الغنية لطالبي طريق الحق

عبد القادر الجيلاني

بسم الله الرحمن الرحيم [مقدمة المؤلف] قال الشيخ الإمام العلامة العالم الزاهد الأوحد الورع العارف المؤيد محيي الدين قطب الإسلام معز الأنام ناصر السنة قامع البدعة صدر الأئمة أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح بن عبد الله الجيلي، تغمده الله برحمته وأعاد علينا وعلى المسلمين من بركته، وحشرنا في زمرته آمين: الحمد لله الذي بتحميده يستفتح كل كتاب، وبذكره يصدر كل خطاب وبحمده يتنعم أهل النعيم في دار الجزاء والثواب، وباسمه يشفى كل داء، وبه يكشف كل غمة وبلاء، إليه ترفع الأيدي بالتضرع والدعاء، في الشدة والرخاء، والسراء والضراء، وهو سامع لجميع الأصوات، بفنون الخطاب على اختلاف اللغات، والمجيب للمضطر الدعاء، فله الحمد على ما أولى وأسدى، وله الشكر على ما أنعم وأعطى، وأوضح المحجة وهدى، وصلواته على صفيه ورسوله الذي به من الضلالة هدى، محمد وآله وأصحابه وإخوانه المرسلين والملائكة المقربين، وسلم تسليما. أما بعد: فقد ألح علي بعض أصحابي، وشدد في الخطاب في تصنيف هذا الكتاب لحسن ظنه في الإصابة والصواب، والله تعالى هو العاصم في الأقوال والأفعال والمطلع على الضمائر والنيات، والمنعم المتفضل بتسهيل ما أراد، وإليه عز وجل الالتجاء لتطهير القلوب من الرياء والنفاق، وإبدال السيئات بالحسنات، إنه غافر الذنوب والخطيئات، وقابل التوب من العباد. فلما رأيت صدق رغبته في معرفة الآداب الشرعية من الفرائض والأركان والسنن والهيئات، ومعرفة الصانع عز وجل بالآيات والعلامات، ثم الاتعاظ بمواعظ القرآن والألفاظ النبوية في مجالس نذكرها، ومعرفة أخلاق الصالحين نشير لها في أثناء

الكتاب، ليكون عونا له على سلوك طريق الله عز وجل، وامتثال أوامره، وانتهاء نواهيه، ووجدتُ له نية صادقة صدرت من فتوح الغيب في إجابته إلى ذلك، فسارعتُ مشمرا مبتغيا محتسبا للثواب، راجيا للنجاة في يوم الحساب، إلى جمع هذا الكتاب بتوفيق رب الأرباب الملهم للصواب، وقد سميته: (الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل)

القسم الأول في الفقه

القسم الأول الفقه

باب نبدأ فنقول: الذي يجب على من يريد الدخول في دين الإسلام أولًا: أن يتلفظ بالشهادتين: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ويتبرأ من كل دين غير دين الإسلام، ويعتقد بقلبه وحدانية الله تعالى، على ما سنبينه إن شاء الله تعالى. إذا كان الإسلام هو الدين عند الله تعالى، قال الله عز وجل: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19]. وقال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه} [آل عمران: 85]. فإذا أتى بذلك دخل في الإسلام، وحرم قتله وسبي ذراريه واستغنام أمواله، ويغفر له ما تقدم من التفريط في حق الله عز وجل، لقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38]. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله». ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: «الإسلام يجب ما قبله». ثم يجب عليه الغسل للإسلام، لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر ثمامة بن أثال وقيس بن

فصل: شرائط الصلاة

عاصم، لما أسلما بالغسل. وفي رواية: «ألق عنك شعر الكفر واغتسل». ثم تجب عليه الصلاة، لأن الإيمان قول وعمل، لأن القول دعوى والعمل هو البينة، والقول صورة والعمل روحها. وللصلاة شرائط تتقدمها وهي: الطهارة بالماء الطهور، والتيمم عند عدمه، والستارة بثوب طاهر، والوقوف على بقعة طاهرة، واستقبال القبلة، والنية، ودخول الوقت. أما الطهارة فلها فرائض وسنن: والفرائض في ظاهر المذهب عشرة: النية أولًا: وهو أن ينوي بطهارته رفع الحدث، وإن كان تيممًا فاستباحة الصلاة، لأن التيمم لا يرفع الحدث، ومحلها القلب، فإن ذكر ذلك بلسانه مع اعتقاده بقلبه كان قد أتى بالأفضل، وإن اقتصر على الاعتقاد بالقلب أجزأ. ثم التسمية: وهو أن يذكر الله تعالى عند إرادته أخذ الماء.

ثم المضمضة: وهو دوران الماء في الفم ومجه وإخراجه منه. ثم الاستنشاق: وهو إدخال الماء في خرمي الأنف. ثم غسل الوجه: وحده من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولًا، ومن وتد الأذن إلى وتد الأذن عرضًا. ثم غسل اليدين إلى المرفقين. ثم مسح الرأس: وصفته: أن يغمس يديه في الماء ثم يرفعهما فارغتين فيضعهما على ما مقدم رأسه ويجرهما إلى قفاه، ويعيدهما إلى الموضع الذي بدأ منه، ويكون الإبهامان في صماخي الأذنين، فيمسح بهما الجلدتين القائمتين مع الصماخين. ثم غسل الرجلين مع الكعبين: وهما العظمان الناتئان في مفصل القدم وكل ذلك مرة واحدة. وأما التاسع: فهو ترتيب الأعضاء كلها كما نطق به القرآن في قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} [المائدة: 6]. والعاشر: الموالاة، وهي إتباع العضو الثاني الأول قبل أن ينشف ماء الأول.

سنن الصلاة

وأما سننها فعشر أيضًا: غسل الكفين قبل إدخالهما الإناء، والسواك، والمبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا أن يكون صائمًا، وتخليل اللحية الكثة على اختلاف الروايتين، وغسل داخل العينين، والبداءة باليمين، وأخذ ماء جديد للأذنين، ومسح العنق، وتخليل ما بين الأصابع، والغسلة الثانية والثالثة. وأما التيمم: فأن يضرب يديه على تراب طاهر له غبار يعلق باليد، ناويًا لاستباحة صلاة مفروضة، مسميًا ضربة واحدة يفرج بين أصابعه، فيمسح وجهه بباطن أصابع يديه، وظهر كفيه بباطن راحتيه. وأما الطهارة الكبرى: فنذكرها في باب آداب الخلاء إن شاء الله تعالى. وأما الستارة: فأن تكون ثوبًا طاهرًا يستر عورته ومنكبيه من سائر أنواع الثياب إلا الحرير، فإن الصلاة فيه باطلة وإن كان طاهرًا، وكذلك المغصوب. وأما البقعة: فأن تكون طاهرة من جميع الأنجاس، فإن كانت النجاسة التي عليها قد نشفتها الرياح أو الشمس فبسط عليها بساطًا طاهرًا فصلى عليه صحت صلاته على

صفة الأذان وصفة الإقامة

إحدى الروايتين. وكذلك إن كانت مغصوبة على رواية ضعيفة. وأما استقبال القبلة: فأن يتوجه إلى عين الكعبة إن كان بمكة وما قاربها من البقاع وإلى جهتها إن كان على بعد منها بالاجتهاد وبذل الطاقة بالاستدلال بالشواهد والدلالات بالنجوم والشمس والرياح وغير ذلك. وأما النية: فمحلها القلب وهو أن يعتقد أداء ما افترض الله تعالى عليه من فعل الصلاة بعينها وامتثال أمره الواجب من غير رياء وسمعة، ثم يحضر قلبه إلى أن يفرغ منها، وقد جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لعائشة رضي الله عنها: (ليس لك من صلاتك إلا ما حضر قلبك). وأما دخول الوقت: فبعلمه يقينًا أو غلبة الظن في يوم الغيم وهيجان الرياح والموانع. ثم يؤذن فيقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. ثم يقيم الصلاة فيقول: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. (فصل) فإذا كملت هذه الشروط دخل في الصلاة. بقوله: (الله أكبر)، لا يجزئه غيره من ألفاظ التعظيم.

أركان الصلاة

ولها أركان وواجبات ومسنونات وهيئات. فأما الأركان فخمسة عشر: القيام، وتكبير الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والطمأنينة فيه، والاعتدال عنه، والطمأنينة فيه، والسجود، والطمأنينة فيه، والجلوس بين السجدتين، والطمأنينة فيه، والتشهد الأخير، والجلوس فيه، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، والتسليم. وأما الواجبات فتسعة التكبير غير تكبيرة الإحرام، والتسميع والتحميد عند الرفع من الركوع، والتسبيح في الركوع والسجود مرة مرة، وقول (رب اغفر لي) في الجلسة بين السجدتين مرة مرة، والتشهد الأول، والجلوس له، ونية الخروج من الصلاة في التسليم.

مسنونات الصلاة

وأما المسنونات فأربع عشرة: الاستفتاح، والتعوذ، وقراءة: «بسم الله الرحمن الرحيم»، وقول «آمين»، وقراءة سورة، وقول: «ملء السموات والأرض» بعد التحميد، وما زاد على التسبيحة الواحدة في الركوع والسجود، وقول: «رب اغفر لي»، والسجود على الأنف في إحدى الروايتين، وجلسة الاستراحة بعد انقضاء السجدتين، والتعوذ من أربعة أشياء بأن يقول: «أعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المسيح الدجال ومن فتنة المحيا والممات»، والدعاء بما ذكر في الأخبار بعد أين يصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- في التشهد الأخير، والقنوت في الوتر، والتسليمة الثانية على رواية ضعيفة. وأما الهيئات فخمس وعشرون هيئة: رفع اليدين عند الافتتاح والركوع، والرفع منه وهو أن تكون كفاه مع منكبيه وإبهاماه عند شحمتي أذنيه وأطراف أصابعه مع فروع أذنيه ثم إرسالهما بعد الرفع، ووضع اليمين على الشمال تحت السرة، والنظر إلى موضع السجود، والجهر بالقراءة وآمين، والإسرار بهما، ووضع اليدين على الركبتين في الركوع، ومد الظهر، ومجافاة عضديه عن جنبيه فيه، والبداءة بوضع الركبة ثم اليدين في السجود، ومجافاة البطن عن الفخذين والفخذين عن الساقين فيه، والتفريق بين الركبتين في السجود، ووضع اليدين حذاء منكبيه فيه، والافتراش في السجود بين السجدتين وفي التشهد الأول والتورك في الثاني، ووضع اليد اليمنى على الفخذ اليمنى مقبوضة مشيرًا بالسبابة محلقة بالإبهام مع الوسطى، ووضع اليسرى على الفخذ اليسرى مبسوطة.

كتاب الزكاة

فإن أخل بشرط من الشرائط التي ذكرناها أولًا بغير عذر لم تنعقد الصلاة. وإن ترك ركنًا عامدًا أو ساهيًا بطلت. وإن ترك واجبًا ساهيًا جبره بسجود السهو، وإن تركه عامدًا بطلت الصلاة. وإن ترك سنة أو هيئة لم تبطل ولم يسجد. * * * كتاب الزكاة وتجب عليه الزكاة إن كان له مال زكوي. وهو أن يملك عشرين مثقالًا من الذهب، أو مائتي درهم من الورق، أو قيمة أحدهما من عروض التجارة، أو خمسًا من الإبل، أو ثلاثين من البقر، أو أربعين من الغنم سائمة حولًا كاملًا، إلا أن يكون عبدًا أو مكاتبًا فإنه لا تجب عليهما الزكاة. فيخرج عن الذهب والفضة ربع العشر، فيكون عن كل عشرين دينارًا نصف دينار، لأن عشرها ديناران وربعها نصف دينار. وعن مائتي درهم خمسة دراهم، لأن عشرها عشرون وربعها خمسة. وعن خمس من الإبل: شاة، وهي الجدع من الضأن قد تمت له ستة أشهر، والثني من المعز وهو ما له سنة. وعن عشر: شاتان.

زكاة البقر

وعن خمسة عشر: ثلاث شياه. وعن عشرين: أربع شياه. وعن خمس وعشرين: ابنة مخاض، وهي ما لها سنة ودخلت في الثانية، فإن لم يقدر عليها فابن لبون ذكر، وهو ما له سنتان ودخل في الثالثة. وعن ست وثلاثين: ابنة ليون، وهي في سن ابن ليون. وعن ست وأربعين: حقة، وهي ما كمل لها ثلاث سنين. وعن إحدى وستين: جذعة، وهي ما كمل لها أربع سنين. وعن ست وسبعين: بنتًا لبون. وعن إحدى وتسعين: حقتان إلى أن تبلغ مائة وعشرين. فإن زادت واحدة كان في كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة. وأما البقر: فيخرج عن كل ثلاثين: تبيعًا أو تبيعة، وهي ما كمل لها سنة. وعن أربعين: مسنة، وهي ما كمل لها سنتان. وعن ستين: تبيعين. فإذا بلغت سبعين كان فيها: تبيع ومسنة. ثم على هذا الاعتبار يخرج عن كل ثلاثين تبيعًا، وعن كل أربعين مسنة. وأما الغنم: ففي كل أربعين: شاة إلى أن تبلغ مائة وعشرين، فإن زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، ثم في كل مائة شاة. فيعطى المخرج عن جميع ذلك للثمانية الأصناف المذكورة في القرآن: للفقراء الذين لا يملكون كفايتهم. والمساكين وهم الذين لهم معظم الكفاية ولا يملكون تمامها. والعاملين عليها وهم الجباة لها والحافظون لها إلى أن يؤدوها إلى الإمام.

صدقة التطوع

والمؤلفة قلوبهم وهو قوم من الكفار يرجى إسلامهم إذا أعطوا المال أو يكفوا شرهم على المسلمين. وفي الرقاب وهم المكاتبون، وإن اشترى بزكاته رقبة كاملة فأعتقها جار أيضًا على رواية. والغارمين وهم المدينون الذين لا طاقة لهم على قضاء ديونهم. وفي سبيل الله وهم الغزاة الذين لا جزاء لهم في ديوان الإمام وغيره من السلاطين وإن كانوا أغنياء. وابن السبيل وهو المسافر المنقطع به دون الذي ينشئ السفر من بلده. فإذا أدى ما عليه من زكاة الفرض يستحب له صدقة التطوع في سائر أوقاته ليلًا ونهارًا قليلًا وكثيرًا. لاسيما في الأشهر المباركة كشهر رجب وشعبان وشهر رمضان وأيام العيد وعاشوراء وأيام الجدب والضيق، ليحوز بذلك العافية في الجسم والمال والأهل والخلف السريع في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة. (فصل) ويخرج زكاة الفطر إذا فضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته عن نفسه وزوجته ورقيقه وولده وأمه وأبيه وأخوته وأخواته وأعمامه وبني أعمامه على الترتيب الأقرب فالأقرب، بشرط أن يكونوا في مؤنته ونفقته. وقدرها صاع وزنه خمسة أرطال وثلث بالعراقي من التمر أو الزبيب أو البر أو الشعير أو دقيقهما أو سويقهما وكذلك الأقط على الصحيح من المذهب. فإن عدم الأصناف جميعها فليخرج من قوت البلد من سائر أنواع الحب كالأرز والذرة والدخن وغيرها * * *

كتاب الصيام

كتاب الصيام وإذا دخل شهر رمضان وجب عليه أن يصومه، لقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185]. فإذا ثبت عنده دخول الشهر إما برؤيته نفسه الهلال، أو شهادة رجل واحد عدل بذلك، أو إكمال شعبان ثلاثين يومًا، أو حدوث غيم أو قتر في ليلة الثلاثين منه، نوى أي وقت من الليل من بعد غروب الشمس إلى قبل أن يطلع الفجر الثاني، أنه صائمٌ غدًا من شهر رمضان. وهكذا كل ليلة إلى أن ينتهي الشهر. وإن نوى في أول ليلة من الشهر أنه صائم الشهر جميعه كفاه ذلك في رواية ضعيفة، والصحيح الأول. فإذا أصبح وجب عليه أن يمسك في جميع نهاره عن الأكل والشرب والجماع وجميع ما يصل إلى جوفه من أي موضع كان، وعن الحجامة لنفسه أو غيره، واستدعاء القيء والمني. فإن خالف في جميع ذلك بطل صومه ووجب عليه الإمساك إلى غروب الشمس والقضاء، إلا الجماع فإنه يجب عليه مع ذلك كفارة وهي عتق رقبة مؤمنة سليمة من

ما يجتنبه الصائم

العيوب المضرة في العمل، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا لكل واحد منهم مد من طعام وهو رطل وثلث بالعراقي، فيكون مائة وثلاثة وسبعين درهمًا وثلث درهم، أو نصف صاع من تمر أو شعير، فإن لم يجد ذلك فمن قوت بلده كما قلنا في الفطرة. فإن لم يجد شيئًا سقطت عنه، واستغفر الله عز وجل، وتاب إليه، وأحسن العمل في الباقي. ويجتنب في نهار رمضان: الخلوة بامرأة شابة، والقبلة لها، وإن كانت ممن تحل له، أو ذات رحم. ويجتنب السواك بعد الزوال، ومضغ العلك، وجمع ريقه ثم بلع، وذوق الطعام عند الطبخ وغيره، والغيبة، والنميمة، والكذب، والسب، وغير ذلك. ويستحب له: تعجيل الإفطار إلا في يوم الغيم فتأخيره أفضل، وتأخير السحور إلا أن يكون ممن يخفى عليه طلوع الفجر، والأولى له أن يفطر على التمر أو الماء، ويدعو وقت الإفطار، لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إذا صام أحدكم فقدم عشاؤه فليقل: بسم الله اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، سبحانك وبحمدك، اللهم تقبل منا فإنك أنت السميع العليم). * * *

كتاب الاعتكاف

كتاب الاعتكاف ويستحب له الاعتكاف. ولا يكون إلا في مسجد يصلي فيه بالجماعة، وأولى المساجد الجامع إذا كان اعتكافه أيامًا يتخللها جمعة. ويصح بغير صوم والأولى أن يكون بالصوم، لأنه أجمع لهمه، وأعون على كسر نفسه، وأليق باشتقاق ما هو بصدده. لأن الاعتكاف هو حبس النفس في مكان مخصوص، ولزوم الشيء والمداومة عليه، قال الله تعالى: {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} [الأنبياء: 52]. وهو من السنن المأثورة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان، ثم لم يزل على ذلك حتى توفاه الله تعالى، وندب الصحابة إليه فقال: (من أراد أن يعتكف فليعتكف العشر الأواخر). فإذا اعتكف ينبغي له أن يتشاغل بفعل كل ما يقربه إلى الله تعالى من قراءة القرآن والتسبيح والتهليل والتكبير والتفكر ويجتنب كل ما لا يعنيه من القول والعمل. ويلزم الصمت في غير ذكر الله تعالى. ويجوز له التدريس وإقراء القرآن، لأن ذلك يتعدى نفعه إلى غيره، فهو أكثر ثوابًا من اشتغاله بخاصة نفسه. ويجوز له الخروج من معتكفه لما لابد له منه، كالاغتسال من الجنابة، والأكل والشرب، وقضاء حاجة الإنسان من البول والغائط، وعند الخوف على نفسه من الفتنة والمرض الشديد وغير ذلك.

كتاب الحج

كتاب الحج فإذا كملت في حقه شرائط الحج وجب عليه أداء الحج والعمرة على الفور، وهو أن يكون بعد إسلامه حرًا عاقلًا بالغًا مستطيعًا بالزاد والراحلة، وتخلية الطريق من عدو يمنعه، وإمكان المسير إليه وهو اتساع الوقت لأداء الحج، وصحة البدن للاستمساك على الراحلة. والاستطاعة بالزاد والراحلة إنما تكون بعد تحصيل النفقة لعياله إلى أن يعود إليهم، والمسكن لهم، وقضاء الديون إن كانت عليه. وأن يكون له كفاية بعد رجوعه من فضل ماله أو أجرة عقار أو بضاعة أو صناعة. فإن خالف وقصر بعياله وامتنع من قضاء دينه وخرج إلى الحج كان مأثومًا ظالمًا مسخوطًا عليه، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوته). فإن سلم من المخالفة حتى فرغ من الحج والعمرة سقط عنه الحج. (فصل) فإذا بلغ الميقات الشرعي وهو: ذات عرق: إن كان من أهل المشرق. والجحفة: إن كان من أهل المغرب. وذو الحليفة: إن كان من أهل المدينة.

الإحرام والنية والتلبية

ويلملم: إن كان من أهل اليمن. وقرن: إن كان من أهل نجد. يغتسل ويتنظف أو يتيمم إن لم يجد الماء، ويتزر بإزار ويرتدي برداء، ويكونان أبيضين نظيفين، ويتطيب ويصلى ركعتين، ثم يحرم وينوى الإحرام بقلبه، ويلبي بالعمرة إن كان متمتعًا وهو الأفضل، أو بالحج المفرد، أو بالحج والعمرة جميعًا. ويشترط أن يقول: اللهم إني أريد العمرة أو الحج أو إياهما جميعًا، فيسر ذلك لي وتقبل مني، وحلني حيث حبستني، ويلبي. وصفة التلبية: لبيك الله لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. يرفع بذلك صوته، ويقول ذلك بعد الإحرام، وعقيب الصلوات الخمس، وفي إقبال الليل والنهار، والتقاء الرفاق، وإذا علا شرف أو هبط واديًا أو سمع ملبيًا، وفي مساجد الحرم وبقاعه، ويصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويدعو لنفسه بما أحب إذا فرغ من التلبية. (فصل) فإذا أحرم لا يغطي رأسه، ولا يلبس المخيط ولا الخفين، فإذا فعل ذلك لزمه ذبح شاة، إلا ألا يجد الإزار والنعلين. ولا يتطيب في بدنه وثيابه من سائر أنواع الطيب، فإن فعل ذلك متعمدًا غسله

وذبح شاة. ولا يقلم أظفاره ولا يحلق شعره، فإن قلم ثلاثة أظفار أو حلق ثلاث شعرات من رأسه أو بدنه فعليه ذبح شاة، فإن كان دون ذلك ففي كل ظفر أو شعرة مد من طعام. ولا يعقد النكاح لنفسه ولا لغيره، ويجوز له الارتجاع. ولا يباشر الزوجة والأمة في الفرج ولا دون الفرج، فإن فعل ذلك بطل حجه إذا كان ذلك قبل رمي جمرة العقبة. ولا يستمني، ولا يكرر النظر، فإن فعل فأمنى فعليه الكفارة وهي ذبح شاة. ولا يقتل الصيد المأكول، وما تولد من مأكول وغير مأكول. ولا يأكل ما صيد لأجله، أو أشار إليه، أو دل عليه، أو أعان على ذبحه، مثل أن يمسكه له أو يعيره سكينًا ونحو ذلك، فإن فعل ذلك فعليه الجزاء مثله من النعم: فإن كان الصيد نعامة فعليه: بدنة. وإن كان حمار وحش فعليه: بقرة. وإن كان بقرة الوحش وأنواعها فعليه: بقرة. وإن كان غزالًا أو ثعلبًا فعليه: عنز. وإن كان ضبعًا: فكبش. وإن كان أرنبًا: فعناق. وإن كان يربوعًا: فجفرة. وفي الضب: جدي. وفي الكبير كبيرٌ، وفي الصغير صغيرٌ، على مثل ما قتل في جميع الصفات. وإن كان ذلك حمامًا -وكل مطوق حمام -ففي كل واحد: شاة. فإن لم يكن له مثل فقيمته، يرجع في معرفة ذلك إلى قول عدلين من المسلمين. ويجوز له ذبح الحيوان الأنسي وأكله.

دخول مكة المكرمة

ويجوز له قتل كل ما فيه مضرة كالحية والعقرب والكلب العقور والسبع والنمر والذئب والفهد والفأرة والغراب الأبقع والحدأة والبزاة وأنواعها، والزنبور والبق والبراغيث والقراد والأوزاغ والذباب وجميع حشرات الأرض، ويجوز قتل النمل عند الأذية، وكذلك القمل والصبئان في إحدى الروايتين، والأخرى عليه أن يتصدق بما أمكن. ولا يقتل صيد الحرم، فإن قتله كان حكمه كما ذكرنا في صيد الإحرام. ولا يقطع أشجار الحرم ولا يقلعها، فإن فعل ذلك ضمن الشجرة الكبيرة ببقرة، والصغيرة بشاة. وكذلك صيد المدينة وشجرها يحرم عليه، إلا أن جزاءهما سلب ما عليه من الثياب، ويكون ذلك حلالًا لمن أخذه. (فصل) فإن كان في الوقت سعة فأمكنه دخول مكة قبل يوم عرفة بأيام، فالمستحب له أن يغتسل غسلًا كاملًا ويدخلها من أعلاها. فإذا بلغ المسجد الحرام دخل من باب بني شيبة، ويرفع يديه عند رؤية البيت ويقول: اللهم إنك أنت السلام ومنك السلام، حينًا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تعظيمًا وتشريفًا وتكريمًا ومهابة وبرًا، وزد من شرفه وعظمه ممن حجه أو اعتمره تعظيمًا وتشريفًا وتكريمًا ومهابة وبرًا، الحمد لله رب العالمين، والحمد لله كثيرًا كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، الحمد لله الذي بلغني بيته ورآني لذلك أهلًا، والحمد لله على كل حال، اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك، وقد جئناك لذلك، اللهم تقبل مني واعف عني وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت. يرفع بذلك صوته، ثم يطوف للقدوم ويضطبع بردائه، فيكشف كتفه الأيمن ويستر الأيسر، ثم يتقدم إلى الحج الأسود، فيستلمه بيده ويقبله إن أمكنه، وإلا استلمه وقبل يده، فإن زحم أشار بيده إليه ويقول: (بسم الله والله أكبر، إيمانًا بك وتصديقًا بكتابك ووفاء بعهدك وإتباعًا لسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-).

ثم يطوف على يمينه وهو أن يرجع إلى باب البيت، فيمضي إلى الحجر الذي فيه ميزاب البيت مسرعًا، وهو السعي الشديد مع تقارب الخطا، حتى إذا بلغ الركن اليماني استلمه ولم يقبله، فإذا بلغ الحجر الأسود عد ذلك شوطًا واحدًا. ثم يطوف كذلك ثانيًا وثالثًا قائلًا في جميع ذلك: (اللهم أجعله حجًا مبرورًا وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا). ثم يخفف مشيه، ويقارب خطاه، فيمشي على هيئته في الأربعة الباقية ويقول فيها: (رب اغفر وارحم واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم، اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار). ويدعو بما أراد بما يجوز من خير الدنيا والآخرة. وينبغي أن يكون ناويًا لذلك، طاهرًا من الأحداث والأنجاس وساتر العورة لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: (الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله تعالى أباحكم فيه النطق). فإذا فرغ من ذلك صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة {قل يا أيها الكافرون ...} [الكافرون: 1 - 6]، وفي الثانية {قل هو الله أحد ...} [الإخلاص: 1 - 4]، ثم يرجع إلى الحجر الأسود فيستمله، ثم يخرج إلى الصفا من بابه، ويرقى عليه إلى حيث يمكنه رؤية الكعبة، ثم يكبر ثلاثًا ويقول: (الحمد لله على ما هدانا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون). ثم ينزل ويلبي ويدعو ثانيًا وثالثًا، ثم ينزل ماشيًا حتى يكون بينه وبين الميل الأخضر المنتصب عند المسجد ما قدره ستة أذرع، ثم يسرع في المشي حتى يبلغ إلى الميلين الأخضرين، ثم يخفف مشيه إلى أن يبلغ المروة فيرقى عليه فيفعل كما فعل على الصفا، ثم ينزل ويمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه إلا أن يصير إلى الصفا، ثم كذلك فيعد سبعًا يبدأ بالصفا ويختم بالمروة.

وينبغي أن يكون متطهرًا كما ذكرنا، في الطواف بالبيت، فإذا فرغ من ذلك حلق أو قصر وإن كان متمتعًا ولم يكن قد ساق هديًا وفعل ما يفعله الحلال. فإذا كان يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة أحرم من مكة للحج، فيأتي منى فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويبيت بها، ثم يصلي بها الصبح. فإذا طلعت الشمس دفع مع الناس إلى الموقف بعرفة فإذا زالت الشمس وخطب الإمام خطبة يعلم الناس فيها ما ينبغي أن يفعلوه من الوقوف وموضعه ووقته ودفعه من عرفات والصلاة بمزدلفة والمبيت بها وغير ذلك من رمي الجمار والنحر والحلق والطواف بالبيت، دنا من الإمام فيعي ما يقول، ثم يصلي معه الظهر والعصر يجمع بينهما بإقامة لكل صلاة، ثم يتقدم إلى جبل الرحمة والصخرات بقرب الإمام، يستقبل القبلة فيقف هناك ويجتهد في الدعاء والثناء على الله عز وجل. وينبغي أن يكون أكثر ذكره: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، اللهم أجعل في قلبي نورًا وفي بصري نورًا وفي سمعي نورًا ويسر لي أمري. فإن فاته الوقوف مع الإمام نهارًا أدركه بعد خروج الإمام من الموقف قبل أن يطلع الفجر الثاني من ليلة النحر، ومن أدركه كذلك فقد أدرك الوقفة وإلا فقد فاته الحج، فإذا دفع مع الإمام إلى طريق مزدلفة يكون على التؤدة والسكون والوقار، فإذا وصل مزدلفة صلى مع الإمام بها المغرب والعشاء جماعة، أو منفردًا إن فاتته مع الإمام، ثم حط رحله فيبيت هناك، ويأخذ منها حصى الجمار أو من حيث تيسر له ذلك، وعدده سبعون حصاة، وقدره أن يكون أكبر من الحمص وأصغر من البندق، ويستحب أن يغسله، ثم يصلي الفجر إذا أصبح، ويجتهد أن يغلس بها، ثم يأتي المشعر الحرام فيقف عنده، فيكثر الحمد لله والثناء عليه والتهليل والتكبير والدعاء، والأولى أن يقول في دعائه: اللهم كما أوقفتنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك الحق {فإذا أفضتم من عرفات ...} إلى قوله تعالى: {غفور رحيم} [البقرة: 198 - 199]. فإذا أضاء النهار وأسفر دفع إلى منى وأسرع في وادي محسر، فإذا وصل إلى منى

رمى جمرة العقبة بسبع حصيات، مكبرًا في إثر كل حصاة، رافعًا يده حتى يرى بياض إبطيه، كما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه رمى كذلك، وسكت عن التلبية عند أول حصاة يرميها، ويكون رميه هذا بعد طلوع الشمس وقبل الزوال وفيما بعد من أيام التشريق بعد الزوال، فإذا رمى نحر هديًا إن كان معه، وحلق جميع رأسه أو قصر، وإن كانت امرأة تقصر من شعرها قدر الأنملة. ثم يمضي إلى مكة ويغتسل ويتوضأ، فيطوف طواف الزيارة ويعينه بالنية، ويصلي ركعتين خلف المقام، فإذا فرغ سعى بين الصفا والمرة إن أراد، لأن السعي قد سقط عنه بفعله في طواف القدوم، ثم قد حل له كل شيء من محظورات الإحرام، وصار حلالًا كما كان قبل الإحرام، ثم يتقدم إلى زمزم فيشرب من مائها فيقول عند شربه: بسم الله اللهم اجعله لنا علمًا نافعًا ورزقًا واسعًا وريًا وشبعًا وشفاء من كل داء، واغسل به قلبي وأملأه من خشيتك. ثم يرجع إلى منى فيبيت بها ثلاث ليال، فيرمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق على ما ذكرنا كل يوم بإحدى وعشرين حصاة، كل جمرة سبع حصيات، فيبدأ بالجمرة الأولى وهي أبعد الجمرات من مكة مما يلي مسجد الخيف، يجعلها عن يساره ويستقبل القبلة فإذا رماها تقدم عنها يسيرًا لئلا يصيبه حصى غيره، فيقف هناك داعيًا الله عز وجل بقدر قراءة سورة البقرة إن أمكنه، ثم يرمي الجمرة الوسطى فيجعلها عن يمينه، ويستقبل القبلة فيدعو كالأولى ثم يرمي الجمرة الأخيرة وهي جمرة العقبة ويجعلها عن يمينه، وينزل إلى الوادي، ويكون مستقبلًا إلى القبلة ولا يقف هناك، ثم يفعل في اليوم الثاني والثالث كذلك. وإن أحب أن يتعجل ولا يرمي في اليوم الثالث دفن ما بقي معه من بقية الحصى هناك، ويخرج قاصدًا إلى مكة فيأتي الأبطح فيصلي هناك الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم ينام يسيرًا ثم يدخل مكة فيقيم بها أو غيرها من المواضع كالزاهر والأبطح، وإذا أراد أن يدخل البيت يكون حافيًا، ويصلي فيه نفلًا، ويشرب من ماء زمزم ويرتوي

منه. وينوي ما أحب من العلم والمغفرة والرضوان لقوله عليه الصلاة والسلام: «ماء زمزم لما شرب له». ويكثر الاعتماد والنظر إلى الكعبة، لما روي في بعض الأخبار: إن النظر إليها عبادة. ثم لا يخرج حتى يودع البيت فيطوف به سبعًا، ثم يقف بين الركن والباب ويدعو فيقول: اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك، وأعنتني على قضاء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا، وإلا فمن علي الآن قبل تباعدي عن بيتك، هذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك، اللهم فاصحبني العافية في بدني والصحة في جسمي والعصمة في ديني وأحسن منقلبي ومثواي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني واجمع لي خير الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير. وما زاد على ذلك من الدعاء من خير الدنيا والآخرة كان حسنًا، ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يقم بعد ذلك بمكة، فإن أقام أعاد الطواف وإلا ذبح شاة. (فصل) فإن كان في الوقت ضيق وخاف فوت الوقفة بعرفات، فإن أحرم من الميقات بدأ بعرفات فوقف هناك، ثم دفع منها بعد غروب الشمس، فيفعل ما ذكرناه من البيتوتة بمزدلفة ثم الرمي بمنى، ثم إذا دخل مكة طاف طوافين، ينوى بالأول منهما القدوم وبالثاني الزيارة، ثم يسعى بين الصفا والمروة، ثم يحل له كل شيء، ثم يعود إلى منى للرمي في الأيام الثلاثة، ثم يتم الأفعال على ما تقدم ذكره.

