَ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ كَقَوْلِ أُولَئِكَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ فَهَذَا خَبَرٌ مَحْضٌ مُطَابِقٌ لِعِلْمِهِمْ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] لَكِنْ كَمَا لَا يَنْفَعُهُمْ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ لَا يَنْفَعُهُمْ مُجَرَّدُ الْخَبَرِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالْعِلْمِ فِي الْبَاطِنِ مُقْتَضَاهُ مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ الْمَحَبَّةُ وَالتَّعْظِيمُ وَالِانْقِيَادُ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالْخَبَرِ الظَّاهِرِ مُقْتَضَاهُ مِنْ الِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيُقِرُّونَ بِهِ يُوصَفُونَ بِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَبِأَنَّهُمْ جَاحِدُونَ وَيُوصَفُونَ بِأَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ خِلَافَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُكَذِّبِينَ بِمَا عَلِمُوهُ أَيْ مُكَذِّبِينَ بِقُلُوبِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ مُقِرِّينَ مُصَدِّقِينَ إذْ الْعَبْدُ يَخْلُو فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ عَنْ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْكُفْرُ أَعَمُّ مِنْ التَّكْذِيبِ فَكُلُّ مَنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ كَافِرٌ وَلَيْسَ كُلُّ

الوجه الثالث والعشرون أن يقال لا ريب أن النفس الذي هو القلب يوصف بالنطق

كَافِرٍ مُكَذِّبًا، بَلْ مَنْ يَعْلَمُ صِدْقَهُ وَيُقِرُّ بِهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُبْغِضُهُ أَوْ يُعَادِيهِ كَافِرٌ أَوْ مَنْ أَعْرِض فَلَمْ يَعْتَقِدْ لَا صِدْقَهُ وَلَا كَذِبَهُ كَافِرٌ وَلَيْسَ بِمُكَذِّبٍ وَكَذَلِكَ الْعَالِمِ بِالشَّيْءِ قَدْ يَخْلُو عَنْ التَّكْذِيبِ وَعَنْ التَّصْدِيقِ بِهِ الَّذِي هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِعَمَلِ الْقَلْبِ وَإِنْ لَمْ يَخْلُ عَنْ التَّصْدِيقِ الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ عِلْمِ الْقَلْبِ فَأَمَّا أَنْ يَقُومَ بِالْقَلْبِ تَصْدِيقٌ قَوْلِيٌّ غَيْرُ الْعِلْمِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي ادَّعَاهُ هَؤُلَاءِ الشُّذَّاذُ عَنْ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ مَوْرِدُ النِّزَاعِ. وَلِهَذَا قَالَ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: التَّوْحِيدُ قَوْلُ الْقَلْبِ وَالتَّوَكُّلُ عَمَلُ الْقَلْبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ: وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: مَا زَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَعُودُونَ بِالتَّذَكُّرِ عَلَى التَّفَكُّرِ وَبِالتَّفَكُّرِ عَلَى التَّذَكُّرِ، وَيُنَاطِقُونَ الْقُلُوبَ حَتَّى نَطَقَتْ، فَإِذَا لَهَا أَسْمَاعٌ وَأَبْصَارٌ فَنَطَقَتْ بِالْحِكْمَةِ وَأُورِثَتْ الْعِلْمَ. [الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ أَنْ يُقَالَ لَا رَيْبَ أَنَّ النَّفْسَ الَّذِي هُوَ الْقَلْبُ يُوصَفُ بِالنُّطْقِ] ِ وَالْقَوْلِ كَمَا يُوصَفُ بِذَلِكَ اللِّسَانُ وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ وَالنُّطْقُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ جَعَلَ النُّطْقَ وَالْقَوْلَ هُوَ لِمَا فِي اللِّسَانِ فَقَطْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَهُ لِمَا فِي الْقَلْبِ فَقَطْ وَمَنْ جَعَلَ اللَّفْظَ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمَا فَقَدْ جَمَعَ الْبَعِيدَيْنِ بَلْ أَثْبَتَ النَّقِيضَيْنِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ اللَّفْظَ الشَّامِلَ لَهُمَا مَانِعًا مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ إذَا قَالَ أُرِيدُ بِهِ هَذَا وَحْدَهُ أَوْ هَذَا وَحْدَهُ مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ أُرِيدَ بِهِ كِلَاهُمَا كَانَ نَافِيًا لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي حَالِ إثْبَاتِ اللَّفْظِ لَهُ وَإِنَّمَا اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ مِنْ الْقَوْلِ وَالنُّطْقِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُهُمَا جَمِيعًا كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْإِنْسَانِ يَتَنَاوَلُ الرُّوحَ وَالْبَدَنَ جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ يُسَمَّى بِالِاسْمِ مُفْرَدًا وَمَنْ لَمْ يَسْلُكْ هَذَا الْمَسْلَكَ وَإِلَّا انْهَالَتْ عَلَيْهِ الْحُجَجُ لِمَا نَفَاهُ مِنْ الْحَقِّ فَإِنَّ دَلَالَةَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَاللُّغَوِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ عَلَى شُمُولِ الِاسْمِ لَهُمَا وَعَلَى تَسْمِيَةِ أَحَدِهِمَا بِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ لَكِنَّ هَذَا النُّطْقَ وَالْكَلَامَ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْخَبَرِ الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ هَلْ هُوَ شَيْءٌ مُخَالِفٌ لِلْعِلْمِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ضِدًّا لَهُ أَوْ هُوَ هُوَ أَوْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ فَدَعْوَى إمْكَانِ مُضَادَّتِهِ لِلْعِلْمِ مِمَّا يُحِسُّ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ خِلَافُهُ وَدَعْوَى مُغَايِرَتِهِ لِلْعِلْمِ أَيْضًا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُحِسُّ مِنْ نَفْسِهِ بِنِسْبَتَيْنِ جَازِمَتَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا بِتَنَاوُلِ الْمُفْرَدَيْنِ إحْدَاهُمَا عِلْمٌ وَالْأُخْرَى غَيْرُ عِلْمٍ وَلِهَذَا لَمْ يَتَنَازَعْ فِي ذَلِكَ لَا الْمُسْلِمُونَ وَلَا مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ الْأُمَمِ حَتَّى أَهْلُ الْمَنْطِقِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ نُطْقَ النَّفْسِ وَيُسَمُّونَهَا النَّفْسَ النَّاطِقَةَ هُمْ عِنْدَ التَّحْقِيقِ يَرُدُّونَ

الوجه الرابع والعشرون إن ما ذكروه في إثبات أن معنى الأمر والخبر ليس هو العلم ولا الإرادة

ذَلِكَ إلَى الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ وَلِهَذَا لَمَّا أَرَادَ حَاذِقُ الْأَشْعَرِيَّةِ الْمُسْتَأْخِرِينَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ أَنْ يَحُدَّ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ تَعَقَّبَ حُدُودَ النَّاسِ بِالْإِبْطَالِ وَرَدَّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ الْحَدِّ أَوْ أَنَّهُ يُعْرَفُ بِالتَّقْسِيمِ وَالتَّمْثِيلِ قَالَ هُوَ صِفَةٌ جَازِمَةٌ قَائِمَةٌ بِالنَّفْسِ يُوجِبُ لِمَنْ قَامَ بِهِ تَمْيِيزًا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي النَّفْسِ مَعْنًى لِلْخَبَرِ غَيْرُ الْعِلْمِ فَهَذَا الْحَدُّ مُنْطَبِقٌ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَمَّا قَسَمَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ الْعِلْمَ إلَى تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ وَجَعَلُوا التَّصَوُّرَ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمُفْرَدَاتِ الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ تَصَوُّرِهَا وَالتَّصْدِيقَ الْعِلْمَ بِالْمُرَكَّبَاتِ الْخَبَرِيَّةِ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَسَمَّوْا الْعِلْمَ بِذَلِكَ تَصْدِيقًا وَجَعَلُوا نَفْسَ الْعِلْمِ هُوَ نَفْسَ التَّصْدِيقِ وَلَوْ كَانَ فِي النَّفْسِ تَصْدِيقٌ لِتِلْكَ الْقَضَايَا الْخَبَرِيَّةِ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ لَوَجَبَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمِ بِهَا وَتَصْدِيقِهَا وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ وَالتَّصْدِيقَ قَدْ يَعْتَقِدُهُ الْإِنْسَانُ فَيَعْقِلُهُ وَيَضْبِطُهُ وَيَلْتَزِمُ مُوجِبَهُ وَقَدْ لَا يَعْتَقِدُهُ وَلَا يَعْقِلُهُ وَلَا يَضْبِطُهُ وَلَا يَلْتَزِمُ مُوجِبَهُ فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُؤْمِنُ وَالثَّانِي هُوَ الْكَافِرُ. إذَا كَانَ ذَلِكَ فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا عَقَلَهُ وَاعْتَقَدَهُ أَيْ ضَبَطَهُ وَأَمْسَكَهُ وَالْتَزَمَ مُوجِبَهُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ اعْتَقَدَ شَيْئًا كَانَ عَالِمًا بِهِ فَلَفْظُ الْعَقْدِ وَالِاعْتِقَادِ شَبِيهٌ بِلَفْظِ الْعَقْلِ وَالِاعْتِقَالِ وَمَعْنَى كُلٍّ مِنْهُمَا يُجَامِعُ الْعِلْمَ تَارَةً وَيُفَارِقُهُ أُخْرَى فَمِنْ هُنَا قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ فِي النَّفْسِ خَبَرًا غَيْرُ الْعِلْمِ وَلَفْظُ الْعَقْدِ وَالْعَقْلِ لَمَّا كَانَ جَارِيًا عَلَى مَنْ يُمْسِكُ الْعِلْمَ فَيَعِيهِ وَيَحْفَظُهُ تَارَةً وَيَعْمَلُ بِمُوجِبِهِ كَانَ مُشْعِرًا بِأَنَّهُ يُوصَفُ بِذَلِكَ تَارَةً وَبِضِدِّهِ تَارَةً وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْعِلْمِ وَعَنْ مُوجِبِهِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ فِيمَنْ يُمْسِكُ بِمَا لَيْسَ بِعِلْمٍ، وَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ امْتَنَعَ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِالِاعْتِقَادِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَهُ عِلْمُهُ وَلَا يَعْتَقِدَ مَا لَيْسَ بِعِلْمٍ فَوَصْفُهُ بِهِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ وَصْفِهِ بِضِدِّ الْعِلْمِ، وَلَفْظُ الْفِقْهِ وَلَفْظُ الْفَهْمِ كِلَاهُمَا يَسْتَلْزِمُ عِلْمًا مَسْبُوقًا بِعَدَمِهِ وَهَذَا فِي حَقِّ اللَّهِ مُمْتَنِعٌ. [الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ إنَّ مَا ذَكَرُوهُ فِي إثْبَاتِ أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ وَلَا الْإِرَادَةَ] َ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِأَمْرِ الِامْتِحَانِ وَخَبَرِ الْكَاذِبِ، يُقَالُ فِي ذَلِكَ لَا رَيْبَ أَنَّ الْكَاذِبَ الْمُخْبِرَ يُقَدِّرُ فِي نَفْسِهِ الشَّيْءَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ وَيُخْبِرُ بِهِ بِلِسَانِهِ، لَكِنَّ ذَلِكَ الْمُقَدَّرُ هُوَ تَقْدِيرُ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْخَبَرَ الصِّدْقَ الَّذِي يَعْلَمُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ صِدْقٌ لَمَّا كَانَ مَعْنَاهُ الْعِلْمَ الْمُطَابِقَ لِلْخَارِجِ، فَالْمُخْبِرُ الْكَاذِبُ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ

قَدَّرَ فِي نَفْسِهِ تَقْدِيرًا مُضَاهِيًا لِلْعِلْمِ فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْمَوْجُودِ مَعْدُومًا وَالْمَعْدُومِ مَوْجُودًا فِي الْأَذْهَانِ وَاللِّسَانِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ فَمَعْنَى خَبَرِهِ هُوَ عِلْمٌ مُقَدَّرٌ لَا عِلْمٌ مُحَقَّقٌ، لِأَنَّ مُخْبِرَ الْخَبَرِ فِي الْخَارِجِ لَهُ وُجُودٌ مُقَدَّرٌ لَا وُجُودٌ مُحَقَّقٌ، وَالْمُقَدَّرُ لَيْسَ بِمُحَقَّقٍ لَا فِي الذِّهْنِ وَلَا فِي الْخَارِجِ، لَكِنْ لَمَّا قَدَّرَ هُوَ أَنَّهُ عَالِمٌ قَدَّرَ أَيْضًا وُجُودَ الْمُخْبِرِ فِي الْخَارِجِ، وَالْمُسْتَمِعُ لَمَّا اعْتَقَدَ صِدْقَهُ وَحُسْبَانَهُ صَادِقٌ، وَأَنَّ لِمَا قَالَهُ حَقِيقَةٌ لَمْ يَظُنَّهُ مُقَدَّرًا بَلْ حَسِبَهُ مُحَقَّقًا، وَكُلُّ اعْتِقَادٍ فَاسِدٍ تَقْدِيرَاتٌ ذِهْنِيَّةٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْخَارِجِ، وَهِيَ أَخْبَارٌ وَاعْتِقَادَاتٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عُلُومًا، لَكِنْ هِيَ فِي الصُّورَةِ مِنْ جِنْسِ الْمُحَقَّقِ كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْكَاذِبِ مِنْ جِنْسِ لَفْظِ الصَّادِقِ وَخَطَّهُ مِنْ جِنْسِ خَطِّهِ فَهُمَا مُتَشَابِهَانِ فِي الدَّلَالَةِ خَطًّا وَلَفْظًا وَعَقْدًا، فَكَذَلِكَ أَمْرُ الْمُمْتَحَنِ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِطَالِبٍ وَلَا مُرِيدٍ أَصْلًا بَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ لِكَوْنِهِ طَالِبًا مُرِيدًا لِأَنَّهُ يُظْهِرُ بِتَقْدِيرِ ذَلِكَ مِنْ طَاعَةِ الْمَأْمُورِ وَامْتِثَالِهِ مَا يُظْهِرُ بِتَحْقِيقِهِ ثُمَّ إظْهَارُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ بَابِ الْمَعَارِيضِ، قَدْ يَجُوزُ ذَلِكَ وَقَدْ لَا يَجُوزُ، مِثْلُ أَنْ يَفْهَمَ الْمُتَكَلِّمُ لِلْمُسْتَمِعِ مَعْنًى لَمْ يُرِدْهُ الْمُتَكَلِّمُ وَاللَّفْظُ قَدْ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ فَمَعْنَاهُ فِي نَفْسِهِ هُوَ الَّذِي لَا يَفْهَمُهُ الْمُسْتَمِعُ وَمَفْهُومُ الْمُسْتَمِعِ شَيْءٌ آخَرُ وَكَذَلِكَ الْمُمْتَحِنُ مَدْلُولُ الصِّيغَةِ فِي نَفْسِهِ طَلَبٌ مُقَدَّرٌ وَإِرَادَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَمِعِ طَلَبٌ مُحَقَّقٌ وَإِرَادَةٌ مُحَقَّقَةٌ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بَاطِنَ الْأَمْرِ، وَكَذَلِكَ مَدْلُولُ الصِّيغَةِ عِنْدَ الْكَذَّابِ هُوَ مَا اخْتَلَقَهُ وَالِاخْتِلَاقُ هُوَ التَّقْدِيرُ وَهُوَ مَا قَدَّرَهُ فِي ذِهْنِهِ مِمَّا لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ وَعِنْدَ الْمُسْتَمِعِ هُوَ مَا يَجِبُ أَنْ يُعْنَى بِاللَّفْظِ مِنْ الْمَعَانِي الْمُحَقَّقَةِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يُقَالَ لَهُمْ أَنْتُمْ قَرَّرْتُمْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ اللَّفْظَ الْمَشْهُورَ الَّذِي تَتَدَاوَلُهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى دَقِيقٍ لَا يُدْرِكُهُ إلَّا خَوَاصُّ النَّاسِ، وَهَذَا حَقٌّ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَكَلُّمَ النَّاسِ بِاللَّفْظِ الَّذِي لَهُ مَعْنًى يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاكِهِمْ فِي فَهْمِ ذَلِكَ الْمَعْنَى خِطَابًا وَسَمَاعًا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يَفْهَمُهُ إلَّا بَعْضُ النَّاسِ بِدَقِيقِ الْفِكْرَةِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ اللَّفْظِ يَعْرِفُهُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ بِدُونِ فِكْرَةٍ دَقِيقَةٍ وَقَدْ مَثَّلُوا ذَلِكَ بِلَفْظِ الْحَرَكَةِ هَلْ هُوَ اسْمٌ لِكَوْنِ الْجِسْمِ مُتَحَرِّكًا أَوْ لِمَعْنًى يُوجِبُ كَوْنَهُ مُتَحَرِّكًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَظْهَرَ الْأَسْمَاءِ وَمُسَمَّيَاتِهَا هُوَ اسْمُ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ وَالنُّطْقِ وَمَا يَتَفَرَّعُ مِنْ ذَلِكَ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ إذْ أَظْهَرُ صِفَاتِ

الوجه السادس والعشرون أن ثبوت الكلام لله بالأمر والنهي والخبر

الْإِنْسَانِ هُوَ النُّطْقُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23] وَالْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي مِنْ أَشْهَرِ الْأَلْفَاظِ وَمَعَانِيهَا مِنْ أَظْهَرِ الْمَعَانِي فِي قُلُوبِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَالْمَعْنَى الَّذِي يَقُولُونَ إنَّهُ هُوَ الْكَلَامُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَرَاءَ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَيْهِمَا أَوْ يَكُونَ لَهُ حَقِيقَةٌ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ بَطَلَ قَوْلُكُمْ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ فَلَا رَيْبَ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ مُشْتَبِهَةٌ مُتَنَازَعٌ فِيهَا نِزَاعًا عَظِيمًا وَأَكْثَرُ طَوَائِفِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهِمْ لَا يَعْرِفُونَهَا وَلَا يُقِرُّونَ بِهَا وَإِذَا أَثْبَتُّمُوهَا إنَّمَا تُثْبِتُونَهَا بِأَدِلَّةٍ خَفِيَّةٍ بَلْ قَدْ يَعْتَرِفُونَ أَنَّ مَعْرِفَةَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ فِي الشَّاهِدِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَلَكِنْ يَدَّعُونَ ثُبُوتَهَا فِي الْغَائِبِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الَّذِي لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ مِنْ أَشْهَرِ الْمَعَارِفِ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي قُلْتُمُوهُ بَاطِلٌ بِلَا رَيْبٍ. [الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ أَنَّ ثُبُوتَ الْكَلَامِ لِلَّهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ] ِ أَثْبَتُّمُوهُ بِالْإِجْمَاعِ وَالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَيْتُمْ أَنَّهُ مَعْنَى كَلَامِ اللَّهِ لَمْ يَظْهَرْ فِي الْأُمَّةِ إلَّا مِنْ حِينِ حُدُوثِ ابْنِ كُلَّابٍ ثُمَّ الْأَشْعَرِيِّ بَعْدَهُ إذْ قَبْلَ قَوْلِ ابْنِ كُلَابٍ لَا يُعْرَفُ فِي الْأُمَّةِ أَحَدٌ فَسَّرَ كَلَامَ اللَّهِ بِهَذَا وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي الْقُرْآنِ وَذَكَرَ أَقْوَالًا كَثِيرَةً فَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقَوْلَ إلَّا عَنْ ابْنِ كُلَّابٍ وَجَعَلَ لَهُ تَرْجَمَةً فَقَالَ وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كُلَابٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كُلَّابٍ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ صِفَةٌ لَهُ قَائِمَةٌ بِهِ وَإِنَّهُ قَدِيمٌ بِكَلَامِهِ وَإِنَّ كَلَامَهُ قَائِمٌ بِهِ كَمَا إنَّ الْعِلْمَ قَائِمٌ بِهِ وَالْقُدْرَةَ قَائِمَةٌ بِهِ وَهُوَ قَدِيمٌ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ وَلَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَجَزَّأُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَلَا تَتَغَايَرُ وَإِنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّ الرَّسْمَ هُوَ الْحُرُوفُ الْمُتَغَايِرَةُ وَهُوَ قِرَاءَةُ الْقَارِئِ وَإِنَّهُ خَطَأٌ أَنْ يُقَالَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ هُوَ أَوْ بَعْضَهُ أَوْ غَيْرَهُ وَإِنَّ الْعِبَارَاتِ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ تَخْتَلِفُ وَتَتَغَايَرُ وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمُخْتَلِفٍ وَلَا مُتَغَايِرٍ. كَمَا أَنَّ ذِكْرَنَا لِلَّهِ مُخْتَلِفٌ وَمُتَغَايِرٌ وَالْمَذْكُورُ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَغَايَرُ وَإِنَّمَا سُمِّيَ كَلَامُ اللَّهِ عَرَبِيًّا لِأَنَّ الرَّسْمَ الَّذِي هُوَ الْعِبَارَةُ عَنْهُ وَهُوَ قِرَاءَتُهُ عَرَبِيٌّ فَسُمِّيَ عَرَبِيًّا لِعِلَّةٍ وَكَذَلِكَ سُمِّيَ عِبْرَانِيًّا لِعِلَّةٍ وَكَذَلِكَ سُمِّيَ أَمْرًا لِعِلَّةٍ وَسُمِّيَ نَهْيًا لِعِلَّةٍ وَخَبَرًا لِعِلَّةٍ وَلَمْ يَزَلْ اللَّهُ

الوجه السابع والعشرون يقال لا ريب أنه قد اشتهر عند العامة والخاصة أن القرآن كلام الله

مُتَكَلِّمًا قَبْلَ أَنْ يُسَمَّى كَلَامُهُ أَمْرًا وَقَبْلَ وُجُودِ الْعِلَّةِ الَّتِي بِهَا سُمِّيَ أَمْرًا وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَسْمِيَتِهِ نَهْيًا وَخَبَرًا وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْبَارِي لَمْ يَزَلْ مُخْبِرًا وَلَمْ يَزَلْ نَاهِيًا ثُمَّ يُقَالُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْهُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَعْنًى خَفِيٌّ مُشْكِلٌ مُتَنَازَعٌ فِي وُجُودِهِ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ بِالْأَدِلَّةِ الْخَفِيَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاَلَّذِينَ نَقَلُوا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ وَيَأْمُرُ وَيَنْهَى وَاَلَّذِينَ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى الْخَفِيَّ الْمُشْكِلَ الَّذِي لَيْسَ يُتَصَوَّرُ بِحَالٍ أَوْ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِشِدَّةٍ عَظِيمَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ إنَّهُمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى نَقْلِ هَذَا الْمَعْنَى وَالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ إنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى ثُبُوتِ مَعْنًى لَا يَفْهَمُونَهُ وَنَقَلُوا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ وَيَقُولُ وَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَى لَفْظِ الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ فَإِنَّ هَذَا أَيْضًا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ وَإِذَا بَطَلَ الْقِسْمَانِ عَلَى أَنَّ الَّذِي انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ وَنَقَلَهُ أَهْلُ التَّوَاتُرِ عَنْ الْمُرْسَلِينَ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ كَلَامًا دُونَ هَذَا الْمَعْنَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ وَعَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَبِمِثْلِ هَذَا الْوَجْهِ يَبْطُلُ أَيْضًا مَذْهَبُ الْجَهْمِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّ كَوْنَ الْكَلَامِ يَكُونُ مُنْفَصِلًا عَنْ الْمُتَكَلِّمِ قَائِمًا بِغَيْرِهِ مِمَّا لَا تَعْرِفُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ أَنَّهُ يَكُونُ كَلَامًا لِلْمُتَكَلِّمِ وَإِنْ أُثْبِتَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِأَدِلَّةٍ خَفِيَّةٍ مُشْكِلَةٍ وَإِذَا كَانَ أَهْلُ التَّوَاتُرِ نَقَلُوا أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَجُزْ إرَادَةُ هَذَا الْمَعْنَى عُلِمَ أَنَّ التَّوَاتُرَ وَالْإِجْمَاعَ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ حُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ وَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِهِ كَلَامُهُ وَإِنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ. [الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ يُقَالَ لَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ اشْتَهَرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ] الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يُقَالَ لَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ اشْتَهَرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ اتِّفَاقُ السَّلَفِ، عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ جَعَلَهُ مَخْلُوقًا خَلَقَهُ اللَّهُ كَمَا خَلَقَ سَائِرَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا يَقُولُهُ الْجَهْمِيَّةُ، حَتَّى قَالَ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ لِرَجُلٍ أَتَدْرِي مَا يُرِيدُونَ بِقَوْلِهِمْ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ يُرِيدُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتَكَلَّمُ وَمَا الَّذِينَ قَالُوا إنَّ لِلَّهِ وَلَدًا بِأَكْفَرَ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ لِأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا لِلَّهِ وَلَدٌ شَبَّهُوهُ بِالْأَحْيَاءِ وَاَلَّذِينَ قَالُوا لَا يَتَكَلَّمُ شَبَّهُوهُ بِالْجَمَادَاتِ وَأَنْتُمْ فَلَا رَيْبَ أَنَّ كُلَّمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ إنَّهُ مَخْلُوقٌ، لَا تُنَازِعُونَهُمْ فِي أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يَقُولُونَ هُوَ مَخْلُوقٌ بَلْ تَقُولُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا إنَّهُ مَخْلُوقٌ، فَاَلَّذِي قَالَ هَؤُلَاءِ إنَّهُ مَخْلُوقٌ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا

أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَهُمْ ضَالِّينَ حَيْثُ حَكَمْتُمْ جَمِيعًا بِخَلْقِهِ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا لَمْ يَجُزْ ذَمُّ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَلَا عَيْبُهُ بِذَلِكَ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ جَعَلَ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ مَخْلُوقًا، وَلَا أَنَّهُ جَعَلَ كَلَامَ اللَّهِ فِي الْمَخْلُوقِ وَلَا أَنَّهُ جَعَلَ الشَّجَرَةَ هِيَ الْقَائِلَةَ إنَّنِي أَنَا اللَّهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا السَّلَفُ مَذْهَبَ الْجَهْمِيَّةِ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ مَنْ قَالَ إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَلَا يَنْبَغِي، لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْهَاشِمِيُّ: مَنْ قَالَ إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا كَمَا زَعَمُوا فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى بِأَنْ يَخْلُدَ فِي النَّارِ إذْ قَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى وَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ هَذَا مَخْلُوقٌ وَقَوْلُ {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14] فَقَدْ ادَّعَى مَا ادَّعَى فِرْعَوْنُ فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى بِأَنْ يَخْلُدَ فِي النَّارِ، مِنْ هَذَا وَكَلَامِهِمَا عِنْدَهُ مَخْلُوقٌ وَوَافَقَهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَلَى مِثْلِ هَذَا وَاسْتَحْسَنَهُ وَغَايَةُ مَا يُعَابُ بِهِ عِنْدَكُمْ أَنَّهُ نَفَى عَنْ اللَّهِ مَعْنًى آخَرَ يُثْبِتُونَهُ لَهُ، ذَلِكَ الْمَعْنَى أَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَتَصَوَّرُونَهُ لَا الْمُعْتَزِلَةُ وَلَا غَيْرُهُمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَحْكُمُوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقُومَ بِالشَّجَرَةِ وَلَا غَيْرِهَا، حَتَّى تَكُونَ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةُ لَهُ، وَالسَّلَفُ لَمْ يَعِيبُوهُمْ بِهَذَا، وَلَا قَالُوا لَهُمْ مَا ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، لَكِنَّ ثَمَّ مَعْنًى آخَرُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَلَا قَالُوا هَذَا الَّذِي قُلْتُمْ إنَّهُ مَخْلُوقٌ هُوَ مَخْلُوقٌ. لَكِنَّهُ لَيْسَ هُوَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَلَا نَحْوِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي قَالُوا هُوَ مَخْلُوقٌ هُوَ مَخْلُوقٌ، كَمَا قَالُوا لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، وَإِنَّمَا كَلَامُ اللَّهِ مَعْنًى آخَرُ فَلَا رَيْبَ أَنَّ السَّلَفَ مُخْطِئُونَ ضَالُّونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ إمَّا تَضْلِيلُكُمْ الْمُعْتَزِلَةُ أَوْ تَضْلِيلُ السَّلَفِ، وَالثَّانِي مُمْتَنِعٌ، فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ يُؤَيِّدُ هَذَا. الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: وَهُوَ أَنَّ الْأُمَّةَ إذَا اُخْتُلِفَ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي صَدْرِ الْأُمَّةِ إلَّا قَوْلُ السَّلَفِ وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ أَنَّ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ بَاطِلٌ لِلْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ مِنْهَا أَنَّ مَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَمَا نُقِلَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ بِالتَّوَاتُرِ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُمْ إذَا وَصَفُوا اللَّهَ بِالْكَلَامِ وَصَفُوهُ بِأَنَّهُ هُوَ يَتَكَلَّمُ لَا أَنَّ الْكَلَامَ يَكُونُ مَخْلُوقًا لَهُ كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا كَمَا يَقُولُونَ كَلَامُ اللَّهِ مِثْلُ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَيُعْلَمُ

الوجه الثلاثون لا يحل لكم أن تحكوا عن المعتزلة أنهم قالوا بخلق القرآن

بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ إضَافَةَ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ إلَى اللَّهِ لَيْسَ كَإِضَافَةِ الْخَلْقِ إلَيْهِ وَأَنَّ بَابَ قَالَ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ بَابِ خَلَقَ، وَبُطْلَانُ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا وَإِذَا كَانَ بَاطِلًا، وَقَوْلُهُمْ أَيْضًا بَاطِلٌ تَعَيَّنَ صِحَّةُ مَذْهَبِ السَّلَفِ يُؤَكِّد هَذَا. الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: وَهُوَ أَنَّ السَّلَفَ وَالْمُعْتَزِلَةَ جَمِيعًا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تُثْبِتُونَهُ أَنْتُمْ بَلْ الَّذِي سَمَّتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ كَلَامَ اللَّهِ وَقَالُوا إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَافَقَهُمْ السَّلَفُ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ لَكِنْ قَالُوا إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ فَكَانَ قَوْلُكُمْ خَرْقًا لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَذَلِكَ خَرْقٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ جَمِيعِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِ السَّلَفِ إلَّا هَذَانِ الْقَائِلَانِ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ الَّذِي قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إنَّهُ مَخْلُوقٌ، لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ. [الْوَجْهُ الثَّلَاثُونَ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَحْكُوا عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ] الْوَجْهُ الثَّلَاثُونَ: إنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَحْكُوا عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ أَوْ بِخَلْقِ كَلَامِ اللَّهِ كَمَا يَحْكِيهِ عَنْهُمْ السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَكَمَا يَقُولُونَ هُمْ ذَلِكَ وَإِنْ حَكَيْتُمْ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَذُمُّوهُمْ بِذَلِكَ كَمَا ذَمُّوهُمْ السَّلَفُ بِهِ بَلْ تَمْدَحُونَهُمْ بِذَلِكَ كَمَا يَمْدَحُونَ بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ فَلَا بُدَّ لَكُمْ مِنْ مُخَالَفَةِ السَّلَفِ وَالْمُعْتَزِلَةُ جَمِيعًا أَوْ مُخَالَفَةِ السَّلَفِ وَمُوَافَقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ أَيْضًا، وَذَلِكَ وَاجِبٌ عِنْدَكُمْ وَمَنْ قَالَ عَنْ ذَلِكَ إنَّهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَهُوَ ضَالٌّ عِنْدَكُمْ أَوْ كَافِرٌ، ثُمَّ الْمُعْتَزِلَةُ تُسَمِّيهِ كَلَامَ اللَّهِ وَتَقُولُ كَلَامُ اللَّهُ مَخْلُوقٍ، وَالسَّلَفُ تُسَمِّيهِ كَلَامَ اللَّهِ وَيَقُولُونَ هُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَمَعَ قَوْلِكُمْ إنَّهُ مَخْلُوقٌ هَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ مَجَازٌ وَتُنْفَى الْحَقِيقَةُ كَمَا قَالَهُ جُمْهُورُكُمْ، أَوْ يُقَالُ بَلْ يُسَمَّى كَلَامُ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُكُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَإِنْ قُلْتُمْ بِالْأَوَّلِ لَزِمَكُمْ أَنْ لَا تَكُونَ الْمُعْتَزِلَةُ تَعْتَقِدُ فِي الْحَقِيقَةِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ بِحَالٍ، إنْ تَلَفَّظُوا بِذَلِكَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَهُمْ مُخْطِئُونَ فِي هَذَا اللَّفْظِ وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ إنِّي زَنَيْت بِأُمِّي أَوْ قَتَلَتْ نَبِيًّا وَلَمْ يَكُنْ الْمَزْنِيُّ بِهَا أُمَّهُ وَلَا الْمَقْتُولُ نَبِيًّا فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي هَذَا الظَّنِّ فِيمَا يَحْكِيهِ عَنْ نَفْسِهِ. لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَظُنُّ الْقَائِلُ أَنَّهُ بِهِ مَذْمُومٌ وَالْمُعْتَزِلَةُ لَا تَذُمُّ أَنْفُسَهَا بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ تَذُمُّهُمْ بِذَلِكَ فَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَعْتَقِدَ بَعْضُ الْكُفَّارِ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَ إمَامَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَخَذَ كِتَابًا فَمَزَّقَهُ يَظُنُّ أَنَّهُ الْمُصْحَفُ أَوْ قَتَلَ أَقْوَامًا يَظُنُّهُمْ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ

وَهُوَ عِنْدَ نَفْسِهِ مُتَدَيِّنٌ بِذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَهَكَذَا هُمْ الْمُعْتَزِلَةُ عِنْدَكُمْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي الَّذِي اعْتَقَدُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقُلْتُمْ أَنْتُمْ لَا رَيْبٍ إنَّهُ مَخْلُوقٌ كَمَا لَا رَيْبَ فِي قَتْلِ أُولَئِكَ النَّفَرِ وَتَمْزِيقِ ذَلِكَ الْكِتَابِ، لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ وَإِنْ اعْتَقَدْتُمْ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّ الْقَوْلَ بِخَلْقِهِ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ كَمَا اعْتَقَدَ أُولَئِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّ قَتْلَهُمْ عِبَادَةٌ لِلَّهِ وَأَنَّ هَذَا الْمُصْحَفَ هُوَ الْقُرْآنُ وَتَمْزِيقَهُ عِبَادَةٌ لِلَّهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ إنَّ هَؤُلَاءِ قَتَلُوا أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مَزَّقُوا الْمُصْحَفَ، وَإِنْ كَانُوا قَصَدُوا ذَلِكَ وَاعْتَقَدُوهُ، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى أَصْلِكُمْ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ قَالَتْ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَإِنْ كَانُوا هُمْ قَصَدُوا ذَلِكَ وَاعْتَقَدُوهُ فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا إنَّهُ مَخْلُوقٌ إنْ كَانَ مَجَازًا فَلَمْ يَحْكُمُوا عَلَى مَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا فَهُمْ إنَّمَا قَالُوا إنَّهُ مَخْلُوقٌ بِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَاللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ بِإِرَادَةِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بَلْ هُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مُجْمَلٌ، فَلَا يُقَالُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ قَالُوا كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَلَا قَالُوا إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافُ إجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَلَمْ يَكُنْ قَدِيمًا عِنْدَهُمْ فَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ مُطْلَقًا. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: إنَّ هَذَا النَّقْلَ عَنْهُمْ إذَا قِيلَ إنَّهُ صَحِيحٌ إمَّا بِاعْتِبَارِ وَإِحْدَى الْحَقِيقَتَيْنِ أَوْ بِاعْتِبَارِ قَصْدِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُذَمُّونَ عَلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ، بَلْ يُحْمَدُونَ عَلَى ذَلِكَ إذْ أَنْتُمْ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَلِكَ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ السَّلَفَ الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إمَامَتِهِمْ فِي الدِّينِ ذَمُّوهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا أَنْتُمْ ذَامُّونَ لِلسَّلَفِ الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إمَامَتِهِمْ فِي الدِّينِ وَأَنْتُمْ عِنْدَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ مَذْمُومُونَ، وَأَنْتُمْ بِذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَقْدَحُ فِي سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَهَذَا حَقٌّ، فَإِنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ مِنْ فُرُوعِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّةِ، وَقَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ فِيهِ مِنْ التَّنَقُّصِ وَالسَّبِّ وَالطَّعْنِ عَلَى السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَعَلَى السُّنَّةِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ. فَإِنَّ الْخَوَارِجَ يُعَظِّمُونَ الْقُرْآنَ وَيُوجِبُونَ اتِّبَاعَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَّبِعُوا السُّنَنَ الْمُخَالِفَةَ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَهُمْ يَقْدَحُونَ فِي عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَمَنْ تَوَلَّاهُمَا وَإِنْ لَمْ يَقْدَحُوا فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وَأَمَّا الْجَهْمِيَّةُ فَإِنَّهَا لَا تُوجِبُ بَلْ لَا تُجَوِّزُ اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ فِي بَابِ صِفَاتِ اللَّهِ كَمَا

يُصَرِّحُونَ بِهِ، كَالرَّازِيِّ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَّبِعُوا السُّنَنَ أَوْ إجْمَاعَ السَّلَفِ فَالْجَهْمِيَّةُ أَعْظَمُ قَدْحًا فِي الْقُرْآنِ وَفِي السُّنَنِ وَفِي إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ. وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ هَلْ هُمْ دَاخِلُونَ فِي الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً لَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَأْخُذُونَ بِبَعْضِ الْجَهْمِ وَأَيْضًا فَفِيهِمْ مَنْ لَا يُكَفِّرُ الْأُمَّةَ بِخِلَافِهِ وَلَا يَسْتَحِلُّ السَّيْفَ، وَفِيهِمْ مَنْ قَدْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ وَجَهِلُوا أَصْلَ الْقَوْلِ وَقَوْلَ الدُّعَاةِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَظُهُورَ ذَلِكَ، فَمِنْ هُنَا كَانَ حَالُ فُرُوعِ الْجَهْمِيَّةِ قَدْ يَكُونُ أَخَفَّ مِنْ حَالِ الْخَوَارِجِ وَإِلَّا فَقَوْلُهُمْ فِي نَفْسِهِ أَحْنَثُ مِنْ قَوْلِ الْخَوَارِجِ بِكَثِيرٍ، وَإِذَا كَانَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ قَدْ قَالَ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ إنَّ فِتْنَتَهُمْ أَضَرُّ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ فِتْنَةِ الْأَزَارِقَةِ وَالْمُعْتَزِلَةُ جَهْمِيَّةٌ؛ عُلِمَ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ شَرٌّ مِنْ الْخَوَارِجِ. قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَعْمَرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارَ الْعَبْسِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الرَّقَاشِيُّ، سَمِعْت يُونُسَ بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ فِتْنَةُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ الْأَزَارِقَةِ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَلُّوا وَأَنَّهُمْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ بِمَا أَحْدَثُوا، وَيُكَذِّبُونَ بِالشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ، وَيُنْكِرُونَ عَذَابَ الْقَبْرِ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ، وَفُرُوعُ الْجَهْمِيَّةِ لَا يَقْبَلُونَ شَهَادَةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَأْتَمِرُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ شَرٌّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ هُمْ أَصْلُهُمْ فِي الْجُمْلَةِ وَفِي هَؤُلَاءِ مَنْ لَا يَرَى التَّكْفِيرَ وَالسَّيْفَ كَمَا تَرَاهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالرَّافِضَةُ وَهُوَ قَوْلُ الْخَوَارِجِ. وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يَكُونُ أَهْلُ الْبِدَعِ مَعَ الْقُدْرَةِ يُشْبِهُونَ الْكُفَّارَ فِي اسْتِحْلَالِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكْفِيرِهِمْ كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارِجُ وَالرَّافِضَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّةُ وَفُرُوعُهُمْ لَكِنَّ فِيهِمْ مَنْ يُقَاتِلُ بِطَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ كَالْخَوَارِجِ وَالزَّيْدِيَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى فِي قَتْلِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ مُخَالِفِيهِ إمَّا بِسُلْطَانِهِ وَإِمَّا بِحِيلَتِهِ وَمَعَ الْعَجْزِ يُشْبِهُونَ الْمُنَافِقِينَ يَسْتَعْمِلُونَ التَّقِيَّةَ وَالنِّفَاقَ كَحَالِ الْمُنَافِقِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبِدَعَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْكُفْرِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ

الوجه الثاني والثلاثون إن هذا المعنى القائم بالذات الذي زعموا أنه كلام الله

هُمْ مَعَ الْقُدْرَةِ يُحَارِبُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَعَ الْعَجْزِ يُنَافِقُونَهُمْ وَالْمُؤْمِنُ مَشْرُوعٌ لَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ أَنْ يُقِيمَ دِينَ اللَّهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ بِالْمُحَارَبَةِ وَغَيْرِهَا وَمَعَ الْعَجْزِ يُمْسِكُ عَمَّا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ الِانْتِصَارِ وَيَصْبِرُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْبَلَاءِ مِنْ غَيْرِ مُنَافَقَةٍ، بَلْ يُشْرَعُ لَهُ مِنْ الْمُدَارَاةِ وَمِنْ التَّكَلُّمِ بِمَا يُكْرَهُ عَلَيْهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ مَعَ أَهْلِ الْبِدْعَةِ بِالْعَكْسِ إذَا قَدَرُوا عَلَيْهِمْ لَا يَعْتَدُونَ عَلَيْهِمْ بِالتَّكْفِيرِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ يَسْتَعْمِلُونَ مَعَهُمْ الْعَدْلَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِالْحَرُورِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ، وَإِذَا جَاهَدُوهُمْ فَكَمَا جَاهَدَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحَرُورِيَّةَ بَعْدَ الْإِعْذَارِ إقَامَةً لِلْحُجَّةِ وَعَامَّةُ مَا كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ مَعَهُمْ الْهِجْرَانَ وَالْمَنْعَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَظْهَرُ بِسَبَبِهَا بِدْعَتُهُمْ، مِثْلُ تَرْكُ مُخَاطَبَتِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الطَّرِيقُ إلَى خُمُودِ بِدْعَتِهِمْ، وَإِذَا عَجَزُوا عَنْهُمْ لَمْ يُنَافِقُوهُمْ بَلْ يَصْبِرُونَ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ كَمَا كَانَ سَلَفُ الْمُؤْمِنِينَ يَفْعَلُونَ وَكَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى الْحَقِّ وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَحْمِلَهُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لَا يَعْدِلُوا. [الْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ إنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالذَّاتِ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ] ِ وَخَالَفُوا فِي إثْبَاتِهِ جَمِيعَ فِرَقِ الْإِسْلَامِ كَمَا يُقِرُّونَ هُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّازِيّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَنَّ إثْبَاتَهُمْ لِهَذَا يُخَالِفُهُمْ فِيهِ سَائِرُ فِرَقِ الْأُمَّةِ قَدْ قَالَ أَكْثَرُهُمْ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ خَمْسَةُ مَعَانٍ: أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ وَاسْتِخْبَارٌ وَنِدَاءٌ، فَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ ذَلِكَ لِمَعْنًى هُوَ مَعْنَى كُلِّ أَمْرٍ، أَمَرَ اللَّهُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ أَمْرَ تَكْوِينٍ كَقَوْلِهِ لِلْمَخْلُوقِ كُنْ فَيَكُونُ، أَوْ كَانَ أَمْرَ تَشْرِيعٍ، كَأَمْرِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَهُوَ مَعْنَى كُلِّ نَهْيٍ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَكُلِّ خَبَرٍ أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ، وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ الْأَمْرُ الْوَاحِدُ هُوَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ، وَالسَّبْتُ الَّذِي لِلْيَهُودِ هُوَ الْأَمْرُ الْمَنْسُوخُ وَبِالنَّاسِخِ وَبِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَبِالْعَرَبِيَّةِ وَبِالعَبْرَانِيّةِ ة وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي النَّهْيِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْخَبَرِ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ مَعْنَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ وَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَصِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مُجَرَّدَ تَصَوُّرِ هَذَا الْقَوْلِ يُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِفَسَادِهِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ سَائِرُ الْعُقَلَاءِ فَإِنَّ أَظْهَرَ الْمَعَارِفِ لِلْمَخْلُوقِ

الوجه الثالث والثلاثون أن يقال لهم إذا جاء أن تجعلوا هذه الحقائق المختلفة حقيقة واحدة

أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ هُوَ الْخَبَرَ وَأَنَّ الْأَمْرَ بِالسَّبْتِ لَيْسَ هُوَ الْأَمْرَ بِالْحَجِّ وَأَنَّ الْخَبَرَ عَنْ اللَّهِ لَيْسَ هُوَ الْخَبَرَ عَنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَمَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ كُلَّهَا حَقِيقَةً وَاحِدَةً وَجَعَلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ إنَّمَا هِيَ صِفَاتٌ عَارِضَةٌ لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ الْعَيْنِيَّةِ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ أَقْسَامًا لِلْكَلَامِ الْكُلِّيِّ الَّذِي لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ كُلِّيًّا، إذْ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ كَلَامٌ هُوَ أَمْرٌ بِالْحَجِّ وَهُوَ بِعَيْنِهِ خَبَرٌ عَنْ جَهَنَّمَ كَمَا لَيْسَ فِي الْخَارِجِ إنْسَانٌ هُوَ بِعَيْنِهِ فَضِيلٌ وَإِنْ شَمِلَهُمَا اسْمُ الْحَيَوَانِ كَمَا شَمِلَ ذَيْنِك اسْمُ الْكَلَامِ فَمَنْ جَعَلَ الْحَقَائِقَ الْمُتَنَوِّعَةَ شَيْئًا وَاحِدًا فَهُوَ يُشْبِهُ مَنْ جَعَلَ الْمَكَانَيْنِ مَكَانًا وَاحِدًا حَتَّى جَعَلَ الْجِسْمَ الْوَاحِدَ يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ، وَيَقُولُ إنَّمَا هُمَا مَكَانٌ وَاحِدٌ أَوْ لَا يَجْعَلُ الْوَاحِدَ نِصْفَ الِاثْنَيْنِ، أَوْ يَقُولُ الِاثْنَانِ هُمَا وَاحِدٌ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ هَذَا النَّمَطِ، وَهُوَ رَفْعُ التَّعَدُّدِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَعَدِّدَةِ وَجَعْلُهَا شَيْئًا وَاحِدًا فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ بِالْعَيْنِ لَا بِالنَّوْعِ. وَهَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّ الْكَلَامَ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ هُوَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْعِبَادُ وَالْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ زَيْدٌ هُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ عَمْرٌو، وَيَقُولُونَ بَلْ هُمَا حَقِيقَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هُنَاكَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ مُتَّحِدٌ بِالْعَيْنِ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ وَبَيْنَهُمَا مِنْ الِاتِّحَادِ الشَّرْعِيِّ وَاتِّبَاعِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ مَا لَيْسَ بَيْنَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْبَعِيدَةِ مِنْ الِاشْتِرَاكِ إلَّا فِي الْجِنْسِ الْعَامِّ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ عَامًّا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا بِالْعَيْنِ، وَمَا هُنَاكَ مِنْ التَّعَدُّدِ فَأَحَدُهُمَا تَابِعٌ لِلْآخَرِ فَهُمَا مُتَّحِدَانِ مِنْ وَجْهٍ مُتَغَايِرَانِ مِنْ وَجْهٍ، وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ اتِّحَادَ الْحَقَائِقِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ كُلُّ عَاقِلٍ وَلَمْ يُوَافِقْ عَلَى إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِذَلِكَ أَحَدٌ، وَهُنَاكَ اتَّفَقَ الْخَلَائِقُ عَلَى أَنْ يُشِيرُوا إلَى مَا يَسْمَعُونَهُ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ وَيَقُولُونَ هَذَا كَلَامُ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ، فَهَذَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعِبَادِ الَّذِي تُطَمْئِنُ إلَيْهِ الْقُلُوبُ وَجَاءَتْ بِإِطْلَاقِهِ النُّصُوصُ أَنْكَرُوهُ، وَذَاكَ الَّذِي ابْتَدَعُوهُ فَلَمْ يُطْلِقْهُ نَصٌّ وَلَا قَالَهُ إمَامٌ وَلَا تَصَوَّرَهُ أَحَدٌ إلَّا عَلِمَ فَسَادَهُ بِالْبَدِيهَةِ قَالُوهُ وَجَعَلُوهُ هُوَ أَصْلَ الدِّينِ. [الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ إذَا جَاءَ أَنْ تَجْعَلُوا هَذِهِ الْحَقَائِقَ الْمُخْتَلِفَةَ حَقِيقَةً وَاحِدَةً] ً سَوَاءٌ قُلْتُمْ بِثُبُوتِ الْحَالِ أَوْ نَفْيِهِ وَأَنَّ كَوْنَهَا أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا وَأَمْرًا بِكَذَا وَنَهْيًا عَنْ كَذَا إنَّمَا هِيَ أُمُورٌ نِسْبِيَّةٌ لَهَا كَتَسْمِيَةِ الْمَعْنَى الَّذِي فِي النَّفْسِ عَرَبِيًّا وَعَجَمِيًّا، وَلِهَذَا تَنَازَعَ ابْنُ كِلَابٍ وَالْأَشْعَرِيُّ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخِطَابِ، هَلْ هِيَ

حَادِثَةٌ عِنْدَ حُدُوثِ الْمُخَاطَبِ كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ كِلَابٍ، أَوْ قَدِيمَةٌ كَمَا يَقُولُهُ الْأَشْعَرِيُّ، فَيُقَالُ لَكُمْ هَذَا بِعَيْنِهِ يُقَالُ لَهُمْ فِي الصِّفَاتِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، فَهَلَّا جَعَلْتُمْ هَذِهِ الصِّفَاتِ حَقِيقَةً وَاحِدَةً، وَهَذِهِ الْخَصَائِصُ عَوَارِضَ نِسْبِيَّةً لَهَا، بَلْ جَعْلُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ بِمَعْنَى عِلْمٍ خَاصٍّ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ مِنْ جَعْلِ حَقِيقَةِ مَعْنَى كُلِّ خَبَرٍ حَقِيقَةَ مَعْنَى كُلِّ أَمْرٍ، وَحَقَائِقُ مَعَانِي الْأَخْبَارِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُمْ قَدْ ذَكَرُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ الرَّازِيّ: الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ تُفِيدُ فَائِدَة الصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ السَّبْعَةِ، قَالَ: اعْلَمْ أَنَّ فَسَادَ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِ الْحَالِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ يَعْنِي عَلَى مَا قَرَّرَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الطَّلَبُ هُوَ الْخَبَرُ قَالَ وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالْحَالِ، فَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَوَّلَ فِي إبْطَالِ هَذَا الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْإِجْمَاعِ وَهُوَ أَنَّ الْقَائِلَ قَائِلَانِ مِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهَا وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَهَا قَالَ إنَّهَا صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا صِفَةٌ وَاحِدَةٌ يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ، قُلْت وَهَذِهِ الْحُجَّةُ إنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فَلَا يُمْكِنُ طَرْدُهَا فِي الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَا إجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: إنَّ هَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ حَقِيقَةَ مَعْنَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ هُوَ حَقِيقَةَ مَعْنَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ الْجِنِّ وَالْجَحِيمِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَعَانِيَ الْكَلَامِ تَتْبَعُ الْحَقَائِقَ الْخَارِجَةَ وَتُطَابِقُهَا فَمَعْنَى الْخَبَرِ عَنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ يُطَابِقُ ذَلِكَ وَمَعْنَى الْخَبَرِ عَنْ الْجِنِّ وَالنَّارِ يُطَابِقُ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ هُوَ حَقِيقَةُ مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ وَكِلَاهُمَا مُطَابِقٌ لِمُخْبِرِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُخْبِرَ هُوَ هَذَا الْمُخْبِرَ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْحَقَائِقُ الْمَوْجُودَةُ كُلُّهَا شَيْئًا وَاحِدًا فَتَكُونَ الْجَنَّةُ هُوَ النَّارَ وَالْمَلَائِكَةُ هُمْ الشَّيَاطِينُ وَالْمَوْجُودُ هُوَ الْمَعْدُومَ وَالثُّبُوتُ هُوَ الِانْتِفَاءَ. وَفِي ذَلِكَ مِنْ اجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ مَا لَا يُحْصَى، وَهَذَا لَازِمٌ لِقَوْلِهِمْ لَا مَحِيدَ عَنْهُ فَإِنَّ الْخَبَرَ الصَّادِقَ الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ وَالْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ يُطَابِقُ الْحَقِيقَةَ الْمَوْجُودَةَ، وَكُلُّ أَخْبَارِ اللَّهِ صَادِقَةٌ فَإِذَا كَانَتْ جَمِيعُهَا حَقِيقَةً وَاحِدَةً لَيْسَ فِيهَا تَغَايُرٌ أَصْلًا وَذَلِكَ هُوَ الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ مُطَابِقَةً لِلْوُجُودِ الْخَارِجِ بِخِلَافِ الْخَبَرِ الْكَذِبِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ مُطَابَقَتُهُ لِلْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ وَالْحُكْمُ الْوَاحِدُ الذِّهْنِيُّ الَّذِي لَا تَغَايُرَ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ إذَا طَابَقَ الْمَحْكُومَ بِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْكُومُ بِهِ كَذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُطَابِقًا.

الوجه الخامس والثلاثون إنهم قد ذكروا حجتهم على ذلك

وَكَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَهَى عَنْ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ، فَإِذَا كَانَ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ هِيَ حَقِيقَةَ النَّهْيِ، إنَّمَا لَهَا نِسْبَةٌ إلَى الْأَفْعَالِ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ، بَلْ إذَا قِيلَ إنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَالْمَأْمُورَ بِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَمْ يَمْتَنِعْ ذَلِكَ إذْ كَانَتْ الْحَقِيقَةُ وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ التَّعَلُّقُ وَالتَّعَلُّقُ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ يَمْنَعُ الِاخْتِلَافَ بَلْ يُمْكِنُ فَرْضُ تَعَلُّقِهِ أَمْرًا كَتَعَلُّقِهِ نَهْيًا مَعَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ بَاقِيَةٌ فَيُمْكِنُ عَلَى هَذَا تَقْدِيرُ الْمَأْمُورِ بِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَبِالْعَكْسِ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ شَيْءٌ مِنْ الْحَقَائِقِ. [الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ إنَّهُمْ قَدْ ذَكَرُوا حُجَّتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ] َ وَإِذَا تَدَبَّرَهَا الْإِنْسَانُ عَلِمَ فَسَادَهَا وَبِنَاءَهَا عَلَى أَصْلٍ فَاسِدٍ، وَتَنَاقُضَهُمْ فِيهَا، قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ أَمْرُهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ هُوَ نَهْيُهُ عَنْ الْكُفْرِ وَأَمْرُهُ بِالصَّلَاةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ هُوَ نَهْيُهُ عَنْ الصَّلَاةِ إلَيْهِ فِي وَقْتٍ غَيْرِهِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ يَقُولُ إنَّ مَدْحَهُ الْمُؤْمِنَ عَلَى إيمَانِهِ بِكَلَامِهِ الَّذِي هُوَ ذَمٌّ لِلْكَافِرِينَ وَلَا يَتَغَيَّرُ الْقَوْلُ بِتَغَايُرِ كَلَامِهِ وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ بَلْ نَقُولُ فِيهِ كَمَا نَقُولُ فِي عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، فَنَقُولُ إنَّ عِلْمَهُ بِوُجُودِ الْمَوْجُودِ هُوَ عِلْمُهُ بِعَدَمِهِ إذَا عُدِمَ وَقُدْرَتُهُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُوجِدَهُ هِيَ قُدْرَتُهُ عَلَيْهِ فِي حَالِ إيجَادِهِ وَلَا يُقَالُ إنَّهَا قُدْرَةٌ عَلَيْهِ فِي حَالِ بَقَائِهِ وَرُؤْيَتِهِ لِآدَمَ وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ هِيَ رُؤْيَتُهُ لَهُ هُوَ فِي الدُّنْيَا وَسَمْعُهُ لِكَلَامِ زَيْدٍ هُوَ سَمْعُهُ لِكَلَامِ عَمْرٍو مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ وَاخْتِلَافٍ فِي شَيْءٍ مِنْ أَوْصَافِهِ وَنُعُوتِهِ لِذَاتِهِ. وَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَعْقِلُ كَلَامَ وَاحِدٍ يَجْمَعُ أَوْصَافًا مُخْتَلِفَةً حَتَّى يَكُونَ أَمْرًا نَهْيًا خَبَرًا اسْتِخْبَارًا وَوَعْدًا وَوَعِيدًا قِيلَ يَعْقِلُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِقِدَمِهِ الْمَانِعِ مِنْ كَوْنِهِ مُتَغَايِرًا مُخْتَلِفًا عَلَى خِلَافِ كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ كَمَا يَعْقِلُ مُتَكَلِّمٌ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَلَا أَجْزَاءٍ وَلَا آلَاتٍ وَاَلَّذِي أَوْجَبَ كَوْنَهُ كَذَلِكَ قِدَمُهُ وَوَجَبَ مُخَالَفَتُهُ لِلْمُتَكَلِّمِينَ الْمُحَدِّثِينَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْقِلُ مُتَكَلِّمٌ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَجَزَّأُ فِي الْمُحْدَثَاتِ فَيُقَالُ لَهُ هَذَا لَيْسَ جَوَابًا عَنْ السُّؤَالِ فَإِنَّ السَّائِلَ قَالَ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ مُخْتَلِفًا. فَإِنَّ هَذَا مِثْلَ قَوْلِ النَّصَارَى هُوَ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ ثَلَاثَةُ جَوَاهِرَ، وَمَا ذَكَرَهُ إنَّمَا هُوَ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِ مَا ادَّعَاهُ لَيْسَ جَوَابًا عَنْ الْمُعَارَضَةِ وَهَذِهِ عَادَةُ ابْنِ فُورَكٍ وَأَصْحَابِهِ فَإِنَّهُ لَمَّا نُوظِرَ قُدَّامَ مَحْمُودِ بْنِ سبكتكين أَمِيرِ الْمَشْرِقِ فَقِيلَ لَهُ لَوْ وُصِفَ

الوجه السادس والثلاثون أن يقال إما أن تكون أقمت دليلا على كونه قديما واحدا ليس بمتغاير

الْمَعْدُومُ لَمْ يُوصَفْ إلَّا بِمَا وَصَفْت بِهِ الرَّبَّ مِنْ كَوْنِهِ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ كَتَبَ إلَى أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ جَوَابُهُمَا إلَّا أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَارِجَ الْعَالَمِ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا، فَأَجَابُوا لِمَنْ عَارَضَهُمْ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ بِدَعْوَى الْحُجَّةِ. قُلْت: فَنَظَرُهُ كَذَلِكَ فِي هَذَا الْمُقَامِ، فَإِنَّ كَوْنَ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَعَدُّدَ وَلَا تَغَايُرَ أَصْلًا يَكُونُ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً هُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَذَلِكَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، فَإِذَا قُبِلَ لِلشَّخْصِ، هَذَا الْكَلَامُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ هَلْ يَكُونُ جَوَابُهُ أَنْ يُقِيمَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ بَلْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ بَدِيهَةَ الْعَقْلِ وَضَرُورَتَهُ وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا يُمَكَّنُ أَحَدٌ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِحَقٍّ فَإِنَّ الْبَدِيهَاتِ لَا تَكُونُ بَاطِلَةً بَلْ الْقَدْحُ فِيهَا سَفْسَطَةٌ وَهُمْ دَائِمًا يُنْكِرُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ مُخَالَفَتَهُمْ مَا هُوَ دُونَ هَذَا كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَى بَعْضِهِ. [الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ أَنْ يُقَالَ إمَّا أَنْ تَكُونَ أَقَمْت دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ قَدِيمًا وَاحِدًا لَيْسَ بِمُتَغَايِرٍ] ٍ وَلَا مُخْتَلِفٍ أَوْ لَمْ تُقِمْ فَإِنْ لَمْ تُقِمْ بَطَلَ ذَلِكَ وَإِنْ أَقَمْت دَلِيلًا فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ نَظَرِيٌّ إذْ لَيْسَ مِنْ الْأُمُورِ الْبَدِيهِيَّةِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْعِلْمُ بِأَنَّ الْوَاحِدَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَغَايُرٌ وَلَا اخْتِلَافٌ لَا يَكُونُ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً وَلَا مَوْصُوفًا بِأَوْصَافٍ مُخْتَلِفَةٍ أَوْ مُتَضَادَّةٍ هُوَ مِنْ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ الضَّرُورِيَّةِ، وَالضَّرُورِيُّ لَا يُعَارِضُهُ النَّظَرِيُّ لِأَنَّ الضَّرُورِيَّ أَصْلُهُ، فَالْقَدْحُ فِيهِ قَدْحٌ فِي أَصْلِهِ وَبُطْلَانُ أَصْلِهِ يُوجِبُ بُطْلَانَهُ فِي نَفْسِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ مُعَارَضَةَ الضَّرُورِيِّ بِالنَّظَرِيِّ يُوجِبُ بُطْلَانَ النَّظَرِيِّ، وَإِذَا بَطَلَ النَّظَرِيُّ الْمُعَارِضُ لِهَذَا الضَّرُورِيِّ لَمْ يَكُنْ أَلْبَتَّةَ دَلِيلًا صَحِيحًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. [الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ أَنْ يُقَالَ الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ إمَّا قِدَمُهُ أَوْ شَيْءٌ آخَرُ] ُ وَأَنْتَ لَمْ تَذْكُرْ شَيْئًا آخَرَ وَالْقِدَمُ لَا دَلِيلَ لَك عَلَيْهِ كَمَا سَبَقَ بِإِيمَانِهِ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا حُجَّةً عَلَى كَوْنِهِ قَدِيمًا كَالْعِلْمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهُ هَبْ أَنَّهُ قَدِيمٌ فَكَوْنُهُ قَدِيمًا لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً وَاحِدَةً فَإِنَّك تَقُولُ إنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ مِنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْحَيَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَدِيمَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ قِدَمُهَا مُوجِبًا لَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ هَذِهِ الصِّفَةَ فَمِنْ أَيْنَ أَوْجَبَ قِدَمَ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ هُوَ غَيْرَ النَّهْيِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَيْنَ الْخَبَرِ وَهَلَّا قُلْت فِي أَنْوَاعِ الْكَلَامِ مَا قُلْته فِي الصِّفَاتِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِك. الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِك يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى

نَفْيٍ سِوَى مَا عَلِمُوهُ مِنْ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُمْ عَلَى النَّفْيِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَلَا عَقْلِيٌّ فَالنَّفْيُ بِلَا دَلِيلٍ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْعَدَمِ وَعَدَمُ الدَّلِيلِ عِنْدَنَا لَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمَطْلُوبِ الَّذِي يُطْلَبُ الْعِلْمُ بِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْبَدِيهَاتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِنْ أَيْنَ لَك أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ صِفَاتٍ كَثِيرَةً وَلِمَ أَوْجَبْت أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ مَعْدُودًا بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ مَا ذَكَرْت مِنْ قِدَمِهِ لَا يَمْنَعُ تَعَدُّدَهُ إذْ الصِّفَاتُ عِنْدَك مُتَعَدِّدَةٌ وَقَدِيمَةٌ، وَالْمَعْلُومُ أَنَّ الْقَدِيمَ هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ، أَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ فَهَذَا بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ لِامْتِنَاعِ وُجُودِ مَوْجُودٍ لَا صِفَةَ لَهُ كَمَا هُوَ مُقَدَّرٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَهُمْ يُسَلِّمُونَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمُوا بَطَلَ قَوْلُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ. الْوَجْهُ الْأَرْبَعُونَ: إنَّ قَوْلَك يُعْقَلُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِقِدَمِهِ الْمَانِعِ مِنْ كَوْنِهِ مُتَغَايِرًا مُخْتَلِفًا يُقَالُ لَك الدَّلِيلُ عَلَى قِدَمِهِ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ مَعْنًى وَاحِدًا كَمَا تَقَدَّمَ وَإِذَا لَمْ يُوجِبْ كَوْنَهُ مَعْنًى وَاحِدًا لَمْ يُوجِبْ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ هُوَ النَّهْيَ وَهُوَ الْخَبَرَ وَهُوَ الِاسْتِخْبَارُ وَقَوْلُك بَعْدَ هَذَا بِالدَّلِيلِ الْمَانِعِ مِنْ كَوْنِهِ مُتَغَايِرًا مُخْتَلِفًا يُقَالُ لَك إذَا لَمْ تُقِمْ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ هَذَا بَلْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ هَذَا فَيُقَالُ فِيهِ مَا يُقَالُ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي مُسَمَّى الْإِدْرَاكِ فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْآخَرَ ثُمَّ هَلْ يُقَالُ أَحَدُهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ أَوْ يُخَالِفُ لَهُ أَوْ يُقَالُ لَيْسَ بِغَيْرٍ لَهُ وَلَا مُخَالِفٍ لَهُ أَوْ لَا يُقَالُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا أَوْ يُقَالُ هَذَا بِاعْتِبَارٍ وَهَذَا بِاعْتِبَارٍ وَهَذَا بِاعْتِبَارٍ هَذِهِ مُنَازَعَاتٌ لَفْظِيَّةٌ بَيْنَ النَّاسِ وَكُلُّ قَوْلٍ يَخْتَارُهُ فَرِيقٌ وَالْمُنَازَعَاتُ فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَمْ تَرِدْ بِهَا الشَّرِيعَةُ لَا حَاجَةَ بِنَا إلَيْهَا بَلْ الْمَقْصُودُ الْمَعْنَى نَعَمْ إذَا كَانَ اللَّفْظُ شَرْعِيًّا كُنَّا مَأْمُورِينَ بِحِفْظِ حَدِّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ قَوْلَك بِالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِقِدَمِهِ الْمَانِعِ مِنْ كَوْنِهِ مُتَغَايِرًا مُخْتَلِفًا دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: إنَّ قَوْلَك عَلَى خِلَافِ كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ يُقَالُ لَك كَوْنُهُ عَلَى خِلَافِ كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ لَا يُسَوِّغُ مَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ امْتِنَاعُهُ كَاجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ وَكَوْنُ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا تَغَايُرَ فِيهِ وَلَا اخْتِلَافَ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ وَكَوْنِ صِفَةِ اللَّهِ عَلَى خِلَافِ صِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ لَا يُسَوِّغُ هَذَا الْمُمْتَنِعَ.

الوجه الثاني والأربعون إن قولك على خلاف كلام المحدثين إن عنيت به أن حقيقة كلام الله ليست كحقيقة كلام المخلوقين

[الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ إنَّ قَوْلَك عَلَى خِلَافِ كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ إنْ عَنَيْت بِهِ أَنَّ حَقِيقَةَ كَلَامِ اللَّهِ لَيْسَتْ كَحَقِيقَةِ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ] َ كَمَا أَنَّهُ هُوَ كَذَلِكَ وَسَائِرُ صِفَاتِهِ كَذَلِكَ فَهَذَا حَقٌّ لَكِنْ لَا يُفِيدُك فَإِنَّ كَوْنَهُ كَذَلِكَ لَا يُوجِبُ أَنْ يُثْبِتَ مَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ انْتِفَاؤُهُ فَإِنَّ مَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ انْتِفَاؤُهُ لَا يُثْبِت شَاهِدًا وَلَا غَائِبًا وَكَوْنُ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا تَغَايُرَ فِيهِ وَلَا اخْتِلَافَ هُوَ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالْعَقْلِ فَلَا يَثْبُتُ لِلَّهِ وَلَا لِغَيْرِهِ وَإِنْ عَنَيْت بِقَوْلِك عَلَى خِلَافِ كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ كَوْنَهُ مَعْنًى قَائِمًا بِالنَّفْسِ أَوْ كَوْنَهُ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ هُوَ مُخَالِفٌ فِي ذَلِكَ لِكَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ فَلَيْسَ الْأَمْرُ عِنْدَك كَذَلِكَ فَإِنَّ الْقَدِيمَ وَالْمُحْدَثَ يَشْتَرِكَانِ فِي هَذَا الْوَصْفِ عِنْدَك وَإِنْ عَنَيْت أَنَّهُ وَاحِدٌ وَكَلَامُ الْمَخْلُوقِينَ لَيْسَ بِوَاحِدٍ فَيُقَالُ هَذَا هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُقَرَّرُ ذَلِكَ. [الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ الْكَلَامَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَسَائِرَ الصِّفَاتِ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصِّفَاتِ الْمَخْلُوقَةِ] الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَسَائِرَ الصِّفَاتِ يَجْمَعُ هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصِّفَاتِ الْمَخْلُوقَةِ مِنْ وَجْهٍ وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَهَا مِنْ وَجْهٍ كَمَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْوُجُودِ الْقَدِيمِ الْوَاجِبِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ الْخَالِقِ وَبَيْنَ الْوُجُودِ الْمُمْكِنِ الْمَخْلُوقِ مِنْ وَجْهٍ وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ بِالْحَدِّ وَالدَّلِيلِ وَالْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ فَيَقُولُونَ حَدُّ الْعَالِمِ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ وَالْحَقَائِقُ لَا تَخْتَلِفُ شَاهِدًا وَلَا غَائِبًا وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ مَشْرُوطَانِ بِالْحَيَاةِ فِي الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ وَالْأَحْكَامُ دَلِيلٌ عَلَى الْعِلْمِ فِي الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ وَيَقُولُ مَنْ يَثْبُتُ الْأَحْوَالَ مِنْهُمْ الْعِلْمُ مُوجِبٌ لِكَوْنِ الْعَالِمِ عَالِمًا وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ فِي الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمُخَالَفَةُ كَلَامِهِ لِكَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ وَجْهٍ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا إنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ تِلْكَ الْمُخَالَفَةَ مُوجِبَةٌ لِوَحْدَتِهِ وَأَنْتَ لَمْ تَذْكُرْ ذَلِكَ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرْت إنَّك قِسْته عَلَى الْمُتَكَلِّمِ فَقُلْت يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ وَاحِدٌ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ. [الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ إنَّك اعْتَمَدَتْ فِي كَوْنِ الْكَلَامِ مَعْنًى وَاحِدًا قَدِيمًا] عَلَى قِيَاسِهِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ فَلَمَّا قِيلَ لَك كَيْفَ يُعْقَلُ كَلَامٌ وَاحِدٌ يَجْمَعُ أَوْصَافًا مُخْتَلِفَةً حَتَّى يَكُونَ أَمْرًا وَنَهْيًا، خَبَرًا وَاسْتِخْبَارًا، وَعْدًا وَوَعِيدًا قُلْت يُعْقَلُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِقِدَمِهِ الْمَانِعِ مِنْ كَوْنِهِ مُتَغَايِرًا مُخْتَلِفًا عَلَى خِلَافِ كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ كَمَا يُعْقَلُ مُتَكَلِّمٌ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَلَا أَجْزَاءٍ وَلَا آلَاتٍ وَإِنْ كَانَ لَا يُعْقَلُ مُتَكَلِّمٌ هُوَ شَيْءٌ

الوجه السادس والأربعون قياسك الوحدة التي أثبتها للكلام على الوحدة التي أثبتها للمتكلم قياس للشيء على ضده

وَاحِدٌ لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَجَزَّأُ فِي الْمُحْدَثَاتِ فَقَوْلُك كَمَا يَعْقِلُ مُتَكَلِّمٌ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْقِلُ مُتَكَلِّمٌ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي الْمُحْدَثَاتِ أَيْ كَمَا يُعْقَلُ هَذَا فِي الْمَوْصُوفِ فَلْيُعْقَلْ فِي صِفَتِهِ ذَلِكَ فَيُقَالُ لَك لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ الْحَقُّ قَدْ دَلَّ عَلَى هَذِهِ الْوَحْدَةِ الَّتِي أَثْبَتَهَا لِلْمُتَكَلِّمِ أَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا فَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا كُنْت قَائِسًا لِدَعْوَى عَلَى دَعْوَى بِلَا حُجَّةٍ وَكَانَتْ الْمُطَالَبَةُ لَك وَاحِدَةً فَصَارَتْ اثْنَتَيْنِ وَإِنْ دَلَّ عَلَيْهَا فَيُقَالُ لَك وَحْدَةُ الْمَوْصُوفِ عَلِمْت بِذَلِكَ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَيْهَا فَمِنْ أَيْنَ يَجِبُ إذَا عُلِمَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ وَاحِدٌ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ مَعْنًى وَاحِدًا، مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَوْصُوفَ الْوَاحِدَ مَوْصُوفٌ عِنْدَك وَعِنْدَ عَامَّةِ الْمُثْبِتَةِ بِصِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ وَحْدَتِهِ فِي نَفْسِهِ وَحْدَةُ صِفَتِهِ فَلِمَ لَزِمَ مِنْ وَحْدَتِهِ وَحْدَةُ كَلَامِهِ بِلَا حُجَّةٍ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: إنَّ مَا ذَكَرْته فِي هَذَا الْجَوَابِ إمَّا أَنْ تَذْكُرَهُ لِإِثْبَاتِ كَوْنِ الْكَلَامِ مَعْنًى وَاحِدًا أَوْ لِإِمْكَانِ أَنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ يَكُونُ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً قِيَاسًا عَلَى الْمَوْصُوفِ فَإِنْ كَانَ لِإِثْبَاتِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَجَّةٍ أَصْلًا إذْ مُجَرَّدُ كَوْنِ الْمَوْصُوفِ وَاحِدًا لَا يُفِيدُ أَنْ تَكُونَ صِفَتُهُ مَعْنًى وَاحِدًا وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ وَالِاتِّفَاقُ وَهُوَ يُسْلَمُ ذَلِكَ وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ لَا تُفِيدُ إمْكَانَ ذَلِكَ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فَإِنَّ مَنْ لَا يُفِيدُ ثُبُوتَ ذَلِكَ وَوُجُودَهُ أَوْلَى وَأَحْرَى وَإِنْ كَانَ ذَكَرَهُ لِبَيَانِ إمْكَانِ ذَلِكَ فَيُقَالُ لَك لَيْسَ كُلَّمَا أَمْكَنَ فِي الْمَوْصُوفِ أَمْكَنَ فِي الصِّفَةِ وَلَا كُلَّمَا يَمْتَنِعُ فِي الصِّفَةِ يَمْتَنِعُ فِي الْمَوْصُوفِ وَهَذَا مَعْلُومٌ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمَوْصُوفِ وَاحِدًا بِهَذِهِ الْوَحْدَةِ الَّتِي أُثْبِتهَا أَنْ تَكُونَ صِفَتَهُ يُمْكِنُ فِيهَا مَا أُثْبِتهُ لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرْته كَلَامًا مُفِيدًا وَلَا قَوْلًا سَدِيدًا. [الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ قِيَاسُك الْوَحْدَةَ الَّتِي أُثْبِتهَا لِلْكَلَامِ عَلَى الْوَحْدَةِ الَّتِي أُثْبِتهَا لِلْمُتَكَلِّمِ قِيَاسٌ لِلشَّيْءِ عَلَى ضِدِّهِ] الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ يُقَالَ لَك قِيَاسُك الْوَحْدَةَ الَّتِي أُثْبِتهَا لِلْكَلَامِ عَلَى الْوَحْدَةِ الَّتِي أُثْبِتهَا لِلْمُتَكَلِّمِ قِيَاسٌ لِلشَّيْءِ عَلَى ضِدِّهِ لَا عَلَى نَظِيرِهِ وَذَلِكَ أَنَّك جَعَلْت الْكَلَامَ مَعْنًى وَاحِدًا وَهَذَا الْمَعْنَى الْوَاحِدُ هُوَ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِخْبَارُ لَمْ تَقُلْ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ وَالِاسْتِخْبَارَ صِفَاتٌ قَائِمَةٌ بِالْكَلَامِ كَالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْمُتَكَلِّمِ وَلَا يُمْكِنُك أَنْ تَقُولَ ذَلِكَ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَا تَقُومُ بِالصِّفَةِ بَلْ هُمَا جَمِيعًا يَقُومَانِ بِالْمَوْصُوفِ فَلَوْ قُلْت ذَلِكَ لَكَانَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ صِفَاتٍ مُخْتَلِفَةً قَائِمَةً بِاَللَّهِ وَذَلِكَ الَّذِي فَرَرْت مِنْهُ وَلَكِنَّ هَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَ مَنْ قَالَ الْكَلَامُ صِفَاتٌ وَالرَّبُّ الْوَاحِدُ لَمْ تَقُلْ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ شَيْئَانِ بَلْ قُلْت إنَّهُ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَلَا أَجْزَاءٍ فَكَانَ نَظِيرُ هَذَا أَنْ

الوجه السابع والأربعون أن يقال كون الشيء الواحد ليس بذي أبعاض

نَقُولَ الْكَلَامُ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَلَا أَجْزَاءٍ وَلَيْسَ هُوَ مَعَ ذَلِكَ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً فَلَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِهِ أَمْرًا وَلَا خَبَرًا وَلَا اسْتِخْبَارًا كَمَا تَقُولُ مِثْلُ ذَلِكَ الْمَوْصُوفُ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي لَحَظَهُ ابْنُ كِلَابٍ إذْ كَانَ أَقْدَمَ وَأَحْذَقَ مِنْ الْأَشْعَرِيِّ حَيْثُ لَمْ يَصِفْ الْكَلَامَ فِي الْأَزَلِ بِأَنَّهُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ وَاسْتِخْبَارٌ وَجَعَلَ ذَلِكَ أُمُورًا نِسْبِيَّةً تَعْرِضُ لَهُ وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ وَطَرَدَ أُصُولَهُمْ فِي قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ عِنْدَك وَاحِدًا بِمَعْنَى أَنْ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَلَيْسَ هُوَ عِنْدَك حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً بَلْ مَوْصُوفًا بِصِفَاتٍ ثُمَّ يَقُولُ الْكَلَامُ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَهُوَ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَتَقُولُ هُوَ فِي ذَلِكَ مِثْلُ الْمَوْصُوفِ فَهَذَا مِنْ فَسَادِ الْقِيَاسِ وَالتَّلْبِيسِ عَلَى النَّاسِ. [الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ أَنْ يُقَالَ كَوْنُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ] ٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْقُولًا أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْقُولًا بَطَلَ كَلَامُك وَإِنْ كَانَ مَعْقُولًا لَزِمَ أَنْ يُعْقَلَ صِفَةٌ لَيْسَتْ بِذَاتِ أَبْعَاضٍ فَإِنَّ مَا لَا يَتَبَعَّضُ يَقُومُ بِهِ مَا لَا يَتَبَعَّضُ وَإِمَّا أَنْ يُعْقَلَ شَيْءٌ وَاحِدٌ هُوَ بِعَيْنِهِ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ لِأَنَّهُ عَقْلُ شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَتَبَعَّضُ فَهَذَا لَا يَلْزَمُ وَغَايَةُ مَا يَقُولُهُ أَنْ يَقُولَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ إمَّا أَنْ تَكُونَ أَقْسَامُ الْكَلَامِ وَأَبْعَاضُهُ أَوْ لَا تَكُونُ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ أَقْسَامُهُ وَأَبْعَاضُهُ صَحَّ مَذْهَبُنَا وَنَحْنُ غَرَضُنَا أَنْ نُثْبِتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ أَقْسَامَهُ وَأَبْعَاضَهُ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ لَيْسَ بِمُتَبَعِّضٍ وَلَا مُنْقَسِمٍ فَيَكُونُ صِفَةً لَيْسَتْ مُتَبَعِّضَةً وَلَا مُنْقَسِمَةً فَيُقَالُ لَهُ لِمَ تُقِمْ حُجَّةً عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ أَبْعَاضَهُ وَأَقْسَامَهُ وَغَايَةُ مَا ذَكَرْت إنَّمَا يُفِيدُ إنَّهُ إذَا كَانَ الْمَوْصُوفُ غَيْرَ مُتَبَعِّضٍ عُقِلَ فِي صِفَتِهِ أَنَّهَا غَيْرُ مُتَبَعِّضَةٍ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ هَذَا يُفِيدُ مَطْلُوبَك وَهُوَ لَا يُفِيدُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ تَبَعُّضُ الْكَلَامِ كَتَبَعُّضِ الْمَوْصُوفِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ إنَّ تَبَعُّضَ الصِّفَةِ إنَّمَا يُرَادُ بِهِ تَعَدُّدُهَا وَهَذَا مُمْكِنٌ عِنْدَك فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ نَبَّهْنَا عَلَيْهَا وَهِيَ مَبْسُوطَةٌ فِي سَائِرِ الْوُجُوهِ. [الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ كَوْنَ الْقَدِيمِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِمُنْقَسِمٍ وَلَا مُتَبَعِّضٍ] الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: إنَّ كَوْنَ الْقَدِيمِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِمُنْقَسِمٍ وَلَا مُتَبَعِّضٍ مَعْنَاهُ أَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي الْخَارِجِ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَلَيْسَ بِمُنْقَسِمٍ قِسْمَةَ الْكُلِّ إلَى أَجْزَائِهِ كَانْقِسَامِ الْإِنْسَانِ إلَى أَبْعَاضِهِ وَأَعْضَائِهِ وَإِنْ كَانَ هُوَ سُبْحَانَهُ أَيْضًا لَيْسَ بِجِنْسٍ كُلِّيٍّ يَنْقَسِمُ إلَى أَنْوَاعِهِ وَمَعْنَى كَوْنِ الْكَلَامِ لَيْسَ بِمُنْقَسِمٍ يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِذِي أَجْزَاءٍ وَأَبْعَاضٍ. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ الَّتِي تَنْقَسِمُ إلَى أَنْوَاعِهَا وَأَشْخَاصِهَا كَانْقِسَامِ جِنْسِ

الوجه التاسع والأربعون حقيقة قولهم نفي القسمين جميعا عن كلام الله

الْإِنْسَانِ إلَى أَنْوَاعِهِ وَانْقِسَامِ جِنْسِ الْمَوْجُودِ إلَى الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ وَكَذَلِكَ جِنْسُ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهِمَا إلَى الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ وَالتَّبْعِيضُ لَيْسَ هَذِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فِي الْعَالَمِ فَإِنَّ هَذَا نَفْيٌ لِلْقِسْمَةِ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ وَذَاكَ نَفْيٌ لِلْقِسْمَةِ عَنْ كُلِّيٍّ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ كُلِّيًّا بِحَالٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ إنْسَانٌ كُلِّيٌّ يَنْقَسِمُ، وَلَا وُجُودُ كُلٍّ يَنْقَسِمُ، وَلَا عِلْمٌ أَوْ كَلَامٌ كُلِّيٌّ يَنْقَسِمُ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ نَفْيَ هَذَا وَإِنْ قَصَدَ نَفْيَهُ فَهَذَا مِمَّا لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ عَاقِلٌ لَا فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِ وَلَا فِي كَلَامِ الْخَالِقِ فَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ كَلَامٌ كُلِّيٌّ هُوَ بِعَيْنِهِ يَنْقَسِمُ إلَى أَمْرٍ وَنَهْيٍ بَلْ إنْ كَانَ أَمْرًا لَمْ يَكُنْ نَهْيًا وَإِنْ كَانَ نَهْيًا لَمْ يَكُنْ أَمْرًا وَلِهَذَا يَجِبُ فِي الْكُلِّيِّ الْمَقْسُومِ أَنْ يُقَالَ اسْمُهُ عَلَى أَنْوَاعِهِ وَأَقْسَامِهِ فَيُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ إنْسَانًا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْكَلَامِ كَلَامًا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْعُلُومِ أَنَّهُ عِلْمٌ وَهَذَا الْفَرْقُ هُوَ الْفَرْقُ الَّذِي يَذْكُرُهُ النَّاسُ لِمُتَعَلِّمِ الْعَرَبِيَّةِ فِي أَوَّلِ التَّعْلِيمِ فَيَقُولُونَ مَنْ قَالَ الْكَلَامُ يَنْقَسِمُ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ فَإِنَّهُ يُرِيدُ قِسْمَةَ الْكُلِّ إلَى أَجْزَائِهِ وَأَبْعَاضِهِ. وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ تَقْسِيمَ الْجِنْسِ فَإِنَّهُ يَقُولُ الْكَلِمَةُ تَنْقَسِمُ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ فَإِنَّ الْجِنْسَ إذَا قُسِّمَ إلَى أَنْوَاعِهِ أَوْ أَشْخَاصِ أَنْوَاعِهِ أَوْ النَّوْعُ إذَا قُسِّمَ إلَى أَشْخَاصِهِ كَانَ اسْمُ الْمَقْسُومِ صَادِقًا عَلَى الْأَنْوَاعِ وَالْأَشْخَاصِ، وَإِلَّا فَلَيْسَتْ بِأَقْسَامٍ لَهُ وَسَوَاءٌ أَرَادَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُرِدْهُ فَأَيُّ نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ أَرَادَ فَإِنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ نَوْعَيْهَا لَا يَكُونُ هَذَا الْقِسْمُ هُوَ هَذَا الْقِسْمَ فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّ الْكَلَامَ الْكُلِّيَّ الْمُنْقَسِمَ إلَى أَمْرٍ وَنَهْيٍ الْأَمْرُ فِيهِ هُوَ النَّهْيُ وَلَا أَنَّ الْكَلَامَ الْمَوْجُودَ الْمُعَيَّنَ الْمُنْقَسِمَ إلَى أَبْعَاضِهِ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَوْ الِاسْمُ وَالْفِعْلُ وَالْحَرْفُ يَكُونُ الْأَمْرُ فِيهِ هُوَ النَّهْيُ وَالِاسْمُ فِيهِ هُوَ الْحَرْفُ فَإِنَّهُمْ اخْتَارُوهُ مِنْ الْقِسْمَيْنِ كَانَ قَوْلُهُمْ مُخَالِفًا لِلْبَدِيهَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ. [الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ نَفْيُ الْقِسْمَيْنِ جَمِيعًا عَنْ كَلَامِ اللَّهِ] الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: إنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ نَفْيُ الْقِسْمَيْنِ جَمِيعًا عَنْ كَلَامِ اللَّهِ فَإِنَّ الْمَعْقُولَ فِي الْكَلَامِ سَوَاءٌ قُدِّرَ كُلِّيًّا أَوْ مَوْجُودًا مُعَيَّنًا أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ أَمْرٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ خَبَرٌ فَإِذَا أُرِيدَ قِسْمَةُ الْكُلِّ قَبْلَ الْكَلَامِ وَالْقَوْلُ يَنْقَسِمُ إلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَيَكُونُ الْأَمْرُ مَوْجُودًا وَالنَّهْيُ مَوْجُودًا وَكِلَاهُمَا يُقَالُ لَهُ كَلَامٌ وَيُقَالُ لَهُ قَوْلٌ وَأَمَّا كَلَامٌ هُوَ بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَهُوَ بِعَيْنِهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ فَهَذَا لَا يَكُونُ وَإِذَا أُرِيدَ قِسْمَةُ الْكُلِّيِّ قِيلَ هَذَا الْكَلَامُ

الْمَوْجُودُ مِنْهُ مَا هُوَ أَمْرٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ نَهْيٌ وَهُمْ يَقُولُونَ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بَعْضُهُ أَمْرًا وَبَعْضُهُ نَهْيًا وَلَا بَعْضُهُ خَبَرًا فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْأَبْعَاضِ لَهُ وَلَا بَعْضَ لَهُ وَلَا هُوَ أَيْضًا كُلِّيًّا يَنْقَسِمُ إلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ غَيْرَ النَّهْيِ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ مَعْنًى وَاحِدٌ مَوْجُودٌ فِي الْمَوْصُوفِ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ. وَأَمَّا الْمَوْصُوفُ فَإِنَّ ظُهُورَ انْتِفَاءِ الْقِسْمَةِ الْأُولَى عَنْهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ وُجُودًا كُلِّيًّا يَنْقَسِمُ إلَى الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ وَالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ فَإِنَّ هَذَا قَوْلٌ بِعَدَمِهِ إذْ الْكُلِّيُّ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَقَوْلٌ مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَكُونُ خَالِقًا وَيَكُونُ مَخْلُوقًا وَقَدِيمًا وَمُحْدَثًا أَيْ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ هُوَ الْخَالِقُ وَبَعْضُ أَنْوَاعِهِ الْمَخْلُوقُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي هُوَ كَذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الْخَالِقَ الْقَدِيمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. نَعَمْ الزَّنَادِقَةُ الْإِلْحَادِيَّةُ يَقُولُونَ إنَّ الرَّبَّ هُوَ الْوُجُودُ وَهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَا يَتَعَيَّنُ وَهَذَا قَوْلُ الْقُونَوِيِّ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَنْقَسِمُ إلَى حَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ وَأَرْوَاحٍ وَأَجْسَامٍ لَكِنْ لَا يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ وَخَالِقٍ وَمَخْلُوقٍ بَلْ الْوُجُودُ الْكُلِّيُّ الْمُطْلَقُ هُوَ الْوَاجِبُ الْخَالِقُ وَهَذَا قَوْلٌ بِتَعْطِيلِ الصَّانِعِ وَجُحُودِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا وَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ الثَّابِتُ لِلْوَاجِبِ الْمُتَمَيِّزُ بِنَفْسِهِ عَنْ الْمُمْكِنِ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا قَالَهُ لِكَوْنِهِ لَا يَثْبُتُ الْوَاجِبُ مُتَمَيِّزًا عَنْ الْمُمْكِنِ بِنَفْسِهِ فَإِذَا لَزِمَهُ ثُبُوتُ وَاجِبٍ مُتَمَيِّزٍ لَزِمَ تَنَاقُضُهُ وَمَعَ هَذَا فَهُمْ مِنْ أَكْثَرِ الْخَلْقِ تَنَاقُضًا وَهُمْ مُخْلِطُونَ تَخْلِيطًا عَظِيمًا مَعَ اشْتِرَاكِهِمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ أَظْلَمِ الْخَلْقِ مِنْ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ وَالتَّعْطِيلِ فَلَا يَبْعُدُ عَلَى بَعْضِهِمْ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لَا سِيَّمَا إذَا فَرَّقُوا بَيْنَ تَجْلِيَةِ الذَّاتِيِّ وَتَجْلِيَةِ الْأَسْمَاءِ فَقَدْ يَقُولُونَ التَّجَلِّي الذَّاتِيُّ هُوَ الْوَاجِبُ وَالْأَسْمَائِيُّ هُوَ الْمُمْكِنُ وَيَقُولُونَ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ الْمَقُولُ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي يَقُولُونَ هُوَ نَفْسُ الْوُجُودِ وَأَنَّ الْمَوْجُودَاتِ أَبْعَاضُهُ وَأَجْزَاؤُهُ لَا أَنْوَاعُهُ. وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوهُ مَوْجُودًا لَكِنْ جَعَلُوهُ هُوَ الْمَخْلُوقَاتِ بِعَيْنِهَا وَالْأَوَّلُونَ لَمْ يَجْعَلُوهُ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ لَكِنْ جَعَلُوهُ الْمُطْلَقَ الَّذِي يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ مُعَيَّنًا لَا مُطْلَقًا، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ هَلْ لِلْمُمْكِنَاتِ أَعْيَانٌ ثَابِتَةٌ فِي الْعَدَمِ سِوَى وُجُودِهِ أَمْ هُوَ عَيْنُ الْمُمْكِنَاتِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَالْأَوَّلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْفُصُوصِ مِنْهُمْ وَالثَّانِي قَوْلُ أَتْبَاعِهِ كَالْقُونَوِيِّ وَالتِّلْمِسَانِيّ وَغَيْرِهِمَا.

لَكِنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَإِنْ أَضَلَّ طَوَائِفَ مِنْ أَذْكِيَاءِ النَّاسِ وَعِبَادِهِمْ وَوَقَعَ تَعْظِيمُهُمْ فِي نُفُوسِ طَوَائِفَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ وَالْمُلُوكِ تَقْلِيدًا وَتَعْظِيمًا لِقَوْلِهِمْ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ لِقَوْلِهِمْ فَكُلُّ مُسْلِمٍ بَلْ كُلُّ عَاقِلٍ إذَا فَهِمَ قَوْلَهُمْ حَقِيقَةً عَلِمَ أَنَّ الْقَوْمَ جَاحِدُونَ لِلصَّانِعِ مُكَذِّبُونَ بِالرُّسُلِ وَالشَّرَائِعِ مُفْسِدُونَ لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ وَلَيْسَ الْغَرَضُ هَذَا الْكَلَامَ فِيهِمْ فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّةَ لَا تَقُولُ بِهَذَا وَحَاشَاهَا مِنْ هَذَا، بَلْ هُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ تَكْفِيرًا وَمُحَارَبَةً لِمَنْ هُوَ أَمْثَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَمِنْ الْفَلَاسِفَةِ لَيْسَ بِمُنْقَسِمٍ فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ أَظْهَرُ فَسَادًا عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ مُرَادُهُمْ بَلْ يُرِيدُونَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ مُتَمَيِّزٌ بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَجْزَاءٌ وَأَبْعَاضٌ وَقَدْ يَقُولُ نُفَاةُ الصِّفَاتِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ كَابْنِ سِينَا وَغَيْرِهِ إنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ لَيْسَ لَهُ أَجْزَاءٌ لَا أَجْزَاءُ حَدٍّ وَلَا أَجْزَاءُ كَمٍّ، وَمُرَادُهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ صِفَةٌ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَلَا بَعْضٌ كَالْجِسْمِ، وَهُوَ يَقُولُ إنَّهُ مَوْجُودٌ مُتَمَيِّزٌ عَنْ الْمُمْكِنَاتِ وَلَكِنْ يَقُولُ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ فِيهِ مَا يُوجِبُ أَنْ يُلْزِمَهُمْ قَوْلَ أُولَئِكَ الِاتِّحَادِيَّةِ فَإِنَّهُ يَقُولُ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَيَصِفُهُ بِالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي لَا تَنْطَبِقُ إلَّا عَلَى الْمَعْدُومِ كَالْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الْكُلِّيِّ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ لَكِنَّ لَازِمَ قَوْلِ النَّاسِ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ قَوْلِهِمْ الَّذِي قَصَدُوهُ. وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَجْمَعُونَ بَيْنَ إثْبَاتِ الْبَارِي وَنَفْيِهِ وَبَيْنَ الْإِقْرَارِ بِهِ وَإِنْكَارِهِ وَلَا يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَمَّا أُولَئِكَ الِاتِّحَادِيَّةُ فَمَعَ تَنَاقُضِهِمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْبَارِي تَعَالَى وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْقِسْمَةُ وَالتَّبْعِيضُ مُنْتَفِيَةً عَنْهُ فَقَوْلُهُمْ إنَّهُ وَاحِدٌ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ وَاحِدٌ مُتَمَيِّزٌ عَنْ غَيْرِهِ مَوْجُودٌ لَا بَعْضَ لَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَمِنْ أَصْلِهِمْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ قَائِمٌ بِالْمُتَكَلِّمِ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَنْقَسِمُ أَيْ لَيْسَ مِنْهُ مَا هُوَ أَمْرٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ نَهْيٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ خَبَرٌ بِحَيْثُ يَكُونُ لَيْسَ هَذَا هُوَ هَذَا بَلْ الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ هُوَ النَّهْيُ وَهُوَ الْخَبَرُ وَالْبَارِي عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ أَيْ لَيْسَ بِجِسْمٍ ذِي أَبْعَاضٍ وَأَحَدُ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصْلُحُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِنَفْيِ هَذَا التَّبْعِيضِ أَنْ لَوْ كَانَ بَعْضُ الْكَلَامِ يَقُومُ بِبَعْضٍ وَبَعْضُهُ يَقُومُ بِبَعْضٍ آخَرَ فَيُقَالُ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ تَبَعُّضِ الْمَوْصُوفِ نَفْيُ تَبَعُّضِ الصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِهِ بَلْ إذَا قِيلَ إنَّ الْكَلَامَ حَقَائِقُ فَكُلُّ حَقِيقَةٍ تَقُومُ بِالْمَوْصُوفِ قِيَامًا مُطْلَقًا كَمَا تَقُومُ بِهِ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ

الوجه الخمسون إن ما ذكره من كون الموصوف شيئا واحدا ليس بذي أبعاض

وَالْقُدْرَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ قِيَامًا مُطْلَقًا لَكَانَ هَذَا مَعْقُولًا مَقْبُولًا. فَعُلِمَ أَنَّهُ وَإِنْ عَقَلَ مُتَكَلِّمٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَأَجْزَاءٍ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُعْقَلَ كَلَامٌ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَأَنَّ هَذَا شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا. [الْوَجْهُ الْخَمْسُونَ إنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ كَوْنِ الْمَوْصُوفِ شَيْئًا وَاحِدًا لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ] ٍ يَصْلُحُ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ عَلَى إمْكَانِ أَنْ تَكُونَ صِفَتُهُ وَاحِدَةً لَيْسَتْ بِذَاتِ أَبْعَاضٍ وَلَا أَجْزَاءٍ فَإِذَا قَامَ بِهِ عِلْمٌ أَوْ عُلُومٌ أَوْ قُدْرَةٌ أَوْ قَدْرٌ أَوْ كَلَامٌ أَوْ كَلِمَاتٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ قِيلَ فِي كُلِّ صِفَةٍ تَقُومُ بِهِ أَنَّهَا لَيْسَتْ ذَاتَ أَجْزَاءٍ وَأَبْعَاضٍ فَإِذَا قَامَ بِهِ أَوَامِرٌ وَأَخْبَارٌ كَانَ كُلُّ أَمْرٍ وَكُلُّ خَبَرٍ غَيْرَ مُتَبَعِّضٍ وَلَا مُتَجَزِّئٍ أَمَّا أَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ هَذِهِ الصِّفَةُ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْأَمْرَ هُوَ الْخَبَرُ وَالسَّمْعَ هُوَ الْبَصَرُ فَهَذَا بَاطِلٌ ثُمَّ يُقَالَ. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: إنَّ وَحْدَتَهُ إمَّا أَنْ تُصَحِّحَ هَذَا بِأَنْ يُقَالَ هَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ هَذِهِ الصِّفَةُ أَوْ لَا تُصَحِّحُ ذَلِكَ فَإِنْ صَحَّحْته صَحَّ أَنْ يُقَالَ السَّمْعُ هُوَ الْبَصَرُ وَهُمَا جَمِيعًا الْعِلْمُ وَهُوَ الْقُدْرَةُ وَهِيَ الْحَيَاةُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ هُوَ الْأَمْرُ بِالزَّكَاةِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ هُوَ الْخَبَرُ عَنْ سُجُودِ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ. [الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ أَنْ يُقَالَ مَا تَعْنِي بِقَوْلِك كَمَا يَعْقِلُ مُتَكَلِّمٌ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ] ٍ وَلَا أَجْزَاءٍ وَلَا آلَاتٍ أَتَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَفَرَّقُ وَلَا يَنْفَصِلُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ بَلْ هُوَ صَمَدٌ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمْ تَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ فِي الْعِلْمِ شَيْءٌ مِنْ شَيْءٍ فَإِنْ عَنَيْت الْأَوَّلَ فَهُوَ حَقٌّ لَكِنْ لَا يُفِيدُك ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ كَلَامٌ مُتَعَدِّدٌ وَإِنْ عَنَيْت الثَّانِيَ قِيلَ لَك لَا رَيْبَ أَنَّك تُسَلِّمُ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِبَعْضِ صِفَاتِهِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا تَعْلَمُ قُدْرَتَهُ وَلَا تَعْلَمُ عِلْمَهُ وَتَعْلَمُ وُجُودَهُ وَلَا تَعْلَمُ وُجُوبَهُ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَعْلُومَ هُوَ هَذَا الَّذِي لَيْسَ بِمَعْلُومٍ فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْك بِثُبُوتِ التَّبَعُّضِ وَالْمُتَجَزِّئِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ثُمَّ الْعِلْمُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُطَابِقًا لِلْمَعْلُومِ كَانَ جَهْلًا فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْحَقَائِقُ مُتَمَيِّزَةً فِي ذَوَاتِهَا وَهَذَا صَرِيحٌ فِيمَا أَنْكَرْته وَلَا بُدَّ لِكُلِّ مَوْجُودٍ مِنْ مِثْلِ هَذَا فَإِنَّهُ مَا مِنْ مَوْجُودٍ إلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ مِنْهُ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ حَقَائِقَ لَيْسَتْ هَذِهِ هِيَ هَذِهِ وَهَذَا لَازِمٌ لِكُلِّ أَحَدٍ حَتَّى نُفَاةِ الصِّفَاتِ يُقِرُّونَ بِثُبُوتِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ هَذِهِ وَإِذَا كَانَ التَّبْعِيضُ هَذَا الِاعْتِبَارَ ثَابِتًا لَمْ يُمْكِنْك إنْكَارُ التَّبْعِيضِ مُطْلَقًا بَلْ عُلِمَ

الوجه الثالث والخمسون كما يعقل متكلم هو شيء واحد ليس بذي أبعاض والذي أوجب كونه ذلك قدمه

بِالضَّرُورَةِ وَالِاتِّفَاقِ أَنَّ مِنْهُ شَيْئًا لَيْسَ هُوَ الشَّيْءَ الْآخَرَ أَمَّا الصِّفَاتِيَّةُ فَيُقِرُّونَ بِذَلِكَ لَفْظًا وَمَعْنًى وَهُوَ الْحَقُّ وَالْكُلَّابِيَّةُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ مِنْهُمْ. وَأَمَّا نُفَاةُ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُمْ أَيْضًا مُضْطَرُّونَ إلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ فَإِنْ أَخَذُوا يَقُولُونَ بَلْ هَذَا هُوَ هَذَا كَمَا يَقُولُهُ الْمُتَفَلْسِفَةُ فِي الْعَاقِلِ وَالْمَعْقُولِ وَالْعَقْلِ وَفِي الْوُجُودِ وَالْوُجُوبِ وَكَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَكَمَا يَقُولُهُ أَبُو الْهُذَيْلِ إنَّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ هُوَ اللَّهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ فَسَادَ هَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْبَدِيهِيَّاتِ فِي الْعُقُولِ ثُمَّ إذَا الْتَزَمُوا ذَلِكَ كَانَ لِكُلِّ مَنْ نَازَعَ أَنْ يَقُولَ فِيمَا أَنْكَرُوهُ كَمَا قَالُوهُ فِيمَا أَقَرُّوا بِهِ فَيَقُولُ الْمُجَسِّمُ أَنَا أَقُولُ إنَّ هَذَا الْجَانِبَ هُوَ هَذَا الْجَانِبُ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَيَقُولُ الصِّفَاتِيَّةُ كُلُّهُمْ نَحْنُ نَقُولُ الْعِلْمُ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْقُدْرَةُ هِيَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَيَقُولُ الْأَشْعَرِيَّةُ لِلْمُعْتَزِلَةِ نَحْنُ نَقُولُ الْأَمْرُ هُوَ النَّهْيُ وَيَقُولُ الْقَائِلُونَ بِالْحُرُوفِ وَالصَّوْتِ نَحْنُ نَقُولُ الْبَاءُ هِيَ السِّينُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ وَإِنْ قَالُوا بَلْ لَا نَقُولُ فِي هَذَيْنِ إنَّ أَحَدَهُمَا هُوَ الْآخَرُ وَلَا غَيْرُهُ أَوْ هُمَا مُتَغَايِرَانِ بِاعْتِبَارٍ دُونَ اعْتِبَارٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ فِيمَا نُوزِعُوا فِيهِ مِنْ التَّبْعِيضِ نَظِيرَ الْقَوْلِ فِيمَا أَقَرُّوا بِهِ وَهَذَا كَلَامٌ مَتِينٌ لَا انْفِصَالَ عَنْهُ بِحَالٍ وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَأْسِيسِ الرَّازِيّ. [الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ كَمَا يَعْقِلُ مُتَكَلِّمٌ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَاَلَّذِي أَوْجَبَ كَوْنَهُ ذَلِكَ قِدَمُهُ] الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ: قَوْلُهُ كَمَا يَعْقِلُ مُتَكَلِّمٌ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَاَلَّذِي أَوْجَبَ كَوْنَهُ ذَلِكَ قِدَمُهُ. يُقَالُ لَكِنْ مِنْ أَيْنَ فِي قِدَمِهِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَأَنْتَ لَمْ تَذْكُرْ ذَلِكَ وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي تَخْلِيصِ التَّلْبِيسِ عَلَى جَمِيعِ مَا احْتَجُّوا بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ وَبَيَّنَّا لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَدْنَى فَهْمٌ أَنَّ جَمِيعَ حُجَجِهِمْ دَاحِضَةٌ وَتَكَلَّمْنَا عَلَى طَرِيقِهِمْ الْمَشْهُورِ الَّذِي أَثْبَتُوا بِهِ حُدُوثَ الْأَجْسَامِ وَبَيَّنَّا اتِّفَاقَ السَّلَفِ عَلَى فَسَادِهَا فَإِنَّهَا فَاسِدَةٌ فِي الْعَقْلِ أَيْضًا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: إنْ حُجَّتَهُمْ عَلَى إنْكَارِ تَكَلُّمِ اللَّهِ بِالْحُرُوفِ يَنْقُضُ مَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ فَيَلْزَمُهُمْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إمَّا إنْكَارُ مَا أَثْبَتُوهُ مِنْ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ أَوْ الْإِقْرَارُ بِمَا أَنْكَرُوهُ مِنْ التَّكَلُّمِ بِالْحُرُوفِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، فِي كِتَابِ النَّقْضِ وَهُوَ فِي أَرْبَعِينَ سِفْرًا وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ فِي ثَلَاثِ مُجَلَّدَاتٍ وَتَكَلَّمَ عَلَى الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْحُرُوفِ وَقَالَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ السِّينَ مِنْ بِسْمِ بَعْدَ الْبَاءِ وَالْمِيمَ بَعْدَ السِّينِ وَالسِّينَ الْوَاقِعَةَ بَعْدَ الْبَاءِ لَا أَوَّلَ لَهُ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الْمَعْقُولِ إلَى أَجْحَدِ

الضَّرُورَةِ فَإِنَّ مَنْ اعْتَرَفَ بِوُقُوعِ شَيْءٍ بَعْدَ شَيْءٍ فَقَدْ اعْتَرَفَ بِأَوَّلِيَّتِهِ. فَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ لَا أَوَّلَ لِمَا لَهُ أَوَّلُ سَقَطَتْ مُكَالَمَتُهُ وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ تَكَلَّمَ بِالْحُرُوفِ دَفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ وَلَا تَعَاقُبٍ فِيهَا فَيُقَالُ لَهُمْ الْحُرُوفُ أَصْوَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ لَا شَكَّ فِي اخْتِلَافِهَا وَقَدْ اعْتَرَفَ خُصُوصًا بِاخْتِلَافِهَا وَزَعَمُوا أَنَّ لِلَّهِ ضُرُوبًا مِنْ الْكَلَامِ مُتَغَايِرَةً مُخْتَلِفَةً عَلَى اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَالْمَقَاصِدِ فِي الْعِبَارَاتِ وَكُلُّ صَوْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ الْأَصْوَاتِ مُتَضَادَّانِ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْمَحِلِّ الْوَاحِدِ وَقْتًا وَاحِدًا كَمَا يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُ كُلِّ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ الْأَلْوَانِ وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ ذَلِكَ وَيَكْشِفُهُ أَنَّا كَمَا نَعْلَمُ اسْتِحَالَةَ قِيَامِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ بِمَحِلٍّ وَاحِدٍ جَمِيعًا. فَكَذَلِكَ نَعْلَمُ اسْتِحَالَةَ صَوْتٍ خَفِيضٍ وَصَوْتٍ جَهُورِيٍّ بِمَحِلٍّ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ جَمِيعًا، وَهَذَا وَاضِحٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ وَالْمُخْتَلِفُ مِنْ الْأَصْوَاتِ يَتَضَادُّ كَمَا أَنَّ الْمُخْتَلِفَ مِنْ الْأَلْوَانِ يَتَضَادُّ وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ وَمُتَّصِفٌ بِالْوَحْدَانِيَّةِ مُتَقَدِّسٌ عَنْ التَّجَزُّؤِ وَالتَّبَعُّضِ وَالتَّعَدُّدِ وَالتَّرْكِيبِ وَالتَّأَلُّفِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ مَا قُلْنَاهُ اسْتَحَالَ قِيَامُ أَصْوَاتٍ مُتَضَادَّةٍ بِذَاتٍ مَوْصُوفَةٍ بِحَقِيقَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ. وَهَذَا مَا لَا مَخْلَصَ لَهُمْ مِنْهُ. فَإِنْ تَعَسَّفَ مِنْ الْمُقَلَّدِينَ مُتَعَسِّفٌ وَأَثْبَتَ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ جِسْمًا مُرَكَّبًا مِنْ أَبْعَاضٍ مُتَأَلِّفًا مِنْ جَوَارِحَ نَقْلنَا الْكَلَامَ مَعَهُ إلَى إبْطَالِ التَّجْسِيمِ وَإِيضَاحِ تَقَدُّسِ الرَّبِّ عَنْ التَّبْعِيضِ وَالتَّأْلِيفِ وَالتَّرْكِيبِ، فَيُقَالُ لَهُ هَذَا بِعَيْنِهِ وَأَرُدُّ عَلَيْك فِيمَا أَثْبَتَهُ مِنْ الْمَعَانِي، وَهُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ، فَإِنَّ الَّذِي نَعْلَمُهُ بِالضَّرُورَةِ فِي الْحُرُوفِ نَعْلَمُ نَظِيرَهُ بِالضَّرُورَةِ فِي الْمَعَانِي، فَالْمُتَكَلِّمُ مِنَّا إذَا تَكَلَّمَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَهُوَ بِالضَّرُورَةِ يَنْطِقُ بِالِاسْمِ الْأَوَّلِ لَفْظًا وَمَعْنًى قَبْلَ الثَّانِي، فَيُقَالُ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي نَظِيرَ مَا قَالَهُ فِي الْحُرُوفِ. فَيُقَالُ مَنْ اعْتَرَفَ بِأَنَّ مَعْنَى اسْمِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَعْدَ مَعْنَى بِسْمِ اللَّهِ، وَادَّعَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا أَوَّلَ لَهُ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الْمَعْقُولِ إلَى جَحْدِ الضَّرُورَةِ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّبَّ تَكَلَّمَ بِمَعَانِي الْحُرُوفِ دَفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ تَعَاقُبٍ وَلَا تَرْتِيبٍ، قِيلَ لَهُ مَعَانِي الْحُرُوفِ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ، لَا شَكَّ فِي اخْتِلَافِهَا، فَإِنَّ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِنَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَفْهُومَ مِنْ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ، لَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالنَّفْسِ الْمَفْهُومَ مِنْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْمَعْنَى فِي صِيَغِ الْأَمْرِ لَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى فِي صِيَغِ

الْإِخْبَارِ، فَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ هَذَا أَوْ يَمْنَعَ فَإِنْ سَلَّمَ كَمَا سَلَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ خَمْسُ حَقَائِقَ تُكُلِّمَ مَعَهُ حِينَئِذٍ وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ قِيلَ لَهُ الْعِلْمُ بِاخْتِلَافِ هَذِهِ الْمَعَانِي ضَرُورِيٌّ بَدِيهِيٌّ لَيْسَ هُوَ بِدُونِ الْعِلْمِ بِتَعَاقُبِ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي، وَلَا بِدُونِ الْعِلْمِ بِاخْتِلَافِ الْأَصْوَاتِ بَلْ أَصْوَاتُ الْمُصَوِّتِ الْوَاحِدِ أَقْرَبُ تَشَابُهًا مِنْ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ وَهَذَا الْأَمْرُ مَحْسُوسٌ، وَمَنْ أَنْكَرَهُ سَقَطَتْ مُكَالَمَتُهُ أَبْلَغُ مِمَّا تَسْقُطُ مُكَالَمَةُ ذَاكَ، وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ لَهُ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةُ مُتَضَادَّةٌ فِي حَقِّنَا فَإِنَّا نَجِدُ مِنْ نُفُوسِنَا أَنَّهَا عِنْدَ تَصَوُّرِ مَعَانِي كَلَامٍ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تُتَصَوَّرَ مَعَانِي كُلِّ كَلَامٍ، كَمَا نَجِدُ مِنْ نُفُوسِنَا أَنَّا عِنْدَ التَّكَلُّمِ بِصَوْتٍ لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِصَوْتٍ آخَرَ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الِامْتِنَاعُ لِذَاتِ الْمَعْنَيَيْنِ وَالصُّورَتَيْنِ امْتَنَعَ أَنْ يَقُومَ ذَلِكَ بِمَحِلٍّ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ لِعَجْزِنَا عَنْ ذَلِكَ كَمَا نَعْجِزُ عَنْ اسْتِحْضَارِ عُلُومٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُون ذَلِكَ مُمْتَنِعًا فِي حَقِّ اللَّهِ وَلَا مُمْتَنِعًا أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مَعَانِيَ كَثِيرَةً مُخْتَلِفَةً وَأَصْوَاتًا كَثِيرَةً مُخْتَلِفَةً. قَوْلُهُ وَكُلُّ صَوْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ الْأَصْوَاتِ مُتَضَادَّانِ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْمَحِلِّ الْوَاحِدِ وَقْتًا وَاحِدًا، فَيُقَالُ لَهُ أَمَّا الَّذِي نَجِدُهُ فَإِنَّا لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَجْمَعَ بَيْنَ صُورَتَيْنِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ وَقْتًا وَاحِدًا سَوَاءٌ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ مُتَمَاثِلَيْنِ، فَلَيْسَ الِامْتِنَاعُ فِي ذَلِكَ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْأَصْوَاتِ، وَكَذَلِكَ لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَسْتَحْضِرَ فِي قُلُوبِنَا الْمَعَانِيَ الْكَثِيرَةَ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ فِي الزَّمَنِ الْوَاحِدِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً أَوْ مُتَمَاثِلَةً وَإِنْ قَدَرْنَا أَنْ نَجْمَعَ مِنْ الْمَعَانِي فِي قُلُوبِنَا مَا لَا نَقْدِرُ عَلَى أَنْ نَجْمَعَ لَفْظَهُ مِنْ الْأَصْوَاتِ. فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقَلْبَ أَوْسَعُ مِنْ الْجَسَدِ لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَجِدَ كُلُّ أَحَدٍ نَفْسَهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا مَعَانٍ كَثِيرَةٌ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ صُورَتَيْنِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ وَقِيَاسُ الْأَصْوَاتِ بِالْمَعَانِي وَهِيَ مُطَابِقَةٌ لَهَا وَقَوَالِبُ لَهَا أَجْوَدُ مِنْ قِيَاسِهَا بِالْأَلْوَانِ وَمَا أَلْزَمُوهُ فِي الْمَعَانِي مِنْ أَنَّهَا مَعْنًى وَاحِدُ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ لَيْسَ فِي مُخَالَفَتِهِ لِبَدِيهَةِ الْعُقُولِ بِدُونِ أَنْ يُقَالَ يَكُونُ حَرْفٌ وَاحِدٌ هُوَ الْبَاءُ وَالسِّينُ وَإِذَا لَمْ يَقُلْ هَذَا وَهُوَ نَظِيرُهُ فَلَا رَيْبَ أَنْ أَقُولَ بِجَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْمَحِلِّ الْوَاحِدِ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ مِنْ كَوْنِ الْأَمْرِ هُوَ النَّهْيُ وَهُمَا الْخَبَرُ فَالْقَوْلُ بِاجْتِمَاعِ الصِّفَتَيْنِ الْمُتَضَادَّتَيْنِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ أَقْرَبُ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى. وَمَنْ قَالَ الْكَلَامُ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ، وَأَنَّهَا كُلَّهَا مُجْتَمَعَةٌ قَائِمَةٌ بِمَحِلٍّ وَاحِدٍ

الوجه الخامس والخمسون إن هؤلاء المثبتين للحروف القديمة قالوا ما هو أقرب إلى المعقول

فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ بِاجْتِمَاعِ حُرُوفِهَا فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ؛ وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ عَلَى أَصْلِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ فَحْلُ الطَّائِفَةِ أَنَّ النَّسْخَ رَفَعَ الْحُكْمَ بِعَيْنِهِ وَهَذَا اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ فَيَكُونُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَ بِشَيْءٍ وَنَهَى عَنْ نَفْسِ مَا أَمَرَ بِهِ كَمَا فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ مُضَادٌّ لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي فِطَرِ الْعُقُولِ أَعْظَمُ مِنْ مُضَادَّةِ السَّوَادِ لِلْبَيَاضِ فَإِذَا كَانُوا يَلْتَزِمُونَ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى يَجْعَلُونَ الضِّدَّيْنِ شَيْئًا وَاحِدًا كَيْفَ يَمْنَعُونَ اجْتِمَاعَ حَرْفَيْنِ أَوْ صَوْتَيْنِ وَذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ، وَهَذَا الْكَلَامُ لَازِمٌ لِجَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ حَكَوْا عَنْ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، هَلْ هِيَ؛ مُتَعَاقِبَةٌ أَوْ يَتَكَلَّمُ بِهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً قَوْلَيْنِ. كَمَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْ الْأَصْوَاتِ. [الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ إنَّ هَؤُلَاءِ الْمُثْبِتِينَ لِلْحُرُوفِ الْقَدِيمَةِ قَالُوا مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ] الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ: إنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنْبِتِينَ لِلْحُرُوفِ الْقَدِيمَةِ قَالُوا مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ فَقَالُوا التَّرْتِيبُ وَالتَّعَاقُبُ نَوْعَانِ تَرْتِيبٌ وُجُودِيٌّ زَمَانِيٌّ كَتَرْتِيبِ الِابْنِ عَلَى الْأَبِ وَالْيَوْمِ عَلَى الْأَمْسِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يَمْتَنِعُ فِي الْقَدِيمِ الْأَزَلِيِّ، وَالثَّانِي: تَرْتِيبٌ ذَاتِيٌّ حَقِيقِيٌّ لَيْسَ بِزَمَانِيٍّ كَتَرْتِيبِ الصِّفَاتِ عَلَى الذَّاتِ، وَالْعِلْمِ عَلَى الْحَيَاةِ وَالْمَعْلُولِ عَلَى عِلَّتِهِ الْمُقَارِنَةِ لَهُ إذَا قُدِّرَ ذَلِكَ فَإِنَّا نَعْقِلُ هُنَا تَرْتِيبَاتٍ وَتَقَدُّمًا وَتَأَخُّرًا بِالذَّاتِ دُونَ الْوُجُودِ وَالزَّمَانِ. وَهَذَا كَمَا لَوْ فُرِضَ مُصْحَفٌ كُتِبَ آخِرُهُ قَبْلَ أَوَّلِهِ، فَإِنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى آخِرِهَا بِالذَّاتِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ كُتِبَ بَعْدَهُ قَالُوا وَالْكَلَامُ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ مُتَرَتِّبٌ فِي حَقِّ اللَّهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا بِالتَّرْتِيبِ الزَّمَانِيِّ، كَمَا يُوجَدُ فِي قِرَاءَةِ الْقَارِئِينَ مِنْ تَرْتِيبِ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ جَمِيعًا فِي الزَّمَانِ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ لَا يُنَافِي قِدَمَهُ وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا فِي هَذَا مِنْ إثْبَاتِ تَعَدُّدِ الْمَعَانِي لِتَعَدُّدِ الْحُرُوفِ وَالْحُكْمِ عَلَيْهِمَا بِحُكْمٍ وَاحِدٍ وَإِثْبَاتُ الْقِدَمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ مِنْ جَعْلِ الْحَقَائِقِ الْمُخْتَلِفَةِ مَعْنًى وَاحِدًا ثُمَّ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمَعْنَى وَالْحُرُوفِ بِالتَّحْكِيمِ، فَإِنَّ هَذَا فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ بِجَعْلِهِمَا شَيْئًا وَاحِدًا وَتَفْرِيقٌ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فِيمَا اشْتَرَكَا فِيهِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ: أَنْ نَقُولَ قَوْلُكُمْ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُ الصَّوْتَيْنِ فِي الْمَحِلِّ الْوَاحِدِ وَأَثْبَتُّمْ ذَلِكَ شَاهِدًا وَغَائِبًا، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ وَحْدَةَ الْبَارِي عِنْدَكُمْ لَا

الوجه السابع والخمسون اجتماع العلم بالشيء والرؤية في محل واحد في وقت واحد ممتنع في حقنا

تُنَاسِبُ وَحْدَةَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ كَوَحْدَةِ الْأَجْسَامِ، وَلَيْسَ عِنْدَكُمْ فِي الشَّاهِدِ مَا هُوَ وَاحِدٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إلَّا الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ فَقَوْلُكُمْ بَعْدَ هَذَا يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُ الصَّوْتَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي الْمَحِلِّ الْوَاحِدِ وَقْتًا وَاحِدًا كَمَا يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُ اللَّوْنَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَا وَاحِدَ يُفْرَضُ ذَلِكَ فِيهِ شَاهِدًا إلَّا الْجِسْمَ، وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَوْنِ الْجِسْمِ وَاحِدًا فَيُقَالُ هَبْ أَنَّ الْجِسْمَ لَا يَقْبَلُ اجْتِمَاعَ صَوْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، كَمَا لَا يَقْبَلُ مَعْنًى وَاحِدًا يَكُونُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا وَاسْتِخْبَارًا، فَهَلَّا قُلْتُمْ إنَّ الْوَاحِدَ الَّذِي لَيْسَ بِجِسْمٍ يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ أَصْوَاتٍ فِيهِ كَمَا قُلْتُمْ إنَّهُ يَقُومُ بِهِ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ، فَلَمَّا قِيلَ لَكُمْ كَيْفَ يُعْقَلُ هَذَا قُلْتُمْ يُعْقَلُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الْوَاجِبِ لِقِدَمِهِ الْمَانِعِ مِنْ كَوْنِهِ مُتَغَايِرًا مُخْتَلِفًا كَمَا يُعْقَلُ مُتَكَلِّمٌ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى قِدَمِ الْكَلَامِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَعَانِي وَالْحُرُوفِ وَإِنَّمَا فَرَّقْتُمْ لِمُعَارِضٍ، أَخْرَجَ الْحُرُوفَ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا اعْتَقَدْتُمُوهُ مِنْ وُجُوبِ حُدُوثِهَا كَمَا ذَكَرْتُمْ هُنَا، وَهَذَا الدَّلِيلُ يَلْزَمُ أَقْوَى مِنْهُ فِي الْمَعَانِي، فَلَوْ قُلْتُمْ نَعْقِلُ حُرُوفًا مُجْتَمِعَةً أَوْ أَصْوَاتٍ مُجْتَمِعَةً فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ بِالدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ إذْ كَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ حَتَّى يَكُونَ الْقَائِمُ بِهَذَا الْبَعْضِ مُغَايِرًا لِلْقَائِمِ بِالْبَعْضِ الْآخَرِ، وَإِذَا لَمْ تَجِبْ الْمُغَايَرَةُ فِيمَا قَامَ بِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَقُومَ بِهِ الصَّوْتُ الَّذِي هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ أَصْوَاتٌ إذْ الِاخْتِلَافُ فَرْعٌ لِلتَّغَايُرِ، فَمَا لَا تَغَايُرَ فِيهِ يَمْتَنِعُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ مَا يَقُومُ بِهِ لَا يُغَايِرُ فَأَنْ لَا يَخْتَلِفَ أَوْلَى وَأَحْرَى فَفُرِضَ قِيَامُ صَوْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِهِ وَالْحَالُ هَذِهِ يَمْتَنِعُ عَلَى مَا أَصَّلْتُمُوهُ. [الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ اجْتِمَاعَ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ وَالرُّؤْيَةِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّنَا] الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: إنَّ اجْتِمَاعَ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ وَالرُّؤْيَةِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّنَا، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِهِ وَسَمْعُهُ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ أَثْبَتُّمْ الْبَارِيَ يَعْلَمُ الْمَوْجُودَاتِ وَيَرَاهَا، وَالْعِلْمُ وَالرُّؤْيَةُ قَائِمَانِ بِمَحِلٍّ وَاحِدٍ عِنْدَكُمْ، وَأَيْضًا فَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي وَسَائِرِ أَئِمَّتِهِمْ أَوْ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالصِّفَاتُ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ الَّتِي لَا تَنْقَسِمُ كَقِيَامِ الْعِلْمِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقُدْرَةِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ قِيَامَ الْقُدْرَةِ وَالْيَدَيْنِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ مُمْتَنِعٌ عِنْدَنَا. بَلْ عِنْدَنَا أَنَّ الْيَدَيْنِ مَحِلُّ الْقُدْرَةِ، فَإِذَا أَثْبَتُّمْ يَدًا وَوَجْهًا وَصَفْتُمُوهُمَا بِذَلِكَ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ ثُبُوتِ حُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ وَيُمْكِنُكُمْ أَنْ تَقُولُوا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ بِالْمَخْلُوقِينَ فَلَا يَجِبُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهَا بِحُكْمِهَا.

الوجه التاسع والخمسون القول بالتجزؤ والتبعيض والتعدد والتركيب والتأليف في كلام الله

الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: إنَّ قَوْلَهُ الرَّبُّ وَاحِدٌ وَمُتَّصِفٌ بِالْوَحْدَانِيَّةِ مُتَقَدِّسٌ عَنْ التَّجَزُّؤِ وَالتَّبْعِيضِ وَالتَّعَدُّدِ وَالتَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ يَسْتَحِيلُ قِيَامُ أَصْوَاتٍ مُتَضَادَّةٍ بِذَاتٍ مَوْصُوفَةٍ بِحَقِيقَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ، يُقَالُ لَهُ هَذَا يَلْزَمُك فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ فَإِنَّ الذَّاتَ الَّتِي لَا يَتَمَيَّزُ فِي الْعِلْمِ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ شَيْءٍ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ بِهَا صِفَاتٌ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، إذْ ذَلِكَ يُوجِبُ مِنْ التَّعَدُّدِ وَالتَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ وَالتَّجَزُّؤِ وَالتَّبْعِيضِ نَطِيرَ مَا نَفَاهُ وَهُوَ مِنْ حُجَّةِ نُفَاةِ الصِّفَاتِ عَلَيْهِ. وَلَمَّا قَالَ لَهُ مُخَالَفَةُ لَا نَعْقِلُ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ يَقُومُ إلَّا بِجِسْمٍ، وَلَا يَعْقِلُ الْيَدَ وَالْوَجْهَ إلَّا بَعْضًا مِنْ جِسْمٍ قَالَ لَا يَجِبُ. هَذَا كَمَا لَا يَجِبُ إذَا لَمْ نَعْقِلْ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إلَّا جِسْمًا أَنْ يَكُونَ الْغَائِبُ كَذَلِكَ فَأَلْزَمَ مُخَالَفَةَ إثْبَاتِهِ لِحَيٍّ عَالِمٍ قَادِرٍ فِي مُتَّصِفٍ بِهَذِهِ الْوَحْدَةِ الَّتِي وَافَقَ خَصْمُهُ عَلَيْهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي مُخَالَفَةِ صَرِيحِ الْعَقْلِ سِوَاهُ فَكَوْنُهُ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ شَيْءٍ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إذْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِمَعَانٍ يَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بَلْ يَأْبَى ثُبُوتُ مَوْجُودٍ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ قَدِيمًا أَوْ حَادِثًا إذْ لَا بُدَّ لِلْمَوْجُودِ مِنْ أُمُورٍ مُتَمَيِّزَةٍ فِيهِ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِثُبُوتِ مَا نَفَاهُ، فَهَذَا التَّوْحِيدُ الَّذِي ابْتَدَعُوهُ هُوَ التَّعْطِيلُ الْمَحْضُ وَهُوَ تَشْبِيهُ الْبَارِي بِالْمَعْدُومَاتِ. [الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ الْقَوْل بِالتَّجَزُّؤِ وَالتَّبْعِيضِ وَالتَّعَدُّدِ وَالتَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ فِي كَلَام اللَّه] الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ: قَوْلُك لِأَنَّهُ مُقَدَّسٌ عَنْ التَّجَزُّؤِ وَالتَّبْعِيضِ وَالتَّعَدُّدِ وَالتَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ. يُقَالُ هَذِهِ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ فَإِنْ أَرَدْت الْمَعْنَى الْمَعْرُوفَ فِي اللُّغَةِ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِثْلَ أَنْ تُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَنْفَصِلُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ وَلَا يَتَجَزَّأُ فَيُفَارِقُ جُزْءٌ مِنْهُ جُزْءًا كَمَا هُوَ الْمَعْقُولُ مِنْ التَّجَزُّؤِ وَلَا يَتَعَدَّدُ فَيَكُونُ إلَهَيْنِ أَوْ رَبَّيْنِ أَوْ خَالِقَيْنِ وَلَمْ يُرَكَّبْ فَيُؤَلَّفُ فَيَجْمَعُ بَيْنَ أَبْعَاضِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8] أَوْ مَا يُشْبِهُ هَذِهِ الْأُمُورَ، فَهَذَا كُلُّهُ يُنَافِي صَمَدَانِيَّتَهُ وَلَكِنْ لَا يُنَافِي قِيَامَ مَا يُثْبِتُهُ مِنْ الْأَصْوَاتِ كَمَا لَا يُنَافِي قِيَامَ سَائِرِ الصِّفَاتِ وَإِنْ أَرَدْت بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ شَيْءٍ فَهَذَا بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ وَبَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ وَهُوَ لَازِمٌ لِمَنْ نَفَاهُ لُزُومًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا بَسْطًا مُسْتَوْفِيًا فِي كِتَابِ بَيَانُ تَلْبِيسِ الْجَهْمِيَّةِ فِي تَأْسِيسِ بِدْعَتِهِمْ الْكَلَامِيَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فَإِنْ تَعَسَّفَ مِنْ الْمُقَلَّدِينَ مُتَعَسِّفٌ وَأَثْبَتَ الرَّبَّ تَعَالَى جِسْمًا مُرَكَّبًا مِنْ أَبْعَاضٍ مُتَآلِفًا مِنْ جَوَارِحَ نَقَلْنَا الْكَلَامَ مَعَهُ إلَى إبْطَالِ الْجِسْمِ وَإِيضَاحِ تَقَدُّسِ الرَّبِّ عَنْ

التَّبْعِيضِ وَالتَّأْلِيفِ وَالتَّرْكِيبِ فَيُقَالُ لَهُ الْكَلَامُ فِي وَصْفِ اللَّهِ بِالْجِسْمِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا بِدْعَةً لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِجِسْمٍ كَمَا لَمْ يَقُولُوا أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ بَلْ مَنْ أَطْلَقَ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ اسْتَفْصَلَ عَمَّا أَرَادَ بِذَلِكَ فَإِنَّ فِي لَفْظِ الْجِسْمِ بَيْنَ النَّاطِقِينَ بِهِ نِزَاعًا كَثِيرًا فَإِنْ أَرَادَ تَنْزِيهَهُ عَنْ مَعْنًى يَجِبُ تَنْزِيهُ عَنْهُ مِثْلَ أَنْ يُنَزِّهَهُ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ فَهَذَا حَقٌّ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ جَعَلَ الرَّبَّ جِسْمًا مِنْ جِنْسِ الْمَخْلُوقَاتِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُبْتَدَعَةِ ضَلَالًا دَعْ مَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَحْمٌ وَدَمٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الضَّلَالَاتِ الْمَنْقُولَةِ عَنْهُمْ وَإِنْ أَرَادَ نَفْيَ مَا ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ وَحَقِيقَةُ الْعَقْلِ أَيْضًا مِمَّا وَصَفَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ وَلَهُ فَهَذَا حَقٌّ وَإِنْ سُمِّيَ ذَلِكَ تَجْسِيمًا أَوْ قِيلَ إنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تَكُونُ إلَّا لِجِسْمٍ فَمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ هُوَ حَقٌّ وَإِذَا لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَعْنِيهِ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِلَفْظِ الْجِسْمِ فَلَازِمِ الْحَقِّ حَقٌّ كَيْفَ وَالْمُثْبِتَةُ تَقُولُ إنَّ ثُبُوتَ هَذَا مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَنَظَرِهِ وَهَكَذَا مُثْبِتُ لَفْظِ الْجِسْمِ إنْ أَرَادَ بِإِثْبَاتِهِ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ صَوَّبْنَا مَعْنَاهُ وَمَنَعْنَاهُ عَنْ الْأَلْفَاظِ الْمُبْتَدَعَةِ الْمُجْمَلَةِ وَإِنْ أَرَادَ بِلَفْظِ الْجِسْمِ مَا يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهُ مِنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ رَدَدْنَا ذَلِكَ عَلَيْهِ وَبَيَّنَّا ضَلَالَهُ وَإِفْكَهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ نَقْلنَا الْكَلَامَ مَعَهُ إلَى إبْطَالِ التَّجْسِيمِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَدِلَّةَ النَّافِينَ وَالْمُثْبَتِينَ مُسْتَوْفَاةً فِي بَيَانُ تَلْبِيسِ الْجَهْمِيَّةِ فِي تَأْسِيسِ بِدَعِهِمْ الْكَلَامِيَّةِ وَتَبَيَّنَ لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَدْنَى فَهْمٌ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَدِلَّةِ النَّفْيِ كُلِّهَا حُجَجٌ دَاحِضَةٌ وَأَنَّ جَانِبَ الْمُثْبِتَةِ أَقْوَى وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الَّذِي أَقُولُ إنَّهُ إذَا نُظِرَ إلَى إسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَسَعْدٍ وَسَعِيدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَائِرِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَجَمِيعِ الْوُفُودِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَعْرِفْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إلَّا بِتَصْدِيقِ النَّبِيِّينَ وَأَعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَدَلَائِلِ الرِّسَالَةِ لَا مِنْ قَبْلِ حَرَكَةٍ وَلَا سُكُونٍ وَلَا مِنْ بَابِ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ وَلَا مِنْ بَابِ كَانَ وَيَكُونُ وَلَوْ كَانَ النَّظَرُ فِي الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ عَلَيْهِمْ وَاجِبًا وَفِي الْجِسْمِ وَنَفْيِهِ وَالتَّشْبِيهِ وَنَفْيِهِ لَازِمًا مَا أَضَاعُوهُ وَلَوْ أَضَاعُوا الْوَاجِبَ لَمَا نَطَقَ الْقُرْآنُ بِتَزْكِيَتِهِمْ وَتَقْدِيمِهِمْ وَلَا أَطْنَبَ فِي مَدْحِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِلْمِهِمْ مَشْهُورًا وَمِنْ أَخْلَاقِهِمْ مَعْرُوفًا لَاسْتَفَاضَ عَنْهُمْ وَشَهَرُوا بِهِ كَمَا شَهَرُوا بِالْقُرْآنِ وَالرِّوَايَاتِ.