العمرة

(فصل) وصفة العمرة: أن يحرم بها من الميقات الشرعي الذي تقدم ذكره، بعد أن يغتسل ويتطيب ويصلي ركعتين، فيطوف بالبيت سبعًا، ويسعى بين الصفا والمروة ويقصر أو يحلق، ثم يحل منها إن لم يكن ساق هديًا، وإن كان بمكة خرج إلى التنعيم فيحرم منه فيفعل كذلك. (فصل) ولا يبطل الحج إلا بالوطء في الفرج أو دون الفرج مع الإنزال. وأركان الحج أربعة: الإحرام، والوقوف، وطواف الزيارة، والسعي. وعن الشيخ رحمه الله: إنها ركنان أحدهما: الوقوف بعرفة، والثاني: الطواف بالبيت، والصحيح الأول. فإذا ترك واحدًا من هذه الأركان كان حجه ناقصًا، وعليه الإتيان به، إما في سنته وأما في العام القابل، يأتي به محرمًا، ولا يجبره دم بحال. وأما واجباته فخمسة وهي: المبيت بمزدلفة إلى ما بعد نصف الليل، والمبيت بمنى، والرمي، والحلاق، وطواف الوداع. فإن ترك واحدًا منها جبره بدم، وهو شاة كما قلنا في ترك الواجبات في الصلاة يجبره بسجود السهو. وأما مسنوناته فخمسة عشر وهي: [الأول]: الاغتسال للإحرام ولدخول مكة وللوقوف بعرفة وللمبيت بمزدلفة ولرمي الجمار أيام منى ولطواف الزيارة ولطواف الوداع. والثاني: طواف القدوم. والثالث: الرمل. والرابع: الاضطباع في الطواف والسعي.

أركان العمرة

و [الخامس]: استلام الركنين. و [السادس]: التقبيل. و [السابع]: الارتقاء على الصفا والمروة. و [الثامن]: المبيت بمنى ثلاثًا. و [التاسع]: الوقوف على المشعر الحرام. و [العاشر]: الوقوف عند الجمرات. و [الحادي عشر]: الخطب. و [الثاني عشر]: الأذكار. و [الثالث عشر]: شدة السعي في مواضعه. و [الرابع عشر]: المشي في مواضعه. و [الخامس عشر]: ركعتا الطواف. فإن ترك هذه الأشياء أو واحدًا منها كان تاركًا للأفضل ولا شيء عليه. (فصل) أما العمرة فأركانها ثلاثة: الإحرام، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة. وواجباتها: الحلاق فحسب. وسننها: الغسل عند الإحرام، والأدعية، والأذكار المشروعة في الطواف والسعي. وقد بينا الحكم في تركها في الحج. (فصل) فإذا من الله تعالى عليه بالعافية، وقدم المدينة، فالمستحب له أن يأتي مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليقل عند دخول المسجد: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وافتح لي أبواب رحمتك، وكف عني أبواب عذابك، الحمد لله رب العالمين.

ثم يأتي القبر، وليكن بحذائه بينه وبين القبلة، ويجعل جدار القبلة خلف ظهره والقبر أمامه تلقاء وجهه والمنبر عن يساره، وليقم مما يلي المنبر وليقل: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم آت سيدنا محمدًا الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، اللهم صل على روح محمد في الأرواح، وعلى جسده في الأجساد، كما بلغ رسالتك وتلا آياتك وصدع بأمرك وجاهد في سبيلك وأمر بطاعتك ونهي عن معصيتك، وعادى عدوك ووالى وليك وعبدك حتى أتاه اليقين. اللهم إنك قلت في كتابك لنبيك: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابًا رحيمًا} [النساء: 64]. وإني أتيت بيتك تائبًا من ذنوبي مستغفرًا، فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، فأقر عنده بذنبه فدعا له نبيه فغفرت له. اللهم إني أتوجه إليك بنبيك عليه سلامك نبي الرحمة، يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي ليغفر لي ذنوبي، اللهم إني أسألك بحقه أن تغفر لي وترحمني، اللهم أجعل محمدًا أول الشافعين وأنجح السائلين وأكرم الأولين والآخرين. اللهم كما آمنا به ولم نره وصدقناه ولم نلقه فأدخلنا مدخله واحشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه واسقنا بكأسه مشربًا رويًا صافيًا سائغًا هنيئًا لا نظمأ بعده أبدًا غير خزايًا ولا ناكثين ولا مارقين ولا جاحدين ولا مرتابين، ولا مغضوب علينا ولا ضالين، واجعلنا من أهل شفاعته. ثم يتقدم عن يمينه ثم ليقل: السلام عليكما يا صاحبي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا أبا بكر الصديق، السلام عليك يا عمر الفاروق، اللهم أجزهما عن نبيهما وعن

الإسلام خيرًا واغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم. ثم يصلي ركعتين ويجلس. ويستحب أن يصلي بين القبر والمنبر في الروضة. وإن أحب أن يتمسح بالمنبر تبركًا به. ويصلي بمسجد القباء. وأن يأتي قبور الشهداء ويزورهم: فعل ذلك وأكثر الدعاء هناك. ثم إذا أراد الخروج من المدينة أتى مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقدم إلى القبر وسلم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفعل كما فعل أولًا، وودعه وسلم على صاحبيه كذلك ثم قال: اللهم لا تجعل آخر العهد مني بزيارة قبر نبيك، وإذا توفيتني فتوفني على محبته وسنته آمين يا أرحم الراحمين. وخرج سالمًا إن شاء الله. * * *

كتاب الآداب

كتاب الآداب (فصل) الابتداء بالسلام سنة، ورده آكد من ابتدائه. وهو مخير في صفته: إما أن يدخل الألف واللام فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أو يحذفهما فيقول: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ولا يزيد على ذلك. وقد روي في ذلك حديث وهو: ما روي عن عمران بن الحصين رضي الله تعالى عنهما أنه قال: «جاء رجل أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: السلام عليكم، فرد عليه السلام، ثم جلس، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: عشرًا. ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه فجلس، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: عشرون. ثم جاء آخر: فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه فجلس، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ثلاثون»، يعني ثلاثين حسنة. والسنة أن يسلم الماشي على الجالس، والراكب على الماشي والجالس. وسلام الواحد من الجماعة على غيرهم يجزئ. وكذلك رد الواحد من الجماعة يجزئ عنهم.

ولا يجوز البداءة بالسلام على المشرك بحال، فإن بدأه مشرك رد عليه بأن يقول: وعليك. وأما رده على المسلم بأن يقول: وعليكم السلام كما قال، وإن زاد إلى قوله: وبركاته كان أولى. وإن قال مسلم لمسلم: سلام لم يجبه، ويعرفه انه ليس بتحية السلام، لأنه ليس بكلام تام. ويستحب للنساء السلام بعضهن على بعض. وأما سلام الرجل على المرأة الشابة فمكروه، وإن كانت برزة فلا حرج. وأما السلام على الصبيان فمستحب؛ لأن فيه تعليمهم الأدب، وتحبيب الخير إليهم. وكذلك يستحب لمن قام من المجلس أن سلم على أهله، وكذلك يسلم عليهم إذا عاد إليهم، وكذلك إن حال بينه وبينهم حائل مثل الباب والحائط، وكذلك إذا سلم على رجل ثم لقيه ثانيًا سلم عليه. ولا يسلم على المتلبسين بالمعاصي، كمن أجتاز على قوم يلعبون بالشطرنج والنرد، أو يشربون الخمر، أو يلعبون بالجوز والقمار، وإن سلموا عليه رد عليهم، إلا أن يغلب على ظنه انزعاجهم عن معاصيهم بتركه الرد عليهم فإنه لا يرده. ولا يهجر المسلم أخاه فوق الثلاث، إلا أن يكون من أهل البدع والضلال

القيام للاحترام

والمعاصي فمستحب استدامة الهجر لهم، وبالسلام يتخلص من إثم الهجر للمسلم. ويستحب للمسلم المصافحة لأخيه، ولا ينزع يده حتى ينزع الآخر يده إن كان هو المبتدئ. وإن تعانقا وقبل أحدهما رأس الآخر ويده على وجه التبرك والتدين جاز. وأما تقبيل الفم فمكروه. (فصل: ويتسحب القيام للإمام العادل والوالدين وأهل الدين والورع وكرام الناس) وأصل ذلك ما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسل إلى سعد رضي الله عنه في شأن أهل قريظة، فجاء على حمار أقمر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قوموا إلى سيدكم». وقد روت عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل على فاطمة رضي الله تعالى عنها قامت إليه فأخذت بيده وقبلته وأجلسته في مجلسها، وإذا دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- قام إليها وأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في موضعه. وقد روي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه». ولأن ذك يغرس المحبة والود في القلوب فاستحب لأهل الخير والصلاح كالمهاداة لهم، ويكره لأهل المعاصي والفجور. ومن الآداب: أن يخمر العاطس وجهه ويخفض صوته ويحمد الله عز وجل إلى قوله رب العالمين رافعًا صوته، لأنه روي في بعض الأخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن العبد إذا

(فصل: في العشر الخصال التي في الفطرة)

قال الحمد لله، قال الملك رب العالمين، فإذا قال رب العالمين بعد الحمد لله قال الملك يرحمك ربك». ولا يلتفت يمينًا ولا شمالًا، فإذا قال ذلك استحب لمن سمعه أن يشمته بأن يقول له: يرحمك الله ويرد عليه فيقول: يهديكم الله ويصلح بالكم، وإن قال يغفر الله لكم جاز عن الأول، فإن زاد العاطس على ثلاث مرات سقط التشميت لأن ذلك ريح وزكام، كما جاء في الأثر وهو ما روي عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ويشمت العاطس ثلاثًا، فإن زاد على ذلك فهو مزكوم». وإن تثاءب غطى فمه بيده أو بكمه، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا تثاءب أحدكم فليمسك على فيه، فإن الشيطان يدخل مع التثاؤب». وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله تعالى يحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، ولا يقول هاه هاه فإن ذلك من الشيطان يضحك منه». ويجوز للرجل تشميت المرأة البرزة العجوز، ويكره للشابة الخفرة، فأما الصبي فتشميه أن يقال له: بورك فيك، أو جزاك الله تعالى، أو خيرك الله تعالى. (فصل: في العشر الخصال التي في الفطرة) خمس منها في الرأس، وخمس في الجسد: فالتي في الرأس: المضمضة والاستنشاق والسواك وقص الشارب وإعفاء اللحية. والتي في الجسد: حلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار والاستنجاء والختان. والأصل في قص الشارب ما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه

فصل نتف الإبط

قال: «احفوا الشارب واعفوا اللحى» وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه «قصوا الشوارب واعفوا اللحى»، كلا اللفظين واحد، ومعناها: قصه من أصول الشعر بالمقراض واستئصاله به. وأما حلقه بالموسى فمكروه لما لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ليس منا من حلق»، ولأن في ذلك مثلة، وذهابًا لماء الوجه وجماله وفي بقاء أصول الشعر زينة وجمال. وقد روى عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يجزون شواربهم، وأما إعفاء اللحية فهو توفيرها وتكثيرها، ومنه قوله تعالى: {حتى عفوا} [الأعراف: 95] أي كثروا، وقد روي أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه كان يقبض على لحيته فما فضل من قبضته جزه، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول: خذ ما تحت القبضة. (فصل) والأصل في حلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظافر ما روي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه قال: «وقت لنا رسول -الله صلى الله عليه وسلم- أربعين ليلة لا نتجاوزها في قص الشارب وقص الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة». قال بعض أصحابنا: هذا في حق المسافر، وأما المقيم فلا يستحب له أن يزيد في ذلك على عشرين يومًا. واختلفت الرواية عن الإمام أحمد في تصحيح هذا الحديث، فروي عنه إنكاره وروي عنه الاحتجاج به في التوقين بهذا المقدار. فإذا ثبت استحباب ذلك فهو مخير بين التنوير بالنورة وبين حلقه بالموسى، فقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه كان يتنور، وكذلك روي منصور بن حبيب بن أبي

ثابت رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه طلى له أبو بكر وتولى هو عانته بيده. وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه خلافه فقال: «لم يتنور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قط، وكان إذا كثر عليه الشعر حلقه». فإذا ثبت هذا فيجوز أن يتولى ذلك غيره إذا لم يحسن هو حلقه فيما سوى العانة من الفخذ والساق، فإذا بلغ العانة تولاها هو بنفسه. والأصل في ذلك ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها: «إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا بلغ عانته نورها بنفسه»، وفي بعض الألفاظ: «إذا بلغ مراقه». وأخذ أحمد بن حنبل رحمه الله بهذا. قال أبو العباس النسائي: نورنا أبا عبد الله فلما بلغ عانته نورها بنفسه. فإذا ثبت هذا وأنه يجوز إزالة هذه الشعور من العانة والفخذين والساقين بالنورة، فيجوز أيضًا بالموسى، لأنه أحد ما يزال به الشعر من المواضع المندوب إزالته، فجاز أن يزال به كالنورة. ويؤيد هذا القياس حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: «لم يتنور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قط، وكان إذا كثر عليه الشعر حلقه». ولا يقال إن الحلق والتنوير إنما وردا في العانة خاصة لما تقدم من حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: «إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا بلغ عانته نورها بنفسه» فدل على أنه كان يولي غير العانة في إزالة الشعر لغيره، وليس ذلك إلا الفخذ والساق، وإن ذكر في ذلك حديث في المنع من ذلك فهو محمول على من أراد بذلك التزيين لرغبة الرجال فيه من العلوق المتشبهين بالنساء من المخانيث وغيرهم والله تعالى أعلم بالصواب.

فصل تقليم الأظفار

(فصل: ويكره نتف الشيب) لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنهم قال: «إن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن نتف الشيب، وقال: إنه نور الإسلام». وفي لفظ آخر قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تنتفوا الشيب، ما من مسلم ألبس شيبة في الإسلام إلا كانت له نورًا يوم القيامة»، وفي حديث يحيى: «إلا كتب الله تعالى له بها حسنة وحط عنه بها خطيئة». فقد روي في بعض التفاسير في قوله عز وجل: {وجاءكم النذير} [فاطر: 37] أنه هو الشيب، فكيف يجوز إزالة النذير بالموت، والمذكر به، والناهي عن الشهوات واللذات، والكاف عنها المحث على التأهب والتجهز، للآخرة، وعمارة دار البقاء؟ ومع ذلك يكون مقاومًا للقدر، كارهًا لفعل الله تعالى به، وغير راض بقضائه عز وجل، مؤثرًا للشباب والطراوة والبقاء على حداثة السن، زاهدًا في الوقار والحرمة والتقمص بنور الإسلام وخلقة إبراهيم خليل الرحمن، لأنه روي في بعض الكتب: «إن أول من شاب في الإسلام إبراهيم الخليل عليه السلام». وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن الله يستحي من ذي الشيبة» يعني من عذابه. (فصل: ويستحب تقليم الأظفار يوم الجمعة) ويكون مخالفًا بينها في الترتيب، لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من قص أظفاره مخالفًا لم ير في عينيه رمدًا». وفي حديث حميد بن عبد الرحمن عن أبيه «من قص أظفاره يوم الجمعة دخل فيه شفاء وخرج منه داء».

فصل حلق الرأس في غير الحج والعمرة

وقد روى هذه الفضيلة والاستحباب في ذلك يوم الخميس بعد العصر ومعنى المخالفة: أن يبدأ بالخنصر من اليمنى ثم بالوسطى ثم بالإبهام ثم بالبنصر ثم بالسبابة. ومن اليسرى أن يبدأ بالإبهام ثم الوسطى ثم الخنصر ثم السبابة ثم البنصر، هكذا فسره عبد الله بن بطة عن أصحابنا رحمه الله. وروى وكيع عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا عائشة إذا أنت قلمت أظافرك فابدئي بالوسطى ثم الخنصر ثم الإبهام ثم البنصر ثم السبابة، فإن ذلك يورث الغنى». وينبغي أن يكون التقليم بالمقص أو السكين، ويكره ذلك بالأسنان، وإذا قلم أظفاره يستحب له غسل البراجم ودفن الأظفار في التراب، وكذلك الشعور من الرأس والبدن، والدم من الحجامة والفصد لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أمر بدفن الدم والشعر والظفر. (فصل) وأما حلق الرأس في غير الحج والعمرة والضرورة فمكروه في إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رضي الله عنه، لما روي في حديث أبي موسى وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ليس منا من حلق». وروي الدارقطني في الأفراد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا توضع النواصي إلا في الحج أو عمرة»، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذم الخوارج وجعل سيماهم حلق الرؤوس، ولأن عمر رضي الله عنه قال لصبيغ: «لو وجدتك محلوقًا لضربت الذي فيه عيناك».

فصل كراهة القزع

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الذي يحلق في المصر خليق بالشيطان، ولأن في ذلك تشبهًا بالأعاجم، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من تشبه بقوم فهو منهم». وإذا ثبت كراهية ما ذكرنا جعل مكانة أخذ الشعر بالجلم وهو المقص، كما كان يفعل أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وإن شاء استقص في ذلك فيقصه من أصله، وإن شاء أخذ أطراف الشعر، والرواية الأخرى، لا يكره ذلك لما روى أبو داود بإسناده عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: «إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمهل آل جعفر ثلاثًا أن يأتيهم ثم أتاهم فقالوا: لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: ادعوا لي بني أخي، فجيء بنا كأنا أفرخ، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ادعوا لي الحلاق، فأمره فحلق رؤوسنا. وقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حلق رأسه في آخر عمره بعد أن كان شعره يضرب منكبيه. وفي حديث علي رضي الله عنه: كان شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى شحمتي أذنيه. ولأن الناس عصرًا بعد عصر يحلقون ولم يظهر عليهم نكير، ولأن في ذلك مشقة وحرجًا فعفى عنه كما عفى عن سؤر الهرة وحشرات الأرض. (فصل: ويكره القزع) وهو أن يحلق بعض الشعر ويترك بعضه، لماروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه نهى عن القزع. وأما حلق القفا فمكروه إلا في الحجامة خاصة، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن حلق القفا إلا في الحجامة، لأنه من فعل المجوس، وكان أبو عبد الله أحمد يحلقه في الحجامة،

ولأن ذلك في حال الضرورة. وأما اتخاذ الجمة وفرق الشعر فسنة مأثورة، روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فرق، وأمر أصحابه رضي الله عنهم بالفرق، وقد روى ذلك عن بضعة عشر من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم أبو عبيدة وعمار وابن مسعود رضي الله عنهم. (فصل: ويكره التحذيف للرجال) وهو إرسال الشعر الذي بين العذار والنزعتين الذي هو عادة العلويين، ولا يكره ذلك للنساء، لما روى أبو بكر الخلال من أصحابنا بإسناده عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كرهه. وعن الوليد بن مسلم أنه قال: أدركت الناس وما هو من زيهم. وأما أخذ الشعر من الوجه بالمنقاش فمكروه للرجال والنساء، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعن المتنمصات. وهو أخذ الشعر من الوجه بالمنقاش، ذكره أبو عبيد. وأما المرأة فيكره لها حف جبينها -بالزجاج والموسى- والشعر الخارج عن وجهها لما تقدم من النهي عن ذلك. وقيل: يجوز لها ذلك لزوجها خاصة إذا طلب منها ذلك، وخافت إن لم تفعله أعرض عنها وتزوج بغيرها، فأدى إلى الفساد والمضرة بها، فيجوز لها ذلك لما فيه من المصلحة، كما جوز لها التزيين بألوان الثياب والتطيب بأنواع الطيب والتزوق له والملاعبة والممازحة معه. فعلى هذا لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- المتنمصات على اللواتي أردن بذلك غير أزواجهن للفجور بهن والميل إليهن وترويج أنفسهن للزنا، والله أعلم.

(فصل: ويكره الخضاب بالسواد) لما روى الحسن رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في قوم يغيرون البياض بالسواد: «يسود الله تعالى وجوههم يوم القيامة». وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال فيهم: «لا يريحون رائحة الجنة». وأما الاخبار التي رويت في الرخصة في الخضاب بالسواد من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اختضبوا بالسواد فإنه آنس للزوجة ومكيدة للعدو» فمحمول لأجل الحرب، وذكر الزوجة فيه تبعًا لا قصدًا. (فصل) فإذا ثبت كراهية السواد فالمستحب أن يخضب الرأس بالحناء والكتم، وقد خضب الإمام أحمد رحمه الله رأسه وله ثلاث وثلاثون سنة، فقال له: عجلت، فقال له: هذه سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وروى عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه قال: خير ما غير به الشيب الحناء والكتم. وأما خضاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاختلف الناس في ذلك، فروي عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن شاب إلى يسيرًا، ولكن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما خضبا بعده بالحناء والكتم. وروي أن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أخرجت للناس شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مخضوبًا بالحناء والكتم، فدل حديثها على إثبات خضابه -صلى الله عليه وسلم- بذلك. وأما الخضاب بالورس والزعفران، فظاهر كلام الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه فيه

فصل في الاكتحال

الجواز، لما روي عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: «كان خضابنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالورس والزعفران». فإذا ثبت هذا في شعر الرأس فمثله في اللحية، لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: «غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود». وقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي ذر -رضي الله عنه-: «خير ما غير به الشيب الحناء والكتم». وهو عام في شعر الرأس واللحية. وأيضًا ما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه جاء بأبيه أبي قحافة رضي الله عنه يوم فتح مكة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه تكرمة لأبي بكر، فأسلم ورأسه ولحيته كالثغامة البيضاء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «غيروهما وجنبوه عن السواد». وهذا نص في كون اللحية كالرأس وفي المنع عن السواد. وقال أبو عبيد: الثغامة نبت أبيض الزهر والثمر يشبه بياض الشيب به. وقال ابن الأعرابي: هي شجرة تبيض كأنها الثلج. (فصل: ويستحب أن يكتحل وترًا) لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنه كان يكتحل وترًا». واختلف الناس في صفة الوتر في ذلك، فروي في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يكتحل ثلاثًا في اليمنى وميلين في اليسرى، وروي في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: في كل عين ثلاثًا. (فصل: ويدهن غبًا) وهو أن يفعل ذلك يومًا ويترك يومًا، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي:

فصل ما يستحب للإنسان ألا يخلو منه سفرا وحضرا

-صلى الله عليه وسلم- «نهى أن يترجل الرجل إلا غبًا». والفضيلة في ذلك ان يكون بدهن البنفسج على سائر الأدهان، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن فضل دهن البنفسج على سائر الأدهان كفضلي على سائر الناس». (فصل) ويستحب ألا يخلو الإنسان سفرًا وحضرًا عن سبعة أشياء بعد تقوى الله تعالى والثقة به وهي: التنظيف والتزيين، والمكحلة، والمشط، والسواك، والمقص، والمدراء: وهي خشبة مدورة الرأس أوفى من شبر يتخذها العرب والصوفية يدرؤون بها عن أنفسهم الأذى كالقمل وغيرها، ويحكون بها الجسد، ويقتلون الدبيب حتى يباشروا كل شيء بأيديهم، والسابع: قارورة الدهن، لأنه روي في حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما كان يفوته ذلك حضرًا ولا سفرًا. (فصل: فيما يكره من الخصال) يكره الصفير والتصفيق، وفرقعة الأصابع في الصلاة. ويكره تخريق الثياب في حق المتواجد عند السماع، ولا يعارض في ذلك الواجد. ويكره الأكل على الطريق. ومد الرجل بين جلسائه، والإتكاء الذي يخرج به عن مستوى الجلوس لأنه تجبر وهوان بالجلساء إلا من العذر. ويكره إطالة الثياب. ويكره مضغ العلك لأنه دناءة. ويكره التشدق بالضحك، والقهقهة ورفع الصوت في غير حاجة وينبغي أن يكون

(فصل: في الاستئذان)

مشيه معتدلًا، لا يسارع إلى حد يصدم الماشي، ويتعب نفسه، ولا يخطر بحيث يورثه العجب. ويكره في البكاء النحيب والتعداد إلا أن يكون من خوف الله تعالى أو الندم على ما فات من أوقات ببطالاته، أو انكسار قلبه عند عدم بلوغه إلى درجة لحظها فيبكي حسرة عليها. ويكره إزالة درنه بحضرة الناس. ويكره الكلام في المواضع المستقذرة كالحمام والخلاء وما أشبه ذلك، وكذلك لا يسلم ولا يرد على مسلم. ويكره كشف رأسه بين الناس، وما ليس بعورة مما جرت العادة بستره. ويحرم كشف العورة. ويكره أن يقسم بأبيه أو بغير الله في الجملة، فإن حلف حلف بالله أو فليصمت، كذلك جاء في الأثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. (فصل: في الاستئذان) ينبغي له إذا قصد باب إنسان أن يسلم فيقول: السلام عليكم، أأدخل؟ لما روي «أن رجلًا من بني عامر استأذن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في بيت، فقال: أألج؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لخادمه: أخرج إلى هذا وعلمه الاستئذان، فقال له: قل السلام عليكم، أأدخل؟ فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فأذن له فدخل». ويدير ظهره إلى الباب ولا يبعد، لأنه يمنعه من سماع الجواب، يفعل كذلك ثلاثًا، فإن أجيب فيها وإلا انصرف، إلا أن يغلب على ظنه أنه لم يسمع نداءه لما بينهما من بعد أو شغل، كان له أن يزيد على الثلاث والأصل في ذلك ما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك فأدخل وإلا فارجع».

وسواء في ذلك الأجانب والأقارب المحرمات كالأم وما شاكلها لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأله رجل هل علي أن أستأذن على أمي؟ قال: نعم، قال: إني معها في البيت، قال -صلى الله عليه وسلم- استأذن عليها، قال: إني خادمها، قال: استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟. فأما زوجته وأمته فالجائز له وطؤها فليس عليه الاستئذان في حقهما، لأن أكثر ما في ذلك أن تصادف منكشفة أو منبسطة، وقد أبيح له النظر إلى أبدانهن، ولكن يستحب له أن يحرك نعله أولًا إذا دخل المنزل ليعلم دخوله، نص على ذلك الإمام أحمد في رواية مهنى عنه. ثم إذا دخل يسلم على أهله ليكثر خير بيته، كما جاء في الأثر. وسنستوفي ذلك في باب دخول المنزل إن شاء الله تعالى. ولا يطرق أهله ليلًا لنهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يطرق الرجل أهله ليلًا، وقد فعل ذلك رجلان فوجدا عند أهلهما ما يكرهان. فإذا أذن له في دار غيره فدخل جلس حيث يأذن له صاحب الدار، وإن كان من أهل الذمة. وإن فاجأ قومًا وهم على طعامهم فلا يأكل إلا أن يكون صاحب الطعام ممن جرت عادته بالسماحة وطيب القلب بذلك. (فصل: فيما يستحب فعله بيمينه وما يستحب فعله بشماله) يستحب له تناول الأشياء بيمينه، والأكل والشرب والمصافحة والبداءة بها في الوضوء والانتعال ولبس الثياب، وكذلك يبدأ في الدخول إلى المواضع المباركة كالمساجد والمشاهد والمنازل والدور برجله اليمنى. وأما الشمال فلفعل الأشياء المستقذرة وإزالة الدرن كالاستنثار والاستنجاء وتنقية الأنف وغسل النجاسات كلها إلا أن يشق عليه ذلك أو يتعذر كالمشلول والمقطوع يساره

(فصل: في آداب الأكل والشرب)

فيفعلها بيمينه، ولا يمشي في نعل واحد إلا أن يكون ذلك يسيرًا بمقدار ما يصلح الأخرى إذا انقطع شسعها. وإذا أراد أن يناول إنسانًا توقيعًا أو كتابًا فليقبضه بيمينه. وإذا مشى مع من هو أعلى منه في المنزلة والفضل فليمش عن يمينه يجعله كإمامه في الصلاة، وإن كان دونه في المنزلة يجعله عن يمينه ويمشي عن يساره وقد قيل: المستحب المشي على اليمين في الجملة لتخلي اليسار للبزاق وغيره. * * * (فصل: في آداب الأكل والشرب) ويستحب للآكل أن يسمي الله تعالى عند أكله ويحمده عند فراغه، وكذلك عند الشرب، لأن ذلك أبرك لطعامه وأبعد لشيطانه، لما روي أن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا: «يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فلعلكم تفترقون؟ قالوا: نعم، قال -صلى الله عليه وسلم-: فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله تعالى يبارك لكم فيه». وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لأولاده لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، فإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء». وعن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: كنا إذا حضرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طعامًا لم يضع أحدنا يده حتى يبدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنا حضرنا معه طعامًا فجاء أعرابي كأنما يدفع، فذهب يده في الطعام، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده، ثم جاءت جارية كأنما تدفع، فذهبت لتضع يدها في الطعام فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدها، وقال: إن الشيطان

يستحل الطعام الذي لم يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذا الأعرابي يستحل به فأخذت بيده، وجاء بهذه الجارية يستحل بها فأخذت بيدها، فوالذي نفسي بيده إن يده في يدي مع أيديهما». وإن نسى أن يذكر اسم الله تعالى عند أوله فليقل: بسم الله أوله وآخره، هكذا روي في حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. ويستحب أن يبدأ بالملح ويختم به. ويتناول اللقمة بيمينه ويصغرها ويجيد مضغها ويطيل بلعها. ويأكل مما يليه إذا كان نوعًا واحدًا، وإن كان أنواعًا فلا بأس أن يجيل يده في القصعة، وكذلك إذا كان ثمارًا أو فاكهة، ولا يأكل من ذروة الطعام ووسطه بل يأكل من جوانبه. وإن كان ثريدًا أكل بثلاث أصابع ولعقها. ولا ينفخ في الطعام ولا الشراب، ولا يتنفس في إنائه. وإذا ضاق نفسه نحى القدح عن فيه، فإذا تنفس أعاده إليه. ويكره الاتكاء في الأكل. ويجوز الأكل والشرب قائمًا، وقيل: يكره، والجلوس أحب. وإذا أراد دفع الإناء إلى أحد من جلسائه بدأ بمن عن يمينه. لا يجوز الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة ولا المضبب بهما إذا كان ذلك كثيرًا. وإذا قدم بين يديه في شيء من ذلك طعام رفعه من الإناء إلى الخبز أو إناء غير ذلك الجنس ثم أكله. والإنكار على من أحضره واجب. وكذلك الحكم في البخور في مداخن الذهب والفضة.

وكذلك الحكم في ماء الورد من المراش المتخذة من ذلك، فيحرم عليه الحضور في تلك البقعة، ويتعين عليه الإنكار والقيام عن ذلك المجلس. ويكون إنكاره برفق أن يقول: تمام سروركم أن تتجملوا بما أباحته الشريعة وجعلته حلالًا، لا بما حرمته وحظرته، ولا خير في لذة تؤول إلى معصية، اذكروا رحمكم الله قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من شرب في إناء ذهب أو فضة أو إناء فيه شيء من ذلك فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم». وإذا حصلت اللقمة في فيه فلا يخرجها منه إلا أن يضطر إلى ذلك لشرقة أو حرارة يتضرر بها. وإذا عطس على طعامه خمر وجهه واحتاط بستره لأجل الطعام. وإذا كان على رأسه إنسان قائم أذن له بالجلوس، فإن أبى عليه أو قام مملوكه أو غلامه لقضاء حاجته وسقيه الماء أخذ من أطايب الطعام فلقمه. ويستحب مسح الإناء من فضلة الطعام ولقط الفتات من جوانب الإناء والطبق. ويستحب أن يباسط الإخوان بالحديث الطيب، والحكايات التي تليق بالحال، إذا كانوا منقبضين. وينبغي أن يأكل مع أبناء الدنيا بالأدب، ومع الفقراء بالإيثار، ومع الإخوان بالانبساط، ومع العلماء بالتعلم والإتباع. وإذا أكل مع ضرير أعلمه بما بين يديه فربما فاته أطايب الطعام لعماه. ويستحب الإجابة إلى وليمة العرس، فإن أحب أن يأكل أكل وإلا دعا وانصرف، لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من دعى فليجب فإن شاء طعم وإن شاء ترك». وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من دعى فلم يجب فقد عصا الله تعالى ورسوله، ومن دخل على غيره دعوة دخل سارقًا وخرج مغيرًا».