الْوَجْهُ السِّتُّونَ: إنَّ قَوْلَهُ وَالرَّبُّ وَاحِدٌ وَمُتَّصِفٌ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَمُتَقَدِّسٌ عَنْ التَّجَزُّؤِ وَالتَّبْعِيضِ وَقَوْلُ ابْنِ فُورَكٍ لِأَنَّ الرَّبَّ مُتَكَلِّمٌ وَاحِدٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ الَّتِي يَصِفُونَ فِيهَا الرَّبَّ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ وَيُشْعِرُونَ النَّاسَ أَنَّهُمْ بِذَلِكَ مُوَحِّدُونَ وَأَنَّ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَهُمْ فِي التَّوْحِيدِ وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْإِلْحَادِ الَّتِي أَفْسَدُوا بِهَا التَّوْحِيدَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْأَصْلُ الْمُحْدَثُ قَدْ زَيَّنَ لِهَؤُلَاءِ وَلِغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْمُسْلِمِينَ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ بِذَلِكَ مُحْسِنُونَ حَتَّى سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ مُوَحِّدِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ أَحَقُّ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ مِنْهُمْ وَحَتَّى كَفَرُوا وَعَادَوْا الْمُسْلِمِينَ أَهْلَ التَّوْحِيدِ حَقًّا وَكَانُوا عَلَى الْأُمَّةِ أَضَرَّ مِنْ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ الَّذِي يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ وَهَؤُلَاءِ الْكِلَابِيَّةُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ إنَّمَا أَخَذُوهُ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْجَهْمِيَّةِ وَلَمْ يُوَافِقُوهُمْ عَلَيْهِ كُلِّهِ بَلْ وَافَقُوهُمْ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ وَهَذَا هُوَ أَصْلُ جَهْمٍ الَّذِي أَسَّسَ عَلَيْهِ ضَلَالَاتِهِ وَهَؤُلَاءِ يُفَسِّرُونَ التَّوْحِيدَ وَاسْمَ اللَّهِ الْوَاحِدِ فِي أُصُولِ دِينِهِمْ بِثَلَاثَةِ مَعَانٍ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا التَّوْحِيدُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ فِي تَحْقِيقِ تِلْكَ الْمَعَانِي اخْتِلَافًا عَظِيمًا فَيَقُولُونَ فِي اسْمِ اللَّهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ لَهُ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ إحْدَاهَا: الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَجَزَّأُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَرَكَّبُ وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا تَفْسِيرُ اسْمِ الْأَحَدِ وَهَذِهِ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا هُنَا. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي إرْشَادِهِ الْقَوْلُ فِي وَحْدَانِيَّةِ الْبَارِي. فَصْلٌ فِي حَقِيقَةِ الْوَاحِدِ قَالَ أَصْحَابُنَا الْوَاحِدُ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ أَوْ لَا يَصِحُّ انْقِسَامُهُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَلَوْ قُلْت الْوَاحِدُ هُوَ الشَّيْءُ كَانَ كَافِيًا هُوَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَرْكِيبٌ وَفِي قَوْلِ الْقَائِلِ الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ نَوْعُ تَرْكِيبٍ. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي يُقَالُ لِلْقَاضِي التَّرْكِيبُ الْمَحْدُودُ هُوَ أَنْ يَأْتِيَ إلْحَادٌ بِوَصْفٍ زَائِدٍ يَسْتَغْنِي عَنْهُ وَقَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْ الشَّيْءِ الْمُطْلَقِ مَا يُفْهَمُ مِنْ الْمُقَيَّدِ فَلَيْسَ يُفْهَمُ مِنْ الشَّيْءِ مَا يُفْهَمُ مِنْ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ فَإِنَّ الْوَحْدَةَ تُشْعِرُ بِانْتِفَاءِ الْقِسْمَةِ عَنْ الشَّيْءِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ التَّحْدِيدِ الْإِيضَاحُ أَجَابَ الْقَاضِي بِأَنْ قَالَ كَلَامُنَا فِي الْحَقَائِقِ وَالشَّيْءِ الْمُطْلَقِ هُوَ الْوَاحِدُ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ. يُقَالُ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَحْدَةَ تُشْعِرُ بِانْتِفَاءِ الْقِسْمَةِ عَنْ الشَّيْءِ فَهُمَا أَمْرَانِ مُتَلَازِمَانِ لَا

بُدَّ مِنْ التَّعْرِيضِ لَهُمَا كَمَا قُلْنَا فِي الْغِيَرَيْنِ كُلُّ مَوْجُودَيْنِ يَجُوزُ مُفَارَقَةُ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ بِوَجْهٍ ثُمَّ قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا سُئِلْنَا عَنْ الْوَاحِدِ فَنَقُولُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ تَرَدَّدَتْ بَيْنَ مَعَانٍ فَقَدْ يُرَادُ بِهَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ وُجُودُهُ الْقِسْمَةَ وَقَدْ يُطْلَقُ وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْإِشْكَالِ وَالنَّظَائِرِ عَنْهُ وَقَدْ يُطْلَقُ وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَلَاذَ سِوَاهُ وَهَذِهِ الْمَعَانِي مُتَحَقِّقَةٌ فِي وَصْفِ الْقَدِيمِ سُبْحَانَهُ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لَا قَسِيمَ لَهُ وَوَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ لَا شَبِيهَ لَهُ وَوَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ قَالَ شَارِحُ الْإِرْشَادِ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ شَيْخُ الشِّهْرِسْتَانِيّ وَحَكَى عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ الْوَاحِدُ هُوَ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الرَّفْعَ وَالْوَضْعَ يَعْنِي الْفَصْلَ وَالْوَصْلَ أَشَارَ إلَى وَحْدَةِ الْإِلَهِ فَإِنَّ الْجَوْهَرَ وَاحِدٌ لَا يَنْقَسِمُ وَلَكِنْ يَقْبَلُ النِّهَايَةَ، الْإِلَهُ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَا يَقْبَلُ فَصْلًا وَلَا وَصْلًا وَنَحْنُ قَدْ أَقَمْنَا الدَّلَالَةَ فِي مَسْأَلَةِ نَفْيِ التَّجْسِيمِ عَلَى نَفْيِ الْأَقْسَامِ وَأَقَمْنَا الدَّلَالَةَ عَلَى نَفْيِ الْمِثْلِ وَبَقِيَ عَلَيْنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ الشَّرِيكِ قُلْت أَمَّا نَفْيُ الْمِثْلِ عَنْ اللَّهِ وَنَفْيُ الشَّرِيكِ فَثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ لَكِنْ قَدْ يُدْخِلُ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةِ بَلْ يَنْفِيَانِهِ وَأَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ بِنَفْيِ الِانْقِسَامِ فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ قَطُّ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ يُقَالُ إنَّهُ وَاحِدٌ إلَّا الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يُقَالُ ذَلِكَ لِلْجَوْهَرِ الْفَرْدِ مَعَ أَنَّ أَبَا الْمَعَالِي هُوَ مِنْ الشَّاكِّينَ فِي ثُبُوتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ فَإِذًا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِشَيْءٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ إنَّهُ وَاحِدٌ وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْعَقْلِ وَإِذْ قِيلَ الْوَاحِدُ هُوَ الشَّيْءُ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فَلَا يَكُونُ قَدْ خَلَقَ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ وَاحِدًا عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي فَسَّرُوهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يُسَمِّيَ أَحَدٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ شَيْئًا ثُمَّ إنَّهُمْ يُسَمُّونَ؛ أَهْلَ الْكَلَامِ الْمُوَحِّدِينَ وَيُسَمُّونَ مَا كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَهُ الْكَلَامَ عِلْمَ التَّوْحِيدِ حَتَّى قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي أَوَّلِ إرْشَادِهِ بَعْدَ أَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الْبَالِغِ بِاسْتِكْمَالٍ مِنْ الْبُلُوغِ أَوْ الْحُلُمِ شَرْعًا الْقَصْدُ إلَى النَّظَرِ الصَّحِيحِ الْمُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ. قَالَ وَالنَّظَرُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُوَحِّدِينَ هُوَ الْفِكْرُ الَّذِي يَطْلُبُ مَنْ قَامَ بِهِ عِلْمًا أَوْ غَلَبَةَ ظَنٍّ وَأَيْضًا فَإِنَّ اسْمَ الْوَاحِدِ أَوْ الْأَحَدِ قَدْ جَعَلُوا لِلَّهِ فِيهِ شَرِيكًا آخَرَ لِمَوْجُودَاتٍ وَهُوَ الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ وَجَعَلَتْ الْمُتَفَلْسِفَة لَهُ فِي ذَلِكَ شُرَكَاءَ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ كَالنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ عُمْدَةَ أَصْحَابِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ

لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُون مَحِلًّا لِلْحَوَادِثِ هُوَ مِمَّا لَا رَيْبَ فِيهِ مَنْ يَعْرِفُ أُصُولَ الْكَلَامِ وَاعْتَبَرَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ أَفْضَلَ مُتَأَخِّرِيهِمْ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ فِي إرْشَادِهِ الَّذِي الْتَزَمَ أَنْ يَذْكُرَ فِيهِ قَوَاطِعَ الْأَدِلَّةِ. فَإِنَّهُ قَالَ فَصْلٌ الْبَارِي تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ آمِرٌ نَاهٍ مُخْبِرٌ وَاعِدٌ مُتَوَعِّدٌ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي خُلَلِ إثْبَاتِ أَحْكَامِ الصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ أَنَّ الطَّرِيقَ إلَى إثْبَاتِ الْعِلْمِ بِكَوْنِ الرَّبِّ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا عِنْدَ أُسْتَاذِنَا نَفَى النَّقَائِصَ إلَى السَّمْعِ وَتَوْجِيهِنَا عَلَى أَنْفُسِنَا السُّؤَالَ عَمَّا ثَبَتَ بِالسَّمْعِ قَالَ فَإِذَا صَحَّ كَوْنُ الْبَارِي مُتَكَلِّمًا فَقَدْ آنَ أَنْ نَتَكَلَّمَ فِي صِفَةِ كَلَامِهِ فَاعْلَمُوا أُوقِيتُمْ الْبِدَعَ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ أَزَلِيٍّ لَا مُفْتَتَحَ لِوُجُودِهِ وَأَطْبَقَ الْمُنْتَمُونَ إلَى الْإِسْلَامِ عَلَى إثْبَاتِ الْكَلَامِ وَلَمْ يَصِرْ مِنْهُمْ صَائِرٌ إلَى نَفْيِهِ وَلَمْ يَنْتَحِلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا نِحْلَةَ نُفَاةِ الصِّفَاتِ فِي كَوْنِهِ عَالِمًا قَادِرًا حَيًّا ثُمَّ ذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَالزَّيْدِيَّةُ وَالْإِمَامِيَّةِ وَمَنْ عَدَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إلَى أَنَّ كَلَامَ الْبَارِي تَعَالَى عَنْ قَوْلِ الزَّائِغِينَ حَادِثٌ مُسْتَفْتِحُ الْوُجُودِ وَصَارَ صَائِرُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ إلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ مَخْلُوقًا مَعَ الْقَطْعِ بِحُدُوثِهِ لِمَا فِي لَفْظِ الْمَخْلُوقِ مِنْ إيهَامِ الْخَلْقِ إذْ الْكَلَامُ الْمُخْتَلَقُ هُوَ الَّذِي يُبْدِيهِ الْمُتَكَلِّمُ تَخَرُّصًا مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ وَأَطْلَقَ مُعْظَمُ الْمُعْتَزِلَةِ لَفْظَ الْمَخْلُوقِ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ وَذَهَبَتْ الْكَرَّامِيَّةُ إلَى أَنَّ الْكَلَامَ قَدِيمٌ وَالْقَوْلَ حَادِثٌ غَيْرُ مُحْدَثٍ وَالْقُرْآنَ قَوْلُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى الْقُدْرَةُ عَلَى التَّكَلُّمِ وَقَوْلُهُ حَادِثٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى عَلَى قَوْلِ الْمُبْطِلِينَ وَهُوَ غَيْرُ قَائِلٍ بِالْقَوْلِ الَّذِي قَامَ بِهِ بَلْ هُوَ قَائِلٌ بِالْقَابِلِيَّةِ وَكُلُّ مُفْتَتِحِ وُجُودِهِ قَائِمٌ بِالرَّبِّ فَهُوَ حَادِثٌ بِالْقُدْرَةِ غَيْرُ مُحْدَثٍ وَكُلُّ مُحْدَثٍ مُبَايِنٌ لِلذَّاتِ فَهُوَ مُحْدَثٌ بِقَوْلِهِ كُنْ لَا بِالْقُدْرَةِ فِي هَذَيَانٍ طَوِيلٍ لَا يَسَعُ هَذَا الْمُعْتَقَدَ اسْتِقْصَاؤُهُ وَغَرَضُنَا مِنْ إيضَاحِ الْحَقِّ وَالرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِيهِ لَا يَتَبَيَّنُ إلَّا بَعْدَ عَقْدِ فُصُولٍ فِي مَاهِيَّةِ الْكَلَامِ وَحَقِيقَتِهِ شَاهِدًا حَتَّى إذَا وَضَحَتْ الْأَغْرَاضُ مِنْهَا انْعَطَفْنَا بَعْدَهَا إلَى مَقْصِدِنَا وَقَدْ الْتَزَمْنَا التَّمَسُّكَ بِالْقَوَاطِعِ فِي هَذَا الْمُعْتَقَدِ عَلَى صِغَرِ حَجْمِهِ وَآثَرْنَا إجْرَاءَهُ عَلَى خِلَافِ مَا صَادَفْنَا مِنْ مُعْتَقَدَاتِ الْأَئِمَّةِ وَهَذَا الشَّرْطُ يُلْزِمُنَا ظِرَافًا مِنْ الْبَسْطِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَهَا نَحْنُ خَائِضُونَ فِيهِ ثُمَّ تَكَلَّمَ فِي حَدِّ الْكَلَامِ ثُمَّ تَكَلَّمَ فِي أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ

لَا مَنْ فَعَلَهُ ثُمَّ بَنَى عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ قَائِمًا بِهِ ثُمَّ قَالَ وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ اسْتِحَالَةُ كَوْنِهِ حَادًّا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى اسْتِحَالَةِ قَبُولِهِ لِلْحَوَادِثِ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ إلَّا مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ فِي وَصْفِ الْبَارِي تَعَالَى بِكَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِهِ وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ. فَصْلٌ مِمَّا يُخَالِفُ الْجَوْهَرُ فِيهِ حُكْمَ الْإِلَهِ قَبُولَ الْأَعْرَاضِ وَصِحَّةَ الِاتِّصَافِ بِالْحَوَادِثِ وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَقَدِّسٌ عَنْ قَبُولِ الْحَوَادِثِ قَالَ وَذَهَبَتْ الْكَرَّامِيَّةُ إلَى أَنَّ الْحَوَادِثَ تَقُومُ بِذَاتِ الْإِلَهِ تَعَالَى عَنْ قَوْلِهِمْ ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ بِمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْحَوَادِثِ قَالَ وَصَارُوا إلَى جَهَالَةٍ لَمْ يُسْبَقُوا إلَيْهَا فَقَالُوا الْقَوْلُ الْحَادِثُ يَقُومُ بِذَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ غَيْرُ قَائِلٍ بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ قَائِلٌ بِالْقَابِلِيَّةِ وَحَقِيقَةُ أُصُولِهِمْ أَنَّ أَسْمَاءَ الرَّبِّ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَجَدَّدَ وَكَذَلِكَ وَصَفُوهُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا فِي الْأَزَلِ فَلَمْ يَتَحَاشَوْا مِنْ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَتَنَكَّبُوا إثْبَاتَ وَصْفٍ جَدِيدٍ لَهُ ذِكْرًا وَقَوْلًا قَالَ وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ مَا قَالُوهُ أَنَّهُ لَوْ قَبِلَ الْحَوَادِثَ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْجَوَاهِرِ حَيْثُ قَضَيْنَا بِاسْتِحَالَةِ تَعَرِّيهَا عَنْ الْأَعْرَاضِ وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ لَمْ يَسْبِقْهَا وَيَنْسَاقُ ذَلِكَ إلَى الْحُكْمِ بِحُدُوثِ الصَّانِعِ. قَالَ وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الدَّلِيلُ عَلَى أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ مَعَ مَصِيرِهِمْ إلَى تَجْوِيزِ خُلُوِّ الْجَوْهَرِ عَنْ الْأَعْرَاضِ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ أَشَرْنَا إلَيْهِ وَإِثْبَاتُهُمْ أَحْكَامًا مُتَجَدِّدَةً لِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ الْإِرَادَاتِ الْحَادِثَةِ الْقَائِمَةِ لَا بِمُحَالٍ عَلَى زَعْمِهِمْ وَبِصَدِّهِمْ أَيْضًا عَنْ طَرْدِ الدَّلِيلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْتَنِعْ تَجَدُّدُ أَحْكَامِ الذَّاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْحُدُوثِ لَمْ يَبْعُدْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي اعْتِوَارِ نَفْسِ الْأَعْرَاضِ عَلَى الذَّاتِ قَالَ وَتَقُولُ الْكَرَّامِيَّةُ مَصِيرُكُمْ إلَى إثْبَاتِ قَوْلٍ حَادِثٍ مَعَ نَفْيِكُمْ اتِّصَاف الرَّبِّ بِهِ تَنَاقُضٌ إذْ لَوْ جَازَ قِيَامُ مَعْنًى بِمَحَلٍّ غَائِبٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَّصِفَ الْمَحَلُّ بِحُكْمِهِ لَجَازَ شَاهِدًا قِيَامُ أَقْوَالٍ وَعُلُومٍ وَإِرَادَاتٍ بِمَحَالَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَّصِفَ الْمَحَالُّ بِأَحْكَامٍ مُرَكَّبَةٍ عَلَى الْمَعَانِي وَذَلِكَ يَخْلِطُ الْحَقَائِقَ وَيَجُرُّ إلَى الْجَهَالَاتِ ثُمَّ نَقُولُ لَهُمْ إذَا جَوَّزْتُمْ قِيَامَ ضُرُوبٍ مِنْ الْحَوَادِثِ بِذَاتِهِ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ تَجْوِيزِ قِيَامِ أَكْوَانٍ حَادِثَةٍ بِذَاتِهِ عَلَى التَّعَاقُبِ وَكَذَلِكَ سَبِيلُ الْإِلْزَامِ فِيمَا

يُوَافِقُونَنَا عَلَى اسْتِحَالَةِ قِيَامِهِ بِهِ مِنْ الْحَوَادِثِ وَمِمَّا يَلْزَمُهُمْ تَجْوِيزُ قِيَامِ قُدْرَةٍ حَادِثَةٍ وَعِلْمٍ حَادِثٍ بِذَاتِهِ عَلَى حَسَبِ أَصْلِهِمْ فِي الْقَوْلِ وَالْإِرَادَةِ الْحَادِثَتَيْنِ وَلَا يَجِدُونَ بَيْنَ مَا جَوَّزُوهُ وَامْتَنَعُوا مِنْهُ فَصْلًا وَنَقُولُ أَيْضًا إذَا وَصَفْتُمْ الْبَارِيَ تَعَالَى بِكَوْنِهِ مُتَحَيِّزًا وَكُلُّ مُتَحَيِّزٍ وَحَجْمٍ جُرْمٌ فَلَا يَتَقَرَّرُ فِي الْمَعْقُولِ خُلُوُّ الْأَجْرَامِ عَنْ الْأَكْوَانِ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ تَجْوِيزِ قِيَامِ الْأَكْوَانِ بِذَاتِ الرَّبِّ وَلَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا أَلْزَمُوهُ. قُلْت هَذِهِ جُمْلَةُ كَلَامِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَلْفَاظِهِ وَمَدْلُولِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: إنَّهُ لَوْ قَبِلَهَا لَمْ يَخْلُ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ وَالثَّانِي: إنَّهُ لَوْ قَبِلَهَا لَاتَّصَفَ بِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا قَبِلَ بَعْضَهَا فَيَجِبُ أَنْ يَقْبَلَ غَيْرَهُ. وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ وَهَاتَانِ الْحُجَّتَانِ الثَّانِيَتَانِ جَدَلِيَّتَانِ فَإِنَّ كَوْنَهُ مُتَّصِفًا بِالْأَفْعَالِ الَّتِي تَقُومُ بِهِ أَوْ غَيْرَ مُتَّصِفٍ إلَّا بِالصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ لَهُ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَكَذَلِكَ كَوْنُ الْمُنَازِعِ جَوَّزَ قِيَامَ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يُبَيِّنَ فَرْقًا بَيْنَ الْمَمْنُوعِ وَالْمُجَوَّزِ أَوْ لَا يُبَيِّنُ فَرْقًا فَإِنْ بَيَّنَ فَرْقًا ثَبَتَ الْفَرْقُ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فَرْقًا فَقَدْ يَكُونُ عَجْزًا مِنْهُ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَيَلْزَمُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ إمَّا جَوَازُ الْجَمِيعِ وَإِمَّا الْمَنْعُ مِنْ الْجَمِيعِ وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الِامْتِنَاعُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَسْأَلَةِ حُجَّةً إلَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ لَوْ قَبِلَهَا لَمْ يَخْلُ مِنْهَا وَهَذِهِ حُجَّةٌ أَحَالَ فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ قَبِلَ الْحَوَادِثَ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْجَوَاهِرِ حَيْثُ قَضَيْنَا بِاسْتِحَالَةِ تَعَرِّيهَا عَنْ الْأَعْرَاضِ وَهَذَا الَّذِي أَحَالَ عَلَيْهِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْأَجْسَامِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ الطَّرِيقَةَ الْمَشْهُورَةَ الْكَلَامِيَّةَ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أُصُولٍ قَالَ وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّالِثُ فَهُوَ يُبَيِّنُ، اسْتِحَالَةَ تَعَرِّي الْجَوَاهِرِ عَنْ الْأَعْرَاضِ. فَاَلَّذِي صَارَ إلَيْهِ أَهْلُ الْحَقِّ أَنَّ الْجَوْهَرَ لَا يَخْلُو عَنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْأَعْرَاضِ وَعَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ إنْ كَانَتْ لَهُ أَضْدَادٌ فَإِنْ كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ لَمْ يَخْلُ الْجَوْهَرُ عَنْ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ فَإِنْ قُدِّرَ عَرَضٌ لَا ضِدَّ لَهُ لَمْ يَخْلُ الْجَوْهَرُ عَنْ قَبُولِ وَاحِدٍ مِنْ جِنْسِهِ قَالَ وَجَوَّزَتْ الْمُلْحِدَةُ خُلُوَّ الْجَوَاهِرِ عَنْ جَمِيعِ الْأَعْرَاضِ وَالْجَوَاهِرُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ تُسَمَّى الْهَيُولَى وَالْمَادَّةُ وَالْأَعْرَاضُ تُسَمَّى الصُّوَرُ وَجَوَّزَ الصَّالِحِيُّ الْخُلُوَّ عَنْ جُمْلَةِ الْأَعْرَاضِ ابْتِدَاءً وَمَنَعَ الْبَصْرِيُّونَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْعُرُوَّ عَنْ الْأَكْوَانِ وَجَوَّزُوا الْعُرُوَّ عَمَّا عَدَاهَا وَقَالَ الْكَعْبِيُّ وَمُتُوعُهُ يُجَوِّزُ الْخُلُوَّ عَمَّا سِوَى الْأَكْوَانِ وَيَمْتَنِعُ الْخُلُوُّ عَنْ الْأَكْوَانِ قَالَ وَكُلُّ مُخَالِفٍ لَنَا وَافَقَنَا عَلَى امْتِنَاعِ الْعُرُوِّ عَنْ

الْأَعْرَاضِ بَعْدَ قَبُولِ الْجَوَاهِرِ فَيُفْرَضُ الْكَلَامُ مَعَ الْمُلْحِدَةِ فِي الْأَكْوَانِ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِيهَا يَسْتَنِدُ إلَى الضَّرُورَةِ فَإِنَّا بِبَدِيهَةِ الْمَعْقُولِ نَعْلَمُ أَنَّ الْجَوَاهِرَ الْقَابِلَةَ لِلِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ لَا تُعْقَلُ غَيْرَ مُمَاسَّةٍ وَلَا مُتَبَايِنَةٍ وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهَا إذَا اجْتَمَعَتْ فِيمَا لَا يُزَالُ فَلَا يَتَقَرَّرُ فِي الْعَقْلِ اجْتِمَاعُهَا إلَّا عَنْ افْتِرَاقٍ سَابِقٍ إذَا قُدِّرَ لَهَا الْوُجُودُ قَبْلَ الِاجْتِمَاعِ. وَكَذَلِكَ إذَا طَرَأَ الِافْتِرَاقُ عَلَيْهَا اضْطَرَرْنَا إلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ الِافْتِرَاقَ مَسْبُوقٌ بِاجْتِمَاعٍ وَغَرَضُنَا فِي رَوْمِ إثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ يَتَّضِحُ بِالْأَكْوَانِ وَإِنْ حَاوَلْنَا رَدًّا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِيمَا خَالَفُونَا فِيهِ تَمَسُّكًا بِنُكْتَتَيْنِ إحْدَاهُمَا الِاسْتِشْهَادُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى امْتِنَاعِ الْعُرُوِّ عَنْ الْأَعْرَاضِ بَعْدَ الِاتِّصَافِ بِهَا فَنَقُولُ كُلُّ عَرَضٍ بَاقٍ فَإِنَّهُ يَنْتَهِي عَنْ مَحَلِّهِ بِطَرَيَانِ ضِدِّهِ وَالضِّدُّ إنَّمَا يَطْرَأُ فِي حَالِ عَدَمِ الْمُنْتَفِي بِهِ عَلَى زَعْمِهِمْ فَإِذَا انْتَفَى الْبَيَاضُ فَهَلَّا جَازَ أَنْ لَا يَحْدُثَ بَعْدَ انْتِفَائِهِ لَوْنٌ إنْ كَانَ يَجُوزُ تَقْدِيرُ الْخُلُوِّ عَنْ الْأَلْوَانِ ابْتِدَاءً وَتَطَّرِدُ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِي أَجْنَاسِ الْأَعْرَاضِ وَنَقُولُ أَيْضًا الدَّالُّ عَلَى اسْتِحَالَةِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِذَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهَا لَوْ قَامَتْ بِهِ لَمْ يَخْلُ عَنْهَا وَذَلِكَ يَقْضِي بِحُدُوثِهِ فَإِذَا جَوَّزَ الْخَصْمُ عُرُوَّ الْجَوْهَرِ عَنْ حَوَادِثَ مَعَ قَبُولِهِ لَهَا صِحَّةً وَجَوَازًا فَلَا يَسْتَقِيمُ مَعَ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ قَبُولِ الْبَارِي تَعَالَى لِلْحَوَادِثِ. قُلْت فَهَذَا جُمْلَةُ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ حُجَّةً أَصْلًا عَلَى الْمَطْلُوبِ بَلْ فِيهِ إحَالَةٌ فَإِنَّهُ ذَكَرَ خَمْسَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: الْقَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ أَنَّ الْجَوْهَرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ عَنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْأَعْرَاضِ وَعَنْ أَضْدَادِهَا بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِهِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ عَرْضٌ وَاحِدٌ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ ضِدٌّ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُ إنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ كَدَعْوَى الطَّعْمِ وَالرِّيحِ لِلْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي مُقَابَلَةِ هَذَا وَهُوَ جَوَازُ خُلُوِّهِ عَنْ كُلِّ عَرَضٍ. وَالثَّالِثُ: الْخُلُوُّ عَنْ جَمِيعِهَا فِي الِابْتِدَاءِ دُونَ الدَّوَامِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يَمْتَنِعُ خُلُوُّهُ عَنْ الْأَكْوَانِ وَيَجُوزُ خُلُوُّهُ عَمَّا سِوَاهَا وَهُوَ قَوْلُ بَصْرِيِّ الْمُعْتَزِلَةِ. وَالْخَامِسُ: امْتِنَاعُ خُلُوِّهَا عَنْ الْأَكْوَانِ دُونَ مَا سِوَاهَا وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّ الْكَعْبِيِّ وَأَتْبَاعِهِ وَهُمْ أَغْلَظُ بِدْعَةً مِنْ الْبَصْرِيِّينَ ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يُقِمْ دَلِيلًا إلَّا عَلَى الْأَكْوَانِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَا قَبْلَ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ لَمْ يُعْقَلْ إلَّا مُجْتَمَعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا وَذَكَرَ أَنَّ

مَقْصُودَهُ فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ يَتِمُّ بِالْأَكْوَانِ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ رَدٌّ عَلَى مَنْ يُجَوِّزُ خُلُوَّهَا عَنْ الْأَكْوَانِ وَقَدْ ذَكَرَ عَنْ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُمْ لَا يُخَالِفُونَهُ فِي ذَلِكَ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِحُجَّتَيْنِ إلْزَامِيَّتَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا حُجَّةٌ عِلْمِيَّةٌ إحْدَاهُمَا مَا سَلَّمُوهُ مِنْ امْتِنَاعِ الْخُلُوِّ بَعْدَ قِيَامِ الْعَرَضِ وَسَوَّى بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَقَالَ إذَا جَازَ أَنْ يَخْلُوَ قَبْلَ قِيَامِ الْعَرَضِ عَنْ الضِّدَّيْنِ جَازَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيُقَالُ لَهُ إنْ كَانَتْ هَذِهِ التَّسْوِيَةُ بَاطِلَةً ثَبَتَ الْفَرْقُ وَبَطَلَ قَوْلُك وَإِنْ كَانَتْ التَّسْوِيَةُ صَحِيحَةً لَزِمَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إمَّا جَوَازُ الْخُلُوِّ قَبْلُ وَبَعْدُ أَوْ امْتِنَاعُ الْخُلُوِّ قَبْلُ وَبَعْدُ لَا يَلْزَمُ أَحَدُهُمَا بِعَيْنِهِ وَمُوَافَقَةُ الْمُنَازِعِ لَك عَلَى امْتِنَاعِ الْخُلُوِّ بَعْدُ لَا يُفِيدُك أَنْتَ عِلْمًا إذَا لَمْ يَكُنْ لَك وَلَا لَهُ حُجَّةٌ عَلَى ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ حُجَّةٍ يُعْلَمُ بِهَا امْتِنَاعُ الْخُلُوِّ فِيمَا بَعْدُ حَتَّى يَلْحَقَ بِهِ مَا قَبْلُ وَلَيْسَ مَعَك فِي ذَلِكَ إجْمَاعٌ مَعْصُومٌ مِنْ الْخَطَإِ إذْ ذَاكَ إجْمَاعُ الْمُؤْمِنِينَ. وَطَائِفَةُ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى خَطَأٍ إذَا أَكْثَرُ الْأُمَّةِ يُخَطِّئُهُمْ كُلَّهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يُمْكِنُ دَعْوَى عَدَمِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ غَرَضُنَا الْكَلَامَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ قَوْلُهُ فِي النُّكْتَةِ الثَّانِيَةِ الدَّالُّ عَلَى اسْتِحَالَةِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِذَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهَا لَوْ قَامَتْ بِهِ لَمْ يَخْلُ عَنْهَا وَذَلِكَ يَقْضِي بِحُدُوثِهِ فَإِذَا جَوَّزَ الْخَصْمُ عُرُوَّ الْجَوْهَرِ عَنْ الْحَوَادِثِ مَعَ قَبُولِهِ لَهَا صِحَّةً وَجَوَازًا فَلَا يَسْتَقِيمُ مَعَ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ قَبُولِ الْبَارِي لِلْحَوَادِثِ. فَيُقَالُ لَك: أَنْتَ قَدْ ذَكَرْت أَيْضًا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أُصُولِهِمْ الِاحْتِجَاجُ عَلَى أَنَّ الْحَوَادِثَ لَا تَقُومُ بِذَاتِ الْبَارِي مَعَ تَجْوِيزِهِمْ خُلُوَّ الْجَوَاهِرِ عَنْ الْأَعْرَاضِ وَمَعَ قَضَائِهِمْ بِتَجَدُّدِ أَحْكَامِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَمَّا أَنْتَ وَأَصْحَابُك فَلَمْ تَذْكُرُوا حُجَّةً عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ خُلُوُّ الْجَوَاهِرِ عَنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَعْرَاضِ وَلَا أَقَمْتُمْ حُجَّةً عَلَى أَنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو مِنْهُ وَمِنْ ضِدِّهِ وَلَا أَقَمْتُمْ حُجَّةً عَلَى اسْتِحَالَةِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ بَلْ أَنْتَ فِي مَسْأَلَةِ الْحَوَادِثِ جَعَلْت الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ الَّذِي تَحْتَجُّ بِهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ الَّذِي ذَكَرْت أَنَّهُ لَيْسَ فِي بَابِهِ مِثْلُهُ هُوَ قَوْلُك أَنَّهُ لَوْ قَبِلَ الْحَوَادِثَ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْجَوَاهِرِ حَيْثُ قَضَيْنَا بِاسْتِحَالَةِ تَعَرِّيهَا عَنْ الْأَعْرَاضِ وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ لَمْ يَسْبِقْهَا وَيَنْسَاقُ ذَلِكَ إلَى الْحُكْمِ بِحُدُوثِ الصَّانِعِ فَيُقَالُ لَهُ قَوْلُك لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ إحَالَةً عَلَى مَا مَضَى وَأَنْتَ لَمْ تُقَرِّرْ فِيمَا مَضَى أَنَّ مَا قَبْلَ الشَّيْءِ لَمْ يَخْلُ مِنْهُ وَلَا قَرَّرْت أَنَّ كُلَّ جَوْهَرٍ قَبِلَ عَرَضًا يَسْتَحِيلُ خُلُوُّهُ عَنْهُ وَلَا قَرَّرْت أَيْضًا اسْتِحَالَةَ

تَعَرِّي الْجَوَاهِرِ عَنْ جَمِيعِ الْأَعْرَاضِ إذْ هَذَا يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ إحْدَاهُمَا إمْكَانُ قِيَامِ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْأَعْرَاضِ بِكُلِّ جَوْهَرٍ، الثَّانِيَةُ أَنَّ الْقَابِلَ لِشَيْءٍ لَا يَخْلُو مِنْهُ وَمِنْ ضِدِّهِ وَأَنْتَ لَمْ تَذْكُرْ حُجَّةً عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ غَايَةُ مَا ذَكَرْت أَنَّك أَثْبَتّ الْأَكْوَانَ الَّتِي هِيَ الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ فَقَطْ وَأَنَّك ادَّعَيْت تَنَاقُضَ الْمُعْتَزِلَةَ حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا قَبْلَ الِاتِّصَافِ وَبَعْدَهُ وَحَيْثُ إنَّهُمْ إذَا جَوَّزُوا خُلُوَّ الْجَوْهَرِ عَنْ بَعْضِ الْحَوَادِثِ مَعَ قَبُولِهِ بَطَلَ الِاسْتِدْلَال عَلَى امْتِنَاعِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِذَاتِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ مَعَ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ قَبُولِ الْبَارِي لِلْحَوَادِثِ فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ تَنَاقُضِ الْمُعْتَزِلَةَ وَأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ عَلَى امْتِنَاعِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِالرَّبِّ فِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا حُجَّةَ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ إلَّا هَذِهِ الْحُجَّةَ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَبِلَ الْجَوْهَرُ الْعَرَضَ لَمْ يَخْلُ مِنْهُ ثُمَّ هَذِهِ الدَّعْوَى لَمْ تَذْكُرْ أَنْتَ أَيْضًا عَلَيْهَا حُجَّةً أَصْلًا فَقَدْ أَقْرَرْت بِأَنَّ قَوْلَ أَصْحَابِك وَقَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ قَبُولِ الْحَوَادِثِ قَوْلٌ بِلَا حُجَّةٍ أَصْلًا فَأَيْنَ الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ فِي ذَلِكَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ قَاطِعًا وَهَذَا إذَا تَدَبَّرَهُ الْعَاقِلُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْقَوْمَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ. فَإِنْ قُلْت: قَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي الْأَكْوَانِ كَالِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ فَيُقَالُ هَذَا حَقٌّ، فَإِنَّ مَا كَانَ قَابِلًا أَنْ يَكُونَ مُجْتَمِعًا وَأَنْ يَكُونَ مُفْتَرِقًا لَكِنْ هَذَا لَا عُمُومَ فِيهِ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضِ وَغَايَتُهُ أَنْ يُثْبِتَ نَظِيرَهُ فِي الرَّبِّ فَيَقُولَ إذَا كَانَتْ ذَاتُهُ قَابِلَةً لِلِاجْتِمَاعِ أَوْ الِافْتِرَاقِ لَمْ يَكُنْ إلَّا مُجْتَمِعًا أَوْ مُفْتَرِقًا فَالْمُنَازِعُ لَك إنْ لَمْ يُسَلِّمْ قَبُولَهُ لِهَذَيْنِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ لَا يُسَلِّمَ قَبُولَهُ لِغَيْرِهِمَا مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ كَمَا تَقُولُهُ أَنْتَ وَإِنْ سَلَّمَ ذَلِكَ وَقَالَ إنَّهُ أَحَدٌ صَمَدٌ وَالصَّمَدُ أَصْلُهُ الْمُجْتَمِعُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ اجْتِمَاعُهُ كَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهُوَ مِنْ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ لَهُ الَّتِي لَا يَجُوزُ عَدَمُهَا وَلَيْسَ مِنْ الْحَوَادِثِ فَصِفَاتُ الْجَوْهَرِ الْمَخْلُوقَةِ تَقْبَلُ الزَّوَالَ إذْ يَمْتَنِعُ عَلَيْهَا الْبَقَاءُ بِخِلَافِ صِفَاتِ اللَّهِ الْوَاجِبَةِ لَهُ كَمَا أَنَّ ذَوَاتِ الْجَوْهَرِ الْمَخْلُوقَةِ تَقْبَلُ الْعَدَمَ وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا عَلَى حُدُوثِ الْجَوَاهِرِ أَيْضًا كَمَا لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا عَلَى امْتِنَاعِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِالرَّبِّ فَإِنَّ دَلِيلَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَرْبَعِ مُقَدِّمَاتٍ ثُبُوتِ الْأَعْرَاضِ وَثُبُوتِ أَنَّهَا جَمِيعًا حَادِثَةٌ وَأَنَّ الْجَوْهَرَ لَا يَخْلُو مِنْهَا وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ حَوَادِثُ لَا أَوَّلَ لَهَا وَهُوَ لَمْ يُثْبِتْ مِنْ الْأَعْرَاضِ اللَّازِمَةِ لِلْجَوَاهِرِ إلَّا الْأَكْوَانَ (الِاجْتِمَاعُ

وَالِافْتِرَاقُ) وَهُوَ لَمْ يُثْبِتْ حُدُوثَهَا إلَّا بِقَبُولِهَا الْعَدَمَ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ عَدَمُهُ لَمْ يُعْلَمْ حُدُوثُهُ وَلَمْ يَثْبُتْ جَوَازُ تَفَرُّقِ كُلِّ الْأَجْسَامِ مَعَ أَنَّ الْحُجَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِي أَنَّ مَا ثَبَتَ عَدَمُهُ امْتَنَعَ قِدَمُهُ فِيهَا كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةِ حُلُولِ الْحَوَادِثِ الَّتِي جَعَلَتْهَا الْجَهْمِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَصْلًا عَظِيمًا فِي تَعْطِيلِ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] وَغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ إنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقْبَلُ أَنْ يَفْعَلَ بَعْدُ إنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا وَالْقَوْلُ بِأَنَّ فَاعِلًا يَفْعَلُ وَحَالُهُ قَبْلَ الْفِعْلِ وَبَعْدُ سَوَاءٌ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ فِعْلُ نَفْسِهِ هُوَ فِي الْمَعْقُولِ أَبْعَدُ مِنْ كَوْنِ السَّاكِنِ الَّذِي سُكُونُهُ قَدِيمٌ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَحَرَّكَ لِأَنَّ السُّكُونَ الْقَدِيمَ يَمْتَنِعُ عَدَمُهُ وَلَوْ عَرَضَ عَلَى الْعَقْلِ الصَّحِيحِ جَوَازُ أَنْ يُبْدِعَ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي نَفْسِهِ فِعْلٌ أَصْلًا وَجَوَازُ أَنْ يَفْعَلَ وَيَكُونَ فِعْلُهُ فِي نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ تَارِكًا لَكَانَ الثَّانِي أَقْرَبَ إلَى عَقْلِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هَذَا الثَّانِي مَعْقُولٌ وَالْأَوَّلُ غَيْرُ مَعْقُولٍ. وَبِهَذَا اسْتَطَالَتْ عَلَيْهِمْ الدَّهْرِيَّةُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّهُمْ ادَّعَوْا حُدُوثَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَامِ وَمَضْمُونُ عُمُومِ كَلَامِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ ادَّعَوْا حُدُوثَ كُلِّ مَوْجُودٍ لَكِنْ لَمْ يَقْصِدُوا ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ لَازِمٌ لَهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ وَالدَّهْرِيَّةُ ادَّعَوْا قِدَمَ السَّمَوَاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا كُفْرٌ بَاطِلٌ أَيْضًا لَكِنْ صَارَ كُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ يُعَارِضُ الْآخَرَ بِحُجَجٍ تُبْطِلُ حُجَجَ نَفْسِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْقَوْلَيْنِ بَاطِلٌ فَتَكُونُ حُجَّتُهُمْ بَاطِلَةً فَيُمْكِنُ إبْطَالُهَا، وَلِهَذَا كَانَ غَالِبُ أَئِمَّتِهِمْ يَقُولُونَ بِتَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَحْوِهَا وَيَصِيرُونَ فِيهَا إلَى الْوَقْفِ وَالْحَيْرَةِ، ثُمَّ هُمْ مَعَ ذَلِكَ قَدْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِمَا ادَّعَوْهُ مِنْ الْقَوْلِ بِهَذَا الْحُدُوثِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِنِفَاقِهِمْ وَزَنْدَقَتِهِمْ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لَيْسَ هَذَا مِنْ أَصْلِ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ الَّذِي يُقَالُ إنَّهُ أَحَدُ شُيُوخِ الْأَشْعَرِيِّ وَقَدْ فَرِحَ أَصْحَابُ الْأَشْعَرِيِّ بِمُوَافَقَتِهِ وَمُوَافَقَةِ أَبِي عِيسَى الْوَرَّاقِ لَهُمْ عَلَى إثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ وَمَعَ هَذَا فَلَهُ كِتَابٌ مَشْهُورٌ سَمَّاهُ (كِتَابُ التَّاجِ) فِي قِدَمِ الْعَالَمِ. وَذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ وَهُوَ (مَفْصُولٌ) ذَكَرَ عِلَلَ الْمُلْحِدِينَ وَالدَّهْرِيِّينَ مِمَّا احْتَجُّوا بِهِ فِي قِدَمِ الْعَالَمِ وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ بِكِتَابِ التَّاجِ وَهُوَ الَّذِي نَصَرَ فِيهِ الْقَوْلَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَقَدْ

قِيلَ إنَّ الْأَشْعَرِيَّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ أَقَرَّ بِتَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ وَاعْتَبَرَ ذَلِكَ بِالرَّازِيِّ فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ حُدُوثِ الْأَجْسَامِ يَذْكُرُ أَدِلَّةَ الطَّائِفَتَيْنِ وَيُصَرِّحُ فِي آخِرِ كُتُبِهِ وَآخِرِ عُمْرِهِ وَهُوَ كِتَابُ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ بِتَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ وَأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنْ مَحَارَاتِ الْعُقُولِ وَلِهَذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَتْبَاعِهِمْ الشَّكَّ وَالِارْتِيَابَ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا حَدَّثَنِي مِمَّنْ حَدَّثَهُ ابْنُ بَادَةَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْخِسْرُوشَاهِي وَهُوَ أَحَدُ تَلَامِذَةِ ابْنِ الْخَطِيبِ الَّذِي قَدِمَ إلَى الشَّامِ وَمِصْرَ وَأَخَذَهُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَاحِبُ الْكَرْكِ إلَى عِنْدِهِ وَكَانَ يَقْرَأُ عَلَيْهِ حَتَّى قِيلَ إنَّهُ حَصَلَ لَهُ اضْطِرَابٌ فِي الْإِيمَانِ مِنْ جِهَتِهِ وَجِهَةِ أَمْثَالِهِ. قَالَ: دَخَلْت عَلَيْهِ بِدِمَشْقَ فَقَالَ لِي يَا فُلَانُ مَا تَعْتَقِدُ. قُلْت: أَعْتَقِدُ مَا يَعْتَقِدُهُ الْمُسْلِمُونَ قَالَ وَأَنْتَ جَازِمٌ بِذَلِكَ وَصَدْرُك مُنْشَرِحٌ لَهُ قُلْت نَعَمْ قَالَ فَبَكَى بُكَاءً عَظِيمًا أَظُنُّهُ قَالَ لَكِنَّنِي وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَعْتَقِدُ لَكِنَّنِي وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَعْتَقِدُ لَكِنَّنِي وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَعْتَقِدُ. وَحَدَّثَنِي الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ عَنْ مُؤَذِّنِ الْكَرْكِ قَالَ صَعِدْت لَيْلَةً بِوَقْتٍ فَسَبَّحْت فِي الْمَنَارَةِ ثُمَّ نَزَلْت وَالْخَسَر وَشَاهِيّ سَاهِرٌ مَعَ السُّلْطَانِ يَتَحَدَّثَانِ فَقَالَ إلَى السَّاعَةِ أَنْتَ تُسَبِّحُ فِي الْمَنَارَةِ فَقُلْت نَعَمْ فَقَالَ بِتّ تُنَاجِي الرَّحْمَنَ وَبِتّ أُنَاجِي الشَّيْطَانَ وَأَيْضًا فَمَا ذَكَرَهُ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ تَصُدُّهُمْ عَنْ طَرْدِ الدَّلِيلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْتَنِعْ تَجَدُّدُ أَحْكَامٍ لِلذَّاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْحُدُوثِ لَمْ يَبْعُدْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي اعْتِوَارِ الْأَعْرَاضِ عَلَى الذَّاتِ يَلْزَمُهُ مِثْلُهُ فِي تَجَدُّدِ حُكْمِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ دُونَ الْمَعْدُومِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ الْمَوْجُودَاتِ كَحَالِهِ قَبْلَ وُجُودِهَا فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ أَوْ لَا يَكُونُ فَإِنْ كَانَ حَالُهُ قَبْلُ كَحَالِهِ بَعْدُ أَوْ هُوَ قَبْلُ لَمْ يَكُنْ يَسْمَعُ شَيْئًا وَلَا يَرَاهُ فَكَذَلِكَ بَعْدُ لِاسْتِوَاءِ الْحَالَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ إنَّ بَعْدَ ذَلِكَ خِلَافُ حَالِهِ قَبْلُ فَهَذَا قَوْلٌ بِتَجَدُّدِ الْأَحْوَالِ وَالْحَوَادِثِ وَلَا حِيلَةَ فِي ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي ذَلِكَ مَا قِيلَ فِي الْعِلْمِ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْدُومِ فَأَمْكَنَ الْمُفَرِّقُ أَنْ يَقُولَ حَالُهُ قَبْلَ وُجُودِ الْمَعْلُومِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ. وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْإِلْزَامَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ وَالْتَزَمَ قَوْلَ الْكَرَّامِيَّةِ بَعْدَ أَنْ أَجَابَ بِجَوَابٍ لَيْسَ بِذَاكَ فَإِنَّ الْمُخَالِفَ احْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا لِأَنَّ الْإِدْرَاكَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقٍ وَهُوَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْدُومِ فَيَمْتَنِعُ ثُبُوتُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ لِلْعَالَمِ قَبْلَ وُجُودِهِ إذْ هُمْ لَا يُثْبِتُونَ أَمْرًا فِي ذَاتِ اللَّهِ بِهِ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ بَلْ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ

نَفْسُ الْإِدْرَاكِ عِنْدَهُمْ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَيَلْزَمُ أَنْ يَتَغَيَّرَ وَكِلَاهُمَا مُحَالٌ وَقَالَ فِي الْجَوَابِ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا بِسَمْعٍ قَدِيمٍ وَبَصَرٍ قَدِيمٍ وَيَكُونُ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ يَقْتَضِيَانِ التَّعَلُّقَ بِالْمَرْئِيِّ وَالْمَسْمُوعِ بِشَرْطِ حُضُورِهِمَا وَوُجُودِهِمَا قَالَ وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى بِقَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ إنَّهُ صِفَةٌ مُتَهَيِّئَةٌ لِدَرْكِ مَا عَرَضَ عَلَيْهِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ تَجَدُّدُ التَّعَلُّقَاتِ قُلْنَا وَأَيُّ بَأْسٍ بِذَلِكَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ التَّعَلُّقَاتِ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ فِي الْأَعْيَانِ فَهَذَا هُوَ تَقْرِيرُ الْمَذْهَبِ ثُمَّ لَإِنْ سَلَّمْنَا فَسَادَ هَذَا الْقِسْمِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا فِي ذَاتِهِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ الْكَرَّامِيَّةِ وَقَوْلُهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ قُلْنَا إنْ عَنَيْتُمْ حُدُوثَ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي ذَاتِهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ حَادِثَةً فِيهَا فَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ مُحَالٌ، وَإِنْ عَنَيْتُمْ شَيْئًا آخَرَ فَبَيِّنُوهُ لِنَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ يَلْزَمُ وُجُودُ التَّغَيُّرِ فِي ذَاتِ اللَّهِ. قُلْت: وَقَدْ اعْتَرَفَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِضَعْفِ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ صِفَةٌ مُتَهَيِّئَةٌ لِدَرْكِ مَا عَرَضَ عَلَيْهِ وَضِدُّهُ نَفْيُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ هُوَ الْإِدْرَاكُ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَبَيْنَ هَذَا الْمُدْرَكِ. ثُمَّ عِنْدَ وُجُودِ هَذَا الدَّرْكِ هَلْ يَكُونُ سَامِعًا مُبْصِرًا لِمَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ سَامِعًا لَهُ مُبْصِرًا أَمْ لَا يَكُونُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَزِمَ نَفْيُ أَنْ يَسْمَعَ وَيُبْصِرَ، وَإِنْ كَانَ سَمِعَ وَرَأَى مَا لَمْ يَكُنْ سَمِعَهُ وَرَآهُ، فَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ قَائِمٌ بِذَاتِ السَّامِعِ الرَّائِي، وَأَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا عَدَمِيًّا وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَلَوْ كَانَ عَدَمِيًّا لَكَانَ سَلْبُهُ وُجُودِيًّا إذَا قِيلَ لَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يُبْصِرْ، وَإِنْ كَانَ سَلْبُهُ وُجُودِيًّا لَامْتَنَعَ وَصْفُ الْمَعْدُومِ بِهِ، فَإِنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُوصَفُ بِوُجُودٍ وَمَذَاهِبُ هَؤُلَاءِ إنَّمَا تُشْكِلُ عَلَى النَّاسِ لِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِ، فَإِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ يُطْلَقُ بِمَعْنَى مَا بِهِ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ، وَلَيْسَ اللَّهُ عِنْدَهُمْ سَمِيعًا بَصِيرًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ يَقُولُونَ بِذَلِكَ. وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَهُمْ مُجَرَّدُ الْإِدْرَاكِ فَقَطْ، فَكَيْفَ يُقَالُ كَانَ ثَابِتًا فِي الْعَدَمِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ وَأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْمَوْجُودِ وَأَنَّ تَعَلُّقَهُ بِالْمَوْجُودِ عَدَمٌ مَحْضٌ هَذِهِ أَقْوَالٌ مَعْلُومَةُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بَسْطًا عَظِيمًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَكَانَ الْمَقْصُودُ هُنَا أَوَّلًا الْكَلَامُ فِي اسْمِ اللَّهِ الْوَاحِدِ وَأَنَّ لَهُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ:

أَحَدُهَا: إنَّهُ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَجَزَّأُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَرَكَّبُ وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا تَفْسِيرُ الِاسْمِ الْوَاحِدِ، وَهَذِهِ الْوَحْدَانِيَّةُ هِيَ الَّتِي ذَكَرُوهَا هُنَا إذْ لَيْسَ مُرَادُهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَبَعَّضُ أَنَّهُ لَا يَنْفَصِلُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُ نَحْوًا مِنْهُ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكُونَ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُنَازِعُهُمْ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَهُوَ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ وَكَذَلِكَ كَانَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ يَنْفُونَ التَّبْعِيضَ عَنْ اللَّهِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُشْهَدُ وَلَا يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ وَلَا يُدْرَكُ مِنْهُ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُشَارَ مِنْهُ إلَى شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ بِحَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةٌ عِنْدَهُمْ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا يُمْكِنُهُ هُوَ أَنْ يُشِيرَ مِنْهَا إلَى شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ أَوْ يَرَى عِبَادُهُ مِنْهَا شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ بِحَيْثُ إذَا تَجَلَّى لِعِبَادِهِ يُرِيهِمْ مِنْ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ مَا شَاءَ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ عِنْدَهُمْ وَلَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْعِبَادُ مَحْجُوبِينَ عَنْهُ بِحِجَابٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُمْ يَمْنَعُ أَبْصَارَهُمْ عَنْ رُؤْيَتِهِ. فَإِنَّ الْحِجَابَ لَا يَحْجُبُ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ مُنْقَسِمٌ وَلَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ يَكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ الْحِجَابَ لِيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وَلَا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِهِ حِجَابٌ أَصْلًا وَلَا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَلْقَاهُ الْعَبْدُ أَوْ يَصِلُ إلَيْهِ أَوْ يَدْنُو مِنْهُ أَوْ يَقَرُّ إلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ هُوَ الْمُرَادُ عِنْدَهُمْ بِكَوْنِهِ لَا يَنْقَسِمُ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ نَفْيَ التَّجْسِيمِ إذْ كُلُّ مَا ثَبَتَ لَهُ ذَلِكَ كَانَ جِسْمًا مُنْقَسِمًا مُرَكَّبًا وَالْبَارِي مُنَزَّهٌ عِنْدَهُمْ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي. وَالْمَعْنَى الثَّانِي: مِنْ مَعَانِي الْوَاحِدِ عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذِي لَا شَبِيهَ لَهُ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ لَكِنْ أَجْمَلُوهَا فَجَعَلُوا نَفْيَ الصِّفَاتِ أَوْ بَعْضِهَا دَاخِلًا فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ وَاضْطَرَبُوا فِي ذَلِكَ عَلَى دَرَجَاتٍ لَا تَنْضَبِطُ. وَالْمُعْتَزِلَةِ تَزْعُمُ أَنَّ نَفْيَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّوْحِيدِ وَنَفْيَ التَّجْسِيمِ وَالتَّشْبِيهِ وَالصِّفَاتِيَّةُ تَقُولُ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ التَّجْسِيمِ وَالتَّشْبِيهِ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ مُضْطَرِبُونَ فِيمَا يَنْفُونَهُ مِنْ ذَلِكَ لَكِنْ وَافَقُوا أُولَئِكَ عَلَى أَنَّ مَا نَفَوْهُ مِنْ التَّشْبِيهِ وَمَا نَفَوْهُ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي سَمَّوْهُ تَجْسِيمًا وَهُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي لَا يَتِمُّ الدِّينُ إلَّا بِهِ وَهُوَ أَصْلُ الدِّينِ عِنْدَهُمْ وَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ يَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَيْسَتْ مِمَّا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَلَمْ يَكُنْ الرَّسُولُ يُعَلِّمُ أُمَّتَهُ هَذِهِ الْأُمُورَ وَلَا كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا التَّوْحِيدُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّينِ لَمْ يَدْعُ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعُونَ بَلْ يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُخَالِفُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي سَمَّاهُ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةُ تَوْحِيدًا وَلِهَذَا مَا زَالَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ. كَمَا رَوَى الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ السُّلَمِيُّ فِي ذَمِّ الْكَلَامِ، قَالَ سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ جَابِرًا السُّلَمِيُّ، قَالَ سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ عَقِيلِ بْنِ الْأَزْهَرِ الْفَقِيهَ يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إلَى الْمُزَنِيّ فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْكَلَامِ، فَقَالَ إنِّي أَكْرَهُ هَذَا بَلْ أَنْهَى عَنْهُ كَمَا نَهَى عَنْهُ الشَّافِعِيُّ، وَلَقَدْ سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الْكَلَامِ فِي التَّوْحِيدِ قَالَ مَالِكٌ مُحَالٌ أَنْ يُظَنَّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ عَلَّمَ أُمَّتَهُ الِاسْتِنْجَاءَ وَلَمْ يُعَلِّمْهُمْ التَّوْحِيدَ بِالتَّوْحِيدِ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» فَمَا عُصِمَ بِهِ الدَّمُ وَالْمَالُ فَهُوَ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ ذَلِكَ مَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ فِي كِتَابِ ذَمِّ الْكَلَامِ وَالشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ فِي كِتَابِ الْفُصُولُ فِي الْأُصُولِ. وَرَوَى أَيْضًا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَمِنْ طَرِيقِهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودٍ الْفَقِيهُ بِمَرْوَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَيْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى زَكَرِيَّا بْنُ أَيُّوبَ الْعَلَّافُ النَّجِيبِيُّ بِمِصْرَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا أَشْهَبُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ إيَّاكُمْ وَالْبِدَعَ قِيلَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَمَا الْبِدَعُ، قَالَ أَهْلُ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يَسْكُتُونَ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ. وَرَوَيَا أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ أَيْضًا الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ سَمِعْت شُكْرًا سَمِعْت أَبَا سَعِيدٍ الْبَصْرِيَّ سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ يَقُولُ دَخَلْت عَلَى مَالِكٍ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ الْقُرْآنِ فَقَالَ لَعَلَّك مِنْ أَصْحَابِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ لَعَنَ اللَّهُ عَمْرًا فَإِنَّهُ ابْتَدَعَ هَذِهِ الْبِدَعَ مِنْ الْكَلَامِ وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ عِلْمًا لَتَكَلَّمَ فِيهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ كَمَا تَكَلَّمُوا فِي الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ وَلَكِنَّهُ بَاطِلٌ يَدُلُّ عَلَى بَاطِلٍ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي رَدِّ الْكَلَامِ وَالتَّوْحِيدِ الَّذِي كَانَ تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّةِ وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِخِلَافِ مَا رُوِيَ مِنْ الْآثَارِ الصَّحِيحَةِ فِي الصِّفَاتِ وَالتَّوْحِيدِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْكِرُوهُ إنَّمَا أَنْكَرُوا الْكَلَامَ وَالتَّوْحِيدَ الْمُبْتَدَعَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مِسْتَوَيْهِ حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ رُسْتُمَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُطِيعٍ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ رُسْتُمَ عَنْ نُوحٍ الْجَامِعِ قَالَ قُلْت لِأَبِي حَنِيفَةَ مَا تَقُولُ فِيمَا أُحَدِّثُ النَّاسَ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْأَعْرَاضِ وَالْأَجْسَامِ، فَقَالَ مَقَالَاتُ الْفَلَاسِفَةِ، عَلَيْك بِالْأَثَرِ وَطَرِيقَةِ السَّلَفِ وَإِيَّاكَ وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ. وَقَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الْبُخَارِيُّ سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْأَحْنَفِ سَمِعْت الْفَتْحَ بْنَ عَلْوَانَ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ الْحَجَّاجِ سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ صَاحِبَ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَعَنَ اللَّهُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ فَإِنَّهُ فَتَحَ لِلنَّاسِ الطَّرِيقَ إلَى الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ مِنْ الْكَلَامِ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَحُثُّنَا عَلَى الْفِقْهِ وَيَنْهَانَا عَنْ الْكَلَامِ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْفَضْلِ الحادودي أَنْبَأَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ يَقُولُ سَمِعْت الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيّ يَقُولُ شَهِدْت الشَّافِعِيَّ وَدَخَلَ عَلَيْهِ بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ فَقَالَ لِبِشْرٍ أَخْبِرْنِي عَمَّا تَدْعُو إلَيْهِ أَكِتَابٌ نَاطِقٌ وَفَرْضٌ مُفْتَرَضٌ وَسُنَّةٌ قَائِمَةٌ وَوَجَدْت عَنْ السَّلَفِ الْبَحْثَ فِيهِ وَالسُّؤَالَ فَقَالَ بِشْرٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يَسَعُنَا خِلَافُهُ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَقْرَرْت عَلَى نَفْسِك بِالْخَطَإِ فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْفِقْهِ وَالْأَخْبَارِ يُوَالِيك النَّاسُ عَلَيْهِ وَتَتْرُكُ هَذَا لَنَا نَتَّهِمُهُ فِيهِ فَلَمَّا خَرَجَ بِشْرٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُفْلِحُ. وَرَوَى شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ الْمُزَنِيّ وَعَنْ الرَّبِيعِ قَالَ الْمُزَنِيّ سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ لِلرَّبِيعِ يَا رَبِيعُ اقْبَلْ مِنِّي ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: لَا تَخُوضُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ خَصْمَك النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا تَشْتَغِلْ بِالْكَلَامِ فَإِنِّي قَدْ اطَّلَعْت مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ عَنْ التَّعْطِيلِ، زَادَ الْمُزَنِيّ وَلَا تَشْتَغِلْ بِالنُّجُومِ فَإِنَّهُ يَجُرُّ إلَى التَّعْطِيلِ، وَهَذَا التَّوْحِيدُ الَّذِي يَذْكُرُهُ هَؤُلَاءِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَذَوِيهِ: وَهَذَا التَّوْحِيدُ الَّذِي ذَكَرُوهُ هُوَ التَّعْطِيلُ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إلَّا صِفَةً لِلْمَعْدُومِ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ أَيْضًا رَأَيْت بِخَطِّ أَبِي عَمْرِو بْنِ مَطَرٍ يَقُولُ سُئِلَ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ الْكَلَامِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فَقَالَ بِدْعَةٌ ابْتَدَعُوهَا، وَلَمْ يَكُنْ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَأَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ مِثْلُ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي يُوسُفَ يَتَكَلَّمُونَ فِي ذَلِكَ بَلْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ الْخَوْضِ فِيهِ وَيَدُلُّونَ أَصْحَابَهُمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِيَّاكَ وَالْخَوْضَ فِيهِ وَالنَّظَرَ فِي كُتُبِهِمْ بِحَالٍ.

قُلْت: وَقَوْلُ ابْنِ خُزَيْمَةَ الْمُلَقَّبِ بِإِمَامِ الْأَئِمَّةِ الْكَلَامُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ هُوَ نَظِيرُ مَا نَهَى عَنْهُ مَالِكٌ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَهُوَ هَذَا التَّوْحِيدُ الَّذِي ابْتَدَعَتْهُ الْجَهْمِيَّةُ وَأَتْبَاعُهَا فَإِنَّ ابْنَ خُزَيْمَةَ لَهُ كِتَابٌ مَشْهُورٌ فِي التَّوْحِيدِ يَذْكُرُ فِيهِ صِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا كِتَابُهُ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ سَمِعْت أَبِي يَقُولُ قُلْت لِأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ مَا التَّوْحِيدُ قَالَ تَوْحِيدُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتَوْحِيدُ أَهْلِ الْبَاطِلِ الْخَوْضُ فِي الْأَعْرَاضِ وَالْأَجْسَامِ وَإِنَّمَا بُعِثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِنْكَارِ ذَلِكَ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ فَبَيَّنَ أَنَّ الْخَوْضَ فِي الْجِسْمِ وَالْعَرَضِ وَنَفْيَ ذَلِكَ وَجَعْلَ ذَلِكَ مِنْ التَّوْحِيدِ هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْبَاطِلِ فَكَيْفَ بِمَنْ جَعَلَهُ أَصْلَ الدِّينِ كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ الْحَسَنِ. أَنْبَأْنَا الْأَشْعَثُ يَقُولُ قَالَ رَجُلٌ لِبِشْرِ بْنِ أَحْمَدَ أَبِي سَهْلٍ الْإسْفَرايِينِيّ إنَّمَا أَتَعَلَّمُ الْكَلَامَ لِأَعْرِفَ بِهِ الدِّينَ فَغَضِب وَسَمِعْته قَالَ أَوَ كَانَ السَّلَفُ مِنْ عُلَمَائِنَا كُفَّارًا وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الَّذِي أَقُولُ أَنَّهُ إذَا نُظِرَ إلَى إسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَسَعْدٍ وَسَعِيدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَائِرِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَجَمِيعِ الْوُفُودِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَعْرِفْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إلَّا بِتَصْدِيقِ النَّبِيِّينَ وَبِأَعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَدَلَائِلِ الرِّسَالَةِ لَا مِنْ قِبَلِ حَرَكَةٍ وَلَا سُكُونٍ وَلَا مِنْ بَابِ الْبَعْضِ وَالْكُلِّ وَلَا مِنْ بَابِ كَانَ وَيَكُونُ وَلَوْ كَانَ النَّظَرُ فِي الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ عَلَيْهِمْ وَاجِبًا فِي الْجِسْمِ وَنَفْيِهِ وَفِي التَّشْبِيهِ وَنَفْيِهِ لَازِمًا مَا أَضَاعُوهُ وَمَا أَضَاعُوا الْوَاجِبَ لَمَّا نَطَقَ الْقُرْآنُ بِتَزْكِيَتِهِمْ وَتَقْدِيمِهِمْ وَلَا أَطْنَبَ فِي مَدْحِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِهِمْ مَشْهُورًا وَمِنْ أَخْلَاقِهِمْ مَعْرُوفًا لَاسْتَفَاضَ عَنْهُمْ وَاشْتَهَرُوا بِالْقُرْآنِ وَالرِّوَايَاتِ. فَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ أَنَّ مَا يُدْخِلُهُ هَؤُلَاءِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالتَّوْحِيدِ مِنْ الْجِسْمِ وَنَفْيِهِ وَالتَّشْبِيهِ وَنَفْيِهِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ لَوْ كَانَ مِنْ الدِّينِ لَمَا أَضَاعَهُ خِيَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ وَكَلَامُ عُلَمَاءِ الْمِلَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ يَطُولُ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَا سَمَّاهُ هَؤُلَاءِ تَوْحِيدًا وَجَعَلُوهُ هُوَ نَفْيَ التَّجْسِيمِ وَالتَّشْبِيهِ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ ابْتَدَعُوهُ لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَلَا أَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَقَدْ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ حُذَّاقُهُمْ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ وَوَافَقَهُ فِيهِ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ

مِنْهَاجُ الْقَاصِدِينَ لَمَّا ذَكَرَ الْأَسْمَاءَ الَّتِي عُرِفَ مُسَمَّيَاتُهَا فَذَكَرَ الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ وَالتَّوْحِيدَ قَالَ. وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيُّ مِمَّنْ أَخَذَ أَصْلَ الْكَلَامِ فِي التَّوْحِيدِ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَخَالَفُوهُمْ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ مِنْ هَذَا التَّوْحِيدِ الْمُبْتَدَعِ الْمُخَالِفِ لِلتَّوْحِيدِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مَا يَقَعُ كَانَ النَّاسُ يُنَبِّهُونَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَالَ سَمِعْت عَدْنَانَ بْنَ عَبْدَةَ النُّمَيْرِيَّ يَقُولُ سَمِعْت أَبَا عُمَرَ الْبِسْطَامِيَّ يَقُولُ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ أَوَّلًا يَنْتَحِلُ الِاعْتِزَالَ ثُمَّ رَجَعَ فَتَكَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا مَذْهَبُهُ التَّعْطِيلُ إلَّا أَنَّهُ رَجَعَ مِنْ التَّصْرِيحِ إلَى التَّمْوِيهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ وَلَقَدْ حَكَى لِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَالِكِيُّ الْمَغْرِبِيُّ وَكَانَ فَقِيهًا صَالِحًا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سَعِيدٍ الْبَرْقِيِّ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيِّينَ بِبَرْقَةَ عَنْ أُسْتَاذِهِ خَلَفٍ الْمُعَلِّمِ وَكَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيِّينَ أَنَّهُ قَالَ الْأَشْعَرِيُّ أَقَامَ أَرْبَعِينَ سَنَةً عَلَى الِاعْتِزَال ثُمَّ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ فَرَجَعَ عَنْ الْفُرُوعِ وَثَبَتَ عَلَى الْأُصُولِ. قَالَ أَبُو نَصْرٍ هَذَا كَلَامُ خَبِيرٍ بِمَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ وَعَوْرَتِهِ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ إمَامُ الْمَالِكِيَّةِ فِي وَقْتِهِ فِي الْعِرَاقِ فِي الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ تُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ هُمْ أَهْلُ الْكَلَامِ قَالَ فَكُلُّ مُتَكَلِّمٍ فَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَكُلُّ مُتَكَلِّمٍ فَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ أَشْعَرِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ أَشْعَرِيٍّ. وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ: مِنْ مَعَانِي التَّوْحِيدِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْأَشْعَرِيَّةِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ هُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْمُلْكِ بَلْ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ وَهُوَ حَقٌّ وَهُوَ أَجْوَدُ مَا اعْتَصَمُوا بِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ فِي أُصُولِهِمْ حَيْثُ اعْتَرَفُوا فِيهَا بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمُرَبِّيهِ وَمُدَبِّرُهُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ يُخَالِفُونَ فِي ذَلِكَ حَيْثُ يَجْعَلُونَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ يَخْلُقْهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحْدِثْهَا لَكِنْ مَعَ هَذَا قَدْ رَدُّوا قَوْلَهُمْ بِبِدَعٍ غَلَوْا فِيهَا وَأَنْكَرُوا مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَأَنْكَرُوا مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الْأَشْيَاءَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ فَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي يَقُولُونَ أَنَّهَا مَعْنَى اسْمِ اللَّهِ الْوَاحِدِ وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَفِيهَا مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي خُولِفَ بِهَا

الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ مَا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِهِ. وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ كُلِّ مِلَّةٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] . فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِلَهَ إلَهٌ وَاحِدٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ إلَهٌ غَيْرُهُ فَلَا يُعْبَدُ إلَّا إيَّاهُ كَمَا قَالَ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل: 51] وَكَمَا قَالَ: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولا} [الإسراء: 22] . إلَى قَوْلِهِ: {فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39] . وَكَمَا قَالَ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ - إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ - أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 1 - 3] وَكَمَا قَالَ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] . وَالشِّرْكُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ إنَّمَا هُوَ عِبَادَةُ غَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ كَعِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ الْكَوَاكِبِ أَوْ الشَّمْسِ أَوْ الْقَمَرِ أَوْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ تَمَاثِيلِهِمْ أَوْ قُبُورِهِمْ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ كَثِيرٌ فِي هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي التَّوْحِيدِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ إشْرَاكًا وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] . وَقَالَ: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64] {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 66] وَقَالَ

تَعَالَى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 46] وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص: 4] {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص: 6] {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ} [ص: 7] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ - وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 35 - 36] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ يَسْأَلُهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَيَقُولُونَ اللَّهُ وَهُمْ مَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ وَيُشْرِكُونَ بِهِ وَيَقُولُونَ لَهُ وَلَدٌ وَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ فَكَانَ الْكُفَّارُ يُقِرُّونَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ نِهَايَةُ مَا يُثْبِتُهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ إذَا سَلِمُوا مِنْ الْبِدَعِ فِيهِ وَكَانُوا مَعَ هَذَا مُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل: 36] . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ بِهَذَا التَّوْحِيدِ بَعَثَ جَمِيعَ الرُّسُلِ وَأَنَّهُ بَعَثَ إلَى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا بِهِ وَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنْ الْآخِرِينَ دِينًا غَيْرَهُ قَالَ تَعَالَى:

{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ - قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 83 - 84] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] فَدِينُ اللَّهِ أَنْ يَدِينَهُ الْعِبَادُ وَيَدِينُونَ لَهُ فَيَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ وَيُطِيعُونَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْإِسْلَامُ لَهُ فَمَنْ ابْتَغَى غَيْرَ هَذَا دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران: 19] فَذَكَرَ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ بَعْدَ إخْبَارِهِ بِشَهَادَتِهِ وَشَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. وَالْإِلَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ فَأَمَّا مَنْ اعْتَقَدَ فِي اللَّهِ أَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقُهُ وَهُوَ مَعَ هَذَا يَعْبُدُ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ مُشْرِكٌ بِرَبِّهِ مُتَّخِذٌ مِنْ دُونِهِ إلَهًا آخَرَ فَلَيْسَتْ الْإِلَهِيَّةُ هُوَ الْخَلْقَ أَوْ الْقُدْرَةَ عَلَى الْخَلْقِ أَوْ الْقِدَمَ كَمَا يُفَسِّرُهَا هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدَعُونَ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إذْ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ شَهِدَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَكُونُوا يَشُكُّونَ فِي أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ فَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْإِلَهِيَّةَ لَكَانُوا قَائِلِينَ إنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَهَذَا مَوْضِعٌ عَظِيمٌ جِدًّا يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهُ لِمَا قَدْ لُبِّسَ عَلَى طَوَائِفَ مِنْ النَّاسِ أَصْلُ الْإِسْلَامِ حَتَّى صَارُوا يَدْخُلُونَ فِي أُمُورٍ عَظِيمَةٍ هِيَ شِرْكٌ يُنَافِي الْإِسْلَامَ لَا يَحْسِبُونَهَا شِرْكًا وَأَدْخَلُوا فِي التَّوْحِيدِ وَالْإِسْلَامِ أُمُورًا بَاطِلَةً ظَنُّوهَا مِنْ التَّوْحِيدِ وَهِيَ تُنَافِيهِ وَأَخْرَجُوا مِنْ الْإِسْلَامِ وَالتَّوْحِيدِ أُمُورًا عَظِيمَةً لَمْ يَظُنُّوهَا مِنْ التَّوْحِيدِ وَهِيَ أَصْلُهُ فَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا يَجْعَلُونَ التَّوْحِيدَ إلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَوْلِ وَالرَّأْيِ وَاعْتِقَادِ ذَلِكَ دُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَمَلِ وَالْإِرَادَةِ وَاعْتِقَادِ ذَلِكَ بَلْ التَّوْحِيدُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَوْحِيدِ الْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ وَهُوَ تَوْحِيدُ الْعِبَادَةِ وَهُوَ تَحْقِيقُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَنْ يَقْصِدَ اللَّهَ بِالْعِبَادَةِ وَيُرِيدَهُ بِذَلِكَ دُونَ مَا سِوَاهُ وَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَتَضَمَّنُ أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَهُ سَالِمًا فَلَا يُشْرِكُهُ أَحَدٌ فِي الْإِسْلَامِ لَهُ وَهَذَا هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ دُونَ مَا سِوَاهُ وَسُورَةُ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] تُفَسِّرُ ذَلِكَ

الوجه الحادي والستون القرآن قد نطق بأن لله كلمات في غير موضع

وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعَمَلَ وَمَقْصِدَهُ مَسْبُوقٌ بِالْعِلْمِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ وَيَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الْقَوْلِيُّ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ عَنْ اللَّهِ فَفِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَفِيهَا اسْمُهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ وَعِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ يَدْخُلُ فِيهَا كَمَالُ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَكَمَالُ الْخَوْفِ مِنْهُ وَحْدَهُ وَالرَّجَاءُ لَهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ كَمَا يُبَيِّنُ الْقُرْآنُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَبِذَلِكَ يَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ رُسُلَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالْقِتَالِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ حَيْثُ يَقُولُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] . [الْوَجْهُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ الْقُرْآنَ قَدْ نَطَقَ بِأَنَّ لِلَّهِ كَلِمَاتٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ] الْوَجْهُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: إنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَطَقَ بِأَنَّ لِلَّهِ كَلِمَاتٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام: 115] وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] . وَقَالَ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] . وَقَالَ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف: 158] . وَقَالَ تَعَالَى: {يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 7] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الشورى: 24] . وَقَالَ: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12] . وَكَذَلِكَ تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاسْتِعَاذَةُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ. وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ صَرِيحٌ فِي تَعَدُّدِ كَلِمَاتِهِ فَكَيْفَ يُقَالُ لَيْسَ كَلَامُهُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا لَا عَدَدَ فِيهِ أَصْلًا، وَهَذَا قَدْ أَوْرَدُوهُ وَذَكَرُوا جَوَابَهُمْ عَنْهُ فَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ كَلَامِ

ابْنُ فُورَكٍ فَإِنْ قِيلَ هَذَا الَّذِي قُلْتُمْ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالْفُرْقَانُ وَسَائِرُ كُتُبِ اللَّهِ شَيْئًا وَاحِدًا وَالرَّبُّ تَعَالَى قَدْ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ كَلِمَاتٍ وَقَالَ: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] وَقَالَ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [هود: 119] وَقَالَ: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12] . قُلْنَا: إنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ كَلِمَاتٍ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ كَذَلِكَ وَسَمَّى نَفْسَهُ بِأَسْمَاءٍ كَثِيرَةٍ وَأَثْبَتَهَا فِي التَّنْزِيلِ فَقَالَ: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا» أَفَتَقُولُونَ بِتَعَدُّدِ الْمُسَمَّى لِتَعْدِيدِ الْأَسَامِي، أَوْ تَقُولُونَ الْأَسْمَاءُ تَدُلُّ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ بِنُعُوتِ الْجَلَالِ. فَإِنْ قُلْت التَّسْمِيَاتُ تَتَعَدَّدُ وَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ، فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْكَلَامِ إنَّهُ وَاحِدٌ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا هُوَ بِلُغَةٍ مِنْ اللُّغَاتِ وَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ أَوْ فَارِسِيٌّ أَوْ عِبْرَانِيٌّ لَكِنَّ الْعِبَارَاتِ عَنْهُ تَكْثُرُ وَتَخْتَلِفُ، فَإِذَا قُرِئَ كَلَامُ اللَّهِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ سُمِّيَ قُرْآنًا، وَإِذَا قُرِئَ بِلُغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ أَوْ الْفَارِسِيَّةِ سِمِّي تَوْرَاةً وَإِنْجِيلًا كَذَلِكَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ يُوصَفُ بِالْعَرَبِيَّةِ (اللَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وَبِالْفَارِسِيَّةِ خداي بزرك وَبِالتُّرْكِيَّةِ سركوي) وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ وَالتَّسْمِيَةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ تَكْثُرُ. وَكَذَلِكَ هُوَ سُبْحَانَهُ مَعْبُودٌ فِي السَّمَاءِ وَمَعْبُودٌ فِي الْأَرْضِ بِعِبَادَاتٍ وَقُصُودٍ مُتَبَايِنَةٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ سُبْحَانَهُ مَذْكُورُ الذَّاكِرِينَ بِأَذْكَارٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ يُكْتَبُ وَيُقْرَأُ وَيُفَسَّرُ بِقِرَاءَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَذْكَارٍ مُتَفَاوِتَةٍ وَكِتَابَةٍ مُتَبَايِنَةٍ وَقَوْلُهُ: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] قَدْ قِيلَ: إنَّمَا سُمِّيَ كَلَامُهُ كَلِمَاتٍ لِمَا فِيهِ مِنْ فَوَائِدِ الْكَلِمَاتِ وَلِأَنَّهُ يَنُوبُ مَنَابَهَا فَجَازَتْ الْعِبَارَةُ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا وَفِي قَرِيبٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الْحَقِّ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} [الحجر: 23] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل: 120] لِأَنَّهُ مَنَابُ أُمَّةٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء: 47] وَالْمُرَادُ مِيزَانٌ وَاحِدٌ وَقِيلَ مَا تَقَدَّمَتْ الْعِبَارَاتُ وَالدَّلَالَاتُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَفْهُومَاتِ مَعَانِي كَلَامِهِ:

قُلْت: فَهَذَا مَا ذَكَرُوهُ وَمَنْ تَدَبَّرَ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أَبْطَلْ الْقَوْلِ وَأَفْسَدِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُمْ أَوْرَدُوا سُؤَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَسَائِرُ كُتُبِ اللَّهِ شَيْئًا وَاحِدًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّبَّ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ كَلِمَاتٍ. ثُمَّ جَعَلَ الْجَوَابَ عَنْ الْأَوَّلِ: إنَّ هَذَا مِثْلُ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى هِيَ مُتَعَدِّدَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ بِاللُّغَاتِ، وَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْكُتُبُ مَعَ تَعَدُّدِهَا وَتَنَوُّعِهَا هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ فِي الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَفِي الْفَرْعِ، أَمَّا فِي الْأَصْلِ فَلِأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى لَيْسَتْ مُتَرَادِفَةً بِحَيْثُ يَكُونُ مَعْنَى كُلِّ اسْمٍ هُوَ مَعْنَى الِاسْمِ الْآخَرِ وَلَا هِيَ أَيْضًا مُتَبَايِنَةً التَّبَايُنَ فِي الْمُسَمَّى وَفِي صِفَتِهِ، بَلْ هِيَ مِنْ جِهَةِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْمُسَمَّى كَالْمُتَرَادِفَةِ وَمِنْ جِهَةِ دَلَالَتِهَا عَلَى صِفَاتِهِ كَالْمُتَبَايِنَةِ، وَهَذَا الْقِسْمُ كَثِيرٌ وَمِنْهُ أَسْمَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَسْمَاءُ الْقُرْآنِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَجْعَلُ هَذَا قِسْمًا مِنْ الْمُتَرَادِفِ وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهُ مِنْ الْمُتَبَايِنِ قِسْمًا ثَالِثًا قَدْ يُسَمِّيهِ الْمُتَكَافِئُ، وَالْمَقْصُودُ فَهْمُ الْمَعْنَى، فَإِذَا قِيلَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وَقِيلَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ وَقِيلَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ: فَالْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى الْمُسَمَّى بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ، وَالثَّانِي يَدُلُّ عَلَيْهِ بِصِفَةِ الْعِلْمِ، وَالثَّالِثُ بِصِفَةِ الْقُدْرَةِ، وَالرَّابِعُ بِصِفَةِ السَّمْعِ، وَالْخَامِسُ بِصِفَةِ الْبَصَرِ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ لَيْسَ أَحَدُهَا هُوَ الْآخَرَ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ هَؤُلَاءِ وَلَا غَيْرُهُمْ فَصِفَاتُ كُلِّ اسْمٍ يَدُلُّ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْآخَرُ مَعَ اتِّفَاقِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُسَمَّى نَعَمْ وَقَدْ يَدُلُّ الِاسْمُ عَلَى مَعْنَى الْآخَرِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالذَّاتُ تَسْتَلْزِمُ جَمِيعَ الصِّفَاتِ لَكِنْ دَلَالَةُ اللُّزُومِ لَيْسَتْ هِيَ دَلَالَةَ الِاسْمِ اللُّغَوِيَّةَ وَاللُّزُومُ أَيْضًا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ تُعَرَّفَ تِلْكَ الصِّفَاتُ مِنْ غَيْرِ الِاسْمِ هُوَ الدَّالُّ عَلَيْهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَعَدُّدُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَقْتَضِ تَعَدُّدَ الْمُسَمَّى وَلَكِنْ اقْتَضَى تَعَدُّدَ صِفَاتِهِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا تِلْكَ الْأَسْمَاءُ، وَهَؤُلَاءِ يُنَازِعُونَ فِي تَعَدُّدِ الصِّفَاتِ فِي الْجُمْلَةِ وَمُحَقِّقُوهُمْ لَا يَقُولُونَ إنَّهَا مَحْصُورَةٌ بِعَدَدٍ بَلْ يَقُولُونَ هَذَا الَّذِي عَلِمْنَاهُ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مِنْ الصِّفَاتِ مَا لَا نَعْلَمُهُ، وَإِذَا كَانَتْ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ مُتَعَدِّدَةً وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ هَذَا نَظِيرًا لِمَا ادَّعَاهُ مِنْ تَكَثُّرِ الْعِبَارَاتِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى الْمُعَبَّرِ عَنْهُ. وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَلْسُنِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ تَارَةً تَكُونُ

الوجه الثاني والستون أسماء الله الحسنى مع أنها تدل على ذاته الموصوفة بصفات متعددة

تِلْكَ الْأَسْمَاءُ الْعَجَمِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى صِفَاتٍ لَيْسَتْ هِيَ الصِّفَةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا الِاسْمُ الْعَرَبِيُّ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى بِالْعَرَبِيَّةِ وَتَارَةً يَكُونُ مَعْنَاهَا مَعْنَى الِاسْمِ الْعَرَبِيِّ فَيَكُونُ هَذَا كَالْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ، وَلَوْلَا تَنَوُّعُ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ لَمْ يَكُنْ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مَزِيَّةً وَلَا كَانَ فِي اخْتِصَاصِ بَعْضِ النَّاسِ بِعِلْمِ بَعْضِهَا فَضِيلَةٌ وَلَا كَانَ الدُّعَاءُ بِبَعْضِهَا أَوْكَدَ مِنْ الدُّعَاءِ بِبَعْضٍ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا أَصَابَ عَبْدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا غَمٌّ وَلَا حُزْنٌ فَقَالَ اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُك ابْنُ عَبْدِك ابْنُ أَمَتِك نَاصِيَتِي بِيَدِك مَاضٍ فِي حُكْمُك عَدْلٌ فِي قَضَاؤُك أَسْأَلُك اللَّهُمَّ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مِنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ بَصَرِي وَجِلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي إلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَعَلَّمُهُنَّ، قَالَ: بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ» وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثٍ «لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الَّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» وَقَوْلُهُ «أَسْأَلُك بِاسْمِك الْعَظِيمِ الْأَعْظَمِ الْكَبِيرِ الْأَكْبَرِ» وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ «اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ» . [الْوَجْهُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى مَعَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ] الْوَجْهُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ: إنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى مَعَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَلَيْسَ دَلَالَةُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ عَلَى كَلَامِهِ كَدَلَالَةِ أَسْمَائِهِ عَلَى نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ فَإِنَّ الِاسْمَيْنِ يَشْتَرِكَانِ فِي الْمُسَمَّى وَيَنْفَرِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالصِّفَةِ الَّتِي اخْتَصَّ بِالدَّلَالَةِ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الْكَلَامُ الْمُنَزَّلُ فَكُلٌّ مِنْ الْكَلَامَيْنِ لَهُ مَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ لَا يُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَعْنَاهُ كَمَا يُشَارِكُ الِاسْمُ الِاسْمَ فِي مُسَمَّاهُ، فَإِنَّ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مَثَلًا وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَنَحْوَهُمَا دَالَّةٌ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ الْمُتَعَلِّقِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسُورَةُ الدَّيْنِ وَسُورَةُ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] وَغَيْرُهُمَا لَهُمَا مَعَانٍ أُخَرُ فِي ذَمِّ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ وَالْأَمْرِ بِبَعْضِ الْأَفْعَالِ، وَلَيْسَ ذَمُّ هَذَا الْمَخْلُوقِ وَالْخَبَرُ عَنْهُ هُوَ مَدْحَ اللَّهِ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ وَلَا مَعْنَى هَذَا هُوَ مَعْنَى هَذَا وَلَا بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فِي الْخَارِجِ أَصْلًا كَمَا بَيْنَ الِاسْمَيْنِ إذْ مُسَمَّاهُمَا وَاحِدٌ مَوْجُودٌ، وَأَمَّا مَعْنَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فَلَيْسَ هُوَ وَاحِدًا

الوجه الثالث والستون قولهم كذلك نقول في الكلام إنه واحد لا يشبه كلام المخلوقات

أَصْلًا بَلْ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ هَذَا الْمَعْنَى بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ. نَعَمْ يَشْتَرِكَانِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا كَلَامًا لِلْمُتَكَلِّمِ وَهَذَا كَاشْتِرَاكِ الْحَيَاتَيْنِ فِي أَنَّ هَذِهِ حَيَاةٌ وَهَذِهِ حَيَاةٌ، وَاشْتَرَاك الْمَوْجُودَيْنِ فِي أَنَّ هَذَا وُجُودٌ وَهَذَا وُجُودٌ وَهَذَا الِاشْتِرَاكُ لَا يَقْتَضِي أَنَّ أَحَدَهُمَا هُوَ الْآخَرَ فِي الْخَارِجِ أَصْلًا، فَكَذَلِكَ مَعَانِي هَذِهِ الْعِبَارَاتِ لَا تَقْتَضِي أَنَّ إحْدَاهَا هِيَ الْأُخْرَى فِي الْخَارِجِ أَصْلًا وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ الْبَدِيهِيَّةِ وَفَهْمُهُ سَهْلٌ عَلَى مَنْ تَدَبَّرَهُ وَمَنْ جَحَدَ هَذَا كَانَ مِنْ أَظْهَرِ الْجَاحِدِينَ لِلْمَعَارِفِ الْفِطْرِيَّةِ الضَّرُورِيَّةِ وَإِنْ سَقَطَتْ مُكَالَمَةُ أَحَدٍ لِسَفْسَطَتِهِ فَهَذَا أَحَقُّ مِنْ هَؤُلَاءِ بِهَذَا وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِاَلَّذِي بَعْدَهُ وَهُوَ: [الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ قَوْلُهُمْ كَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْكَلَامِ إنَّهُ وَاحِدٌ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقَاتِ] الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ: وَهُوَ قَوْلُهُمْ: كَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْكَلَامِ إنَّهُ وَاحِدٌ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا هُوَ بِلُغَةٍ مِنْ اللُّغَاتِ وَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ أَوْ فَارِسِيٌّ أَوْ عِبْرَانِيٌّ لَكِنْ الْعِبَارَاتُ عَنْهُ تَكْثُرُ وَتَخْتَلِفُ فَإِذَا قُرِئَ كَلَامُ اللَّهِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ سُمِّيَ قُرْآنًا وَإِذَا قُرِئَ بِلُغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ أَوْ السُّرْيَانِيَّةِ سُمِّيَ تَوْرَاةً أَوْ إنْجِيلًا فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ أَفْسَدِ مَا يُعْلَمُ فَبَدِيهَةُ الْعَقْلِ فَسَادُهُ، وَهُوَ كُفْرٌ إذَا فَهِمَهُ الْإِنْسَانُ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُقْرَأُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَقَدْ يُتَرْجَمُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ أَوْ الْفَارِسِيَّةِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَلْسُنِ وَمَعَ هَذَا إذَا تُرْجِمَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ لَمْ يَكُنْ هُوَ التَّوْرَاةَ وَلَا مِثْلَ التَّوْرَاةِ وَلَا مَعَانِيهِ مِثْلُ مَعَانِي التَّوْرَاةِ وَكَذَلِكَ التَّوْرَاةُ تُقْرَأُ بِالْعِبْرِيَّةِ وَتُتَرْجَمُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالسُّرْيَانِيَّةِ وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَتْ مِثْلَ الْقُرْآنِ وَلَا مَعَانِيهَا مِثْلَ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ الْإِنْجِيلُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يُقْرَأُ بِعِدَّةِ أَلْسُنٍ وَهُوَ فِي ذَلِكَ مَعَانِيهِ لَيْسَتْ مَعَانِيَ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ، فَهَلْ يَقُولُ مَنْ لَهُ عَقْلٌ أَوْ دِينٌ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُطْلَقًا إذَا قُرِئَ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ هُوَ الْقُرْآنَ، أَوْ لَيْسَ يَلْزَمُ صَاحِبَ هَذَا أَنْ تَكُونَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إذَا فُسِّرَا بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَا هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ، بَلْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْإِلَهِيَّةُ الَّتِي يَرْوِيهَا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى مِثْلُ قَوْلِهِ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ» وَقَوْلِهِ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إذَا دَعَانِي» وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا كَلَامٌ عَرَبِيٌّ مَأْثُورٌ عَنْ اللَّهِ وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ قُرْآنًا وَلَا مِثْلَ الْقُرْآنِ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى. فَكَيْفَ يُقَالُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إذَا قُرِئَا بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا، وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ

إذَا تُرْجِمَ بِالْعِبْرِيَّةِ أَوْ السُّرْيَانِيَّةِ هَلْ يَقُولُ مَنْ لَهُ عَقْلٌ أَوْ لَهُ دِينٌ إنَّ ذَلِكَ هُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُوسَى وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ الْمُنَزَّلَ بِالْأَلْسِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ مَعْنَاهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ كَالْكَلَامِ الَّذِي يُتَرْجَمُ بِأَلْسِنَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ. الْعِلْمُ بِفَسَادِ هَذَا مِنْ أَوْضَحِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَقَائِلُ هَذَا لَوْ تَدَبَّرَ مَا قَالَ لَعَلِمَ أَنَّ الْمَجَانِينَ، لَا يَقُولُونَ هَذَا، وَمِنْ الْمَعْلُومِ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّ الْكَلَامَ إذَا تُرْجِمَ كَمَا تَرْجَمَتْ الْعَرَبُ كَلَامَ الْأَوَائِلِ مِنْ الْفُرْسِ وَالْيُونَانِ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ فَتِلْكَ الْمَعَانِي هِيَ الْمَعَانِي وَهِيَ بَاقِيَةٌ لَمْ تَخْتَلِفْ بِكَوْنِهَا عَرَبِيَّةً أَوْ فَارِسِيَّةً أَوْ رُومِيَّةً أَوْ هِنْدِيَّةً. وَكَذَلِكَ لَمَّا تَرْجُمُوا مَا تَرْجَمُوهُ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَنَا وَأُمَمِهِمْ فَتِلْكَ الْمَعَانِي هِيَ هِيَ سَوَاءٌ كَانَتْ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ الْفَارِسِيَّةِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَمَّا قَالَتْهُ الْأُمَمُ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ وَهُمْ إنَّمَا قَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَقَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَتِلْكَ الْمَعَانِي هِيَ هِيَ لَمْ يَكُنْ كَوْنُهَا حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَوْ إيمَانًا أَوْ كُفْرًا أَوْ رُشْدًا أَوْ غَيًّا مِنْ جِهَةِ اخْتِلَافِ الْأَلْسِنَةِ بَلْ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَعَانِي هِيَ فِي نَفْسِهَا حَقَائِقُ مُتَنَوِّعَةٌ مُخْتَلِفَةٌ أَعْظَمُ مِنْ اخْتِلَافِ الْأَلْسِنَةِ وَاللُّغَاتِ بِكَثِيرٍ كَثِيرٍ، وَأَيْنَ اخْتِلَافُ الْمَعَانِي مِنْ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ: اخْتِلَافِ صُوَرِ بَنِي آدَمَ وَأَلْسِنَتِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى اخْتِلَافِ قُلُوبِهِمْ وَعُلُومِهِمْ وَقُصُودِهِمْ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اخْتِلَافَ قُلُوبِهِمْ وَعِلْمِهَا وَإِرَادَتِهَا أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ مِنْ اخْتِلَافِ صُوَرِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ حَتَّى قَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ عَنْ رَجُلَيْنِ يَا أَبَا ذَرٍّ هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلُ هَذَا» . فَجَعَلَ أَحَدَهُمَا خَيْرًا مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ جِنْسِ الْآخَرِ وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ قُلُوبِهِمْ، فَاخْتِلَافُ الصُّوَرِ لَا يَبْلُغُ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، وَهَكَذَا كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُوسَى وَهُوَ التَّوْرَاةُ، وَاَلَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الْقُرْآنُ لَمْ تَكُنْ مُغَايَرَةُ بَعْضِهِ بَعْضًا بِمُجَرَّدِ اخْتِلَافِ الْأَلْسِنَةِ بِحَيْثُ إذَا تُرْجِمَ كُلُّ وَاحِدٍ بِلُغَةِ الْآخَرِ صَارَ مِثْلَهُ أَوْ صَارَ هُوَ إيَّاهُ كَمَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، مَعَ التَّرْجَمَةِ يَكُونُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَعَانِي لَيْسَتْ هِيَ مَعَانِيَ الْآخَرِ وَلَا مِثْلَهَا بَلْ التَّفَاوُتُ الَّذِي بَيْنَ مَعَانِي هَذِهِ الْكُتُبِ أَعْظَمُ مِنْ التَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَ أَلْفَاظِهَا وَاللِّسَانُ الْعِبْرِيُّ قَرِيبٌ مِنْ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَمَعَ هَذَا فَمَعَانِي الْقُرْآنِ فَوْقَ مَعَانِي التَّوْرَاةِ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ. ثُمَّ الْمَسِيحُ إنَّمَا كَانَ لِسَانُهُ عِبْرِيًّا وَإِنَّمَا بَعْدَهُ تُرْجِمَ الْإِنْجِيلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ أَفَنَرَى الْإِنْجِيلَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْعِبْرِيَّةِ هُوَ التَّوْرَاةَ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ أَصْلَانِ عَظِيمَانِ.

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقُرْآنَ لَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَالنَّظْمِ الْعَرَبِيِّ اخْتِصَاصٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُمَاثِلَهُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ أَصْلًا، أَعْنِي خَاصَّةً فِي اللَّفْظِ وَخَاصَّةً فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْنَى، وَلِهَذَا لَوْ فُسِّرَ الْقُرْآنُ وَلَوْ تُرْجِمَ فَالتَّفْسِيرُ وَالتَّرْجَمَةُ قَدْ يَأْتِي بِأَصْلِ الْمَعْنَى أَوْ يَقْرُبُهُ وَأَمَّا الْإِتْيَانُ بِلَفْظٍ يُبَيِّنُ الْمَعْنَى كَبَيَانِ لَفْظِ الْقُرْآنِ فَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ أَصْلًا وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَلَا مَعَ الْعَجْزِ عَنْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ، وَلَكِنْ يَجُوزُ تَرْجَمَتُهُ كَمَا يَجُوزُ تَفْسِيرُهُ وَإِنْ لَمْ تَجُزْ قِرَاءَتُهُ بِأَلْفَاظِ التَّفْسِيرِ وَهِيَ إلَيْهِ أَقْرَبُ مِنْ أَلْفَاظِ التَّرْجَمَةِ بِلُغَةٍ أُخْرَى. الْأَصْلُ الثَّانِي: إنَّهُ إذَا تُرْجِمَ أَوْ قُرِئَ بِالتَّرْجَمَةِ فَلَهُ مَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ كَلَامٌ أَصْلًا وَمَعْنَاهُ أَشَدُّ مُبَايَنَةً لِسَائِرِ مَعَانِي الْكَلَامِ مِنْ مُبَايِنَةِ لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ لِسَائِرِ اللَّفْظِ وَالنَّظْمِ وَالْإِعْجَازُ فِي مَعْنَاهُ أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ كَثِيرٍ مِنْ الْإِعْجَازِ فِي لَفْظِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَكَيْفَ يُقَالُ الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالسُّرْيَانِيَّةِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْمُتَرْجَمِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ بِالْعَرَبِيَّةِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ مَعَ أَنَّا بِالْبَدِيهَةِ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ لَا فِي لَفْظٍ وَلَا مَعْنًى فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ إيَّاهُ وَهَلْ يَقُولُ مَنْ لَهُ عَقْلٌ أَوْ دِينٌ يَفْهَمُ مَا يَقُولُ أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ وَالْكَلَامَ الْمُنَزَّلَ هِيَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَاهَا كَدَلَالَةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَمْ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ مَعَ تَنَوُّعِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ وَأَمَّا الْكَلَامُ فَيَكُونُ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى الْآخَرِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودُنَا عُمُومَ النَّفْيِ بَلْ مَقْصُودُنَا نَفْيُ الْعُمُومِ فَإِنَّا لَا نُنْكِرُ أَنَّ الْكَلَامَيْنِ قَدْ يَتَّفِقَانِ فِي الْمَعْنَى، وَقَدْ يُنَزِّلُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نَبِيٍّ بِلُغَةٍ الْمَعْنَى الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى الْآخَرِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى وَاحِدًا وَاللَّفْظُ مُخْتَلَفًا، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فَإِنَّا نَحْنُ لَمْ نُنْكِرْ أَنَّ مَعَانِيَ الْأَلْفَاظِ تَتَّفِقُ، لَكِنْ الْمُنْكَرُ أَنْ يُقَالَ جَمِيعُ مَعَانِي أَلْفَاظِ الْكُتُبِ مُتَّفِقَةٌ وَهِيَ مَعْنًى وَاحِدٌ وَأَنَّ مَعْنَى مَا أَنْزَلَ عَلَى هَذَا النَّبِيِّ هُوَ بِعَيْنِهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَأَنَّ جَمِيعَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ مَعْنَاهَا وَاحِدٌ وَمَعْنَى سُورَةِ الدَّيْنِ هُوَ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَأَنَّ مَعْنَى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] مَعْنَى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] وَمَعْنَى الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَهَذَا لَوْ عُرِضَ عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى

الوجه الرابع والستون إنهم لم يذكروا في الجواب عما أخبر الله به عن نفسه

تَمْيِيزٍ مِنْ الصِّبْيَانِ لَعَلِمَ بِبَدِيهَةِ عَقْلِهِ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ. فَتَدَبَّرْ كَيْفَ ضَلُّوا فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ مَعْنَاهُ وَاحِدٌ لِاتِّحَادِ الْمُسَمَّى، ثُمَّ ضَلُّوا أَعْظَمَ ضَلَالٍ فِي أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ أَنْزَلَهُ مَعْنَاهُ مَعْنًى وَاحِدٌ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ أَسْمَاؤُهُ لِاخْتِلَافِ الْأَلْسِنَةِ، وَشَبَّهُوهُ بِالْأَسْمَاءِ فَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدًا وَلَهُ صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَكَانُوا قَدْ ضَلُّوا مِنْ وَجْهٍ، وَلَكِنْ مَعْنَى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ مِثْلُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ، إذْ الْمَدْلُولُ هُنَا وَاحِدٌ فِي نَفْسِهِ وَلَهُ صِفَاتٌ وَالْمَدْلُولُ هُنَا فِي إحْدَى السُّورَتَيْنِ لَيْسَ هُوَ الْمَدْلُولَ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ. وَأَمَّا تَشْبِيهُهُمْ ذَلِكَ بِكَوْنِ اللَّهِ مَعْبُودًا بِعِبَادَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ فَهُوَ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْفَرْقِ فَلِهَذَا لَمْ نَحْتَجْ إلَى الْكَلَامِ عَلَيْهِ، إذْ تَشْبِيهُ ذَلِكَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَقْوَى اشْتِبَاهًا وَقَدْ ظَهَرَ مَا فِيهِ، فَكَيْفَ بِتَشْبِيهِ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا ادَّعَوْهُ مِنْ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِعِبَادَةِ الْعَابِدِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ إنَّ الْقُرْآنَ مَحْفُوظٌ بِالْقُلُوبِ حَقِيقَةً مَقْرُوءٌ بِالْأَلْسِنَةِ حَقِيقَةً مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ حَقِيقَةً كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَعْلُومٌ بِالْقُلُوبِ مَذْكُورٌ بِالْأَلْسِنَةِ مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ حَقِيقَةً، فَهُوَ يَقْصِدُ هَذَا التَّلْبِيسَ مِنْ جَعْلِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَسَائِرِ كَلَامِ اللَّهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا ادَّعَوْهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى النَّفْسَانِيِّ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لَك أَنَّ هَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانَا مِمَّا ابْتَلَى بِهِ كَثِيرًا مِنْ عِبَادِهِ وَفَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا. وَبِهَذَا وَأَمْثَالِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانُوا أَخْبَثَ قَوْلًا مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ جِهَاتٍ مِثْلِ نَفْيِهِمْ أَنْ يَقُومَ بِاَللَّهِ كَلَامٌ فَهَؤُلَاءِ أَخْبَثُ مِنْهُمْ مِنْ جِهَاتٍ أُخَرَ مِثْلِ مَنْعِهِمْ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ مَا هُوَ كَلَامُهُ وَجَعْلِهِمْ كَلَامِ اللَّهِ شَيْئًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ. [الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ إنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا فِي الْجَوَابِ عَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ] ِ مِنْ أَنَّ لَهُ كَلِمَاتٍ مَا لَهُ حَقِيقَةٌ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ إلَّا مَعْنَى وَاحِدٌ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّعَدُّدُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ لَهُ كَلِمَاتٍ وَأَنَّ الْبِحَارَ لَوْ كَانَتْ مِدَادَهَا وَالْأَشْجَارُ أَقْلَامُهَا لَمَا نَفِدَتْ تِلْكَ الْكَلِمَاتُ، وَهَذَا صَرِيحٌ بِأَنَّ لَهَا مِنْ التَّعْدَادِ مَا لَا يَأْتِي عَلَيْهِ إحْصَاءُ الْعِبَادِ، فَكَيْفَ يُقَالُ لَيْسَ لَهُ كَلِمَتَانِ فَصَاعِدًا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ التَّكْثِيرُ لِلتَّفْخِيمِ كَقَوْلِهِ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: 9] ، فَيُقَالُ لَهُمْ هَذَا إنَّمَا

يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُصَرِّحُ بِأَنَّ الْمَعْنَى بِذَلِكَ اللَّفْظِ هُوَ وَاحِدٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ وَاحِدٌ فَإِذَا قَالَ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: 9] . {إِنَّا فَتَحْنَا} [الفتح: 1] وَقَدْ عَلِمَ الْمُخَاطَبُونَ أَنَّهُ وَاحِدٌ، عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقْتَضِ أَنَّ ثَمَّ آلِهَةً مُتَعَدِّدَةً لَكِنْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ صِيغَةُ الْجَمْعِ فِي مِثْلِ هَذَا دَلَّتْ عَلَى كَثْرَةِ مَعَانِي أَسْمَائِهِ وَهَذَا مُنَاسِبٌ وَأَمَّا الْكَلَامُ فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ قَطُّ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ ابْنِ كُلَّابٍ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا وَلَا خَطَرَ هَذَا بِقَلْبِ أَحَدٍ، فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ أَرَادَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْوَاحِدَ وَلِهَذَا لَا يَكَادُ يُوجَدُ هَذَا فِي صِيغَةِ التَّكَلُّمِ فِي حَقِّ اللَّهِ أَوْ صِيغَةِ الْمُخَاطَبَةِ لَهُ كَمَا قَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99] وَأَمَّا تَمْثِيلُهُمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] أَيْ مِثْلَ أُمَّةٍ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْأُمَّةُ كَمَا فَسَّرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ هُوَ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ وَهُوَ الْقُدْوَةُ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ أَيْ يُقْتَدَى بِهِ، فَأُمَّةٌ مِنْ الِائْتِمَامِ كَقُدْوَةٍ مِنْ الِاقْتِدَاءِ، وَلَيْسَ هُوَ مُسْتَعَارًا مِنْ الْأُمَّةِ الَّذِينَ هُمْ جِيلٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء: 47] وَإِنَّمَا هُوَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْجَمْعُ مُرَادٌ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ إمَّا لِتَعَدُّدِ الْآلَاتِ الَّتِي تُوزَنُ بِهَا أَوْ لِتَعَدُّدِ الْأَوْزَانِ وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ كَثْرَتِهِ لِكَثْرَةِ الْمَعَانِي الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الْعِبَارَاتُ عَنْهُ فَهَذَا حَقٌّ لَكِنْ إذَا كَانَتْ الْعِبَارَاتُ دَلَّتْ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ عُلِمَ أَنَّ مَعَانِيَ الْعِبَارَاتِ لِكَلَامِ اللَّهِ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هُوَ مَعْنًى وَاحِدًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ: إنَّ الْقُرْآنَ صَرَّحَ بِإِرَادَةِ الْعَدَدِ مِنْ لَفْظِ الْكَلِمَاتِ وَبِإِرَادَةِ الْوَاحِدِ مِنْ لَفْظِ كَلِمَةٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [يونس: 19] وَقَالَ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] وَقَالَ: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] فَبَيَّنَ أَنَّهَا إذَا كُتِبَتْ بِمِيَاهِ الْبَحْرِ وَأَقْلَامِ الْأَشْجَارِ لَا تَنْفَدُ وَالنَّفَادُ الْفَرَاغُ فَعُلِمَ أَنَّهُ يُكْتَبُ بَعْضُهَا وَيَبْقَى مِنْهَا مَا لَمْ يُكْتَبْ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا مِنْ الْكَثْرَةِ إلَى أَنْ يُكْتَبَ مِنْهَا مَا يُكْتَبُ وَيَبْقَى مَا يَبْقَى فَكَيْفَ يَكُونُ إنَّمَا أَرَادَ بِلَفْظِ الْكَلِمَاتِ كَلِمَةً وَاحِدَةً

لَا سِيَّمَا وَلَفْظُ الشَّجَرِ يَعُمُّ كُلَّ مَا قَامَ عَلَى سَاقٍ صُلْبٍ أَوْ غَيْرِ صُلْبٍ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي الضَّالَّةِ تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا» . الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ: إنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ وَأَبَانَ الْعَطَّارِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَجَعَلَ قُلْ هُوَ اللَّهَ أَحَدٌ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ» . فَهَذِهِ التَّجْزِئَةُ إمَّا أَنْ تَعُودَ إلَى لَفْظِ الْقُرْآنِ وَإِمَّا أَنْ تَعُودَ إلَى مَعْنَاهُ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ حُرُوفَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] لَيْسَتْ بِقَدْرِ حُرُوفِ ثُلُثِ الْقُرْآنِ بَلْ هِيَ أَقَلُّ مِنْ عُشْرِ عُشْرِ الْعُشْرِ بِكَثِيرٍ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالتَّجْزِئَةِ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ مَعْنَى حُرُوفِ الْقُرْآنِ مُتَجَزِّئَةٌ وَهُمْ قَدْ قَالُوا إنَّ كَلَامَ اللَّهِ وَاحِدٌ لَا يَتَجَزَّأُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَغَايَرُ وَلَا يَخْتَلِفُ، وَلَوْ قِيلَ إنَّ التَّجْزِئَةَ لِلْحُرُوفِ لَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا تَمَاثُلُ قَدْرِ الْحُرُوفِ بَلْ يَكُونُ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَعْنَى لَكَانَ ذَلِكَ حُجَّةً أَيْضًا، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ التَّجْزِئَةُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى عُلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْحُرُوفُ لَيْسَ هُوَ مَعَانِي بَقِيَّةِ الْقُرْآنِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ امْرَأَةٍ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، مَنْ قَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] فَقَدْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهَا ثُلُثُ الْقُرْآنِ. فَإِنْ قِيلَ: الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ قَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا بِلَفْظٍ آخَرَ أَنَّهُ «قَالَ أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ قَالُوا وَكَيْفَ نَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ قَالَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» . فَقَوْلُهُ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ يُبَيِّنُ أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا لَيْسَتْ ثُلُثَهُ وَلَكِنْ تَعْدِلُ ثُلُثَهُ أَيْ فِي الثَّوَابِ. قُلْنَا: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَإِنَّهَا ثُلُثُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَهِيَ تَعْدِلُ ثُلُثَهُ بِاعْتِبَارِ الْحُرُوفِ أَوْ هِيَ بِلَفْظِهَا وَمَعْنَاهَا ثُلُثُهُ فَتَعْدِلُ ثُلُثَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ صَرِيحٌ فِي مَعْنَاهُ وَحَيْثُ قَالَ «جُزِّئَ الْقُرْآنُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَجَعَلَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] جُزْءًا مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ» فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ تَجَزَّأَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ وَإِنَّمَا هِيَ جُزْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ، وَهَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يُرَادَ بِهِ

الوجه السابع والستون إنه قد احتج بعض متأخريهم على إمكان أن يكون كلامه واحدا

مُجَرَّدُ الثَّوَابِ دُونَ السُّورَةِ، وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْمَعُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اُحْشُدُوا فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ثُمَّ دَخَلَ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ وَإِنِّي لَأَرَى هَذَا خَبَرًا جَاءَهُ مِنْ السَّمَاءِ ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنِّي قُلْت سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ أَلَا وَإِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعْدِلُ يَدْخُلُ فِيهِ حُرُوفُهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ «أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ مِنْ السَّحَرِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَكَانَ الرَّجُلُ يَتَقَالُّهَا فَقَالَ النَّبِيُّ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» . وَهَذَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. [الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ إنَّهُ قَدْ احْتَجَّ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ عَلَى إمْكَانِ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ وَاحِدًا] بِمَا ذَكَرَهُ الْمُلَقَّبُ عِنْدَهُمْ بِالْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الرَّازِيّ فَقَالَ: لَمَّا كَانَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ عَالِمًا بِالْعِلْمِ الْوَاحِدِ بِجُمْلَةِ الْمَعْلُومَاتِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُخْبِرًا بِالْخَبَرِ الْوَاحِدِ عَنْ الْمُخْبَرَاتِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ. وَلْنَضْرِبْ لِذَلِكَ مِثَالًا لِهَذَا الْكَلَامِ وَهُوَ أَنَّ رَجُلًا إذَا قَالَ لِأَحَدِ غِلْمَانِهِ إذَا قُلْت اضْرِبْ فَاضْرِبْ فُلَانًا، وَيَقُولُ لِلثَّانِي إذَا قُلْت اضْرِبْ فَلَا تَتَكَلَّمُ مَعَ فُلَانٍ وَيَقُولُ لِلثَّالِثِ إذَا قُلْت اضْرِبْ فَاسْتَخْبِرْ عَنْ فُلَانٍ، وَيَقُولُ لِلرَّابِعِ إذَا قُلْت اضْرِبْ فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْأَمْرِ الْفُلَانِيِّ، ثُمَّ إذَا حَضَرَ الْغِلْمَانُ بَيْنَ يَدَيْهِ ثَمَّ يَقُولُ لَهُمْ اضْرِبْ فَهَذَا الْكَلَامُ الْوَاحِدُ فِي حَقِّ أَحَدِهِمْ أَمْرٌ وَفِي حَقِّ الثَّانِي نَهْيٌ وَفِي حَقِّ الثَّالِثِ خَبَرٌ وَفِي حَقِّ الرَّابِعِ اسْتِخْبَارٌ وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْخَاصٍ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا وَاسْتِخْبَارًا فَأَيُّ اسْتِبْعَادٍ فِي أَنْ يَكُونَ كَلَامُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ وَاحِدٍ. فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ هَذِهِ الْحُجَّةُ بِعَيْنِهَا الَّتِي اعْتَمَدَهَا إمَامُ أَتْبَاعِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ هُوَ أَيْضًا قَدْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فِي أَجَلِّ كُتُبِهِ عِنْدَهُ وَبَيَّنَ فَسَادَهَا، فَقَالَ فِي نِهَايَةُ الْعُقُولِ مِنْ جِهَةِ أَصْحَابِهِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الشَّيْءَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَطَلَبًا وَبَيَانُهُ أَنَّ إنْسَانًا لَوْ قَالَ

لِبَعْضِ عَبِيدِهِ مَتَى قُلْت لَك افْعَلْ فَاعْلَمْ أَنِّي أَطْلُبُ مِنْك الْفِعْلَ، وَقَالَ لِلْآخَرِ مَتَى قُلْت لَك هَذِهِ الصِّيغَةَ فَاعْلَمْ أَنِّي أَطْلُبُ مِنْك التَّرْكَ، وَقَالَ لِلْآخَرِ مَتَى قُلْت لَك هَذِهِ الصِّيغَةَ فَاعْلَمْ أَنِّي أُخْبِرُ عَنْ كَوْنِ الْعَالَمِ حَادِثًا، فَإِذَا حَضَرُوا بِأَسْرِهِمْ وَخَاطَبَهُمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً بِهَذِهِ الصِّيغَةِ كَانَتْ تِلْكَ الصِّيغَةُ الْوَاحِدَةُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا مَعًا، فَإِذَا عُقِلَ ذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ فَلْيُعْقَلْ مِثْلُهُ فِي الْغَائِبِ. ثُمَّ قَالَ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ افْعَلْ لَيْسَ فِي نَفْسِهِ طَلَبًا وَلَا خَبَرًا بَلْ هُوَ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِإِفَادَةِ مَعْنَى الطَّلَبِ وَمَعْنَى الْخَبَرِ وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي جَعْلِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ دَلِيلًا عَلَى حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ، إنَّمَا الِاسْتِحَالَةُ فِي أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ وَكَلَامُنَا إنَّمَا هُوَ فِي نَفْسِ حَقِيقَةِ الْخَبَرِ وَحَقِيقَةِ الطَّلَبِ. وَاسْتِقْصَاءُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الْأَمْرِ مِنْ كِتَابِ الْمَحْصُولُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ فَهَذَا كَلَامُ الْمُسْتَدِلِّ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ فِي بَيَانِ فَسَادِهَا وَبُطْلَانِهَا وَذَلِكَ كَافٍ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ: أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْحُجَّةُ مِنْ أَفْسَدِ الْحُجَجِ عِنْدَ التَّأَمُّلِ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمَثَلَ الْمَضْرُوبَ أَكْثَرُ مَا فِيهِ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ مُشْرَكًا بَيْنَ مَعَانِي أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَخَبَرٍ كَمَا قَدْ قِيلَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ وَيْلٌ لَك أَنَّهُ دُعَاءٌ وَخَبَرٌ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الصِّيغَةَ الْوَاحِدَةَ يُرَادُ بِهَا الْأَمْرُ تَارَةً وَالْخَبَرُ أُخْرَى كَقَوْلِ الْقَائِلِ غَفَرَ اللَّهُ لِفُلَانٍ وَرَحِمَهُ وَأَحْسَنَ إلَيْهِ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَأَجَارَهُ مِنْ النَّارِ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ نِعَمًا عَظِيمَةً فَإِنَّ هَذَا فِي الْأَصْلِ خَبَرٌ وَهُوَ كَثِيرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ طَلَبٌ وَكَذَلِكَ صِيغَةُ افْعَلْ هِيَ أَمْرٌ فِي الْأَصْلِ وَقَدْ تُضَمَّنُ مَعْنَى النَّهْيِ وَالتَّهْدِيدِ كَمَا قَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40] . وَلَكِنْ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ إمَّا الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ أَوْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ، هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَغَيْرِهِمْ، وَالنِّزَاعُ مَشْهُورٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَبَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ أَيْضًا وَالرَّازِيُّ يَخْتَارُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مُوَافَقَةً لِأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَلَمْ يَجْعَلْ الْمَانِعَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرًا يَرْجِعُ إلَى الْقَصْدِ فَإِنَّ قَصْدَ الْمَعْنَيَيْنِ جَائِزٌ وَلَكِنْ الْمَانِعُ أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى الْوَضْعِ وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ إنَّمَا وَضَعُوهُ لِهَذَا وَهَذِهِ وَلِهَذَا وَهَذِهِ فَاسْتِعْمَالُهُ فِيهَا جَمِيعًا اسْتِعْمَالٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ.

وَلِهَذَا كَانَ الْمُرَجَّحُ قَوْلَ الْمُسَوِّغِينَ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِيهِمَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالًا لَهُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَذَلِكَ يَسُوغُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَلَا مَانِعَ لِأَهْلِ اللُّغَةِ مِنْ أَنْ يَسْتَعْمِلُوا اللَّفْظَ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا اسْتِعْمَالٌ لَهُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ فِيهِ نِزَاعٌ كَالطَّلَاقِ الْقَوْلُ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، أَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَهُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، وَمِنْهُ اسْتِعْمَالُ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِي النَّدْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ طَوَائِفَ مِنْ النَّاسِ يَقُولُونَ بَعْضُ الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ غَيْرَهُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِعْمَالًا لَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَلَا يَجْعَلُونَ اللَّفْظَ بِذَلِكَ مَجَازًا، وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِمَا، وَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ ضِدُّ اسْتِعْمَالِ الْعَامِّ فِي بَعْضِ مَعْنَاهُ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِهَذَا مُفْرَدًا وَلِهَذَا مُفْرَدًا فَجَمَعَ بَيْنَ مَعْنَيَيْهِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقِرُّ مِثْلُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُ عَيْنُ مَعْنَاهُ إذْ هُوَ مَعْنَاهُ مُفْرَدًا وَمَعَهُ غَيْرُهُ. وَكَمَا أَنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ لَيْسَ بِغَيْرٍ لَهُ عِنْدَهُمْ فَلَا يَصِيرُ الشَّيْءُ غَيْرًا لِنَفْسِهِ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمَزِيدُ نَظِيرَهُ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا تَكْمِيلَ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَكِنْ نُبَيِّنُ حَقِيقَةَ مَا يَحْتَجُّ بِهِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ هَذَا الْمَثَلَ الَّذِي ضَرَبُوهُ مَضْمُونُهُ أَنْ يُجْعَلَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِأَمْرٍ وَنَهْيٍ وَخَبَرٍ وَيُقْصَدُ بِالْخِطَابِ بِهِ إفْهَامُ كُلِّ مَعْنًى لِمُخَاطَبٍ غَيْرِ الْمُخَاطَبِ الْأَوَّلِ وَهَذَا جَائِزٌ فِي الْمَعْقُولِ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مِمَّا ادَّعَوْهُ فِي الْكَلَامِ بِشَيْءٍ وَذَلِكَ أَنَّ النِّزَاعَ لَيْسَ هُوَ فِي أَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ يَدُلُّ عَلَى حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ وَلَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى ضَرْبِ الْمَثَلِ، بَلْ دَلَالَةُ الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ كَثِيرٌ جِدًّا وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ خَبَرًا أَوْ أَمْرًا لَكِنْ وَيَدُلُّ عَلَى حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي هِيَ مَدْلُولُ جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ هَلْ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ فَالنِّزَاعُ فِي الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَهِيَ أَمْرُ اللَّهِ بِكَذَا وَأَمْرُهُ بِكَذَا أَوْ نَهْيُهُ عَنْ كَذَا وَنَهْيُهُ عَنْ كَذَا أَوْ خَبَرُهُ بِكَذَا وَخَبَرُهُ بِكَذَا هَلْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَالْمَعَانِي لَا تَتْبَعُ وَضْعَ وَاضِعٍ، وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ هَؤُلَاءِ إذَا احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ هُوَ مَعْنًى فِي النَّفْسِ قَالُوا إنَّ مَدْلُولَ الْعِبَارَاتِ وَالْإِشَارَاتِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَلَا بِقَصْدِ الْوَاضِعِينَ الْمُتَكَلِّمِينَ ثُمَّ يَحْتَجُّونَ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ بِجَوَازِ أَنْ يَجْعَلَ الْوَاضِعُ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ مَوْضُوعًا لِمَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا فَإِنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى يَتْبَعُ قَصْدَ الْمُتَكَلِّمِ وَالْإِرَادَةَ، فَإِنَّهُ بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ

الوجه التاسع والستون كان الباري عالما بالعلم الواحد بجملة المعلومات غير المتناهية

اللَّفْظَ صَارَ كَذَلِكَ بِذَاتِهِ أَوْ بِطَبْعِهِ لَكِنْ تَنَازَعَ النَّاسُ، هَلْ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مُنَاسَبَةٌ لِأَجْلِهَا خَصَّصَ الْوَاضِعُونَ هَذَا اللَّفْظَ بِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى قَوْلَيْنِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ وَلَيْسَتْ مُوجِبَةً بِالطَّبْعِ حَتَّى يُقَالَ فَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ بَلْ هِيَ مُنَاسَبَةٌ دَاعِيَةٌ وَالْمُنَاسَبَةُ تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْأُمَمِ كَتَنَوُّعِ الْأَفْعَالِ الْإِرَادِيَّةِ. وَلَوْ قِيلَ إنَّهُ بِالطَّبْعِ فَطِبَاعُ الْأُمَمِ تَخْتَلِفُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ طَبْعُهُمْ الِاخْتِيَارِيُّ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْمَثَلَ الَّذِي ضَرَبُوهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَمَّا قَصَدُوهُ إذْ مَا ذَكَرُوهُ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَعَانٍ وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَمَقْصُودُهُمْ أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي هِيَ فِي نَفْسِهَا لِكُلِّ مَعْنًى حَقِيقَةٌ هَلْ هِيَ فِي نَفْسِهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ بِقَصْدِ وَاضِعٍ وَلَا إرَادَتِهِ وَلَا وَضْعِهِ، وَالْإِمْكَانُ هُنَا لَيْسَ هُوَ إمْكَانُ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا هَذَا بَلْ الْمَسْئُولُ عَنْهُ الْإِمْكَانُ الذِّهْنِيُّ وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمَعْقُولُ مِنْ صِيَغِ الْأَمْرِ هُوَ الْمَعْنَى الْمَعْقُولُ مِنْ صِيَغِ الْخَبَرِ. وَأَنْ يَكُونَ نَفْسُ مَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ مِنْ الْأَمْرِ بِهَذَا الْخَبَرِ عَنْهُ هُوَ بِعَيْنِهِ مَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ مِنْ الْأَمْرِ بِغَيْرِهِ وَالْخَبَرِ عَنْهُ. [الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ كَانَ الْبَارِي عَالِمًا بِالْعِلْمِ الْوَاحِدِ بِجُمْلَةِ الْمَعْلُومَاتِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ] الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ: أَنْ يُقَالَ هُوَ قَالَ إذَا كَانَ الْبَارِي عَالِمًا بِالْعِلْمِ الْوَاحِدِ بِجُمْلَةِ الْمَعْلُومَاتِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُخْبِرًا بِالْخَبَرِ الْوَاحِدِ عَنْ الْمُخْبَرَاتِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَاتِ. فَيُقَالُ لَهُ: هَبْ أَنَّ هَذَا ثَبَتَ فِي كَوْنِ الْخَبَرِ وَاحِدًا فَلِمَ قُلْت إنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ عَنْ الْمُخْبَرَاتِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ هُوَ بِعَيْنِهِ الْأَمْرُ بِالْمَأْمُورَاتِ وَالتَّكْوِينِ لِلْمُكَوِّنَاتِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ، فَهَبْ أَنَّ الْخَبَرَ يُقَاسُ بِالْعِلْمِ، فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ هُوَ نَفْسَ الْأَمْرِ؟ . الْوَجْهُ السَّبْعُونَ: إنَّ الْأَصْلَ الَّذِي يُقَاسُ عَلَيْهِ وَشَبَّهَ بِهِ مَنْ الْإِمْكَانِ، وَهُوَ الْعِلْمُ أَصْلٌ غَيْرُ مَدْلُولٍ عَلَيْهِ، فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنَّ الْبَارِيَ لَيْسَ لَهُ إلَّا عِلْمٌ وَاحِدٌ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَعَدَّدُ، وَهَذَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا قَالَهُ إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِإِجْمَاعٍ وَلَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُحَاطُ بِبَعْضِ عِلْمِهِ لَا بِكُلِّهِ وَقَالَ فِي كِتَابِهِ: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران: 61] .

وَقَدْ احْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ فَجَعَلُوهُ بَعْضَ عِلْمِ اللَّهِ فَمَنْ الَّذِي يَقُولُ إنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَيْسَ لَهُ بَعْضٌ وَلَا جُزْءٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ عُمْدَةٌ إلَّا مَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ إمَامُ الْقَوْمِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ، فَإِنَّهُ اعْتَمَدَ فِيهَا إجْمَاعًا ادَّعَاهُ وَهُوَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ يَدَّعِي إجْمَاعَاتٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا كَدَعْوَاهُ إجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ بِكَوْنِهِمْ لَمْ يَأْمُرُوا الظَّلَمَةَ بِالْإِعَادَةِ، وَلَعَلَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ اُسْتُفْتُوا فِي إعَادَةِ الظَّلَمَةِ مَا صَلَّوْهُ فِي مَكَان مَغْصُوبٍ فَأَفْتَوْهُمْ بِإِجْزَاءِ الصَّلَاةِ، لَكِنْ أَهْلُ الْكَلَامِ كَثِيرُو الِاحْتِجَاجِ مِنْ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ بِالْحُجَجِ الدَّاحِضَةِ، وَلِهَذَا كَثُرَ ذَمُّ السَّلَفِ لَهُمْ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى وَحْدَةِ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ. فَقَالَ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي وَحْدَةِ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ نَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الشَّامِلِ عَنْ أَبِي سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيِّ مِنَّا أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِعُلُومٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ إلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِعِلْمٍ وَاحِدٍ قَادِرٌ بِقُدْرَةٍ وَاحِدَةٍ مَرِيدٌ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ عَوَّلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْإِجْمَاعِ فَقَالَ الْقَائِلُ قَائِلَانِ، قَائِلٌ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْعِلْمِ قَادِرٌ بِالْقُدْرَةِ، وَقَائِلٌ يَقُولُ لَيْسَ اللَّهُ عَالِمًا بِالْعِلْمِ وَلَا قَادِرًا بِالْقُدْرَةِ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ إنَّهُ عَالِمٌ بِعِلْمٍ وَاحِدٍ قَادِرٌ بِقُدْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ قُلْنَا إنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِعِلْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا ثَالِثًا خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ. قَالَ وَأَمَّا الصُّعْلُوكِيُّ فَهُوَ مَسْبُوقٌ بِهَذَا الْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ، قُلْت هَذَا الْإِجْمَاعُ مُرَكَّبٌ مِنْ جِنْسِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ الرَّازِيّ عَلَى قِدَمِ الْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَوْهُ أَنَّهُ هُوَ الْكَلَامُ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إجْمَاعٌ أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ إجْمَاعُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ لَوْ صَحَّ فَكَيْفَ وَقَدْ حَكَى أَبُو حَاتِمٍ التَّوْحِيدِيُّ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ أَنَّهُ كَانَ يُثْبِتُ عُلُومًا لَا نِهَايَةَ لَهَا وَالسَّلَفُ الَّذِينَ أَثْبَتُوا عِلْمَ اللَّهِ وَقُدْرَتَهُ لَيْسَ مَقْصُودُهُمْ بِذَلِكَ مَا يَقْصِدُهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنَّهُ لَا بَعْضَ لَهُ، بَلْ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يُعْلَمُ بَعْضُ عِلْمِ اللَّهِ وَلَا يُعْلَمُ بَعْضُهُ، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ مِنْ نَفْيِ التَّبْعِيضِ الَّذِي اخْتَصُّوا بِنَفْيِهِ كَاَلَّذِينَ خَالَفُوهُمْ مِنْ

الْمُرْجِئَةِ وَالشِّيعَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُخَالِفُونَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَهَذَا الَّذِي اعْتَمَدَهُ إمَامُ الطَّائِفَةِ وَلِسَانُهَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ وَحْدَةِ الْعِلْمِ إلَّا بِالْإِجْمَاعِ الَّذِي ادَّعَاهُ يُبَيِّنُ لَك أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَمْنَعُ تَعَدُّدَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلَامِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ، وَكَذَلِكَ أَقَرَّ بِذَلِكَ أَبُو الْمَعَالِي وَالرَّازِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حُذَّاقِ الْقَوْمِ فَإِنَّ كَلَامَ ابْنِ فُورَكٍ قَدْ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ اتِّحَادَ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ: أَنَّ إمَامَهُمْ الْمُتَأَخِّرَ وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ اعْتَرَفَ فِي أَجَلِّ كُتُبِهِ أَنَّ الْقَوْلَ بِكَوْنِ الطَّلَبِ هُوَ الْخَبَرَ هُوَ بَاطِلٌ عَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِ الْحَالِ، وَنَفْيُ الْحَالِ هُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ وَتَحْقِيقُهُمْ وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو الْمَعَالِي فِي آخِرِ عُمْرِهِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِثُبُوتِ الْحَالِ فَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَجْزِمْ بِإِمْكَانِهِ وَلَا امْتِنَاعِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ حِكَايَةُ لَفْظِهِ فِي ذَلِكَ وَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي قَالُوهُ مُمْتَنِعُ الْعَقْلِ عِنْدَ مُحَقِّقِيهِمْ وَهُمْ نُفَاةُ الْحَالِ. وَأَمَّا عِنْدَ مُثْبِتِي الْحَالِ عِنْدَهُمْ فَلَا نَعْلَمُ أَنَّهُ مُمْكِنٌ أَوْ مُمْتَنِعٌ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا نَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ فَتَبَيَّنَ أَنْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ عَلَى إمْكَانِ صِحَّةِ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنًى وَاحِدٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ الْوَاقِعَ إذْ لَيْسَ كُلُّ مَا أَمْكَنَ فِي الذِّهْنِ كَانَ هُوَ الْوَاقِعَ فَإِنَّهُ إذَا جَازَ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ صِفَةً وَاحِدَةً وَجَازَ أَنْ يَكُونَ صِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةً فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يُبَيِّنُ ثُبُوتَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَكَيْفَ إذَا قَالَ النَّاسُ لَهُمْ إنَّهُ مُمْتَنِعٌ لَمْ يَذْكُرُوا دَلِيلًا عَلَى إمْكَانِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ: إنَّا نُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُمْتَنِعٌ عَلَى الْقَوْلِ بِثُبُوتِ الْحَالِ وَعَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِهِ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُهُ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِثُبُوتِهِ فَإِنَّ الرَّازِيَّ إنَّمَا تَوَقَّفَ لِأَنَّهُ قَالَ، وَأَمَّا إنْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الْقَوْلِ بِالْحَالِ فَيَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْحَقَائِقِ الْكَثِيرَةِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ تَتَّصِفَ بِوُجُودٍ وَاحِدٍ أَمْ لَا، فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ الْوَاحِدَةُ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً إلَّا بَطَلَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ، قَالَ وَأَنَا إلَى الْآنَ لَمْ يَتَّضِحْ لِي فِيهِ دَلِيلٌ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا، فَيُقَالُ لِهَذَا هَذِهِ أُغْلُوطَةٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ هَبْ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ زَائِدٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي الْخَارِجِ وَهَبْ أَنَّا سَلَّمْنَا لَهُ مَا شَكَّ فِيهِ وَهُوَ

الوجه الثالث والسبعون ما شك فيه يقطع فيه بالامتناع

اتِّصَافُ الْحَقَائِقِ الْمُخْتَلِفَةِ بِوُجُودٍ وَاحِدٍ فَهَذَا لَا يُثْبِتُ مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يُفِيدُ أَنْ تَكُونَ الْحَقَائِقُ الْمُخْتَلِفَةُ لَهَا صِفَةٌ وَاحِدَةٌ فَتَكُونُ الْحَقَائِقُ الْمُخْتَلِفَةُ مَوْصُوفَةً بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ الْحَالُ الَّتِي هِيَ الْوُجُودُ وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ الْحَقَائِقُ الْمُخْتَلِفَةُ شَيْئًا وَاحِدًا، وَأَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ الْوَاحِدَةُ فِي نَفْسِهَا حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك ضَعْفُ قَوْلِهِ، فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ اتِّصَافِ الْحَقَائِقِ الْمُخْتَلِفَةِ بِوُجُودٍ وَاحِدٍ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ الْوَاحِدَةُ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً وَإِلَّا بَطَلَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ اتِّصَافَ الْحَقَائِقِ الْمُخْتَلِفَةِ بِوُجُودٍ وَاحِدٍ غَيْرُ كَوْنِ الصِّفَةِ الْوَاحِدَةِ هِيَ فِي نَفْسِهَا حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ، فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهَا صِفَةً لِحَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ وَبَيْنَ كَوْنِهَا فِي نَفْسِهَا حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً أَمْرٌ وَاضِحٌ بَيِّنٌ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ لَهُ مَا قَالَ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَائِقَ الْمُخْتَلِفَةَ تَتَّصِفُ بِوُجُودٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْوُجُودَ الْوَاحِدَ الثَّابِتَ فِي الْخَارِجِ هُوَ فِي نَفْسِهِ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ نَفْسَ الطَّلَبِ هُوَ نَفْسُ الْخَبَرِ فَيَجْعَلُونَ الْحَقِيقَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ شَيْئًا وَاحِدًا، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. وَإِنْ قِيلَ إنَّ لَهُمَا وُجُودًا وَاحِدًا زَائِدًا عَلَى حَقِيقَتِهِمَا فَإِنَّ فَسَادَ كَوْنِ الْحَقِيقَتَيْنِ شَيْئًا وَاحِدًا مَعْلُومٌ بِالْبَدِيهَةِ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ الْحَقَائِقَ الْمُخْتَلِفَةَ كَالْأَعْرَاضِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَإِنْ قِيلَ إنَّ وُجُودَهَا زَائِدٌ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا وَاحِدًا فَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا وَاحِدَةٌ [الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ مَا شُكَّ فِيهِ يُقْطَعُ فِيهِ بِالِامْتِنَاعِ] . الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ: أَنْ يُقَالَ مَا شُكَّ فِيهِ يُقْطَعُ فِيهِ بِالِامْتِنَاعِ فَيُقَالُ مِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ تَكُونَ الْحَقِيقَتَانِ الْمُخْتَلِفَتَانِ لَهُمَا وُجُودٌ وَاحِدٌ قَائِمٌ بِهِمَا كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا عَرَضٌ وَاحِدٌ يَقُومُ بِهِمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَالَ الَّذِي هُوَ الْوُجُودُ الَّذِي يُقَالُ إنَّهُ قَائِمٌ بِالْحَقَائِقِ وَأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى حَقَائِقِهَا تَابِعٌ لِتِلْكَ الْحَقَائِقِ، فَوُجُودُ كُلِّ حَقِيقَةٍ تَابِعٌ لَهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ بِغَيْرِهَا كَمَا لَا يُوجَدُ بِغَيْرِهَا سَائِرُ مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْأَعْرَاضِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَرَضُ الْقَائِمُ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ هُوَ بِعَيْنِهِ الْعَرْضُ الْقَائِمُ بِالْحَقِيقَةِ الْأُخْرَى الْمُخَالِفَةِ لَهَا، فَالْوُجُودُ الَّذِي لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ الْوُجُودَ الْقَائِمَ بِالْحَقِيقَةِ الْأُخْرَى بِعَيْنِهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ: أَنَّ هَذَا الَّذِي شَكَّ فِيهِ لَوْ صَحَّ وَجَزَمَ بِهِ لَكَانَ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مُتَعَدِّدًا مُتَّحِدًا فَيَكُونُ حَقِيقَتَيْنِ وَهُوَ وَاحِدٌ، أَمَّا رَفْعُ التَّعَدُّدِ عَنْهُ مِنْ كُلِّ

الوجه الخامس والسبعون الدليل على أنه ليس لله كلام إلا معنى واحدا

وَجْهٍ فَلَا يُمْكِنُ لِأَنَّ الْوُجُودَ الْوَاحِدَ إذَا كَانَ صِفَةً لِحَقِيقَتَيْنِ وَقِيلَ إنَّ الصِّفَةَ تَكُونُ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً فَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهَا حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً، وَكَوْنَهَا شَيْئًا وَاحِدًا وَهَؤُلَاءِ يَمْنَعُونَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً، فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُمْ مَعْلُومُ الْفَسَادِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، هَذَا كُلُّهُ تَنَزُّلٌ مَعَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْحَالِ وَأَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ فِي الْخَارِجِ زَائِدٌ عَلَى حَقَائِقِهَا الْمَوْجُودَةِ وَإِلَّا فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ، وَإِنَّمَا ابْتَدَعَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْمَعْدُومُ شَيْءٌ فِي الْخَارِجِ فَالْبِنَاءُ عَلَيْهِ فَاسِدٌ. [الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا] الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ: إنَّهُ يُقَالُ هَبْ أَنَّهُ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدًا كَمَا قُلْتُمْ إنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ وَاحِدًا، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا وَقَدْ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ الرَّازِيّ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ أَنَّهُ إمَّا مُمْتَنِعٌ أَوْ مُتَوَقِّفٌ فِي إمْكَانِهِ فَقَالَ وَأَمَّا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَوَّلَ فِيهِ عَلَى الْإِجْمَاعِ لِلْحِكَايَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ نَصًّا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ فَبَقِيَتْ الْمَسْأَلَةُ بِلَا دَلِيلٍ. الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالسَّبْعُونَ: أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ كَثِيرًا مَا يَزْعُمُونَ أَنَّ أَهْلَ الْإِثْبَاتِ يُضَاهُونَ النَّصَارَى، وَهَذَا يَقُولُونَهُ تَارَةً لِإِثْبَاتِهِمْ الصِّفَاتِ وَتَارَةً لِقَوْلِهِمْ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ أَنْزَلَهُ وَهُوَ فِي الْقُلُوبِ وَالْمَصَاحِفِ، وَالْجَهْمِيَّةُ هُمْ الْمُضَاهِئُونَ لِلنَّصَارَى فِيمَا كَفَّرَهُمْ اللَّهُ بِهِ لَا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ الَّذِينَ ثَبَّتَهُمْ اللَّهُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ. فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ الْوَجْهُ الثَّانِي الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْكَلَامِ فَإِنَّهُمْ تَارَةً يَقُولُونَ إذَا قُلْتُمْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ النَّصَارَى أَنَّ الْمَسِيحَ كَلِمَةُ اللَّهِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَتَارَةً يَقُولُونَ إذَا قُلْتُمْ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي الصُّدُورِ وَالْمَصَاحِفِ فَقَدْ قُلْتُمْ بِقَوْلِ النَّصَارَى الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ الْكَلِمَةَ حَلَّتْ فِي الْمَسِيحِ وَتَدَرَّعَتْهُ وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي يَقُولُهُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى فِي النَّفْسِ وَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ إلَى الْأَرْضِ كَلَامًا لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْغَرَضُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَمَّا أَنْتُمْ فَضَاهَيْتُمْ النَّصَارَى فِي نَفْسِ مَا هُوَ ضَلَالٌ مِمَّا خَالَفُوهُ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ وَكَفَّرَهُمْ اللَّهُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَذَلِكَ يَتَبَيَّنُ بِمَا ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَذْهَبِ النَّصَارَى فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ:

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ جَعْلُهُمْ وَلَدًا لِلَّهِ وَتَنْزِيهُ اللَّهِ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا ذَكَرَ قِصَّةَ مَرْيَمَ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مريم: 34] {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم: 35] . وَقَالَ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [مريم: 88] {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} [مريم: 89] {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90] {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 91] {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا - لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم: 93 - 94] {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95] . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17] الْآيَةَ. فَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73] . الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} [النساء: 171] {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] الْآيَةَ.