هذا الذي ذكرناه إذا كان ذلك خاليًا عن المنكر، فإن حضره منكر كالطبل والمزمار والعود والناي والشيز والشبابة والرباب والمغاني والطنابير والجعران التي يلعب بها الترك لا يجلس هناك، لأن جميع ذلك محرم. وأما الدف فيجوز استعماله في النكاح. وسماع القول بالقصب، والرقص مكروه، لما فسر بعض المفسرين قوله عز وجل: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} [لقمان: 6] فقال هو الغناء والشعر. وجاء في بعض الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت السيل البقل». وسئل الشبلي رحمه الله عن الغناء فقال: أحق هو؟ قيل: لا، قال: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} [يونس: 32]. ثم يكفى في كراهته، ما في ذلك من ثوران الطبع وهيجان الشهوة والميل إلى النساء، وأباطيل النفوس ورعوناتها والطرب والسخف والدناءة، والاشتغال بذكر الله تعالى أطيب وأسلم لمن آمن بالله واليوم الآخر. ودعوة الختان ليست مستحبة، ولا على من دعى إليها أن يجيب. ويكره التقاط النثار لأنه يشبه النهبة، وقد سخف ودناءة. ويكره حضور طعام الولائم ما عدا العرس إذا كان على الصفة التي وصفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمنع منه المحتاج ويحضره المستغنى عنه. ويكره لأهل الفضل والعلم في الجملة التسرع إلى إجابة الطعام والتسامح بذلك لما فيه من الذلة والدناءة والشره، لاسيما إذا كان حاكمًا، وقيل: ما وضع أحد يده في قصعة أحد إلا ذل. ويحرم التطفل على طعام الناس وهو دخوله مع المدعوين من غير أن يدعى، وهو ضرب من الوقاحة والغصب، ففيه إثمان: أحدهما: الأكل لما لم يدع إليه.

والآخر: دخوله إلى منزل الغير بغير إذنه، والنظر إلى أسراره والتضييق على من حضره. ومن الأدب أن لا يكثر النظر في وجوه الآكلين لأنه مما يحشمهم. ولا يتكلم على الطعام بما يستقذره الناس من الكلام، ولا بما يضحكهم خوفًا عليهم من الشرق، ولا بما يحزنهم لئلا ينغص على الآكلين أكلهم. ويستحب غسل اليد قبل الطعام وبعده، وقيل: يكره قبل الطعام ويستحب بعده. ويكره أكل البقلة الخبيثة، وهي الثوم والبصل والكراث لكراهة ريحه، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مصلانا». وكثرة الأكل بحيث يخاف من التخمة مكروهة، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرًا من بطنه». ويكره لغير صاحب الطعام من الضيف أن يلقم من حضر معه على الطبق إلا بإذن صاحب الطعام، لأنه يأكل على ملك صاحبه على وجه الإباحة، وليس ذلك بتمليك، ولهذا اختلف الناس في الوقت الذي يحصل فيه الطعام ملكًا للأكل: فقال قوم: إذا حصل في فيه واستهلك. وقال آخرون: لا يملكه بل يأكله على ملك مالكه. وإذا قدم الطعام فلا يحتاج بعد التقديم إلى إذن إذا كان قد جرت العادة في ذلك البلد للآكل كذلك، فيكون العرف إذنًا. ويكره إخراج شيء من فيه ورده إلى القصعة. ويكره التخلل على الطعام. ولا يمسح يده بالخبز ولا يستبذله. ولا يخلط طعامًا بطعام يعني ألوان الطبائخ، لأنه قد يكره ذلك طباع كثير من الناس، وإن كانت نفسه تميل إليه فيترك ذلك لأجلهم. ولا يجوز له ذم الطعام، ولا لصاحب الطعام استحسانه ومدحه ولا تقويمه لأنه

دناءة، وقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما مدح طعامًا ولا ذمه. ولا يرفع يده حتى يرفعوا أيديهم، إلا أن يعلم منهم الانبساط إليه فلا يتكلف ذلك. ويستحب أن يجعل ماء الأيدي في طست واحد، لما روى في الخبر «لا تبددوا يبدد الله شملكم». وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يرفع الطست حتى يطف، يعني يمتلئ. ولا يغسل يده بما يطعم من دقيق الباقلاء والعدس والهرطمان وغير ذلك، ويجوز بالنخالة. ولا يقرن بين التمرتين لنهيه -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، وقيل: لا يكره ذلك إن كان وحده أو كان هو صاحب الطعام. ولا يتخير الأطعمة على صاحب الدار بل يقنع بما قدمه، لأن ذلك يحمله على التكلف، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «أنا وأتقياء أمتي براء من التكلف». فإن استدعى منه صاحب الدار التشهي عليه كان له أن يذكر شهوته. ويكره له رد الهدية وإن قلت إذا كانت حلالًا طيبة، واجتهد في المكافأة أو الدعاء له. ومن سقط في طعامه أو شرابه شيء فلا يخلو إما أن يكون له نفس سائلة ما عدا السمك فيكون الطعام نجسًا، ويحرم أكله إذا كان مائعًا، وإن كان جامدًا رفعه وما حوله. وإن كان مما لا نفس له سائلة: فإن كان من ذوات السموم لم يأكله، ويحرم الطعام لأجل الضرر به لا لعينه كالحية والعقرب، وإن كان ذبابًا غمسه في الطعام حتى يغوص جناحاه ثم أخرجه، وإن مات فإن الطعام طاهر يأكله، لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه فيه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء وأنه يتقى بالذي فيه الداء».

دعاء الإفطار عند الغير

ويستحب مص الشراب، ولا يكرعه كرعًا، ويقطعه ثلاث دفعات للنفس. ولا يتنفس في الإناء. ويسمي على أوله ويحمد الله في آخره. والاختصار لهذه الجملة أن قول هي اثتنا عشرة خصلة: أربع منها فريضة وأربع سنة وأربع آداب. فأما الفريضة: فالمعرفة بما يأكله من أين هو، والتسمية، والرضا، والشكر. وأما السنة: فالجلوس على الرجل اليسرى، والأكل بثلاث أصابع، ولعق الأصابع، والأكل مما يليه. وأما الآداب: فالمضغ الشديد وتصغير اللقم، وقلة النظر إلى وجوه القوم، وألا يفرش المائدة بالخبز ويضع فوقه الأدم، وألا يأكل متكئًا ولا مضجعًا ولا منبطحًا على بطنه. (فصل) فإذا أفطر عند غيره قال: أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وتنزلت عليكم الرحمة، وصلت عليكم الملائكة، الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين، وهدانا من الضلالة وفضلنا على كثير من خلقه تفضيلًا، اللهم اشبع جياع أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، واكس عاريها، وعاف مرضاها، ورد غائبها، واجمع شمل أهل الدار، وأدر أرزاقهم، واجعل دخولنا بركة، وخروجنا مغفرة، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار برحمتك يا أرحم الراحمين * * *

(فصل: في آداب الحمام)

(فصل: في آداب الحمام) بناء الحمام وبيعه وشراؤه وكراؤه مكروه في الجملة، لما فيه من مشاهدة عورات الناس، وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: بئس البيت الحمام ينزع من أهله الحياء ولا يقرأ فيه القرآن. وأما دخوله فالأولى ألا يدخله إذا وجد من ذلك بدًا، لما ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يكره الحمام، ويعلل بأنه من رقيق العيش. وعن الحسن وابن سيرين أنهما كان لا يدخلان الحمام. وقال عبد الله بن الإمام أحمد رحمهما الله: ما رأيت أبي قد دخل الحمام. وإن كان به حاجة إلى ذلك ودعته الضرورة جاز له دخوله مستترًا بمئزر غاضًا بصره عن عورات الناس. وإن أمكنه إن يخلي الحمام له فيدخله بالليل أو وقتًا يقل زبونه بالنهار فلا بأس. وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن ذلك فقال: إن كنت تعلم أن كل من في الحمام عليه إزار فادخله وإلا فلا تدخله. وقد روت عائشة رضي الله عنها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «بئس البيت الحمام بيت لا يستر وماؤه لا يطهر». وقالت عائشة رضي الله عنها أيضًا: «ما يسر عائشة أنها داخلته ولها مثل أحد ذهبًا» وقال -صلى الله عليه وسلم- في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر». وأما النساء فإنما يجوز لهن دخول بالشرائط التي ذكرناها في حق الرجال، ووجود العذر والحاجة كالمرض والحيض والنفاس، لما روى ابن عمر رضي الله عنها عن النبي

فصل: في النهي عن التعري في الجملة وفي حال الغسل

-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ستفتح عليكم أرض العجم، وستجدون بيوتًا يقال لها الحمام، فلا يدخلها الرجال إلا بإزار، وامنعوا منها النساء إلا مريضة أو نفساء». وإذا دخل الحمام فلا يسلم ولا يقرأ القرآن، لما تقدم من حديث علي رضي الله عنه. (فصل: في النهي عن التعري في الجملة وفي حال الغسل) روى أبو داود بإسناده عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قال: قلت: يا رسول الله إذا كان القوم بعضهم في بعض قال: إن استطعت ألا يرينها أحدٌ فلا يرينها، قال: قلت: يا رسول الله إذا كان أحدنا خاليًا؟ قال: الله أحق أن يستحيا منه من الناس». وروى أبو داود بإسناده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا ينظر الرجل إلى عرية الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عرية المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب». وأما حالة الغسل في موضع خال لا يراه أحد، فيكره له أن يغتسل بلا مئزر، لما روى أبو داود بإسناده عن عطاء عن يعلى بن أمية أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلًا يغتسل بالبزار بلا إزار، فصعد المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: «إن الله حيي ستير يحب الستر والحياء فإذا اغتسل أحدكم فليستتر». وأما إن دخل الماء للغسل أو لغيره فيكره أيضًا بلا مئزر، لأن للماء سكانًا لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- «أنه نهى أن يدخل الرجل الماء بلا مئزر».

فصل: في لبس الخواتم واتخاذه

وعن الحسن رحمه الله أنه قال: «إن للماء سكانًا، وإن أحق من استتر من سكانه لنحن». (فصل) وقد رخص الإمام أحمد رحمه الله في ذلك في رواية أخرى وأنه لا يكره ذلك، لأنه سئل عن رجل كان عند نهر ليس يراه احد، قال: أرجو. ومعنى ذلك أنه لا يكون به بأس. والأولى والأصح: ما تقدم من النهي. * * * (فصل: في لبس الخواتم واتخاذه) عن أبي داود رحمه الله بإسناده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكتب إلى بعض الأعاجم فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتابًا إلا بخاتم، فاتخذ خاتمًا من فضة، ونقش فيه محمد رسول الله». وعن أنس رضي الله عنه أنه قال: «كان خاتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من فضة كله فصه منه». وفي لفظ عن أنس رضي الله عنه قال: «كان خاتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ورق فصه حبشي». وروى أبو داود بإسناده عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «اتخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاتمًا من ذهب وجعل فصه مما يلي بطن كفه، ونقش فيه: محمد رسول الله، فاتخذ الناس خواتم الذهب فلما رآهم قد اتخذوها رمي به وقال: لا ألبسه أبدًا، ثم اتخذ خاتمًا من فضة نقش فيه محمد رسول الله، ثم لبس الخاتم بعده أبو بكر، ثم لبسه بعد أبي بكر عمر، ثم لبسه عثمان حتى وقع في بئر أريس».

فصل: في آداب الخلاء والاستنجاء

(فصل) ويكره اتخاذه من الحديد والشبه، لما رواه أبو داود بإسناده عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: ((إن رجلًا جاء إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعليه خاتم من شبه فقال له: ما لي أجد منك ريح الأصنام فطرحه، ثم جاء وعليه خاتم من حديد، فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل النار فطرحه، فقال: يا رسل الله من أي شيء أتخذه؟ قال- صلى الله عليه وسلم-: اتخذه من ورق ولا تتمه مثقالًا". (فصل) ويكره التختم في الوسطى والسبابة، لما روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى عليًا رضي الله عنه عن ذلك. (فصل) والاختيار التختم في اليسرى وفي الخنصر، لما روى أبو داود رحمه الله بإسناده عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يتختم في يساره، وكان فصه في باطن كفه. وروى ذلك عن أكثر السلف الصالح، ولأن خلاف ذلك عادة وشعار المبتدعة، ولأن المستحب أن يكون تناول الأشياء باليمين، لتوضع بالشمال، وفي ذلك صيانة للخاتم وصيانة للمكتوب عليه من الأسماء والحروف. وقد روى عن علي رضي الله عنه أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يتختم في يمينه فعلى هذا اليمين واليسار سواء، والاختيار الأول. * * * (فصل: في آداب الخلاء والاستنجاء) إذا أراد دخول الخلاء نحى عنه ما كان فيه ذكر الله عز وجل كالخاتم والتعويذ وغيرهما. ويقدم رجله اليسرى ويؤخر اليمنى ويقول: بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم. لما روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إن هذه الحشوش محتضرة، فاستعيذوا بالله من

الشيطان، وليقل أحدكم أعوذ بالله من الرجس النجس الخبيث الشيطان الرجيم)). ويكون مغطى الرأس مستترًا، ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض، ويكون اعتماده على رجله اليسرى؛ لأنه أسهل لخروج الخارج، ولا يتكلم ولا يرد على من يسلم عليه، ولا يجيب متكلمًا، ويحمد الله في قلبه عند العطاس، ولا يرفع رأسه إلى السماء، ولا يضحك مما يخرج منه ولا من غيره، ويبعد عن الناس، ويهيئ موضعًا مستقلًا رخوًا لبوله لئلا يترشش عليه، ولا يرى عورته أحدًا، فإن كان الموضع صلبًا أو مهب الريح ألصق رأس ذكره بالأرض، وإن كان في الصحراء لم يستقبل القبلة ولم يستدبرها بل يشرق أو يغرب كما جاء في الخبر. ولا يستقبل الشمس والقمر، ولا يبل في جحر، ولا تحت شجرة مثمرة، ولا غير مثمرة لأنه قد يستظل بها الناس فتتلوث ثيابهم، وقد يسقط من ثمرها فيتنجس، ولا في الطريق، ولا في مشرعة نهر، ولا في فناء حائط لأنه بذلك يستحق اللعنة كما ورد في الخبر. ولا يذكر الله في موضعه بالقرآن ولا بغيره تنزيهًا لاسمه عز وجل. ولا يزيد على بسم الله، والتعوذ من الشيطان على ما ذكرنا. فإذا فرغ قال: ((الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني، غفرانك)). ثم يقوم عن موضعه إلى موضع طاهر، ولا يستنجي هناك لئلا تتلوث يده بالنجاسة، أو يرش الماء على بدنه وثيابه، ثم ينظر فإن كان الخارج لم ينتشر عن المخرج إلا بمقدار ما جرت العادة به كان مخيرًا بين الاستجمار بجامد وبين الاستنجاء بالماء! فإن اختار الجامد فالاختيار الحجر، وعدده ثلاثة أحجار إن كان لم يستجمر بهن أحد من قبل، طاهرة فيأخذ حجرًا منها بيمينه، فيبدأ بالقبل بعد أن يمسح أصل ذكره إلى رأسه، وينثره ثلاثًا بيده اليسار متنحنحًا ليتحقق استفراغ البول بذلك فهو ال استبراء. ويأخذ ذكره بشماله، ويمده على الحجر الذي في يمينه فيمسحه عليه، حتى يرى موضع المسح جافًا، يفعل كذلك بثلاثة أحجار، وإن لم يقدر على الأحجار فبثلاث

خرق أو خزف أو مدر أو ثلاث حيثات من تراب، أو يمسحه على الأرض أو الحائط عند عدم هذه الأشياء، حتى يرى الجفافة والنشافة عن أثر كل مسحة، فإذا فعل ذلك فقد سقط عنه حكم القبل. وينبغي أن يحتزر عن مد الذكر في الاستبراء من موضع الحشفة؛ لأنه قد يبقى البول في قصبة الإحليل ثم يخرج بعد فراغه من الوضوء فيبطل وضوؤه، ولهذا شرع في حقه أن يخطو خطوات قبل الاستبراء والتنحنح خوفًا من بقاء شيء من البول في الإحليل. وأما الدبر فيأخذ الحجر بشماله ويمسحه على المسربة من مقدمها إلى أن يبلغ مؤخرها، ثم يرمى به، ثم يأخذ الحجر الثاني ويبدأ به من مؤخرها فيمسحها إلى أن يبلغ مقدمها ثم يرمى به، ثم يأخذ الحجر الثالث فيديره حول المسربة فيرمي به، وقد حصل بذلك الإجزاء. فإن لم ينق بذلك بأن رأى على الحجر الأخيرة نداوة زاد إلى خمسة، وإن لم ينق بذلك زاد إلى سبعة أو تسعة، ولا يقطعه إلا على وتر. وإن نقى بحجر واحد أو باثنين زاد إلى ثلاثة، لأن الشرع بذلك ورد. وقد ذكر للاستجمار صفة أخرى، وهو أن يأخذ الحجر بشماله فيضعه على مقدم صفحته اليمنى، ثم يمره إلى مؤخرها، ثم يديره إلى اليسرى فيمره عليها إلى مؤخرها حتى يبلغ الموضع الذي بدأ منه، ويأخذ حجرًا آخر فيمره من مقدم صفحته اليسرى كذلك، ثم يأخذ حجرًا آخر فيمسح به الوسط. الكل جائز فقد جاء في الأثر أن رجلًا قال لبعض الصحابة من الأعراب وقد خاصمه: ((لا أحسبك أنك تحسن الخراءة، فقال: بلى وأبيك إني بها لحاذق. قال: فصفها لي، قال أبعد الأثر، وأعد المدر، واستقبل الشيخ، واستدبر الريح، واقعي إقعاء الظبي، واجفل إجفال النعام)). أما الشيخ: فهو نبت طيب الريح يكون بالبادية، والإقعاء هاهنا: الاسييفاز على صدور قدميه، والإجفال: ارتفاع عجزه عن الأرض. (فصل) والاستنجاء بالماء أن يمسك قضيبه بيده اليسرى، ويطرح الماء باليمنى فيغسله سبعًا بعد الاستبراء والتنحنح وفضل إزعاج على ما ذكرناه. وقد شبه فقهاء المدينة رحمهم الله الذكر بالضرع، فلا يزال يخرج منه الشيء بعد الشيء ما دام الرجل يمده، فإذا وقع الماء على الذكر انقطع البول.

فصل إذا انتشرت النجاسة

وأما الدبر فيباشر المحل بيده اليسرى، ويصب الماء باليمنى فيتابع صبه ويسترخي قليلًا قليلًا، ويجود ذلك الموضع بيده حتى يتيقن نظافته وينقى. ولا يلزمه غسل باطن المخرجين، لأن ذلك مما عفى عنه في الشرع. وعليه الاستنجاء من الريح. والفضيلة في الجمع بين الاستجمار بالجامد وبين الاستنجاء بالماء، فإن اقتصر على الحجر أجزأه، لكن استعمال الماء أولى في الجملة، لأنه قيل: إذا لم يستنج بالماء اعتراه الوسواس، ولهذا قيل: إن قومًا من الشعراء لا يستنجون بالماء، لأن كلام الخنا والفحش يجيء بذلك، فهو سببه. نعوذ بالله من كلام يثمره القذر والنتن. (فصل) وأما إذا انتشرت النجاسة إلى معظم حشفته في القبل، والصفحتين في الدبر لم يجزه غير الماء، لأنها خرجت من محل الترخيص، فصارت النجاسة التي على بقية البدن من الفخذ والصدر وغيرهما، فلا تزول إلا بالماء. (فصل) وصفة ما يجوز به الاستجمار أن يكون جامدًا طاهرًا منقيًا غير مطعون لا حرمه له وغير متصل بحيوان. ولا يجوز بالروث والرمة، لأنهما من طعام الجن. ولا بشيء لزج يلطخ، فلا ينقى كالحمة والزجاجة والحصاء الملساء. (فصل) ويجب ما ذكرنا من الاستنجاء لجميع مع يخرج من السبيلين سوى الريح وذلك كالغائط والبول والدود والحصا والدم والمدة والشعر. وأما الذكر فالخارج منه خمسة أشياء: أحدها: البول. والثاني: المذي وهو ماء أبيض رقيق يخرج عند اللذة وعند الملاعبة والتذكار، وحمه حكم البول وزيادة غسل الذكر والأنثيين، كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم- في حديث علي رضي الله عنه: ((ذلك ماء الفحل، ولكل فحل ماء)). فليغسل ذكره وأنثييه وليتوضأ وضوءه للصلاة.

فصل: في كيفية الطهارة الكبرى

والثالث: الودي وهو ماء أبيض خائر بأثر البول فحكمه حكم البول فقط. والرابع: المني وهو الماء الأبيض الدافق عند اللذة الكبرى بالجماع أو الاحتلام. وقد يكون أصفر عند قوة الرجل، وقد يكون أحمر عند كثرة الجماع، وقد يكون رقيقًا عند ضعف البنية والقوة. ويعلم بالرائحة كرائحة الطلع والعجين، وهو طاهر في أشهر الروايتين. وموجبه غسل جميع البدن. وماء المرأة رقيق أصفر. والخامس: الريح يخرج من القبل نادرًا كما يخرج من الدبر. (فصل: في كيفية الطهارة الكبرى) وهي على ضربين: كاملة ومجزئة. أما الكاملة فهي أن يأتي بالنية وهو اعتقاده رفع الحدث الأكبر أو الجنابة، فإن تلفظ به مع اعتقاده بقلبه كان أفضل. ويسمى عند أخذ الماء، ويغسل يديه ثلاثًا، ويغسل ما به من الأذى، ثم يتوضأ وضوءًا كاملًا. ويؤخر غسيل قدميه، ويحثى على رأسه ثلاث حثيات من الماء، يروى بها أصول شعره، ويفيض الماء على سائر جسده ثلاثًا، ويدلك بدنه بيديه ويتتبع المغابن وغضون البدن، ويتحقق وصول الماء إليهما، لقوله- صلى الله عليه وسلم-: ((خللوا الشعر، وأنقوا البشرة، فإن كل شعرة جنابة)). ويبدأ بشقه الأيمن، ثم ينتقل من موضع غسله فيغسل قدميه، فإن سلم في خلال ذلك من نواقض الطهارة الصغرى جاز له أن يصلي بهذه الطهارة، لأنا نحكم له برفع الحدثين معًا، وإلا أحدث للصلاة وضوءًا. والأصل في جميع ذلك ما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا أراد الغسل من الجنابة يغسل يديه ثلاثًا، ثم يأخذ بيمينه فيصب على شماله، ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثًا، ويغسل وجه ثلاثًا، وذراعيه ثلاثًا، ثم يصب على رأسه الماء ثلاثًا، ثم يغتسل، فإذا خرج غسل قدميه)).

فصل: في الأذكار المستحب ذكرها عند غسل الأعضاء

وأما المجزئ فهو أن يغسل فرجه، وينوي ويسمي يعم بدنه بالغسل مع المضمضة والاستنشاق، لأنهما واجبتان، وفي الصغرى روايتان أصحهما وجوبهما فيها أيضًا. ولا يجوز له أن يصلي بهذا الغسل إلا أن ينوي به الغسل والوضوء، ويتداخل بقية أفعال الوضوء في الغسل للعذر بالنية. وإذا عدمت النية لم يحصل له الوضوء، فلا تصح الصلاة، وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: ((لا صلاة لمن لا وضوء له)). بخلاف الأول فإنه قد أتى فيه بالوضوء الكامل. والإسراف في استعمال الماء غير مستحب، والاقتصاد هو المحمود المندوب إليه، وقلة الماء مع أحكام الغسل والوضوء أولى من الإسراف. وقد روى أن النبي- صلى الله عليه وسلم- توضأ بمد وهو رطل وثلث، واغتسل بصاع وهو أربعة أمداد. (فصل: في الأذكار المستحب ذكرها عند غسل الأعضاء) يقول إذا فرغ من الاستطابة: اللهم نق قلبي من الشك والنفاق، وحصن فرجي من الفواحش. ويقول عند التسمية: أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون. ويقول عند غسل يديه: اللهم إني أسألك اليمين والبركة، وأعوذ بك من الشؤم والهلكة. ويقول عند المضمضة: اللهم أعني على تلاوة كتابك، وكثرة الذكر لك. ويقول عند الاستنشاق: اللهم أوجدني رائحة الجنة، وأنت راض عني. ويقول عند الاستنشار: اللهم إني أعوذ بك من روائح النار ومن وسوء الدار. ويقول عند غسل وجهه: اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه أوليائك، ولا تسود وجهي يوم تسود فيه وجوه أعدائك. ويقول عند غسل ذراعه اليمنى: اللهم آتني كتابي بيميني، وحاسبني حسابًا يسيرًا. وعند غسل ذراعه اليسرى: اللهم إني أعوذ بك أن تؤتيني كتابي بشمالي، أو من وراء ظهري. ويقول عند مسح الرأس: اللهم غشني برحمتك، وأنزل علي من بركاتك، وأظلني

فصل: في آداب اللباس

تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك. ويقول عند مسح الأذنين: اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم أسمعني منادي الجنة مع الأبرار. ثم يمسح عنقه فيقول: اللهم فك رقبتي من النار، وأعوذ بك من السلاسل والأغلال. ويقول عند غسل قدمه اليمنى: اللهم ثبت قدمي على الصراط مع أقدام المؤمنين. ويقول عند غسل قدمه اليسرى: اللهم إني أعوذ بك أن تزل قدمي عن الصراط يوم تزل فيه أقدام المنافقين. فإذا فرغ من وضوئه رفع رأسه إلى السماء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت، عملت سوءًا وظلمت نفسي، أستغفرك وأسألك التوبة فاغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم. اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، واجعلني صبورًا شكورًا، واجعلني أذكرك كثيرًا، وأسبحك بكرة وأصيلًا. * * * (فصل: في آداب اللباس) وهو على خمسة أضرب: محرم على كل مكلف، ومحرم على شخص دون شخص، ومكروه، ومباح، متنزه عنه. فأما المحرم على كل مكلف فالمغصوب. وأما المحرم على شخص دون شخص فالحرير مباح للنساء حرام على بالغي الذكور. وهل يباح أن يلبسوه الصغار أم لا؟ على روايتين. وكذلك في إباحة لبسه للبالغين في قتال المشركين وجهادهم روايتين، فهذا هو الضرب المباح. وأما المكروه فهو إطالة الثواب إلى حد يخرج إلى الخيلاء والكبر، وكذلك ما فيه الحرير والقطن ولا يعلم هل هما نصفان أو أحدهما أكثر.

وأما المتنزه عنه فهو كل لبسة يكون بها مشتهرًا بين الناس، كالخروج عن عادة أهل بلده وعشيرته فينبغي أن يلبس ما يلبسون ولا يباينهم فيها حتى لا يشار إليه بالأصابع ويغتاب فيكون ذلك سببًا إلى حملهم على غيبته، فيشاركهم في إثم الغيبة له. (فصل) ولنا قسمان آخران في: اللباس: أحدهما: واجب، والآخر: مندوب. فأما الواجب فعلى ضربين: أحدهما: يرجع إلى حق الله تعالى. والثاني: إلى حق الإنسان خاصة. فأما الذي لحق الله تعالى فهو سترة العورة عن أعين الناس على ما بيناه في فصل التعري. وأما الذي لحق الإنسان فهو الذي يتوقى به من الحر والبرد وأنواع المضار. فيجب عليه ذلك، ولا يجوز تركه، لأن فيه عونًا على إتلاف نفسه وذلك حرام. وأما المندوب فكذلك ينقسم إلى قسمين: أحدهما: في حق الله تعالى، وهو الرداء إذا كان في جماعة ومجمع الناس فلا يعري منكبيه من شيء من الثياب الجميلة، كالأعياد والجمع وغير ذلك. والقسم الثاني: في حق المخلوقين وهو ما يتجملون به بينهم من أنواع الثياب المباحة، ولا يزري بصاحبه، ولا ينقص مروءته بينهم. ويكره الاقتعاط وهو التعمم بغير الحنك. ويستحب التلحي وهو إذا كان بالحنك. ويكره كل ما خالف زي العرب وشابه زي الأعاجم. وتطويل الذيل مكروه، لأنه ورد في الأثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إزرة المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج أو لا جناح فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، من جر إزره بطرًا لم ينظر الله إليه)) ذكره أبو داود بإسناد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم-.

واشتمال الصماء مكروه في الصلاة وهو أن يلتحف بثوب ويجعل طرفيه على جانب فلا يكون ليه موضع تخرج منه، ولذلك سمى الصماء. وكذلك يكره السدل وهو أن يترك وسط ردائه على رأسه وباقيه مسدل على ظهره، وهي لبسة اليهود. وكذلك يكره الاحتباء وهو أن يجلس ويضم ركبتيه إلى نحو صدره ويدير ثوبه من وراء ظهره إلى أن يبلغ ركبتيه ويشده، حتى يكون كالمعتمد عليه والمستند إليه، إذا لم يكن عليه ثوب، لأنه يؤدي إلى انكشاف عورته، ولا بأس بذلك، إذا كان تحت ثوب. وكذلك يكره التلثم وتغطية الأنف في الصلاة. ويكره التشبه بزي النساء للرجال. وكذلك يكره للنساء التشبه بزي الرجال، لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- لعن فاعله وتوعد عليه. ويكره الإقعاء في الصلاة، وهو أن يمد ظهر قدميه، ويجلس على عقبيه، أو يجلس على إليته وينصب قدميه، قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: ((إقعاء كإقعاء الكلب))، فنهى عنه. ويكره لبس ما تشف منه الأبدان من الثياب، وإن شفت منه العورة كان فاسقًا كما لو كشفها إذا تعمد لبسه، ولا تصح صلاته فيها. وقد مدح الشرع السراويل بقوله- صلى الله عليه وسلم-: ((السراويل نصف الكسوة)). وهي في حق الرجال أوكد. ويكره توسعة بوائكه، وتضييقها أولى وأحب، لأنه أستر للعورة، وقد روى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: (اللهم اغفر للمسرولات))، قال ذلك في حق امرأة مر بها علت بائكة فسقطت، فأدار وجهه عنها، فقيل له: إنها مسرولة. وفي بعض الأحاديث عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه كره السراويل المخرفجة، وهي الواسعة الطويلة التي تقع على ظهر القدمين، وأصله: السعة يقال: عيش مخرف إذا كان واسعًا. وأفضل اللباس ما كان ساترًا.

فصل: في آداب النوم

وأفضل ألوان الثياب ما كان أبيض لقوله- صلى الله عليه وسلم-: ((خير ثيابكم البياض))، وفي لفظ آخر: ((عليكم بالبياض يلبسها أحياؤكم وكفنوا فيها موتاكم)). وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ((ألبسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم، وإن خير أكحالكم الأثمد يجلو البصر وينبت الشعر)). * * * (فصل: في آداب النوم) يستحب لمن أراد أن ينام أن يوكئ سقاءه، ويطفئ سراجه، ويغلق بابه، ويغسل فاه إذا كان قد أكل ما له رائحة لئلا يقصده الدبيب، ويسمي باسم الله عز وجل، ويقول: ما روى أبو داود بإسناده عن سعد بن عبيدة قال: حدثين البراء عن عازب قال: قال لي رسول الله: ((إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رهبة ورغبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت. قال: فإن مت مت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تقول. قال البراء فقلت استذكرهن فقلت وبرسلوك الذي أرسلت قال: لا، وبنبيك الذي أرسلت)). ويكون نومه على ما ذكر في الخبر على جنبه الأيمن مستقبل القبلة كما يكون في اللحد، وإن نام على ظهره متفكرًا في ملكوت السماوات والأرض فلا بأس. ويكره نومه على وجهه. وإذا رأى في منامه ما يزعجه استعاذ بالله تعالى من شره، وتفل عن يساره ثلاثًا، وقال: اللهم ارزقني خير رؤياي، واكفني شرها. ويقرأ آية الكرسي وقل هو الله أحد والمعوذتين، إلا أن يكون جنبًا. ولا يفسر منامه إلا على من يحسن من عالم أو حكيم

ويكون محبًا. ولا يفسر ما رآه من الأحلام لأن الشيطان يتمثل له. وقد روى عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: ((الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم شيئا يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات، ثم ليتعوذ من شرها فإنها لا تضره)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ((إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا انصرف من صلاة الغداة يقول: هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟ ويقول: إنه ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة)). وفي حديث عبادة بن الصامت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة)). وإذا أراد الخروج من منزلة ذكر الكلمات التي وردت في حديث الشعبي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: ما خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: ((اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي)) ويقرأ: قل هو الله أحد مع المعوذتين إذا أصبح وإذا أمسى، ويدعو مع ذلك بدعاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ((اللهم بك نصبح وبك نمسي، وبك نحيا وبك نموت، ويزيد في الصباح: وإليك النشور، وفي المساء: وإليك المصير)). ويقول مع ذلك: اللهم اجعلني من أعظم عبادك عندك نصيبًا في كل خير تقسمه في هذا اليوم وفيما بعده من نور تهدي به أو رحمة تنشرها أو رزق تبسطه أو ضر تكشفه أو ذنب تغفره أو شدة تدفعها أو فتنة تصرفها أو معاناة تمن بها برحمتك إنك على كل شيء قدير.

وإذا أراد دخول المسجد فليقدم رجله اليمنى ويؤخر رجله اليسرى ويقول: بسم الله السلام على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد واغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك. وليسلم على من كان في المسجد. فإن لم يكن فيه أحد قال: السلام علينا من ربنا عز وجل. وإذا دخله لا يجلس حتى يأتي بركعتين، ثم إن شاء تنفل وإلا جلس مشتغلًا بذكر الله عز وجل، أو صامتًا لا يذكر شيئا من أمور الدنيا. ولا يكثر كلامه إلا ما لابد منه. فإن كان قد دخل وقت الصلاة صلى السنة والفرض في الجماعة. فإذا فرغ وأراد الخروج فليقدم رجله اليسرى ويؤخر رجله اليمنى وليقل: بسم الله السلام على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد واغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك. ويستحب له في دبر كل صلاة أن يسبح الله عز وجل ثلاثًا وثلاثين، ويحمده ثلاثًا وثلاثين، ويكبره ثلاثًا وثلاثين، ويختم المئة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. ويستحب له المداومة على الطهور، فإنه روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: ((دم على الطهور تزد في عمرك، وصل بالليل والنهار ما استطعت تحبك الحفظة، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين، وسلم على أهل بيتك إذا دخلت بيتك يكثر خير بيتك، ووقر كبير المسلمين، وارحم صغيرهم ترافقني في الجنة)). فقد جمع هذا الحديث آدابًا جمة. * * *

فصل: في دخول المنزل والكسب من الحلال والوحدة

(فصل: في دخول المنزل والكسب من الحلال والوحدة) وإذا أراد دخول منزله: فلا يدخل حتى يتنحنح، ويقول: السلام علينا من ربنا، فقد جاء من بعض الأخبار: أن المؤمن إذا خرج من منزله وكل الله تعالى ببابه ملكين يحفظان ماله وأهله، ويوكل إبليس سبعين شيطانًا مردة، فإذا دنا المؤمن من بابه قال الملكان: اللهم وفقه إن كان انقلب بكسب طيب، فإذا تنحنح دنا الملكان وتباعدت الشياطين، وإذا قال: السلام علينا من ربنا توارت الشياطين، وقام الملكان أحدهما عن اليمين، والآخر عن الشمال. وإذا فتح الباب فقال: بسم الله، ذهبت الشياطين ودخل معه الملكان، وحسنا له كل شيء في منزله، وأطابا له معيشة يومه وليلته، فإذا جلس المؤمن قام الملكان على رأسه فإن أكل أكل طيبًا، وإن شرب شرب طيبًا ما دام في منزله يومه وليلته، وكان طيب النفس. فإن لم يفعل من ذلك شيئًا ذهب عنه الملكان، ودخل معه الشياطين، وقبحوا كل ما في منزله في عينه، وأسمعه أهله ما يسوؤه حتى يكون بينه وبين أهله ما يفسد عليه دينه. وإن كان أعزب ألقوا عليه النعاس والكسل، وإن نام نام جيفة، وإن جلس جلس في تمنى ما لا ينفعه، خبيث النفس، ويفسدون عليه طعامه وشرابه ونومه. وأما الكسب: فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من طلب الدنيا حلالًا استعفافًا عن المسألة وسعيًا على أهله وتعطفًا على جاره بعثه الله تعالى يوم القيامة ووجهه كالقمة ليلة البدر، ومن طلب الدنيا حلالًا مكاثرًا مفاخرًا مرائيًا لقى الله عز وجل يوم القيامة وهو عليه غضبان)). وعن ثابت البناني رحمه الله أنه قال: ((بلغني أن العافية في عشرة أشياء: تسعة منها في السكوت وواحدة في الفرار من الناس، والعبادة عشرة: تسعة منها في طلب المعيشة وواحدة في العبادة)). وروى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((لا يفتح

الرجل على نفسه بابًا من المسألة إلا فتح الله عليه بابًا من الفقر، ومن يستعف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ولئن يأخذ أحدكم حبلًا ثم يعمد إلى هذا الوادي فيحتطب منه، ثم يأتي سوقكم فيبيعه بمد تمر خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)). وروى ((ما من رجل يفتح على نفسه بابًا من المسألة إلا فتح الله عليه سبعين بابًا من الفقر)). وروى عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إن الله يحب كل مؤمن محترف أبا العيال، ولا يحب الفارغ الصحيح لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة)). وروى أن داود نبي الله عز وجل سأل الله تعالى أن يجعل كسبه من يده، فألان له الحديد، فصار في يده كالعجين والشمع، يتخذ منه الدروع فيبيعها فيعيش هو وعياله بثمنها. وقال ابنه سليمان عليهما السلام: رب قد أعطيتني من الملك ما لم تعط أحدًا من قبلي، وسألتك أن لا تعطيه أحدًا من بعدي فأعطيتنيه، فإن قصرت في شكرك فدلني على عبد هو أشكر لك مني، فأوحى الله تعالى إليه: يا سليمان: إن عبدًا يكتسب بيده يد جوعه ويستر عورته ويعبدني هو أشكر لي منك. فقال: يا رب اجعل كسبي بيدي. فأتاه جبريل عليه السلام فعلمه عمل الخوص، يتخذ منه القفاف، فأول من عمل الخوص سليمان عليه السلام. وقيل عن بعض الحكماء إنه قال: لا يقوم الدين والدنيا إلا بأربعة: العلماء والأمراء والغزاة وأهل الكسب. فالأمراء هم الرعاة يرعون الخلق. والعلماء هم ورثة الأنبياء وهم يدلون الخلق على الآخرة، والناس يقتدون بهم. والغزاة هم جند الله في الأرض، يقمع بهم الكفار. وأما أهل الكسب فهم أمناء الله تعالى، بهم مصالح الخلق وعمارة الأرض.

فالرعاة إذا صاروا ذئابًا فمن يحفظ الغنم؟ والعلماء إذا تركوا العلم اشتغلوا بالدنيا فبمن يقتدي الخلق؟ والغزاة إذا ركبوا للفخر والخيلاء، وخرجوا للطمع فمتى يظفر بالعدو؟ وأهل الكسب إذا خانوا الناس فكيف يأمنهم الناس؟ وإذا لم يكن في التاجر ثلاث خصال افتقر في الدنيا والآخرة. أولها: لسان نقي عن ثلاث: الكذب واللغو والحلف. والثانية: قلب صاف من الغش والخيانة والحسد لجاره وقرينه. والثالثة: نفس محافظة لثلاث خصال: الجمعة والجماعات، وطلب العلم في بعض ساعات الليل والنهار، وإيثار مرضاة تعالى على غيره. وإياك والكسب الحرام فقد قيل: إذا كسب العبد خبيثًا وأراد أن يأكل منه، وقال: بسم الله، قال الشيطان: كل إني كنت معك حين كسبته فلا أفارقك، إنما أنا شريكك، فهو شريك كل كاسب حرام. قال الله عز وجل: {وشاركهم في الأموال والأولاد} [الإسراء: 64] فالأموال: الحرام، والأولاد: أولاد الزنا. كذا ذكر في التفسير. وقد روى عن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((لا يكتسب العبد مالًا من الحرام ويتصدق به فيؤجر عليه، ولا ينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار)). وبالجملة إنه لا يمتنع من الحرام إلا من هو مشفق على لحمه ودمه فدين المرء لحمه ودمه فليجتنب الحرام وأهله، ولا يجالسهم، ولا يأكل طعام من كسبه حرام، ولا يدل أحدًا على حرام، فيكون شريكه، فالورع هو ملاك الدين وقوام العبادة واستكمال أمر الآخرة. وأما الوحدة والعزلة: فقد جاء عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((عليكم بالعزلة فإنها عبادة)). وقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: ((المؤمن جليس بيته)).

وقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: ((أفضل الناس رجل اعتزل يكفي الناس شره)). وفي بعض الألفاظ عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((الغريب هو الذي يفر بدينه)). وعن بعض السلف أنه قال: هذا زمان السكوت ولزوم البيوت- وهو بشر الحافي-. وقيل لسعد بن أبي وقاص لما تفرد في قصره بالعقيق: تركت أسواق الناس ومجالس الإخوان وتخليت، فقال: رأيت أسواقهم لاغية ومجالسهم لاهية، فوجدت الاعتزال فيما هناك عافية. وقال وهيب بن الورد رحمه الله: ((خالطت الناس خمسين سنة فما وجدت رجلًا غفر لي زلة، ولا ستر لي عورة، ولا أمنته إذا غضب، وما وجدت منهم إلا من يركب هواه)). وعن الشعبي رحمه الله أنه قال: ((تعاشر الناس بالدين زمنًا طويلًا حتى ذهب الدين، ثم تعاشروا بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعاشروا بالحياء حتى ذهب الحياء، ثم تعاشروا بالرغبة والرهبة، وأظن أنه سيجيء بعد هذا ما هو أشد منه)). وقال الحكيم: ((العبادة عشرة أجزاء تسعة في الصمت وواحدة في العزلة، فراودت نفسي على الصمت فلم أقدر عليه، فصرت إلى العزلة فجمعت لي التسعة)). وكان يقول: ((لا شيء أوعظ من القبر، ولا آنس من الكتاب، ولا أسلم من الوحدة)). وقال بشر بن الحارث رحمه الله: إنما يطلب العلم ليهرب به من الدنيا لا لتطلب به الدنيا. وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((قيل: يا رسول الله: أي جلسائنا خير؟ قال- صلى الله عليه وسلم-: من ذكرتكم الله تعالى رؤيته، وزاد في عملكم منطقه، وذكركم الآخرة عمله)). وكان عيسى ابن مريم عليه السلام يقول: ((يا معشر الحواريين تحببوا إلى الله عز وجل ببغض أهل المعاصر، وتقربوا إلى الله تعالى بالتباعد عنهم، والتمسوا رضاه بسخطهم)).

وإن كان لابد من المخالطة فلتكن للعلماء، فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: ((مجالسة العلماء عبادة)). وقال- صلى الله عليه وسلم-: ((ألزم قلبك التفكر وجسدك التصبر وعينك البكاء، ولا تهتم لرزق غد فإن ذلك خطيئة تكتب عليك، والزم المساجد فإن عمار بيت الله تعالى هم أهل الله عز وجل)). وقال- صلى الله عليه وسلم-: ((من أكثر الاختلاف إلى المساجد أصاب أخًا مستفادًا ورحمة منتظرة وكلمة تدل على هدى وأخرى تصرف عن الردى وعلمًا مستطرفًا وترك الذنوب حياء وحشية)). ولو اعتزل الإنسان الناس مهما اعتزل لم يكن له متسعًا في الشرع اعتزال الجمعة والجماعات، فلا يجوز له تركها في الجملة، لأنه يكفر بمداومته على ترك الجمعة لما روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من ترك الجمعة ثلاثًا من غير عذر طبع الله تعالى على قلبه)). وفي حديث جابر رضي الله عنه: ((واعلموا أن الله عز وجل قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة، من تركها وله إمام عادل أو جائر استخفافًا بها أو جحودًا لها فلا جمع الله له شمله ولا أتم له أمره ألا لا صلاة له، ألا لا زكاة له، ألا لا حج له، ألا لا صوم له، إلا أن يتوب، من تاب تبا الله عليه. ولأن في تركها استهابة بمنادي الله عز وجل وهو قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9]، ومن استهان بالله تعالى وبمناديه يكفر، فعليه التوبة وتجديد الإسلام، ويتوب الله على من تاب. ولا يجوز له تركها إلا لعذر يبيحه الشرع كما قيل: ((خذ عن الناس جانبًا غير طاعن

فصل: في آداب السفر والصحبة فيه

عليهم ولا تارك لجماعتهم)). فليجتهد المرء في الاعتزال عن الناس ما استطاع إلا ممن يكون عونًا له في أمر دينه، لأن الكذب إنما يجري بين اثنين، والفجور بين اثنين، وقتل النفس بين اثنين وقطع المال بين اثنين، والسلامة من ذلك في الاعتزال والانفراد. * * * (فصل: في آداب السفر والصحبة فيه) وإذا أراد سفرًا أو حجًا أو غزوًا أو تحولًا من دار إلى دار أو طلب حاجة فليصل ركعتين، ثم يطلب حاجته، ويتحول. وأما في السفر فليقل على إثر الركعتين: ((اللهم بلغ بلاغًا مبلغ خير ومغفرة منك ورضوانًا بيدك الخير وأنت على كل شيء قدير، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والمال والولد، اللهم هو علينا السفر واطو لنا البعيد، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والولد والمال)). ويتحرى أن يكون ذلك بكرة خميس أو سبت أو اثنين. وإذا استوى على راحلته قال: {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون} [الزخرف: 13 - 14]. وإذا رجع من السفر صلى ركعتين وقال: ((آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون))، لأنه روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يفعله. وإذا خرج فلا يكن قائدًا للناس إذا وجد من يقودهم، ولا يشير عليهم بمنازل ينزلونها إذا وجد من يكفيه ذلك. وعليه بالصمت وحسن الصحبة وكثرة المنفعة لإخوانه، وإياه والقيل والقال. ولا ينزل على الطريق ولا على ماء، فإن مأوى الحيات والسباع بل يتنحى عنه، ولا يعرس على الطريق فإنه مكروه. وينبغي أن يكون سفره على لسان المعرفة.

ويخرج من أوصافه المذمومة إلى صفاته المحمودة، فيخرج من هواه إلى طلب رضا مولاه بتصحيح تقواه. فأول ما يجب عليه إذا أراد أن يسافر من بلده أن يرضي خصومه ويرضي والديه أو من هو في حكمهما من الأجداد والخالات. ويخلف لعياله ما يمونهم في مدة سفره، أو يستصحبهم ويحملهم معه. وينبغي أن يكون سفره لطاعة من الطاعات كالحج أو زيارة النبي- صلى الله عليه وسلم- أو زيارة شيخ أو موضع من المواضع الشريفة. أو لمباح كالتجارة والعلم بعد أحكام علوم العبادات الخمس، لأن علمها فريضة وما وراءها مباح وفيه فضل، وقيل فرض على الكفاية. وينبغي أن يعاشر أصحابه في سفره بحسن الخلق وجميل المداراة، وترك المخالفة واللجاج في جميع الأشياء. ويشتغل بخدمة أصحابه في السفر ولا يستخدم أحدًا إلا عند الضرورة، ويجتهد أبدًا أن يكون في سفره على الطهارة. ومن آداب الصحبة أن يقف مع صاحبه إذا عيي، ويسقيه الماء إذا عطش، ويرفق به إذا ضجر، ويداريه إذا غضب، ويحفظه ورحله إذا نام، ويؤثره إذا قل الزاد، ويواسيه بما يفتح له، ولا ينفرد به دونه، ولا يكتمه سرًا، ولا يفشى له سرًا، ولا يستظهره إلا بجميل، ويرد غيبته، ويحسن ذكره عند الرفقة، ولا يعيبه عندهم، ولا يشكو منه إليهم، ويتحمل أذاه، وينصحه إذا شاوره، ويسأله عن اسمه وبلده ونسبه وإن كان أرفع منه منزلة. ويظهر للرفقة أنه تابع له وإن كان هو المتبوع، وأوضح لتابعه عيوب نفسه على طريق النصح له لا على طريق التوبيخ والتعنيف. وينبغي أن يتعوذ من كل شيء يخافه عندما يحل بموضع أو ينزل بمنزل أو يجلس في مكان، أو ينام فيه بأن يقول: ((أعوذ بالله وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها، ومن فتن

الليل والنهار، ومن طارق الليل والنهار إلا طارقًا يطرق منك بخير، يا أرحم الراحمين، ومن كل دابة ربي آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم)). ولا يتخذ في الركاب الأجراس، لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنه مع كل جرس شيطان)). وقال- صلى الله عليه وسلم-: ((إن الملائكة لا تصحب رفقة فيها جرس)). ويستحب أن يصحب في سفره عصا، ويجتهد ألا يخلو منها، لما روى ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((إمساك العصا سنة الأنبياء وعلامة المؤمنين)). وقال الحسن البصري رحمه الله: ((في العكازة ست خصال: سنة الأنبياء، وزي الصالحين، وسلاح على الأعداء- يعني الحية والكلب وغير ذلك-، وعون الضعفاء، وغم المنافقين، وزيادة في الحسنات)). ويقال: إذا كان مع المؤمنين العصا هرب الشيطان منه، وخشع منه المنافق والفاجر، وتكون قبلته إذا صلى، وقوته إذا أعيي، وفيها منافع كثيرة كما قال الله في قصة موسى عليه السلام: {هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى} [طه: 18]. (فصل: ولا يجوز خصاء شيء من الحيوان والعبيد) نص عليه الإمام أحمد في رواية حرب وأبي طالب. وكذلك السمة في الوجه على ما نقل أبو طالب عنه. لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى أن يخصى كل ذي نسل من البهائم، في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم- ((نهى عن الوسم في الوجه ورخص فيه في الأذن)). وإن كان لابد من الوسم لأجل العلامة ليعرفوا البهائم حين الاختلاط جاز في غير الوجه كالأفخاذ والأسنمة.

فصل: في الأصوات

(فصل: ولا يجوز فعل شيء من المستقذرات في المساجد) ويكره العمل فيها كالخياطة والخرازة والبيع والشراء وما أشبه ذلك. ويكره رفع الأصوات إلا بذكر الله تعالى. والنخامة في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها. ويكره زخرفة المساجد بالتزاويق والخلوق، ولا بأس بتجصيصها وتطيينها. ويكره اتخاذها بيتًا ومقامًا إلا للغريب أو المعتكف، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنزل وفد بني عبد قيس، وروى: ثقيف في المسجد. ولا بأس بإنشاء الشعر والقصائد فيها الخالية من السخف والهجاء المسلمين، والأولى صيانتها إلا أن تكون من الزهديات المرققات المشوقات المبكيات، فيجوز الإكثار منها. والأولى من ذلك القرآن والتسبيح، لأن المساجد وضعت لذكر الله تعالى والصلاة، فينبغي أن تجل عما سوى ذلك. ويكره نقل تراب المسجد. وأما ما حصل فيه من المزابل والكناسة فيستحب إخراج ذلك وفيه فضل كثير. وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أن ذلك مهور الحور العين. ويكره تمكين الصبيان والمجانين من دخوله. ولا بأس بعبور الجنب فيه. وتمنع الحائض، لأنه لا يؤمن من تلويث المسجد. وإذا دعت الضرورة للجنب جاز له أن يتوضأ ويلبث في المسجد إلى حين يقدر على الغسل، والأولى أن يتميمم للجنابة مع ذلك أيضًا، وكذلك إذا لم يجد الماء إلا في بئر المسجد تيمم لجوازه إلى البئر، ثم يغتسل إذا وصل إليها. * * * (فصل: في الأصوات) فما كان منها من إنشاد الأشعار المتعرية من الملاهي على ضربين: مباح ومحظور. فالمباح: ما لا سخف فيه. والمحظور: ما كان فيه سخف.

فأما ما ينضم إلى الملاهي فمحظور، سواء خلا عن السخف أو قارن السخف، إلا أنه إذا قارنه سخف حصل الحظر لعلتين. وتكره قراءة القرآن بالألحان المشبهة بأصوات الأغاني المطربة إعظامًا له وتنزيهًا. لأن الغالب من ذلك إخراج الكلام عن سننه، وإسقاط الإطالة والهمز في موضعه، وإطالة المقصور وقصر الممدود وإدغام الحروف. ولأن ثمرة القراءة خشية الله عز وجل، وتجديد التوبة عند سماع مواعظه والاعتبار ببراهينه وقصصه وأمثاله والتشوق إلى وعده، وذلك يزول بطيب سماعه، قال الله عز وجل: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون} [الأنفال: 2]، وقال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن} [النساء: 82، ومحمد: 24]، وقوله جل وعلا: {ليدبروا آياته} [ص: 29]، وقوله تعالى: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق} [المائدة: 83]. والألحان المطربة تحول بين ذلك، فكره لأجل ذلك. ولا يسافر بالمصحف إلى أهل الحرب، حتى لا ينالوا منه، ويستخفوا بحرمته. ولا يستمع إلى أصوات الأجنبيات من شواب النساء، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: ((التسبيح للرجال والتصفيق للنساء))، هذا إذا ناب المصلى نائب في صلاته فكيف بالشعر والغناء والغزل والأمور المهيجة لطباع الناس من ذكر صفات العشاق والمعشوقين ودقائق صفات المحبة والميل وصفات المشتهاة التي تتوق النفس إلى سماعها، فتهيج دواعي السامع وتثير طبعه إلى المحارم، فلا يجوز لأحد سماع ذلك. وإن قال قائل إني أسمعها على معان أسلم فيها عند الله تعالى، كذبناه؛ لأن الشرع لم يفرق بين ذلك، ولو جاز لأحد لجاز للأنبياء عليهم السلام، ولو كان ذلك عذرًا لأجزنا سماع القيان لمن يدعي أنه لا يطربه، وشرب المسكر لمن يدعي أنه لا يسكره. فلو قال: عادتي أني متى شربت الخمر انكففت عن الحرام، لم نبحه له. ولو قال: عادتي أني شهدت المردان والأجنبيات وخلوت بهن اعتبرت في حسنهم، لم نجز له ذلك.

فصل: في الآداب في قتل الحيوان، ما يباح منه وما لا يباح

بل نقول: ترك ذلك واجب، والاعتبار بغير المحرمات أكثر من ذلك، وإنما هذه طريقة من أراد تناول الحرام بطريقة الله عز وجل فيركب هواه، فلا نسلم لأصحابها ولا نلتفت إليهم، قال الله عز وجل: {قل للمؤمنين يغضون من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم} [النور: 30]. فمن قال: النظر أزكى، كان مكذبًا للقرآن. ويكره الندب والنياحة. فأما البكاء على الميت فغير مكروه. * * * (فصل: في الآداب في قتل الحيوان، ما يباح منه وما لا يباح) فمن رأى شيئًا من الحيات في منزله فليؤذنه ثلاثًا، فإن بدا له بعد ذلك فليقتله. وأما في الصحارى فيجوز قتله من غير إيذان وكذلك الأبتر وهو قصير الذنب وذو الطفيتين الذي في ظهره خط أسود، وقيل له شعرتان سوداوان بين عينيه فإنه يقتله بلا إيذان. وصفة الإيذان: أن يقول: امض بسلام لا تؤذنا. قد جاء في ذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- سئل عن حيات البيوت فقال: إذا رأيتم منهن شيئًا في مساكنكم فقولوا: أنشدكم العهد الذي أخذه عليكم نوح، أنشدكم العهد الذي أخذه عليكم سليمان أن لا تؤذونا، فإن عدن فاقتلوهن)). وما روى عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ((اقتلوا الحيات كلهن، فمن خاف ثأرهن فليس مني)). في حديث سالم عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: اقتلوا الحيات وذا الطفيتين والأبتر فإنهما يكسفان البصر ويسقطان الحبل. قال: وكان عبد الله رضي الله عنه يقتل كل حية وجدها، فأبصره أبو لبابة رضي الله

عنه وهو يطارد حية فقال: إنه قد نهى عن ذوات البيوت. والأصل في النهي عن ذوات البيوت، ما روى عن أبي السائب قال: أتيت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه فبينا أنا جالس عنده سمعت تحت سريره تحريك شيء، فنظرت فإذا حية فقمت، قال أبو سعيد: ما لك، قلت: حية ها هنا، قال: فتريد ماذا؟ قلت: أقتلها، فأشار إلى بيت في داره تلقاء بيته، فقال: إن ابن عم لي كان في هذا البيت، فلما كان يوم الأحزاب استأذن إلى أهله، وكان حديث عهد بعرس، فأذن له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأمره أن يذهب بسلاحه، فأتى داره فوجد امرأته قائمة على بيت البيت، فأشار إليها بالرمح، فقال: لا تعجل حتى تنظر ما أخرجني فدخل البيت فإذا حية منكرة، فطعنها بالرمح ثم خرج بها في الرمح يرتكض، قال: فلا أدري أيهما كان أسرع موتًا الرجل أو الحية؟ فأتى قومه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: ادع الله تعالى أن يرد صاحبنا فقال: استغفروا لصاحبكم، ثم قال: إن نفرًا من الجن أسلموا بالمدينة فإذا رأيتم أحدًا منهم فحذروه ثلاث مرات، ثم إن بدا لكم بعد أن تحذروه فاقتلوه بعد الثلاث)). وروى عن بعض الألفاظ: فليؤذنه ثلاثًا، فإن بدا له فليقتله فإنه شيطان. ويجوز قتل الأوزاغ، لما روى عامر بن سعد عن أبيه- رضي الله عنه- قال: أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بقتل الوزغ، وسماه فويسقًا)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: ((في أول ضربة سبعين حسنة)). يعني في قتلها بأول ضربة كان له ذلك. ويكره قتل النملة إلا من أذية شديدة، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم-: ((أن نملة قرصت نبيًا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه:- أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح)). ويكره قتل الضفدع لما روى عن عبد الرحمن بن عثمان أنه سأل النبي- صلى الله عليه وسلم- عن

ضفدع يجعلها في دواء، فنهاه النبي- صلى الله عليه وسلم- عن قتلها. ويكره قتل جميع ما يباح قتله بالنار من القمل والبق والبراغيث والنمل، لقوله- صلى الله عليه وسلم-: ((لا يعذب بالنار إلا رب النار)). ويجوز قتل كل شيء يؤذي من الحيوانات، وإن لم توجد منه الأذية بعدما كان مخلوقًا على صفة تؤذى، لأن من طبعة الأذية، وذلك كالحية التي ذكرنا صفتها. والعقرب والكلب العقور والفأرة وغير ذلك. وكذلك الكلب الأسود البهيم لأنه شيطان. وكل حيوان يجده إنسان عطشانًا أثيب على إسقائه الماء، لقوله- صلى الله عليه وسلم-: ((في كل ذي كبد حري أجر)). هذا إذا لم يكن مؤذيًا. وأما المؤذي فلا يسقيه فإن ذلك تنمية وتكثير للأذية وذلك لا يجوز. ولا يجوز اتخاذ الكلب وتربيته في داره إلا للحرس أو الصيد أو الماشية. وإن كان عقورًا حرم تركه قولًا واحدًا، ووجب قتله ليدفع شره عن الناس، وقد ورد في بعض الأحاديث: ((من اقتنى كلبًا لغير ماشية أو صيد نقص من أجره كل يوم قيراطان)). ولا يجوز تكليف الحيوان البهيم فوق طاقته في الحمل والحرث والسير ومنعه ما يكفيه من العلف، فإن فعل ذلك أثم. ويكره له إطعامه فوق طاقته، وإكراهه على أكل ما اتخذه الناس عادة لأجل التسمين. ويكره الأكل من كسب الحجام، لأن في ذلك دناءة وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: ((كسب الحجام خبيث)). وقد حرم ذلك بعض أصحابنا لأن ذلك مروى عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

(فصل: وبر الوالدين واجب) قال الله عز وجل: {إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولًا كريمًا} [الإسراء: 23]، وقال تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفًا} [لقمان: 15]، وقال جل وعلا: {أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير} [لقمان: 14]. وروى عن ابن عباس رضي الله عنهم عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من أصبح مسخطًا لوالديه أصبح له بابان مفتوحان إلى النار، ومن أمسى مسخطًا لوالديه أمسى له بابان مفتوحان إلى النار، وإن كان واحدً فواحد، وإن ظلماه وإن ظلماه وإن ظلماه)). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: رضا الرب في رضا الوالدين وسخطه في سخط الوالدين)). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ((جاء رجل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: إني أريد الجهاد، فقال: ألك أبوان؟ قال: نعم. قال- صلى الله عليه وسلم-: ففيهما فجاهد)). وصفة البر: أن تكفيهما ما يحتاجان إليه، وتكف عنهما الأذى وتداريهما مداراة الطفل الصغير، ولا تتضجر منهما ولا من حوائجهما، وتجعل خدمتهما بدلًا من كثير نوافلك من الصلاة والصيام والقراءة، وتستغفر لهما عقيب صلواتك، ولا تحوجهما إلى التعب، وتتحمل أذاهما، ولا تعل صوتك على أصواتهما، ولا تخالفهما في ما لا يكون فيه خرق للشرع، معناه لا يكون في ذلك ترك الفرائض كحجة الإسلام والصلوات الخمس والزكاة والكفارة والنذر، وألا يكون في ذلك ارتكاب المحرم من أنواع المناهي من الزنا وشرب الخمر والقتل والقذف وأخذ المال كالغصب والسرقة لقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى)). وقد قال تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا} [لقمان: 15].

(فصل: فيما يستحب من الكنى والأسماء وما يكره منها)

فهذا الحديث والآية عام في ترك طاعة كل من أمر بمعصية الله أو ترك طاعته، ومذكور ذلك عن الإمام أحمد في رواية أبي طالب في الرجل الذي ينهاه أبواه عن الصلاة في الجماعة، فقال: ليس لهما طاعة في ترك الفرض. وأما النوافل فيجوز تركهما لطاعتهما، بل الأفضل طاعتهما. ومن البر لهما أن تصل من وصلهما، وتهجر من هجرهما، وتغضب لهما كما تغضب لنفسك في الموت والحياة. وإذا ثار طبعك في الغضب عليهما فاذكر تربيتهما وسهرهما وإشفاقهما وتعبهما، وقول الله تعالى: {وقل لهما قولًا كريمًا} [الإسراء: 23]. فإن لم تردعك عن غيظك الرحمة لهما ولا بهما فاعلم أنك محروم مسخوط عليك فتب إلى الله تعالى إذا سكن غضبك إن كنت خالفت أمره فيهما. ولا تسافر سفرًا ليس بواجب عليك إلا بإذنهما. ولا تغز إلا أن يتعين عليك إلا بإذنهما. ولا تفجعهما بنفسك، فقد نهى غيرك أن يفجعهما بك، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: ((لعن الله المفرق بين الوالدة وولدها)). وإن ظفرت بطعام أو شراب فعليك بإيثارهما بأطيبه، فطالما آثراك وجاعا وأشبعاك وسهرا ونوماك. ترشد بذلك إن شاء الله تعالى. * * * (فصل: فيما يستحب من الكنى والأسماء وما يكره منها) يمنع الإنسان أن يسمي ولده ويكنيه باسم النبي- صلى الله عليه وسلم- وكنيته، ويجوز إفراد أحدهما عن الآخر، وقد روى عن الإمام أحمد رحمه الله رواية أخرى كراهيته في الجملة، يعني الجمع والإفراد. وروى عنه الجواز في الجملة. والدليل على جواز التسمية باسم النبي- صلى الله عليه وسلم- دون كنيته ما روى أنس بن مالك وأبو هريرة رضي الله عنهما عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي)).

فصل ما يستحب لمن غضب

والدليل على جواز الجمع بينهما: ما روى عن عائشة رضي الله عنها، قالت: جاءت امرأة إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله إني ولدت غلامًا فسميته محمدًا وكنيته بأبي القاسم فذكر لي أنك تكره ذلك، فقال- صلى الله عليه وسلم-: ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي؟ أو ما الذي حرم كنيتي وأحل اسمي؟)). ويكره من الكنى أبو يحيى وأبو عيسى. ويكره أن يسمى عبيده بأفلح ونجاح ويسار ونافع ورباح وبركة وبرة وحزن وعاصية، لما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: لئن عشت لأنهين أن يسمى العبيد يسارًا أو بركة أو رباحًا أو نجاحًا أو أفلح. ويكره من الألقاب والأسماء ما يوازي أسماء الله تعالى كملك الملوك وشاهنشاه وما شاكل ذلك، لأن ذلك عادة الفرس. ويكره التسمي بالأسماء التي لا تليق إلا بالله سبحانه وتعالى كقدوس وإله وخالق ومهيمن ورحمن، قال الله تعالى: {وجعلوا لله شركاء قل سموهم} [الرعد: 33]، قال بعض المفسرين: قل سموهم بأسمائي فانظروا ذلك هل تليق بهم. ويحرم على كل أحد أن يلقب أخاه أو عبده بلقب يكره لأن الله تعالى نهى عن ذلك، فقال عز وجل: {ولا تنابزوا بالألقاب} [الحجرات: 11] وسماه فسوقًا. ويستحب أن تدعو أخاك بأحب أسمائه إليه. (فصل) ويستحب لمن غضب إن كان قائمًا أن يجلس، وإن كان جالسًا أن يضطجع، وإن مس الماء البارد سكن غضبه، لما روى الحسن رضي الله عنه أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الغضب جمرة تتوقد في قلب ابن آدم فإذا وجد أحدكم ذلك فإن كان قائمًا فليقعد وإن كان قاعدًا فليتكئ)).

سنن المجلس

ويكره أن يجلس الرجل بين قوم وهم في سر بغير إذنهم، لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى عن ذلك. ويكره الجلوس بين الظل والشمس. ويكره الاتكاء على يده اليسرى والاضطجاع بين الجلوس. وإذا قام من مجلسه يستحب له أن يقول كفارة المجلس: ((سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)). ويكره المشي بالنعل في المقابر. ويستحب لمن دخلها أن يقول: اللهم رب هذه الأجساد البالية، والعظام الناخرة، التي خرجت من دار الدنيا وهي بك مؤمنة، صل على محمد وعلى آل محمد، وأنزل عليهم روحًا منك وسلامًا مني، ويقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. لأنه مروي أيضًا. وإذا زار قبرًا لا يضع يده عليه، ولا يقبله، فإنه عادة اليهود، ولا يقعد عليه، ولا يتكئ إليه، ولا يدوسه إلا أن يضطر إلى ذلك كله، بل يقف عند موضع وفوقه منه أن لو كان حيًا، ويحترمه كما لو كان حيًا، ويقرأ إحدى عشرة مرة: قل هو الله أحد وغيرها من القرآن، ويهدي ثواب ذلك لصاحب القبر وهو أن يقول: اللهم إن كنت قد أثبتني على قراءة هذه السورة، فإني قد أهديت ثوابها لصاحب هذا القبر، ثم يسأل الله حاجته. ولا يكسر عظمًا، ولا يدوسه، فإن ألجئ إلى ذلك واضطر فليستغفر الله لصاحب القبر. وتكره الطيرة، ولا بأس بالتفاؤل. ويستحب التواضع لكل واحد من المسلمين. ويستحب توقير الشيوخ ورحمة الأطفال والعفو عنهم ولا يترك تأديبهم.