فَقَدْ ذَكَرَ كُفْرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ فِي آيَةٍ وَنَهَى أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ ذَلِكَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَهَذَانِ مَوْضِعَانِ ذَكَرَ فِيهِمَا التَّثْلِيثَ عَنْهُمْ وَفِي مَوْضِعَيْنِ ذَكَرَ كُفْرَهُمْ بِقَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَأَمَّا ذِكْرُ الْوَلَدِ عَنْهُمْ فَكَثِيرٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ عَنْ النَّصَارَى هِيَ قَوْلُ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ الْيَعْقُوبِيَّةُ وَهُمْ شَرُّهُمْ وَهُمْ السُّودَانُ مِنْ الْحَبَشَةِ، وَالْقِبْطُ ثُمَّ الْمَلْكَانِيَّةُ وَهُمْ أَهْلُ الشَّمَالِ مِنْ الشَّامِ وَالرُّومِ ثُمَّ النَّسْطُورِيَّةُ وَهُمْ نَشَئُوا فِي دَوْلَةِ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ زَمَنِ الْمَأْمُونِ وَهُمْ قَلِيلٌ فَإِنَّ الْيَعْقُوبِيَّةَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ اتَّحَدَا وَامْتَزَجَا كَامْتِزَاجِ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَالْخَمْرِ فَهُمَا جَوْهَرٌ وَاحِدٌ وَأُقْنُومٌ وَاحِدٌ وَطَبِيعَةٌ وَاحِدَةٌ فَصَارَ عَيْنُ النَّاسُوتِ عَيْنَ اللَّاهُوتِ وَأَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ عَيْنُ اللَّاهُوتِ، والملكانية تَزْعُمُ أَنَّهُمَا صَارَا جَوْهَرًا وَاحِدًا لَهُ أُقْنُومَانِ وَقِيلَ أُقْنُومٌ وَاحِدٌ لَهُ جَوْهَرَانِ والنسطورية يَقُولُونَ هُمَا جَوْهَرَانِ أُقْنُومَانِ وَإِنَّمَا اتَّحِدَا فِي الْمَشِيئَةِ وَهَذَانِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِالِاتِّحَادِ، وَأَمَّا الْقَوْلُ بِالْحُلُولِ فَمِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ كَأَبِي الْمَعَالِي مَنْ يَذْكُرُ الْخِلَافَ فِي فِرَقِهِمْ الثَّلَاثِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالِاتِّحَادِ بِالْمَسِيحِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْحُلُولِ فِيهِ فَيَقُولُ هَؤُلَاءِ مِنْ الطَّوَائِفِ الثَّلَاثَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْحُلُولِ وَأَنَّ اللَّاهُوتَ حَلَّ فِي النَّاسُوتِ وَقَالُوا هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنْهُمْ فَهُمَا جَوْهَرَانِ وَطَبِيعَتَانِ وَأُقْنُومَانِ كَالْجَسَدِ وَالرُّوحِ وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِظُهُورِ اللَّاهُوتِ فِي النَّاسُوتِ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَذَكَرَ طَوَائِفَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ كَابْنِ الزَّاغُونِيِّ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ جَمِيعًا يَقُولُونَ بِالِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ، لَكِنْ الِاتِّحَادُ فِي الْمَسِيحِ وَالْحُلُولُ فِي مَرْيَمَ، فَقَالُوا: اتَّفَقَتْ طَوَائِفُ النَّصَارَى عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَقَانِيمِ جَوْهَرٌ خَاصٌّ يَجْمَعُهَا الْجَوْهَرُ الْعَامُّ وَذَكَرُوا اخْتِلَافًا بَيْنَهُمْ ثُمَّ قَالُوا وَزَعَمُوا أَنَّ الْجَوْهَرَ هُوَ الْأَبُ وَالْأَقَانِيمُ الْحَيَاةُ وَهِيَ رُوحُ الْقُدُسِ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَأَنَّ اللَّهَ اتَّحَدَ بِأَحَدِ الْأَقَانِيمِ الَّذِي هُوَ الِابْنُ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَكَانَ مَسِيحًا عِنْدَ الِاتِّحَادِ لَاهُوتِيًّا وَنَاسُوتِيًّا حُمِلَ وَوُلِدَ وَنَشَأَ وَقُتِلَ وَصُلِبَ وَدُفِنَ. ثُمَّ ذَكَرُوا الْيَعْقُوبِيَّةَ والنسطورية وَالْمَلَكِيَّةَ. قَالَ النَّاقِلُونَ عَنْهُمْ وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَلِمَةِ الْمُلْقَاةِ إلَى مَرْيَمَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنَّ الْكَلِمَةَ حَلَّتْ فِي مَرْيَمَ حُلُولَ الْمُمَازَجَةِ كَمَا يَحِلُّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ فَيُمَازِجُهُ وَيُخَالِطُهُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنَّهَا حَلَّتْ فِي مَرْيَمَ مِنْ غَيْرِ مُمَازَجَةٍ وَزَعَمَتْ طَائِفَةٌ مِنْ النَّصَارَى أَنَّ اللَّاهُوتَ مَعَ النَّاسُوتِ كَمِثْلِ الْخَاتَمِ مَعَ الشَّمْعِ يُؤَثِّرُ فِيهِ بِالنَّقْشِ ثُمَّ لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا أَثَرٌ فِيهِ، ثُمَّ ذَكَرَ هَؤُلَاءِ

عَنْهُمْ فِي الِاتِّحَادِ نَحْوَ مَا حَكَى الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا قَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ فِي الِاتِّحَادِ اتِّحَادًا مُتَبَايِنًا. فَزَعَمَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَنَّ الِاتِّحَادَ هُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ الِابْنُ حَلَّتْ قَبْلَ جَسَدِ الْمَسِيحِ وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ وَزَعَمَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَنَّ الِاتِّحَادَ هُوَ الِاخْتِلَاطُ وَالِامْتِزَاجُ، وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْيَعْقُوبِيَّةِ هُوَ أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ انْقَلَبَتْ لَحْمًا وَدَمًا بِالِاتِّحَادِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْيَعْقُوبِيَّةِ والنسطورية الِاتِّحَادُ هُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ وَالنَّاسُوتَ اخْتَلَطَا فَامْتَزَجَا كَاخْتِلَاطِ الْمَاءِ بِالْخَمْرِ وَالْخَمْرِ بِاللَّبَنِ وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَنَّ الِاتِّحَادَ هُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ وَالنَّاسُوتَ اتَّحَدَا فَصَارَا هَيْكَلًا وَمَحَلًّا. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ الِاتِّحَادُ مِثْلُ ظُهُورِ صُورَةِ الْإِنْسَانِ فِي الْمِرْآةِ وَالطَّابَعِ فِي الْمَطْبُوعِ مِثْلُ الْخَاتَمِ فِي الشَّمْعِ، وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ الْكَلِمَةُ اتَّحَدَتْ بِجَسَدِ الْمَسِيحِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا حَلَّتْهُ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ وَلَا مُمَازَجَةٍ كَمَا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الْعَرْشِ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ وَلَا مُمَازَجَةٍ. وَقَالَ الْمَلَكِيَّةُ الِاتِّحَادُ هُوَ أَنَّ الِاثْنَيْنِ صَارَا وَاحِدًا وَصَارَتْ الْكَثْرَةُ قِلَّةً فَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّحَدَا حَتَّى صَارَا شَيْئًا وَاحِدًا وَاَلَّذِينَ قَالُوا هُمَا جَوْهَرٌ وَاحِدٌ لَهُ طَبِيعَتَانِ فَيَقُولُونَ هُوَ وَلَدُهُ بِمَنْزِلَةِ الشُّعَاعِ الْمُتَوَلِّدِ عَنْ الشَّمْسِ، وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِجَوْهَرَيْنِ وَطَبِيعَتَيْنِ وَأُقْنُومَيْنِ مَعَ الرَّبِّ قَالُوا ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ إنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَ لَهُمْ لَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ مَعَ إخْبَارِهِ أَنَّ النَّصَارَى افْتَرَقُوا وَأُلْقِيَ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ بِقَوْلِهِ: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14] . وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ هَذَا إخْبَارٌ بِتَفَرُّقِهِمْ إلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَقِبَ قَوْلِهِ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّ هَؤُلَاءِ اتَّخَذُوهُ وَلَدًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 171] وَذَكَرَ أَيْضًا مَا يَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَهُمْ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ مِنْ الشِّرْكِ، فَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]

فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ الشِّرْكِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فَلَا يَخُصُّونَهُ بِالْمَسِيحِ بَلْ يُثْبِتُونَ أَنَّ لَهُ وُجُودًا وَهُوَ الْأَبُ لَيْسَ هُوَ الْكَلِمَةَ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ فَإِنَّ عِبَادَتَهُمْ إيَّاهُ مَعَهُ إشْرَاكٌ وَذَلِكَ مَضْمُومٌ إلَى قَوْلِهِ إنَّهُ هُوَ وَقَوْلِهِمْ إنَّهُ وَلَدُهُ وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْ هَذَا وَهَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ، نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ الشَّرِيكِ وَالْوَلَدِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111] وَقَالَ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا - الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 1 - 2] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100] وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَا تَنْطَبِقُ عَلَى مَا ذُكِرَ فَإِنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُمَا اتَّحَدَا وَصَارَا شَيْئًا وَاحِدًا يَقُولُونَ أَيْضًا إنَّمَا اتَّحَدَ الْكَلِمَةُ الَّتِي هِيَ الِابْنُ. وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ هُمَا جَوْهَرٌ وَاحِدٌ لَهُ طَبِيعَتَانِ يَقُولُونَ إنَّ الْمَسِيحَ إلَهٌ وَإِنَّهُ اللَّهُ وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ حَلَّ فِيهِ يَقُولُونَ حَلَّتْ فِيهِ الْكَلِمَةُ الَّتِي هِيَ الِابْنُ وَهِيَ اللَّهُ أَيْضًا بِوَجْهٍ آخَرَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ اللَّهَ وَاللَّاهُوتَ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ وَجَسَدِ الْمَسِيحِ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ النَّصَارَى لَا يَجْعَلُ لَاهُوتَ الْمَسِيحِ وَنَاسُوتَهُ إلَهَيْنِ وَيَفْصِلُ النَّاسُوتَ عَنْ اللَّاهُوتِ بَلْ سَوَاءٌ قَالَ بِالِاتِّحَادِ أَوْ بِالْحُلُولِ فَهُوَ تَابِعٌ لِلَّاهُوتِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ عَنْ النَّصَارَى {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} [النساء: 171] {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73] . قَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَوْلُ النَّصَارَى بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ إلَهٌ وَاحِدٌ وَهُوَ قَوْلُهُمْ بِالْجَوْهَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَهُ الْأَقَانِيمُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي يَجْعَلُونَهَا ثَلَاثَةَ جَوَاهِرَ وَثَلَاثَةَ أَقَانِيمَ أَيْ ثَلَاثَةَ صِفَاتٍ وَخَوَاصَّ، وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ هُوَ اللَّهُ وَابْنُ اللَّهِ هُوَ الِاتِّحَادُ وَالْحُلُولُ،

فَيَكُونُ عَلَى هَذَا تِلْكَ الْآيَةُ عَلَى قَوْلِهِمْ تَثْلِيثُ الْأَقَانِيمِ، وَهَاتَانِ فِي قَوْلِهِمْ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، فَالْقُرْآنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ رَدَّ فِي كُلِّ آيَةٍ عَلَى صِنْفٍ مِنْهُمْ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ جَعْلُهُمْ لِلْمَسِيحِ إلَهًا، وَلِأُمِّهِ إلَهًا مَعَ اللَّهِ، كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116] إلَى قَوْلِهِ: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] الْآيَةَ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73] {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 74] {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75] عَقِبَ قَوْلِهِ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّثْلِيثَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ اتِّخَاذُ الْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ وَأُمُّهُ إلَهَيْنِ، وَهَذَا وَاضِحٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ حَكَى مِنْ النَّصَارَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْحُلُولِ فِي مَرْيَمَ وَالِاتِّحَادِ بِالْمَسِيحِ، وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى تَحْقِيقِ مَذْهَبِهِمْ. وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ كُلُّ آيَةٍ مِمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَقْوَالِ تَعُمُّ جَمِيعَ طَوَائِفِهِمْ، وَتَعُمُّ أَيْضًا بِتَثْلِيثِ الْأَقَانِيمِ، وَبِالِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ، فَتَعُمُّ أَصْنَافَهُمْ وَأَصْنَافَ كُفْرِهِمْ، لَيْسَ يَخْتَصُّ كُلَّ آيَةٍ بِصِنْفٍ، كَمَا قَالَ مَنْ يَزْعُمُ ذَلِكَ، وَلَا تَخْتَصُّ آيَةٌ بِتَثْلِيثِ الْأَقَانِيمِ، وَآيَةٌ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي كُلِّ آيَةٍ كُفْرَهُمْ الْمُشْتَرَكَ، وَلَكِنْ وَصَفَ كُفْرَهُمْ بِثَلَاثِ صِفَاتٍ وَكُلُّ صِفَةٍ تَسْتَلْزِمُ الْأُخْرَى: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْمَسِيحَ هُوَ اللَّهُ، وَيَقُولُونَ هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَيَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، حَيْثُ اتَّخَذُوا الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، هَذَا بِالِاتِّحَادِ، وَهَذِهِ بِالْحُلُولِ، وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ إثْبَاتُ ثَلَاثَةِ آلِهَةٍ مُنْفَصِلَةٍ غَيْرِ الْأَقَانِيمِ.

وَهَذَا يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ كُفْرِ النَّصَارَى، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْإِلَهُ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ لَهُ ثَلَاثُ أَقَانِيمَ، وَهَذِهِ الْأَقَانِيمُ يَجْعَلُونَهَا تَارَةً جَوَاهِرَ وَأَشْخَاصًا، وَتَارَةً صِفَاتٍ وَخَوَاصًّا، فَيَقُولُونَ: الْوُجُودُ الَّذِي هُوَ الْأَبُ، وَالِابْنُ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ، وَرُوحُ الْقُدُسِ الَّتِي هِيَ الْحَيَاةُ عِنْدَ مُتَقَدِّمِيهِمْ، وَالْقُدْرَةُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِيهِمْ. فَيَقُولُونَ مَوْجُودٌ حَيٌّ عَالِمٌ نَاطِقٌ أَوْ مَوْجُودٌ عَالِمٌ قَادِرٌ. لَكِنْ يَقُولُونَ أَيْضًا إنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ الِابْنُ جَوْهَرٌ، وَرُوحُ الْقُدُسِ أَيْضًا جَوْهَرٌ، وَأَنَّ الْمُتَّحِدَ بِالْمَسِيحِ هُوَ جَوْهَرُ الْكَلِمَةِ دُونَ جَوْهَرِ الْأَبِ وَرُوحِ الْقُدُسِ وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ فِيهِ. وَمِنْ هُنَا قَالُوا كُلُّهُمْ الْمَسِيحُ هُوَ اللَّهُ، وَقَالُوا كُلُّهُمْ هُوَ ابْنُ اللَّهِ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَبَ وَالِابْنَ وَرُوحَ الْقُدُسِ إلَهٌ وَاحِدٌ وَجَوْهَرٌ وَاحِدٌ وَقَدْ اتَّحَدَ بِالْمَسِيحِ كَانَ الْمَسِيحُ هُوَ اللَّهُ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَبَ جَوْهَرٌ وَالِابْنُ جَوْهَرٌ وَرُوحُ الْقُدُسِ جَوْهَرٌ وَاَلَّذِي اتَّحَدَ بِهِ هُوَ جَوْهَرُ الِابْنِ الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ، كَانَ الْمَسِيحُ هُوَ ابْنَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ - وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَضَمِّنًا لِكُفْرِهِمْ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُمَا مُتَنَاقِضَانِ، إذْ كَوْنُهُ هُوَ يُنَاقِضُ كَوْنَهُ ابْنَهُ، لَكِنْ النَّصَارَى يَقُولُونَ هَذَا كُلُّهُمْ، وَيَقُولُونَ هَذَا كُلُّهُمْ، كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُمْ مَعْلُومَ التَّنَاقُضِ فِي بَدِيهَةِ الْعُقُولِ، عِنْدَ كُلِّ مَنْ تَصَوَّرَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقَانِيمَ إذَا كَانَتْ صِفَاتٍ أَوْ خَوَّاصًا وَقُدِّرَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ لَهُ بِكُلِّ صِفَةٍ اسْمٌ كَمَا مَثَّلُوهُ بِقَوْلِهِمْ " زَيْدٌ الطَّبِيبُ " " وَزَيْدٌ الْحَاسِبُ " " وَزَيْدٌ الْكَاتِبُ " لَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَتَّحِدُ بِشَيْءٍ دُونَ الْجَوْهَرِ، وَلَا أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الصِّفَاتِ يُفَارِقُ بَعْضًا فَلَا يُتَصَوَّرُ مُفَارَقَةُ بَعْضِهَا بَعْضًا وَلَا مُفَارَقَةُ شَيْءٍ مِنْهَا لِلْمَوْصُوفِ حَتَّى يُقَالَ الْمُتَّحِدُ بِالْمَسِيحِ بَعْضُ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ أَيْضًا بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُتَّحَدَ بِهِ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَوْهَرٌ إلَّا جَوْهَرَ الْأَبِ كَانَ جَوْهَرُ الْأَبِ هُوَ الْمُتَّحِدَ، وَإِنْ كَانَ جَوْهَرُ الِابْنِ غَيْرَهُ فَهُمَا جَوْهَرَانِ مُنْفَصِلَانِ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ. وَالْمَوْصُوفُ أَيْضًا لَا يُفَارِقُ صِفَاتِهِ، كَمَا لَا تُفَارِقُهُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: اتَّحَدَ الْجَوْهَرُ بِالْمَسِيحِ بِأُقْنُومِ الْعِلْمِ دُونَ الْحَيَاةِ، إذْ الْعِلْمُ وَالْحَيَاةُ لَازِمَانِ لِلذَّاتِ، لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تُفَارِقَهُمَا الذَّاتُ وَلَا يُفَارِقَهُمَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَمِنْ هُنَا قِيلَ: النَّصَارَى غَلِطُوا فِي أَوَّلِ مَسْأَلَةٍ مِنْ الْحِسَابِ الَّذِي يَعْلَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ،، وَهُوَ قَوْلُهُمْ الْوَاحِدُ ثَلَاثَةٌ.

وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: أَحَدِيُّ الذَّاتِ، ثُلَاثِيٌّ الصِّفَاتِ، فَهُمْ لَا يَكْتَفُونَ بِذَلِكَ - كَمَا تَقَدَّمَ - بَلْ يَقُولُونَ الثَّلَاثَةُ جَوَاهِرُ وَالْمُتَّحِدُ بِالْمَسِيحِ وَاحِدٌ مِنْهَا دُونَ الْآخَرِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَهُمْ عَلَى قَوْلٍ يُعْقَلُ فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلَ، كَقَوْلِ الْمُتَكَايِسِينَ مِنْهُمْ هَذَا كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ الطَّبِيبُ، وَزَيْدٌ الْحَاسِبُ، وَزَيْدٌ الْكَاتِبُ فَهُمْ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ بِاعْتِبَارِ الصِّفَاتِ، وَهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: مَنْ يَقُولُ هَذَا لَا يَقُولُ بِأَنَّ زَيْدًا الطَّبِيبَ فَعَلَ كَذَا أَوْ اتَّحَدَ بِكَذَا أَوْ حَلَّ بِهِ دُونَ زَيْدٍ الْحَاسِبِ وَالْكَاتِبِ، بَلْ أَيُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ أَوْ وُصِفَ بِهِ زَيْدٌ الطَّبِيبُ فِي هَذَا الْمِثَالِ فَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِهِ زَيْدٌ الْكَاتِبُ الْحَاسِبُ. وَالنَّصَارَى يُثْبِتُونَ هَذَا الْمُثَلَّثَ فِي الْأَقَانِيمِ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ الْمُتَّحِدَ هُوَ الْوَاحِدُ فَيَجْعَلُونَ الْمَسِيحَ هُوَ اللَّهَ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْمَوْصُوفُ اتَّحَدَ بِهِ، وَيَجْعَلُونَهُ هُوَ ابْنَ اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا اتَّحَدَ بِهِ الْجَوْهَرُ الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ، أَوْ إنَّمَا اتَّحَدَ بِهِ الْكَلِمَةُ دُونَ الْأَبِ الَّذِي هُوَ الْمَوْجُودُ، وَدُونَ رُوحِ الْقُدُسِ وَهُمَا أَيْضًا جَوْهَرَانِ، فَقَدْ تَبَيَّنَّ أَنَّ قَوْلَ النَّصَارَى بِهَذَا وَبِهَذَا جَمَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ أَفْسَدُ شَيْءٍ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا كُفْرٌ كَمَا كَفَّرَهُمْ اللَّهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، فَإِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَعْبُدُونَ الْأُمَّ الَّتِي هِيَ وَالِدَةُ الْإِلَهِ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا كُفْرٌ آخَرُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ غَيْرُ تَثْلِيثِ الْأَقَانِيمِ وَالِاتِّحَادِ بِالْمَسِيحِ، فَالْقُرْآنُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَصْنَافِ كُفْرِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ تَنَاوُلًا تَامًّا، وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مُضَاهَاةِ الْجَهْمِيَّةِ لَهُمْ دُونَ تَفْصِيلِ الْكَلَامِ عَلَيْهِمْ. وَالْجَهْمِيَّةُ الْغِلَاظُ يُضَاهُونَهُمْ مُضَاهَاةً عَظِيمَةً، لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا ذِكْرُ مُضَاهَاةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ؛ فَيُقَالُ: أَنْتُمْ قُلْتُمْ الْكَلَامَ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَخْتَلِفُ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْوَاحِدُ هُوَ بِعَيْنِهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ، فَجَعَلْتُمْ الْوَاحِدَ ثَلَاثَةً، وَجَعَلْتُمْ الْوَاحِدَ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ ثَلَاثَ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً، وَهَذَا مُضَاهَاةٌ قَوِيَّةٌ لِقَوْلِ النَّصَارَى: الرَّبُّ إلَهٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ جَوَاهِرَ، فَجَعَلُوهُ وَاحِدًا. وَجَعَلُوهُ ثَلَاثَةً، ثُمَّ قُلْتُمْ: هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ وَهُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ، يَنْزِلُ تَارَةً فَيَكُونُ أَمْرًا؛ وَتَارَةً فَيَكُونُ خَبَرًا، وَتَارَةً فَيَكُونُ نَهْيًا؛ وَإِذَا نَزَلَ فَكَانَ أَمْرًا، لَمْ يَكُنْ خَبَرًا، وَإِنَّمَا

نَزَلَ فَكَانَ خَبَرًا لَمْ يَكُنْ أَمْرًا؛ فَإِنَّهُ إذَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ فَكَانَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَهِيَ خَبَرٌ لَمْ يَكُنْ آيَةَ الدَّيْنِ الَّتِي هِيَ أَمْرٌ، وَهَذَا لَعَلَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُضَاهَاةِ كَقَوْلِ النَّصَارَى: إنَّ الْجَوْهَرَ الْوَاحِدَ الَّذِي هُوَ ثَلَاثَةُ جَوَاهِرَ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ، وَإِذَا اتَّحَدَ فَإِنَّمَا يَكُونُ كَلِمَةً وَابْنًا لَا يَكُونُ أَبًا وَلَا رُوحَ قُدُسٍ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَمَا جَعَلُوا الشَّيْءَ الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ يَتَّحِدُ وَلَا يَتَّحِدُ مَا يَتَّحِدُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ كَلِمَةً، وَلَا يَتَّحِدُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ وُجُودًا، أَجَعَلَ أُولَئِكَ الَّذِي هُوَ كَلَامٌ وَاحِدٌ يَنْزِلُ وَلَا يَنْزِلُ، يَنْزِلُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ أَمْرًا، وَلَا يَنْزِلُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ خَبَرًا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ ضَاهَوْا النَّصَارَى فِي تَحْرِيفِ مُسَمَّى الْكَلِمَةِ وَالْكَلَامِ. فَإِنَّ الْمَسِيحَ سُمِّيَ كَلِمَةَ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ بِكَلِمَتِهِ: {كُنْ فَيَكُونُ} ، كَمَا يُسَمَّى مُتَعَلِّقُ الصِّفَاتِ بِأَسْمَائِهَا فَيُسَمَّى الْمَقْدُورُ قُدْرَةً، وَالْمَعْلُومُ عِلْمًا، وَمَا يُرْحَمُ بِهِ رَحْمَةً، وَالْمَأْمُورُ بِهِ أَمْرًا وَهَذَا كَثِيرٌ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، لَكِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ نَادِرَةٌ يَجْعَلُونَهَا صِفَةً لِلَّهِ، وَيَقُولُونَ هِيَ الْعِلْمُ، وَتَارَةً يَجْعَلُونَهَا جَوْهَرًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ، وَهِيَ الْمُتَّحِدُ بِالْمَسِيحِ، وَهَؤُلَاءِ حَرَّفُوا مُسَمَّى الْكَلِمَةِ فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ الْمَعْنَى، وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ وَلَا الْإِرَادَةَ، وَلَا هُوَ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ، لَكِنْ لَيْسَ فِي غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ الْكَلَامُ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ؛ إلَّا مَا يُذْكَرُ عَنْ النَّظَّامِ أَنَّهُ قَالَ: الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ الصَّوْتُ جِسْمٌ مِنْ الْأَجْسَامِ. وَأَيْضًا فَهُمْ فِي لَفْظِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ حُرُوفُهُ وَاشْتِمَالُهُ عَلَى الْمَعْنَى لَهُمْ مُضَاهَاةٌ قَوِيَّةٌ بِالنَّصَارَى فِي جَسَدِ الْمَسِيحِ الَّذِي هُوَ مُتَدَرِّعٌ لِلَّاهُوتٍ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ بَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ، كَمَا أَنَّ النَّصَارَى مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ جَسَدَ الْمَسِيحِ لَمْ يَكُنْ مِنْ اللَّاهُوتِ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ، ثُمَّ يَقُولُونَ: الْمَعْنَى الْقَدِيمُ لَمَّا أُنْزِلَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ الْمَخْلُوقَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الْحُرُوفَ كَلَامَ اللَّهِ حَقِيقَةً كَمَا يُسَمِّي الْمَعْنَى كَلَامَ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ هِيَ كَلَامُ اللَّهِ مَجَازًا، كَمَا أَنَّ النَّصَارَى مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ جَسَدَ الْمَسِيحِ لَاهُوتًا حَقِيقَةً لِاتِّحَادِهِ بِاللَّاهُوتِ، وَاخْتِلَاطِهِ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ مَحَلُّ اللَّاهُوتِ وَوِعَاؤُهُ. ثُمَّ النَّصَارَى تَقُولُ: هَذَا الْجَسَدُ إنَّمَا عُبِدَ لِكَوْنِهِ مَظْهَرَ اللَّاهُوتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ إيَّاهُ، وَلَكِنْ صَارَ هُوَ إيَّاهُ بِطَرِيقِ الِاتِّحَادِ، وَهُوَ مَحَلُّهُ بِطَرِيقِ الْحُلُولِ، فَعُظِّمَ كَذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: هَذِهِ الْحُرُوفُ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا، وَلَكِنْ

خَلَقَهَا وَأَظْهَرَ بِهَا الْمَعْنَى الْقَدِيمَ وَدَلَّ بِهَا عَلَيْهِ، فَاسْتَحَقَّتْ الْإِكْرَامَ وَالتَّحْرِيمَ لِذَلِكَ، حَيْثُ يَدْخُلُ فِي حُكْمِهِ بِحَيْثُ لَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا، أَوْ يُفْصَلُ بِأَنْ يُقَالَ: هَذَا مُظْهَرٌ هَذَا دَلِيلُهُ، وَجَعَلُوا مَا لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ وَلَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ قَطُّ كَلَامًا لِلَّهِ مُعَظَّمًا تَعْظِيمَ كَلَامِ اللَّهِ، كَمَا جَعَلَتْ النَّصَارَى النَّاسُوتَ الَّذِي لَيْسَ هُوَ بِإِلَهٍ قَطُّ، وَلَا هُوَ الْكَلِمَةُ إلَهًا وَكَلِمَةً، وَعَظَّمُوهُ تَعْظِيمَ الْإِلَهِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ عِنْدَهُمْ. وَمِنْهَا: أَنَّ النَّصَارَى عَلَى مَا حَكَى عَنْهُمْ الْمُتَكَلِّمُونَ كَابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ أَوْ غَيْرِهِ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ وَيَقُولُونَ: إنَّ الْأَقَانِيمَ الَّتِي هِيَ الْوُجُودُ وَالْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ، هِيَ خَوَاصُّ، هِيَ صِفَاتٌ نَفْسِيَّةٌ لِلْجَوْهَرِ، لَيْسَتْ صِفَاتٍ زَائِدَةً عَلَى الذَّاتِ، وَيَقُولُونَ: إنَّ الْكَلِمَةَ هِيَ الْعِلْمُ، لَيْسَتْ هِيَ كَلَامَ اللَّهِ، فَإِنَّ كَلَامَهُ صِفَةُ فِعْلٍ، وَهُوَ مَخْلُوقٌ، فَقَوْلُهُمْ فِي هَذَا كَقَوْلِ نُفَاةِ الصِّفَاتِ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ، الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا يَكُونُ قَوْلَ بَعْضِهِمْ مِمَّنْ خَاطَبَهُمْ مُتَكَلِّمُو الْجَهْمِيَّةِ مِنْ النَّسْطُورِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَمِمَّنْ تَفَلْسَفَ مِنْهُمْ عَلَى مَذْهَبِ نُفَاةِ الصِّفَاتِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ، وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ، وَإِلَّا فَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي النَّصَارَى مُثَبِّتَةً لِلصِّفَاتِ، بَلْ غَالِيَةً فِي ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الْيَهُودَ أَيْضًا فِيهِمْ الْمُثْبِتَةُ وَالنَّفَّات. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ تَسْمِيَتَهُمْ لِلْعِلْمِ كَلِمَةً دُونَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ، ثُمَّ ذَلِكَ الْعِلْمُ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا مَعْقُولًا، كَمَا تُعْقَلُ الصِّفَاتُ الْقَائِمَةُ بِالْمَوْصُوفِ، ضَاهَاهُمْ فِي ذَلِكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْكَلَامُ هُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ دُونَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ الْمَعْقُولَ مِنْ مَعَانِي الْكَلَامِ، فَحَرَّفُوا اسْمَ الْكَلَامِ وَمَعْنَاهُ، كَمَا حَرَّفَتْ النَّصَارَى اسْمَ الْكَلِمَةِ وَمَعْنَاهَا، وَهَذَا الْكَلَامُ ذَكَرْته مِنْ مُضَاهَاةِ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. [وَقَدْ] رَأَيْت بَعْدَ ذَلِكَ النَّاسَ قَدْ نَبَّهُوا عَلَى ذَلِكَ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزَّاغُونِيِّ: فِي مَسْأَلَةِ وَحْدَةِ الْكَلَامِ دَلِيلٌ آخَرُ، يُقَالُ لَهُمْ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَكُمْ فِي قَوْلِكُمْ إنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ اثْنَانِ وَهُمَا وَاحِدٌ، وَالْقَوْلُ بِذَلِكَ قَوْلٌ صَحِيحٌ غَيْرُ مُنَافٍ لِلصِّحَّةِ وَالْإِمْكَانِ، وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْكَلِمَةَ وَالنَّاسُوتَ وَاللَّاهُوتَ ثَلَاثَةٌ وَاحِدٌ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى قُبْحِهِ شَرْعًا وَعَقْلًا، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْكَلِمَةَ غَيْرُ النَّاسُوتِ وَاللَّاهُوتِ، وَكَذَلِكَ الْآخَرَانِ صِفَةٌ وَمَعْنًى، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ يُخَالِفُ النَّهْيَ صِفَةً وَمَعْنًى؟ قَالَ: وَهَذَا مِمَّا لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ، وَلَا انْفِصَالَ لَهُمْ مِنْهُ إلَّا بِزَخَارِفَ عَاطِلَةٍ عَنْ صِحَّةٍ لَا يَصْلُحُ مِثْلُهَا أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً تُوقَفُ مَعَهَا.

وَقَدْ قَالَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ قَبْلَ ذَلِكَ لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ عَيْنَ الْأَمْرِ هُوَ النَّهْيُ، مَعَ كَوْنِ الْأَمْرِ يُخَالِفُ النَّهْيَ فِي وَصْفِهِ وَمَعْنَاهُ، فَإِنَّ الْأَمْرَ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ، وَالنَّهْيُ اسْتِدْعَاءُ التَّرْكِ، وَمَوْضُوعُ الْأَمْرِ إنَّمَا يُرَادُ مِنْهُ تَحْصِيلُ مَا يُرَادُ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ، وَمَوْضُوعُ النَّهْيِ يُرَادُ مِنْهُ مُجَانَبَةُ مَا يُكْرَهُ إمَّا بِطَرِيقِ التَّحْرِيمِ أَوْ الْكَرَاهَةِ وَالتَّنْزِيهِ؛ وَمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ، وَمَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِدَلِيلٍ يَتَّصِلُ بِهِ أَوْ يَنْفَصِلُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَقْتَضِيَ النَّهْيُ الصِّحَّةَ إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِدَلِيلٍ يَتَّصِلُ بِهِ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نُهِيَ عَنْهُ لِكَوْنِهِ مَحْبُوبًا عِنْدَ النَّاهِي عَنْهُ، وَالْمَأْمُورُ بِهِ أَمَرَ بِهِ لِكَوْنِهِ مَبْغُوضًا عِنْدَ الْآمِرِ بِهِ، لَكَانَ هَذَا قَوْلًا بَاطِلًا يَشْهَدُ الْعَقْلُ بِفَسَادِهِ، وَيُعْرَفُ جَرْيُ الْعَادَةُ عَلَى خِلَافِهِ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ وَعَيْنِهِ غَيْرَ النَّهْيِ بِنَفْسِهِ وَعَيْنِهِ، وَلَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ ذَلِكَ مَقْطُوعٌ بِهِ غَيْرُ مُسَوَّغٍ حُصُولُهُ لَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا مُمْكِنًا. قُلْت: مَا ذَكَرَهُ مِنْ فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ كَمَا ذَكَرَهُ لَكِنْ يُقَالُ لَهُ وَلِمَنْ وَافَقَهُ: وَأَنْتُمْ أَيْضًا قَدْ قُلْتُمْ فِي مُقَابَلَةِ هَؤُلَاءِ مَا هُوَ فِي الْفَسَادِ ظَاهِرٌ، كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْحُرُوفِ وَالصَّوْتِ، قَالُوا: إذَا قُلْتُمْ إنَّ الْقُرْآنَ صَوْتٌ نُدْرِكُهُ بِأَسْمَاعِنَا، وَاَلَّذِي نُدْرِكُهُ بِأَسْمَاعِنَا عِنْدَ تِلَاوَةِ التَّالِي إنَّمَا هُوَ صَوْتُهُ الَّذِي يَحْدُثُ عَنْهُ، وَهُوَ عَرَضٌ وُجِدَ بَعْدَ عَدَمِهِ وَعُدِمَ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَهُوَ مِمَّا يَقُومُ بِهِ وَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ حَرَكَاتِهِ. فَإِنْ قُلْتُمْ: هَذَا هُوَ الْقَدِيمُ، فَنَقُولُ لَكُمْ: هَذَا هُوَ صَوْتُ اللَّهِ، فَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ، فَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّا نَعْلَمُهُ وَنَتَحَقَّقُهُ صَوْتُ الْقَارِئِ، وَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّهُ صَوْتُ الْقَارِئِ، فَقَدْ أَقْرَرْتُمْ بِأَنَّهُ مُحْدَثٌ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِكُمْ. قَالَ: قُلْنَا: قَوْلُكُمْ إنَّ الصَّوْتَ الَّذِي نُدْرِكُهُ بِأَسْمَاعِنَا عِنْدَ تِلَاوَةِ التَّالِي لِلْقُرْآنِ إنَّمَا هُوَ صَوْتُهُ الَّذِي يَحْدُثُ عَنْهُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ هُوَ دَعْوَى مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ. بَلْ نَقُولُ: إنَّ هَذَا الَّذِي نُدْرِكُهُ بِأَسْمَاعِنَا عِنْدَ تِلَاوَةِ التَّالِي هُوَ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ، فَلَا نُسَلِّمُ لَكُمْ مَا قُلْتُمْ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الْعَدَمِ وَالْوُجُودِ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَالْفِنَاءِ بَعْدَ الْوُجُودِ، لَيْسَ لِأَمْرٍ كَذَلِكَ بَلْ نَقُولُ: إنَّهُ ظَهَرَ عِنْدَ حَرَكَاتِ التَّالِي بِالْآيَةِ فِي مَحَلِّ قُدْرَتِهِ، فَأَمَّا عَدَمُهُ قَبْلُ وَبَعْدُ، فَلَا. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إنَّهُ يَتَعَذَّرُ بِحَرَكَاتِهِ فَقَدْ أَسْلَفْنَا الْجَوَابَ عَنْهُ.

وَأَمَّا سُؤَالُكُمْ لَنَا: هَلْ هَذَا الَّذِي نَسْمَعُهُ صَوْتُ اللَّهِ تَعَالَى؟ أَمْ صَوْتُ الْآدَمِيِّ؟ فَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا جَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا قُلْنَا إنَّهُ ظَهَرَ عِنْدِ حَرَكَاتِ آلَاتِ الْآدَمِيِّ فِي مَحَلِّ قُدْرَتِهِ مِنْ الْأَصْوَاتِ فَإِنَّمَا هُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، وَلَيْسَ هُوَ بِالْعَبْدِ وَلَا مِنْهُ، وَلَا هُوَ مُضَافٌ إلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ التَّوَلُّدِ وَالِانْفِعَالِ وَنَتَائِجِ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَدْرِ مَا تُوجِبُهُ الْإِضَافَةُ، وَاَلَّذِي تُوجِبُهُ الْإِضَافَةُ أَنْ يَكُونَ قُرْآنًا وَكَلَامًا لِلَّهِ. وَقَدْ اتَّفَقْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ قَدِيمٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَوَجَبَ لِذَلِكَ أَنْ نَقُولَ: إنَّ مَا يَصِلُ إلَى السَّمْعِ هُوَ صَوْتُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا فِعْلَ لِلْعَبْدِ فِيهِ، وَهُوَ جَوَابٌ حَسَنٌ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي ثَبَتَ بِالْأَدِلَّةِ الْجَلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ زِيَادَةَ الْأَصْوَاتِ تَكْثُرُ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاعْتِمَادَاتِ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي الْأَدَاءِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ عَلَى وَجْهٍ لَا زِيَادَةَ فِيهِ، بَلْ هُوَ كَافٍ فِي إيصَالِهِ إلَى السَّمْعِ عَلَى وَجْهٍ، فَإِنْ نَقَصَ لَمْ يَصِلْ وَإِنْ زَادَ أَكْثَرَ مِنْهُ وَصَلَ عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، إمَّا فِي وَاقِعِ رَفْعِ الصَّوْتِ وَإِمَّا فِي الْأَدَاءِ مِنْ الْمَدِّ وَالْهَمْزِ وَالتَّشْدِيدِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حِلْيَةِ التِّلَاوَةِ، وَتَصْفِيَةِ الْأَدَاءِ بِالْقُوَّةِ وَالتَّحْسِينِ، فَمَا لَا غِنَاءَ عَنْهُ فِي تَحْصِيلِ الِاسْتِمَاعِ وَتَكْمِلَةِ الْفَهْمِ فَذَلِكَ هُوَ الْقَدِيمُ، وَمَا قَارَنَهُ مِمَّا اقْتَضَى الزِّيَادَةَ فِي ذَلِكَ مِمَّا لَوْ أُسْقِطَ لَمَا أَثَّرَ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الِاسْتِمَاعِ وَالْفَهْمِ فَذَلِكَ مُضَافٌ إلَى الْعَبْدِ. فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ اقْتَرَنَ الْقَدِيمُ بِالْمُحْدَثِ عَلَى وَجْهٍ يَعْسُرُ تَمْيِيزُهُ إلَّا بَعْدَ التَّلَفُّظِ وَالتَّأَنِّي فِي التَّدَبُّرِ لِيَصِلَ بِذَلِكَ إلَى مَقَامِ الْفَهْمِ وَالتَّبْيِينِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ عِنْدَ الْوُصُولِ إلَيْهِ يَمْضِي الْعَقْلُ بِتَحْصِيلِ مَطْلُوبِهِ. قُلْت: دَعْوَى أَنَّ هَذَا الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْعَبْدِ، أَوْ بَعْضَهُ، هُوَ صَوْتُ اللَّهِ، أَوْ هُوَ قَدِيمٌ، بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ مُخَالِفَةٌ لِضَرُورَةِ الْعَقْلِ لَمْ يَقُلْهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ، بَلْ أَنْكَرَهَا أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ الطَّوَائِفِ. وَهِيَ أَقْبَحُ وَأَنْكَرُ مِنْ قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا: لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ

الوجه السابع والسبعون حقيقة قول القائلين إن القرآن ليس كلام الله

يَقُولُوا صَوْتُنَا وَلَا قَالُوا قَدِيمٌ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ اشْتَدَّ نَكِيرُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَلَيْهِمْ، وَتَبْدِيعُهُ لَهُمْ، وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ صَاحِبُهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا جَمَعَ فِيهِ مَقَالَاتِ عُلَمَاءِ الْوَقْتِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ، مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ؛ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ عَنْ أَصْحَابِهِ إنَّمَا هُمْ أَتْبَاعُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا تَصَرُّفُ الْقَاضِي وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ. وَقَدْ كَانَ ابْنُ حَامِدٍ يَقُولُ: إنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ عَلَى مَا ذُكِرَ عَنْهُ، وَالْقَاضِي، أَنْكَرَ هَذَا كَمَا ثَبَتَ إنْكَارُهُ عَنْ أَحْمَدَ، وَذَهَبَ فِي إنْكَارِ ذَلِكَ إلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ وَابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يُقَالَ لَفَظْت بِالْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُلْفَظُ، قَالُوا: لِأَنَّ الْقَدِيمَ لَا يُلْفَظُ إذْ اللَّفْظُ هُوَ الطَّرْحُ وَالرَّمْيُ، وَلَكِنْ يُتْلَى أَوْ يُقْرَأُ. فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّ لَمَّا ذَكَرَ فِي مَقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ مَنَعُوا أَنْ يُقَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَكَانَ هُوَ وَأَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ مُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ خُصُوصًا، وَإِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ عُمُومًا فِي السُّنَّةِ، وَالْإِنْكَارُ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ كَمَا اُشْتُهِرَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي زَمَانِهِ وَافَقُوهُ عَلَى ذَلِكَ وَفَسَّرُوهُ بِكَرَاهَةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ وَوَافَقَهُمْ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي ذَلِكَ. ثُمَّ إنَّ الْقَاضِيَ وَأَتْبَاعَهُ يَقُولُونَ: أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ مَعَ دَعْوَى الطَّائِفَتَيْنِ اتِّبَاعَ أَحْمَدَ. وَقَدْ صَنَّفَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ الْمَشْهُورُ، وَكَانَ فِي عَصْرِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِيّ الْفَقِيهِ وَفِي بَلَدِهِ، مُصَنَّفًا يَتَضَمَّنُ إنْكَارَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمَسْمُوعَ صَوْتُ اللَّهِ، وَأَبْطَلَ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَكَانَ مَا قَامَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ قِيَامًا لِغَرَضِ رَدِّ هَذِهِ الْبِدْعَةِ وَإِنْكَارِهَا، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَعُلَمَائِهِمْ، وَمِنْ أَعْلَمْ عُلَمَاءِ وَقْتِهِ بِالْحَدِيثِ وَالْآثَارِ. [الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِ الْقَائِلِينَ إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ] الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ: إنَّهُ قَدْ اشْتَهَرَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَعَامَّتِهَا أَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ: إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ، وَهُوَ كَمَا اشْتَهَرَ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُصَرِّحُونَ بِأَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهَا بِحَالٍ. فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ نِصْفَ مُسَمَّى الْقُرْآنِ وَهُوَ

لَفْظُهُ وَنَظْمُهُ وَحُرُوفُهُ، لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهَا، فَلَا يَكُونُ كَلَامَهُ. وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ إنَّهَا تُسَمَّى كَلَامًا حَقِيقَةً فَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إنْ أَقَرُّوا بِأَنَّهَا كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً مَعَ كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً فِي غَيْرِهِ بَطَلَ أَصْلُهُمْ الَّذِي أَفْسَدُوا بِهِ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ: إنَّ الْكَلَامَ إذَا قَامَ بِمَحَلٍّ كَانَ لِذَلِكَ الْمَحَلِّ، لَا لِمَنْ أَحْدَثَهُ. وَأَمَّا الْمَعَانِي فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَيْسَ كَلَامُ اللَّهِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ شَيْءٍ وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْخَبَرُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ بُعْدُ تَصَوُّرِهِ، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لَأَنْ تَكُونَ مَعَانِي الْقُرْآنِ لَيْسَتْ كَلَامَ اللَّهِ أَيْضًا، إذَا كَانَ هَذَا الَّذِي ادَّعَوْهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقِيقَةً، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ، أَوْ يَكُونَ كَلَامًا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ عِنْدَهُمْ بِالْقُرْآنِ لَا بِحُرُوفِهِ وَلَا بِمَعَانِيهِ؛ وَهَذَا أَمْرٌ قَاطِعٌ لَا مَنْدُوحَةَ لَهُمْ عَنْهُ، وَيَنْضَمُّ إلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ هُمْ يُصَرِّحُونَ أَيْضًا بِأَنَّهَا لَيْسَتْ كَلَامَ اللَّهِ، فَظَهَرَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ. وَأَمَّا الْجَهْمِيَّةُ الْمَحْضَةُ، كَالْمُعْتَزِلَةِ، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَأَكْثَرُهُمْ يُطْلِقُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، لَكِنْ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ يَعُودُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ، كَمَا يَعْتَرِفُ بِذَلِكَ حُذَّاقُهُمْ عِنْدَ التَّحْقِيقِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ، أَوْ يَقُولُونَ: الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً. فَهَؤُلَاءِ الْمُعَطِّلَةُ لِتَكَلُّمِ اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ، أَعْظَمُ مِنْ أُولَئِكَ، لَكِنْ تَظَاهُرُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، أَعْظَمُ مِنْ تَظَاهُرِ أُولَئِكَ؛ وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ نَفْيَ الْكَلَامِ عَنْ اللَّهِ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ أَوْكَدُ وَأَقْوَى، وَنَفْيُ كَوْنِ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللَّهِ عَلَى قَوْلِ أُولَئِكَ هُوَ أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ لَك عِنْدَ التَّحْقِيقِ، فَأُولَئِكَ أَيْضًا يَقُولُونَ ذَلِكَ، فَهُمْ أَعْظَمُ إلْحَادًا فِي الْحَقِيقَةِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَأُولَئِكَ أَسْخَفُ قَوْلًا. الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ: إنَّهُ مَا زَالَ أَئِمَّةُ الطَّوَائِفِ طَوَائِفِ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَأَهْلُ الْكَلَامِ يَقُولُونَ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ كِلَابٍ وَالْأَشْعَرِيُّ فِي الْقُرْآنِ وَالْكَلَامِ مِنْ أَنَّهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِالذَّاتِ، وَأَنَّ الْحُرُوفَ لَيْسَتْ مِنْ الْكَلَامِ، قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِهِ، حَتَّى الَّذِينَ يُحِبُّونَ

الْأَشْعَرِيُّ وَيَمْدَحُونَهُ بِمَا كَانَ مِنْهُ مِنْ الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ الْكِبَارِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَيَذُبُّونَ عَنْهُ عِنْدَ مَنْ يَذُمُّهُ وَيَلْعَنُهُ، وَيُنَاصِحُونَ عَنْهُ مِنْ أَئِمَّةِ الطَّوَائِفِ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ وَيَقُولُونَ إنَّا نُخَالِفُهُ فِي ذَلِكَ، وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِ الْمَتْرُوكَةِ، إذْ لِكُلِّ عَالِمٍ خَطَأٌ مِنْ قَوْلِهِ يُتْرَكُ، أَوْ يُمْسِكُونَ عَنْ نَصِّ هَذَا الْقَوْلِ وَالدُّعَاءِ إلَيْهِ لِعِلْمِهِمْ بِمَا فِيهِ مِنْ التَّنَاقُضِ وَالِاضْطِرَابِ. وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الْجُوَيْنِيُّ وَالِدُ أَبِي الْمَعَالِي فِي آخِرِ كِتَابٍ حَقَّقَهُ سَمَّاهُ " عَقِيدَةُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ الْمُطَّلِبِيِّ الشَّافِعِيِّ وَكَافَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَدْ نَقَلَ هَذَا مِنْهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي مَنَاقِبِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " تَبْيِينُ كَذِبِ الْمُفْتَرِي فِيمَا يُنْسَبُ إلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِي، وَجَمَعَ فِيهِ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ مَنَاقِبِهِ، وَأَدْخَلَ فِي ذَلِكَ أُمُورًا أُخْرَى يُقَوِّي بِهَا ذَلِكَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُصِيبَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَاحِدٌ وَيَجِبُ التَّعْيِينُ فِي الْأُصُولِ، فَأَمَّا فِي الْفُرُوعِ فَرُبَّمَا مَا يَتَأَتَّى التَّعْيِينُ، وَرُبَّمَا لَا يَتَأَتَّى، وَمَذْهَبُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَصْوِيبُ الْمُجْتَهِدِينَ، فِي الْفُرُوعِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَبُو الْحَسَنِ أَحَدُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِذَا خَالَفَهُ فِي شَيْءٍ أَعْرَضْنَا عَنْهُ فِيهِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ: لَا صِيغَةَ لِلْأَلْفَاظِ وَيَقِلُّ وَيَعِزُّ مُخَالِفَتُهُ أُصُولَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَنُصُوصَهُ، وَرُبَّمَا نَسَبَ الْمُبْتَدِعُونَ إلَيْهِ مَا هُوَ بَرِيءٌ عَنْهُ، كَمَا نَسَبُوا إلَيْهِ أَنَّهُ يَقُولُ لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ قُرْآنٌ، وَلَا فِي الْقَبْرِ نَبِيٌّ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيمَانِ، وَنَفْيِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْخَلْقِ فِي الْأَزَلِ، وَتَكْفِيرُ الْعَوَامّ، وَإِيجَابُ عِلْمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَقَدْ تَصَفَّحْتُ مَا تَصَفَّحْتُ مِنْ كُتُبِهِ فَوَجَدْتُهَا كُلَّهَا خِلَافَ مَا نُسِبَ إلَيْهِ، وَلَا عَجَبَ أَنْ اعْتَرَضُوا عَلَيْهِ وَافْتَرَضُوا فَإِنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَاضِحُ الْقَدَرِيَّةِ وَعَامَّةِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَكَاشِفُ عَوْرَاتِهِمْ وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَعْرِفُ حَاسِدَهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ الَّذِي شَرَحَ فِيهِ رِسَالَةَ الشَّافِعِيّ وَسَمَّاهُ التَّعْلِيقَ ": مَسْأَلَةٌ فِي أَنَّ الْأَمْرَ أَمْرٌ لِصِيغَتِهِ أَوْ لِقَرِينَةٍ تَقْتَرِنُ

بِهِ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَمْرِ هَلْ لَهُ صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا، أَوْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: فَذَهَبَ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لَهُ صِيغَةٌ، تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا، إذَا انْفَرَدَتْ عَنْ الْقَرَائِنِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ: " افْعَلْ كَذَا وَكَذَا " وَإِذَا وَجَبَ ذَلِكَ عَارِيًّا عَنْ الْقَرَائِنِ كَانَ أَمْرًا، وَلَا يَحْتَاجُ فِي كَوْنِهِ أَمْرًا إلَى قَرِينَةٍ، هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَجَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَلْخِيّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ. وَذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَسْرِهَا، غَيْرَ الْبَلْخِيّ، إلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَا صِيغَةَ لَهُ وَلَا يَدُلُّ اللَّفْظُ بِمُجَرَّدِهِ عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَمْرًا بِقَرِينَةٍ تَقْتَرِنُ بِهِ، وَهُوَ الْإِرَادَةُ. إلَى أَنْ قَالَ: وَذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِنَفْسِ الْآمِرِ لَا يُفَارِقُ الذَّاتَ وَلَا يُغَايِرُهَا، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ سَائِرُ أَقْسَامِ الْكَلَامِ مِنْ النَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ هَذَا فِي أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ الْآدَمِيِّينَ، إلَّا أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِكَوْنِهِ قَدِيمٌ، وَأَمْرُ الْآدَمِيِّ مُحْدَثٌ، وَهَذِهِ الْأَصْوَاتُ وَالْأَلْفَاظُ لَيْسَتْ عِنْدَهُمْ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا، وَإِنَّمَا هِيَ عِبَارَةٌ عَنْهُ. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ كِلَابٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ يَقُولُ: هِيَ حِكَايَةٌ عَنْ الْأَمْرِ، وَخَالَفَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا حِكَايَةٌ لِأَنَّ الْحِكَايَةَ تَحْتَاجُ إلَى أَنْ تَكُونَ مِثْلَ الْمَحْكِيِّ، وَلَكِنْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَمْرِ الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ وَتَقَرَّرَ مَذْهَبُهُمْ عَلَى هَذَا، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَقِيقَةَ مَذْهَبِهِمْ فَلَيْسَ يُتَصَوَّرُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي أَنَّ الْأَمْرَ لَهُ صِيغَةٌ أَمْ لَا، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْأَمْرُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالنَّفْسِ فَذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يُقَالُ إنَّ لَهُ صِيغَةً، أَوْ لَيْسَتْ لَهُ صِيغَةٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْأَلْفَاظِ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْكَرْخِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ الْفُصُولُ فِي الْأُصُولِ، عَنْ الْأَئِمَّةِ الْفُحُولِ، إلْزَامًا لِذَوِي الْبِدَعِ وَالْفُضُولِ " وَذَكَرَ اثْنَا عَشَرَ إمَامًا وَهُمْ: الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ، قَالَ فِيهِ: سَمِعْت الْإِمَامَ أَبَا مَنْصُورٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ يَقُولُ: سَمِعْت الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ يَقُولُ: سَمِعْت الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ يَقُولُ: مَذْهَبِي

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَنْ قَالَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَالْقُرْآنُ حَمَلَهُ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَسْمُوعًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَالصَّحَابَةُ سَمِعُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الَّذِي نَقُولُهُ نَحْنُ بِأَلْسِنَتِنَا، وَفِيمَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، وَمَا فِي صُدُورِنَا مَسْمُوعًا وَمَكْتُوبًا وَمَحْفُوظًا وَمَنْقُوشًا، وَكُلُّ حَرْفٍ مِنْهُ كَالْبَاءِ وَالتَّاءِ، كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَنْ قَالَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ، عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ: وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ شَدِيدَ الْإِنْكَارِ عَلَى الْبَاقِلَّانِيِّ وَأَصْحَابِ الْكَلَامِ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: وَلَمْ يَزَلْ الْأَئِمَّةُ الشَّافِعِيَّةُ يَأْنَفُونَ وَيَسْتَنْكِفُونَ أَنْ يَنْسُبُوا إلَى الْأَشْعَرِيِّ، وَيَتَبَرَّءُونَ مِمَّا بَنَى الْأَشْعَرِيُّ مَذْهَبَهُ عَلَيْهِ، وَيَنْهَوْنَ أَصْحَابَهُمْ وَأَحْبَابَهُمْ عَنْ الْحَوْمِ حَوَالَيْهِ، عَلَى مَا سَمِعْت عِدَّةً مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْأَئِمَّةِ، مِنْهُمْ الْحَافِظُ الْمُؤْتَمِنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ السَّاجِيُّ، يَقُولُونَ: سَمِعْنَا جَمَاعَةً مِنْ الْمَشَايِخِ الثِّقَاتِ قَالُوا: كَانَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ طَاهِرٍ الْإسْفَرايِينِيّ إمَامُ الْأَئِمَّةِ الَّذِي طَبَّقَ الْأَرْضَ عِلْمًا وَأَصْحَابًا إذَا سَعَى إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ قَطِيعَةِ الْكَرْخِ إلَى جَامِعِ الْمَنْصُورِ وَيَدْخُلُ الرِّيَاضَ الْمَعْرُوفَ بِالرَّوْزِي الْمُحَاذِي لِلْجَامِعِ وَيُقْبِلُ عَلَى مَنْ حَضَرَ وَيَقُولُ: اشْهَدُوا عَلَيَّ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، كَمَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، لَا كَمَا يَقُولُ الْبَاقِلَّانِيُّ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي جَمَاعَاتٍ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: حَتَّى يَنْتَشِرَ فِي النَّاسِ، وَفِي أَهْلِ الصَّلَاحِ وَيَشِيعَ الْخَبَرُ فِي الْبِلَادِ أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ، يَعْنِي الْأَشْعَرِيَّ، وَبَرِيءٌ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، فَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ الْغُرَبَاءِ يَدْخُلُونَ عَلَى الْبَاقِلَّانِيِّ خُفْيَةً، فَيَقْرَءُونَ عَلَيْهِ فَيُفْتَنُونَ بِمَذْهَبِهِ فَإِذَا رَجَعُوا إلَى بِلَادِهِمْ أَظْهَرُوا بِدْعَتَهُمْ لَا مَحَالَةَ، فَيَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّهُمْ مِنِّي تَعَلَّمُوهُ، وَأَنَا قُلْته، وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ مَذْهَبِ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَعَقِيدَتِهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ: وَسَمِعْت شَيْخِي الْإِمَامَ أَبَا مَنْصُورٍ الْفَقِيهَ الْأَصْبَهَانِيَّ يَقُولُ: سَمِعْت شَيْخَنَا الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ الزَّاذَقَانِيَّ يَقُولُ: كُنْت فِي دَرْسِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَكَانَ يَنْهَى أَصْحَابَهُ عَنْ الْكَلَامِ وَعَنْ الدُّخُولِ عَلَى الْبَاقِلَّانِيِّ، فَبَلَغَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ خُفْيَةً لِقِرَاءَةِ الْكَلَامِ، فَظَنَّ أَنِّي مَعَهُمْ وَمِنْهُمْ، وَذَكَرَ قِصَّةً قَالَ فِي آخِرِهَا: إنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ قَالَ لِي: يَا بُنَيَّ، بَلَغَنِي أَنَّك تَدْخُلُ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ يَعْنِي الْبَاقِلَّانِيَّ فَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ فَإِنَّهُ مُبْتَدِعٌ يَدْعُو النَّاسَ إلَى الضَّلَالِ. وَإِلَّا فَلَا تَحْضُرْ

مَجْلِسِي، فَقُلْت: أَنَا عَائِذٌ بِاَللَّهِ مِمَّا قِيلَ، وَتَائِبٌ إلَيْهِ، وَاشْهَدُوا عَلَيَّ أَنِّي لَا أَدْخُلُ إلَيْهِ. قَالَ: وَسَمِعْت الْفَقِيهَ الْإِمَامَ أَبَا مَنْصُورٍ سَعْدَ بْنَ عَلِيٍّ الْعِجْلِيّ يَقُولُ: سَمِعْت عِدَّةً مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْأَئِمَّةِ بِبَغْدَادَ، أَظُنُّ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ أَحَدَهُمْ، قَالُوا: كَانَ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ يَخْرُجُ إلَى الْحَمَّامِ مُتَبَرْقِعًا خَوْفًا مِنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ. قَالَ: وَأَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ الثِّقَاتِ كِتَابَةً مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو مَنْصُورٍ الْيَعْقُوبِيُّ عَنْ الْإِمَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ هُوَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنَ الْحُسَيْنِ، وَهُوَ السُّلَمِيُّ، يَقُولُ: وَجَدْت أَبَا حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَأَبَا الطَّيِّبِ الصُّعْلُوكِيَّ وَأَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبَا مَنْصُورٍ الْحَاكِمَ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ. قَالَ: سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ أَبِي رَافِعٍ وَخَلْقًا يَذْكُرُونَ شِدَّةَ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ عَلَى الْبَاقِلَّانِيِّ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ: وَمَعْرُوفٌ شِدَّةُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ عَلَى أَهْلِ الْكَلَامِ، حَتَّى مَيَّزَ أُصُولَ فِقْهِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أُصُولِ الْأَشْعَرِيِّ وَعَلَّقَهُ عَنْهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الزَّاذَقَانِيُّ، وَهُوَ عِنْدِي، وَبِهِ اقْتَدَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي كِتَابَيْهِ اللُّمَعُ " وَالتَّبْصِرَةُ " حَتَّى لَوْ وَافَقَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَجْهًا لِأَصْحَابِنَا مُيِّزَ، وَقَالَ: هُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَبِهِ قَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ، وَلَمْ يَعُدَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ اسْتَنْكَفُوا مِنْهُمْ وَمِنْ مَذْهَبِهِمْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَضْلًا عَنْ أُصُولِ الدِّينِ. قُلْت: أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَشَيْخُهُ أَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ الْمَرْوَزِيِّ وَشَيْخُهُ أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ هُمْ أَهْلُ الطَّرِيقَةِ الْمَرْوَزِيَّةِ الْخُرَاسَانِيَّةِ، وَأَئِمَّتُهَا مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَأَتْبَاعُهُ كَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَصَاحِبِهِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَئِمَّةُ الطَّرِيقَةِ الْعِرَاقِيَّةِ، مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الْغَافِرِ الْفَارِسِيُّ فِي تَارِيخِ نَيْسَابُورَ فِي تَرْجَمَةِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ فِي مَنَاقِبِهِ، وَقَالَ: سَمِعْت خَالِي الْإِمَامَ أَبَا سَعِيدٍ يَعْنِي عَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْقُشَيْرِيَّ يَقُولُ: كَانَ أَئِمَّتُنَا فِي عَصْرِهِ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الْكَمَالَ وَالْفَضْلَ وَالْخِصَالَ الْحَمِيدَةَ، وَأَنَّهُ

لَوْ جَازَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا فِي عَصْرِهِ لَمَا كَانَ إلَّا هُوَ، مِنْ حُسْنِ طَرِيقَتِهِ، وَوَرَعِهِ وَزُهْدِهِ وَدِيَانَتِهِ، فِي كَمَالِ فَضْلِهِ. وَذَكَرَ عَبْدُ الْغَافِرِ أَنَّهُ كَانَ أَوْحَدَ زَمَانِهِ، قَالَ: وَلَهُ فِي الْفِقْهِ تَصَانِيفُ كَثِيرَةُ الْفَوَائِدِ، مِثْلُ: التَّبْصِرَةُ وَالتَّذْكِرَةُ " وَمُخْتَصَرُ الْمُخْتَصَرِ " وَلَهُ التَّفْسِيرُ الْكَبِيرُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى عَشَرَةِ أَنْوَاعٍ فِي كُلِّ آيَةٍ. وَأَمَّا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فَهُوَ الشَّافِعِيُّ الثَّالِثُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَلَا بَعْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ مِثْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، حَتَّى ذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ الْقُدُورِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ إنَّهُ أَنْظَرُ مِنْ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَتْ زِيَادَتُهُ لَكِنْ لَوْلَا بَرَاعَةُ أَبِي حَامِدٍ مَا قَالَ فِيهِ مِثْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْحُسَيْنِ هَذَا الْقَوْلَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ: وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ أَعْرَفَ الْأَصْحَابِ بِمَنَاصِيصِ الشَّافِعِيِّ، وَأَعْظَمَهُمْ بَرَكَةً فِي مَذْهَبِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مِنْ كَثَّرَ شَرْحَ الْمُزَنِيّ وَشَحَنَهُ بِالْمُخْتَلِفِ وَالْمُؤْتَلِفِ، وَنَصَرَ فِيهِ مَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ، وَجَعَلَهُ مَسَاغًا لِاجْتِهَادِ الْفُقَهَاءِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ جَمَاعَةً كَثِيرَةً لَيْسُوا مِنْهُمْ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ مَشْهُورٌ بِالْمُنَاقَضَةِ وَالْمُعَارَضَةِ لَهُمْ، وَذَكَرَ مِنْهُمْ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ، قَالَ: وَكَانَ يَظُنُّ بِهِ مَنْ لَا يَفْهَمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأَشْعَرِيِّ لِقَوْلِهِ فِي كِتَابِهِ فِي أَحْوَالِ الْفِقْهِ، وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ: إنَّ الْأَمْرَ لَا صِيغَةَ لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ اعْتِقَادَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ خَالَفَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّا انْفَرَدَ بِهَا أَبُو الْحَسَنِ. قَالَ: وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا هَذَا عِنْدَ فَتْوَاهُ عَلَى مَنْ خَالَفَ الْأَشْعَرِيَّةَ وَاعْتَقَدَ تَبْدِيعَهُمْ، وَذَلِكَ أَوْفَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْفَتْوَى وَنُسْخَتَهَا: مَا قَوْلُ السَّادَةِ الْحِلْيَةِ الْأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ أَحْسَنَ اللَّهُ تَوْفِيقَهُمْ وَرَضِيَ عَنْهُمْ فِي قَوْمٍ اجْتَمَعُوا عَلَى لَعْنِ فِرْقَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَتَكْفِيرِهِمْ، مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ؟ أَفْتُونَا فِي ذَلِكَ مُنَعَّمِينَ مُثَابِينَ. الْجَوَابُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - أَنَّ كُلَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى لَعْنِ فِرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَكْفِيرِهِمْ فَقَدْ ابْتَدَعَ وَارْتَكَبَ مَا لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَعَلَى النَّاظِرِ فِي الْأُمُورِ أَعَزَّ اللَّهُ أَنْصَارَهُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَتَأْدِيبُهُ بِمَا يَرْتَدِعُ هُوَ وَأَمْثَالُهُ عَنْ ارْتِكَابِ مِثْلِهِ.

وَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الدَّامَغَانِيُّ: وَبَعْدَهُ الْجَوَابُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَنَّ الْأَشْعَرِيَّةَ أَعْيَانُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَنْصَارُ الشَّرِيعَةِ انْتَصَبُوا لِلرَّدِّ عَلَى الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَمَنْ طَعَنَ فِيهِمْ فَقَدْ طَعَنَ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، وَإِذَا رُفِعَ أَمْرُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَى النَّاظِرِ فِي أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ تَأْدِيبُهُ بِمَا يَرْتَدِعُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ. وَكَتَبَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الْفَيْرُوزَابَادِيّ بَعْدَهُ: جَوَابِي مِثْلُهُ. وَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّاشِيُّ قَالَ: فَهَذِهِ أَجْوِبَةُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِهِمْ عُلَمَاءَ الْأَئِمَّةِ، فَأَمَّا قَاضِي الْقُضَاةِ الْحَنَفِيُّ الدَّامَغَانِيُّ فَكَانَ يُقَالُ لَهُ فِي عَصْرِهِ أَبُو حَنِيفَةَ الثَّانِي، وَأَمَّا الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ فَقَدْ طَبَّقَ ذِكْرُ فَضْلِهِ الْآفَاقَ، وَأَمَّا الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ فَلَا يَخْفَى مَحَلُّهُ عَلَى مُنْتَهٍ فِي الْعِلْمِ وَلَا نَاشِئٍ. قُلْت: هَذِهِ الْفُتْيَا كُتِبَتْ هِيَ وَجَوَابُهَا فِي فِتْنَةِ ابْنِ الْقُشَيْرِيِّ لَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ، فَإِنَّ مَلِكَ بَغْدَادَ مَحْمُودَ بْنَ سبكتكين كَانَ قَدْ أَمَرَ فِي مَمْلَكَتِهِ بِلَعْنِ أَهْلِ الْبِدَعِ عَلَى الْمَنَابِرِ فَلُعِنُوا، وَذُكِرَ فِيهِمْ الْأَشْعَرِيَّةَ، وَكَذَلِكَ جَرَى فِي أَوَّلِ مَمْلَكَةِ السَّلَاجِقَةِ التُّرْكِ، وَكَانَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي إدْخَالِهِمْ فِي اللَّعْنَةِ فِيهِمْ مِنْ سَكَّانِ تِلْكَ الْبِلَادِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ الْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَمِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ طَوَائِفُ، وَجَوَابُ الدَّامَغَانِيِّ جَوَابٌ مُطْلَقٌ فِيهِ رِضَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُ أَجَابَ بِأَنَّهُ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى لَعْنَةِ فِرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَكْفِيرِهِمْ فَقَدْ ابْتَدَعَ وَفَعَلَ مَا لَا يَجُوزُ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ أَنَّهُ مَنْ كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ تَكْفِيرُهُ، إذْ الْمُكَفِّرُ لِشَخْصٍ أَوْ طَائِفَةٍ لَا يَقُولُ إنَّهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَيُكَفِّرُهُمْ، بَلْ يَقُولُ: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ: ذَهَبَ أَئِمَّتُنَا إلَى أَنَّ الْيَدَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْوَجْهَ صِفَاتٌ ثَابِتَةٌ لِلرَّبِّ تَعَالَى، وَالسَّبِيلُ إلَى إثْبَاتِهَا السَّمْعُ دُونَ قَضِيَّةِ الْعَقْلِ. قَالَ: وَاَلَّذِي يَصِحُّ عِنْدَنَا حَمْلُ الْيَدَيْنِ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَحَمْلُ الْعَيْنَيْنِ عَلَى الْبَصَرِ، وَحَمْلُ الْوَجْهِ عَلَى الْوُجُودِ. قُلْت: فَاتَّضَحَ أَنَّ أَئِمَّةَ الْكَلَامِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ يَثْبُتُونَ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُ خَالَفَ أَئِمَّتَهُ وَوَافَقَ الْمُعْتَزِلَةُ. قَالَ شَارِحُ كَلَامِهِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْأَنْصَارِيِّ: اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ

أَنَّ الْيَدَيْنِ صِفَتَانِ ثَابِتَتَانِ زَائِدَتَانِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ سُبْحَانَهُ وَنَحْوَهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ: وَمَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي الْهِدَايَةِ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ. قُلْت: قَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ كَالتَّمْهِيدِ وَالْإِبَانَةِ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ: وَفِي كَلَامِ أَبِي إِسْحَاقَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّثْنِيَةَ فِي الْيَدَيْنِ تَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ لَا إلَى الصِّفَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيِّ. قَالَ الْأُسْتَاذُ يَعْنِي أَبَا إِسْحَاقَ -: أَمَّا الْعَيْنَانِ فَعِبَارَةٌ عَنْ الْبَصَرِ، وَكَانَ فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِمَا، وَأَمَّا الْوَجْهُ وَالْيَدُ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الطَّرِيقِ إلَيْهِمَا، فَقَالَ قَائِلُونَ: قَدْ كَانَ فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ صِفَتَيْنِ: يَقَعُ بِإِحْدَاهُمَا الِاصْطِفَاءُ بِالْخَلْقِ، وَبِالْأُخْرَى الِاخْتِيَارُ بِالتَّقْرِيبِ فِي التَّكْلِيمِ وَالْإِفْهَامِ، لَكِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْلِ دَلِيلٌ عَلَى تَسْمِيَتِهِ فَوَرَدَ الشَّرْعُ بِبَيَانِهَا، فَثَمَّ الصِّفَةُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الِاصْطِفَاءُ بِالْخَلْقِ يَدًا، وَالصِّفَةُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا التَّقْرِيبُ فِي التَّكَلُّمِ وَجْهًا، وَقَالُوا: لَمَّا صَحَّ فِي الْعَقْلِ التَّفْضِيلُ فِي الْخَلْقِ وَالْفِعْلِ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالْإِكْرَامُ، وَالتَّقْرِيبُ بِالْإِقْبَالِ وَجَبَ إثْبَاتُ صِفَةٍ لَهُ يَصِحُّ بِهَا مَا قُلْنَاهُ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ وَلَا مُجَافَاةٍ فَوَرَدَ الشَّرْعُ بِتَسْمِيَةِ إحْدَاهُمَا يَدًا وَالْأُخْرَى وَجْهًا. وَمَنْ سَلَكَ هَذَا الطَّرِيقَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْلِ جَوَازُ وُرُودِ السَّمْعِ، وَأَكْثَرُ مِنْهُ، وَمَا جَهَرَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْأَخْبَارِ فَطَرِيقَةُ الْآحَادِ الَّتِي لَا تُوجِبُ الْعِلْمَ وَلَا يَجُوزُ بِمِثْلِهَا إثْبَاتُ صِفَةٍ لِلْقَدِيمِ، وَإِنْ ثَبَتَ مِنْهَا شَيْءٌ بِطَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ كَانَ مُتَأَوِّلًا عَلَى الْفِعْلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: طَرِيقُ إثْبَاتِهَا السَّمْعُ الْمَحْضُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْعُقُولِ فِيهِ تَأْثِيرٌ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: لَوْ جَازَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِإِثْبَاتِ صِفَاتٍ لَا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَيْهَا لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى صِفَاتٍ لَا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَيْهَا لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى صِفَاتٍ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهَا، وَلَا صَارَتْ مَعْلُومَةً. وَوَجَبَ عَلَى الْقَائِلِ بِذَلِكَ جَوَازُ وُرُودِ السَّمْعِ بِصِفَاتِ الْإِنْسَانِ أَجْمَعَ لِلَّهِ تَعَالَى، إذَا لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا شَبِيهَةً بِصِفَتِهِ؛ كَانَ جَوَابُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِصِفَاتِهِ وَحَكَمَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِكَمَالِهِ عِنْدَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لَهُ صِفَةٌ أُخْرَى لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهَا لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنًا مُسْتَحِقَّ الْمَدْحِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِاَللَّهِ، يَعْنِي وَبِصِفَاتِهِ أَجْمَعَ، فَلَمَّا وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ عِنْدَ مَعْرِفَتِهِمْ بِمَا وَرَدَ مِنْ الشَّرْعِ

ثَبَتَ أَنْ لَا صِفَةَ أَكْثَرُ مِمَّا بَيَّنَ الطَّرِيقَ إلَيْهِ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَالتَّعْوِيلُ عَلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ فِيهِ الْكَشْفَ عَنْ الْمَعْنَى. قُلْت: الْجَوَابَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى وُجُوبِ الْعِلْمِ بِجَمِيعِ صِفَاتِ اللَّهِ، لَكِنْ هَلْ كُلُّهَا مَعْلُومَةٌ بِالْعَقْلِ، أَوْ مِنْهَا مَا عُلِمَ بِالسَّمْعِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ؟ وَمُحَقِّقُو الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَقُولُوا: إنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّا عَلِمْنَا اللَّهَ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ، أَوْ بِأَنَّهُ لَا صِفَةَ لَهُ وَرَاءَ مَا عَلِمْنَاهُ. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: فَمَنْ أَثْبَتَ هَذِهِ الصِّفَاتِ السَّمْعِيَّةَ وَصَارَ إلَى أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ دَلَالَاتُ الْمَعْقُولِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] ، قَالُوا: وَلَا وَجْهَ لِحَمْلِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْقُدْرَةِ، إذْ جُمْلَةُ الْمُخْتَرَعَاتِ مَخْلُوقَةٌ بِالْقُدْرَةِ فَفِي الْحَمْلِ عَلَى ذَلِكَ إبْطَالُ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ. قَالَ: وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ، فَإِنَّ الْعُقُولَ قَضَتْ بِأَنَّ الْخَلْقَ لَا يَقَعُ إلَّا بِالْقُدْرَةِ، أَوْ يَكُونُ الْقَادِرُ قَادِرًا، فَلَا وَجْهَ لِاعْتِقَادِ خَلْقِ آدَمِيٍّ بِغَيْرِ الْقُدْرَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ يَدَيْنِ صِفَتَيْنِ وَالْقُدْرَةُ وَاحِدَةٌ، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى الْقُدْرَةِ. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: التَّثْنِيَةُ رَاجِعَةٌ إلَى اللَّفْظِ لَا إلَى الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا هِيَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْ الْقَلَانِسِيِّ، وَعَنْ الْأُسْتَاذِ، عَلَى أَنَّهُ كَمَا يُعَبَّرُ بِالْيَدِ عَنْ الِاقْتِدَارِ، فَكَذَلِكَ يُعَبَّرُ بِالْيَدَيْنِ عَنْ الِاقْتِدَارِ، فَقَدْ تَقُولُ الْعَرَبُ: " مَالِي بِهَذَا الْأَمْرِ يَدٌ " يَعْنُونَ: مَالِي بِهِ قُدْرَةٌ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] قَالَ أَبُو الْحَسَنِ وَالْقَاضِي: الْمُرَادُ بِالْيَدَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقُدْرَةُ. قُلْت: هَذَا النَّقْلُ فِيهِ نَظَرٌ، فَكِلَاهُمَا يَقْتَضِي خِلَافَهُ، بَلْ هُوَ نَصٌّ فِي خِلَافِ ذَلِكَ. قَالَ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ، بِالْأَيْدِي فِي قَوْلِهِ:

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71] الْقُدْرَةُ. قَالَ: وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ مَا قُلْنَاهُ أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ شَيْخُنَا وَالْقَاضِي لَيْسَ يُوَصِّلُ إلَى الْقَطْعِ بِإِثْبَاتِ صِفَتَيْنِ زَائِدَتَيْنِ، عَلَى مَا عَدَاهُمَا مِنْ الصِّفَاتِ، وَنَحْنُ وَإِنْ لَمْ نُنْكِرْ فِي قَضِيَّةِ الْعَقْلِ صِفَةً سَمْعِيَّةً لَا يَدُلُّ مُقْتَضَى الْعَقْلِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا سَمْعًا، فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ مَقْطُوعًا بِهِ، وَلَيْسَ فِيمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْأَصْحَابُ قَطْعٌ؛ وَالظَّوَاهِرُ الْمُحْتَمَلَةُ لَا تُوجِبُ الْعِلْمَ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَنْعِ تَقْدِيرِ صِفَةٍ مُجْتَهَدٍ فِيهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْقَطْعِ فِيهَا بِعَقْلٍ، وَلَيْسَ فِي الْيَدَيْنِ - عَلَى مَا قَالَهُ شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَظَرٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَلَا إجْمَاعٌ عَلَيْهِ، فَيَجِبُ تَنْزِيلُ ذَلِكَ عَلَى مَا قُلْنَاهُ. قَالَ: وَالظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ الْيَدَيْنِ حَمْلُهَا عَلَى جَارِحَتَيْنِ فَإِنْ اسْتَحَالَ حَمْلُهَا عَلَى ذَلِكَ، وَمَنَعَهُ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْقُدْرَةِ أَوْ النِّعْمَةِ أَوْ الْمُلْكِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّهُمَا مَحْصُولَتَانِ عَلَى صِفَتَيْنِ قَدِيمَتَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى زَائِدَتَيْنِ عَلَى مَا عَدَاهُمَا مِنْ الصِّفَاتِ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ. قُلْت: ثُمَّ ذَكَرَ الْجَوَابَ عَنْ صِحَّةِ أَئِمَّتِهِ بِمَا لَيْسَ، هَذَا مَوْضِعَهُ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ هُوَ الِاسْتِقْصَاءَ فِي إثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَنَفْيِهَا، إذْ قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى تَغْيِيرِ قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ. وَأَبُو الْمَعَالِي اعْتَمَدَ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِي السَّمْعِ مَا يَقْطَعُ بِثُبُوتِ هَذِهِ الصِّفَةِ، لَا نَصًّ وَلَا إجْمَاعَ وَالثَّانِيَةُ: الْمَنْعُ بِأَنْ يُتَكَلَّمَ فِي الصِّفَاتِ بِغَيْرِ قَطْعٍ عَقْلِيٍّ أَوْ نَقْلِيٍّ، وَادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا بَاطِلٌ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ: إذَا لَمْ يَقُمْ الْقَاطِعُ بِالثُّبُوتِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِالِانْتِفَاءِ وَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا ذَكَرَ الْإسْفَرايِينِيّ مِنْ أَنَّ اللَّهَ مَعْرُوفٌ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ فِي الدُّنْيَا إمَّا بِالْعَقْلِ عَلَى قَوْلِ قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَإِمَّا بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ خِلَافُ إجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَخِلَافُ قَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ إجْمَاعٌ، فَإِنَّ الْقَطْعَ بِالنَّفْيِ بِلَا عِلْمٍ يُوجِبُ النَّفْيَ كَالْقَطْعِ بِالْإِثْبَاتِ بِلَا عِلْمٍ، وَالْوَاجِبُ أَنْ تُعْطَى الْأَدِلَّةُ حَقَّهَا، فَمَا كَانَ قَطْعِيًّا قُطِعَ بِهِ، وَمَا كَانَ ظَاهِرًا مُحْتَمِلًا قِيلَ

إنَّهُ ظَاهِرٌ مُحْتَمَلٌ، وَمَا كَانَ مُجْمَلًا قِيلَ إنَّهُ مُجْمَلٌ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا أَنَّ مَا لَمْ تَعْلَمُوهُ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ فَانْفُوهُ، بَلْ قَالُوا امْسِكُوا عَنْ التَّكَلُّمِ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ مَا وَرَدَ، وَفَرْقٌ بَيْنَ السُّكُوتِ عَمَّا لَمْ يَرِدْ وَبَيْنَ النَّفْيِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ النَّفْيُ لِمَا يَكُونُ ظَاهِرًا فِي الْوَارِدِ؟ ، وَأَبُو الْمَعَالِي يَتَكَلَّمُ بِمَبْلَغِ عِلْمِهِ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ وَكَانَ بَارِعًا فِي فَنِّ الْكَلَامِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ أَصْحَابُهُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَإِنْ كَانَتْ الْمُعْتَزِلَةُ هُمْ الْأَصْلَ فِيهِ لِكَثْرَةِ مُطَالَعَتِهِ لِكُتُبِ أَبِي هَاشِمٍ الْجُبَّائِيُّ، فَأَمَّا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَقَوْلُ أَئِمَّتِهَا فَكَانَ قَلِيلَ الْمَعْرِفَةِ بِهَا جِدًّا، وَكَلَامُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا تَجِدُهُ فِي عَامَّةِ مُصَنَّفَاتِهِ فِي أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ إذَا اعْتَمَدَ عَلَى قَاطِعٍ فَإِنَّمَا هُوَ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ قِيَاسٍ عَقْلِيٍّ أَوْ إجْمَاعٍ سَمْعِيٍّ، وَفِي كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ مَا فِيهِ، فَأَمَّا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا فَهُوَ قَلِيلُ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا وَالْخِبْرَةِ بِهَا، وَاعْتَبِرْهُ بِمَا ذُكِرَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْآجُرِّيِّ وَنَحْوِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ صَنَّفُوا فِي أَبْوَابِ السُّنَّةِ، وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَقَدْ رَدُّوا عَلَيْهِمْ بِالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ. فَإِنَّهُ قَالَ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ نَابَذُوا الْمُعْتَزِلَةَ وَخَالَفُوهُمْ، وَاتَّبَعُوا السَّمْعَ وَالشَّرْعَ وَأَثْبَتُوا الرُّؤْيَةَ وَالنَّظَرَ، وَأَثْبَتُوا الصِّرَاطَ وَالْمِيزَانَ، وَعَذَابَ الْقَبْرِ، وَمَسْأَلَةَ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ وَالْمِعْرَاجَ وَالْحَوْضَ، وَاشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ عَلَى مَنْ يُنْسَبُ إلَى إنْكَارِ مَأْثُورِ الْأَخْبَارِ وَالْمُسْتَفِيضِ مِنْ الْآثَارِ فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ وَالْعَقَائِدِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ فِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ وَالْإِيجَابِ، وَالْحَذَرَ لَا يُدْرَكُ عَقْلًا، وَالْمَرْجِعُ فِي جَمِيعِهَا إلَى مَوَارِدِ الشَّرْعِ وَقَضَايَا السَّمْعِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا بَلَغَتْهُمْ أَخْبَارٌ مُتَشَابِهَةٌ وَأَلْفَاظٌ مُشْكِلَةٌ لَمْ يَسْتَبْعِدُوا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَخْبَارِ: الْبَيِّنُ، وَالظَّاهِرُ، وَالْمُجْمَلُ، وَالْمُشْكِلُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ كِتَابَهُ الْعَزِيزَ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ أَعْرَضُوا عَنْ ذِكْرِهَا، وَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ أَئِمَّةَ السُّنَّةِ وَأَحْبَارَ الْأُمَّةِ بَعْدَ صَحْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ، لَمْ يُودِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ كِتَابَهُ الْأَخْبَارَ الْمُتَشَابِهَاتِ فَلَمْ يُورِدْ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمُوَطَّإِ مِنْهَا شَيْئًا مِمَّا أَوْرَدَهُ الْآجُرِّيُّ وَأَمْثَالُهُ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ، وَلَمْ يُفْتُوا بِنَقْلِ الْمُشْكِلَاتِ.

وَنَبَغَتْ نَاشِئَةٌ ضَرُّوا بِنَقْلِ الْمُشْكِلَاتِ وَتَدْوِينِ الْمُتَشَابِهَاتِ وَتَبْوِيبِ أَبْوَابٍ وَرَسْمِ تَرَاجِمَ عَلَى تَرْتِيبِ فِطْرَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَرَسَمُوا بَابًا فِي ضَحِكِ الْبَارِي، وَبَابًا فِي نُزُولِهِ وَانْتِقَالِهِ وَعُرُوجِهِ وَدُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ، وَبَابًا فِي إثْبَاتِ الْأَضْرَاسِ، وَبَابًا فِي خَلْقِ اللَّهِ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ، وَبَابًا فِي إثْبَاتِ الْقَدَمِ وَالشَّعْرِ الْقَطَطِ، وَبَابًا فِي إثْبَاتِ الْأَصْوَاتِ وَالنَّغَمَاتِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِ الزَّائِغِينَ. قَالَ: وَلَيْسَ يَعْتَمِدُ جَمْعَ هَذِهِ الْأَبْوَابِ وَتَمْهِيدَ هَذِهِ الْأَنْسَابِ إلَّا مُشَبِّهٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، أَوْ مُتَلَاعِبٌ زِنْدِيقٌ. قَالَ الْمُعَظَّمُ لِأَبِي الْمَعَالِي النَّاقِلُ لِكَلَامِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَاءِ الْأَشْعَرِيَّةِ: فِي قَوْلِ أَبِي الْمَعَالِي هَذَا بَعْضُ التَّحَامُلِ. وَقَدْ أَثْبَتْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مَعْنَى شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فَإِنَّهُ ذَكَرَ الصِّفَاتِ فِي آخِرِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ مَا صَحَّ سَنَدُهُ وَثَبَتَ نَقْلُهُ وَمَوْرِدُهُ، وَأَضْرَبْنَا عَلَى الْكَثِيرِ مِنْهَا اسْتِغْنَاءً عَنْهَا لِعَدَمِ صِحَّتِهَا، فَلْيُوقَفْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْهَا لِنَقْلِ الْأَئِمَّةِ الثِّقَاتِ لَهَا، وَحَدِيثُ النُّزُولِ ثَابِتٌ فِي الْأُمَّهَاتِ أَخْرَجَهُ الثِّقَاتُ الْأَثْبَاتُ. قُلْتُ: هَذَا الْكَلَامُ فِيهِ مَا يَجِبُ رَدُّهُ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ: أَحَدُهَا: مَا ذَكَرَهُ عَمَّنْ سَمَّاهُمْ أَهْلَ الْحَقِّ، فَإِنَّهُ دَائِمًا يَقُولُ: قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا يَعْنِي أَصْحَابَهُ، وَهَذِهِ دَعْوَى يُمْكِنُ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ مِثْلَهَا، فَإِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ الَّذِينَ لَا رَيْبَ فِيهِمْ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَأَمَّا أَنْ يُفْرِدَ الْإِنْسَانُ طَائِفَةً مُنْتَسِبَةً إلَى مَتْبُوعٍ مِنْ الْأُمَّةِ وَيُسَمِّيَهَا أَهْلَ الْحَقِّ، وَيُشْعِرُ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَهَا فِي شَيْءٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ، فَهَذَا حَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ كَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَإِنَّهُمْ لَا يَصِفُونَ طَائِفَةً بِأَنَّهَا صَاحِبَةَ الْحَقِّ مُطْلَقًا إلَّا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 3] . وَهَذَا نِهَايَةُ الْحَقِّ، وَالْكَلَامُ الَّذِي لَا رَيْبَ أَنَّهُ حَقٌّ قَوْلُ اللَّهِ وَقَوْلُ رَسُولِهِ الَّذِي هُوَ

حَقٌّ وَآتٍ بِالْحَقِّ، قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} [الأحزاب: 4] ، وَقَالَ تَعَالَى: {قَوْلُهُ الْحَقُّ} [الأنعام: 73] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اُكْتُبْ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمَا إلَّا حَقًّا» . فَأَهْلُ الْحَقِّ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ، فَلَيْسَ الْحَقُّ لَازِمًا لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ دَائِرًا مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ، لَا يُفَارِقُهُ قَطُّ إلَّا الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ لَا مَعْصُومَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ غَيْرُهُ، وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ الَّتِي أَقَامَهَا عَلَى عِبَادِهِ وَأَوْجَبَ اتِّبَاعَهُ وَطَاعَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ. وَلَيْسَ الْحَقُّ أَيْضًا لَازِمًا لِطَائِفَةٍ دُونَ غَيْرِهَا إلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ الْحَقَّ يَلْزَمُهُمْ إذْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ الْحَقُّ فِيهِ مَعَ الشَّخْصِ أَوْ الطَّائِفَةِ فِي أَمْرٍ دُونَ الْأَمْرِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُخْتَلِفَانِ كِلَاهُمَا عَلَى بَاطِلٍ، وَقَدْ يَكُونُ الْحَقُّ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ طَائِفَةً مَنْسُوبَةً إلَى اتِّبَاعِ شَخْصٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَقِّ، إذْ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَكُلُّ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ مُبْطِلٌ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا إذَا كَانَ مَتْبُوعُهُمْ كَذَلِكَ، وَهَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَكَانَ إجْمَاعُ هَؤُلَاءِ حُجَّةً إذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ الْحَقِّ. ثُمَّ هُوَ يَذْكُرُ أَئِمَّتَهُ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ أَهْلَ الْحَقِّ، ثُمَّ هُوَ يُخَالِفُهُمْ كَمَا صَنَعَ فِي مَسْأَلَةِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَغَيْرِهَا، مَعَ أَنَّهُمْ فِيهَا أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ مِنْهُ فَكَيْفَ يَسُوغُ لَهُمْ أَنْ يُخَالِفُوا مَنْ شَهِدَ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَلَهُ فِي ذَلِكَ شَبَهٌ قَوِيٌّ بِبَعْضِ أَئِمَّةِ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ كَانُوا بِالشَّامِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْمَعْصُومِ، رَأَيْت لَهُ فَتَاوَى يَدَّعِي فِيهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمُحِقَّةَ هُمْ أَتْبَاعُ الْمَعْصُومِ الْمُنْتَظَرِ، وَيَحْتَجُّ بِإِجْمَاعِ الطَّائِفَةِ الْمُحِقَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ مَأْخُوذٌ عَنْ الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ أَحْمَدُ وَلَمْ يَسْمَعْ لَهُ بِخَبَرٍ وَلَا وَقَعَ لَهُ عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَرٍ، حَتَّى أَنَّهُ قَالَ: إذَا تَنَازَعُوا فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ دُونَ الْآخَرِ، فَالْقَوْلُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ هُوَ الْحَقُّ لِأَنَّ فِي أَهْلِهِ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ. ثُمَّ رَأَيْته يُخَالِفُ أَصْحَابَهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ، فَأَيْنَ مُخَالَفَتُهُمْ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي دَعْوَى أَنَّهُمْ الطَّائِفَةُ الْمُحِقَّةُ، الَّذِينَ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى بَاطِلٍ؟ وَكَذَلِكَ دَعَاوَى كَثِيرٍ مِنْ

أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالضَّلَالِ أَنَّهُمْ الْمُحِقُّونَ، أَوْ أَنَّهُمْ أَهْلُ اللَّهِ أَوْ أَهْلُ التَّحْقِيقِ أَوْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ حَتَّى تُوقَفَ هَذِهِ الْمَعَانِي عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَيَكُونُونَ فِي الْحَقِيقَةِ إلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ أَقْرَبَ، وَإِلَى الْإِبْطَالِ أَقْرَبَ مِنْهُمْ إلَى التَّحْقِيقِ بِكَثِيرٍ، فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ شَبَهٌ قَوِيٌّ بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ قَوْلِهِ: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113] . وقَوْله تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18] . الثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ اتَّبَعُوا السَّمْعَ وَالشَّرْعَ، وَهُوَ قَدْ ذَكَرَ فِي أَحْوَالِهِمْ الَّتِي بِهَا صَارُوا أَهْلَ الْحَقِّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ لِلَّهِ صِفَةً بِالسَّمْعِ، بَلْ إنَّمَا تَثْبُتُ صِفَاتُهُ بِالْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ، وَأَنَّ الَّذِينَ أَثْبَتُوا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ بِالْعَقْلِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ بِالسَّمْعِ، وَرَدَّ هُوَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ، فَأَيُّ اتِّبَاعٍ لِلسَّمْعِ وَالشَّرْعِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ بِالشَّرْعِ؟ بَلْ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِيمَا أَثْبَتُوهُ وَنَفَوْهُ مِنْ الصِّفَاتِ، فَأَئِمَّتُهُمْ كَانُوا يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ، أَوْ بِالسَّمْعِ وَيَجْعَلُونَ الْعَقْلَ مُؤَكِّدًا فِي الْفَهْمِ فِي ذَلِكَ، فَأَيْنَ اتِّبَاعُهُمْ لِلسَّمْعِ وَالشَّرْعِ وَقَدْ عَزَلُوهُ عَنْ الْحُكْمِ بِهِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِ. وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ: يَشْتَدُّ نَكِيرُهُمْ عَلَى مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى إنْكَارِ مَأْثُورِ الْأَخْبَارِ وَالْمُسْتَفِيضِ مِنْ الْآثَارِ، فَيُقَالُ لَهُ: إذَا لَمْ يُسْتَفَدْ مِنْهَا ثُبُوتُ مَعْنَاهَا فَأَيُّ إنْكَارٍ لَهَا أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْتَ قَدْ ذَكَرْت إعْرَاضَهُمْ عَنْهَا وَقُلْت فِيهَا مِنْ الْفِرْيَةِ مَا سَنَذْكُرُ بَعْضَهُ، فَهَلْ الْإِنْكَارُ لِمَأْثُورِ الْأَخْبَارِ وَمُسْتَفِيضِهَا إلَّا مِنْ جِنْسِ مَا ذَكَرْته فِي هَذَا الْكَلَامِ. الرَّابِعُ: مَا ذَكَرَهُ أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَيُقَالُ لَهُمْ هَذَا يُثْبِتُونَهُ عَلَى

وَجْهِ الْجُمْلَةِ إثْبَاتًا يُشْرِكُهُمْ فِيهِ آحَادُ الْعَوَامّ وَلَا يَعْلَمُونَ مِنْ تَفْصِيلِ ذَلِكَ مَا يُجَابُ بِهِ أَدْنَى السَّائِلِينَ وَلَيْسَ فِي كُتُبِهِمْ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ بِذَلِكَ مِنْ أَقَلِّ النَّاسِ عِلْمًا بِهَا أَوْ تَجِدُهُمْ مُرْتَابِينَ فِيهَا أَوْ مُكَذِّبِينَ فَأَيُّ تَعْظِيمٍ بِمِثْلِ هَذَا، وَأَيُّ مَزِيَّةٍ بِهَذَا عَلَى أَوْسَاطِ الْعَوَامّ أَوْ أَدْنَاهُمْ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ يُؤْمِنُ بِتَفَاصِيلِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَيَعْلَمُ مِنْهَا مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الشَّارِعُ مَا لَيْسَ مَذْكُورًا فِي أُصُولِ هَؤُلَاءِ، وَإِنَّمَا الْفَضِيلَةُ عَلَى عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ أَوْ الطَّائِفَةُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يُوجَدُ عِنْدَ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ ذَلِكَ. الْخَامِسُ: الْحُجَّةُ أَنَّهُمْ نَفَوْا التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ الْعَقْلِيَّ وَجَعَلُوا أَحْكَامَ الْأَفْعَالِ لَا تُتَلَقَّى إلَّا مِنْ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ بَيَّنَ بِذَلِكَ تَعْظِيمَهُمْ لِلشَّرْعِ وَاتِّبَاعَهُمْ لَهُ. وَأَنَّهُمْ لَا يَعْدِلُونَ عَنْهُ لِيَثْبُتَ بِذَلِكَ تَسَنُّنُهُمْ، وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ مِنْ الْأُصُولِ الْمُبْتَدَعَةِ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحَسِّنُ وَلَا يُقَبِّحُ، أَوْ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ حُسْنُ فِعْلٍ وَلَا قُبْحُهُ، بَلْ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ حَادِثٌ فِي حُدُوثِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ ثُمَّ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأُمَّةِ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ مِنْهَا فَمَا مِنْ طَائِفَةٍ إلَّا وَهِيَ مُتَنَازِعَةٌ فِي ذَلِكَ، وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْأُمَّةِ تُخَالِفُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ كَتَبْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَصْلَ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبَيَّنَّا مَا مَعَ هَؤُلَاءِ فِيهَا مِنْ الْحَقِّ وَمَا مَعَ هَؤُلَاءِ فِيهَا مِنْ الْحَقِّ، ثُمَّ يُقَالُ: وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ حَقًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَيْسَ لَك وَلَا لِأَصْحَابِك فِيهَا حُجَّةٌ نَافِيَةٌ، بَلْ عُمْدَتُك وَعُمْدَةُ الْقَاضِي وَنَحْوِكُمَا عَلَى مُطَالَبَةِ الْخَصْمِ بِالْحُجَّةِ وَالْقَدْحُ فِيمَا بِيَدَيْهِ، وَالْقَدْحُ فِي دَلِيلِ الْمُنَازِعِ إنْ صَحَّ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِانْتِفَاءِ قَوْلِهِ إنْ لَمْ يَقُمْ عَلَى النَّفْيِ دَلِيلٌ وَعُمْدَةُ إمَام الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ الْخَطِيبِ الِاسْتِدْلَال عَلَى ذَلِكَ بِالْجَبْرِ وَهُوَ مِنْ أَفْسَدِ الْحُجَجِ، فَإِنَّ الْجَبْرَ سَوَاءٌ كَانَ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا كَمَا لَا يُبْطِلَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ لَا يَنْفِي ثُبُوتَ أَحْكَامٍ مَعْلُومَةٍ بِالْعَقْلِ كَمَا لَا يَنْفِي الْأَحْكَامَ الَّتِي يُثْبِتُهَا الشَّارِعُ. وَعُمْدَةُ الْآمِدِيِّ بَعْدَهُ أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ عَرَضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ بِالْعَرَضِ، وَهَذَا مِنْ الْمَغَالِيطِ الَّتِي لَا يَسْتَدِلُّ بِهَا إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُغَالِطٌ، فَإِنَّهُ يُقَالُ فِي ذَلِكَ مَا يُقَالُ فِي سَائِرِ صِفَاتِ الْأَعْرَاضِ وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ كِلَاهُمَا قَائِمًا بِمَحَلِّ الْعَرْضِ وَنَفْيِ الْحُكْمِ الْمَعْلُومِ بِالْعَقْلِ مِمَّا عَدَّهُ مِنْ بِدَعِ الْأَشْعَرِيِّ الَّتِي أَحْدَثَهَا فِي الْإِسْلَامِ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ كَأَبِي نَصْرٍ السِّجْزِيِّ وَأَبِي الْقَاسِمِ سَعْدِ بْنِ عَلِيٍّ الزَّنْجَانِيِّ، دَعْ مَنْ سِوَاهُمْ.

السَّادِسُ: تَسْمِيَتُهُ الْأَخْبَارَ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا الرَّسُولُ عَنْ رَبِّهِ أَخْبَارًا مُتَشَابِهَةً كَمَا يُسَمُّونَ آيَاتِ الصِّفَاتِ مُتَشَابِهَةً وَهَذَا كَمَا يُسَمِّي الْمُعْتَزِلَةُ الْأَخْبَارَ الْمُثْبِتَةَ لِلْقَدَرِ مُتَشَابِهَةً. وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الَّذِينَ يُسَمُّونَ مَا وَافَقَ آرَاءَهُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُحْكَمًا وَمَا خَالَفَ آرَاءَهُمْ مُتَشَابِهًا، وَهَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18] وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18] وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18] . السَّابِعُ: قِيَاسُهُ لَمَّا سَمَّاهُ الْمُتَشَابِهَ فِي الْأَخْبَارِ عَلَى الْمُتَشَابِهِ فِي آيِ الْكِتَابِ لِيُلْحِقَهُ بِهِ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِهِ وَعَدَمِ الِاشْتِغَالِ بِهِ، وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَعَدَمِ التَّشَاغُلِ بِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا أَعْرَضُوا عَنْ شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَا سِيَّمَا الْآيَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِذِكْرِ أَسْمَاء اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، فَمَا مِنْهَا آيَةٌ إلَّا وَقَدْ رَوَى الصَّحَابَةُ فِيمَا يُوَافِقُ مَعْنَاهَا وَيُفَسِّرُوهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ بِمَا لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى مَزِيدٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18] . فَإِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ حَرَّفَ فَقَالَ: قَبَضْته قُدْرَتُهُ، وَبِيَمِينِهِ بِقُوَّتِهِ أَوْ بِقَسَمِهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَقَدْ اسْتَفَاضَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي رَوَاهَا خِيَارُ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاؤُهُمْ، وَخِيَارُ التَّابِعِينَ وَعُلَمَاؤُهُمْ بِمَا يُوَافِقُ ظَاهِرَ الْآيَةِ وَيُفَصِّلُ الْمَعْنَى كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قِصَّةِ الْخَبَرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَغَيْرِ

ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدَيْهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ. الثَّامِنُ: قَوْلُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أَئِمَّةَ السُّنَّةِ وَأَخْيَارَ الْأُمَّةِ بَعْدَ صَحْبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُودِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ كِتَابَهُ الْأَخْبَارَ الْمُتَشَابِهَاتِ فَلَمْ يُورِدْ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمُوَطَّإِ مِنْهَا شَيْئًا كَمَا أَوْرَدَهُ الْآجُرِّيُّ وَأَمْثَالُهُ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ، وَلَمْ يَعْتَنُوا بِنَقْلِ الْمُشْكِلَاتِ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَقُولُهُ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَةِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ، وَمَا نَقَلُوهُ وَصَنَّفُوهُ، وَقَوْلُهُ: رَجْمٌ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ فَإِنَّ نَقْلَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِمَّا يَعْرِفُهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى نَصِيبٌ مِنْ مَعْرِفَةِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَنْ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ أُخِذَتْ، وَهُمْ الَّذِينَ أَدَّوْهَا إلَى الْأُمَّةِ، وَالْكَذِبُ فِي هَذَا الْكَلَامِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى بَيَانٍ، لَكِنَّ قَائِلَهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْكَذِبَ وَلَكِنَّهُ قَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ بِحَالِ هَؤُلَاءِ وَظَنَّ أَنَّ نَقْلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا الْجَاهِلُ الَّذِينَ يُسَمِّيهِمْ الْمُشَبِّهَةَ أَوْ الزَّنَادِقَةَ وَهَؤُلَاءِ بُرَآءُ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَتَرَكَّبَ مِنْ قِلَّةِ عِلْمِهِ بِالْحَقِّ وَمِنْ هَذَا الظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْ الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي فِيهِ مِنْ الْفِرْيَةِ وَالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى أَدْنَى الرِّجَالِ. التَّاسِعُ: قَوْلُهُ لَمْ يُورِدْ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَدْ ذَكَرَ أَحَادِيثَ النُّزُولِ وَأَحَادِيثَ الضَّحِكِ فِيمَا أَنْكَرَهُ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ حَدِيثَ النُّزُولِ مِنْ أَشْهَرِ الْأَحَادِيثِ فِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ رَوَاهُ عَنْ أَجَلِّ شُيُوخِهِ ابْنِ شِهَابٍ عَمَّنْ هُوَ مِنْ أَجَلِّ شُيُوخِهِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَعَزِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِبْ لَهُ، مَنْ يَسْأَلْنِي فَأُعْطِيهِ، مَنْ يَسْتَغْفِرْنِي فَأَغْفِرْ لَهُ» وَقَدْ رَوَاهُ أَهْلُ الصِّحَاحِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَأَحَادِيثُ النُّزُولِ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهَا أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ نَفْسًا مِنْ الصَّحَابَةِ بِمَحْضَرِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ وَالْمُسْتَمِعُ لَهَا مِنْهُمْ يُصَدِّقُ الْمُحَدِّثَ بِهَا وَيُقِرُّهُ، وَلَمْ يُنْكِرْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَرَوَاهُ أَئِمَّةُ التَّابِعِينَ وَعَامَّةُ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ، رَوَوْا ذَلِكَ وَأَوْدَعُوهُ كُتُبَهُمْ وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ أَنْكَرَهُ. قَالَ شَارِحُ الْمُوَطَّإِ الشَّرْحُ الَّذِي لَمْ يَشْرَحْ أَحَدٌ مِثْلَهُ، الْإِمَامُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ

هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ، فَمِنْ جِهَةِ النَّقْلِ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي صِحَّتِهِ. قَالَ: وَهُوَ حَدِيثٌ مَنْقُولٌ مِنْ طُرُقٍ سِوَى هَذِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْعُدُولِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ كَمَا قَالَتْ الْجَمَاعَةُ وَهُوَ مِنْ حُجَّتِهِمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَان وَلَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ، وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ أَحَادِيثُ الضَّحِكِ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ وَقَدْ رَوَاهَا الْأَئِمَّةُ، وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ مِنْهَا حَدِيثَهُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَضْحَكُ اللَّهُ إلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَسْتَشْهِدُ» وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَهْلُ الصِّحَاحِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَغَيْرِ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ أَيْضًا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْإِمَامُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ وَحَدَّثَ بِهِ. وَقَدْ رَوَى صَاحِبُ الصَّحِيحَيْنِ مِنْهَا قِطْعَةً مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ وَمِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الطَّوِيلِ الْمَشْهُورَ وَفِيهِ: «فَلَا يَزَالُ يَدْعُو اللَّهَ حَتَّى يَضْحَكَ اللَّهُ مِنْهُ فَإِذَا ضَحِكَ اللَّهُ مِنْهُ قَالَ لَهُ اُدْخُلْ الْجَنَّةَ» وَرَوَاهُ أَعْلَمُ التَّابِعِينَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرُ سَعِيدٍ أَيْضًا، وَرَوَاهُ عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَعَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: «فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْك، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ» وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرْوِي هَذِهِ الْأَحَادِيثَ، وَفِيهِ أَلْفَاظٌ عَظِيمَةٌ أَبْلَغُ مِنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ: «فَيَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ» ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: «فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ» وَقَوْلُهُ: «فَيَقُولُ الْجَبَّارُ بَقِيَتْ شَفَاعَتِي فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ النَّارِ يُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدْ امْتَحَشُوا» .

وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ أَيْضًا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» وَقَدْ أَخَرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ كَالْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ وَطَرِيقِ غَيْرِهِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَرَضِينَ وَتَكُونُ السَّمَوَاتُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ» رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ مَالِكٍ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ «عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18] الْآيَةُ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُ عَنْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ إنَّمَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ كَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ قِيلَ إنَّ إسْنَادَهُ مُنْقَطِعٌ وَإِنَّ رَاوِيَهُ مَجْهُولٌ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ مَعَ أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ: «ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً. . . ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً» . وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ الْآجُرِّيَّ يَرْوِي فِي كِتَابِ الشَّرِيعَةِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَالطَّبِيعِيَّ

وَاللَّيْثِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَوْ تَأَمَّلَ أَبُو الْمَعَالِي وَذَوِيهِ الْكِتَابَ الَّذِي أَنْكَرُوهُ لَوَجَدُوا فِيهِ مَا يَخْصِمُهُمْ، وَلَكِنْ أَبُو الْمَعَالِي مَعَ فَرْطِ ذَكَائِهِ وَحِرْصِهِ عَلَى الْعِلْمِ وَعُلُوِّ قَدْرِهِ فِي فَنِّهِ كَانَ قَلِيلَ الْمَعْرِفَةِ بِالْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ وَلَعَلَّهُ لَمْ يُطَالِعْ عِلَّاتِهَا بِحَالٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِالصَّحِيحَيْنِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَأَمْثَال هَذِهِ السُّنَنِ عِلْمٌ أَصْلًا فَكَيْفَ بِالْمُوَطَّإِ وَنَحْوه وَكَانَ مَعَ حِرْصه عَلَى الِاحْتِجَاج فِي مَسَائِل الْخِلَاف فِي الْفِقْهِ إنَّمَا عُمْدَتُهُ سُنَنُ أَبِي الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَأَبُو الْحَسَنِ مَعَ إتْمَامِ إمَامَتِهِ فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ إنَّمَا صَنَّفَ هَذِهِ السُّنَنَ كَيْ يَذْكُرَ فِيهَا الْأَحَادِيثَ الْمُسْتَغْرَبَةَ فِي الْفِقْهِ وَيَجْمَعَ طُرُقَهَا، فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى مِثْلِهِ، فَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَكَانَ يَسْتَغْنِي عَنْهَا فِي ذَلِكَ فَلِهَذَا كَانَ مُجَرَّدُ الِاكْتِفَاءِ بِكِتَابِهِ فِي هَذَا الْبَابِ يُورِثُ جَهْلًا عَظِيمًا بِأُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِأَنَّ كِتَابَ أَبِي الْمَعَالِي، الَّذِي هُوَ نُخْبَةُ عُمْرِهِ نِهَايَةُ الْمَطْلَبِ فِي دِرَايَةِ الْمَذْهَبِ " لَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ وَاحِدٌ مَعْزُوٌّ إلَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ إلَّا حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي الْبَسْمَلَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ الْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ كَمَا ذَكَرَهُ. وَلِقِلَّةِ عِلْمِهِ وَعِلْمِ أَمْثَالِهِ بِأُصُولِ الْإِسْلَامِ اتَّفَقَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَإِذَا لَمْ يُسَوِّغْ أَصْحَابُهُ أَنْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِمْ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ فُرُوعِ الْفِقْهِ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا؟ وَإِذَا اتَّفَقَ أَصْحَابُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ إمَامًا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ فَكَيْفَ يُتَّخَذُ إمَامًا فِي أُصُولِ الدِّينِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ إنَّمَا نِيلَ قَدْرُهُ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ بِتَبَحُّرِهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لِأَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ مُؤَسَّسٌ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا الَّذِي ارْتَفَعَ بِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ غَايَتُهُ فِيهِ أَنَّهُ يُوجَدُ مِنْهُ نَقْلٌ جَمَعَهُ أَوْ بَحْثٌ تَفَطَّنَ لَهُ فَلَا يُجْعَلُ إمَامًا فِيهِ كَالْأَئِمَّةِ الَّذِينَ لَهُمْ وُجُوهٌ، فَكَيْفَ بِالْكَلَامِ الَّذِي نَصَّ الشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ ذَنْبٌ أَعْظَمُ مِنْهُ؟ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا جَعَلَهُ أَصْلَ دِينِهِ فِي الْإِرْشَادِ وَالشَّامِلِ وَغَيْرِهِمَا هُوَ بِعَيْنِهِ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي نَصَّتْ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ، وَلِهَذَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ طَاهِرٍ أَنَّهُ قَالَ وَقْتَ الْمَوْتِ: لَقَدْ خُضْتُ الْبَحْرَ الْخِضَمَّ وَخَلَّيْت أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَعُلُومَهُمْ وَدَخَلْت فِي الَّذِي نَهَوْنِي عَنْهُ، وَالْآنَ إنْ لَمْ يُدْرِكْنِي رَبِّي بِرَحْمَتِهِ فَالْوَيْلُ لِابْنِ الْجُوَيْنِيِّ، وَهَا أَنَا أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَةِ أُمِّي أَوْ عَقَائِدِ عَجَائِزِ نَيْسَابُورَ.

قَالَ أَبُو عَبْدُ اللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ الرُّسْتُمِيُّ: حَكَى لَنَا الْإِمَامُ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ الْفَقِيهُ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى الْإِمَامِ أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ نَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِنَيْسَابُورَ، فَأُقْعِدَ، فَقَالَ لَنَا: اشْهَدُوا عَلَيَّ أَنِّي رَجَعْت عَنْ كُلِّ مَقَالَةٍ قُلْتهَا أُخَالِفُ فِيهَا مَا قَالَ السَّلَفُ الصَّالِحُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، وَأَنِّي أَمُوتُ عَلَى مَا يَمُوتُ عَلَيْهِ عَجَائِزُ نَيْسَابُورَ. وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ سَلَكُوا خَلْفَهُ مِنْ تَلَامِذَتِهِ وَتَلَامِذَةِ تَلَامِذَتِهِ وَتَلَامِذَةِ تَلَامِذَةِ تَلَامِذَتِهِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَلِقِلَّةِ عِلْمِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ سَلَفِ الْأُمَّةِ يَظُنُّ أَنَّ أَكْثَرَ الْحَوَادِثِ لَيْسَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا يُعْلَمُ حُكْمُهَا بِالْقِيَاسِ، كَمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ بِالنُّصُوصِ وَدَلَالَتِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ عَلِمَ أَنَّ قَوْلَ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ وَأَمْثَالِهِ: إنَّ النُّصُوصَ تَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ، أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَإِنْ كَانَ فِي طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ بَعْضِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا قَدْ يُسَمَّى قِيَاسًا جَلِيًّا، وَقَدْ يُجْعَلُ مِنْ دَلَالَةِ مِثْلِ فَحْوَى الْخِطَابِ وَالْقِيَاسِ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمِثْلِ الْجُمُودِ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ الضَّعِيفِ، وَمِثْلِ الْإِعْرَاضِ عَنْ مُتَابَعَةِ أَئِمَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مَا هُوَ مَعِيبٌ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الْقَدْحُ فِي أَعْرَاضِ الْأَئِمَّةِ، لَكِنْ الْغَرَضُ أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ فِي اسْتِيعَابِ النُّصُوصِ لِلْحَوَادِثِ، وَأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَدْ بَيَّنَ لِلنَّاسِ دِينَهُمْ هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ لَمْ يُبَيِّنْ لِلنَّاسِ حُكْمَ أَكْثَرِ مَا يَحْدُثُ لَهُمْ مِنْ الْأَعْمَالِ، بَلْ وَكَّلَهُمْ فِيهَا إلَى الظُّنُونِ الْمُتَقَابِلَةِ وَالْآرَاءِ الْمُتَعَارِضَةِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا كُلِّهِ ضَعْفُ الْعِلْمِ بِالْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ وَالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ لِأَبِي الْمَعَالِي وَأَمْثَالِهِ بِذَلِكَ عِلْمٌ رَاسِخٌ، وَكَانُوا قَدْ عَضُّوا عَلَيْهِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ لَكَانُوا مُلْحَقِينَ بِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا كَانَ فِيهِمْ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ لِأَسْبَابِ الِاجْتِهَادِ، وَلَكِنْ اتَّبَعَ أَهْلُ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ وَالرَّأْيِ الضَّعِيفِ لِلظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ، الَّذِي يَنْقُضُ صَاحِبَهُ إلَى حَيْثُ جَعَلَهُ اللَّهُ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي تِلْكَ الطَّرِيقَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، فَلَيْسَ الْفَضْلُ بِكَثْرَةِ الِاجْتِهَادِ وَلَكِنْ بِالْهُدَى وَالسَّدَادِ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: «مَا ازْدَادَ مُبْتَدِعٌ اجْتِهَادًا إلَّا ازْدَادَ مِنْ اللَّهِ بُعْدًا» وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَوَارِجِ: يَحْقِرُ

أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ» . وَيُوجَدُ لِأَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لِكَثِيرٍ مِنْ الرَّافِضَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الِاجْتِهَادِ مَا لَا يُوجَدُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَكَذَلِكَ لِكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، لَكِنْ إنَّمَا يُرَادُ الْحَسَنُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2] قَالَ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ فَقَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا، وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ رَوَى الْأَحَادِيثَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِغَرَضِ كِتَابِهِ مِثْلَ حَدِيثِ النُّزُولِ، وَحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ الَّذِي فِيهِ «قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْجَارِيَةِ: أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، بَلْ رَوَى فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ الَّذِي اخْتَصَرَ مِنْهُ مُسْنَدَهُ مِنْ الْحَدِيثِ مَا هُوَ مِنْ أَبْلَغِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَرَوَاهُ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ فَقَالَ: أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ حَدَّثَنِي أَبُو الْأَزْهَرِ مُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: «أَتَى جِبْرِيلُ بِمِرْآةٍ بَيْضَاءَ فِيهَا نُكْتَةٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا هَذِهِ؟ قَالَ: هَذِهِ الْجُمُعَةُ فُضِّلْت بِهَا أَنْتَ وَأُمَّتُك، فَالنَّاسُ لَكُمْ فِيهَا تَبَعٌ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَلَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ وَفِيهَا سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ بِخَيْرٍ إلَّا اُسْتُجِيبَ لَهُ، وَهُوَ عِنْدَنَا يَوْمُ الْمَزِيدِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا جِبْرِيلُ وَمَا يَوْمُ الْمَزِيدِ؟ قَالَ: إنَّ رَبَّك اتَّخَذَ فِي الْفِرْدَوْسِ وَادِيًا أَفْيَحَ فِيهِ كُثُبُ مِسْكٍ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا شَاءَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَحَوْلَهُ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ عَلَيْهَا مَقَاعِدُ لِلنَّبِيِّينَ وَحُفَّتْ تِلْكَ الْمَنَابِرُ بِمَنَابِرَ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٍ

بِالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ عَلَيْهَا الشُّهَدَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ وَيَجْلِسُ مِنْ وَرَائِهِمْ عَلَى تِلْكَ الْكُثُبِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ أَنَا رَبُّكُمْ قَدْ صَدَقْتُكُمْ وَعْدِي فَاسْأَلُونِي أُعْطِكُمْ فَيَقُولُونَ رَبَّنَا نَسْأَلُك رِضْوَانَك، فَيَقُولُ: قَدْ رَضِيت عَنْكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيَّ مَا تَمَنَّيْتُمْ وَلَدَيَّ مَزِيدٌ، فَهُمْ يُحِبُّونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِمَا يُعْطِيهِمْ فِيهِ رَبُّهُمْ مِنْ خَيْرٍ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي اسْتَوَى رَبُّكُمْ عَلَى الْعَرْشِ فِيهِ، وَفِيهِ خُلِقَ آدَم، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ» . وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَنَحْوُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَلَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ، بَلْ هَؤُلَاءِ مَدَارُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ جِهَتِهِمْ أُخِذَتْ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ الَّذِي قَالَ إنَّ مَالِكًا احْتَذَى مُوَطَّأَهُ عَلَى كِتَابِهِ هُوَ قَدْ جَمَعَ أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ لَمَّا أَظْهَرَتْ الْجَهْمِيَّةُ إنْكَارَهَا حَتَّى إنَّ حَدِيثَ خَلْقِ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ أَوْ صُورَةِ الرَّحْمَنِ قَدْ رَوَاهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ رَوَاهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ، وَرَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَمِنْ طَرِيقِهِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا، وَلَفْظُهُ: «خُلِقَ آدَم عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ» مَعَ أَنَّ الْأَعْمَشَ رَوَاهُ مُسْنَدًا. فَإِذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ يَرْوُونَ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَمْثَالَهُ مُرْسَلًا فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُمْ كَانُوا يَمْتَنِعُونَ عَنْ رِوَايَتِهَا، وَالْحَدِيثُ هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ: سَأَلْت مَالِكًا عَنْ مَنْ يُحَدِّثُ الْحَدِيثَ «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» ، وَالْحَدِيثَ «إنَّ اللَّهَ يَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «وَأَنَّهُ يُدْخِلُ فِي النَّارِ يَدَهُ حَتَّى يُخْرِجَ مَنْ أَرَادَ» ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ إنْكَارًا شَدِيدًا وَنَهَى أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ أَحَدٌ. قُلْت: هَذَانِ الْحَدِيثَانِ كَانَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يُحَدِّثُ بِهِمَا، فَالْأَوَّلُ حَدِيثُ الصُّورَةِ حَدَّثَ بِهِ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ، وَالثَّانِي هُوَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الطَّوِيلِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، وَالْأَوَّلُ قَدْ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ إنَّمَا سَأَلَ مَالِكًا لِأَجْلِ تَحْدِيثِ اللَّيْثِ بِذَلِكَ، فَيُقَالُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ مُخَالِفًا لِمَا فَعَلَهُ اللَّيْثُ وَنَحْوُهُ أَوْ لَيْسَ

بِمُخَالِفٍ بَلْ يُكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِذَلِكَ أَنْ يَفْتِنَهُ ذَلِكَ وَلَا يَحْمِلَهُ عَقْلُهُ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَا مِنْ رَجُلٍ يُحَدِّثُ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ يَتْرُكُ رِوَايَةَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ لِكَوْنِهِ لَا يَأْخُذُ بِهَا وَلَمْ يَتْرُكْهَا غَيْرُهُ فَلَهُ فِي ذَلِكَ مَذْهَبٌ، فَغَايَةُ مَا يُعْتَذَرُ لِمَالِكٍ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ كَرِهَ التَّحَدُّثَ بِذَلِكَ مُطْلَقًا فَهَذَا مَرْدُودٌ عَلَى مَنْ قَالَهُ فَقَدْ حَدَّثَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثَ مَنْ هُمْ أَجَلُّ مِنْ مَالِكٍ عِنْدَ نَفْسِهِ وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَقَدْ حَدَّثَ بِهَا نُظَرَاؤُهُ كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَالثَّوْرِيُّ أَعْلَمُ مِنْ مَالِكٍ بِالْحَدِيثِ وَأَحْفَظُهُ لَهُ، وَهُوَ أَقَلُّ غَلَطًا فِيهِ مِنْ مَالِكٍ، وَإِنْ كَانَ مَالِكٌ يُنَقِّي مَنْ يُحَدِّثُ عَنْهُ، وَأَمَّا اللَّيْثُ فَقَدْ قَالَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ: كَانَ أَفْقَهَ مِنْ مَالِكٍ إلَّا أَنَّ أَصْحَابَهُ ضَيَّعُوهُ. فَفِي الْجُمْلَةِ: هَذَا كَلَامٌ فِي حَدِيثٍ مَخْصُوصٍ، أَمَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ الْأَئِمَّةَ أَعْرَضُوا عَنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مُطْلَقًا فَهَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. الْعَاشِرُ: إنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ كَانُوا كُلُّهُمْ مُثْبِتِينَ لِمُوجِبِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ مُطْبِقِينَ عَلَى ذَمِّ الْكَلَامِ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ أَبُو الْمَعَالِي أُصُولَ دِينِهِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَهُوَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ بِقِيَامِ الْأَعْرَاضِ بِهَا حَتَّى إنَّ شَيْخَهُ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ ذَكَرَ اتِّفَاقَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعَهُمْ وَسَلَفَ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي ذَكَرَ أَبُو الْمَعَالِي أَنَّهَا أَصْلُ الْإِيمَانِ وَبِهَا وَبِنَحْوِهَا عَارَضَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ، وَقَدْ كَتَبْنَا كَلَامَ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ تَلْبِيسُ الْجَهْمِيَّةِ فِي تَأْسِيسِ بِدَعِهِمْ الْكَلَامِيَّةِ ". لَمَّا اسْتَدَلَّ الرَّازِيّ بِالْحَرَكَةِ عَلَى حُدُوثِ مَا قَامَتْ بِهِ فِي إثْبَاتِ حُجَّتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ التَّحَيُّزِ عِنْدَهُمْ، وَلَكِنْ عِلْمُهُ بِحَالِهِمْ كَعِلْمِهِ بِمَذْهَبِهِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، حَيْثُ اعْتَقَدَ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ إمْرَارُ حُرُوفِهَا مَعَ نَفْيِ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ، فَهَذَا الضَّلَالُ فِي مَعْرِفَةِ رَأْيِهِمْ، كَذَلِكَ الضَّلَالُ فِي مَعْرِفَةِ رِوَايَتِهِمْ وَقَوْلِهِمْ فِي شَيْئَيْنِ: فِي الْكَلَامِ الَّذِي كَانَ يَنْتَحِلُهُ، وَفِي النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ عَنْ الرَّسُولِ فَقَدْ حَرَّفُوا مَذْهَبَ الْأَئِمَّةِ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ كَمَا حَرَّفُوا نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. الْحَادِي عَشَرَ: إنَّ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُمْ جَمْعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَتَبْوِيبَهَا مَا أَحْدَثَتْ

الْجَهْمِيَّةُ مِنْ التَّكْذِيبِ بِمُوجِبِهَا وَتَعْطِيلِ صِفَاتِ الرَّبِّ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِتَعْطِيلِ ذَاتِهِ وَتَكْذِيبِ رَسُولِهِ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَمَا صَنَّفُوهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ وَبَوَّبُوهُ أَبْوَابًا مُبْتَدَعَةً يَرُدُّونَ بِهَا مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَيُخَالِفُونَ بِهَا صَرَائِحَ الْمَعْقُولِ وَصَحَائِحَ الْمَنْقُولِ. وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى تَبْلِيغَ مَا بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَمَرَ بِبَيَانِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْمُخَاطَبَةِ تَارَةً وَبِالْمُكَاتَبَةِ أُخْرَى، لِمَاذَا كَانَ الْمُبْتَدِعُونَ قَدْ وَضَعُوا الْإِلْحَادَ فِي كُتُبٍ فَإِنْ لَمْ يُكْتَبْ الْعِلْمُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ فِي كُتُبٍ لَمْ يَظْهَرْ إلْحَادُ ذَلِكَ وَلَمْ يَحْصُلْ تَمَامُ الْبَيَانِ وَالتَّبْلِيغِ وَلَمْ يَعْلَمْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ الْمُخَالِفِ لِأَقْوَالِ الْمُلْحِدِينَ الْمُحَرِّفِينَ وَكَانَ جَمْعُ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ أَهَمَّ مِنْ جَمْعِ غَيْرِهِ. الثَّانِيَ عَشَرَ: إنَّ أَبَا الْمَعَالِي وَأَمْثَالَهُ يَضَعُونَ كُتُبَ الْكَلَامِ الَّذِي تَلَقَّوْا أُصُولَهُ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُتَفَلْسِفَةِ وَيُبَوِّبُونَ أَبْوَابًا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ وَيَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يُصَنِّفُ وَيُؤَلِّفُ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ؟ وَالْأُصُولُ الَّتِي يُقَرِّرُهَا هِيَ أُصُولُ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْإِرْجَاءِ، وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي أَتْبَاعِهِ كَالْمُدَّعِي الْمَغْرِبِيِّ فِي مُرْشِدَتِهِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ يَقُولُونَ بِقَوْلِ جَهْمٍ أَيْ يَمِيلُونَ إلَى الْجَبْرِ، وَفِي الْإِرْجَاءِ بِقَوْلِ جَهْمٍ أَيْضًا لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ، وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ فَهُمْ يُخَالِفُونَ جَهْمًا وَالْمُعْتَزِلَةَ، فَهُمْ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ جَهْمٌ وَالْمُعْتَزِلَةُ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ نَفْيُ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَعْتَقِدُوهُ، وَهَؤُلَاءِ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إثْبَاتُ صِفَاتٍ بِلَا ذَاتٍ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدُوا ذَلِكَ وَيَقْصِدُوهُ، وَلِهَذَا هُمْ مُتَنَاقِضُونَ لَكِنْ هُمْ خَيْرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَلِهَذَا إذَا حُقِّقَ قَوْلُهُمْ لِأَهْلِ الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ يَقُولُ أَحَدُهُمْ فَيَكُونُ اللَّهُ شَبَحًا وَشَبَحُهُ خَيَالُ الْجِسْمِ مِثْلُ مَا يَكُونُ مِنْ ظِلِّهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَذَلِكَ هُوَ عَرَضٌ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ وَصَفَ الرَّبَّ بِهَذِهِ الْأُسْلُوبِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، وَنَحْوِهِ، فَلَا يَكُونُ اللَّهُ عَلَى قَوْلِهِ شَيْئًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ مَوْجُودًا بَلْ يَكُونُ كَالْخَيَالِ الَّذِي يَشْبَحُهُ الذِّهْنُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخَيَالُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُنَزِّهُونَ الرَّبَّ بِنَفْيِ

الْجِسْمِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ هَذَا النَّفْيِ إذَا نَفَوْا الْجِسْمَ وَمَلَازِيمَهُ، وَقَالُوا لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ فَيَعْلَمُ أَهْلُ الْعُقُولِ أَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا شَيْئًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ مَوْجُودًا، بَلْ يُقَالُ هَذَا الَّذِي أَثْبَتُّمُوهُ شَبَحٌ أَيْ خَيَالٌ كَالْخَيَالِ الَّذِي هُوَ ظِلُّ الْأَشْخَاصِ، وَكَالْخِيَالِ الَّذِي فِي الْمِرْآةِ وَالْمَاءِ. ثُمَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا الْخَيَالَ وَالْمِثَالَ وَالشَّبَحَ يَسْتَلْزِمُ حَقِيقَةً مَوْجُودَةً قَائِمَةً بِالنَّفْسِ فَإِنَّ خَيَالَ الشَّخْصِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِوُجُودِ مُدَبِّرٍ خَالِقٍ لِلْعَالَمِ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، وَيَصِفُونَهُ مِنْ السَّلْبِ بِمَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ خَيَالًا فَيَكُونُ قَوْلُهُمْ مُسْتَلْزِمًا لِوُجُودِهِ وَلِعَدَمِهِ مَعًا فَإِذَا تَكَلَّمُوا بِالسَّلْبِ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْخَيَالُ، وَيَصِفُونَ ذَلِكَ الْخَيَالَ بِالثُّبُوتِ فَيَكُونُ الْخَيَالُ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْمَوْجُودِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: إنَّ مَعْرِفَةَ أَبِي الْمَعَالِي وَذَوِيهِ بِحَالِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى إمَامَتِهِمْ لَا يَكُونُ أَعْظَمَ عَنْ مَعْرِفَتِهِمْ بِالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، بِنُصُوصِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ رَأَيْت أَبَا الْمَعَالِي فِي ضِمْنِ كَلَامِهِ يَذْكُرُ مَا ظَاهِرُهُ الِاعْتِذَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَبَاطِنُهُ جَهْلٌ بِحَالِهِمْ مُسْتَلْزِمٌ إذَا اطَّرَدَ الزَّنْدَقَةَ وَالنِّفَاقَ، فَإِنَّهُ أَخَذَ يَعْتَذِرُ عَنْ كَوْنِ الصَّحَابَةِ لَمْ يُمَهِّدُوا أُصُولَ الدِّينِ وَلَمْ يُقَرِّرُوا قَوَاعِدَهُ فَقَالَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَشْغُولِينَ بِالْجِهَادِ وَالْقِتَالِ عَنْ ذَلِكَ. هَذَا مِمَّا فِي كَلَامِهِ، وَهَذَا إنَّمَا قَالُوهُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُصُولَ وَالْقَوَاعِدَ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا أُصُولُ الدِّينِ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَقُولُوهَا وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهَا أُصُولٌ صَحِيحَةٌ وَأَنَّ الدِّينَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهَا، وَلِلصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَيْضًا مِنْ الْعَظَمَةِ فِي الْقُلُوبِ مَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ دَفْعُهُ حَتَّى يَصِيرُوا بِمَنْزِلَةِ الرَّافِضَةِ الْقَادِحِينَ فِي الصَّحَابَةِ، وَلَكِنْ أَخَذُوا مِنْ الرَّفْضِ شُعْبَةً كَمَا أَخَذُوا مِنْ التَّجَهُّمِ شُعْبَةً، وَذَلِكَ دُونَ مَا أَخَذَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ الرَّفْضِ وَالتَّجَهُّمِ حِينَ غَلَبَ عَلَى الرَّافِضَةِ التَّجَهُّمُ وَانْتَقَلَتْ عَنْ التَّجْسِيمِ إلَى التَّعْطِيلِ وَالتَّجَهُّمِ إذْ كَانَ هَؤُلَاءِ نَسَجُوا عَلَى مِنْوَالِ الْمُعْتَزِلَةِ لَكِنْ كَانُوا أَصْلَحَ مِنْهُمْ وَأَقْرَبَ إلَى السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْإِثْبَاتِ فِي أُصُولِ الْكَلَامِ. وَلِهَذَا كَانَ الْمَغَارِبَةُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ابْنَ التُّومَرْتِ الْمُتَّبِعَ لِأَبِي الْمَعَالِي أَمْثَلَ وَأَقْرَبَ

إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ الْمَغَارِبَةِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْقَرَامِطَةَ وَغَلَوْا فِي الرَّفْضِ وَالتَّجَهُّمِ حَتَّى انْسَلَخُوا مِنْ الْإِسْلَامِ فَظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ الْأُصُولَ الَّتِي وَضَعُوهَا هِيَ أُصُولَ الدِّينِ الَّذِي لَا يَتِمُّ الدِّينُ إلَّا بِهَا، وَجَعَلُوا الصَّحَابَةَ حِينَ تَرَكُوا أُصُولَ الدِّينِ كَانُوا مَشْغُولِينَ عَنْهُ بِالْجِهَادِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ كَثِيرٍ مِنْ جُنْدِهِمْ وَمُقَاتِلَتِهِمْ الَّذِينَ قَدْ وَضَعُوا قَوَاعِدَ وَسِيَاسَةً لِلْمُلْكِ وَالْقِتَالِ فِيهَا الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَلَمْ نَجِدْ تِلْكَ السِّيرَةَ تُشْبِهُ سِيرَةَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ الْقَدَحُ فِيهِمْ فَأَخَذُوا يَقُولُونَ كَانُوا مُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ عَنْ هَذِهِ السِّيرَةِ وَأُبَّهَةِ الْمُلْكِ الَّذِي وَضَعْنَاهُ. وَكُلُّ هَذَا قَوْلُ مَنْ هُوَ جَاهِلٌ بِسِيرَةِ الصَّحَابَةِ، وَعِلْمِهِمْ، وَدِينِهِمْ، وَقِتَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ أَحْوَالِهِمْ فَلْيَنْظُرْ إلَى آثَارِهِمْ، فَإِنَّ الْأَثَرَ يَدُلُّ عَلَى الْمُؤَثِّرِ. هَلْ انْتَشَرَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْقِبْلَةِ أَوْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مَا انْتَشَرَ وَظَهَرَ عَنْهُمْ؟ أَمْ هَلْ فَتَحَتْ أُمَّةٌ الْبِلَادَ وَقَهَرَتْ الْعِبَادَ، كَمَا فَعَلَتْهُ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. وَلَكِنْ كَانَتْ عُلُومُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ حَقًّا بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَكَانُوا أَحَقَّ النَّاسِ بِمُوَافَقَةِ قَوْلِهِمْ لِقَوْلِ اللَّهِ وَفِعْلِهِمْ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَمَنْ حَادَ عَنْ سَبِيلِهِمْ لَمْ يَرَ مَا فَعَلُوهُ فَيُزَيَّنُ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ حَتَّى يَرَاهُ حَسَنًا وَيَظُنُّ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْعُلُومِ النَّافِقَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا قَصَّرُوا عَنْهُ، وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ. وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِسَالَتِهِ الَّتِي رَوَاهَا عَبْدُوسٌ مَالِكٌ الْعَطَّارُ: أُصُولُ السُّنَّةِ عِنْدَنَا التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثَ فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» وَالْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى تَفْضِيلِ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الثَّانِي أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أُمَّ الْفَضَائِلِ الْعِلْمُ وَالدِّينُ وَالْجِهَادُ، فَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ حَقَّقَ مِنْ الْعِلْمِ بِأُصُولِ الدِّينِ أَوْ مِنْ الْجِهَادِ مَا لَمْ يُحَقِّقُوهُ، كَانَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَضَلِّهِمْ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَدَّعِي مِنْ أَهْلِ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالنُّسُكِ أَنَّهُمْ حَقَّقُوا مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْمَعَارِفِ وَالْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ مَا لَمْ يُحَقِّقْهُ الصَّحَابَةُ، وَقَدْ يَبْلُغُ الْغُلُوُّ بِهَذِهِ الطَّوَائِفِ إلَى أَنْ يُفَضِّلُوا نُفُوسَهُمْ وَطُرُقَهُمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَطُرُقِهِمْ وَنَجِدُهُمْ عِنْدَ التَّحْقِيقِ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَضَلِّهِمْ وَأَفْسَقِهِمْ وَأَعْجَزِهِمْ.

الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يُقَالَ لَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّيْتَهُمْ أَهْلَ الْحَقِّ وَجَعَلْتَهُمْ قَامُوا مِنْ تَحْقِيقِ أُصُولِ الدِّينِ بِمَا لَمْ يَقُمْ بِهِ الصَّحَابَةُ هُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ، أَمَّا الشَّرْعِيَّاتُ فَإِنَّهُمْ تَارَةً يَتَأَوَّلُونَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَارَةً يُبْطِلُونَ التَّأْوِيلَ فَإِذَا نَاظَرُوا الْفَلَاسِفَةَ وَالْمُعْتَزِلَةَ الَّذِينَ يَتَأَوَّلُونَ نُصُوصَ الصِّفَاتِ مُطْلَقًا رَدُّوا عَلَيْهِمْ وَأَثْبَتُوا لِلَّهِ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ. وَإِذَا نَاظَرُوا مَنْ يُثْبِتُ صِفَاتٍ أُخْرَى دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَاءِ وَالْغَضَبِ وَالْمَقْتِ وَالْفَرَحِ وَالضَّحِكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَأَوَّلُوهَا وَلَيْسَ لَهُمْ فَرْقٌ مَضْبُوطٌ بَيْنَ مَا يُتَأَوَّلُ وَمَا لَا يُتَأَوَّلُ. بَلْ مِنْهُمْ مَا يُحِيلُ عَلَى الْعَقْلِ، وَمِنْهُ مَا يُحِيلُ عَلَى الْكَشْفِ؛ فَأَكْثَرُ مُتَكَلِّمِيهِمْ يَقُولُونَ مَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ بِالْعَقْلِ لَا يُتَأَوَّلُ وَمَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ بِالْعَقْلِ يُتَأَوَّلُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ بِالْكَشْفِ وَالنُّورِ الْإِلَهِيِّ لَا يُتَأَوَّلُ وَمَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ بِذَلِكَ يُتَأَوَّلُ وَكِلَا الطَّرِيقَيْنِ ضَلَالٌ وَخَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ عَدَمُ الدَّلِيلِ لَيْسَ دَلِيلَ الْعَدَمِ فَإِنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ يُعْقَلُ أَوْ كَشْفٌ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ أَوْ الظَّوَاهِرُ وَلَمْ تَعْلَمُوا انْتِفَاءَهُ أَنَّهُ مُنْتَفٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؟ الْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ عَزْلٌ لِلرَّسُولِ وَاسْتِغْنَاءٌ عَنْهُ وَجَعْلُهُ بِمَنْزِلَةِ شَيْخٍ مِنْ شُيُوخِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ الصُّوفِيَّةِ، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَعَ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُتَصَوِّفَ مَعَ الْمُتَصَوِّفِ يُوَافِقُهُ فِيمَا عَلِمَهُ بِنَظَرِهِ أَوْ كَشَفَهُ دُونَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ بِنَظَرِهِ أَوْ كَشْفِهِ، بَلْ مَا ذَكَرُوهُ فِيهِ تَنْقِيصٌ لِلرَّسُولِ عَنْ دَرَجَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُتَصَوِّفِ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ وَالْمُتَصَوِّفَ إذَا قَالَ نَظِيرَهُ شَيْئًا وَلَمْ يَعْلَمْ ثُبُوتَهُ وَلَا انْتِفَاءَهُ لَا نُثْبِتُهُ وَلَا نَنْفِيهِ. وَهَؤُلَاءِ يَنْفُونَ مَعَانِيَ النُّصُوصِ وَيَتَأَوَّلُونَهَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا انْتِفَاءَ مُقْتَضَاهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ جَعَلَ الرَّسُولَ بِمَنْزِلَةِ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ كَانَ فِي قَوْلِهِ مِنْ الْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ، فَكَيْفَ بِمَنْ جَعَلَهُ فِي الْحَقِيقَةِ دُونَ هَؤُلَاءِ؟ وَإِنْ كَانُوا هُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا لَازِمُ قَوْلِهِمْ فَنَحْنُ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَازِمٌ لَهُمْ لِنُبَيِّنَ فَسَادَ الْأُصُولِ الَّتِي لَهُمْ، وَإِلَّا فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُنْزِلُ الرَّسُولَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ مَا نَفَيْتُمُوهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَتَأَوَّلْتُمُوهُ مَنْ يُقَالُ فِي ثُبُوتِهِ مِنْ الْعَقْلِ وَالْكَشْفِ نَظِيرُ مَا قُلْتُمُوهُ فِيمَا أَثْبَتُّمُوهُ وَزِيَادَةٌ وَقَدْ بَسَطْت هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنْتُ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ سَمْعًا وَعَقْلًا عَلَى ثُبُوتِ رَحْمَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ لَيْسَتْ بِأَضْعَفَ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى إرَادَتِهِ، بَلْ لَعَلَّهَا أَقْوَى مِنْهَا فَمَنْ تَأَوَّلَ نُصُوصَ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالرَّحْمَةِ وَأَقَرَّ نُصُوصَ الْإِرَادَةِ كَانَ مُتَنَاقِضًا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: إنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ هُوَ نَظِيرُ قَوْلِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ تَأَوَّلْنَا مَا تَأَوَّلْنَاهُ لِدَلَالَةِ أَدِلَّةِ الْعُقُولِ عَلَى نَفْيِ مُقْتَضَاهُ وَكُلُّ مَا يُجِيبُونَهُمْ بِهِ يُجِيبُكُمْ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ بِهِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: إنَّ أَهْلَ الْإِثْبَاتِ لَهُمْ مِنْ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَالْكَشْفِ الصَّحِيحِ مَا يُوَافِقُ مَا جَاءَ بِهِ النُّصُوصُ، فَهُمْ مَعَ مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ يُعَارِضُونَ بِعَقْلِهِمْ عَقْلَ النُّفَاةِ وَبِكَشْفِهِمْ كَشْفَ النُّفَاةِ لَكِنْ عَقْلُهُمْ وَكَشْفُهُمْ هُوَ الصَّحِيحُ، وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ ثَابِتِينَ فِيهِ وَهُمْ فِي مَزِيدِ عِلْمٍ وَهُدًى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] وَأُولَئِكَ تَجِدُهُمْ فِي مَزِيدِ حَيْرَةٍ وَضَلَالٍ، وَآخِرُ أَمْرِهِمْ يَنْتَهِي إلَى الْحَيْرَةِ وَيُعَظِّمُونَ الْحَيْرَةَ، فَإِنَّ آخِرَ مَعْقُولِهِمْ الَّذِي جَعَلُوهُ مِيزَانًا يَزْنُونَ بِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يُوجِبُ الْحَيْرَةَ حَتَّى يَجْعَلُوا الرَّبَّ مَوْجُودًا مَعْدُومًا، ثَابِتًا مَنْفِيًّا، فَيَصِفُونَهُ بِصِفَةِ الْإِثْبَاتِ وَبِصِفَةِ الْعَدَمِ، وَالتَّحْقِيقُ عِنْدَهُمْ جَانِبُ النَّفْيِ، بِأَنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِصِفَاتِ الْمَعْدُومِ وَالْمَوَاتِ، وَآخِرُ كَشْفِهِمْ وَذَوْقِهِمْ وَشُهُودِهِمْ الْحِيرَةُ، وَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ إثْبَاتٍ فَيَجْعَلُونَهُ حَالًّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ، أَوْ يَجْعَلُونَ وُجُودَهُ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَآخِرُ نَظَرِ الْجَهْمِيَّةِ وَعَقْلِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَيْئًا، وَآخِرُ كَشْفِهِمْ وَعَقْلِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَضَلُّ الْبَشَرِ مَنْ جَعَلَ مِثْلَ هَذَا الْكَشْفِ مِيزَانًا يَزِنُ بِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَمَّا أَهْلُ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَالْكَشْفِ الصَّحِيحِ فَهُمْ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ مَشَايِخِ الْفِقْهِ وَالْعِبَادَةِ الَّذِينَ لَهُمْ مِنْ الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ وَكُلُّ مَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ عَامٌّ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ الْمَنْسُوبِينَ إلَى الْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ فَإِنَّهُمْ عَلَى الْإِثْبَاتِ لَا عَلَى النَّفْيِ، وَكَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا تَنَاقُضُهُمْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ فَلَا يُحْصَى مِثْلُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْبَارِيَ لَا تَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ وَلَكِنْ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ، وَالصِّفَاتُ وَالْأَعْرَاضُ فِي الْمَخْلُوقِ سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ

فَالْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ فِي الْمَخْلُوقِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ عَرَضٌ. ثُمَّ قَالُوا فِي الْحَيَاةِ وَنَحْوِهَا: هِيَ فِي حَقِّ الْخَالِقِ صِفَاتٌ وَلَيْسَتْ بِأَعْرَاضٍ إذْ الْعَرَضُ هُوَ مَا لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ وَالصِّفَةُ الْقَدِيمَةُ بَاقِيَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ الْعَرَضُ مَا لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ هُوَ فَرْقٌ بِدَعْوَى وَتَحَكُّمٍ، فَإِنَّ الصِّفَاتِ فِي الْمَخْلُوقِ لَا تَبْقَى أَيْضًا زَمَانَيْنِ عِنْدَهُمْ فَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ صِفَةً أَوْ عَرَضًا لَا يُوجِبُ الْفَرْقَ، لَكِنَّهُمْ ادَّعَوْا أَنَّ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ وَصِفَةَ الْخَالِقِ تَبْقَى فَيُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا الْعَرَضُ الْقَائِمُ بِالْمَخْلُوقِ لَا يَبْقَى وَالْقَائِمُ بِالْخَالِقِ بَاقٍ. هَذَا إنْ صَحَّ فَقَوْلُهُمْ إنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَعْرَاضُ لَا تَبْقَى فَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يُخَالِفُونَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ يُرَى كَمَا تُرَى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مِنْ غَيْرِ مُوَاجَهَةٍ وَلَا مُعَايَنَةٍ وَأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يُرَى حَتَّى الطَّعْمَ وَاللَّوْنَ، وَأَنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ الْقَائِمَ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ يَكُونُ أَمْرًا بِكُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهْيًا عَنْ كُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ وَخَبَرًا بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَذَلِكَ الْمَعْنَى إنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ الْقُرْآنُ، وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَهُوَ التَّوْرَاةُ، وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ فَهُوَ الْإِنْجِيلُ، وَأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ صِفَاتٌ لِلْكَلَامِ لَا أَنْوَاعٌ لَهُ، وَأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يُسْمَعُ بِالْأُذُنِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ إنَّ السَّمْعَ عِنْدَهُ مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ مَوْجُودٍ. وَعَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ إنَّهُ لَا يُسْمَعُ بِالْأُذُنِ لَكِنْ بِلَطِيفَةٍ جُعِلَتْ فِي قَلْبِهِ فَجَعَلُوا السَّمْعَ مِنْ جِنْسِ الْإِلْهَامِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْإِيحَاءِ إلَى غَيْرِ مُوسَى وَبَيْنَ تَكْلِيمِ مُوسَى، وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقَدِيمَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ لَا تَقُومُ إلَّا بِتَحَيُّزٍ. وَقَالُوا: إنَّ الْقُدْرَةَ وَالْحَيَاةَ وَنَحْوَهُمَا يَقُومُ بِقَدِيمٍ غَيْرِ مُتَحَيِّزٍ، وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ هَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَكَذَلِكَ زَعْمُهُمْ أَنَّ قِيَامَ الْأَعْرَاضِ الَّتِي هِيَ الصِّفَاتُ بِالْمَحِلِّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهَا. ثُمَّ قَالُوا: إنَّ الصِّفَاتِ قَائِمَةٌ بِالرَّبِّ وَلَا تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهِ وَكَذَلِكَ فِي احْتِجَاجِهِمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ عُمْدَتَهُمْ فِيهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ. مَخْلُوقًا لَمْ يَخْلُ إمَّا أَنْ يَخْلُقَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ أَوْ لَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الصِّفَةِ بِنَفْسِهَا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلِّ الْحَوَادِثِ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَهُ فِي مَحَلٍّ لَعَادَ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَكَانَ يَكُونُ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ، فَإِنَّ الصِّفَةَ إذَا

قَامَتْ بِمَحَلٍّ عَادَ حُكْمُهَا عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَلَمْ يَعُدْ عَلَى غَيْرِهِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ. وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْكَلَامِ لَكِنَّهُمْ نَقَضُوهُ حَيْثُ مَنَعُوا أَنْ تَقُومَ بِهِ الْأَفْعَالُ مَعَ اتِّصَافِهِ بِهَا فَيُوصَفُ بِأَنَّهُ خَالِقٌ وَعَادِلٌ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ خَلْقٌ وَلَا عَدْلٌ. ثُمَّ كَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ الَّذِي أَنْكَرَهُ النَّاسُ، إخْرَاجُ الْحُرُوفِ عَنْ مُسَمَّى الْكَلَامِ، وَجَعْلُ دَلَالَةِ لَفْظِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا مَجَازٌ، فَأَحَبَّ أَبُو الْمَعَالِي وَمَنْ اتَّبَعَهُ كَالرَّازِيِّ أَنْ يَخْلُصُوا مِنْ هَذِهِ الشَّنَاعَةِ، فَقَالُوا: اسْمُ الْكَلَامِ يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ، وَعَلَى الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ أَفْسَدُوا بِهِ أَصْلَ دَلِيلِهِمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُ إذَا صَحَّ أَنَّ مَا قَامَ بِغَيْرِ اللَّهِ يَكُونُ كَلَامًا لَهُ حَقِيقَةً بَطَلَتْ حُجَّتُهُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ الْكَلَامَ إذَا قَامَ بِمَحَلٍّ عَادَ حُكْمُهُ عَلَيْهِ، وَجَازَ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْكَلَامَ مَخْلُوقٌ، خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ كَلَامُهُ حَقِيقَةً وَلَزِمَهُمْ مِنْ الشَّنَاعَةِ مَا لَزِمَ الْمُعْتَزِلَةَ حَيْثُ أَلْزَمَهُمْ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ أَنْ تَكُونَ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةَ لِمُوسَى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا} [طه: 14] مَعَ أَنَّ أَدِلَّتَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ امْتِنَاعِ حُلُولِ الْحَوَادِثِ لَمَّا تَبَيَّنَ لِلرَّازِيِّ وَنَحْوِهِ ضَعْفُهَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، بَلْ احْتَجَّ بِحُجَّةٍ سَمْعِيَّةٍ هِيَ مِنْ أَضْعَفِ الْحُجَجِ، حَيْثُ أَثْبَتَ الْكَلَامَ النَّفْسَانِيَّ بِالطَّرِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ قَدِيمٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ قَالَ هَذَا، وَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ. هَكَذَا قَرَّرَهُ فِي نِهَايَةِ الْعُقُولِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الدَّلِيلَ لَا يَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ مَسْأَلَةٍ فَرْعِيَّةٍ عِنْدَ مُحَقِّقِي الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَنَاقُضَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ وَجْهٍ عَقْلِيٍّ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَكَانَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ قَالَ لِلْفَقِيهِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ: كَيْفَ يُعْقَلُ شَيْءٌ وَاحِدٌ هُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ وَاسْتِخْبَارٌ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ: مَا هَذَا بِأَوَّلِ إشْكَالٍ وَرَدَ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ، وَأَيْضًا فَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ يُسَوُّونَ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَتَأَوَّلُونَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] أَيْ بِمَعْنَى لَا يُرِيدُهُ لَهُمْ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ رَضِيَهُ وَأَحَبَّهُ لِمَنْ وَقَعَ مِنْهُ، وَكُلُّ مَا وَقَعَ فِي الْوُجُودِ مِنْ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ وَعِصْيَانٍ فَاَللَّهُ يَرْضَاهُ وَيُحِبُّهُ، وَكُلُّ مَا لَمْ يَقَعْ مِنْ طَاعَةٍ وَبِرٍّ وَإِيمَانٍ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ.

ثُمَّ إنَّهُمْ إذَا تَكَلَّمُوا مَعَ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بَيَّنُوا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ، سَوَاءٌ قَدَّرَهُ أَوْ لَمْ يُقَدِّرْهُ وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ وَصْفُهُ. الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا أُصُولَ دِينِكُمْ وَظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ بِهَا صِرْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تَقَدَّمْتُمْ بِهَا عَلَى سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، وَبِهَا دَفَعْتُمْ أَهْلَ الْإِلْحَادِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِ هِيَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ تَهْدِمُ أُصُولَ دِينِكُمْ وَتُسَلِّطُ عَلَيْكُمْ عَدُوَّكُمْ، وَتُوجِبُ تَكْذِيبَ نَبِيِّكُمْ، وَالطَّعْنَ فِي خَيْرِ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَهَذَا أَيْضًا فِيمَا فَعَلْتُمُوهُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ، أَمَّا الشَّرْعِيَّاتُ فَإِنَّكُمْ لَمَّا تَأَوَّلْتُمْ مَا تَأَوَّلْتُمْ مِنْ نُصُوصِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، تَأَوَّلَتْ الْمُعْتَزِلَةُ مَا قَرَّرْتُمُوهُ أَنْتُمْ، وَاحْتَجُّوا بِمِثْلِ حُجَّتِكُمْ، ثُمَّ زَادَتْ الْفَلَاسِفَةُ وَتَأَوَّلُوا مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ الْإِلَهِيَّةُ فِي الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَقَالَتْ الْمُتَفَلْسِفَةُ مِثْلَ مَا قُلْتُمْ لِإِخْوَانِكُمْ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ حُجَّةٌ عَلَى الْمُتَفَلْسِفَةِ، فَإِنَّكُمْ إذَا احْتَجَجْتُمْ بِالنُّصُوصِ تَأَوَّلُوهَا، وَلِهَذَا كَانَ غَايَتُكُمْ فِي مُنَاظَرَةِ هَؤُلَاءِ أَنْ تَقُولُوا: نَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِمَعَادِ الْأَبْدَانِ، وَأَخْبَرَ بِالْفَرَائِضِ الظَّاهِرَةِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِجَمِيعِ الْبَرِيَّةِ، وَالْأُمُورُ الضَّرُورِيَّةُ لَا يُمْكِنُ الْقَدْحُ فِيهَا. فَإِنْ قَالَ لَكُمْ الْمُتَفَلْسِفَةُ: هَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالضَّرُورَةِ كَانَ جَوَابُكُمْ أَنْ تَقُولُوا: هَذَا جَهْلٌ مِنْكُمْ، أَوْ تَقُولُوا: إنَّ الْعُلُومَ الضَّرُورِيَّةَ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا عَنْ النَّفْسِ، وَنَحْنُ نَجِدُ الْعِلْمَ بِهَذَا أَمْرًا ضَرُورِيًّا فِي أَنْفُسِنَا. وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ مِنْكُمْ، لَكِنْ فِي هَذَا نَقُولُ لَكُمْ الْمُثْبِتَةُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ الْمَنْقُولِ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ، وَبِالْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، نَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهَا أَثْبَتُ الصِّفَاتِ، وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ، وَالْعِلْمُ بِهَذَا ضَرُورِيٌّ عِنْدَهُمْ كَمَا ذَكَرْتُمْ أَنْتُمْ فِي مَعَادِ الْأَبْدَانِ وَالشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ، بَلْ لَعَلَّ الْعِلْمَ بِهَذَا أَعْظَمُ مِنْ الْعِلْمِ بِبَعْضِ مَا تُنَازِعُكُمْ فِيهِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْفَلَاسِفَةُ مِنْ أُمُورِ الْمَعَادِ كَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ، وَمَسْأَلَةِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ. وَأَيْضًا فَالْعِلْمُ بِعُلُوِّ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُعْلَمُ بِضَرُورِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ وَأَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ

يَقِينِيَّةٍ لَا يُعْلَمُ بِمِثْلِهَا مَعَادُ الْأَبْدَانِ، فَالْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ وَالْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ عَلَى مَا نَفَيْتُمُوهُ مِنْ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَمُبَايَنَتِهِ لَهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَكْمَلُ وَأَقْوَى مِنْ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّا خَالَفَكُمْ فِيهِ الْمُعْتَزِلَةُ، بَلْ وَالْفَلَاسِفَةُ وَلِهَذَا يُوجَدُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ مُوَافَقَةُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي بَعْضِ مَا خَالَفْتُمُوهُمْ فِيهِ كَمَا يُوجَدُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ إنْكَارُ سَمَاعِ الَّذِي فِي الْقَبْرِ لِلْأَصْوَاتِ، وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ إنْكَارُ الْمِعْرَاجِ بِالْبَدَنِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، وَلَا يُوجَدُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُوَافَقَتُكُمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ، بَلْ وَلَا عَلَى مَا نَفَيْتُمُوهُ مِنْ الْجِسْمِ وَمُلَازِمِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ وَإِنْ كَانُوا ضَالِّينَ فِي مَسْأَلَةِ إنْكَارِ الرُّؤْيَةِ فَمَعَهُمْ فِيهَا مِنْ الظَّوَاهِرِ الَّتِي تَأَوَّلُوهَا وَالْمَقَايِيسِ الَّتِي اعْتَمَدُوا عَلَيْهَا أَعْظَمُ مِمَّا مَعَكُمْ فِي إنْكَارِ مُبَايَنَةِ اللَّهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ وَعُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ إنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، أَوْ تَقُولُونَ رَآهُ بِعَيْنِهِ وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ تَقُولُونَ إنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ هُوَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ، فَتُنْكِرُونَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَتَقُولُونَ بِمَا تَنَازَعُوا فِيهِ، وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ. فَالْمُعْتَزِلَةُ فِي جَعْلِهِمْ الْمِعْرَاجَ مَنَامًا أَقْرَبُ إلَى السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ مِنْكُمْ حَيْثُ قُلْتُمْ رَآهُ بِعَيْنِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَقُلْتُمْ مَعَ هَذَا إنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ يُعْرَجُ إلَيْهِ، فَهَذَا النَّفْيُ أَنْتُمْ وَالْمُعْتَزِلَةُ فِيهِ شُرَكَاءُ وَهُمْ امْتَازُوا بِقَوْلِهِمْ الْمِعْرَاجُ مَنَامًا، وَهُوَ قَوْلٌ مَأْثُورٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ، وَأَنْتُمْ امْتَزْتُمْ بِقَوْلِكُمْ رَآهُ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ، وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْهُمْ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ. ثُمَّ إنَّكُمْ أَظْهَرْتُمْ لِلْمُسْلِمِينَ مُخَالَفَةَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَالْقُرْآنِ، وَوَافَقْتُمْ أَهْلَ السُّنَّةِ عَلَى إظْهَارِ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ مِنْ الْبِدَعِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي أَظْهَرَهَا الْجَهْمِيَّةُ الْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ فِي عَصْرِ الْأَئِمَّةِ حَتَّى امْتَحَنُوا الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَغَيْرَهُ بِذَلِكَ.

وَوَافَقْتُمْ الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى نَفْيِهِمْ وَتَعْطِيلِهِمْ الَّذِي مَا كَانُوا يَجْتَرِئُونَ عَلَى إظْهَارِهِ فِي زَمَنِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ، وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إلَهٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْبِدْعَةَ الشَّنْعَاءَ وَالْمَقَالَةَ الَّتِي هِيَ شَرٌّ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَمْ يَكُنْ يُظْهِرُهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ لِلْعَامَّةِ، وَلَا يَدْعُو عُمُومَ النَّاسِ إلَيْهَا وَإِنَّمَا كَانَ السَّلَفُ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى أَنَّهُمْ يُبْطِنُونَ ذَلِكَ بِمَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ مَقَالَاتِهِمْ فَمُوَافَقَتُكُمْ لِلْمُعْتَزِلَةِ عَلَى مَا أَسَرُّوهُ مِنْ التَّعْطِيلِ وَالْإِلْحَادِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مُخَالَفَةً لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مِمَّا خَالَفْتُمُوهُ فِيهِ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَالْقُرْآنِ، فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ أَعْظَمُ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُرَى، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ تُوهِمُ الْمُسْتَمِعَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، وَفِيهِ مَا يُوهِمُ بَعْضَ النَّاسِ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ وَلَكِنْ يُعَارِضُونَ آيَاتِ الْعُلُوِّ الْكَثِيرَةَ الصَّرِيحَةَ بِمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَان، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا، فَلَمْ يَكُنْ مَعَكُمْ عَلَى هَذَا النَّفْيِ آيَةٌ تُشْعِرُ بِمَذْهَبِكُمْ، فَضْلًا مِنْ أَنْ تَدُلَّ عَلَيْهِ نَصًّا أَوْ ظَاهِرًا، وَلَا حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَا قَوْلُ صَاحِبٍ وَلَا تَابِعٍ وَلَا إمَامٍ، وَإِنَّمَا غَايَتُكُمْ أَنْ تَتَمَسَّكُوا بِأَثَرٍ مَكْذُوبٍ كَمَا تَذْكُرُونَهُ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي أَيَّنَ الْأَيْنَ لَا يُقَالُ لَهُ أَيْنَ، وَهَذَا مِنْ الْكَذِبِ عَلَى عَلِيٍّ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا إسْنَادَ لَهُ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْمَلَائِكَةِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا حُجَّةَ فِيهِ لَكُمْ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فِيهِ مِنْ الشُّبْهَةِ مَا لَيْسَ فِي نَفْسِ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِهَذَا كَانَ فِي فِطَرِ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْإِقْرَارُ بِعُلُوِّ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ يُرَى أَوْ لَا يُرَى أَوْ يَتَكَلَّمُ أَوْ لَا يَتَكَلَّمُ، فَهَذَا عِنْدَهُمْ لَيْسَ فِي الظُّهُورِ بِمَنْزِلَةِ ذَاكَ، فَوَافَقْتُمْ الْجَهْمِيَّةَ الْمُعْتَزِلَةَ وَغَيْرَهُمْ عَلَى مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ مِمَّا خَالَفْتُمُوهُمْ فِيهِ، وَمَعْلُومٌ اتِّفَاقُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا عَلَى تَضْلِيلِ الْجَهْمِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، بَلْ قَدْ كَفَّرُوهُمْ وَقَالُوا فِيهِمْ مَا لَمْ يَقُولُوهُ فِي أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، أَخْرَجُوهُمْ عَنْ الِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَقَالُوا: إنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّةِ. فَكُنْتُمْ فِيمَا وَافَقْتُمْ فِيهِ الْجَهْمِيَّةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَمَا خَالَفْتُمُوهُمْ فِيهِ كَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ، وَلَكِنْ هُوَ إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْإِيمَانِ، وَأَوْجَبَ ذَلِكَ فَسَادَيْنِ عَظِيمَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: تَسَلُّطُ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَمَّا وَافَقْتُمُوهُمْ عَلَى هَذَا التَّعْطِيلِ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ إثْبَاتُكُمْ لِلرُّؤْيَةِ وَلِكَوْنِ الْقُرْآنِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ قَوْلًا بَاطِلًا فِي الْعَقْلِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ، وَانْفَرَدْتُمْ مِنْ جَمِيعِ طَوَائِفِ الْأُمَّةِ بِمَا ابْتَدَعْتُمُوهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَالرُّؤْيَةِ، وَقَوِيَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِذَلِكَ عَلَيْكُمْ وَعَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ. وَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ رَدَدْتُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ حَتَّى قِيلَ: إنَّ الْأَشْعَرِيَّ حَجَرَهُمْ فِي قِمَعِ السِّمْسِمَةِ فَهَذَا أَيْضًا صَحِيحٌ بِمَا أَبْدَاهُ مِنْ تَنَاقُضِ أُصُولِهِمْ، فَإِنَّهُ كَانَ خَبِيرًا بِمَذَاهِبِهِمْ، إذْ كَانَ مِنْ تَلَامِذَةِ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ أُصُولَ الْمُعْتَزِلَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ لَمَّا انْتَقِلْ إلَى طَرِيقَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بْنِ كِلَابٍ وَهِيَ أَقْرَبُ إلَى السُّنَّةِ مِنْ طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ وَالْعُلُوَّ وَمُبَايِنَةَ اللَّهِ لِلْمَخْلُوقَاتِ، وَيَجْعَلُ الْعُلُوَّ يَثْبُتُ بِالْعَقْلِ، فَكَانَ الْأَشْعَرِيُّ لِخِبْرَتِهِ بِأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ أَظْهَرَ مِنْ تَنَاقُضِهَا وَفَسَادِهَا مَا قَمَعَ بِهِ الْمُعْتَزِلَةَ، وَبِمَا أَظْهَرَهُ مِنْ تَنَاقُضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ، صَارَ لَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ وَالْقَدْرِ مَا صَارَ لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا. لَكِنَّ الْأَشْعَرِيَّ قَصُرَ عَنْ طَرِيقَةِ ابْنِ كِلَابٍ، وَأَنْتُمْ خَالَفْتُمْ ابْنَ كِلَابٍ وَالْأَشْعَرِيَّ فَنَفَيْتُمْ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ، وَنَفَيْتُمْ الْعُلُوَّ وَخِيَارُكُمْ يَجْعَلُهُ مِنْ الصِّفَاتِ السَّمْعِيَّةِ، مَعَ أَنَّ ابْنَ كِلَابٍ كَانَ مُبْتَدِعًا عِنْدَ السَّلَفِ بِمَا قَالَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ؟ وَفِي إنْكَارِ الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِ اللَّهِ. ثُمَّ إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَإِنْ انْقَمَعُوا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّهُمْ طَمِعُوا وَقَوُوا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِمُوَافَقَتِكُمْ لَهُمْ عَلَى أُصُولِ النَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ، فَصَارَ ذَلِكَ مَعْزِيًّا لِفُضَلَائِهِمْ بِلُزُومِ مَذْهَبِهِمْ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ فَهِمَ مَذْهَبَكُمْ الَّذِي خَالَفْتُمْ فِيهِ الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ قَوْلٌ فَاسِدٌ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ فَاسِدًا وَنَشَأَ الْفَسَادُ. الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْفُضَلَاءَ إذَا تَدَبَّرُوا حَقِيقَةَ قَوْلِكُمْ الَّذِي أَظْهَرْتُمْ فِيهِ خِلَافَ الْمُعْتَزِلَةِ وَجَدُوكُمْ قَرِيبِينَ مِنْهُمْ أَوْ مُوَافِقِينَ لَهُمْ فِي الْمَعْنَى كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ فَإِنَّكُمْ تَتَظَاهَرُونَ بِإِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ تُفَسِّرُونَهَا بِمَا لَا يُنَازِعُ الْمُعْتَزِلَةَ فِي بَيَانِهِ، وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُضَلَاءِ فِي الْأَشْعَرِيِّ: إنَّ قَوْلَهُ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْ التَّصْرِيحِ إلَى التَّمْوِيهِ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُكُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَمَّا اشْتَهَرَ عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى الْجَهْمِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ قَالُوا إنَّهُ مَخْلُوقٌ حَتَّى كَفَّرُوهُمْ، وَصَبَرَ الْأَئِمَّةُ عَلَى امْتِحَانِ الْجَهْمِيَّةِ مُدَّةَ اسْتِيلَائِهِمْ حَتَّى نَصَرَ اللَّهُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَأَطْفَأَ الْفِتْنَةَ فَتَظَاهَرْتُمْ بِالرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَانْتَسَبْتُمْ إلَى أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ. وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ: فَأَنْتُمْ مُوَافِقُونَ لِلْمُعْتَزِلَةِ مِنْ وَجْهٍ، وَمُخَالِفُوهُمْ مِنْ وَجْهٍ، وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ أَنْتُمْ وَهُمْ، فَأَنْتُمْ أَقْرَبُ إلَى السُّنَّةِ مِنْ وَجْهٍ، وَهُمْ أَقْرَبُ إلَى السُّنَّةِ مِنْ وَجْهٍ، وَقَوْلُهُمْ أَفْسَدُ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ مِنْ وَجْهٍ، وَقَوْلُكُمْ أَفْسَدُ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ مِنْ وَجْهٍ. ذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ قَالُوا: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ، وَالْمُتَكَلِّمُ مَنْ فِعْلِ الْكَلَامَ وَقَالُوا: إنَّ الْكَلَامَ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ، وَالْقُرْآنُ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَقَالُوا: الْكَلَامُ يَنْقَسِمُ إلَى أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَخَبَرٍ وَهَذِهِ أَنْوَاعُ الْكَلَامِ لَا صِفَاتُهُ، وَالْقُرْآنُ غَيْرُ التَّوْرَاةِ، وَالتَّوْرَاةُ غَيْرُ الْإِنْجِيلِ وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِمَا شَاءَ. وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ: إنَّ الْكَلَامَ مَعْنًى وَاحِدٌ قَدِيمٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَهَذِهِ صِفَاتُ الْكَلَامِ لَا أَنْوَاعُهُ، فَإِنْ عُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً، وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ كَانَ إنْجِيلًا، وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا، وَالْحُرُوفُ الْمُؤَلَّفَةُ لَيْسَتْ مِنْ الْكَلَامِ، وَلَا هِيَ كَلَامٌ، وَالْكَلَامُ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ بَلْ حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ كِلَابٍ، أَوْ عِبَارَةُ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ كَمَا قَالَهُ الْأَشْعَرِيُّ. وَلَا رَيْبَ أَنَّكُمْ خَيْرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ جَعَلْتُمْ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ الْكَلَامُ لَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِهِ كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْحَيَاةُ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِهِ، وَلَا قَادِرًا بِهَا، وَلَا حَيًّا بِهَا، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْكَلَامُ مَخْلُوقًا فِي جِسْمٍ مِنْ الْأَجْسَامِ لَكَانَ ذَلِكَ الْجِسْمُ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ، فَكَانَتْ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةَ لِمُوسَى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] فَهَذَا مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا.

وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي مَحَلٍّ كَلَامًا لَهُ فَيَكُونُ إنْطَاقُهُ لِلْجُلُودِ كَلَامًا لَهُ بَلْ يَكُونُ إنْطَاقُهُ لِكُلِّ نَاطِقٍ كَلَامًا لَهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الِاتِّحَادِيَّةُ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ الْحُلُولِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ وُجُودَهُ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ، فَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ، سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنَظْمُهُ. لَكِنْ الْمُعْتَزِلَةُ أَجْوَدُ مِنْكُمْ حَيْثُ سَمَّوْا هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ كَلَامَ اللَّهِ، كَمَا يَقُولُهُ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ كَلَامًا مَجَازًا؛ وَمَنْ جَعَلَهُ مِنْكُمْ حَقِيقَةً وَجَعَلَ الْكَلَامَ مُشْتَرَكًا كَأَبِي الْمَعَالِي وَأَتْبَاعِهِ اُنْتُقِضَتْ قَاعِدَتُهُ فِي أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِالْكَلَامِ مَنْ قَامَ بِهِ، وَلَمْ يُمْكِنْكُمْ أَنْ تَقُولُوا بِقَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: الْكَلَامُ كَلَامُ مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا كَلَامُ مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا؛ فَالرَّجُلُ إذَا بَلَّغَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» كَانَ قَدْ بَلَّغَ كَلَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ؛ وَكَذَلِكَ إذَا أَنْشَدَ شَعْرَ شَاعِرٍ كَامْرِئِ الْقَيْسِ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِذَا قَالَ: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ كَانَ هَذَا الشَّعْرُ شَعْرَ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ قَالَهُ بِحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكَلَامَ كَلَامُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ مُبْتَدِئًا آمِرًا بِأَمْرِهِ وَمُخْبِرًا بِخَبَرِهِ وَمُؤَلِّفًا حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ، وَغَيْرُهُ إذَا بَلَّغَهُ عَنْهُ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ لِلْمُبَلَّغِ عَنْهُ لَا لِلْمُبَلِّغِ. وَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَهُ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَالْمُبَلَّغُ عَنْهُ، وَبَيْنَ سَمَاعِهِ مِنْ الْأَوَّلِ وَسَمَاعِهِ مِنْ الثَّانِي؛ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْمُسْتَقِرِّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَسْمَعُونَهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْقَارِئَ يَقْرَؤُهُ بِصَوْتِهِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» ؛ فَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي، وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ مَنْ يَجْعَلُ كَلَامَ الثَّانِي حِكَايَةً لِكَلَامِ الْأَوَّلِ.

وَيُنَازِعُ الْمُعْتَزِلَةُ فِي الْحِكَايَةِ: هَلْ هِيَ الْمَحْكِيُّ كَمَا يَقُولُ الْجُبَّائِيُّ، أَوْ غَيْرُهُ كَمَا يَقُولُ ابْنُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْحَاكِيَ لِكَلَامِ غَيْرِهِ لَيْسَ هُوَ الْمُبَلِّغَ لَهُ، فَإِنَّ الْحَاكِيَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَمَثِّلِ بِهِ الَّذِي يَقُولُهُ لِنَفْسِهِ مُوَافِقًا لِقَائِلِهِ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ الْمُبَلِّغِ لَهُ الَّذِي يَقْصِدُ أَنْ يُبَلِّغَ كَلَامَ الْغَيْرِ. وَلِلنِّيَّةِ تَأْثِيرٌ فِي مِثْلِ هَذَا، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] بِقَصْدِ الْقِرَاءَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ مَعَ الْجَنَابَةِ بِخِلَافِ مَنْ قَالَهَا بِقَصْدِ ذِكْرِ اللَّهِ. وَهَذَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّكُمْ لَمْ يُمْكِنْكُمْ أَنْ تَقُولُوا مَا يَقُولُهُ الْمُسْلِمُونَ لِأَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ وَنَظْمَهُ لَيْسَ هُوَ عِنْدَكُمْ كَلَامَ اللَّهِ، بَلْ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ مَخْلُوقٌ: إمَّا فِي الْهَوَاءِ وَإِمَّا فِي نَفْسِ، جِبْرِيلَ وَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَاتَّفَقْتُمْ أَنْتُمْ وَالْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ وَنَظْمَهُ مَخْلُوقٌ، لَكِنْ قَالُوا هُمْ: ذَلِكَ كَلَامُ اللَّهِ، وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ: لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ؛ وَمَنْ قَالَ مِنْكُمْ إنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ انْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، فَصَارَتْ الْمُعْتَزِلَةُ خَيْرًا مِنْكُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَهَذِهِ الْحُرُوفُ وَالنَّظْمُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ النَّاسُ هُوَ حِكَايَةُ تِلْكَ الْحُرُوفِ وَالنَّظْمِ الْمَخْلُوقِ عِنْدَكُمْ كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالذَّاتِ. وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ كِلَابٍ يَقُولُ: إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حِكَايَةٌ عَنْ الْمَعْنَى الْقَدِيمِ، فَخَالَفَهُ الْأَشْعَرِيُّ لِأَنَّ الْحِكَايَةَ تُشْبِهُ الْمَحْكِيَّ، وَهَذَا حُرُوفٌ، وَذَلِكَ مَعْنًى. وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: بَلْ هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْعِبَارَةَ لَا تُشْبِهُ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ. فَإِنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي نَقْرَؤُهُ فِيهِ حُرُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ، وَفِيهِ مَعَانٍ؛ فَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِالْحُرُوفِ بِأَلْسِنَتِنَا، وَنَعْقِلُ الْمَعَانِي بِقُلُوبِنَا، وَنِسْبَةُ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِقُلُوبِنَا إلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ كَنِسْبَةِ الْحُرُوفِ الَّتِي نَنْطِقُ بِهَا إلَى الْحُرُوفِ الْمَخْلُوقَةِ عِنْدَكُمْ. فَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّ هَذَا حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنًى مُجَرَّدٌ عِنْدَكُمْ وَهَذَا فِيهِ حُرُوفٌ وَمَعَانٍ.

وَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّهُ عِبَارَةٌ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ هِيَ اللَّفْظُ الَّذِي يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمَعْنَى، وَهُنَا حُرُوفٌ وَمَعَانٍ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْمَعْنَى الْقَدِيمِ عِنْدَكُمْ. وَإِنْ قُلْتُمْ: هَذِهِ الْحُرُوفُ وَحْدَهَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْنَى بَقِيَتْ الْمَعَانِي الْقَائِمَةُ بِقُلُوبِنَا، وَبَقِيَتْ الْحُرُوفُ الَّتِي عَبَّرَ بِهَا أَوَّلًا عَنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالذَّاتِ الَّتِي هَذِهِ الْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ نَظِيرُهَا عِنْدَكُمْ، لَمْ تُدْخِلُوهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ، فَالْمُعْتَزِلَةُ فِي قَوْلِهَا بِالْحِكَايَةِ أَسْعَدُ مِنْكُمْ فِي قَوْلِكُمْ بِالْحِكَايَةِ وَبِالْعِبَارَةِ. وَأَصْلُ هَذَا الْخَطَإِ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ قَالُوا: إنَّ الْقُرْآنَ، بَلْ كُلُّ كَلَامٍ، هُوَ مُجَرَّدُ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ؛ وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ: بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ الْمَعَانِي. وَمِنْ الْمَعْلُومِ عِنْدَ الْأُمَمِ أَنَّ الْكَلَامَ اسْمٌ لِلْحُرُوفِ وَلِلْمَعَانِي، وَلِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا؛ كَمَا أَنَّ اسْمَ الْإِنْسَانِ اسْمٌ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَإِنْ سُمِّيَ الْمَعْنَى وَحْدَهُ حَدِيثًا أَوْ كَلَامًا، أَوْ الْحُرُوفُ وَحْدَهَا حُرُوفًا أَوْ كَلَامًا فَعِنْدَ التَّقْيِيدِ وَالْقَرِينَةِ. وَهَذَا مِمَّا اسْتَطَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَيْكُمْ بِهِ حَيْثُ أَخْرَجْتُمْ الْحُرُوفَ الْمُؤَلَّفَةَ عَنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْكَلَامِ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْكُمْ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ: وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» قَالَ لَهُ مُعَاذٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ قَالَ: «ثَكِلَتْك أُمُّك يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» ؟ وَشَوَاهِدُ هَذَا كَثِيرَةٌ. ثُمَّ إنَّكُمْ جَعَلْتُمْ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ مَعْنًى وَاحِدًا مُفْرَدًا وَهُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَالْخَبَرُ عَنْ كُلِّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ؛ وَهَذَا مِمَّا اشْتَدَّ إنْكَارُ الْعُقَلَاءِ عَلَيْكُمْ فِيهِ، وَقَالُوا إنَّ هَذَا مِنْ السَّفْسَطَةِ الْمُخَالِفَةِ لِصَرَائِحِ الْمَعْقُولِ. وَأَنْتُمْ تُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِحُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا قُلْتُمُوهُ أَبْعَدُ عَنْ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ مِنْ هَذَا؛ وَإِنْ كَانَ الْعُقَلَاءُ قَدْ أَنْكَرُوا هَذَا أَيْضًا، لَكِنْ قَوْلُكُمْ أَشَدُّ نُكْرَةً؛ بَلْ قَوْلُكُمْ أَبْعَدُ مِنْ قَوْلِ النَّصَارَى الَّذِينَ يَقُولُونَ بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ إلَهٌ وَاحِدٌ. ثُمَّ أَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: إنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ هُوَ الْقُرْآنَ، وَبِالْعِبْرِيَّةِ

كَانَ هُوَ التَّوْرَاةَ، وَبِالسِّرْيَانِيَّ ة كَانَ هُوَ الْإِنْجِيلَ؛ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنَّ التَّوْرَاةَ إذَا عُرِّبَتْ لَمْ تَكُنْ مَعَانِيهَا مَعَانِيَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ إذَا تُرْجِمَ بِالْعِبْرِيَّةِ لَمْ تَكُنْ مَعَانِيهِ مَعَانِي التَّوْرَاةِ. ثُمَّ إنَّ مِنْكُمْ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى يُسْمَعُ؛ وَمِنْكُمْ مَنْ قَالَ لَا يُسْمَعُ. وَجَعَلْتُمْ تَكْلِيمَ اللَّهِ لِمُوسَى مِنْ جِنْسِ الْإِلْهَامِ الَّذِي يُلْهِمُ غَيْرَهُ حَيْثُ قُلْتُمْ: خَلَقَ فِي نَفْسِهِ لَطِيفَةً أَدْرَكَ بِهَا الْكَلَامَ الْقَائِمَ بِالذَّاتِ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا - وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163 - 164] فَفَرَّقَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ إيحَائِهِ إلَى غَيْرِ مُوسَى، وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] فَفَرَّقَ بَيْنَ إيحَائِهِ - سُبْحَانَهُ - وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. وَالْأَحَادِيثُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَخْصِيصِ مُوسَى بِتَكْلِيمِ اللَّهِ إيَّاهُ دُونَ إبْرَاهِيمَ وَعِيسَى وَنَحْوِهِمَا؛ وَعَلَى قَوْلِكُمْ: لَا فَرْقَ، بَلْ قَدْ زَعَمَ مَنْ زَعَمَ مِنْ أَئِمَّتِكُمْ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ. فَمَنْ حَصَلَ لَهُ إلْهَامٌ فِي قَلْبِهِ جَعَلْتُمُوهُ قَدْ كَلَّمَهُ اللَّهُ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَمْ يَصِلُوا فِي الْإِلْحَادِ إلَى هَذَا الْحَدِّ، بَلْ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ خَصَّ مُوسَى بِأَنْ خَلَقَ كَلَامًا فِي الْهَوَاءِ سَمِعَهُ، كَانَ أَقَلَّ بِدْعَةً مِمَّنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمْهُ إلَّا بِأَنْ أَفْهَمَهُ مَعْنًى أَرَادَهُ. بَلْ هَذَا قَرِيبٌ إلَى قَوْلِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ إلَّا مَا فِي النُّفُوسِ، وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى مِنْ سَمَاءِ عَقْلِهِ، لَكِنْ يُفَارِقُونَهَا بِإِثْبَاتِ الْمَعْنَى الْقَدِيمِ الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ أَيْضًا.

فَجَعَلْتُمْ ثُبُوتَ الْقُرْآنِ فِي الْمَصَاحِفِ مِثْلَ ثُبُوتِ اللَّهِ فِيهَا، وَقُلْتُمْ: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي التَّوْرَاةِ هُوَ اسْمُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَكْتُبُ فِي الْمُصْحَفِ اسْمَهُ فَأَسْمَاؤُهُ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِهِ، لَا أَنَّ ذَاتَهُ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِهِ. وَالشَّيْءُ لِوُجُودِهِ أَرْبَعَةٌ مَرَاتِبَ: وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ، وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ، وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ، وَوُجُودٌ فِي الْبَنَانِ، فَالْأَعْيَانُ لَهَا الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى، ثُمَّ يُعْلَمُ بِالْقُلُوبِ، ثُمَّ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللَّفْظِ ثُمَّ يُكْتَبُ اللَّفْظُ؛ وَأَمَّا الْكَلَامُ فَلَهُ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ، وَهُوَ الَّذِي يُكْتَبُ فِي الْمُصْحَفِ. فَأَيْنَ قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْكَلَامَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ إنَّ الْمُتَكَلِّمَ فِي الْكِتَابِ، وَبَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الْقَدَمِ وَالْفَرْقِ ثُمَّ إنَّ مِنْكُمْ مَنْ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19] ، وَجَعَلَ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْعِبَارَةَ، وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ فَهُوَ أَفْسَدُ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ أُضِيفَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ أَحْدَثَ حُرُوفَهُ، فَقَدْ أَضَافَهُ فِي مَوْضِعٍ إلَى رَسُولٍ هُوَ جِبْرِيلُ، وَفِي مَوْضِعٍ إلَى رَسُولٍ هُوَ مُحَمَّدٌ، قَالَ فِي مَوْضِعٍ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19] {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 41] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ عِبَارَتَهَا إنْ أَحْدَثَهَا جِبْرِيلُ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ أَحْدَثَهَا، وَإِنْ أَحْدَثَهَا مُحَمَّدٌ لَمْ يَكُنْ جِبْرِيلُ أَحْدَثَهَا؛ فَبَطَلَ قَوْلُكُمْ وَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ لِكَوْنِهِ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ لَا لِأَنَّهُ أَحْدَثَهُ وَابْتَدَأَهُ، وَلِهَذَا قَالَ لَقَوْلُ رَسُولٍ، وَلَمْ يَقُلْ لَقَوْلُ مَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ،

فَذَكَرَ اسْمَ الرَّسُولِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] . «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْسِمِ، وَيَقُولُ: أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي، فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَا تَقُولُ إنَّ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ أَحْدَثَهُ لَا جِبْرِيلُ وَلَا مُحَمَّدٌ، وَلَكِنْ يَقُولُونَ إنَّ تِلَاوَتَهُمَا لَهُ كَتِلَاوَتِنَا لَهُ؛ وَإِنْ قُلْتُمْ أَضَافَهُ إلَى أَحَدِهِمَا لِكَوْنِهِ تَلَاهُ بِحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْقُرْآنَ قَوْلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، وَطَاهِرٍ وَجُنُبٍ، حَتَّى إذَا قَرَأَهُ الْكَافِرُ يَكُونُ الْقُرْآنُ قَوْلًا لَهُ عَلَى قَوْلِكُمْ؛ فَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] كَلَامٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، إذْ هُوَ عَلَى أَصْلِكُمْ قَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَقَوْلُ فَاجِرٍ لَئِيمٍ. وَكَذَلِكَ احْتَجَّ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] وَقَالُوا إنَّ اللَّهَ أَحْدَثَهُ فِي الْهَوَاءِ، فَاحْتَجَّ مَنْ احْتَجَّ مِنْكُمْ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ مُحْدَثٌ، وَلَكِنْ زَادَ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ بِأَنَّ الْمُحْدِثَ لَهُ إمَّا جِبْرِيلُ وَإِمَّا مُحَمَّدٌ. وَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّهُ مُحْدَثٌ فِي الْهَوَاءِ صِرْتُمْ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَقَضْتُمْ اسْتِدْلَالَكُمْ بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ مَنْ اسْتَدَلَّ مِنْ أَئِمَّتِكُمْ عَلَى قَوْلِكُمْ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19] ، وَقَوْلِهِ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَحْدَثَهُ بَطَلَ اسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِ: {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] ، فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ أَحْدَثَهُ بَطَلَ بِإِضَافَتِهِ إلَى الرَّسُولِ الْآخَرِ، وَكُنْتُمْ شَرًّا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ قَالُوا: أَحْدَثَهُ اللَّهُ، وَإِنْ قُلْتُمْ: أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَلَاهُ فَقَدْ أَحْدَثَهُ فَقَدْ جَعَلْتُمُوهُ قَوْلًا لِكُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ النَّاسِ بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، وَكَانَ مَا يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَسْمَعُونَهُ كَلَامَ النَّاسِ عِنْدَكُمْ لَا كَلَامَ اللَّهِ.

ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ - قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 101 - 102] ، فَأَخْبَرَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَّلَهُ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ هَوَاءٍ وَلَا مِنْ لَوْحٍ، وَقَالَ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 114] ، وَقَالَ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1] ، {حم - تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1 - 2] ، وَأَنْتُمْ وَافَقْتُمْ الْمُعْتَزِلَةُ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَكُمْ مُنَزَّلًا مِنْ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ، وَلَوْ كَانَ فَوْقَ الْعَالَمِ لَمْ يَكُنْ الْقُرْآنُ مُنَزَّلًا مِنْهُ بَلْ مِنْ الْهَوَاءِ. وَأَيْضًا فَأَنْتُمْ فِي مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ قَابَلْتُمْ الْمُعْتَزِلَةَ تَقَابُلَ التَّضَادِّ حَتَّى رَدَدْتُمْ بِدْعَتَهُمْ بِبِدَعٍ تَكَادُ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهَا، بَلْ هِيَ مِنْ وَجْهٍ مِنْهَا وَمِنْ وَجْهٍ دُونَهَا، فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ جَعَلُوا الْإِيمَانَ اسْمًا مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ. وَقَالُوا: إنَّ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا وَلَا كَافِرًا، وَقَالُوا: إنَّ الْفُسَّاقَ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِشَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَهُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ مُخَالِفُونَ لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ، فَخِلَافُهُمْ فِي الْحُكْمِ لِلسَّلَفِ، وَأَنْتُمْ وَافَقْتُمْ الْجَهْمِيَّةَ فِي الْإِرْجَاءِ وَالْجَبْرِ فَقُلْتُمْ: الْإِيمَانُ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ، وَهَذَا عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّة شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ. ثُمَّ إنَّكُمْ قُلْتُمْ: إنَّا لَا نَعْلَمُ هَلْ يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ النَّارَ أَوْ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ فَوَقَفْتُمْ وَشَكَكْتُمْ فِي نُفُوذِ الْوَعِيدِ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ جُمْلَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْبِدَعِ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ. فَإِنَّهُمْ لَا يَتَنَازَعُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَهَا مَنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَأُولَئِكَ قَالُوا: لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَهَا كُلُّ فَاسِقٍ، وَأَنْتُمْ قُلْتُمْ: لَا نَعْلَمُ هَلْ يَدْخُلُهَا فَاسِقٌ أَمْ لَا، فَتَقَابَلْتُمْ فِي هَذِهِ الْبِدْعَةِ، وَقَوْلُكُمْ أَعْظَمُ بِدْعَةً مِنْ قَوْلِهِمْ، وَأَعْظَمُ مُخَالَفَةً لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ.

وَعَلَى قَوْلِكُمْ: لَا نَعْلَمُ شَفَاعَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَهْلِ النَّارِ، لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ هَلْ يَدْخُلُهَا أَمْ لَا، وَقَوْلُكُمْ إلَى إفْسَادِ الشَّرِيعَةِ أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَكَذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَالِقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، أَوْ مُرِيدًا لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، بَلْ الْإِرَادَةُ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا، وَهُوَ لَا يُحِبُّ وَيَرْضَى إلَّا مَا أَمَرَ بِهِ فَلَا يُرِيدُ إلَّا مَا أَمَرَ بِهِ، وَأَنْتُمْ وَافَقْتُمُوهُمْ عَلَى أَصْلِهِمْ الْفَاسِدِ، وَقَاسَمْتُمُوهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الضَّلَالَ، فَصِرْتُمْ وَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ، وَقُلْتُمْ: إنَّ الْإِرَادَةَ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا كَمَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ، لَكِنْ قُلْتُمْ وَهُوَ أَرَادَ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ الْعِبَادُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا رَاضِيًا لِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ الْعِبَادُ حَتَّى الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ. وَتَأَوَّلْتُمْ قَوْلَهُ: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَعَلَى قَوْلِكُمْ لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْإِيمَانَ يَعْنِي الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ، إذْ عِنْدَكُمْ كُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا فَقَدْ رَضِيَهُ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ لَا يَرْضَاهُ مِنْهُ فَقَدْ رَضِيَ عِنْدَكُمْ مِنْ إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَنَحْوِهِمَا كُفْرَهُمْ وَلَمْ يَرْضَ مِنْهُمْ الْإِيمَانَ. وَكَذَلِكَ قُلْتُمْ فِي قَوْلِهِ: {لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] أَيْ لَا يُحِبُّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْكُمْ لَا يُحِبُّهُ دِينًا أَوْ لَا يَرْضَاهُ دِينًا، فَهَذَا أَقْرَبُ لَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكُمْ لَا يُرِيدُهُ دِينًا وَلَا يَشَاؤُهُ دِينًا فَيَجُوزُ عِنْدَكُمْ أَنْ يُقَالَ يُحِبُّ الْفَسَادَ وَيَرْضَاهُ، أَيْ يُحِبُّهُ فَسَادًا وَيَرْضَاهُ فَسَادًا كَمَا أَرَادَهُ فَسَادًا. وَأَنْكَرْتُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ مَا أَنْكَرَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ بِالْكُفَّارِ غَيْرَ مَا فَعَلَ بِهِمْ مِنْ اللُّطْفِ. وَأَنْكَرْتُمْ عَلَى مَنْ قَالَ مِنْهُمْ إنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ غَيْرُ مَقْدُورٍ، ثُمَّ قُلْتُمْ: إنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ مَا عُلِمَ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ إلَّا إذَا كَانَ فَاعِلًا فَقَطْ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَإِنَّهُ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ أَصْلًا فَخَالَفْتُمْ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97]

وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ، وَلَزِمَكُمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْإِيمَانِ، وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ طَاعَةَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا لَهَا فَإِنْ ضَمَّ ضَامٌّ هَذَا إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» تَرَكَّبَ مِنْ هَذَيْنِ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ وَفَاجِرٍ، فَإِنَّهُ قَدْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ، وَأَنَّهُ قَدْ أَتَى فِيمَا أُمِرَ بِهِ بِمَا اسْتَطَاعَ إذْ لَمْ يَسْتَطِعْ غَيْرَ مَا فَعَلَ، وَأَنْتُمْ لَا تَلْتَزِمُونَ ذَلِكَ فَهُوَ لَازِمُ قَوْلِكُمْ إذَا لَمْ تَجْعَلُوا الِاسْتِطَاعَةَ نَوْعَيْنِ. وَقَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ اسْتِطَاعَةَ الْعَبْدِ صَالِحَةً لِلنَّوْعَيْنِ وَلَا يُثْبِتُونَ الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَقْرَبُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالشَّرِيعَةِ مِنْ قَوْلِكُمْ أَنَّهُ لَا اسْتِطَاعَةَ إلَّا لِلْفَاعِلِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فِعْلًا، فَلَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ عَلَيْهِ وَكُلُّ مَنْ تَدَبَّرَ الْقَوْلَيْنِ بِغَيْرِ هَوًى عَلِمَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِنْ خِلَافِ السُّنَّةِ مَا فِيهِ، فَقَوْلُكُمْ أَكْثَرُ خِلَافًا لِلسُّنَّةِ. وَكَذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ بَلْ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي يُحْدِثُ أَفْعَالَهُ فَضَلُّوا بِقَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ، وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ إنَّ الْعَبْدَ لَا يَفْعَلُ أَفْعَالَهُ بَلْ هِيَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ هِيَ كَسْبٌ لِلْعَبْدِ، وَلَمْ تُفَرِّقُوا بَيْنَ الْكَسْبِ وَالْفِعْلِ بِفَرْقٍ مَعْقُولٍ وَادَّعَيْتُمْ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّ كَوْنَ الْعَبْدِ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا أَمْرٌ مُحْدَثٌ مُمْكِنٌ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ وَاجِبٍ، وَهَذَا حَقٌّ أَصَبْتُمْ فِيهِ دُونَ الْمُعْتَزِلَةِ. لَكِنْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ مَنْ ادَّعَى الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّ الْعَبْدَ يُحْدِثُ أَفْعَالَهُ وَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ أَصَابُوا فِيهِ دُونَكُمْ، وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ لِأَفْعَالِهِ حَقِيقَةً وَاَللَّهُ خَلَقَ الْفَاعِلَ فَاعِلًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19] {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} [المعارج: 20] {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 21] وَلَيْسَ كَوْنُهُ قَادِرًا مُرِيدًا فَاعِلًا بِأَلْزَمَ لَهُ مِنْ كَوْنِهِ طَوِيلًا قَصِيرًا وَاَللَّهُ خَلَقَهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَنَّ الْعِبَادَ يَفْعَلُونَ وَيَصْنَعُونَ بِمُنَافٍ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَلَقَهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. وَكَوْنُ الْعَبْدِ فَاعِلًا لِمَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْقُدْرَةِ هُوَ كَسَائِرِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ بِقُوَّةٍ فِيهِ

وَقُدْرَتُهُ سَبَبٌ فِي حُصُولِ مَقْدُورِهِ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ وَالْأَسْبَابُ لَا يُنْكَرُ وُجُودُهَا وَلَا يُنْكَرُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا وَخَلَقَ الْمُسَبَّبَ بِهَا. فَمَنْ قَالَ قُدْرَةُ الْعَبْدِ مُؤَثِّرَةٌ فِي الْمَقْدُورِ كَتَأْثِيرِ سَائِرِ الْأَسْبَابِ فِي مُسَبَّبَاتِهَا لَمْ يُنْكَرْ قَوْلُهُ. وَمَنْ قَالَ لَيْسَتْ مُؤَثِّرَةً أَيْ لَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً وَلَيْسَ مُبْتَدَعَةً، كَمَا أَنَّ سَائِرَ الْأَسْبَابِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لَمْ يُنْكَرْ قَوْلُهُ، فَإِنَّ السَّبَبَ لَيْسَ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً بِمُسَبَّبِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَسْبَابٍ أُخَرَ وَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِ الْمَوَانِعِ وَاَللَّهُ خَالِقُ مَجْمُوعِ الْأَسْبَابِ وَصَارِفُ جَمِيعِ الْمَوَانِعِ. وَهَذَا هُوَ الْخَلْقُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَيْسَ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مِمَّا يُجْعَلُ سَبَبًا وَمُؤَثِّرًا فَإِنَّهُ جُزْءٌ مُسَبَّبٌ فَلَا يُنْفَى هَذَا الْجُزْءُ وَلَا يُعْطَى مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ كَوْنِهِ مُبْدِعًا خَالِقًا وَمِنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا لَا شَرِيكَ لَهُ، فَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، وَأَنْتُمْ قَدْ خَالَفْتُمْ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْقُرْآنِ وَالرُّؤْيَةِ، وَمَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَالْقَدَرِ مَا تَأَوَّلْتُمُوهُ. فَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ إذَا خَالَفُوا مِنْ ذَلِكَ مَا تَأَوَّلُوهُ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ وَإِذَا قَدَحْتُمْ فِي الْمُعْتَزِلَةِ بِمَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْمَقَالَاتِ وَخَالَفُوهُ فِي السُّنَنِ وَالْآثَارِ، قَدَحُوا فِيكُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَإِذَا نَسَبْتُمُوهُمْ إلَى الْقَدْحِ فِي السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ نَسَبُوكُمْ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِيمَا تَذُمُّونَهُمْ بِهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ يَذُمُّونَكُمْ بِنَظِيرِهِ، وَلَا مَحِيصَ لَكُمْ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِتَرْكِ مَا ابْتَدَعْتُمُوهُ، وَمَا وَافَقْتُمُوهُ عَلَيْهِ مِنْ الْبِدْعَةِ وَمَا ابْتَدَعْتُمُوهُ أَنْتُمْ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا سَلِيمًا مِنْ التَّنَاقُضِ وَالتَّعَارُضِ مَحْفُوظًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . وَبِالْجُمْلَةِ فَعَامَّةُ مَا ذَمَّهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَعَابُوهُ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ الْكَلَامِ الْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ لَكُمْ مِنْهُ أَوْفَرُ نَصِيبٍ، بَلْ تَارَةً تَكُونُونَ أَشَدَّ مُخَالَفَةً لِذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَدْ شَارَكْتُمُوهُمْ فِي أُصُولِ ضَلَالِهِمْ الَّتِي فَارَقُوا بِهَا سَلَفَ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتَهَا، وَنَبَذُوا بِهَا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُنَزِّهُونَهُ مِنْ شَيْءٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الدَّوْرُ فَيَرْجِعُونَ إلَى مُجَرَّدِ رَأْيِهِمْ فِي ذَلِكَ.

وَإِذَا اسْتَدَلُّوا بِالْقُرْآنِ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِقَادِ وَالِاسْتِشْهَادِ، لَا عَلَى وَجْهِ الِاعْتِمَادِ وَالِاعْتِقَادِ، وَمَا خَالَفَ قَوْلَهُمْ فِي الْقُرْآنِ تَأَوَّلُوهُ عَلَى مُقْتَضَى آرَائِهِمْ، وَاسْتَخَفُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسَمَّوْهُمَا ظَوَاهِرَ. وَإِذَا اسْتَدَلُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] ، وَقَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، أَوْ قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ تَكُنْ هَذِهِ النُّصُوصُ هِيَ عُمْدَتَهُمْ وَلَكِنْ يَدْفَعُونَ بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ فَلَا حُرْمَةَ لَهَا عِنْدَهُمْ، بَلْ تَارَةً يَرُدُّونَهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ مُمْكِنٍ وَتَارَةً يَتَأَوَّلُونَهَا، ثُمَّ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا وَضَعُوهُ بِرَأْيِهِمْ قَوَاطِعُ عَقْلِيَّةٌ، وَأَنَّ هَذِهِ الْقَوَاطِعَ الْعَقْلِيَّةَ تُرَدُّ لِأَجْلِهَا نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، إمَّا بِالتَّأْوِيلِ، وَإِمَّا بِالتَّفْوِيضِ، وَإِمَّا بِالتَّكْذِيبِ. وَأَنْتُمْ شُرَكَاؤُهُمْ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ كُلِّهَا، وَمِنْهُمْ أَخَذْتُمُوهَا. وَأَنْتُمْ فُرُوخُهُمْ فِيهَا، كَمَا يُقَالُ: الْأَشْعَرِيَّةُ مَخَانِيثُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ مَخَانِيثُ الْفَلَاسِفَةِ، لَكِنْ لَمَّا شَاعَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَسَادُ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَنَفَرَتْ الْقُلُوبُ عَنْهُمْ، صِرْتُمْ تُظْهِرُونَ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مَعَ مُقَارَبَتِكُمْ أَوْ مُوَافَقَتِكُمْ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ. وَهُمْ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ التَّوْحِيدِ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ نَفْيُ الصِّفَاتِ وَأَنْتُمْ وَافَقْتُمُوهُمْ عَلَى تَسْمِيَةِ أَنْفُسِكُمْ أَهْلَ التَّوْحِيدِ، وَجَعَلْتُمْ نَفْيَ بَعْضِ الصِّفَاتِ مِنْ التَّوْحِيدِ. وَسَمَّوْا مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْكَلَامِ الْفَاسِدِ إمَّا فِي الْحُكْمِ وَإِمَّا فِي الدَّلِيلِ أُصُولَ الدِّينِ، وَأَنْتُمْ شَارَكْتُمُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ ذَمَّ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لِهَذَا الْكَلَامِ، بَلْ عَلِمَ مَنْ يَعْرِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ وَمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِكُتُبِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْأُصُولِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ دَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا دَلَالَةَ السَّمْعِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ الْخَبَرِ كَمَا تَظُنُّونَهُ أَنْتُمْ وَهُمْ حَتَّى جَعَلْتُمْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ السَّمْعُ إمَّا هُوَ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ الْمَوْقُوفِ عَلَى تَصْدِيقِ الْمُخْبِرِ، ثُمَّ جَعَلْتُمْ تَصْدِيقَ الْمُخْبِرِ وَهُوَ الرَّسُولُ مَوْقُوفًا عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ الَّتِي سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَهُمْ

الْعَقْلِيَّاتِ، وَجَعَلُوا مِنْهَا نَفْسَ الصِّفَاتِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ وَوَافَقْتُمُوهُمْ عَلَى أَنَّ مِنْهَا نَفْيَ كَثِيرٍ مِنْ الصِّفَاتِ، وَأَنْتُمْ لَمْ تُثْبِتُوا الْقَدَرَ حَتَّى أَبْطَلْتُمْ مَا فِي أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ. بَلْ مَا فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ مِنْ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَالْمُنَاسَبَاتِ. وَزَعَمْتُمْ أَنَّ الرَّدَّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِنَفْيِ تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ مُطْلَقًا، وَأَنْ تُجْعَلَ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا سَوَاءً فِي أَنْفُسِهَا، لَا فَرْقَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزِّنَا إلَّا مِنْ جِهَةِ حُكْمِ الشَّارِعِ بِإِيجَابِ أَحَدِهِمَا وَتَحْرِيمِ الْآخَرِ فَصَارَ قَوْلُكُمْ مَدْرَجَةً إلَى فَسَادِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ التَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْقُرْآنَ ضَرَبَ اللَّهُ فِيهِ الْأَمْثَالَ، وَهِيَ الْمَقَايِيسُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي يُثْبِتُ بِهَا مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ: كَالتَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَإِمْكَانِ الْمَعَادِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ؛ وَإِنَّ عَامَّةَ مَا يُثْبِتُهُ النُّظَّارُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ فِي هَذَا الْبَابِ يَأْتِي الْقُرْآنُ بِخُلَاصَتِهِ وَبِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ، بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا لِعِظَمِ التَّفَاوُتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ وَخَطْبٌ جَسِيمٌ، فَإِنَّكُمْ وَالْمُعْتَزِلَةُ تُثْبِتُونَ كَثِيرًا مِمَّا يُثْبِتُونَهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ بِطُرُقٍ ضَعِيفَةٍ أَوْ فَاسِدَةٍ، مَعَ مَا يَتَضَمَّنُهُ ذَلِكَ مِنْ التَّكْذِيبِ بِكَثِيرٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ. وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ الَّذِي وَافَقْتُمُوهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْدِيقُ الرَّسُولِ فِي بَعْضِ مَا أَخْبَرَ بِهِ إلَّا بِتَكْذِيبِهِ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ فَلَا يُمْكِنُ الْإِيمَانُ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ، بَلْ يُكْفَرُ بِبَعْضِهِ وَيُؤْمَنُ بِبَعْضِهِ فَيُهْدَمُ مِنْ الدِّينِ جَانِبٌ وَيُبْنَى مِنْهُ جَانِبٌ عَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ ثَابِتٍ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ لَا يَسَعُ ذَلِكَ لَفَصَّلْنَاهُ، فَإِنَّا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ، مِثْلُ مَا يُقَالُ مِنْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِقْرَارُ بِالصَّانِعِ إلَّا بِنَفْيِ صِفَاتِهِ أَوْ بَعْضِهَا الَّتِي يَسْتَلْزِمُ نَفْيُهَا تَعْطِيلَهُ فِي الْحَقِيقَةِ، فَيَبْقَى الْإِنْسَانُ مُثْبِتًا لَهُ نَافِيًا لَهُ، مُقِرًّا بِوُجُودِهِ مُسْتَلْزِمًا لِعَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَشْعُرُ بِالتَّنَاقُضِ. وَأَمَّا الْعَقْلِيَّاتُ فَإِنَّكُمْ وَافَقْتُمْ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْفَلَاسِفَةَ عَلَى أُصُولٍ يَلْزَمُ مِنْ تَسْلِيمِهَا فَسَادُ مَا بَيَّنْتُمُوهُ، فَإِنَّكُمْ لَمَّا سَلَّمْتُمْ لَهُمْ أَنَّ الْأَعْرَاضَ وَهِيَ صِفَاتٌ تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ مَا قَامَتْ بِهِ أَوْ تَدُلُّ عَلَى إمْكَانِهِ كَانُوا مُسْتَدِلِّينَ بِهَذَا عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ عَنْ الرَّبِّ سُبْحَانِهِ وَتَعَالَى فَتَنْقَطِعُونَ مَعَهُمْ.