(فصل: وتكره مصافحة أهل الذمة)

(فصل: ويجوز أن يقول الرجل لغيره: صلى الله عليك) وصلى الله على فلان ابن فلان لما روى أن عليًا رضي الله عنه قال لعمر رضي الله عنه: صلى الله عليك. والنبي- صلى الله عليه وسلم- قال: اللهم صل على آل أبي أوفى. (فصل: وتكره مصافحة أهل الذمة) لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: لا تصافحوا أهل الذمة. (فصل: والأدب في الدعاء) أن يمد يديه ويحمد الله تعالى ويصلي على النبي- صلى الله عليه وسلم- ثم يسأل الله حاجته، ولا ينظر إلى السماء في حال دعائه، وإذا فرغ مسح يديه على وجهه، لما روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((سلوا الله ببطون أكفكم)). (فصل: والتعوذ بالقرآن جائز) لقوله عز وجل: {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98]، وقوله تعالى: {قل أعوذ برب الفلق} [الفلق: 1]، و {قل أعوذ برب الناس} [الناس: 1]. ما روى: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان إذا اشتكى شيئًا قرأ على نفسه المعوذتين ونفث. وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول: أعوذ بوجه الله الكريم وكلماته التامات من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر كل دابة ربي آخذ بناصيتها. وكذلك الرقية بالقرآن، وبأسماء الله تعالى جائزة، لقوله عز وجل: {وينزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} [الإسراء: 82]، وقال تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} [الأنعام: 92]. قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: ((استرقوا لها فإنه لو سبق القدر شيء لسبقته العين)) ويريد به- صلى الله عليه وسلم-

فصل ما يكتب للمحموم

في حق الحسن والحسين رضي الله عنهما. (فصل) ويكتب للمحموم ويعلق عليه ما روى عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال: حممت فكتب لي من الحمى بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله وبالله محمد رسول الله: {يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم * وأرادوا به كيدًا فجعلناهم الأخسرين} [الأنبياء: 69 - 70]. اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل اشف صاحب هذا الكتاب بحولك وقوتك وجبروتك، يا أرحم الراحمين. (فصل) وقال بعض أصحابنا يكتب للمرأة إذا عسرت عليها الولادة في جام أو آنية نظيفة ((بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم)) {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة: 2]، {وكأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} [النازعات: 46]، {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} [الأحقاف: 35]، ثم يغسل ويسقى منه، وينضح ما بقى منه على صدرها. وكذلك تجوز الرقية من النملة وغيرها كالعقارب والحيات والبراغيث والبق لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- رخص في الرقية من كل ذي حمة. وقال- صلى الله عليه وسلم-: من قال حين يسمي ثلاث مرات: صلى الله على نوح وعلى نوح السلام، لم تلدغه عقرب تلك الليلة. وقال- صلى الله عليه وسلم-: ((من قال حين يمسي ثلاث مرات: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره حمة تلك الليلة)). ويجوز النفخ في الرقية، ويكره التفل. (فصل) ويغسل العائن وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخل إزاره في إناء، ثم يصب الماء على المريض، لما روى أبو أمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: ((رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف، وهو يغتسل فعجب منه فقال: والله ما رأيت كاليوم ولا جلد مخباة في خدرها، أو قال: جلد فتاة، ففلج به حتى ما كان يرفع

(فصل: التعالج في الأمراض جائز)

رأسه، قال: فذكروا ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: هل تتهمون أحدًا؟ قالوا: لا يا رسول الله، إلا أن عامر بن ربيعة قال له كذا وكذا، فدعاه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ودعا عامرًا وقال: سبحان الله لم يقتل أحدكم أخاه إذا رأى شيئًا يعجبه فليدع له بالبركة، قال: ثم أمره- صلى الله عليه وسلم- أن يغتسل، فغسل وجهه وظهر كفيه ومرفقيه وغسل صدره وداخل إزاره وركبتيه وقدميه في الإناء ظاهرهما وباطنهما، ثم أمر به فصب على رأسه، فكفئ الإناء من خلفه حسبته قال: فأمره فحسا منه حسوات، فراح مع الركب)). وإن اغتسل غسلًا كاملًا ثم صب الماء على المعين كان أكمل. * * * (فصل: والتعالج في الأمراض جائز) بالحجامة والفصد والكي وشرب الأدوية والأشربة وقطع العروق والبط وقطع العضو عند وقوع الأكلة فيه وخوف التعدي إلى بقية البدن وقطع البواسير، وكل ما فيه صلاح للجسد، لما روى أن النبي- صلى الله عليه وسلم- احتجم وشاور الطبيب فقال للطبيبين: إنما رأيكما طب، فقالوا: يا رسول الله وهل في الطب خير؟ فقال- صلى الله عليه وسلم-: إن الذي أنزل الداء أنزل الدواء. وسئل الإمام أحمد عن الكي فقال: الأعراب تفعله، وقد كوى النبي- صلى الله عليه وسلم-، وقد فعله الصحابة رضي الله عنهم. وقال في موضع آخر: قطع عمران بن حصين رضي الله عنهما عرق النساء. وعن الإمام أحد رحمه الله رواية أخرى كراهية ذلك. وأما التداوي بمحرم كالخمر والسم والميتة وشيء نجس فغير جائز، وكذلك بلبن الأتن الأهلية، لما روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ما جعل شفاء أمتي في ما حرم عليها)). والحقنة مكروهة إلا عند الضرورة. ولا يجوز الفرار من الطاعون، وإن كان خارجًا من البلد لا يقدم عليه لئلا يكون عونًا على هلاك نفسه.

فصل حكم الخلوة بالأجنبية

(فصل: ولا يخلو بامرأة ليست منه بمحرم) لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى عن ذلك وقال: ((إن الشيطان ثالثهما))، ولأن الشيطان يزين لهما المعصية. ولا ينظر إلى امرأة شابة إلا لعذر من شهادة أو علاج في المرض. ويجوز النظر إلى المرأة البرزة العجوز، لعدم الافتتان بها. ولا يجتمع رجلان ولا امرأتان عريانين في لحاف واحد أو إزار، لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى عن ذلك، ولأن ذلك يؤدي إلى أن ينظر أحدهما عورة الآخر وذلك منهي عنه، ولأنه لا يؤمن من ارتكاب الفجور بتزيين الشيطان ذلك. (فصل: فإن كان له مملوك من ذكر أو أنثى وجب عليه الرفق به) ولا يكلفه من العمل ما لا يطيق، ويكسوه ويطعمه ويزوجه إن شاء، ولا يكرهه على ذلك. فإن قصر في ذلك عصى وأمر ببيعه أو عتقه إن شاء، أو يكاتبه إن طلب العبد ذلك. وقد جاء في الحديث: إن آخر وصية رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ((الصلاة وما ملكت أيمانكم)). (فصل) وتكره المسافرة بالمصحف إلى أرض العدو لئلا تناله أيدي المشركين، إلا أن يكون للمسلمين قوة ظاهرة وشوكة وغلبة، فيجوز استصحابه ليقرأ فيه، لئلا ينسى القرآن. (فصل) ويستحب إذا نظر في المرآة أن يقول: الحمد لله الذي سوى خلقي وأحسن صورتي وزان مني ما شان من غيري. لأن ذلك مروي عن النبي- صلى الله عليه وسلم-. (فصل) وإذا طنت أذنه صلى على النبي- صلى الله عليه وسلم- وليقل: ذكر الله من ذكرني بخير. لأنه مروي عن النبي- صلى الله عليه وسلم-.

فصل ما يقوله ‘ذا شتكى بدنه

(فصل) ويقول إذا اشتكى بدنه أو أعضاءه ما روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من اشتكى منكم شيئًا، أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء والأرض، اغفل لنا حوبنا وخطايانا رب الطيبين، انزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على الوجع الذي به، فإنه يبرأ بإذن الله تعالى)). (فصل) وإذا رأى شيئًا يتطير منه قال: اللهم لا يأتى بالحسنات إلا أنت، ولا يذهب بالسيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله لأنه مروى عن النبي- صلى الله عليه وسلم-. (فصل) ويستحب إذا رأى بيعة أو كنيسة أو سمع صوت ناقوس أو رأى جمعًا من المشركين واليهود والنصارى أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهًا واحدًا، لا نعبد إلا إياه فإن ذلك مروى عن النبي- صلى الله عليه وسلم-، وقال: غفر الله له بعدد أهل الشرك. (فصل) ويقول إذا سمع صوت الرعد والصواعق: اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك. ويقول إذا رأى الريح: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها ومن شر ما أرسلت به. (فصل) وإذا دخل السوق قال ما كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: اللهم إني أسألك خير هذه السوق وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها، اللهم إني أعوذ بك أن أصيب فيها يمينًا فاجرة أو صفقة خاسرة. ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

فصل ما يقوله إذا رأى الهلال

(فصل) وإذا رأى الهلال قال: اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، ربي وربك الله عز وجل. (فصل) وإذا رأى مبتلى قال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني عليك وعلى كثير ممن خلق تفضيلًا. فإن الله عز وجل يعافيه من ذلك كائنًا ما كان أبدًا ما عاش. (فصل) يقول للحاج إذا قدم من سفره: تقبل الله نسكك، وأعظم أجرك، وأخلف نفقتك. لما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان هكذا يقول. (فصل) وإذا عاد مريضًا مسلمًا، ورآه منزولًا به موت قال ما روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((الموت فزع، فإذا بلغ أحدكم وفاة صاحبه فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم اكتبه عندك من المحسنين، واجعل كتابه في عليين، واخلف على عقبه في الآخرين، ولا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده)). ويستحب أيضًا أن يشير عليه بالتوبة من الذنوب والخروج من المظالم والوصية بثلث ماله للأقارب الفقراء منهم الذين لا يرثونه، وإن لم يكونوا فللفقراء والمساكين والمساجد والقناطر ووجوه البر والخير. (فصل) ويقول حين يضع الميت في قبره ما روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إذا وضعتم موتاكم في القبر فقولوا: بسم الله وعلى ملة رسول الله. ويقول إذا حثا التراب على الميت: إيمانًا بك وتصديقًا برسولك إيمانًا ببعثك، هذا ما وعد الله ورسوله، وصدق الله ورسوله. لأن ذلك مروي عن علي رضي الله عنه، وقال: من فعل ذلك كان له بكل ذرة من ترابه حسنة. * * *

باب في آداب النكاح

باب في آداب النكاح من آداب النكاح أن يكون فيه نية المتزوج امتثال أمر الله في قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم} [النور: 32]، وقوله تعالى: {فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3]. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: ((تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم ولو بالسقط)). فيعتقد وجوب النكاح بهاتين الآيتين، والخبر عند عدم خوفه الزنا أو عند وجوده، ليخرج من الخلاف في الجملة، لأن النكاح عند أبي داود في رواية الإمام أحمد واجب على الإطلاق، فيكون له ثواب الممتثل لأمر الله عز وجل. ويعتقد مع ذلك إحراز دينه وتكميله، لقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: ((من تزوج فقد أحرز نصف دينه))، وقوله- صلى الله عليه وسلم-: ((إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف دينه)). ويتخير الحسيبة الأجنبية البكر، وأن تكون من نساء يعرفن بكثرة الولادة، لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما لما أخبره أنه تزوج بالثيب، فقال له: ((أفلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك)). وإنما شرطنا كثرة الولادة، لما تقدم من قوله- صلى الله عليه وسلم-: ((تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم ولو بالسقط)). وفي بعض الأحاديث قال- صلى الله عليه وسلم-: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم)). وإنما شرطنا الأجنبية ولا تكون من أقاربه، لئلا يقع بينهم منافرة وعداوة فتؤدي إلى قطع الأرحام المأمور بإيصالها، ولهذا منع الشرع الجمع بين الأختين في عقد النكاح.

ولا ينبغي أن يتزوج سليطة اللسان ولا مختلعة ولا متواشمة، فإذا تزوج فليحسن خلقه معها، ولا يؤذيها ولا يكرهها على مهرها، فتختلع منه، ولا يشتم لها أبًا ولا أمًا، فإن فعل ذلك كان الله ورسوله بريئين منه، قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: ((استوصوا بالنساء خيرًا فإنهن عوان عندكم)) يعني إسراء. وقد جاء في بعض الآثار: ((من تزوج امرأة بصداق، ولا يريد أن يؤديه إليها جاء يوم القيامة زانيًا)). فإن آذته امرأة بلسانها وكان في ذلك إفساد دينه فليفتد هو نفسه منها، أو يلجأ إلى الله عز وجل، ويبتهل إليه بالدعاء، فإنه يكفي. وإن صبر على ذلك كان كالمجاهد في سبيل الله، وإن طابت هي له بشيء من مالها من غير إكراه فليأكله هيئًا مريئًا، كما قال الله عز وجل. وينبغي أن يجتهد فينظر إلى وجهها ويديها من غير أن يخلو بها قبل العقد خوفًا إذا رآها بعد العقد لا تقع بقلبه فيكرهها، فيؤدي إلى طلاقها ومفارقتها من قريب. وفي ذلك وقوع في المكروه عند الله عز وجل لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما من مباح أبغض إلى الله تعالى من الطلاق)). والأصل في ذلك ما روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إذا قذف الله تعالى في قلب أحدكم خطبة امرأة فلينظر إلى وجهها وكفيها فإنه أحرى أن يؤدم بينهما)). وما روى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ((إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)) فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزويجها. ذكره أبو داود في سننه. وينبغي أيضًا أن تكون من ذوات الدين والعقل، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين

تربت يداك)). وإنما نص النبي- صلى الله عليه وسلم- على ذات الدين، لأنها تعين الزوج على معيشته وتقنع باليسير، والباقيات يوقعنه في الوزر والوبال، إلا أن يسلمه الله تعالى من ذلك. وقد فسر أكثر المفسرين قوله عز وجل: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم} [البقرة: 187] المباشرة: بالجماع، والابتغاء: بابتغاء الولد، أي اطلبوا الولد بالمباشرة. وكذلك ينبغي للمرأة أن تنوي بذلك تحصين فرجها والولد والثواب الجزيل عند الله بالصبر عند الزوج وعلى الحبل والولادة وتربية الولد، لما روى زياد بن ميمون عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: إن امرأة كان يقال لها الحولاء عطارة من أهل المدينة دخلت على عائشة رضي الله عنها فقال: يا أم المؤمنين زوجي فلان أتزين له كل ليلة وأتطيب كأني عروس زفت إليه، فإذا آوى إلى فراشه دخلت عليه في لحافه، وألتمس بذلك رضا الله تعالى حول وجهه عني أراه قد أبغضني، فقالت: اجلسي حتى يدخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالت: فبينما أنا كذلك إذ دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: ما هذه الريح التي أجدها، أتتكم الحولاء؟ هل ابتعتم منها شيئًا؟ قالت عائشة رضي الله عنها: لا والله يا رسول الله، فقصت الحولاء قصتها، فقال لها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: اذهبي واسمعي وأطيعي له، قالت: أفعل يا رسول الله، فما لي من الأجر؟ قال- صلى الله عليه وسلم-: ما من امرأة رفعت من بيت زوجها شيئًا ووضعته تريد به الإصلاح إلا كتب الله تعالى له حسنة ومحا عنها سيئة، ورفع لها درجة، وما من امرأة حملت من زوجها حين تحمل إلا كان لها من الأجر مثل القائم ليلة والصائم نهاره والغازي في سبيل الله، وما من امرأة يأتيها طلق إلا كان لها بكل طلقة عتق نسمة، وبكل رضعة عتق رقبة، فإذا فطمت ولدها ناداها منادٍ من السماء: أيتها المرأة قد كفيت العمل فيما مضى فاستأنفي العمل فيما بقى. قالت عائشة رضي الله عنها: قد أعطى النساء خيرًا كثيرًا، فما بالكم يا معشر الرجال فضحك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم قال: ما من رجل أخذ بيد امرأته يراودها إلا كتب الله له حسنة، فإن عانقها فعشر حسنات، فإذا أتاها كان خيرًا من الدنيا وما فيها، فإذا قام ليغتسل، لم يمر الماء على شعرة من جسده إلا تكتب له بكل قطرة حسنة، وتمحى عنه سيئة وترفع له درجة، وما يعطى بغسله خير من الدنيا وما فيها، وأن الله عز وجل

يباهي به الملائكة يقول: انظروا إلى عبدي قام في ليلة قرة يغتسل من الجنابة، يتيقن بأني ربه، اشهدوا بأني قد غفرت له». وعن المبارك بن فضالة عن الحسن رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ((استوصوا بالنساء خيرًا فإنهن عوان عندكم- يعني مأسورات- لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنما أخذتموهن بأمانة الله تبارك وتعالى، واستحللتم فروجهن بكلمة الله عز وجل)). وعن عباد بن كثير عن عبد الله الجريري عن ميمونة زوج النبي- صلى الله عليه وسلم- قالت: «قال لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: خيار الرجال من أمتي خيارهم لنسائهم، وخير النساء من أمتي خيرهن لأزواجهن، يرفع لكل امرأة منهم كل يوم وليلة أجر ألف شهيد قتلوا في سبيل الله صابرين محتسبين، وتفضل إحداهن على الحور العين كفضل محمد- صلى الله عليه وسلم- على أدنى رجل منكم، وخير النساء من أمتي من تأتي مسرة زوجها في كل شيء يهواه ما خلا معصية الله تعالى، وخير الرجال من أمتي من يلطف بأهله لطف الوالدة بولدها، يكتب لكل رجل منهم في كل يوم وليلة أجر مئة شهيد قتلوا في سبيل الله صابرين محتسبين، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله وكيف يكون للمرأة أجر ألف شهيد وللرجل مئة شهيد؟ قال- صلى الله عليه وسلم-: أو ما عملت أن المرأة أعظم أجرًا من الرجل وأفضل ثوابًا فإن الله عز وجل ليرفع للرجل في الجنة درجات فوق درجاته برضا زوجته عنه في الدنيا ودعائها له، أو ما علمت أن أعظم وزر بعد الشرك بالله المرأة إذا عصت زوجها، ألا فاتقوا الله في الضعيفين، فإن الله سائلكم عنهما اليتيم والمرأة، فمن أحسن إليهما فقد بلغ إلى الله عز وجل رضوانه، ومن أساء إليهما فقد استوجب من الله سخطه، وحق الزوج كحقي عليكم، فمن ضيع حقي فقد ضيع حق الله، ومن ضيع حق الله فقد باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير)). وعن أبي جعفر محمد بن علي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((بينما نحن عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو في نفر من أصحابه إذا أقبلت امرأة حتى قامت على رأسه ثم قالت: السلام عليك يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك، ليست امرأة يبلغها

مسيري إليك إلا أعجبها ذلك يا رسول الله، إن الله تعالى رب الرجال ورب النساء وآدم أبو الرجال وأبو النساء وحواء أم الرجال وأم النساء، فالرجال إذا خرجوا في سبيل الله فقتلوا فأحياء عند ربهم يرزقون، وإذا خرجوا فلهم من الأجر مثل ما علمت، ونحن نحسب عليهم، ونخدمهم فهل لنا من الأجر شيء؟ قال- صلى الله عليه وسلم-: اقرئي عني النساء السلام وقولي لهن: إن طاعة الزوج والاعتراف بحقه يعدل ما هناك، وقليل منكن يفعله)). وعن ثابت عن أنس رضي الله عنه، قال: حين بعثتني النساء إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقلن: ((يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل وبالجهاد في سبيل الله، فما لنا من عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله؟ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مهنة إحداهن في بيتها تدرك بها عمل المجاهدين في سبيل الله)). وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: ((سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هل على النساء جهاد؟ فقال- صلى الله عليه وسلم-: نعم جهادهن الغيرة، يجاهدن أنفسهن، فإن صبرن فهن مجاهدات، فإن رضين فهن مرابطات، ولهن أجران اثنان) (. فينبغي للزوجين أن يعتقدا هذا الثواب المذكور في هذا الحديث وما قبله عند العقد والجماع جميعًا، وأداء الحق الواجب على كل واحد منهما للآخر بقوله عز وجل: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة: 228] ليكونا مطيعين لله تعالى، ممتثلين أمره جل ثناؤه، وتعتقد المرأة أن ذلك خيرًا من العزوبة، لما روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ليس شيء خيرًا لامرأة من زوج أو قبر)). وقال- صلى الله عليه وسلم-: ((مسكين مسكين مسكين رجل ليس له امرأة، قيل يا رسول الله: وإن كان غنيًا من المال؟ قال: وإن كان غنيًا من المال)). وقال أيضًا: ((مسكينة مسكينة امرأة ليس لها زوج، قيل يا رسول الله وإن كانت غنية من المال؟ قال- صلى الله عليه وسلم-: وإن كانت غنية من المال)).

ويستحب أن يكون العقد يوم الجمعة أو الخميس والمساء أولى من التبكير، ويسن أن تكون الخطبة قبل التواجب، فإن أخرت جاز، وهو مخير بين أن يعقد بنفسه أو يوكل فيه غيره. فإذا انعقد العقد يستحب للحاضرين أن يقولوا: بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير وعافية. ثم إن طلبت المرأة وأهلها الإمهال استحب له إجابتهم إلى ذلك قدر ما يعلم التهيؤ لأمورها فيه وقضاء حوائجها من شراء الجهاز والتزيين لها. فإذا زفت إليه اتبع ما روى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وذلك أنه جاء رجل فقال: إني تزوجت بجارية بكر، وقد خشيت أن تكرهني أو تفركني فقال له: إن الألف من الله والفرك من الشيطان، وإذا دخلت إليك فمرها أن تصلي خلفك ركعتين، وقل: اللهم بارك لي في أهلي، وبارك لأهلي في، اللهم ارزقني منهم، وارزقهم مني، اللهم اجمع بيننا إذا جمعت في خير، وفرق بيننا إذا فرقت إلى خير ...)). فإذا أراد الجماع فليقل: ((بسم الله العلي العظيم، اللهم اجعله ذرية طيبة إن قدرت أن تخرج من صلبي، اللهم جنبني الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتني)). وإذا قضى حاجته فليقل: بسم الله الحمد لله الذي خلق من الماء بشرًا، فجعله نسبًا وصهرًا، وكان ربك قديرًا، يقول ذلك في نفسه، ولا يحرك به شفتيه. والأصل في ذلك ما روى كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: ((بسم اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم قدر أن يكون بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدًا)). وإذا ظهرت أمارة حبل المرأة فليصف غذاءها من الحرام والشبهة، ليتخلق الولد على أساس لا يكون للشيطان عليه سبيل.

والأولى أن يكون من حين الزفاف، ويدوم على ذلك، ليتخلص هو وأهله وولده من الشيطان في الدنيا ومن النار في العقب, قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا} [التحريم: 6] ومع ذلك يخرج لولد صالحًا، بارًا بوالديه، طائعًا لربه عز وجل، كل ذلك ببركة تصفية الغذاء. فإذا فرغ من الجماع تنحى عنها، وغسل ما به من الأذى وتوضأ إن أراد العود إليها، وإلا اغتسل. ولا ينام جنبًا فإنه مكروه، وكذلك روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم-، إلا أن يشق ذلك عليه لبرد أو بعد حمام وماء أو خوف ونحو ذلك. فينام إلى حين زوال ذلك، ولا يستقبل القبلة عند المجامعة، ويغطي رأسه ويستتر عن العيون، وإن كان عن صبي طفل؛ لأنه روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا أتى أحدكم أهله فليستتر، فإنه إذا لم يستتر استحيت الملائكة وخرجت ويحضره الشيطان، وإذا كان بينهما ولد كان الشيطان فيه شريكًا)). وكذلك يروى عن السلف أنه إذا لم يسم عند الجماع التف الشيطان على إحليله يطأ كما يطأ. ويستحب له الملاعبة لها قبل الجماع، والانتظار لها بعد قضاء حاجته، حتى تقضي حاجتها، فإن في ترك ذلك مضرة عليها، ربما أفضى إلى البغضاء والمفارقة. وإن أراد العزل عنه فلا يفعل إلا بإذنها إن كانت حرة، وبإذن سيدها إن كانت أمة، وإن كانت أمته جاز بغير إذنها، لأن الحق له دونها. وقد جاء رجل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: إن لي جارية هي خادمتنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل، قال- صلى الله عليه وسلم-: اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها. ويجتنب وطأها في حال الحيض والنفاس، وكذلك بعد انقطاع الدم حتى تغتسل من الحيض قولًا واحدًا، وفي النفاس قبل الأربعين استحبابًا. فإن لم تجد الماء وجب التيمم. فإن خالف فوطئ في الحيض تصدق بدينار أو نصف دينار على إحدى الروايتين،

والأخرى: يستغفر الله تعالى ويتوب إليه ألا يرجع إلى مثله، ولا يكفر. ويجتنب وطأها في الموضع المكروه. قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: ((ملعون من أتى امرأة في دبرها)). فإن لم تتق نفسه إلى الجماع لا يجوز له تركه، لأن لها حقًا في ذلك، وعليها مضرة في تركه، لأن شهوتها أعظم من شهوته، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: ((فضلت شهوة النساء على الرجال بتسعة وتسعين، إلا أن الله تعالى ألقى عليهن الحياء)). وقيل: الشهوة عشرة أجزاء تسعة منها للنساء وواحدة للرجال. والقدر الذي لا يجوز أن يؤخر الوطء عنه أربعة أشهر، إلا أن يكون له عذر، فإن جوز أربعة أشهر كان لها فراقه. وإن سافر عنها مدة أكثر من ستة أشهر فطلبت منه القدوم فأبى أن يقدم مع القدرة كان للحاكم أن يفرق بينهما، إذا طلبت الزوجة ذلك، وهذا هو التوقيت الذي وقته عمر ابن الخطار رضي الله عنه للناس في مغازيهم، يسيرون شهرًا، ويقيمون أربعة أشهر، ويسيرون راجعين إلى أهلهم شهرًا. وإذا رأى امرأة غيره فأعجبته جامع امرأته، ليسكن ما به من التوقان، لما روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إذا رأى أحدكم امرأة تعجبه فليأت أهله، فإن لم يكن له امرأة فإن الشيطان يقبل في صورة امرأة ويدبر في صورة امرأة)). فمن لم تكن له امرأة يلتجئ إلى الله عز وجل ويسأله السلامة من معاصيه، ويستعيذ به من الشيطان الرجيم. ولا يجوز له أن يحدث غيره بما جرى بينه وبين أهله من أمر الجماع، ولا المرأة أن تحدث بذلك النساء، لأن ذلك سخف ودناءة وقبيح في الشرع والعقل، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه في حديث فيه طول عن النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى أن قال: ثم أقبل على الرجال فقال: هل منكم الرجل إذا أتى أهله فأغلق عليه بابه وألقى عليه ستره، واستتر

إذا دعا امرأته للجماع

بستر الله؟ قالو: نعم، قال: ثم يجلس بعد ذلك فيقول: فعلت كذا، فعلت كذا، قال: فسكتوا، قال: فأقبل على النساء، فقال: هل منكن من تحدث؟ فسكتن، فجثت فتاة على إحدى ركبتيها، وتطاولت لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليراها ويسمع كلامها، فقالت: يا رسول الله، إنهم ليتحدثون وإنهن ليتحدثن، فقال: هل تدرون ما مثل ذلك؟ إنما مثل ذلك مثل شيطانة لقيت شيطانًا في السكة، فقضى منها حاجته، والناس ينظرون إليه، ألا وإن طيب الرجال ما ظهر ريحه ولم يظهر لونه، ألا أن طيب النساء ما ظهر لونه ولم يظهر ريحه. (فصل) وإذا دعا امرأته للجماع فأبت عليه كانت عاصية لله تعالى، وعليها وزر، قال النبي- صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((أيما امرأة منعت زوجها حاجته كان عليها قيراطان من الأصر، وأيما رجل منع امرأته حاجتها كان عليه من الأصر قيراط)). يعني الإثم. وفي بعض الأحاديث قال- صلى الله عليه وسلم-: ((إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته وإن كانت على التنورة)). وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إذا دعا أحدكم امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)). وعن قيس بن سعد رضي الله عنه قال: أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فقلت لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحق أن يسجد له، قال: فأتيت النبي- صلى الله عليه وسلم- فقلت له: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك، فقال- صلى الله عليه وسلم-: أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟ قال: قلت: لا. قال- صلى الله عليه وسلم-: فلا تفعلوا ذلك، لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله تعالى لهم عليهن من حق. والمرزبان: هو ملك لهم.

(فصل) وليمة العرس

وعن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال- صلى الله عليه وسلم-: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت)). فإن أصرت المرأة على النشوز وهو الامتناع عن الإجابة لهذا الشأن، أو تجيبه متكرهة متبرمة، فليبدأ الزوج بوعظها ويخوفها بالله عز وجل، فإن أقامت على ذلك هجرها في المضجع والكلام فيما دون ثلاثة أيام، فإن ارتدعت وإلا كان له ضربها بما لا يكون مبرحًا كالدرة أو مخراق؛ لأن المقصود ارتداعها وطاعتها له لا إهلاكها. فإن لم ينصلح الحال بينهما بعث الحاكم حكمين حرين مسلمين عدلين من أهلهما، ويوكلهما الزوجان، فينظران بينهما ما فيه من المصلحة من إصلاح أو فراق بمال وغيره، فما يفعلان يلزمهما حكمه. (فصل) ويستحب وليمة العرس والسنة ألا ينقص فيها عن شاة، وبأي شيء أولم من الطعام جاز، وتجب إجابته إذا كان مسلمًا في اليوم الأول، ويستحب في اليوم الثاني، ويباح في اليوم الثالث، بل هي دناءة، والأصل في ذلك ما روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال لعبد الرحمن رضي الله عنه: أولم ولو بشاة. وقال- صلى الله عليه وسلم-: ((الوليمة في أول يوم حق، والثاني معروف، وبعد ذلك دناءة)). وقال- صلى الله عليه وسلم-: في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب، فإن كان مفطرًا أكل، وإن كان صائمًا ترك وانصرف)). وهل يكره النثار والتقاطه أم لا؟ على روايتين: إحداهما: يكره لما فيه من السخف ودناءة النفس والنهبة والشره، فكانت الصيانة عن ذلك أولى، وتركه في باب الورع أحرى. وعلى الرواية الثانية: لا يكره، لما روى أن النبي- صلى الله عليه وسلم- نحر بدنه وخلى بينها وبين

(فصل) ماذا يجب بعد كمال شرائط عقد النكاح

المساكين، وقال: من شاء اقتطع ولا فرق بين النثار وبين ذلك. وأولى من ذلك: القسمة بين الحاضرين فإنه أطيب وأحل وأدخل في باب الورع. (فصل) فإذا كملت شرائط عقد النكاح وهو: حضور الولي العدل، والشهود العدول، والكفاءة، والخلو من المانع من الردة والعدة وغيرهما، استأذنها العاقد للنكاح إذا لم تكن مجبرة، وهو إذا كانت ثيبًا أو بكرًا لا أب لها، وعرفها الزوج مقدار الصداق وصفته، ثم يخطب، ويستغفر الله عز وجل، ويأمر بذلك الولي على وجه الاستحباب والأولى، ثم يستنطقه فيقول له: قد زوجتك بنتي أو أختي فلانة فيسميها على ما اتفقنا عليه من الصداق، ويقول الزواج: قد قبلت هذا النكاح. ولا ينعقد النكاح إلا بالعربية لمن يحسنها، فإن لم يحسنها فبلسانه ولغته. وهل يلزمه تعلم العربية إذا لم يحسنها لعقد النكاح أم لا؟ على الوجهين. ويستحب أن يخطب بخطبة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، لأنه قد روى أن الإمام أحمد بن حنبل كان إذا شهد إملاكًا ولم يسمع خطبة عبد الله بن مسعود ترك الإملاك وانصرف، وهو ما أخبرنا به الإمام هبة الله بن المبارك بن موسى السقطي ببغداد، عن القاضي أبي المظفر هناد بن إبراهيم بن محمد بن نصر النسفي، عن القاضي أبي عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي البصري، عن محمد بن إسحاق اللؤلؤي، عن أبي داود، قال: حدثنا محمد بن سليمان الأنباي المفتي، قال: حدثنا وكيع عن إسرائيل، عن ابن إسحاق عن أبي الأخوص عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((علمنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خطبة النكاح: الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا} [النساء: 1]. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران: 103].

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]. ويستحب أن يضيف إليها قوله عز وجل: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم} [النور: 32]، {يرزق من يشاء بغير حساب} [النور: 38]. وإن قرأ غير هذه الخطبة جاز، مثل: أن يقول: الحمد لله المتفرد بآلائه، الجواد بإعطائه، الذي تجلى في سمائه المتوحد بكبريائه، لا يصفه الواصفون حق صفته، ولا ينعته الناعتون حق نعته، لأنه الله الأحد الصمد المعبود، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، تبارك الله العزيز الغفار، بعث محمدًا- صلى الله عليه وسلم- بالحق نبيًا صفيًا بريًا من العاهات كلها، فبلغ ما أرسل به، سراجًا زاهرًا ونورًا ساطعًا وبرهانًا لامعًا- صلى الله عليه وسلم- وعلى آله أجمعين. ثم أن هذه الأمور كلها بيد الله يصرفها في طرائقها، ويمضيها في حقائقها، لا مقدم لما أخر، ولا مؤخر لما قدم، ولا يجتمع اثنان إلا بقضاء وقدر، ولكل قدر أجل، ولكل أجل كتاب {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} [الرعد: 39]. وكان من قضاء الله وقدره أن فلان ابن فلان يخطب كريمتكم فلانة بنت فلان، وقد أتاكم راغبًا فيكم، خاطبًا كريمتكم، وقد بذل لها من الصداق ما وقع عليه الاتفاق، فزوجوا خاطبكم، وأنكحوا راغبكم، قال الله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم} [النور: 32]. فإذا فرغ من الخطبة، عقد النكاح على ما قدمنا ذكره. * * *

باب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

باب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد ذكر الله عز وجل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ومدحهم في كتابه. قال الله عز وجل: {الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين} [التوبة: 112]. وقال الله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110]. وقال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [التوبة: 71]. وروى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله تعالى شراركم على خياركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)). وروى سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ((مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم، وقبل أن تستغفروا فلا يغفر لكم، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يدفع رزقًا ولا يقرب أجلًا، ألا إن الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى لما تركوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم ثم عموا بالبلاء)). فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على كل مسلم حر مكلف عالم بذلك، بشرط القدرة على وجه لا يؤدى إلى فساد عظيم وضرر في نفسه وماله وأهله، ولا فرق بين أن يكون إمامًا أو عالمًا أو قاضيًا أو واحدًا من الرعية. وإنما شرطنا العلم بالمنكر والقطع به، لما في ذلك من خوف الوقوع في الإثم، لأنه لا يأمن المنكر أن يكون الأمر بخلاف ما ظن، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم} [الحجرات: 12].

فصل شرط القدرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ولا يجب عليه كشف ما ستر عنه لأن الله تعالى نهى عن ذلك فقال: {ولا تجسسوا} [الحجرات: 12]، إنما الواجب عليه إنكار ما ظهر، وفي بحث ما ستر كشف الستر، وذلك ممنوع في الشرع. (فصل) وإنما شرطنا القدرة على ذلك ما روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ما من قوم يكون فيهم رجل يعمل المعاصي، ويقدرون أن يغيروا عليه فلا يغيروا عليه إلا عمهم الله بعذاب قبل أن يتوبوا)). فقد شرط عليه الصلاة والسلام ذلك وهو إذا كانت الغلبة لأهل الصلاح وعدل السلطان وأعانه أهل الخير. وأما إذا كان الإنكار تغريرًا بالنفس مع لحوق الضرر به وبماله فلا يجب عليه ذلك؛ لقوله عز وجل: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195]، وقوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29]. وقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: ((لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قيل يا رسول الله: كيف يذل نفسه؟ قال- صلى الله عليه وسلم-: لا يتعرض لما لا يمكنه)). وقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: ((إذا رأيتم أمرًا لا تستطيعوا تغييره فاصبروا حتى يكون الله تعالى هو الذي يغيره)). فإذا ثبت أنه لا يجب عليه الإنكار فهل يجوز إنكاره إذا غلب على ظنه الخوف على نفسه، فعندنا يجوز ذلك وهو الأفضل إذا كان من أهل العزيمة والصبر، فهو كالجهاد في سبيل الله مع الكفار، وقد قال الله تعالى في قصة لقمان: {وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر واصبر على ما أصابك} [لقمان: 17]. وقال النبي- صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة رضي الله عنه: ((يا أبا هريرة مر بالمعروف وأنه عن المنكر واصبر على ما أصابك)). ولاسيما إذا كان ذلك عند سلطان جائر، أو لإظهار كلمة الإيمان عند ظهور كلمة

فصل إذا غلب على ظنه عدم زوال المنكر

الكفر، لأن الفقهاء اتفقوا على ذلك، وإنما الخلاف بيننا وبينهم في غير هذين الموضوعين. (فصل) وإذا غلب على ظنه عدم زوال المنكر وبقاؤه على ذلك، فهل يجب عليه إنكاره، أم لا؟ على روايتين عن الإمام أحمد رحمه الله: إحداهما: يجب لجواز أن يرتدع وينجز، ويرق قلبه، ويلحقه التوفيق والهداية ببركة صدقه، فيرجع عما هو عليه، والظن لا يمنع من جواز إنكاره. والرواية الأخرى: لا يجب عليه إنكاره حتى يغلب على ظنه زواله، لأن القصد بالإنكار زوال المنكر، فإذا قوى في الظن بقاؤه كان تركه أولى. (فصل) فإذا ثبت وجوب الإنكار، فالمنكرون ثلاثة أقسام: قسم: يكون إنكارهم باليد، وهم الأئمة والسلاطين. والقسم الثاني: إنكارهم باللسان دون اليد، وهم العلماء. والقسم الثالث: إنكارهم بالقلب، وهم العامة. وقد جاء في هذا المعنى حديث، وهو ما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إذا رأى أحد منكم منكرًا فليغيره بيده، فإنه لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)). يعني: أضعف فعل أهل الإيمان. وقد روى عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه قال: ((إذا رأى أحد منكم منكرًا لا يستطيع النكير عليه فليقل ثلاث مرات: اللهم إن هذا منكر فأزله، فإذا قال ذلك كان له ثواب من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر)). (فصل) ويشترط في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر خمس شرائط: أولها: أن يكون عالمًا بما يأمر وينهي. والثاني: أن يكون قصده وجه الله، وإعزاز دين الله، وإعلاء كلمته، وإظهار طاعته، دون الرياء والسمعة والحمية لنفسه، وإنما ينصر ويوثق ويزول به المنكر إذا كان صادقًا

مخلصًا، قال الله تعالى: {إن نصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} [محمد: 7]، وقال الله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128]. فإذا اتقى الشرك وترك نظر الخلق في إنكاره وأحسن العمل بإخلاصه في ذلك كان الظفر له، وإن كان غير ذلك كان له الخذلان والصغار والذلة والمهانة، وبقاء المنكر على حاله، بل زيادته وتفاقمه وضراوة أهل المعاصي واتفاق شياطين الإنس والجن على مخالفة الله تعالى، وترك طاعته، وارتكاب المحرمات. والثالث: أن يكون أمره ونهيه باللين والتودد، لا بالفظاظة والغلظة، بل بالرفق والنصح والشفقة على أخيه، كيف وافق عدوه الشيطان اللعين الذي قد استولى على عقله، وزين له معصية ربه ومخالفة أمره، يردي بذلك إهلاكه وإدخاله النار، كما قال الله تعالى: {إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} [فاطر: 6]، وقال الله تعالى لنبيه- صلى الله عليه وسلم-: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران: 159]، وقال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون: {فقولا قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى} [طه: 44]. وقال النبي- صلى الله عليه وسلم- في حديث أسامة: ((لا ينبغي لأحد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يكون فيه ثلاث خصال: عالمًا بما يأمر، عالمًا بما ينهى، رفيقًا فيما يأمر، رفيقًا فيما ينهى)). والرابع: أن يكون صبورًا حليمًا حمولًا متواضعًا زائل الهوى قوي القلب لين الجانب، طبيبًا يداوي مريضًا، حكيمًا يداوي مجنونًا، إمامًا هاديًا، قال الله تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا} [السجدة: 24] على احتمال الأذى من قومهم على نصرة دين الله وإعزازه والقيام معه، فجعلهم أئمة هداة أطباء الدين، قادة المؤمنين. وقال الله تعالى في قصة لقمان: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} [لقمان: 17]. والخامس: أن يكون عاملًا بما يأمر، متنزهًا عما ينهى عنه، وغير متلطخ به، لئلا يكون لهم تسلط عليه، فيكون عند الله مذمومًا ملمومًا، قال الله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} [البقرة: 44].

فصل كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وقال النبي- صلى الله عليه وسلم- في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: ((رأيت ليلة أسري بي رجالًا تقرض شفاهم بالمقريض، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب)). قال الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم وقال قتادة رضي الله عنه: ذكر لنا أن في التوراة مكتوبًا أن ابن آدم يذكرني وينساني، ويدعو إلي ويفر مني، باطل ما تذهبون. وأراد بذلك عز وجل: من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويترك نفسه وهو تعالى أعلم بذلك. (فصل) والأولى له إن استطاع أن يأمره وينهاه سرًا في خلوة، ليكون ذلك أبلغ وأمكن في الموعظة والزجر والنصيحة له، وأقرب إلى القبول والإقلاع، وقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ((من وعظ أخاه بالعلانية فقد شانه، ومن وعظه سرًا فقد زانه))، فإن فعل ذلك ولم ينفعه أظهر حينئذ ذلك، واستعان عليه بأهل الخير، وإن لم ينفع فبأصحاب السلطان. وينبغي ألا يترك إنكار المنكر أبدًا، لأن الله تعالى ذم قومًا تركوا ذلك وتغافلوا عنه، قال عز وجل: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة: 79]، وقال تعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} [المائدة: 63]، يعني: هلا نهاهم علماؤهم فقهاؤهم وقراؤهم عن القول الفاحش وأكل الحرام وفعل المعاصي. وقيل: إن الله تعالى أوحى إلى يوشع بن نون عليه السلام إني مهلك من قومك أربعين ألفًا من خيارهم وستين ألفًا من شرارهم، قال: يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ قال تعالى: إنهم لم يغضبا بغضبي وواكلوهم وشاربوهم. (فصل) وقد ذكرنا أن الشرط الخامس: أن يكون عالمًا بما يأمر متنزهًا عما ينهى عنه، إلا أن شيوخنا ذكروا: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الفاسق، كوجوبه على العدل، فأشرنا إلى ذلك لما تقدم من عموم الآيات والأخبار من غير فرق.

وقد حمل بعض السلف قوله تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} [البقرة: 207] على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع إنسانًا يقرأ هذه الآية، فقال: {إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة: 156]، قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل. وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر)). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ((سيد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه فقتله)). وقد ذكر الله تعالى الذي ينهى عن المنكر، وتأخذه العزة فلا يمتنع، فقال تعالى: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم} [البقرة: 206] الآية. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن من أكبر الذنوب عند الله تعالى أن يقال للعبد اتق الله، فيقول: عليك بنفسك. وجميع ذلك عام في حق الصالح والطالح. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: ((مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه)). ولأنه لا يخلو أحد من معصية إما ظاهرًا وإما باطنًا. فإن قلنا لا ينكر إلا المتنزه عنه، تعذر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيندرس الدين ويضمحل. (فصل) والذي يؤمر به وينكر على ضربين: فكل ما وافق الكتاب والسنة والعقل فهو معروف. وكل ما خالف ذلك فهو منكر. ثم ذلك ينقسم قسمين:

فصل ينبغي لكل مؤمن العمل بهذه الآداب

أحدهما: ظاهر يعرفه العوام والخواص، وهو كوجوب الصلوات الخمس، وصوم رمضان والزكاة والحج وغير ذلك، ومن المنكر: كتحريم الزنا وشرب الخمر والسرقة وقطع الطريق والربا والغصب وغير ذلك، فهذا القسم يجب إنكاره على العوام، كما يجب على الخواص من العلماء. والقسم الثاني: ما لا يعرفه إلا الخواص، مثل: اعتقاد ما يجوز على الباري تعالي وما لا يجوز عليه. فهذا يختص إنكاره بالعلماء، فإن أخبر أحد من العلماء بذلك واحدًا من العوام جاز له ذلك. ووجب على العامي الإنكار عند القدرة على ما بينا، ولا يجوز قبل ذلك. وأما الذي كان الشيء مما اختلف الفقهاء فيه وساغ في الاجتهاد، كشرب عامي النبيذ مقلدًا لأبي حنيفة رحمه الله، وتزج امرأة بلا ولي على ما عرف من مذهبه، لم يكن لأحد ممن هو على مذهب الإمام أحمد والشافعي رحمهما الله الإنكار عليه، لأن الإمام أحمد قال في رواية المرزوي: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدد عليهم، وإذ ثبت هذا فالإنكار إنما يتعين في حرق الإجماع دون المختلف فيه. وقد نقل عن الإمام أحمد رحمه الله ما يدل على جواز الإنكار في المختلف فيه وهو ما قال في رواية الميموني في الرجل يمر بالقوم وهو يلعبون بالشطرنج ينهاهم يعظهم، ومعلوم أن هذا جائز عند أصحاب الشافعي رحمهم الله. (فصل) وينبغي لكل مؤمن أن يعل بهذه الآداب في سائر أحواله، ولا يترك العمل بها. وقد روى عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ((تأدبوا ثم تعلموا)). وقال أبو عبد الله البلخي رحمه الله: ((أدب العلم أكثر من العلم)). وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: ((إذا وصف لي رجل له علم الأولين والآخرين ولا أدب له لا أتأسف على فوت لقائه، وإذا سمعت برجل له أدب النفس أتمنى لقاءه وأتأسف على فواته)). ويقال مثل الإيمان كمثل بلدة لها خمسة من الحصون، الأول من ذهب، والثاني من

فضة، والثالث من حديد، والرابع من آجر، والخامس من لبن، فما دام أهل الحصن متعاهدين الذين هو من لبن لا يطمع العدو في الثاني، فإذا أهملوا ذلك طمعوا في الحصن الثاني ثم في الثالث حتى تخرب الحصون كلها، فكذلك الإيمان في خمسة من الحصول، أولها اليقين، ثم الإخلاص، ثم أداء الفرائض، ثم إتمام السنن، ثم حفظ الآداب، فما دام العبد يحفظ الآداب ويتعاهدها فالشيطان لا يطمع فيه. فإذا ترك الآداب طمع الشيطان في السنن ثم في الفرائض، ثم في الإخلاص، ثم في اليقين. فينبغي للإنسان أن يحفظ الآداب في جميع أموره من الوضوء والصلاة والبيع الشراء وغير ذلك. هذا آخر ما اخترنا وأردنا لخصنا من آداب الشريعة، فبامتثال الأمر في العبادات الخمس المقدم ذكرها يصير مسلمًا، وبالتأدب بهذه الآداب يكون تابعًا للسنة ومقتفيًا للأثر، ويحصل له بذلك معرفة ما ينبغي. ويبقى عليه حقيقة معرفة الصانع وهي من أعمال القلب، فأخرناها ليسهل عليه الدخول في ديننا. فإذا تقمص بنور الإسلام ظاهرًا قلنا له: تقمص بنور الإيمان باطنًا. * * *

القسم الثاني في العقائد

القسم الثاني في العقائد

باب في معرفة الصانع عز وجل

باب في معرفة الصانع عز وجل نقول: أما معرفة الصانع عز وجل بالآيات والدلالات على وجه الاختصار، فهي: أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد فرد صمد، {لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوًا أحد} [الإخلاص: 3 - 4]، {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] لا شبيه له ولا نظير، ولا عون ولا ظهير، ولا شريك ولا وزير، ولا ند ولا مشير، ليس بجسم فيمس، ولا بجوهر فيحس، ولا عرض فيقضى، ولا ذي تركيب أو آلة وتأليف، أو ماهية وتحديد. وهو الله للسماء رافع، وللأرض واضع، لا طبيعة له من الطبائع، ولا طالع له من الطوالع، ولا ظلمة تظهر، ولا نور يزهر، حاضر الأشياء علمًا، شاهد لها من غير مماسة، قاهر حاكم قادر، راحم غافر، ساتر معز ناصر، رؤوف خالق فاطر، أول آخر، ظاهر باطن، فرد معبود، حي لا يموت، أزلي لا يفوت، أبدي الملكوت سرمدي الجبروت، قيوم لا ينام، عزيز لا يضام، منيع لا يرام، له الأسماء العظام والمواهب الجسام، قضى بالفناء على جميع الأنام فقال: {كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [الرحمن: 26 - 27]. وهو بجهة العلو مستو على العرش، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء، {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر: 10]. {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرض إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون} [السجدة: 5]. خلق الخلائق وأفعالهم وقدر أرزاقهم وآجالهم، لا مقدم لما أخر، ولا مؤخر لما قدم، أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعًا لأطاعوه، يعلم السر وأخفى، عليم بذات الصدور، {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14]. هو المحرك، هو المسكن، لما تتصوره الأوهام ولا تقدره الأذهان، ولا يقاس بالناس،

جل أن يشبه بما صنعه، أو يضاف إلى ما اخترعه وابتدعه، محصي الأنفاس، القائم على كل نفس بما كسبت {لقد أحصاهم وعدهم عدًا * وكلهم آتية يوم القيامة فردًا} [مريم: 94 - 95]، {لتجزى كل نفس بما تسعى} [طه: 15]، {ليجزى الذين أساؤوا بما عملا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى} [النجم: 31] غنى عن خلقه، رازق لبريته، يطعم ولا يطعم، يرزق ولا يرزق، يجير ولا يجار عليه، الخليقة مفتقرة إليه، لم يخلقهم لاجتلاب نفع ولا دفع ضرر، ولا لداع دعاة إليه، ولا لخاطر خطر له، وفكر حدث له، بل إرادة مجردة كما قال وهو أصدق القائلين: {ذو العرش المجيد * فعال لما يريد} [البروج: 15 - 16]. متفردة بالقدرة على اختراع الأعيان، وكشف الضر والبلوى وتقليب الأعيان وتغيير الأحال، {كل يوم هو في شأن} [الرحمن: 29]. يسوق ما قدر إلى ما وقت. وأنه تعالى حي بحياة، وعالم بعلم، وقادر بقدرة، ومريد بإرادة، وسميع بسمع، وبصير ببصر، ومدرك بإدراك، ومتكلم بكلام، وآمر بأمر، وناه بنهي، ومخبر بخبر. وأنه تعالى عادل في حكمه وقضائه، ومحسن متفضل في عطائه وإنعامه، مبدئ ومعيد، محيي ومميت، محدث وموجد، مثيب ومعاقب، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى، يقظان لا يسهو، رقيب لا يغفل، يقبض ويبسط، يضحك ويفرح، يحب ويكره، ويبغض ويرضى، ويغضب ويسخط، يرحم ويغفر، ويعطي ويمنع، له يدان وكلتا يديه يمين، قال جل وعلا: {والسموات مطويات بيمينه} [الزمر: 67]، روى عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ((قرأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على المنبر {والسموات مطويات بيمينه} [الزمر: 67] وقال: تكون في يمينه يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة، ثم يقول: أنا العزيز، قال: فلقد رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتحرك على المنبر حتى كاد يسقط)). قال ابن عباس رضي الله عنهما: يقبض الأرضين والسموات جميعًا، فلا يرى طرفهما من قبضته. وعن ابن عمر عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من

نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين)). خلق آدم عليه السلام بيده على صورته، وغرس جنة عدن بيده، وغرس شجرة طوبى بيده، وكتب التوراة بيده، وناولها موسى من يده إلى يده، وكلمه تكليمًا من غير واسطة ولا ترجمان، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ويوعيها ما أراد، والسموات والأرض يوم القيامة في كفه كما جاء في الحديث. ويضع قدمه في جهنم، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط، ويخرج قومًا من النار بيده. وينظر أهل الجنة إلى وجه، ويرونه لا يضامون في رؤيته، ولا يضارون، كما جاء في الحديث: ((يتجلى لهم يعطيهم ما يتمنون))، وقال عز من قائل: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26] قيل: الحسنى هي الجنة، والزيادة: النظر إلى وجهه الكريم، وقال تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} [القيامة: 22 - 23]. ويعرض عليه العباد يوم الفصل والدين، يتولى حسابهم بنفسه، ولا يتولى ذلك غيره. وأن الله تعالى خلق سموات بعضها فوق بعض، وسبع أرضين بعضها أسفل من بعض، ومن الأرض العليا إلى السماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عم، والماء فوق السماء السابعة، وعرش الرحمن فوق الماء، والله تعالى على العرش، ودونه حجب من نار ونور وظلمة، وما هو أعلم به، وللعرش حملة يحملونه، قال عز وجل: {الذين يحملون العرش ومن حوله} [غافر: 7] الآية. وللعرش حد يعمله الله تعالى، قال الله عز وجل: {وترى الملائكة حافين من حول العرش} [الزمر: 75] وهو من ياقوتة حمراء، وسعته كسعة السموات والأرضين. والكرسي عند العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة. وهو جل وعلا يعلم ما في السموات السبع وما بينهن وما تحتهن، وما في الأرضين السبع وما تحتهن وما بينهن وما تحت الثرى، وما في قعر البحار ومنبت كل شعرة وكل

شجرة وكل زرع ينبت، ومسقط كل ورقة، وعدد ذلك كله، وعدد الحصى والرمل والتراب، ومثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وأعمال العباد وآثارهم، وأنفاسهم وكلامهم، ويعلم كل شيء لا يخفى عليه شيء من ذلك. وهو باين من خلقه، لا يخلو من علمه مكان، ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال: إنه في السماء على العرش، كما قال جل ثناؤه {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]، وقوله: {ثم استوى على العرش الرحمن} [الفرقان: 59]، وقال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر: 10]. والنبي- صلى الله عليه وسلم- حكم بإسلام الأمة لما قال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء. وقال النبي- صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: لما خلق الله الخلق كتب كتابًا على نفسه، وهو عنده، فوق العرش: أن رحمتي تغلب غضبي. وفي لفظ آخر: لما قضى الله سبحانه الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي. وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش لا على معنى القعود والمماسة كما قالت المجسمة والكرامية، ولا على معنى العلو والرفعة كما قالت الأشعرية، ولا على معنى الاستيلاء والغلبة كما قالت المعتزلة، لأن الشرع لم يرد بذلك، ولا نقل عن أحد من الصحابة والتابعين من السلف الصالح من أصحاب الحديث، بل المنقول عنهم حمله على الإطلاق. وقد روى عن أم سلمة زوج النبي- صلى الله عليه وسلم- في قوله عز وجل: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] قالت: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به واجب، والجحود به كفر. وقد أسنده مسلم بن الحجاج عنها عن النبي- صلى الله عليه وسلم- في صحيحه، وكذلك في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله قبل موته بقريب: أخبار الصفات تمر، كما جاءت، بلا تشبيه ولا تعطيل.

وقال أيضًا في رواية بعضهم: لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا، إلا ما كان في كتاب الله عز وجل، أو حديث عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أو عن أصحابه رضي الله عنهم، أو عن التابعين، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود، فلا يقال في صفات الرب عز وجل: كيف، ولم، ولا يقول ذلك إلا شاك. وقال أحمد رحمه الله، في رواية عنه في موضع آخر: نحن نؤمن بأن الله عز وجل على العرش، كيف شاء، وكما شاء، بلا حد ولا صفة، يبلغها واصف، أو يحده حاد، لما روى عن سعيد بن المسيب عن كعب الأحبار قال الله تعالى في التوراة: أنا الله فوق عبادي، وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على عرشي، عليه أدبر عبادي، ولا يخفى علي شيء من عبادي. وكونه عز وجل على العرش مذكورًا في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا كيف، ولأن الله تعالى فيما لم يزل موصوف بالعلو والقدرة والاستيلاء والغلبة على جميع خلقه من العرش وغيره، فلا يحمل الاستواء على ذلك. فالاستواء من صفات الذات بعدما أخبرنا به، ونص عليه، وأكده في سبع آيات من كتابه، والسنة المأثورة به، وهو صفة لازمة له، ولائقة به كاليد والوجه والعين والسمع والبصر والحياة والقدرة، وكونه خالقًا ورازقًا ومحييًا ومميتًا، موصوف بها، ولا نخرج من الكتاب والسنة، نقرأ الآية والخبر، ونؤمن بما فيهما، ونكل الكيفية في الصفات إلى علم الله عز وجل، كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله: كما وصف الله تعالى نفسه في كتابه. فتفسيره قراءته، لا تفسير له غيرها، ولا نتكلف غير ذلك، فإنه غيب، لا مجال للعقل في إدراكه، ونسأل الله تعالى العفو والعافية، ونعوذ به من أن نقول فيه وفي صفاته ما لم يخبرنا به هو أو رسوله عليه الصلاة والسلام. وأنه تعالى ينزل في كل ليلة إلى سماء الدنيا، كيف شاء وكما شاء، فيغفر لمن أذنب وأخطأ وأجرم وعصى لمن يختار من عباده ويشاء، تبارك وتعالى العلي الأعلى، لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، لا بمعنى نزول رحمته وثوابه على ما ادعته المعتزلة والأشعرية، لما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ((ينزل الله تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من

سائل فيعطى سؤاله؟ هل من مستغفر فيغفر له؟ هل من عان فيفك عانيه؟ حتى يصبح الصبح، ثم يعلو ربنا تبارك وتعالى على كرسيه)). وفي لفظ آخر عن عباده بن الصامت رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ينزل الله تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: ألا عبد من عبادي يدعوني فأستجيب له؟ ألا ظالم لنفسه يدعوني فأغفر له؟ ألا مقتر عليه رزقه يدعوني فأرزقه؟ ألا مظلوم يذكرني فأنصره؟ ألا عان يدعوني فأفكه؟ قال: فيكون كذلك إلى أن يطلع الصبح، ويعلو على كرسيه)). وقد روى هذا الحديث بألفاظ مختلفة عن أبي هريرة وجابر بن عبد الله وعلي رضي الله عنهم، وعن عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء وابن عباس وعائشة رضوان الله عليهم، كلهم عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. ولهذا كانوا يفضلون صلاة آخر الليل على أوله. وروى أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ينزل الله عز وجل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا، فيغفر لكل نفس إلا لإنسان في قلبه شحناء، أو شرك بالله عز وجل)). وروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الله عز وجل إذا ذهب شطر الليل الأول ينزل إلى سماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى ينشق الفجر)). وقيل لإسحاق بن راهوية: ما هذه الأحاديث التي تحدث بها عن الله تعالى ينزل

فصل القرآن كلام الله

إلى السماء الدنيا، والله يصعد ويتحرك، قال للسائل: تقول إن الله تعالى يقدر على أن ينزل ويصعد، ولا يتحرك؟ قال: نعم، قال: فلم تنكره؟. وقال يحيى بن معين: إذا قال لك الجهمي: كيف ينزل؟ فقل له: كيف صعد؟. وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: إذا قال لك الجهمي: أنا كافر برب ينزل، فقل له: أنا مؤمن برب يفعل ما يشاء. وعن شريك بن عبد الله رحمه الله- لما قيل له عندنا قوم ينكرون هذه الأحاديث-: من جاءنا بأسماء ليست عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الصلاة والصيام والزكاة والحج، وإنما عرفنا الله عز وجل بهذه الأحاديث. (فصل) ونعتقد أن القرآن كلام الله كتابه وخطابه ووحيه الذي نزل به جبريل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. كما قال عز وجل: {نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين} [الشعراء: 193 - 195]. هو الذي بلغه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمته امتثالًا لأمر رب العالمين بقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67]. وروى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: ((كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي)). وقال عز وجل: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6] كلام الله تعالى هو القرآن غير مخلوق كيفما قرئ وتلى وكتب، وكيفما تصرفت به قراءة قارئ، لفظ لافظ، وحفظ حافظ، هو كلام الله وصفة من صفات ذاته، غير محدث ولا مبدل ولا مغير ولا مؤلف ولا منقوص ولا مصنوع ولا مزاد فيه، منه بدأ تنزيله، وإليه يعود حكمه، كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-، في حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه: ((إن فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه)). وذلك أن القرآن منه تبارك وتعالى خرج وإليه يعد فمعناه: أن تنزيله وبدايته وظهوره

منه عز وجل، وإليه يعود حكمه الذي هو العبادات من أداء الأوامر وانتهاء النواهي، لأجله تفعل وتترك، فالأحكام عائدة إليه عز وجل. وقيل: منه بدء حكمًا، وإليه يعود علمًا، وهو كلام الله في صدور الحافظين وألسن الناطقين وفي أكف الكاتبين وملاحظة الناظرين ومصاحف أهل الإسلام وألواح الصبيان حيثما رؤى ووجد. فمن زعم أنه مخلوق أو عبارته أو التلاوة غير المتلو، أو قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم، ولا يخالط ولا يؤاكل ولا يناكح ولا يجاور، بل يهجر ويهان، ولا يصلى خلفه، ولا تقبل شهادته، ولا تصح ولايته في نكاح وليه، ولا يصلى عليه إذا مات، فإن ظفر به استتيب ثلاثًا كالمرتد، فإن تاب وإلا قتل. سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عمن قال: لفظي بالقرىن مخلوق فقال: كفر. وقال رحمه الله فيمن قال: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، والتلاوة مخلوقه، أو ألفاظنا بالقرآن مخلوقة: هو كافر. وروى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه سأل النبي- صلى الله عليه وسلم- عن القرآن فقال: ((كلام الله غير مخلوق)). وروى عن عبد الله بن عبد الغفار وكان مولى لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، عتاقة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا ذكر القرآن فقولوا: كلام الله غير مخلوق، فمن قال مخلوق فهو كافر)). وقال الله عز وجل: {ألا له الخلق والأمر} [العراف: 54]، ففصل بين الخلق والأمر، فلو كان أمره الذي هو كن، الذي به يخلق الخلق مخلوقًا لكان ذلك تكرارًا وعيبًا لا فائدة فيه. كأنه قال: ألا له الخلق والخلق، والله عز وجل يتعالى عن ذلك. وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهما فسرا قوله عز وجل: {قرآنًا عربيًا غير ذي عوج} [الزمر: 28] أنه غير مخلوق. وقد هدد الله تعالى الوليد بن المغيرة المخزومي حين سمى القرآن قول البشر- بسقر فقال: {إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر} [المدثر: 24 - 26].

فكل من قال: القرآن عبارة أو مخلوق، أو لفظي بالقرآن مخلوق، فله سقر، كما هو للوليد، إلا أن يتوب. وقال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6]، ولم يقل: حتى يسمع كلامك يا محمد. وقال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر: 1]، يعني القرآن الذي هو في الصدور والمصاحف. وقال عز وجل: {وإذا قرئ القرآن فاستعموا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف: 204]. وقال تعالى: {وقرآنًا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث} [الإسراء: 106] والناس إنما سمعوا قراءة النبي- صلى الله عليه وسلم- ولفظه، فلفظه بالقرآن هو القرآن، ومدح الله سبحانه وتعالى الجن الذين سمعوا قراءة النبي- صلى الله عليه وسلم-: {فقالوا إنا سمعنا قرآنًا عجبًا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدًا} [الجن: 1 - 2]. وقال تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفرًا من الجن يستمعون القرآن} [الأحقاف: 29]. وسمى الله قراءة جبريل عليه السلام للقرآن قرآنًا، فقال جل وعلا: {لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه قرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} [القيامة: 16 - 18]. وقال تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} [المزمل: 20]. وأجمع المسلمون على أن من قرأ فاتحة الكتاب في صلاة إنه قارئ كتاب الله، وأن من حلف أنه لا يتكلم فقرأ القرآن لم يحنث، فدل على أنه ليس بعبارة. وقال النبي- صلى الله عليه وسلم- في حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه: ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هي القراءة، والتسبيح، والتهليل، وتلاوة القرآن)). فأخبر أن تلاوة القرآن هي القرآن، فعلم بذلك أن التلاوة هي المتلو، والله تعالى، ورسوله- صلى الله عليه وسلم- أمر المؤمنين بالقراءة في الصلاة، ونهيا عن الكلام، فلو كانت قراءتنا كلامنا لا كلام الله لكنا مرتكبين للنهي في الصلاة.

(فصل) نعتقد أن القرآن حروف مفهومة ... إلخ

(فصل) ونعتقد أن القرآن حروف مفهومة وأصوات مسموعة. لأن بها يصير الأخرس والساكت متكلمًا وناطقًا، وكلام الله عز وجل لا ينفك عن ذلك، فمن جحد ذلك الكتاب فقد كابر حسه، وعميت بصيرته، قال الله عز وجل: {ألم * ذلك الكتاب} [البقرة: 1 - 2]، {حم}، {طسم * تلك آيات الكتاب} [القصص: 1 - 2]، فقد ذكر حروفًا وكنى عنها بالكتاب، وقال تعالى: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} [لقمان: 27]. فأثبت لنفسه كلمات متعددة غير متناهية الأعداد، وكذلك قوله: {قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله ممددًا} [الكهف: 109]. وقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: ((إقرؤوا القرآن فإنكم تؤجرون عليه بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول: {الم} حرف، ولكن الألف عشر، واللام عشر، والميم عشر، فذلك ثلاثون}. وقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف)). وقال تعالى في حق موسى عليه السلام: {وإذ نادى ربك موسى} [الشعراء: 10]، {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيًا} [مريم: 52]. وقال تعالى لموسى عليه السلام: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} [طه: 14]. كل هذا لا يكون إلا صوتًا، ولا يجوز أن يكون هذا النداء وهذا الاسم والصفة إلا لله عز وجل، دون غيره من الملائكة وسائر المخلوقات. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: ((إذا كان يوم القيامة، يأتي الله عز وجل في ظلل من الغمام، فيتكلم بكلام طلق ذلق، فيقول- وهو أصدق القائلين-: انصتوا فطالما أنصت لكم، منذ خلقتكم، أرى أعمالكم، وأسمع أقوالكم، فإنما هي صحائفكم، تقرأ عليكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله سبحانه وتعالى، ومن وجد غير

ذلك فلا يلومن إلا نفسه)). وروى البخاري في صحيحه بإسناده عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه أنه قال: ((سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: يحشر الله سبحانه العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان)). وروى عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله رضي الله عنه قال: ((إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجدًا حتى إذا فزع عن قلوبهم، قال: سكن عن قلوبهم، نادى أهل السماء: أهل السماء ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، قال: كذا وكذا، يعني ذكر الوحي)). وعن عبد الله بن الحرث، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ((إن الله تبارك وتعالى إذا تكلم بالوحي سمع أهل السموات صوتًا كصوت الحديد إذا وقع على الصفا فيخرون له سجدًا فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم، قالوا الحق وهو العلي الكبير)). قال محمد بن كعب: قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: بم شبهت صوت ربك حين كلمك في هذا الخلق، قال: شبهت صوت ربي بصوت الرعد حين لا يرتجع. وهذه الآيات والأخبار تدل على أن كلام الله صوت لا كصوت الآدميين، كما أن علمه قدرته وبقية صفاته لا تشبه صفات الآدميين، كذلك صوته. وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على إثبات الصوت في رواية جماعة من الأصحاب رضوان الله عليهم أجمعين. خلاف ما قالت الأشعرية من أن كلام الله معنى قائم بنفسه، والله حسيب كل مبتدع ضال مضل، فالله سبحانه لم يزل متكلمًا وقد أحاط كلامه بجميع معاني الأمر والنهي والاستخبار. وقال ابن خزيمة رحمه الله: كلام الله تعالى متواصل لا سكوت فيه ولا صوت.