ثُمَّ أَنْتُمْ إنَّمَا اسْتَدْلَلْتُمْ عَلَى الْمُتَفَلْسِفَةِ بِأَنَّ مَا قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ فَهُوَ حَادِثٌ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْقَدِيمَ تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ، وَلَمَّا ادَّعَيْتُمْ أَنَّ مَا قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ فَهُوَ حَادِثٌ أَلْزَمُوكُمْ أَوَّلَ الْحَوَادِثِ فَقَالُوا ذَلِكَ الْحَادِثُ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِحُدُوثِهِ سَبَبٌ، فَإِنْ كَانَ لِحُدُوثِهِ سَبَبٌ لَزِمَ تَسَلْسُلُ الْحَوَادِثِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ دَلِيلَكُمْ عَلَيْهِمْ إذْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَسَلْسُلِ الْحَوَادِثِ، وَامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِحُدُوثِهَا سَبَبٌ جَازَ تَرْجِيحُ أَحَدِ طَرَفَيْ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَهَذَا يُبْطِلُ جَمِيعَ أُصُولِكُمْ وَأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ، وَيُبْطِلُ إثْبَاتَكُمْ بِوُجُودِ الصَّانِعِ. فَأَنْتُمْ مَعَ الْفَلَاسِفَةِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ تُجَوِّزُوا حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا فَيَبْطُلُ دَلِيلُكُمْ عَلَيْهِمْ الَّذِي أَثْبَتُّمْ بِهِ حُدُوثَ الْعَالَمِ وَهُوَ أَصْلُ الْأُصُولِ عِنْدَكُمْ. وَإِمَّا أَنْ لَا تُجَوِّزُوا ذَلِكَ فَيَبْطُلَ أَيْضًا دَلِيلُكُمْ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ، فَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ دَلِيلُكُمْ الَّذِي هُوَ أَصْلُ أُصُولِكُمْ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بَاطِلٌ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهُمْ يُوَافِقُونَكُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، لَكِنْ خِطَابُ الْفَلَاسِفَةِ لَهُمْ كَخِطَابِ الْفَلَاسِفَةِ لَكُمْ؛ وَأَمَّا خِطَابُ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَكُمْ: إذَا مَا سَلَّمْتُمْ أَنَّ مَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ لَا يَكُونُ إلَّا جِسْمًا إذْ لَا فَرْقَ فِي الْمَعْقُولِ بَيْنَ قِيَامِ الْأَعْرَاضِ وَالْحَوَادِثِ، وَإِذَا كَانَ مَا قَامَ بِهِ الْأَعْرَاضُ لَا يَكُونُ إلَّا جِسْمًا، وَأَنْتُمْ قَدْ قُلْتُمْ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ الْأَعْرَاضُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا، وَالْجِسْمُ حَادِثٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا. وَيَقُولُ لَكُمْ الْمُعْتَزِلِيُّ: إنَّ قِيَامَ الْكَلَامِ وَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِمَحَلٍّ لَيْسَ بِجِسْمٍ؛ وَدَعْوَى أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَيْسَتْ أَعْرَاضًا أَمْرٌ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ. وَكَانَ جَوَابُكُمْ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ قُلْتُمْ لَهُمْ: كَمَا اتَّفَقْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ وَلَيْسَ بِجِسْمٍ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ، وَلَيْسَتْ أَعْرَاضًا وَتَقُومُ بِهِ، وَلَا يَكُونُ جِسْمًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَيْسَ بِعِلْمِيٍّ، وَلَا يُحْمَلُ بِهِ انْقِطَاعُ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ، إذْ يُقَالُ لَكُمْ: الْمُعْتَزِلَةُ مُخْطِئُونَ إمَّا فِي قَوْلِكُمْ إنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ تَثْبُتُ لِغَيْرِ

باب في ذكر كلام الأشعرية

جِسْمٍ، وَإِمَّا فِي قَوْلِهِمْ إنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمٍ؛ فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّ خَطَأَهُمْ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ؟ ، فَإِنْ قُلْتُمْ: قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِ الْجِسْمِ، قِيلَ لَكُمْ: ذَلِكَ الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ يَنْفِي قِيَامَ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَعْرَاضُ بِهِ، إذْ لَا يُعْقَلُ مَا يَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ إلَّا الْجِسْمُ، وَيُقَالُ لَكُمْ: الدَّلِيلُ الَّذِي نَفَيْتُمْ بِهِ الْجِسْمَ إنَّمَا هُوَ الِاسْتِدْلَال عَلَى حُدُوثِهِ بِحُدُوثِ الْأَعْرَاضِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ آخِرُهُ بَعْدَ تَقْرِيرِ كُلِّ مُقَدِّمَةٍ هُوَ مَنْعُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا، وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ إنْ صَحَّتْ لَزِمَكُمْ إثْبَاتُ حَوَادِثَ بِلَا سَبَبٍ؛ وَذَلِكَ يُبْطِلُ أَصْلَ دَلِيلِكُمْ عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ، فَإِنَّهُ مَتَى جُوِّزَ الْحُدُوثُ بِلَا مُرَجِّحٍ تَامٍّ يَلْزَمُ مِنْهُ الْحُدُوثُ لَزِمَ تَرْجِيحُ أَحَدِ طَرَفَيْ الْمُمْكِنِ، عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَهَذَا يَسُدُّ بَابَ إثْبَاتِ الصَّانِعِ، بَلْ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْوُجُودِ مَوْجُودٌ وَاجِبٌ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مِنْ أَفْسَدِ مَا يُقَالُ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْهُ عَاقِلٌ. [بَابٌ فِي ذِكْرِ كَلَامِ الْأَشْعَرِيَّةِ] قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو إسْمَاعِيلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ فِي كِتَابِهِ " ذَمُّ الْكَلَامِ ": بَابٌ فِي ذِكْرِ كَلَامِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَلَمَّا نَظَرَ الْمُبَرَّزُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَأَهْلُ الْفَهْمِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ طَوَايَا كَلَامِ الْجَهْمِيَّةِ وَمَا أَوْدَعَتْهُ مِنْ رُمُوزِ الْفَلَاسِفَةِ وَلَمْ نَقِفْ مِنْهُمْ إلَّا عَلَى التَّعْطِيلِ الْبَحْتِ، وَأَنَّ قُطْبَ مَذْهَبِهِمْ وَمُنْتَهَى عَقِيدَتِهِمْ مَا صَرَّحَتْ بِهِ رُءُوسُ الزَّنَادِقَةِ قَبْلَهُمْ أَنَّ الْفَلَكَ دَوَّارٌ وَالسَّمَاءَ خَالِيَةٌ، وَأَنَّ قَوْلَهُمْ: إنَّهُ تَعَالَى فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ، مَا اسْتَثْنَوْا جَوْفَ كَلْبٍ وَلَا جَوْفَ خِنْزِيرٍ وَلَا حَشَاهُ. فِرَارًا مِنْ الْإِثْبَاتِ وَذَهَابًا عَنْ التَّحْقِيقِ. وَإِنَّ قَوْلَهُمْ: سَمِيعٌ بِلَا سَمْعٍ، بَصِيرٌ بِلَا بَصَرٍ، عَلِيمٌ بِلَا عِلْمٍ، قَدِيرٌ بِلَا قُدْرَةٍ، إلَهٌ بِلَا نَفْسٍ وَلَا شَخْصٍ وَلَا صُورَةٍ؛ ثُمَّ قَالُوا: لَا حَيَاةَ لَهُ، ثُمَّ قَالُوا: لَا شَيْءَ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْئًا لَأَشْبَهَ الْأَشْيَاءَ. حَامُوا حَوْلَ مَقَالِ رُءُوسِ الزَّنَادِقَةِ الْقُدَمَاءِ إذْ قَالُوا: الْبَارِي لَا صِفَةَ وَلَا لَا صِفَةَ، خَافُوا عَلَى قُلُوبِ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْغَفْلَةِ وَقِلَّةِ الْفَهْمِ مِنْهُمْ؛ إذْ كَانَ ظَاهِرُ تَعَلُّقِهِمْ بِالْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ اعْتِصَامًا بِهِ مِنْ السَّيْفِ وَاجْتِنَابًا بِهِ؛ وَإِذْ هُمْ يَرَوْنَ التَّوْحِيدَ

وَيُخَاوِضُونَ الْمُسْلِمِينَ وَيَحْمِلُونَ الطَّيَالِسَةَ، فَأَفْصَحُوا بِمَعَانِيهِمْ وَصَاحُوا بِسُوءِ ضَمَائِرِهِمْ. وَنَادَوْا عَلَى خَبَايَا نُكَتِهِمْ. فَيَا طُولَ مَا لَقُوا فِي أَيَّامِهِمْ مِنْ سُيُوفِ الْخُلَفَاءِ وَأَلْسُنِ الْعُلَمَاءِ وَهِجْرَانِ الدَّهْمَاءِ، فَقَدْ شُحِنَتْ كُتُبُ تَكْفِيرِ الْجَهْمِيَّةِ مِنْ مَقَالَاتِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ، وَدَأْبِ الْخُلَفَاءِ فِيهِمْ، وَدَقِّ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَيْهِمْ، وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إخْرَاجِهِمْ مِنْ الْمِلَّةِ. ثَقُلَتْ عَلَيْهِمْ الْوَحْشَةُ، وَطَالَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ، وَأَعْيَتْهُمْ الْحِيلَةُ، إلَّا أَنْ يُظْهِرُوا الْخِلَافَ لِأَوَّلِيهِمْ وَالرَّدَّ عَلَيْهِمْ، وَيَصُفُّوا كَلَامَهُمْ صَفًّا يَكُونُ أَلْوَحَ لِلْأَفْهَامِ وَأَنْجَعَ فِي الْعَوَامّ مِنْ أَسَاسِ أَوَّلِهِمْ، لِيَجِدُوا بِذَلِكَ الْمَسَاغَ وَيَتَخَلَّصُوا مِنْ خِزْيِ الشَّنَاعَةِ، فَجَاءَتْ بِمَخَارِيقَ تَتَرَاءَى لِلْغَبِيِّ بِغَيْرِ مَا فِي الْحَشَايَا. يَنْظُرُ النَّاظِرُ الْفَهْمَ فِي حَذَرِهَا فَيَرَى مُخَّ الْفَلْسَفَةِ يَكْسُو لِحَاءَ السُّنَّةِ، وَعَقْدَ الْجَهْمِيَّةِ يَنْحَلُ أَلْقَابَ الْحِكْمَةِ،، يَرُدُّونَ عَلَى الْيَهُودِ قَوْلَهُمْ: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] فَيُنْكِرُونَ الْغُلَّ، وَيُنْكِرُونَ الْيَدَ، فَيَكُونُونَ أَسْوَأَ حَالًا مِنْ الْيَهُودِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَثْبَتَ الصِّفَةَ وَنَفَى الْعَيْبَ وَالْيَهُودُ أَثْبَتَتْ الصِّفَةَ وَأَثْبَتَتْ الْعَيْبَ، وَهَؤُلَاءِ نَفَوْا الصِّفَةَ كَمَا نَفَوْا الْعَيْبَ. وَيَرُدُّونَ عَلَى النَّصَارَى فِي مَقَالِهِمْ فِي عِيسَى وَأُمِّهِ، فَيَقُولُونَ: لَا يَكُونُ فِي الْمَخْلُوقِ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ، فَيُبْطِلُونَ الْقُرْآنَ، فَلَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَلْبَابِ أَنَّ كَلَامَ أَوَّلِيهِمْ وَكَلَامَ آخِرِيهِمْ كَخَيْطِ السَّحَّارَةِ،، فَاسْمَعُوا الْآنَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، وَانْظُرُوا مَا فَضَلَ هَؤُلَاءِ عَلَى أُولَئِكَ: أُولَئِكَ قَالُوا - قَبَّحَ اللَّهُ مَقَالَتَهُمْ - إنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِكُلِّ مَكَان، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَيْسَ هُوَ فِي مَكَان، وَلَا يُوصَفُ بِأَيْنَ. وَقَدْ قَالَ الْمُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ لِجَارِيَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ " أَيْنَ اللَّهُ "؟ . وَقَالُوا: هُوَ مِنْ فَوْقُ كَمَا هُوَ مِنْ تَحْتُ، لَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ وَلَا يُوصَفُ بِمَكَانٍ، وَلَيْسَ هُوَ فِي السَّمَاءِ وَلَيْسَ هُوَ فِي الْأَرْضِ، وَأَنْكَرُوا الْجِهَةَ وَالْحَدَّ؛ وَقَالَ أُولَئِكَ: لَيْسَ

لَهُ كَلَامٌ إنَّمَا خَلَقَ كَلَامًا، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ تَكَلَّمَ مَرَّةً فَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِهِ مُذْ تَكَلَّمَ لَمْ يَنْقَطِعْ الْكَلَامُ وَلَا يُوجَدُ كَلَامُهُ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ هُوَ بِهِ. ثُمَّ تَقُولُونَ: لَيْسَ هُوَ فِي مَكَان: ثُمَّ قَالُوا: لَيْسَ هُوَ صَوْتٌ وَلَا حُرُوفٌ، وَقَالُوا هَذَا زَاجٌ وَوَرَقٌ، وَهَذَا صُوفٌ وَخَشَبٌ، وَهَذَا إنَّمَا قُصِدَ بِهِ النَّفْسُ وَأُرِيدَ بِهِ النَّقْرُ، وَهَذَا صَوْتُ الْقَارِئِ مَا تَرَى مِنْهُ حَسَنٌ وَمِنْهُ قَبِيحٌ؛ وَهَذَا لَفْظُهُ أَوَ مَا تَرَاهُ يُجَازِي بِهِ حَتَّى قَالَ رَأْسٌ مِنْ رُءُوسِهِمْ: أَوَ يَكُونُ قُرْآنٌ مِنْ لَبَدٍ؟ وَقَالَ آخَرُ مِنْ خَشَبٍ؛ فَرَاعُوا فَقَالُوا هَذَا حِكَايَةٌ عُبِّرَ بِهَا عَنْ الْقُرْآنِ، وَاَللَّهُ تَكَلَّمَ مَرَّةً وَلَا يَتَكَلَّمُ بَعْدَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالُوا: غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَنْ قَالَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَهَذَا مِنْ فُخُوخِهِمْ يَصْطَادُونَ بِهِ قُلُوبَ عَوَامِّ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَوْجُودٍ لَفَظَتْهُ الْجَهْمِيَّةُ الذُّكُورُ بِمَرَّةٍ، وَالْأَشْعَرِيَّةُ الْإِنَاثُ بِعَشْرِ مَرَّاتٍ. وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: لَا صِفَةَ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: وَجْهٌ كَمَا يُقَالُ وَجْهُ النَّهَارِ وَوَجْهُ الْأَمْرِ وَوَجْهُ الْحَدِيثِ، وَعَيْنٌ كَعَيْنِ الْمَتَاعِ، وَسَمْعٌ كَأُذُنِ الْجِدَارِ، وَبَصَرٌ كَمَا يُقَالُ جِدَارُهُمَا يَتَرَاءَانِ، وَيَدٌ كَيَدِ الْمِنَّةِ وَالْعَطِيَّةِ، وَالْأَصَابِعُ كَقَوْلِهِمْ خُرَاسَانَ بَيْنَ أَصَابِعِ الْأَمِيرِ، وَالْقَدَمَانِ كَقَوْلِهِمْ جَعَلْت الْخُصُومَةَ تَحْتَ قَدَمِي، وَالْقَبْضَةُ كَمَا قِيلَ فُلَانٌ فِي قَبْضَتِي، أَيْ: أَمْلِكُ أَمْرَهُ. وَقَالُوا: الْكُرْسِيُّ الْعِلْمُ؛ وَالْعَرْشُ الْمُلْكُ؛ وَالضَّحِكُ الرِّضَا؛ وَالِاسْتِوَاءُ الِاسْتِيلَاءُ وَالنُّزُولُ الْقَبُولُ، وَالْهَرْوَلَةُ مِثْلُهُ؛ فَشَبَّهُوا مِنْ وَجْهٍ وَأَنْكَرُوا مِنْ وَجْهٍ؛ وَخَالَفُوا السَّلَفَ وَتَعَدَّوْا الظَّاهِرَ وَرَدُّوا الْأَصْلَ وَلَمْ يُثْبِتُوا شَيْئًا وَلَمْ يُبْقُوا مَوْجُودًا، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ التَّفْسِيرِ وَالْعِبَارَةِ بِالْأَلْسِنَةِ؛ فَقَالُوا لَا نُفَسِّرُهَا بِجَرْيِهَا عَرَبِيَّةً كَمَا وَرَدَتْ. وَقَدْ تَأَوَّلُوا تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ الْخَبِيثَةَ أَرَادُوا بِهَذِهِ الْمَخْرَقَةِ أَنْ يَكُونَ عَوَامُّ الْمُسْلِمِينَ أَبْعَدَ غِيَابًا عَنْهَا وَأَعْيَا ذَهَابًا مِنْهَا لِيَكُونُوا أَوْحَشَ عِنْدَ ذِكْرِهَا وَأَشْمَسَ عِنْدَ سَمَاعِهَا وَكَذَبُوا، بَلْ التَّفْسِيرُ أَنْ يُقَالَ وَجْهٌ، ثُمَّ يُقَالُ: كَيْفَ؟ وَلَيْسَ كَيْفَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ مَقَالِ الْمُسْلِمِينَ. فَأَمَّا الْعِبَارَةُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] () وَإِنَّمَا قَالُوا

هُمْ بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَحَكَاهَا عَنْهُمْ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَانَ يُكْتَبُ لِرَسُولِ اللَّهِ كِتَابَةً بِالْعَرَبِيَّةِ فِيهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ، فَيُعَبِّرُ بِالْأَلْسِنَةِ عَنْهَا، وَيُكْتَبُ إلَيْهِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ فَيُعَبِّرُ لَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْعَرَبِيَّةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يُدْعَى بِكُلِّ لِسَانٍ بِأَسْمَائِهِ فَيُجِيبُ وَيُحْلَفُ بِهَا فَيَلْزَمُ وَيُنْشَدُ فَيُجَازِي، وَيُوصَفُ فَيُعْرَفُ. ثُمَّ قَالُوا: لَيْسَ ذَاتُ الرَّسُولِ بِحُجَّةٍ، وَقَالُوا: مَا هُوَ بَعْدَمَا مَاتَ بِمُبَلِّغٍ فَيَلْزَمُ بِهِ الْحُجَّةُ، فَسَقَطَ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي السَّمَاءِ رَبٌّ، وَلَا فِي الرَّوْضَةِ رَسُولٌ وَلَا فِي الْأَرْضِ كِتَابٌ، كَمَا سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ عَمَّارٍ يَحْكُمُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مَوَّهُوهَا وَوَرَّوْا عَنْهَا وَاسْتَوْحَشُوا مِنْ تَصْرِيحِهَا، فَإِنَّ حَقَائِقَهَا لَازِمَةٌ لَهُمْ؛ وَأَبْطَلُوا التَّقْلِيدَ، فَكَفَّرُوا آبَاءَهُمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَعَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ. وَأَوْجَبُوا النَّظَرَ فِي الْكَلَامِ وَاضْطَرُّوا إلَيْهِ الدِّينَ بِزَعْمِهِمْ، فَكَفَّرُوا السَّلَفَ وَسَمَّوْا الْإِثْبَاتَ تَشْبِيهًا، فَعَابُوا الْقُرْآنَ وَضَلَّلُوا رَسُولَ اللَّهِ. فَلَا يَكَادُ يُرَى مِنْهُمْ رَجُلًا وَرِعًا، وَلَا لِلشَّرِيعَةِ مُعَظِّمًا وَلَا لِلْقُرْآنِ مُحْتَرِمًا وَلَا لِلْحَدِيثِ مُوَقِّرًا، سُلِبُوا التَّقْوَى وَرِقَّةَ الْقَلْبِ وَبَرَكَةَ التَّعَبُّدِ وَوَقَارَ الْخُشُوعِ. وَاسْتَفْضَلُوا الرَّسُولَ فَانْظُرْ أَنْتَ إلَى أَحَدِهِمْ إذْ لَا هُوَ طَالِبُ أَثَرِهِ وَلَا مُتَّبِعُ أَخْبَارِهِ وَلَا مُنَاضِلٌ عَنْ سُنَّتِهِ وَلَا هُوَ رَاغِبٌ فِي أُسْوَتِهِ يَتَلَقَّبُ بِمَرْتَبَةِ الْعِلْمِ وَمَا عَرَفَ حَدِيثًا وَاحِدًا، تَرَاهُ يَهْزَأُ بِالدِّينِ وَيَضْرِبُ لَهُ الْأَمْثَالَ وَيَتَلَعَّبُ بِأَهْلِ السُّنَّةِ وَيُخْرِجُهُمْ أَصْلًا مِنْ الْعِلْمِ. لَا تَنْقُرُ لَهُمْ عَنْ بِطَانَةٍ إلَّا خَانَتْك، وَلَا عَنْ عَقِيدَةٍ إلَّا أَرَابَتْك، أَلَيْسُوا ظَلَمَةَ الْهَوَى وَسُلِبُوا هَيْبَةَ الْهُدَى، فَتَنْبُو عَنْهُمْ الْأَعْيُنُ وَتَشْمَئِزُّ مِنْهُمْ الْقُلُوبُ وَقَدْ شَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ رَأْسَهُمْ عَلِيَّ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيَّ كَانَ لَا يَسْتَنْجِي وَلَا يَتَوَضَّأُ وَلَا يُصَلِّي. قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ زَيْدٍ الْعُمَرِيَّ النَّسَّابَةَ أَخْبَرَنَا الْمُعَافِي سَمِعَتْ أَبَا الْفَضْلِ الْحَارِثِيَّ الْقَاضِي بِسَرْخَسَ يَقُولُ سَمِعْت زَاهِرَ بْنَ أَحْمَدَ يَقُولُ: أَشْهَدُ لَمَاتَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ مُتَحَيِّرًا لِمَسْأَلَةِ تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ، فَلَا هُدَى اللَّهِ أَنَاطَ مَخَارِيقَهُ بِمَذْهَبِ الْإِمَامِ الْمُطَّلِبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَكَانَ مِنْ أَبَرِّ خَلْقِ اللَّهِ قَلْبًا وَأَصْوَبِهِمْ صَمْتًا وَأَهْدَاهُمْ هَدْيًا وَأَعْمَقِهِمْ قَلْبًا وَأَقَلِّهِمْ تَعَمُّقًا وَأَقْرَبِهِمْ لِلدِّينِ وَأَبْعَدِهِمْ مِنْ التَّنَطُّعِ وَأَنْصَحِهِمْ لِخَلْقِ اللَّهِ جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.

قَالَ: وَرَأَيْتُ مِنْهُمْ قَوْمًا يَجْتَهِدُونَ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَحَفُّظِ حُرُوفِهِ وَالْإِكْثَارِ مِنْ خَتْمِهِ، ثُمَّ اعْتِقَادُهُمْ فِيهِ مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ اجْتِهَادُ رَوَغَانٍ كَالْخَوَارِجِ. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ حَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: إنَّا آمَنَّا وَلَمْ نَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَسَيَجِيءُ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَلَا يُؤْمِنُونَ، قَالَ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُنَّا نُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ الدَّهْرِ وَإِنَّ أَحَدَنَا يُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَفِي لَفْظٍ: إنَّا كُنَّا صُدُورَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ وَصَالِحِيهِمْ مَا يُقِيمُ إلَّا سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ شِبْهَ ذَلِكَ، وَكَانَ الْقُرْآنُ ثَقِيلًا عَلَيْهِمْ وَرُزِقُوا عِلْمًا بِهِ وَعَمَلًا، وَإِنَّ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَخِفُّ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ حَتَّى يَقْرَأَهُ الصَّبِيُّ وَالْعَجَمِيُّ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهُ شَيْئًا، أَوْ قَالَ لَا يُسَلِّمُونَ مِنْهُ الشَّيْءَ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالْكَائِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ فِي شَرْحِ أُصُولِ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَمَّا ذَكَرَ عُقُوبَاتِ الْأَئِمَّةِ لِأَهْلِ الْبِدَعِ، قَالَ: وَاسْتَتَابَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرُ بِاَللَّهِ، حَرَسَ اللَّهُ مُهْجَتَهُ وَأَمَدَّ بِالتَّوْفِيقِ أُمُورَهُ وَوَفَّقَهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِمَا يَرْضَى مَلِيكَتَهُ فُقَهَاءَ الْمُعْتَزِلَةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعمِائَةِ فَأَظْهَرُوا الرُّجُوعَ وَتَبَرُّوا مِنْ الِاعْتِزَالِ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ الْكَلَامِ وَالتَّدْرِيسِ وَالْمُنَاظَرَةِ فِي الِاعْتِزَالِ وَالرَّقْصَةِ وَالْمَقَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ وَأَخَذَ خُطُوطَهُمْ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ مَهْمَا خَالَفُوهُ حَلَّ بِهِمْ مِنْ النَّكَالِ وَالْعُقُوبَةِ مَا يُتَّعَظُ بِهِ. وَامْتَثَلَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ وَأَمِينُ الْمِلَّةِ أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودٌ يَعْنِي ابْنَ سُبُكْتِكِينَ، أَعَزّ اللَّهُ نَصْرَهُ أَمْرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرِ بِاَللَّهِ وَاسْتَنَّ بِسُنَنِهِ فِي أَعْمَالِهِ الَّتِي اسْتَخْلَفَهُ عَلَيْهَا مِنْ خُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا فِي قَتْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْقَرَامِطَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْمُشَبِّهَةِ وَصَلَبَهُمْ وَحَبَسَهُمْ وَنَفَاهُمْ، وَأَمَرَ بِاللَّعْنِ عَلَيْهِمْ عَلَى مَنَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِبْعَادِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَطَرْدِهِمْ عَنْ دِيَارِهِمْ، وَصَارَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ إلَى أَنْ يَرِثَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَهُوَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ. وَجَرَى ذَلِكَ عَلَى يَدِ الْحَاجِبِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ عَمَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ وَثَبَّتَهُ إلَى أَنْ يَرِثَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَهُوَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ.

قُلْت: وَقَدْ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ فِي كِتَابِ ذَمِّ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ فِي الطَّبَقَةِ الثَّامِنَةِ، قَالَ: وَفِيهَا نَجَحَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ، ثُمَّ ذَكَرَ الطَّبَقَةَ التَّاسِعَةَ، وَذَكَرَ فِيهَا كَلَامَ مَنْ ذَكَرَهُ فِيهِمْ. ثُمَّ قَالَ: قَرَأْتُ كِتَابَ مَحْمُودٍ الْأَمِيرِ بَحَثَ فِيهِ عَلَى كَشْفِ أَسْتَارِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ وَالْإِفْصَاحِ بِعَيْبِهِمْ وَلَعَنَهُمْ حَتَّى كَانَ قَدْ قَالَ فِيهِ: أَنَا أَلْعَنُ مَنْ لَا يَلْعَنُهُمْ فَطَارُوا لِلَّهِ فِي الْآفَاقِ لِلْحَامِدِينَ كُلَّ مَطَارٍ، وَسَارُوا فِي الْمَادِحِينَ كُلَّ مَسَارٍ، لَا تَرَى عَاقِلًا إلَّا وَهُوَ يَنْسُبُهُ إلَى مَتَانَةِ الدِّينِ وَصَلَابَتِهِ، وَيَصِفُهُ بِشَهَامَةِ الرَّأْيِ وَنَجَابَتِهِ فَمَا ظَنُّك بِدِينٍ يَخْفَى فِيهِ ظُلْمُ الْعُيُوبِ وَتَتَجَلَّى عَنْهُ بِهِمْ الْقُلُوبُ، وَدِينٍ يُنَاجِي بِهِ أَصْحَابُهُ، وَتَبَرَّى مِنْهُ أَرْبَابُهُ، وَمَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْكَتَاتِيبِ، وَيُجْهَرُ بِهِ فِي الْمَحَارِيبِ، وَحَدِيثُ الْمُصْطَفَى يُقْرَأُ فِي الْجَوَامِعِ، وَيُسْتَمَعُ فِي الْمَجَامِعِ وَتُشَدُّ إلَيْهِ الرِّحَالُ، وَيُتَّبَعُ فِي الْبَرَارِيِّ. وَالْفُقَهَاءُ فِي الْقَلَانِسِ يُفْصِحُونَ فِي الْمَجَالِسِ، وَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْخَفَايَا يُرْسَلُ بِهِ الزَّوَايَا، قَدْ أُلْبِسَ أَهْلُهُ الذِّلَّةَ وَاسْتَعَرَ بِهِمْ ظُلْمُهُ يَرْمُونَ بِالْأَلْحَاظِ، وَيَخْرُجُونَ مِنْ الْحُفَّاظِ، يُسَبُّ بِهِمْ أَوْلَادُهُمْ، وَتَبْرَأُ مِنْهُمْ أَوْدَاؤُهُمْ يَلْعَنُهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ يَتَلَاعَنُونَ. ثُمَّ إنَّهُ جَرَى بَعْدَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ الْقَائِمِ فِي مَمْلَكَةِ السَّلَاجِقَةِ ظَفَرْلَنْكْ وَذَوِيهِ لَعْنُ الْمُبْتَدِعَةِ أَيْضًا، وَأَنَّهُ أَدْخَلَ فِيهِمْ الْأَشْعَرِيَّةَ لِقَصْدِ التَّشَفِّي وَالتَّسَلِّي فَإِنَّهُ ذَكَرَ رِسَالَةَ أَبِي بَكْرٍ الْبَيْهَقِيّ إلَى الْوَزِيرِ فِي اسْتِدْرَاكِ ذَلِكَ، قَالَ فِيهَا: " ثُمَّ إنَّ السُّلْطَانَ - أَعَزَّ اللَّهُ نَصْرَهُ وَصَرَفَ هِمَّتَهُ الْعَالِيَةَ إلَى نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ وَقَمْعِ أَعْدَاءِ اللَّهِ - بَعْدَ مَا تَقَرَّرَ لِلْكَافَّةِ حُسْنُ اعْتِقَادِهِ بِتَقْرِيرِ خُطَبَاءِ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ عَلَى لَعْنِ مَنْ اسْتَوْجَبَ اللَّعْنَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ بِبِدْعَتِهِ، وَأَيِسَ أَهْلُ الزَّيْغِ عَنْ زَيْغِهِ عَنْ الْحَقِّ وَمَيْلِهِ عَنْ الْقَصْدِ، فَأَلْقَوْا فِي سَمْعِهِ مَا فِيهِ مَسَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَافَّةً وَمُصِيبَتُهُمْ عَامَّةً مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ لَا يَذْهَبُونَ فِي التَّعْطِيلِ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَا يَسْلُكُونَ فِي التَّشْبِيهِ طُرُقَ الْمُجَسِّمَةِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا لِيَلْبَسُوا بِالْأُسْوَةِ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسَاءَةِ عَمَّا يَسُوءُهُمْ مِنْ اللَّعْنِ وَالْقَمْعِ فِي هَذِهِ الدَّوْلَةِ الْمَنْصُورَةِ " وَذَكَرَ تَمَامَ الرِّسَالَةِ فِي بَيَانِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمُسَاءَلَتِهِ الْمَنْعَ مِنْ إدْخَالِهِمْ فِي اللَّعْنَةِ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ: وَإِنَّمَا كَانَ انْتِشَارُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ

الْمِحْنَةِ، وَإِشْعَارِ مَا أَشَارَ بِإِطْفَائِهِ فِي رِسَالَتِهِ مِنْ الْفِتْنَةِ مِمَّا تَقَدَّمَ بِهِ مِنْ سَبِّ حِزْبَ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي دَوْلَةِ السُّلْطَانِ ظَفَرْلَنْكْ وَوَزِيرِهِ أَبِي نَصْرٍ مَنْصُورِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكُنْدُرِيِّ، وَكَانَ السُّلْطَانُ حَنَفِيًّا سُنِّيًّا، وَكَانَ وَزِيرُهُ مُعْتَزِلِيًّا رَافِضِيًّا، فَلَمَّا أَمَرَ السُّلْطَانُ بِلَعْنِ الْمُبْتَدِعَةِ عَلَى الْمَنَابِرِ فِي الْجُمَعِ، قَرَنَ الْكُنْدُرِيُّ لِلتَّسَلِّي وَالتَّشَفِّي اسْمَ الْأَشْعَرِيَّةِ بِأَسْمَاءِ أَرْبَابِ الْبِدَعِ، وَامْتَحَنَ الْأَئِمَّةَ الْأَمَاثِلَ وَقَصَدَ الصُّدُورَ الْأَفَاضِلَ، وَعَزَلَ أَبَا عُثْمَانَ الصَّابُونِيَّ عَنْ الْخَطَابَةِ بِنَيْسَابُورَ، وَفَوَّضَهَا إلَى بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَخَرَجَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ وَالْإِمَامُ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ عَنْ الْبَلَدِ، فَلَمْ يَكُنْ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ ذَلِكَ السُّلْطَانُ وَتَوَلَّى ابْنُهُ الْبَارْسِلَانُ وَاسْتَوْزَرَ الْوَزِيرَ الْكَامِلَ أَبَا عَلِيٍّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ إِسْحَاقَ فَأَعَزَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَقَمَعَ أَهْلَ النِّفَاقِ وَأَمَرَ بِإِسْقَاطِ ذِكْرِهِمْ مِنْ السَّبِّ، وَإِفْرَادِ مَنْ عَدَاهُمْ بِاللَّعْنِ وَالسَّبِّ، وَاسْتَرْجَعَ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ إلَى وَطَنِهِ، وَاسْتَقْدَمَهُ مُكَرَّمًا بَعْدَ بُعْدِهِ وَظَعْنِهِ. وَذَكَرَ قِصَّةَ أَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيِّ الَّتِي سَمَّاهَا " شِكَايَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ "، بِحِكَايَةِ مَا نَالَهُمْ مِنْ الْمِحْنَةِ ". قَالَ فِيهَا: وَمِمَّا ظَهَرَ بِنَيْسَابُورَ فِي مُفْتَتَحِ سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعمِائَةٍ مَا دَعَا أَهْلَ الدِّينِ إلَى سُوءِ ضُرٍّ أَضَرَّهُمْ وَكَشَفَ قِنَاعَ صَبْرِهِمْ. إلَى أَنْ قَالَ: ذَلِكَ بِمَا أَحْدَثَ مِنْ لَعْنِ إمَامِ الدِّينِ وَسِرَاجِ قَدَمِ ذَوِي الْيَقِينِ مُحْيِي السُّنَّةِ وَقَامِعِ الْبِدْعَةِ نَاصِرِ الْحَقِّ وَنَاصِحِ الْخَلْقِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ. قَالَ فِيهَا: وَلَمَّا مَنَّ اللَّهُ الْكَرِيمُ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِزِمَامِ الْمَلِكِ الْمُعَظَّمِ الْمُحَكَّمِ بِالْقُوَّةِ السَّمَاوِيَّةِ فِي رِقَابِ الْأُمَمِ الْمَلِكِ الْأَجَلِّ شَاهِنْشَاهْ يَمِينِ خَلِيفَةِ اللَّهِ وَغِيَاثِ عِبَادِ اللَّهِ ظَفَرْلَنْكْ أَبِي طَالِبٍ مُحَمَّدِ بْنِ مِيكَائِيلَ وَقَامَ بِإِحْيَاءِ السُّنَّةِ وَالْمُنَاضَلَةِ عَنْ الْمِلَّةِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ أَصْنَافِ الْمُبْتَدِعَةِ إلَّا سَلَّ لِاسْتِئْصَالِهِمْ سَيْفًا عَضْبًا وَإِذَاقَتِهِمْ ذُلًّا وَخَسْفًا، وَعَقَّبَ لِآرَائِهِمْ نَسْفًا، حَرِجَتْ صُدُورُ أَهْلِ الْبِدَعِ عَنْ تَحَمُّلِ هَذِهِ النِّقَمِ وَضَاقَ صَبْرُهُمْ عَنْ مُقَاسَاةِ هَذَا الْأَلَمِ، وَغُمُّوا بِلَعْنِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ بِانْفِرَادِهِمْ بِالْوُقُوعِ فِي مَهْوَاةِ مَحَبَّتِهِمْ فَسَوَّلَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَمْرًا فَظَنُّوا أَنَّهُمْ بِنَوْعِ تَلْبِيسٍ أَوْ ضَرْبِ تَدْلِيسٍ يَجِدُونَ لِعُسْرِهِمْ يُسْرًا فَسَعَوْا إلَى عَالِي مَجْلِسِ السُّلْطَانِ بِنَوْعِ نَمِيمَةٍ، وَنَسَبُوا الْأَشْعَرِيَّ إلَى مَذَاهِبَ ذَمِيمَةٍ، وَحَكَوْا عَنْهُ مَقَالَاتٍ لَا يُوجَدُ فِي كُتُبِهِ مِنْهَا حَرْفٌ وَلَمْ نَرَ فِي الْمَقَالَاتِ الْمُصَنَّفَةِ لِلْمُتَكَلِّمِينَ الْمُوَافِقِينَ وَالْمُخَالِفِينَ مِنْ وَقْتِ الْأَوَائِلِ إلَى

زَمَانِنَا هَذَا لِشَيْءٍ مِنْهَا حِكَايَةً وَلَا وَصْفًا، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ تَصْوِيرُ تَزْوِيرٍ وَبُهْتَانٌ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ. وَمَا نَقَمُوا مِنْ الْأَشْعَرِيِّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ بِإِثْبَاتِ الْقَدَرِ لِلَّهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، نَفْعِهِ وَضُرِّهِ، وَإِثْبَاتِ صِفَاتِ الْجَلَالِ مِنْ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ وَحَيَاتِهِ وَبَقَائِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَكَلَامِهِ وَوَجْهِهِ وَيَدِهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُ تَعَالَى مَوْجُودٌ تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ، وَأَنَّ إرَادَتَهُ نَافِذَةٌ فِي مُرَادَاتِهِ، وَمَا لَا يَخْفَى مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ الَّتِي تُخَالِفُ طَرِيقَةَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، وَذَكَرَ تَمَامَ الْكَلَامِ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي نُسِبَتْ إلَيْهِ. وَهُوَ كَلَامٌ طَوِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى سَبَبِ لَعْنِهِمْ عَلَى مَا نَقَلَهُ أَصْحَابُهُ الْمُعَظِّمُونَ لَهُ. وَأَمَّا بَغْدَادُ فَلَمْ تَجْرِ فِيهَا لَعْنَةُ أَحَدٍ عَلَى الْمَنَابِرِ، بَلْ كَانَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ مُنْتَسِبَةً إلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ " وَهَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي وَصْفِ اعْتِقَادِ الْأَشْعَرِيِّ. قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ وَصْفِ مَنْ وَصَفَ مِنْ الْعُلَمَاءِ: وَالْأَشْعَرِيُّ بِالرَّدِّ عَلَى الْبِدَعِ وَالِانْتِصَارِ لِلسُّنَّةِ وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذُكِرَ عَنْهُ مِنْ حُسْنِ الِاعْتِقَادِ مُسْتَصْوَبَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْعِلْمِ وَالِانْتِقَادِ، يُوَافِقُهُ فِي أَكْثَرِ مَا يَذْهَبُ إلَيْهِ أَكَابِرُ الْعِبَادِ، وَلَا يَقْدَحُ فِي مُعْتَقَدِهِ غَيْرُ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْعِنَادِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْكِيَ عَنْ مُعْتَقَدِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ، وَيَجْتَنِبَ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ أَوْ يُنْقِصَ مِنْهُ تَرْكًا لِلْخِيَانَةِ، لِيَعْلَمَ حَقِيقَةَ حَالِهِ فِي صِحَّةِ عَقِيدَتِهِ فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ. فَاسْمَعْ مَا ذَكَرَ. فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ الْإِبَانَةَ ". فَإِنَّهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْأَحَدُ الْوَاحِدُ الْعَزِيزُ الْمَاجِدُ، وَسَاقَ الْخُطْبَةَ إلَى أَنْ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَهْلِ الْقَدَرِ مَالَتْ بِهِمْ أَهْوَاؤُهُمْ إلَى التَّقْلِيدِ لِرُؤَسَائِهِمْ وَمَنْ مَضَى مِنْ أَسْلَافِهِمْ، فَتَأَوَّلُوا الْقُرْآنَ عَلَى آرَائِهِمْ تَأْوِيلًا لَمْ يُنْزِلْ اللَّهُ بِهِ سُلْطَانًا وَلَا أَوْضَحَ بِهِ بُرْهَانًا، وَلَا نَقَلُوهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا عَنْ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَخَالَفُوا رِوَايَةَ الصَّحَابَةِ عَنْ النَّبِيِّ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ بِالْأَبْصَارِ، وَقَدْ جَاءَتْ فِي ذَلِكَ الرِّوَايَاتُ مِنْ الْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَتَوَاتَرَتْ بِهَا الْآثَارُ وَتَتَابَعَتْ بِهَا الْأَخْبَارُ، وَأَنْكَرُوا شَفَاعَةَ رَسُولِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَرَدُّوا الرِّوَايَةَ فِي ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ

الْمُتَقَدِّمِينَ، وَجَحَدُوا عَذَابَ الْقَبْرِ وَأَنَّ الْكُفَّارَ فِي قُبُورِهِمْ يُعَذَّبُونَ، وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَدَانُوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ نَظِيرًا لِقَوْلِ إخْوَانِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 25] ، فَزَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ كَقَوْلِ الْبَشَرِ؛ وَأَثْبَتُوا أَنَّ الْعِبَادَ يَخْلُقُونَ الشَّرَّ نَظِيرًا لِقَوْلِ الْمَجُوسِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ خَالِقَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَخْلُقُ الْخَيْرَ، وَالْآخَرُ يَخْلُقُ الشَّرَّ. وَزَعَمَتْ الْقَدَرِيَّةُ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الْخَيْرَ وَأَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْلُقُ الشَّرَّ، وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَاءَ مَا لَا يَكُونُ خِلَافًا لِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَا يَشَاءُ لَا يَكُونُ، وَرَدًّا لِقَوْلِ اللَّهِ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] ، فَأَخْبَرَ أَنَّا لَا نَشَاءُ شَيْئًا، إلَّا وَقَدْ شَاءَ أَنْ نَشَاءَهُ، وَلِقَوْلِهِ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253] ، وَلِقَوْلِهِ: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] ، وَلِقَوْلِهِ مُخْبِرًا عَنْ شُعَيْبٍ أَنَّهُ قَالَ: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 89] () . وَلِهَذَا سَمَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّهُمْ دَانُوا بِدِيَانَةِ الْمَجُوسِ، وَضَاهَوْا قَوْلَهُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ خَالِقَيْنِ كَمَا زَعَمَتْ الْمَجُوسُ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ الشَّرِّ مَا لَا يَشَاؤُهُ اللَّهُ كَمَا قَالَتْ الْمَجُوسُ ذَلِكَ؛ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ لِأَنْفُسِهِمْ رَدًّا لِقَوْلِ اللَّهِ: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188] ، وَانْحِرَافًا عَنْ الْقُرْآنِ وَعَمَّا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ. وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يَنْفَرِدُونَ بِالْقُدْرَةِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ دُونَ رَبِّهِمْ، وَأَثْبَتُوا لِأَنْفُسِهِمْ غِنًى عَنْ اللَّهِ وَوَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْقُدْرَةِ عَلَى مَا لَمْ يَصِفُوا اللَّهَ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، كَمَا أَثْبَتَتْ الْمَجُوسُ لِلشَّيْطَانِ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الشَّرِّ مَا لَمْ يُثْبِتُوهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

فَكَانُوا مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إذْ دَانُوا بِدِيَانَةِ الْمَجُوسِ وَتَمَسَّكُوا بِأَقْوَالِهِمْ وَمَالُوا إلَى أَضَالِيلِهِمْ، وَقَنَّطُوا النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَآيَسُوهُمْ مِنْ رَوْحِهِ، وَحَكَمُوا عَلَى الْعُصَاةِ بِالنَّارِ وَالْخُلُودِ خِلَافًا لِقَوْلِ اللَّهِ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وَزَعَمُوا أَنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا خِلَافًا لِمَا جَاءَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ: «إنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ قَوْمًا بَعْدَ مَا امْتُحِشُوا فِيهَا وَصَارُوا حُمَمًا» وَدَفَعُوا أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَجْهٌ مَعَ قَوْلِهِ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ يَدَانِ مَعَ قَوْلِهِ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ عَيْنَانِ مَعَ قَوْلِهِ {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] ، وَقَوْلِهِ: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] ، وَنَفَوْا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ: «إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا» . وَأَنَا ذَاكِرٌ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ بَابًا بَابًا، وَبِهِ الْمَعُونَةُ وَمِنْهُ التَّوْفِيقُ وَالتَّسْدِيدُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْحَرُورِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْمُرْجِئَةِ، فَعَرِّفُونَا قَوْلَكُمْ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ، وَدِيَانَتَكُمْ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُنَا الَّذِي بِهِ نَقُولُ، وَدِيَانَتُنَا الَّتِي بِهَا نَدِينُ التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ. وَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَنَحْنُ بِذَلِكَ مُعْتَصِمُونَ، وَبِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَرَفَعَ دَرَجَتَهُ وَأَجْزَلَ مَثُوبَتَهُ قَائِلُونَ، وَلِمَنْ خَالَفَ قَوْلَهُ مُجَانِبُونَ، لِأَنَّهُ الْإِمَامُ الْفَاضِلُ وَالرَّئِيسُ الْكَامِلُ الَّذِي أَبَانَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ عِنْدَ ظُهُورِ الضَّلَالِ وَأَوْضَحَ بِهِ الْمِنْهَاجَ وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ وَشَكَّ الشَّاكِّينَ، فَرَحْمَةُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ إمَامٍ مُقَدَّمٍ وَكَبِيرٍ مُفَهِّمٍ، وَعَلَى جَمِيعِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَجُمْلَةُ قَوْلِنَا: أَنَّا نُقِرُّ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ لَا نَرُدُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَأَنَّ اللَّهَ إلَهٌ وَاحِدٌ فَرْدٌ صَمَدٌ لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ

وَالنَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وَأَنَّ لَهُ وَجْهًا كَمَا قَالَ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ كَمَا قَالَ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] وَقَالَ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وَأَنَّ لَهُ عَيْنَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] وَأَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اسْمَ اللَّهِ غَيْرُهُ كَانَ ضَالًّا. وَأَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا كَمَا قَالَ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] وَقَالَ: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11] وَنُثْبِتُ لَهُ قُوَّةً كَمَا قَالَ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] وَنُثْبِتُ لِلَّهِ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَلَا نَنْفِي ذَلِكَ كَمَا نَفَاهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّةُ وَالْخَوَارِجُ. وَنَقُولُ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا إلَّا وَقَدْ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ كَمَا قَالَ: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، وَأَنَّ الْأَشْيَاءَ تَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ اللَّهُ، وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْ اللَّهِ وَلَا نَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا خَالِقَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ أَعْمَالَ عِبَادِ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ مَقْدُورَةٌ لَهُ كَمَا قَالَ: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وَأَنَّ الْعِبَادَ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَخْلُقُوا شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ كَمَا قَالَ: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3] وَكَمَا قَالَ: {لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان: 3] وَكَمَا قَالَ: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل: 17]

وَكَمَا قَالَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] وَهَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ كَثِيرٌ. وَأَنَّ اللَّهَ وَفَّقَ الْمُؤْمِنِينَ لِطَاعَتِهِ وَلَطَفَ بِهِمْ وَنَظَرَ لَهُمْ وَأَصْلَحَهُمْ وَهَدَاهُمْ وَأَضَلَّ الْكَافِرِينَ وَلَمْ يَهْدِهِمْ وَلَمْ يَلْطُفْ بِهِمْ بِالْإِيمَانِ كَمَا زَعَمَ أَهْلُ الزَّيْغِ وَالطُّغْيَانِ، وَلَوْ لَطَفَ بِهِمْ وَأَصْلَحَهُمْ كَانُوا صَالِحِينَ، وَلَوْ هَدَاهُمْ كَانُوا مُهْتَدِينَ كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 178] ، وَأَنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ أَنْ يُصْلِحَ الْكَافِرِينَ وَيَلْطُفَ بِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونُوا كَافِرِينَ كَمَا عَلِمَ وَأَنَّهُ خَذَلَهُمْ وَطَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَأَنَّا نُؤْمِنُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ، وَنَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَنَا لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَنَا وَمَا أَخْطَأَنَا لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَنَا، وَأَنَّا لَا نَمْلِكُ لِأَنْفُسِنَا نَفْعًا وَلَا ضُرًّا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، وَأَنَّا نُلْجِئُ أُمُورَنَا إلَى اللَّهِ وَنُثْبِتُ الْحَاجَةَ وَالْفَقْرَ فِي كُلِّ وَقْتٍ إلَيْهِ. وَنَقُولُ: إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ كَانَ كَافِرًا، وَنَدِينُ أَنَّ اللَّهَ يُرَى بِالْأَبْصَارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يُرَى الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا جَاءَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ. وَنَقُولُ: إنَّ الْكَافِرِينَ، إذَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ، عَنْهُ مَحْجُوبُونَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] ، وَأَنَّ مُوسَى سَأَلَ اللَّهَ الرُّؤْيَةَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ اللَّهَ تَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَجَعَلَهُ دَكًّا فَعَلِمَ بِذَلِكَ مُوسَى أَنَّهُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا. وَنَرَى أَنْ لَا نُكَفِّرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ يَرْتَكِبُهُ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، كَمَا دَانَتْ بِذَلِكَ الْخَوَارِجُ، وَزَعَمُوا بِذَلِكَ أَنَّهُمْ كَافِرُونَ، وَنَقُولُ: إنَّ مَنْ عَمِلَ كَبِيرَةً مِنْ الْكَبَائِرِ وَمَا أَشْبَهَهَا مُسْتَحِلًّا لَهَا كَانَ كَافِرًا، إذَا كَانَ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِتَحْرِيمِهَا. وَنَقُولُ: إنَّ الْإِسْلَامَ أَوْسَعُ مِنْ الْإِيمَانِ، وَلَيْسَ كُلُّ إسْلَامٍ إيمَانًا وَنَدِينُ بِأَنَّهُ يُقَلِّبُ الْقُلُوبَ، وَأَنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ وَأَنَّهُ يَضَعُ السَّمَوَاتِ عَلَى أُصْبُعٍ

وَالْأَرَضِينَ عَلَى أُصْبُعٍ كَمَا جَاءَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ. وَنَدِينُ بِأَنْ لَا نُنْزِلَ أَحَدًا مِنْ الْمُوَحِّدِينَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِالْإِيمَانِ جَنَّةً وَلَا نَارًا إلَّا مَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ بِالْجَنَّةِ، وَنَرْجُو الْجَنَّةَ لِلْمُذْنِبِينَ وَنَخَافُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا بِالنَّارِ مُعَذَّبِينَ، وَنَقُولُ بِأَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْ النَّارِ قَوْمًا بَعْدَ مَا امْتُحِشُوا بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ. وَنُؤْمِنُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ. وَنَقُولُ: إنَّ الْحَوْضَ وَالْمِيزَانَ حَقٌّ، وَالصِّرَاطَ حَقٌّ، وَالْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ حَقٌّ، وَأَنَّ اللَّهَ يُوقِفُ الْعِبَادَ بِالْمَوْقِفِ وَيُحَاسِبُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَنُسَلِّمُ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ الَّتِي رَوَاهَا الثِّقَاتُ عَدْلٌ عَنْ عَدْلٍ حَتَّى تَنْتَهِيَ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ، وَنَدِينُ اللَّهَ بِحُبِّ السَّلَفِ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَنُثْنِي عَلَيْهِمْ بِمَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَنَتَوَلَّاهُمْ. وَنَقُولُ: إنَّ الْإِمَامَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَأَنَّ اللَّهَ أَعَزَّ بِهِ الدِّينَ وَأَظْهَرَهُ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ، وَقَدَّمَهُ الْمُسْلِمُونَ لِلْإِمَامَةِ كَمَا قَدَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ لِلصَّلَاةِ؛ ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ ثُمَّ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ، قَتَلَهُ قَاتِلُوهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ فَهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ. وَخِلَافَتُهُمْ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ. وَنَشْهَدُ لِلْعَشَرَةِ بِالْجَنَّةِ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ. وَنَتَوَلَّى أَصْحَابَ النَّبِيِّ. وَنَكُفُّ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَنَدِينُ اللَّهَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ رَاشِدُونَ مَهْدِيُّونَ فَضْلًا لَا يُوَازِنُهُمْ فِي الْفَضْلِ غَيْرُهُمْ. وَنُصَدِّقُ بِجَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي يُثْبِتُهَا أَهْلُ النَّقْلِ مِنْ النُّزُولِ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَأَنَّ الرَّبَّ يَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ، وَسَائِرِ مَا نَقَلُوهُ وَأَثْبَتُوهُ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ أَهْلُ الزَّيْغِ وَالتَّضْلِيلِ، وَنَقُولُ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَلَا نَبْتَدِعُ فِي دِينِ اللَّهِ بِدْعَةً لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهَا، وَلَا نَقُولُ عَلَى اللَّهِ مَا لَا نَعْلَمُ. وَنَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] وَإِنَّ اللَّهَ يَقْرُبُ مِنْ عِبَادِهِ كَيْفَ شَاءَ كَمَا قَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]

وَكَمَا قَالَ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8] {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] وَمِنْ دِينِنَا نُصَلِّي الْجُمَعَ وَالْأَعْيَادَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ الْجَمَاعَاتِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ، وَأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَنَرَى الدُّعَاءَ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّلَاحِ وَالْإِقْرَارِ بِإِمَامَتِهِمْ، وَتَضْلِيلَ مَنْ رَأَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ إذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ تَرْكُ الِاسْتِقَامَةِ، وَنَدِينُ بِتَرْكِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ بِالسَّيْفِ وَتَرْكِ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ. وَنُقِرُّ بِخُرُوجِ الدَّجَّالِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ. وَنُؤْمِنُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ وَمُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ وَمُسَاءَلَتِهِمْ الْمَدْفُونِينَ فِي قُبُورِهِمْ، وَنُصَدِّقُ بِحَدِيثِ الْمِعْرَاجِ وَنُصَحِّحُ كَثِيرًا مِنْ الرُّؤْيَا فِي الْمَنَامِ، وَنَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ تَفْسِيرٌ، وَنَرَى الصَّدَقَةَ عَنْ مَوْتَى الْمُؤْمِنِينَ وَالدُّعَاءَ لَهُمْ، وَنُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ يَنْفَعُهُمْ بِذَلِكَ، وَنُصَدِّقُ بِأَنَّ فِي الدُّنْيَا سَحَرَةً وَأَنَّ السِّحْرَ مَوْجُودٌ فِي الدُّنْيَا، وَنَدِينُ بِالصَّلَاةِ عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مُؤْمِنِهِمْ وَفَاجِرِهِمْ وَمُوَارَثَتَهُمْ، وَنُقِرُّ أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَبِأَجَلِهِ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، وَأَنَّ الْأَرْزَاقَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ يَرْزُقُهَا عِبَادَهُ حَلَالًا وَحَرَامًا، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ يُوَسْوِسُ لِلْإِنْسَانِ وَيُشَكِّكُهُ وَيَخْبِطُهُ، خِلَافًا لِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] ، وَكَمَا قَالَ: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس: 4] {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5] {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 6] وَنَقُولُ: إنَّ الصَّالِحِينَ يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّهُمْ اللَّهُ بِآيَاتٍ يُظْهِرُهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُنَا فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ: إنَّ اللَّهَ يُؤَجِّجُ لَهُمْ نَارًا فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ يَقُولُ اقْتَحِمُوهَا كَمَا جَاءَتْ الرِّوَايَةُ بِذَلِكَ؛ وَنَدِينُ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا الْعِبَادُ عَامِلُونَ وَإِلَى مَا هُمْ صَائِرُونَ، وَمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ، وَبِطَاعَةِ الْأَئِمَّةِ وَنَصِيحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَنَرَى مُفَارَقَةَ كُلِّ دَاعِيَةٍ وَمُجَانَبَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَسَنَحْتَجُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِنَا وَمَا بَقِيَ مِنْهُ وَمَا لَمْ نَذْكُرْهُ بَابًا بَابًا وَشَيْئًا شَيْئًا.

ثُمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَتَأَمَّلُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ هَذَا الِاعْتِقَادَ مَا أَوْضَحَهُ وَأَبَيْنَهُ، وَاعْتَرِفُوا بِفَضْلِ هَذَا الْإِمَامِ الْعَالِمِ الَّذِي شَرَحَهُ وَبَيَّنَهُ، وَانْظُرُوا سُهُولَةَ لَفْظِهِ فَمَا أَفْصَحَهُ وَأَبَيْنَهُ، وَكُونُوا مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، وَتَبَيَّنُوا فَضْلَ أَبِي الْحَسَنِ وَاعْرِفُوا إنْصَافَهُ، وَاسْمَعُوا وَصْفَهُ لِأَحْمَدَ بِالْفَضْلِ وَاعْتِرَافَهُ لِتَعْلَمُوا أَنَّهُمَا كَانَا فِي الِاعْتِقَادِ مُتَّفِقَيْنِ، وَفِي أُصُولِ الدِّينِ وَمَذْهَبِ السُّنَّةِ غَيْرُ مُفْتَرِقَيْنِ. وَلَمْ تَزَلْ الْحَنَابِلَةُ بِبَغْدَادَ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ عَلَى مَمَرِّ الْأَوْقَاتِ تَعْتَضِدُ بِالْأَشْعَرِيَّةِ عَلَى أَصْحَابِ الْبِدَعِ لِأَنَّهُمْ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِي الرَّدِّ عَلَى مُبْتَدِعٍ فَبِلِسَانِ الْأَشْعَرِيَّةِ يَتَكَلَّمُ، وَمَنْ حَقَّقَ مِنْهُمْ فِي الْأُصُولِ فِي مَسْأَلَةٍ فَمِنْهُمْ يَتَعَلَّمُ، فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى حَدَثَ الِاخْتِلَافُ فِي زَمَنِ أَبِي نَصْرٍ الْقُشَيْرِيِّ وَوَزَارَةِ النَّظَّامِ وَوَقَعَ بَيْنَهُمْ الِانْحِرَافُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ لِانْحِلَالِ النَّظَّامِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَزَلْ فِي الْحَنَابِلَةِ طَائِفَةٌ تَغْلُو فِي السُّنَّةِ وَتَدْخُلُ فِيمَا لَا يَعْنِيهَا حُبًّا لِلْحُقُوقِ فِي الْفِتْنَةِ وَلَا عَارَ عَلَى أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ صَنِيعِهِمْ وَلَيْسَ يَتَّفِقُ عَلَى ذَلِكَ رَأْيُ جَمِيعِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَفْصِ بْنُ شَاهِينَ وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ الدَّارَقُطْنِيِّ مَا قَرَأْته عَلَى عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْحَضَرِ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْكِنَانِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو النَّجِيبِ الْأُرْمَوِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ قَالَ سَمِعْت ابْنَ شَاهِينَ يَقُولُ: رَجُلَانِ صَالِحَانِ بُلِيَا بِأَصْحَابِ سُوءٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِيمَا رَدَّهُ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيِّ فِيمَا وَصَفَهُ مِنْ مَثَالِبِ الْأَشْعَرِيِّ: وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ تَصْنِيفَ الْإِبَانَةِ. قَالَ الْأَهْوَازِيُّ: وَلِلْأَشْعَرِيِّ كِتَابٌ فِي السُّنَّةِ قَدْ جَعَلَهُ أَصْحَابُهُ وِقَايَةً لَهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَتَوَلَّوْنَ بِهِ الْعَوَامَّ مِنْ أَصْحَابِنَا سَمَّاهُ " كِتَابُ الْإِبَانَةِ " صَنَّفَهُ بِبَغْدَادَ لَمَّا دَخَلَهَا. فَلَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ الْحَنَابِلَةُ وَهَجَرُوهُ. وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحُمْرَانِيَّ يَقُولُ: لَمَّا دَخَلَ الْأَشْعَرِيُّ إلَى بَغْدَادَ جَاءَ إلَى الْبَرْبَهَارِيِّ فَجَعَلَ يَقُولُ رَدَدْت عَلَى الْجُبَّائِيُّ وَعَلَى أَبِي هَاشِمٍ وَنَقَضْتُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعَلَى الْمَجُوسِ، فَقُلْت وَقَالُوا. وَأَكْثَرَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ. فَلَمَّا سَكَتَ قَالَ الْبَرْبَهَارِيُّ: مَا أَدْرِي مِمَّا قُلْتَ قَلِيلًا

وَلَا كَثِيرًا. مَا نَعْرِفُ إلَّا مَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَصَنَّفَ كِتَابَ الْإِبَانَةِ فَلَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ. وَلَمْ يَظْهَرْ بِبَغْدَادَ إلَى أَنْ خَرَجَ مِنْهَا. قَالَ: وَقَوْلُ الْأَهْوَازِيِّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا أَظْهَرَهُ مِنْ كِتَابِ الْإِبَانَةِ وَهَجَرُوهُ. فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ لَنَقَلُوهُ عَنْ أَشْيَاخِهِمْ وَلَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ صَدِيقًا لِلتَّمِيمِيِّينَ سَلَفِ أَبِي مُحَمَّدٍ رِزْقِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحَارِثِ. وَكَانُوا لَهُ مُكَرِّمِينَ وَقَدْ أَظْهَرَ بَرَكَةَ تِلْكَ الصُّحْبَةِ عَلَى أَعْقَابِهِمْ حَتَّى نُسِبَ إلَى مَذْهَبِهِ أَبُو الْخَطَّابِ الْكَلْوَاذَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِهِمْ وَهَذَا تِلْمِيذُ أَبِي الْخَطَّابِ أَحْمَدَ الْحَرْبِيِّ يُخْبِرُ بِصِحَّةِ مَا ذَكَرْته وَيُنْبِئُ. وَكَذَلِكَ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُجَاهِدٍ وَصَاحِبِ صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ مِنْ الْمُوَاصَلَةِ وَالْمُوَاكَلَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الِاخْتِلَاقِ مِنْ الْأَهْوَازِيِّ وَالتَّكْذِيبِ. قَالَ: وَقَدْ أَخْبَرَنِي الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ أَبِي سَعْدٍ الْبَزَّارُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ رِزْقُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ التَّمِيمِيُّ الْحَنْبَلِيُّ قَالَ: سَأَلْت الشَّرِيفَ أَبَا عَلِيٍّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي مُوسَى الْهَاشِمِيَّ فَقَالَ: حَضَرْت دَارَ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحَارِثِ التَّمِيمِيِّ سَنَةَ سَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ فِي دَعْوَةٍ عَمِلَهَا لِأَصْحَابِهِ حَضَرَهَا أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ شَيْخُ الْمَالِكِيِّينَ وَأَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ شَيْخُ الشَّافِعِيِّينَ وَأَبُو الْحَسَنِ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ شَيْخُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ سَمْعُونٍ شَيْخُ الْوُعَّاظِ وَالزُّهَّادِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُجَاهِدٍ شَيْخُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي دَارِ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ شَيْخِ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَوْ سَقَطَ السَّقْفُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَبْقَ بِالْعِرَاقِ مَنْ يُفْتِي فِي حَادِثَةٍ يُشْبِهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ. قَالَ: وَحِكَايَةُ الْأَهْوَازِيِّ عَنْ الْبَرْبَهَارِيِّ مِمَّا يَقَعُ فِي صِحَّتِهَا التَّمَارِي وَأَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى بُطْلَانِهَا قَوْلُهُ: إنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ بِبَغْدَادَ إلَى أَنْ خَرَجَ مِنْهَا وَهُوَ بَعْدَ أَنْ صَارَ إلَيْهَا لَمْ يُفَارِقْهَا وَلَا رَحَلَ عَنْهَا. قُلْت: لَا رَيْبَ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّةَ إنَّمَا تَعَلَّمُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِنْ أَتْبَاعِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَنَحْوِهِ بِالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ، فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّ أَخَذَ السُّنَّةَ بِالْبَصْرَةِ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى السَّاجِيِّ وَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْمُتَّبِعِينَ لِأَحْمَدَ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ أَخَذَ مِمَّنْ كَانَ بِهَا، وَلِهَذَا يُوجَدُ أَكْثَرُ أَلْفَاظِهِ الَّتِي يَذْكُرُهَا عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ إمَّا

أَلْفَاظُ زَكَرِيَّا عَنْ أَحْمَدَ فِي رَسَائِلِهِ الْجَامِعَةِ فِي السُّنَّةِ، وَإِلَّا فَالْأَشْعَرِيُّ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا يُعَرِّي أَقْوَالَهُمْ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَا يَعْرِفُ تَفَاصِيلَ أَقْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِ أَئِمَّتِهِمْ، وَقَدْ تَصَرَّفَ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ بِاجْتِهَادِهِ فِي مَوَاضِعَ يَعْرِفُهَا الْبَصِيرُ، وَأَمَّا خِبْرَتُهُ بِمَقَالَاتِ أَهْلِ الْكَلَامِ فَكَانَتْ خِبْرَةً تَامَّةً عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَلِهَذَا لَمَّا صَنَّفَ كِتَابَهُ فِي مَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيِّينَ ذَكَرَ مَقَالَاتِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَاخْتِلَافَهُمْ عَلَى التَّفْصِيلِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ فَلَمْ يَذْكُرْ عَنْهُمْ إلَّا جُمْلَةَ مَقَالَاتٍ، مَعَ أَنَّ لَهُمْ فِي تَفَاصِيلِ تِلْكَ مِنْ الْأَقْوَالِ أَكْثَرُ مِمَّا لِأَهْلِ الْكَلَامِ، وَذَكَرَ الْخِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي الدَّقِيقِ فَلَمْ يَذْكُرْ النِّزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي الدَّقِيقِ، وَبَيْنَهُمْ مُنَازَعَاتٌ فِي أُمُورٍ دَقِيقَةٍ لَطِيفَةٍ كَمَسْأَلَةِ اللَّفْظِ وَنُقْصَانِ الْإِيمَانِ وَتَفْضِيلِ عُثْمَانَ، وَبَعْضِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَنَفْيِ لَفْظِ الْجَبْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ دَقِيقِ الْقَوْلِ وَلَطِيفِهِ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا إطْلَاقُ مَدْحِ شَخْصٍ أَوْ طَائِفَةٍ، وَلَا إطْلَاقُ ذَمِّ ذَلِكَ، فَإِنَّ الصَّوَابَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُ قَدْ يَجْتَمِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ وَالطَّائِفَةِ الْوَاحِدَةِ مَا يُحْمَدُ بِهِ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَمَا يُذَمُّ بِهِ مِنْ السَّيِّئَاتِ، وَمَا لَا يُحْمَدُ بِهِ وَلَا يُذَمُّ مِنْ الْمَبَاحِثِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ مِنْ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ عَلَى حَسَنَاتِهِ وَيَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَى سَيِّئَاتِهِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ مَحْمُودًا وَلَا مَذْمُومًا عَلَى الْمُبَاحَاتِ وَالْمَعْفُوَّاتِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي فُسَّاقِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَنَحْوِهِمْ. وَإِنَّمَا يُخَالِفُ هَذَا الْوَعِيدِيَّةُ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ: مَنْ اسْتَحَقَّ الْمَدْحَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الثَّوَابَ، حَتَّى يَقُولُونَ: إنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا بَلْ يُخَلَّدُ فِيهَا، وَيُنْكِرُونَ شَفَاعَةَ مُحَمَّدٍ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ وَيُنْكِرُونَ خُرُوجَ أَحَدٍ مِنْ النَّارِ وَقَدْ تَوَاتَرَتْ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ بِخُرُوجِ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ حَتَّى يَقُولَ اللَّهُ: «أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ» ، وَبِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَلِهَذَا يَكْثُرُ فِي الْأُمَّةِ مِنْ أَئِمَّةِ الْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَمْرَانِ، فَبَعْضُ النَّاسِ يَقْتَصِرُ عَلَى ذِكْرِ مَحَاسِنِهِ

وَمَدْحِهِ، غُلُوًّا وَهَوًى، وَبَعْضُهُمْ يَقْتَصِرُ عَلَى ذِكْرِ مَسَاوِيهِ غُلُوًّا وَهَوًى، وَدِينُ اللَّهِ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَخِيَارُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا. وَلَا رَيْبَ أَنَّ لِلْأَشْعَرِيِّ فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ كَلَامًا حَسَنًا هُوَ مِنْ الْكَلَامِ الْمَقْبُولِ الَّذِي يُحْمَدُ قَائِلُهُ إذَا أَخْلَصَ فِيهِ النِّيَّةَ، وَلَهُ أَيْضًا كَلَامٌ خَالَفَ بِهِ بَعْضَ السُّنَّةِ هُوَ مِنْ الْكَلَامِ الْمَرْدُودِ الَّذِي يُذَمُّ بِهِ قَائِلُهُ إذَا أَصَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ الْحَسَنُ لَمْ يُخْلِصْ فِيهِ النِّيَّةَ، وَالْكَلَامُ السَّيِّئُ كَانَ صَاحِبُهُ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ لَمْ يَكُنْ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَدْحٌ وَلَا ذَمٌّ، بَلْ يُحْمَدُ نَفْسُ الْكَلَامِ الْمَقْبُولِ الْمُوَافِقِ لِلسُّنَّةِ وَيُذَمُّ الْكَلَامُ الْمُخَالِفُ لِلسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْمَرْجُوعَ إلَيْهِمْ فِي الدِّينِ مُخَالِفُونَ لِلْأَشْعَرِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ، وَإِنْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ مُعَظِّمِينَ لَهُ فِي أُمُورٍ أُخْرَى وَنَاهِينَ عَنْ لَعْنِهِ وَتَكْفِيرِهِ، وَمَادِحِينَ لَهُ بِمَا لَهُ مِنْ الْمَحَاسِنِ. وَبِزِيَادَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ هِيَ مَسْأَلَةُ الْكَلَامِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ هَلْ لَهُ صِيغَةٌ أَوْ لَيْسَ لَهُ صِيغَةٌ؟ بَلْ ذَلِكَ مَعْنًى قَائِمٌ بِالنَّفْسِ، فَإِذَا كَانُوا مُخَالِفِينَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَقَائِلِينَ بِأَنَّ الْكَلَامَ لَهُ الصِّيَغُ الَّتِي هِيَ الْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ الْمُؤَلَّفَةُ قَائِلِينَ خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيِّ مُصَرِّحِينَ بِأَنَّ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ عُلِمَ صِحَّةُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَوْلُهُمْ: لِلْأَمْرِ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَهُ فِي اللُّغَةِ تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا وَلِلنَّهْيِ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَهُ فِي اللُّغَةِ تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى كَوْنِهِ نَهْيًا، وَلِلْخَبَرِ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَهُ فِي اللُّغَةِ تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى كَوْنِهِ خَبَرًا، وَلِلْعُمُومِ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَهُ فِي، اللُّغَةِ تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ وَاسْتِيعَابِ الطَّبِيعَةِ أَجْوَدُ مِنْ قَوْلٍ اسْتَدْرَكَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ كَابْنِ عَقِيلٍ [الَّذِي قَالَ] : إنَّ الْأَجْوَدَ أَنْ يَقُولَ: الْأَمْرُ صِيغَةٌ، قَالُوا: لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ هُوَ نَفْسُ الصِّيَغِ الَّتِي هِيَ الْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ الْمُؤَلَّفَةُ؛ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ وَأَنْكَرَهُ هَؤُلَاءِ خَطَأٌ وَهُوَ لَوْ صَحَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْكَلَامَ مُجَرَّدُ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعْنَى: وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَ الْفُقَهَاءِ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهِمْ كَمَا قَالَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ، بَلْ مَذْهَبُهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ اسْمٌ لِلْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي جَمِيعًا، وَالْأَمْرُ لَيْسَ هُوَ اللَّفْظَ الْمُجَرَّدَ

فصل في مذهب الأشعري نفسه وطبقته

وَلَا الْمَعْنَى الْمُجَرَّدَ، بَلْ لَفْظُ الْأَمْرِ إذَا أُطْلِقَ فَإِنَّهُ يَنْتَظِمُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا، فَلِهَذَا قِيلَ صِيغَةٌ، كَمَا يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ جِسْمٌ أَوْ لِلْإِنْسَانِ رُوحٌ، وَكَمَا يُقَالُ لِلْكَلَامِ مَعْنًى وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الدِّمَشْقِيُّ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ خَالَفَ فِيهَا أَبُو إِسْحَاقَ الْأَشْعَرِيُّ فَيُقَالُ لَهُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ أَخَصُّ بِمَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ يَكُونُ الرَّجُلُ بِهَا مُخْتَصًّا بِكَوْنِهِ أَشْعَرِيًّا، وَلِهَذَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ الْخِلَافَ فِيهَا مَعَهُ، وَأَمَّا سَائِرُ الْمَسَائِلِ فَتِلْكَ لَا يَخْتَصُّ هُوَ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ بِهَا بَلْ فِي كُلِّ طَرِيقٍ طَوَائِفُ، فَإِذَا خَالَفَهُ فِي خَاصَّةِ مَذْهَبِهِ لَزِمَهُ أَنْ لَا يَكُونَ مُتَّبِعًا لَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فَإِنَّمَا يَعْنِي الشَّافِعِيَّةَ، وَإِذَا ذَكَرَ الْأَشْعَرِيَّ فَإِنَّهُ يَقُولُ قَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ فَلَا يُدْخِلُهُمْ فِي مُسَمَّى أَصْحَابِهِ، وَلَكِنْ أَبُو الْقَاسِمِ كَانَ لَهُ هُدًى وَلَمْ تَكُنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِحَقَائِقِ الْأُصُولِ الَّتِي يَتَنَازَعُ فِيهَا الْعُلَمَاءُ وَلَكِنْ كَانَ ثِقَةً فِي نَقْلِهِ، عَالِمًا بِفَنِّهِ كَالتَّارِيخِ وَنَحْوِهِ. [فَصْلٌ فِي مَذْهَب الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ وَطَبَقَتِهِ] فَصْلٌ وَمَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ، وَطَبَقَتِهِ كَأَبِي الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيِّ وَنَحْوِهِ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ قِبَلِهِ مِنْ أَئِمَّتِهِ كَأَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُجَاهِدٍ شَيْخِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ الْبَاهِلِيِّ شَيْخِ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكٍ وَكَأَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيِّ صَاحِبِ التَّآلِيفُ فِي تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ الْمُشْكِلَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ وَنَحْوِهِمْ. وَالطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي أَخَذَتْ عَنْ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ إمَامِ الطَّائِفَةِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ شَاذَانَ، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ أَوْ السُّنَنُ الْمُتَوَاتِرَةُ كَاسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ وَالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَمَجِيئِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ رَأَيْت كَلَامَ كُلِّ مَنْ ذَكَرْتُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ يُثْبِتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَمَنْ لَمْ أَذْكُرْهُ أَيْضًا، وَكُتُبُهُمْ وَكُتُبُ مَنْ نُقِلَ عَنْهُمْ مَمْلُوءَةٌ بِذَلِكَ، وَبِالرَّدِّ عَلَى مَنْ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْأَخْبَارِ بِأَنَّ تَأْوِيلَهُمَا طَرِيقُ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

§1/1