(فصل) وكذلك حروف المعجم غير مخلوقة

وقيل لأحمد بن حنبل رحمه الله: هل يجوز أن تقول إن الله تعالى متكلم، ويجوز عليه السكوت؟ فقال رحمه الله: نقول في الجملة إن الله تعالى لم يزل متكلمًا، ول ورد الخبر بأنه سكت لقلنا به ولكنا نقول إنه متكلم كيف شاء بلا كيف ولا تشبيه. (فصل) وكذلك حروف المعجم غير مخلوقة وسواء كان ذلك في كلام الله تعالى أو في كلام الآدميين. وقد ادعى قوم من أهل السنة أنها قديمة في القرآن الشريف محدثة في غيره، وهذا خطأ منهم، بل القول السديد هو الأول من مذهب أهل السنة بلا فرق، لقوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82]. وهي حرفان فلو كانت ((كن)) مخلوقة لاحتاجت إلى ((كن)) تخلق بها إلى ما لا نهاية له، وقد تقدمت أدلة كثيرة من الآيات فلا نعيدها. وأما من السنة فما روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال لعثمان بن عفان لما سئل عن أ، ب، ت، ث، إلى آخر الحروف. فقال: الألف من اسم الله الذي هو الله، والباء من اسم الله الذي هو البارئ، والتاء من اسم الله الذي هو المتكبر، والثاء من اسم الله الذي هو الباعث والوارث، حتى أتى إلى آخرها، فذكر أنها كلها من أسماء الله وصفاته. وأسماؤه عز وجل غير مخلوقة. وقال النبي- صلى الله عليه وسلم- في حديث علي كرم الله وجهه لما سأله عن معنى أبجد هوز حطي ... إلى آخرها: يا علي ألا تعرف تفسير أبي جاد؟ الألف من اسم الله عز وجل الذي هو الله، والباء من اسم الله الذي هو البارئ، والجيم من اسم الله الذي هو الجليل ... إلى آخرها. فذكر النبي- صلى الله عليه وسلم- أنها من أسماء الله وهي في كلام الآدميين. وقد نص أحمد بن حنبل رحمه الله على قدم حروف الهجاء، فقال في رسالته إلى أهل نيسابور وجرجان: ومن قال إن حروف التهجي محدثة فهو كافر بالله، ومتى حكم أن ذلك مخلوق فقد جعل القرآن مخلوقًا. ولما قيل له رحمه الله إن فلانًا يقول: إن الله تعالى لما خلق الحروف انضجعت اللام، وانتصبت الألف، فقالت لا أسجد حتى أؤمر. فقال أحمد هذا كفر من قائله.

(فصل) نعتقد أن الله عز وجل له تسعة وتسعون اسما

وقال الشافعي رحمه الله: لا تقولوا بحدث الحروف فإن اليهود أول ما هلكت بهذا، ومن قال بحدث حرف من الحروف فقد قال بحدث القرآن. ولأنه لا يخلو إما أن يقال هي قديمة في القرآن أو محدثة فيه فإن قيل هي قديمة في القرآن فوجب أن تكون قديمة في غيره، لأنه لا يجوز أن يكون الشيء الواحد قديمًا وهو بعينه محدث. فإن قالوا هي محدثة في القرآن فقد تقدمت الأدلة على قدمها في القرآن، فإذا ثبت ذلك في القرآن فكذلك في غيره. فإن قالوا فهذا يفضي إلى أن جميع الكلام يكون قديمًا، قيل يلزم القرآن لما لم يقل ذلك في حروف الهجاء. (فصل) ونعتقد أن الله عز وجل له تسعة وتسعون اسمًا، مائة إلا واحد، من أحصاها دخل الجنة. وذلك مروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إن لله تعالى تسعة وتسعون اسمًا مئة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة)). وجميعها في القرآن في سور متفرقة: منها خمسة أسماء في الفاتحة، وهي: يا الله، يا رب، يا رحمن، يا رحيم، يا مالك. وفي سورة البقرة ستة وعشرون اسمًا: يا محيط، يا قدير، يا عليم، يا حليم، يا تواب، يا بصير، يا واسع، يا بديع، يا سميع، يا كافي، يا رؤوف، يا شاكر، يا واحد، يا غفور، يا حكيم، يا قابض، يا باسط، يا لا إله إلا هو، يا حي، يا قيوم، يا علي، يا عظيم، يا ولي، يا غني، يا حميد. وفي آل عمران أربعة أسماء: يا قائم، يا واهب، يا سريع، يا خبير. وفي سورة النساء ستة أسماء: يا رقيب، يا حسيب، يا شهيد، يا غفور، يا مقيت، يا وكيل. وفي الأنعام خمسة أسماء: يا فاطر، يا قاهر، يا قادر، يا لطيف، يا خبير. وفي الأعراف اسمان: يا محيي، يا مميت.

وفي الأنفال اسمان: يا نعم المولى، ويا نعم النصير. وفي هود سبعة أسماء: يا حفيظ، يا رقيب، يا مجيد، يا قوي، يا مجيب، يا ودود، يا فعال لما تريد. وفي الرعد اسمان: يا كبير، يا متعال. وفي إبراهيم اسم واحد: وهو يا منان. وفي الحجر اسم واحد: وهو يا خلاق. وفي النحل اسم: يا باعث. وفي مريم اسمان، يا صادق، يا وارث. وفي المؤمنين اسم: يا كريم. وفي النور ثلاثة أسماء: يا حق، يا مبين، يا نور. وفي الفرقان: يا هادي. وفي سبأ: يا فتاح. وفي المؤمن أربعة أسماء: يا غافر، يا قابل، يا شديد، يا ذا الطول. وفي الذاريات ثلاثة أسماء: يا رزاق، يا ذا القوة، يا متين. وفي الطور: يا منان. وفي اقتربت الساعة: يا مقتدر. وفي الرحمن: يا باقي، يا ذا الجلال، يا ذا الإكرام. وفي الحديد أربعة: يا أول، يا آخر، يا ظاهر، يا باطن. وفي الحشرة عشرة أسماء: يا قدوس، يا سلام، يا مؤمن، يا مهيمن، يا عزيز، يا جبار، يا متكبر، يا خالق، يا بارئ، يا مصور. وفي البروج: يا مبدئ، يا معيد. وفي قل هو الله أحد: يا أحد، يا صمد. هكذا ذكرها سفيان بن عيينة رحمه الله. وذكر عبد الله بن أحمد أسماء زوائد على هذه: وهي: يا قاهر، يا فاصل، يا فالق، يا رقيب، يا ماجد، يا جواد، يا أحكم الحاكمين.

(فصل) نعتقد أن الإيمان قول باللسان، ومعرفة بالجنان

وذكر أبو بكر النقاش في كتاب تفسير الأسماء والصفات، عن جعفر بن محمد- يعني الصادق رحمه الله- أنه قال: إن لله ثلاثمائة وستين اسمًا. وروى أيضًا عن غيره: مئة وأربعة عشرة اسمًا. وكل ذلك محمول على أنهم وجدوا في القرآن أسماء مكررة فعدوها أسماء، والصحيح ما ذكر عن أبي هريرة رضي الله عنه. (فصل) ونعتقد أن الإيمان قول باللسان، ومعرفة بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، ويقوى بالعلم ويضعف بالجهل، وبالتوفيق يقع. كما قال الله عز وجل: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانًا وهو يستبشرون} [التوبة: 124]. وما جاز عليه الزيادة جاز عليه النقصان. وقال تعالى: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون} [الأنفال: 2]. وقوله عز وجل: {ليستبقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانًا} [المدثر: 31]. وما روى عن ابن عباس وأبي هريرة وأبي الدرداء رضي الله عنهم، أنهم قالوا: الإيمان يزيد وينقص. وغير ذلك مما يطول شرحه. وقد أنكرت الأشعرية زيادة الإيمان ونقصانه. وهو في اللغة تصديق القلب المتضمن للعلم بالمصدق به، وهو في الشريعة: التصديق؛ وهو العلم بالله وصفاته مع جميع الطاعات الواجبات منها والنوافل واجتناب الزلات والمعاصي. ويجوز أن يقال الإيمان: هو الدين والشريعة والملة؛ لأن الدين هو ما يدان به من الطاعات مع اجتناب المحظورات والمحرمات، وذلك هو صفة الإيمان. وأما الإسلام: فهو من جملة الإيمان وكل إيمان إسلام، وليس كل إسلام إيمانًا. لأن الإسلام هو بمعنى الاستسلام والانقياد وكل مؤمن مستسلم منقاد لله تعالى. وليس كل مسلم مؤمنًا بالله، لأنه قد يسلم مخافة السيف. فالإيمان اسم يتناول مسميات كثيرة، أفعالًا وأقوالًا، فيعم جميع الطاعات. والإسلام عبارة عن الشهادتين مع طمأنينة القلب والعبادات الخمس. وقد أطلق الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أن الإيمان غير الإسلام، فذهب إلى

الحديث المروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: ((بينما أنا عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شددي بياض الثوب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، ثم قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال- صلى الله عليه وسلم-: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا، قال: صدقت، قال: فتعجبنا منه يسأله ويصدقه، ثم قال: أخبرني عن الإيمان: قال- صلى الله عليه وسلم-: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان: قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال عمر رضي الله عنه: فلبثت هنيهة. ثم قال لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: هل تدرون من السائل؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال- صلى الله عليه وسلم-: فإنه جبريل جاءكم يعلمكم دينكم)). وفي لفظ آخر قال: ((ذلك جبريل أتاكم ليعلمكم أمر دينكم، وما أتاني قط في صورة إلا عرفته إلا في صورته هذه)). فقد فرق جبريل عليه السلام بين الإسلام والإيمان بسؤالين: فأجاب النبي- صلى الله عليه وسلم- عنهما بجوابين مختلفين فذهب الإمام أحمد رضي الله عنه إلى حديث الأعرابي حيث قال: ((يا رسول الله أعطيت فلانًا ومنعتني فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم- ذلك مؤمن: فقال الأعرابي: وأنا مؤمن. فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم- أو مسلم أنت؟)). وذهب أيضًا إلى قول الله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} [الحجرات: 14]. واعلم أن زيادة الإيمان: إنما تكون على التحقيق بعد أداء الأوامر وانتهاء النواهي

بالتسليم في القدر، وترك الاعتراض على الله عز وجل في فعله في خلقه، وترك الشك في وعده في الأقسام والرزق وفي الثقة به، والتوكل عليه، والخروج من الحول والقوة والصبر على البلاء والشكر على النعماء، والتنزيه للحق، وترك التهمة له عز وجل في سائر الأحوال، وأما بمجرد الصلاة والصوم فلا. وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن الإيمان أمخلوق هو أم غير مخلوق؟ فقال: من قال إن الإيمان مخلوق فقد كفر؛ لأن في ذلك إيهامًا وتعريضًا بالقرآن، ومن قال إنه غير مخلوق فقد ابتدع؛ لأن في ذلك إيهام أن إماطة الأذى عن الطريق وأفعال الأركان غير مخلوقة فقد أنكر على الطائفتين. وذكر في الحديث أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: ((الإيمان بضع وسبعون خصلة، أفضلها قول: لا إله الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)). وإنما كفر القائل بخلق القرآن، وبدع الآخر لأن مذهبه رحمه الله مبني على أن القرآن إذا لم ينطق بشيء ولم يرو في السنة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شيء فانقرض عصر الصحابة ولم ينقل أحد منهم قولًا، فالكلام فيه بدعة وحدث. ولا يجوز للمؤمن أن يقول: أنا مؤمن حقًا، بل يجب أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، خلاف ما قالت المعتزلة إنه يجب أن يقول: أنا مؤمن حقًا. وإنما قلنا ذلك لما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: من زعم أنه مؤمن فهو كافر. وعن الحسن رضي الله عنه: أن رجلًا قال عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إني مؤمن. فقيل لابن مسعود إن هذا يزعم أنه مؤمن قال: فاسألوه أفي الجنة هو أم هو في النار؟ فسألوه فقال: الله أعلم. فقال عبد الله: فهلا وكلت الأخرى كما وكلت الأولى. ولأن المؤمن حقًا من هو عند الله تعالى مؤمن، وهو الذي يكون من أهل الجنة. ولا يكون كذلك إلا بعد موافاته بالإيمان، ويختم له بذلك، ولا يعلم أحد بما يختم له.

فينبغي أن يكون خائفًا راجيًا مصلحًا حذرًا مترقبًا حتى يأتيه الموت على خير عمل، وإن الناس يموتون على ما عشوا عليه، ويحشرون على ما ماتوا عليه، كما جاء في الحديث: قال -عليه الصلاة والسلام-: «كما تعيشون تموتون، وكما تموتون تبعثون». ونعتقد أن أفعال العباد خلق الله -عز وجل- وكسب لهم خيرها وشرها، حسنها وقبيحها ما كان منها طاعة ومعصية، لا على معنى أنه أمر بالمعصية، لكن قضى بها وقدرها، وجعلها على حسب قصده، وأنه قسم الأرزاق وقدرها، فلا يصدها صاد ولا يمنعها مانع، لا زائدها ينقص، ولا ناقصها يزيد، ولا ناعمها يخشن، ولا خشنها ينعم، ورزق غد لا يؤكل اليوم، وقسم زيد لا ينقل إلى عمرو. وإنه تعالى يرزق الحرام كما يرزق الحلال، على معنى أنه يجعله غذاء للأبدان وقامًا للأجسام لا على معنى إباحة الحرام. وكذلك القاتل لم يقطع أجل المقتول المقدر له، بل يموت بأجله، وكذلك الغريق، ومن هدم عليه الحائط وألقى من شاهق، ومن أكله السبع، وكذلك هداية المسلمين والمؤمنين وضلالة الكافرين إليه -عز وجل- جميع ذلك فعل له صنعة، لا شريك له في ملكه. وإنما أثبتنا كسبًا لموضع توجه الأمر والنهي والخطاب إليهم، ثم استحقاق الثواب والعقاب لديه كما وعده وضمن -جل وعز-، قال الله تعالى: {جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 17، الأحقاف: 14، الواقعة: 24]. وقال -عز وجل-: {بما صبرتم} [الرعد: 24]، وقال -جل وعلا-: {ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين} [المدثر: 42 - 44]. وقال -تبارك وتعالى-: {هذه النار التي كنتم بها تكذبون} [الطور: 14]، وقال تعالى: {ذلك بما قدمت يداك} [الحج: 10] وغير ذلك من الآيات. فعلق سبحانه الجزاء على أفعالهم، فأثبت لهم كسبًا خلاف ما قالت الجهمية من أنه لا كسب للعباد، وأنه كالباب يرد ويفتح، والشجرة تحرك وتهز. وهم الجاحدون للحق، الرادون للكتاب والسنة. والدليل على أن ذلك خلق الله -عز وجل- وكسب للعباد خلافًا للقدرية في قولهم: إن جميع ذلك خلق للعبادة دون الله -عز وجل-.

تبًا لهم وهم مجوس هذه الأمة جعلوا لله شركاء ونسبوه إلى العجز، وأن يجرى في ملكه ما لا يدخل في قدرته ولا إرادته تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا لقوله -عز وجل-: {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: 96]، وكما قال تعالى: {جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 17، الأحقاف: 14، الواقعة: 24]. فلما كان الجزاء واقعًا على أعمالهم كان الخلق واقعًا على أعمالهم، ولا جائز أن يقال: المراد بذلك ما يعملون من الحجارة والأصنام، لأن الحجارة أجسام، والعباد لا يعملون، وإنما الأعمال التي يقع فيها ما يعملها العباد فوجب أن يرجع الخلق إلى أعمالهم من الحركات والسكنات وقال تعالى: {ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} [هود: 118 - 119] والمعنى للخلاف، وقال تعالى: {أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء} [الرعد: 16]. وقال -جل وعلا-: {هل خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض} [فاطر: 3]، وقال تعالى إخبارًا عن المشركين: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا} [النساء: 78]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث حذيفة -رضي الله عنه-: «إن الله تعالى خلق كل صانع وصنعته، حتى خلق الجازر وجزوره». وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن الله قال: أنا خلقت الخير والشر فطوبى لمن قدرت على يديه الخير، وويل لمن قدرت على يديه الشر». وسئل علي -رضي الله عنه- عن أعمال العباد التي يستوجبون من الله السخط والرضى، أشيئًا من الله أم شيء من العباد، قال هي: لله خلق وللعباد عمل. ويعتقد أن المؤمن وإن أذنب ذنوبًا كثيرة من الكبائر والصغائر لا يكفر بها وإن خرج من الدنيا بغير توبة إذا مات على التوحيد والإخلاص، بل يرد أمره إلى الله -عز وجل- إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه وأدخله النار، فلا يدخل بين الله تعالى

(فصل) نعتقد أن من أدخله الله النار بكبيرته مع الإيمان فإنه لا يخلد

وبين خلقه ما لم يخبرنا الله بمصيره. (فصل) ونعتقد أن من أدخله الله النار بكبيرته مع الإيمان فإنه لا يخلد فيها، بل يخرجه منها. فأن النار في حقه كالسجن في الدنيا فيستوفى منه بقدر كبيرته وجريمته، ثم يخرج برحمة الله تعالى ولا يخلد فيها، ولا تلفح وجهه النار ولا تحرق أعضاء السجود منه، لان ذلك محرم على النار، ولا ينقطع طمعه من الله -عز وجل- في كل حال مادام في النار حتى يخرج منها فيدخل الجنة، ويعطى الدرجات على قدر طاعته التي كانت له في الدنيا، خلاف ما قالته القدرية إن الكبيرة تحبط الطاعات، فلا يثاب عليها، وكذلك قول الخوارج تبًا لهم. (فصل) وينبغي أن يؤمن بخير القدر وشره، وحلو القضاء ومره. وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه بالحذر، وما أخطأه من الأسباب لم يكن ليصيبه بالطلب، وأن جميع ما كان في سالف الدهور والأزمان، وما يكون، إلى يوم البعث والنشور بقضاء الله وقدره المقدور، وأنه لا محيص لمخلوق من القدر المقدور الذي خط في اللوح المسطور، وأن الخلائق لو جهدوا أن ينفعوا المرء بما لم يقضه الله تعالى لم يقدروا عليه، ولو جهدوا أن يضروه لم يقضه الله عليه لم يستطيعوا. كما ورد في خبر ابن عباس -رضي الله عنهما- وقال، قال الله تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده} [يونس: 107]. وروى عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: حدثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة» وفي لفظ آخر «أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا بأربع كلمات: خلقه ورزقه وعمله وشقي أم سعيد، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلا باع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها».

(فصل) نؤمن بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى ربه

وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وإنه لمكتوب في الكتاب أنه من أهل النار فإذا كان عند موته تحول فعمل بعمل أهل النار، فمات فدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار وإنه لمكتوب في الكتاب أنه من أهل الجنة، فإذا كان قبل موته عمل بعمل أهل الجنة، فمات فدخل الجنة». وعن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: «بينما نحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ينكث في الأرض إذ رفع رأسه فقال: ما من أحد إلا وقد علم مقعده من النار، أو مقعده من الجنة، فقالوا: أفلا نتكل؟ قال -صلى الله عليه وسلم- اعملوا فكل ميسر لما خلق له». وعن سالم بن عبد الله عن أبيه -رضي الله عنه- قال: إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: «يا رسول الله، أرأيت ما نعمل فيه، أشيء قد فرغ منه، أو شيء مبتدع، أو مبتدأ؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا، بل فيما قد فرغ منه، قال: أفلا نتكل؟ قال عليه الصلاة والسلام: اعمل يا ابن الخطاب فكل ميسر لما خلق له، فمن كان من أهل السعادة فيعمل للسعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فيعمل للشقاوة». (فصل) ونؤمن بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى ربه -عز وجل- ليلة الإسراء بعيني رأسه لا بفؤاده ولا في المنام. لما روى جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه قال: «قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى} [النجم: 13]. قال: رأيت ربي -جل اسمه- مشافهمة لاشك فيه، وفي قوله تعالى: {عند سدرة المنتهى} [النجم: 14] قال: رأيته عند سدرة المنتهى حتى تبين لي نور وجهه». وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله -عز وجل-: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} [الإسراء: 60] هي رؤيا عين رأيها النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة أسري به».

(فصل) نؤمن بأن منكر ونكير

وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: كانت الخلة لإبراهيم -عليه السلام- والكلام لموسى -عليه السلام-، والرؤية لمحمد -صلى الله عليه وسلم-. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: رأى محمد -صلى الله عليه وسلم- ربه -عز وجل- بعينيه مرتين. ولا يعارض هذا ما روي عن عائشة -رضي الله عنها- من إنكار ذلك، لأنه نفي وهذا إثبات فقدم عند الاجتماع لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أثبت لنفسه الرؤية. وقال أبو بكر بن سليمان: رأى محمد -صلى الله عليه وسلم- ربه إحدى عشرة مرة، منها بالسنة تسع مرات في ليلة المعراج حين كان يتردد بين موسى -عليه السلام- وبين ربه -عز وجل- يسأله أن يخفف عن أمته الصلاة فنقص خمسًا وأربعين صلاة في تسع مقامات ومرتين بالكتاب. (فصل) ونؤمن بأن منكرًا ونكيرًا إلى كل أحد ينزلان سوى النبيين. فيسألانه ويمتحنانه عما يعتقده من الأديان، وهما يأتيان القبر، فيرسل فيه الروح، ثم يقعد، فإذا سئل سلت روحه بلا ألم. ونؤمن بأن الميت يعرف من يزوره إذا أتاه، وآكده يوم الجمعة بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس. والإيمان بعذاب القبر وضغطته واجب لأهل المعاصي والكفر وجميع الخلق سوى النبيين ثم يخفف عن المؤمنين برحمة الله -عز وجل-، وكذلك النعيم فيه لأهل الطاعة والإيمان، خلاف ما قالت المعتزلة من إنكارهم ذلك، وإنكارهم مسألة منكر ونكير. ودليل أهل السنة على إثبات ذلك، قوله -عز وجل-: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [إبراهيم: 27]. قيل في التفسير {في الحياة الدنيا}: عند خروج الروح، {وفي الآخرة}: عند مسألة منكر ونكير. وما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا قبر أحدكم أو الإنسان أتاه

ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ يعني محمدًا رسول الله، فهو قائل ما كان يقول، فإذا كان مؤمنًا قال هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فيقولان إنا كنا لنعلم أنك تقول مثل ذلك. ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعًا في سبعين ذراعًا، وينور له فيه، ثم يقال له: نم. فيقول: دعوني أرجع إلى أهلي فأخبرهم، فيقال له: نم كنومة العروس التي لا يوقظها إلا أحب أهلها إليها، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقًا قال: لا أدري كنت أسمع الناس يقولون شيئًا وكنت أقوله، فيقولان: إنا كنا نعلم أنك تقول ذلك، ثم يقال للأرض التئمي عليه، فتلتأم حتى يختلف فيها أضلاعه، فلا يزال فيها معذبًا حتى يبعثه الله -عز وجل- من مضجعه ذلك». وتعلقوا أيضًا بما روى عطاء بن يسار قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: «يا عمر كيف أنت إذا أعد لك من الأرض ثلاثة أذرع وشبر في عرض ذراع وشبر، ثم قام إليك أهلك فغسلوك وكفنوك وحنطوك، ثم حملوك حتى يغيبوك فيه، ثم يهيلوا عليك التراب، ثم انصرفوا عنك، وأتاك مُسائلا القبر منكر ونكير، أصواتهما مثل الرعد القاصف، وأبصارهما مثل البرق الخاطف قد سدلا شعورهما فتلتلاك وتوهلاك وقالا: من ربك وما دينك؟ قال: يا نبي الله أو يكون معي قلبي الذي هو معي اليوم؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: نعم. قال: إذًا أكفيكهما بإذن الله -عز وجل-». وهذا دليل ونص على أن ذلك يكون بعد إعادة الروح، لأن عمر قال أو يكون قلبي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: نعم. وعن المنهال بن عمرو عن البراء بن عازب -رضي الله عنه-ما قال: «خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنازة رجل من الأنصار وانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير من هيبته، وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه وقال: أستعيذ بالله من عذاب القبر، مرتين أو ثلاث. ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت

عليه ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، ومعهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، فيجلسون معه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس المطمئنة الطيبة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوانه، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء فيأخذونها ولا يدعونها في يده طرفة عين حين يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن والحنوط، فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون هذا فلان ابن فلان بأحسن أسمائه، ثم ينتهون بها إلى سماء الدنيا فيستفتحون لها فيفتح لهم فيستقبلوها ويشيعوها من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهوا إلى السماء السابعة، فيقول الله -عز وجل- اكتبوا كتابه في عليين وأعيدوه إلى الأرض: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} [طه: 55]. فتعاد الروح إلى جسده، ويأتيه ملكان فيقولان له: من ربك وما دينك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلام، فيقولان له: ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، جاءنا بالحق، فيقولان له: وما علمك بذلك؟ فيقول: قرأت كتاب الله تعالى، وآمنت به وصدقته، فينادى من السماء: صدق عبدي فافرشوا له من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابًا إلى الجنة، فيأتيه ريحها وطيبها ويفسح له في قبره، مد البصر، ويأتيه رجل حسن الوجه طيب الريح فيقول له: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول عند ذلك: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة. وإن العبد الكافر إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا أنزل الله تعالى عليه ملائكة من السماء سود الوجوه معهم المسوح، فيجلسون معه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط الله وغضبه فتتفرق في أعضائه كلها فينزعها كما ينزع العود من الصوف المبلول، فتنقطع منه العروق والعصب فيأخذونها فيجعلونها في تلك المسوح فيخرج منها كأنتن جيفة، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: هذا فلان ابن فلان بأقبح أسمائه حتى ينتهوا بها إلى سماء الدنيا فيستفتحون لها فلا يفتح لهم، ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: {لا تفتح لهم أبواب السماء} [الأعراف: 40]،

ثم يقول الله سبحانه وتعالى: «اكتبوا كتابه في سجين» ثم تطرح روحه طرحًا، ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق} [الحج: 31]. يعني ترد فتعاد إليه روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي المنادي من السماء: كذب عبدي فافرشوا له فراشًا، من النار وألبسوه من النار وافتحوا له بابًا من النار، فيدخل عليه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح المنظر والثياب منتن الريح فيقول له: أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول من أنت؟ فيقول: أنا عملك السوء، فيقول: رب لا تقم الساعة. وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، قال: إن المؤمن إذا وضع في قبره يوسع عليه في قبره سبعون ذراعًا عرضًا وسبعون ذراعًا طولًا، وتنثر عليه الرياحين، ويستر بالحرير في الجنة، فإن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره، وإن لم يكن معه شيء من القرآن جعل له نور مثل نور الشمس، ويكون مثله كمثل العروس تنام فلا يوقظها من نومتها إلا أحب أهلها إليها، فتقوم من نومتها كأنها لم تشبع منها. وإن الكافر إذا وضع في قبره يضيق عليه قبره، حتى تدخل أضلاعه في جوفه، ويرسل عليه حيات كأمثال أعناق البخث فتأكل لحمه حتى لا يذرن على عظمه لحمًا، ويرسل عليه شياطين صم بكم عمي، ويقال: هو الشيطان الرجيم، ومعهم فطاطيس من حديد، فيضربونه بها حتى لا يسمعوا صوته فيرحمونه، ولا يبصرونه فيرحمونه، وتعرض عليه النار بكرةً وعشيًا. فهذه أخبار دالة على إثبات عذاب القبر ونعيمه، فإن اعترضوا عليها فقالوا: كيف القول في المصلوب والمحترق والغريق ومن أكلته السباع فتفرقت بلحمه والطير معها فحصل أجزاء متعددة؟

فيقال لهم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر عذاب القبر والمسألة على ما هو معهود وعادة في الخلق أنهم يدفنون في القبور، وإن وجد ميت على هذه الصفة البعيدة النادرة لا يمتنع أن يقال: إن الله يصير روحه إلى الأرض، ثم تضغط وتسئل وتعذب وتنعم، كما أن أرواح الكفار تعذب كل يوم مرتين، غدوة وعشية، حتى تقوم الساعة، ثم تدخل النار مع الأجساد حينئذ، كما قال تعالى: {النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]. وإن أرواح الشهداء والمؤمنين في حواصل طيور خضر، تسرح في الجنة، وتأوى إلى قناديل من نور تحت العرش ثم تأتي إلى الأجساد عند النفخة الثانية إلى الأرض للعرض والحساب يوم القيامة. كما روى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل أثمارها، وتأوى إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا: من يبلغ عنا إخواننا أننا أحياء في الجنة نرزق، فلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله -عز وجل- وهو أصدق القائلين: أنا أبلغهم فأنزل -عز وجل-: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله} [آل عمران: 169 - 170]». فيجوز أن تقع المسألة والعذاب والنعيم ببعض جسد الكافر والمؤمن دون بقية أجزائه ويكون ما فعل بالبعض فعلًا بالكل، وقد قيل: إن الله يجمع تلك الأجزاء المتفرقة للضغط والمسألة كما يفعل ذلك في الحشر والمحاسبة. ثم إن الإيمان بالبعث من القبور والنشر عنها واجب، كما قال -عز وجل-: {وإن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور} [الحج: 7]. وكما قال الله -عز وجل-: {كما بدأكم تعودون} [الأعراف: 29]، وقال -جل وعلا-: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} [طه: 55]. سيحشرهم ويجمعهم جميعًا -جل وعلا-: {لتجزى كل نفس بما تسعى} [طه: 15]، {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} [النجم: 31]، وقال

فصل في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر

-جل جلاله-: {الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم} [الروم: 40]. فالذي قدر على إنشاء الخلق قادر على إعادتهم، وقد أنكرت المعطلة ذلك تبًا لهم. (فصل) والإيمان بأن الله تعالى يقبل شفاعة نبينا -صلى الله عليه وسلم- في أهل الكبائر والأوزار واجب. قبل دخول النار عامًا للحساب لجميع أمم المؤمنين، وبعد دخولها لأمته خاصة، فيخرجون منها بشفاعته -صلى الله عليه وسلم- وغيره من المؤمنين حتى لا يبقى في النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، ومن قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله مرة واحدة في عمره مخلصًا لله -عز وجل- خلاف ما زعمت القدرية من إنكار ذلك. وفي كتاب الله تكذيبهم قال الله -عز وجل-: {فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم} [الشعراء: 100 - 101]. وقوله -عز وجل-: {فما لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ...} [الأعراف: 53] الآية. وقال الله -جل جلاله-: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} [المدثر: 48]. فقد أثبت الله تعالى في الآخرة شفاعة، وكذلك في السنة. وهو ما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة أنا ولا فخر، وأنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا صاحب لواء الحمد ولا فخر، وأنا أول من يدخل الجنة ولا فخر، وأنا آخذ بحلقة باب الجنة، فيؤذن لي فيستقبلني وجه الجبار -عز وجل-، فأخر له ساجدًا. فيقول تعالى: يا محمد ارفع رأسك واشفع تشفع وسل تعط، فأرفع رأسي فأقول: يارب أمتي أمتي، فلا أزال أرجع إلى ربي، فيقول لي: اذهب فانظر، فمن وجدت في قلبه مثقال حبة من الإيمان فأخرجه من النار. قال -صلى الله عليه وسلم- فأخرج من أمتي أمثال الجبال، ثم يقول لي النبيون: ارجع إلى ربك فاسأله، فأقول قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه». وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة -إن شاء الله تعالى- لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا». وقال -صلى الله عليه وسلم- في حديث أنيس الأنصاري -رضي الله عنه-: «إني لأشفع يوم القيامة لأكثر مما على وجه الأرض من حجر ومدر». وله -صلى الله عليه وسلم- شفاعة في القيامة عند الميزان وعلى الصراط، وكذلك ما من نبي إلا وله شفاعة. وعن حذيفة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: يقول إبراهيم -عليه السلام- يوم القيامة: يا رباه. فيقول الله -عز وجل-: يا لبيكاه، فيقول: يارب أحرقت بني آدم. فيقول -جل وعلا-: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال برة أو شعيرة من الإيمان. وكذلك للصديقين والصالحين من كل أمة شفاعة. وقال -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: «لكل نبي عطية، وإني اختبأت عطيتي شفاعة لأمتي، وإن الرجل من أمتي ليشفع للقبيلة فيدخلهم الله تعالى الجنة بشفاعته، وإن الرجل ليشفع لفئام من الناس فيدخلهم الله الجنة بشفاعته، وإن الرجل ليشفع لثلاثة نفر، والرجل لاثنين، وإن الرجل ليشفع لرجل». وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: «ليدخل الجنة قوم من المسلمين قد عذبوا في النار برحمة الله تعالى وشفاعة الشافعين». وأيضًا في حديث أويس القرني -رحمه الله ورضي عنه- المعروف: «ولله -عز وجل- تفضل وتكرم ورحمة ومنة على من يشاء من أهل النار في إخراجهم من النار بعدما احترقوا وصاروا فحمًا».

(فصل) الإيمان بالصراط

وعن الحسن عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «مازلت أشفع إلى ربي فيشفعني حتى أقول: يارب شفعني فيمن قال: لا إله إلا الله. فيقول -جل وعلا-: هذه ليست لك يا محمد ولا لأحد، هذه لي، وعزتي وجلالي ورحمتي لا أدع في النار واحدًا يقول: لا إله إلا الله». (فصل) والإيمان بالصراط على جهنم واجب. وهو جسر ممدود على متن جهنم يأخذ من يشاء الله إلى النار، ويجوز من يشاء ويسقط في جهنم من يشاء. ولهم في تلك الأحوال أنوار على قدر أعمالهم فهم بين ماش وساع وراكب وزحف وسحب. وقد وصفه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه ذو كلاليب في خبر فيه طول إلى أن قال -صلى الله عليه وسلم-: «ذو كلاليب مثل شوك السعدان، هل تعرفون شوك السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلمها إلا الله -عز وجل-، فتخطف الناس، فمنهم موبق بعمله ومنهم المخردل، ثم ينجو المخردل، المرمي المصروع» وقيل ذلك للمنقطع أيضًا. وقال -صلى الله عليه وسلم-: «استجيبوا ضحاياكم فإنها مطاياكم على الصراط». وجاء في وصف الصراط عنه -صلى الله عليه وسلم-: «أنه أدق من الشعرة وأحر من الجمرة وأحد من السيف، طوله ثلثمائة سنة من سنى الآخرة، يجوزه الأبرار وتزل عنه الفجار، وقيل طوله ثلاثة آلاف سنة من سنى الآخرة». (فصل) وأهل السنة يعتقدون أن لنبينا -صلى الله عليه وسلم- حوضًا في القيامة. يسقى منه المؤمنون، دون الكافرين، ويكون ذلك بعد جواز الصراط قبل دخول الجنة، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا، عرضه مسيرة شهر، ماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل، حوله أباريق على عدد نجوم السماء، فيه ميزابان يصبان من الكوثر، أصله في الجنة وفرعه في الوقف.

(فصل) أهل السنة يعتقدون أن الله يجلس رسوله ونبيه المختار على سائر رسله وأنبيائه معه على العرش يوم القيامة

وقد ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث ثوبان -رضي الله عنه-: «أنا عند حوضي يوم القيامة، فسئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن سعة الحوض، فقال: -صلى الله عليه وسلم-: ما بين مقامي هذا إلى عمان، شرابه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل، فيه ميزابان من الجنة، أحدهما من ورق والآخر من ذهب، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا». وقال -صلى الله عليه وسلم- في حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: «موعدكم حوضي عرضه مثل طوله، وهو أبعد ما بين إيلة إلى مكة، وذلك مسيرة شهر، فيه أباريق أمثال الكواكب، ماؤه أشد بياضًا من الفضة، من ورده فشرب منه لم يظمأ بعدها أبدًا». وكذلك لكل نبي من الأنبياء حوض إلا صالحًا النبي، فإن حوضه ضرع ناقته يسقى من ذلك مؤمنون كل أمة منهم دون الكافرين. وفي حديث آخر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «حوضي ما بين عدن وعمان، حافتاه خيام الدر المجوف، وآنيته عدد نجوم السماء، طينة المسك الأذفر، وماؤه أبيض من اللبن وأبرد من الثلج، وأحلى من العسل، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا، فيذاد عني يوم القيامة رجال كما تذاد الغريبة من الإبل فأقول: ألا هلم ألا هلم، فيقال لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: وما أحدثوا؟ فيقال: إنهم غيروا وبدلوا فأقول: ألا سحقًا وبعدًا». وقد أنكرت ذلك المعتزلة فلا يسقون منه، ويدخلون النار وردًا عطشًا إن لم يتوبوا عم مقالتهم وجحودهم الحق ورد الآيات والأخبار والآثار. وروي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من كذب بالشفاعة لم يكن له فيها نصيب ومن كذب بالحوض لم يكن له فيه نصيب». (فصل) وأهل السنة يعتقدون أن الله يجلس رسوله ونبيه المختار على سائر رسله وأنبيائه معه على العرش يوم القيامة.

فصل في الحساب

لما روي عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله -عز وجل-: {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا} [الإسراء: 79] قال يجلسه معه على السرير. وعن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المقام المحمود، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «وعدني ربي القعود على العرش». وكذلك عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وعن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- قال: إذا كان يوم القيامة جيء بنبيكم -صلى الله عليه وسلم- فأقعد بين يدي الله على كرسيه، فقيل له يا أبا مسعود إذا كان معه على كرسيه أليس هو معه؟ قال: ويلكم هذا أقر حديث في الدنيا لعيني». وقال الحجاج في حديثه: إذا كان يوم القيامة نزل الجبار جل اسمه على عرشه وقدماه على الكرسي، ويؤتي بنبيكم -صلى الله عليه وسلم- فيقعد بين يديه على الكرسي، فقالوا للحميدي: إذا كان على الكرسي فهو معه، قال: نعم، ويلكم هو معه». (فصل) ويعتقد أهل السنة أن الله تعالى يحاسب عبده المؤمن يوم القيامة، ويدنيه منه فيضع كنفه عليه حتى يستره من الناس. لما روي عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يؤتى بالمؤمن يوم القيام فيدنيه الله تعالى منه، فيضع كنفه عليه حتى يستره من الناس فيقول: عبدي أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ مرتين، فيقول: نعم رب، حتى إذا قرره بذنوبه كلها فرأى نفسه أنه قد هلك، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم». ومعنى المحاسبة: تعريف الله تعالى عبده بمقادير ثواب الأعمال وعذابه بقراءة سيئاته أو حسناته وما له وما عليه. وقد أنكرت المعطلة المحاسبة، وقد كذبهم الله تعالى بقوله: {إن إلينا إيابهم * ثم إن

فصل في الميزان

علينا حسابهم} [الغاشية: 25 - 26]. (فصل) ويعتقد أهل السنة أن لله تعالى ميزانًا يزن فيه الحسنات والسيئات يوم القيامة، له كفتان ولسان. وقد أنكرت المعتزلة مع المرجئة والخوارج ذلك، فقال: إن معنى الميزان: العدل دون موازنة الأعمال، وفي كتاب الله وسنة رسوله تكذيبهم، قال الله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئًا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} [الأنبياء: 47]، وقال تعالى: {فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * وأما من خفت موازينه * فأمه هاوية} [القارعة: 6 - 9]. والعدل لا يوصف بالخفة والثقل، وإنما هو بيد الرحمن جل جلاله؛ لأنه هو الذي يتولى حسابهم، لما روى النواس بن سمعان الكلابي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «الميزان بيد الرحمن -عز وجل-، يرفع أقوامًا ويضع آخرين يوم القيامة». وقيل إنه بيد جبرائيل -عليه السلام- لما روى عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- قال: إن جبرائيل -عليه السلام- صاحب الميزان، فيقول له ربه زن يا جبريل بينهم فيرجح بعضهم على بعض. وروى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يوضع الميزان يوم القيامة، فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة الميزان، ويوضع ما أحصى من عمله في كفة، فيميل به الميزان، فيبعث الله به إلى النار فإذا أدبر به إذا صائح يصيح من عند الرحمن: لا تعجلوا لا تعجلوا، فإنه قد بقى له، فيؤتى بشيء فيه لا إله إلا الله فيوضع مع الرجل في كفة حسناته حتى يميل به الميزان، فيؤمر به إلى الجنة». وفي حديث آخر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إنه يؤتى بالرجل يوم القيامة إلى الميزان ثم يؤتى بتسعة وتسعين سجلًا كل سجل مد البصر فيها كلها سيئاته وخطيئاته فترجح سيئاته على حسناته فيؤمر به إلى النار، فإذا أدبر به إذا صائح يصيح من عند الرحمن لا تعجلوا لا تعجلوا فقد بقى له، فيؤتى بمثل رأس الإبهام، وأمسك على النصف منها،

فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، فيوضع في كفة حسناته فتثقل حسناته على سيئاته، فيؤمر به إلى الجنة. وفي لفظ آخر: فيخرج له بقرطاس مثل هذا -وأمسك على إبهامه- فيه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ... إلى آخر الحديث. وقيل إن الصنج يؤمئذ مثاقيل الذر والخردل تكون الحسنات في صورة حسنة تطرح في كفة النور فيثقل بها الميزان برحمة الله وتكون السيئات في صورة سيئة تطرح في كفة الظلمة فيخف بها الميزان بعدل الله تعالى. وعلامة تثقيل الميزان ارتفاعها، وعلامة خفتها انحطاطها بخلاف موازين الدنيا، وقد قيل مثل موازين الدنيا. وسبب تثقيلها الإيمان وقول الشهادتين، وسبب خفتها الشرك بالله -عز وجل-، فإذا ارتفعت أدخل صاحبها الجنة لأنها عالية، وإذا خفت أدخل صاحبها النار الهاوية، لأنها في التخوم أسفل السافلين. كما قال الله -عز وجل-: {فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية} [القارعة: 6 - 7] أي في جنة عالية. {وأما من خفت موازينه * فأمه هاوية} [القارعة: 8 - 9] أي أصله ومأواه ومرجعه نار حامية، وهي هاوية. والناس في موازنة الأعمال على ثلاثة أضرب: منهم من ترجح حسناته على سيئاته، فيؤمر به إلى الجنة، ومنهم من ترجح سيئاته على حسناته، فيؤمر به إلى النار. ومنهم من لا ترجح إحداهما على الأخرى، فهم أصحاب الأعراف، ثم ينالهم الله برحمته إذا شاء فيدخلهم الجنة. فهو قوله -عز وجل-: {وعلى الأعراف رجال} [الأعراف: 46]. والذي يوزن صحائف أعمالهم على ما ذكرنا من تسعة وتسعين سجلًا وطريق ذلك النقل والسمع. وأما المقربون فيدخلون الجنة بغير حساب، كما جاء في الحديث: «أنه يدخل الجنة سبعون ألفًا بغير حساب، ومع كل واحد منهم سبعون ألفًا» على نص الحديث المشهور. وأما الكافرون فيدخلون النار بغير حساب، ومن المؤمنين من يحاسب حسابًا يسيرًا ثم يؤمر به إلى الجنة على ما تقدم.

(فصل) يعتقد أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان

ومنهم من يناقش ثم أمره إلى الله -عز وجل- إن شاء أمر به إلى الجنة أو إلى النار. قال الله -عز وجل-: {فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابًا يسرًا * وينقلب إلى أهله مسرورًا} [الانشقاق: 7 - 9] الآية، وقال جل وعلا: {وكل إنسان ألزمانه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا} [الإسراء: 13 - 14]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث علي -رضي الله عنه-: «إن الله يحاسب كل الخلق إلا من أشرك بالله، فإنه لا يحاسب ويؤمر به إلى النار». (فصل) ويعتقد أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان، وهما الداران أعدهما الله تعالى. إحداهما للنعيم والثواب لأهل الطاعة والإيمان، والأخرى للعقاب والنكال لأهل المعاصي والطغيان، وهما منذ خلقهما الله تعالى باقيتان لا تفنيان أبدًا، وهي الجنة التي كان فيها آدم وحواء -عليهما السلام- وإبليس اللعين، ثم أخرجا منها، القصة المشهورة. وقد أنكرت المعتزلة ذلك، فأما الجنة فلا يدخلونها، وأما النار فلعمري هم فيها خالدون مخلدون لإنكارهم ولحكمهم بذلك للمؤمن الموحد المطيع لله -عز وجل- سبعين سنة بكبيرة واحدة، وفي كتاب الله العزيز -عز وجل- وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تكذيبهم. قال الله -عز وجل-: {وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} [آل عمران: 133]. وقال -عز وجل-: {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} [آل عمران: 131] وما كان معدًا كان موجودًا يعلمه كل عاقل فعلم أنهما مخلوقتان. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: «دخلت الجنة فإذا أنا بنهري يجري؟ حافتاه خيام اللؤلؤ، فضربت بيدي إلى ماء يجري إذ مسك أذفر، قلت: يا جبريل ما هذا، قال: هذا الكوثر الذي أعطاك الله تعالى». وقال -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: حين قيل له يا رسول الله أخبرنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال عليه الصلاة والسلام: لبنة من فضة ولبنة من ذهب، وبلاطها المسك الأذفر، وحصاها الياقوت واللؤلؤ، وترابها الورس والزعفران، من دخلها يخلد

ولا يموت وينعم ولا يبأس، ولا يخلق ثيابهم ولا يبلى شبابهم». فهذا دليل على كونهما مخلوقتين، وأن نعيم الجنة دائم لا يفنى، كما قال الله تعالى: {أكلها دائم وظلها} [الرعد: 35]، وقال -عز وجل-: {لا مقطوعة ولا ممنوعة} [الواقعة: 33]. ومن نعيمها الحور العين خلقهن الله تعالى في الجنة للبقاء، لا يفنين ولا يمتن كما قال الله -عز وجل-: {فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن أنس قبلهم ولا جان} [الرحمن: 56]، وقوله تبارك وتعالى: {حور مقصورات في الخيام} [الرحمن: 72]. وروت أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن قول الله -عز وجل-: {كأمثال اللؤلؤ المكنون} [الواقعة: 23]. قال: صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف ... إلى أن قال: يقلن نحن الخالدات فلا نموت أبدًا، ونحن الناعمات فلا نبأس أبدًا، ونحن المقيمات فلا نظعن أبدًا، ونحن الراضيات فلا نسخط أبدًا، وهن في دار حق ولا يقلن إلا حقًا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- صادق لا يقول إلا حقًا فقد أخبر أنهن خالدات لا يمتن أبدًا. وروى معاذ بن جبل -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو عندك دخيل يوشك إن يفارقك إلينا». فإذا ثبت أنهما لا يفنيان وما فيهما أبدًا فلا يخرج الله تعالى من الجنة أحدًا، ولا يسلط على أهلها الموت فيها، ولا يزول عنهم نعيمها فهم في كل يوم في مزيد نعيم أبد الآباد. وتمام نعيمهم أن الله -عز وجل- يأمر بالموت فيذبح على صورة كبش أملح بين الجنة والنار، وينادي المنادي: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت، على ما ورد به الخبر الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.

فصل في عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته

(فصل) ويعتقد أهل الإسلام قاطبة أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم رسول الله، وسيد المرسلين وخاتم النبيين -عليهم السلام-، وأنه مبعوث إلى الناس كافة وإلى الجن عامة. كما قال الله -عز وجل-: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} [سبأ: 28]، وقال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-: «إن الله فضلني على الأنبياء بأربع: أرسلني إلى الناس كافة ...» وذكر الحديث. وأنه -صلى الله عليه وسلم- أعطى من المعجزات ما أعطى غيره من الأنبياء وزيادة، وقد عدها بعض أهل العلم ألف معجزة. منها القرآن المنظوم على وجه مخصوص مفارق لجميع أوزان كلام العرب ونظمه وترتيبه وبلاغته وفصاحته على وجه جاوز فصاحة كل فصيح، وبلاغة كل بليغ، وعجزت العرب أن تأتي بمثله، ولا بسورة منه كما قال الله تعالى: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} [هود: 13] فلم يأتوا، ثم قال تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} [البقرة: 23] فعجزوا عن ذلك مع براعتهم وفصاحتهم على أهل زمانهم، وانقطعوا فظهر فضله عليهم، فلذلك صار القرآن معجزة له -صلى الله عليه وسلم-، كالعصا في حق موسى -عليه السلام- لأن موسى بعث في زمن السحرة الحذاق في صنعتهم، فتلقفت عصا موسى -عليه السلام- ما سحروا به أعين الناس وخيلوه إليهم: {فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين * وألقي السحرة ساجدين} [الأعراف: 119 - 120]. وكإحياء عيسى -عليه السلام- الموتى، وإبراءه الأكمه والأبرص لأنه -عليه السلام- بعث في زمن الناس فيه أطباء حذاق، يوقفون الأعلال والأسقام التي لا تبرأ ببراعتهم في حذق الصنعة، فانقادوا إليه وأمنوا به لمجاوزته في الصنعة عليهم وبراعته في المعجزة فيما تعاطوه منه. ففصاحة القرآن وإعجازه معجزة للنبي -صلى الله عليه وسلم- كالعصا وإحياء الموتى في حق موسى وعيسى عليهما السلام. ومن معجزاته عليه الصلاة والسلام نبع الماء من بين أصابعه وإطعام الزاد القليل

فصل في فضل الأمة المحمدية على سائر الأمم وبيان الأفضل من هذه الأمة رجالا ونساء

للخلق الكثير، وكلام الذراع المسموم، وقوله: لا تأكل مني فإني مسموم، وانشقاق القمر، وحنين الجذع، وكلام البعير، ومجيء الشجرة إليه، وغير ذلك مما يبلغ ألف معجزة على ما ذكروا. وإنما لم يأت النبي -صلى الله عليه وسلم- بمثل عصا موسى ويده البيضاء، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص ومثل ناقة صالح، والمعجزات التي كانت للأنبياء لأمرين اثنين. أحدهما: لئلا يكذب بها أمته فيهلكوا كما هلكت الأمم قبلهم، كما قال الله تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون} [الإسراء: 59]. والثاني: لو جاء بمثل ما جاء به الأولون لقالوا له ما جئت بغريب وقد تعلمت من موسى وعيسى، فأنت من أتباعهم لا نؤمن لك حتى تأتينا بما لم يأت به الأولون. ولهذا لم يؤت الله سبحانه نبيًا من أنبيائه معجزة غيره، بل خص كل نبي بمعجزة غير معجزة من كان قبله. (فصل) ويعتقد أهل السنة أن أمة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- خير الأمم أجمعين، وأفضلهم أهل القرن الذين شاهدوه وآمنوا به وصدقوه وبايعوه وتابعوه وقاتلوا بين يديه ومدوه بأنفسهم وأموالهم وعزروه ونصروه. وأفضل أهل القرون أهل الحديبية الذين بايعوه بيعة الرضوان وهم ألف وأربعمائة رجل. وأفضلهم أهل بدر وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا عدد أصحاب طالوت. وأفضلهم الأربعون أهل دار الخيزران الذين كملوا بعمر بن الخطاب. وأفضلهم العشرة الذين شهد لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد وأبو عبيدة بن الجراح. وأفضل هؤلاء العشرة الأبرار الخلفاء الراشدون الأربعة الأخيار.

وأفضل الأربعة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي -رضي الله تعالى عنهم-. ولهؤلاء الأربعة الخلافة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثون سنة ولي منها أبو بكر -رضي الله عنه- سنتين وشيئًا، وعمر -رضي الله عنه- عشرًا، وعثمان -رضي الله عنه- اثنتي عشرة، وعلي -رضي الله عنه- تسعًا، ثم وليها معاوية تسعة عشرة سنة، وكان قبل ذلك ولاه عمر الإمارة على أهل الشام عشرين سنة. وخلافة الأئمة الأربعة كانت باختيار الصحابة واتفاقهم ورضاهم، ولفضل كل واحد منهم في عصره وزمانه على من سواه من الصحابة ولم تكن بالسيف والقهر والغلبة والأخذ ممن هو أفضل منه. وأما خلافة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فباتفاق المهاجرين والأنصار كانت. وذلك أنه لما توفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قامت خطباء الأنصار فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فقام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أبا بكر أن يؤم الناس؟ فقالوا: بلى، قال: فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ قالوا: معاذ الله أن نتقدم أبا بكر. وفي لفظ آخر قال عمر رضي الله تعالى عنه: فأيكم تطيب نفسه أن يزيله عن مقام أقامه فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالوا كلهم: كلنا لا تطيب أنفسنا، نستغفر الله، فاتفقوا مع المهاجرين فبايعوه بأجمعهم، وفيهم علي والزبير. ولهذا في النقل الصحيح: «لما بويع أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قام ثلاثًا يقبل على الناس يقول: يا أيها الناس أقلتكم بيعتي هل من كاره؟ فيقوم علي -رضي الله عنه- في أوائل الناس فيقول: لا نقيلك ولا نستقيلك أبدًا، قدمك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمن يؤخرك». وبلغنا عن الثقات أن عليًا -رضي الله عنه- كان أشد الصحابة قولًا في إمامة أبي بكر -رضي الله عنه-. وروي أن عبد الله بن الكراء دخل على علي بعد قتال الجمل وسأله: هل عهد إليك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الأمر شيئًا؟ فقال: نظرنا في أمرنا فإذا الصلاة عضد الإسلام

فرضينا لدنيانا من رضى الله ورسوله لديننا، فولينا الأمر أبا بكر. وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استخلف أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- في إمامة الصلاة المفروضة أيام مرضه، فكان يأتيه بلال وقت كل صلاة فيؤذنه بالصلاة، فيقول -عليه الصلاة والسلام-: «مروا أبا بكر فليصل بالناس». وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتكلم في شأن أبي بكر -رضي الله عنه- في حال حياته بما يتبين للصحابة أنه أحق الناس بالخلافة بعده. وكذلك في حق عمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- أن كل واحد منهم أحق بالأمر في عصره وزمانه. من ذلك ما روي عن ابن بطة بإسناده عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: «قيل يا رسول الله من نؤمِّر بعدك؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أمينًا زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة، وإن تؤمروا عمر تجدوه قويًا أمينًا لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمروا عثمان تجدوه قائمًا بالدليل والبرهان، وإن تولوا عليًا تجدوه هاديًا مهديًا، فلذلك أجمعوا على خلافة أبي بكر -رضي الله عنه-». وقد روي عن إمامنا أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -رحمه الله- رواية أخرى: إن خلافة أبي بكر -رضي الله عنه- ثبتت بالنص الخفي والإشارة، وهذا مذهب الحسن البصري وجماعة من أصحاب الحديث -رحمهم الله-. وجه هذه الرواية ما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لما عرج بي إلى السماء سألت ربي -عز وجل- أن يجعل الخليفة من بعدي علي بن أبي طالب، فقالت الملائكة: يا محمد إن الله يفعل ما يشاء! الخليفة من بعدك أبو بكر». وقال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: «الذي بعدي أبو بكر لا يلبث بعدي إلا قليلًا». وعن مجاهد -رحمه الله- قال: قال لي علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من دار الدنيا حتى عهد إلى أن أبا بكر يلي من بعدي، ثم عمر من بعده، ثم

عثمان من بعده ثم علي من بعده. وأما خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فإنها كانت باستخلاف أبي بكر له -رضي الله عنه-، فانقادت الصحابة إلى بيعته وسموه أمير المؤمنين، فقال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: قالوا لأبي بكر -رضي الله عنه-: ما تقول لربك غدًا إذا لقيته وقد استخلفت علينا عمر وقد عرفت فظاظته؟ فقال: أقول استخلفت عليهم خير أهلك. وأما خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، فكانت أيضًا عن اتفاق الصحابة -رضي الله عنهم-، وذلك أن عمر -رضي الله عنه- أخرج أولاده عن الخلافة، وجعلها شورى بين ستة نفر، وهم طلحة، الزبير، سعد بن أبي وقاص، عثمان، علي، وعبد الرحمن ابن عوف، فأخرج طلحة، والزبير، وسعد أنفسهم منها، فبقيت بين علي، عثمان، وعبد الرحمن. فقال عبد الرحمن لعلي وعثمان: أنا أختار أحدكما لله ورسوله وللمؤمنين، فأخذ بيد علي -رضي الله عنه- فقال: عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله إن أنا بايعتك لتنصحن لله ولرسوله وللمؤمنين، ولتسيرن بسيرة رسول الله وأبي بكر وعمر، فخاف علي ألا يقوى على ما قووا عليه فلم يجبه. ثم أخذ بيد عثمان فقال له مثل ما قال لعلي، فأجابه عثمان على ذلك، فمسح يد عثمان فبايعه، وبايع علي -رضي الله عنه- معه، ثم بايع الناس أجمع. فصار عثمان بن عفان خليفة من بين الستة باتفاق الكل. فكان إمامًا حقًا إلى أن مات، ولم يوجد فيه أمر يوجب الطعن فيه ولا فسقه ولا قتله، خلاف ما قالت الروافض تبًا لهم. وأما خلافة علي -رضي الله عنه- بعد عثمان فكانت عن اتفاق الجماعة وإجماع الصحابة، لما روي عن عبد الله بن بطة عن محمد بن الحنفية قال: كنت مع علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان محصورًا، فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة. قال فقام علي -رضي الله عنه- فأخذت بوسطه تخوفًا عليه. فقال: خل لا أم لك، قال فأتى على الدار وقد قتل عثمان -رضي الله عنه- فأتى داره فدخلها وأغلق بابه.

فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه فقالوا: إن عثمان قد قتل ولابد للناس من خليفة، ولا نعلم أحدًا أحق بها منك. فقال لهم علي: لا تريدوني فإني لكم وزير خير من أمير، قالوا: والله لا نعلم أحدًا أحق بها منك، قال -رضي الله عنه-: فإن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سرًا، ولكن أخرج إلى المسجد، فمن شاء أن يبايعني بايعني. قال: فخرج -رضي الله عنه- إلى المسجد فبايعه الناس، فكان إمامًا حقًا إلى أن قتل -رضي الله عنه-، خلاف ما قالت الخوارج إنه لم يكن إمامًا قط. تبًا لهم إلى آخر الدهر. وأما قتاله -رضي الله عنه- لطلحة والزبير وعائشة ومعاوية -رضي الله عنهم- فقد نص الإمام أحمد -رحمه الله- على الإمساك عن ذلك، وجميع ما شجر بينهم من منازعة ومنافرة وخصومة. لأن الله تعالى يزيل ذلك من بينهم يوم القيامة، كما قال -عز وجل-: {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانًا على سرر متقابلين} [الحجر: 47]. ولأن عليًا -رضي الله عنه- كان على الحق في قتالهم. لأنه كان يعتقد صحة إمامته على ما بينا من اتفاق أهل الحل والعقد من الصحابة على إمامته وخلافته، فمن خرج عن ذلك بعد وناصبه حربًا كان باغيًا خارجًا على الإمام فجاز قتاله، ومن قاتله من معاوية وطلحة والزبير طلبوا ثأر عثمان بن عفان خليفة الحق المقتول ظلمًا، والذين قتلوه كانوا في عسكر علي -رضي الله عنه-، فكل ذهب إلى تأويل صحيح، فأحسن أحوالنا الإمساك في ذلك، وردهم إلى الله -عز وجل- وهو أحكم الحاكمين وخير الفاصلين، والاشتغال بعيوب أنفسنا وتطهير قلوبنا من أمهات الذنوب وظواهرنا من موبقات الأمور. وأما خلافة معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- فثابتة صحيحة بعد موت علي -رضي الله عنه- وبعد خلع الحسن بن علي -رضي الله عنهما- نفسه من الخلافة وتسليمها إلى معاوية لرأي رآه الحسن ومصلحة عامة تحققت له، وهي حقن دماء المسلمين وتحقيق قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحسن -رضي الله عنه-: «إن ابني هذا سيد يصلح الله تعالى به بين فئتين عظيمتين».

فوجبت إمامته بعقد الحسن له، فسمى عامه عام الجماعة، لارتفاع الخلاف بين الجميع واتباع الكل لمعاوية -رضي الله عنه-، لأنه لم يكن هناك منازع ثالث في الخلافة. وخلافته مذكورة في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو ما روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «تدور رحى الإسلام خمسًا وثلاثين سنة أو ستًا وثلاثين أو سبعًا وثلاثين». والمراد بالرحى، في هذا الحديث القوة في الدين والخمس السنين الفاضلة من الثلاثين فهي من جملة خلافة معاوية إلى تمام تسع عشرة سنة وشهور، لأن الثلاثين كملت بعلي -رضي الله عنه- كما بينا. ونحسن الظن بنساء النبي -صلى الله عليه وسلم- أجمعين، ونعتقد أنهن أمهات المؤمنين. وأن عائشة -رضي الله عنها- أفضل نساء العالمين وبرأها الله تعالى من قول الملحدين فيها بما يقرأ ويتلى إلى يوم الدين. وكذلك فاطمة بنت نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- -ورضي الله تعالى عنها وعن بعلها وأولادها- أفضل نساء العالمين، ويجب موالاتها ومحبستها كما يجب ذلك في حق أبيها -صلى الله عليه وسلم- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فاطمة بضعة مني، يريبني ما يريبها». فهذا القرن هم الذين ذكرهم الله -عز وجل- في كتابه وأثنى عليهم، فهم المهاجرون الأولون والأنصاء الذين صلوا إلى القبلتين. قال الله تعالى فيهم: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلًا وعد الله الحسنى} [الحديد: 10]. وقال -جل وعلا-: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا} [النور: 55]. وقال تعالى: {والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعًا سجدًا ...} إلى قوله {يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار} [الفتح: 29]. وروى جعفر بن محمد عن أبيه في قوله -عز وجل-: {محمد رسول الله والذين معه} في العسر واليسر في الغار والعريش أبو بكر {أشداء على الكفار} عمر بن الخطاب

{رحماء بينهم} عثمان بن عفان {تراهم ركعًا سجدًا} علي بن أبي طالب {يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا} طلحة والزبير حواريا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- {سيماهم في وجوههم من اثر السجود} سعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح هؤلاء العشرة {ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه} يعني محمدًا -صلى الله عليه وسلم- {فآزره} بأبي بكر {فاستغلظ} بعمر {فاستوى على سوقه} بعثمان بن عفان {يعجب الزراع} بعلي بن أبي طالب {ليغيظ بهم} بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه {الكفار}. واتفق أهل السنة على وجوب الكف عما شجر بينهم، والإمساك عن مساوئهم، وإظهار فضائلهم ومحاسنهم، وتسليم أمرهم إلى الله -عز وجل- على ما كان وجرى من اختلاف علي وطلحة والزبير وعائشة ومعاوية -رضي الله عنهم- على ما قدمنا بيانه، وإعطائه كل ذي فضل فضله، كما قال الله -عز وجل-: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلًا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} [الحشر: 10]. وقال تعالى: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} [البقرة: 134]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا». وفي لفظ آخر: «إياكم وما شجر بين أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه». وقال -صلى الله عليه وسلم-: «طوبي لمن رآني ومن رأى من رآني». وقال -صلى الله عليه وسلم-: «لا تسبوا أصحابي فمن سبهم فعليه لعنة الله». وقال -صلى الله عليه وسلم- في رواية أنس: «إن الله -عز وجل- اختارني واختار لي أصحابي، فجعلهم أنصاري، وجعلهم أصهاري، وأنه سيجيء في آخر الزمان قوم ينقصونهم، ألا فلا تواكلوهم، ألا فلا تشاربوهم، ألا فلا تناكحوهم، ألا فلا تصلوا معهم، ألا فلا تصلوا

عليهم، عليهم حلت اللعنة». وروى جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة». وروى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اطلع الله على أهل بدر فقال يا أهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». وروى ابن عمر -رضي الله عنهما- قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنما أصحابي مثل النجوم، فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم». وعن ابن بريدة عن أبيه -رضي الله عنه- قال إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من مات من أصحابي بأرض جعل شفيعًا لأهل تلك الأرض». وقال سفيان بن عيينة -رحمه الله-: من نطق في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكلمة فهو صاحب هوى. وأهل السنة أجمعوا على السمع والطاعة لائمة المسلمين وابتاعهم، والصلاة خلف كل بر منهم وفاجر، والعادل منهم والجائر، ومن ولوه ونصبوه واستنابوه، وألا ينزلوا أحدًا من أهل القبلة بجنة ولا نار، مطيعًا كان أو عاصيًا، رشيدًا كان أو غاويًا أو عاتيًا إلا أن يطلع منه على بدعة وضلالة. وأجمعوا على تسليم المعجزات للأنبياء، والكرامات للأولياء. وأن الغلاء والرخص من قبل الله، لا من أحد من خلقه من السلاطين والملوك، ولا من الكواكب كما زعمت القدرية والمنجمون. لما روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الغلاء والرخص جندان من جنود الله، اسم أحدهما الرغبة، والآخر الرهبة. فإذا أراد الله أن يغليه قذف الرغبة في قلوب التجار فحبسوه.

وإذا أراد أن يرخص قذف الرهبة في صدور التجار فأخرجوه من أيديهم». والأولى للعاقل المؤمن الكيس أن يتبع ولا يبتدع، ولا يغالي ويعمق وتكلف لئلا يضل ويزل فيهلك. قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. وقال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: إياك ومغمضات الأمور، وأن تقول للشيء ما هذا، فقال مجاهد -رحمه الله- حين بلغه هذا عن معاذ: قد كنا نقول للشيء ما هذا؟ فأما الآن فلا. فعلى المؤمن اتباع السنة والجماعة، فالسنة ما سنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والجماعة ما اتفق عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خلافة الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين المهديين -رحمة الله عليهم أجمعين-. وألا يكاثر أهل البدع ولا يدانيهم، ولا يسلم عليهم، لأن إمامنا أحمد بن حنبل -رحمه الله- قال: من سلم على صاحب بدعة فقد أحبه. ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «افشوا السلام بينكم تحابوا». ولا يجالسهم ولا يقرب منهم ولا يهنيهم في الأعياد وأوقات السرور، ولا يصلي عليهم إذا ماتوا، ولا يترحم عليهم إذا ذكروا بل يباينهم ويعاديهم في الله -عز وجل-، معتقدًا ومحتسبًا بذلك الثواب الجزيل والأجر الكثير. وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من نظر إلى صاحب بدعة بغضًا له في الله ملأ الله قلبه أمنًا وإيمانًا، ومن انتهر صاحب بدعة بغضًا له في الله أمنه الله يوم القيامة، ومن استحقر بصاحب بدعة رفعه الله تعالى في الجنة مائة درجة، ومن لقيه بالبشر أو بما يسره فقد استخف بما أنزل الله تعالى على محمد -صلى الله عليه وسلم-». وعن أبي المغيرة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أبى الله -عز وجل- أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته».

فصل لأهل البدع علامات يعرفون بها

وقال فضيل بن عياض: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإيمان من قلبه. وإذا علم الله -عز وجل- من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت الله تعالى أن يغفر ذنوبه وإن قل عمله، وإذا رأيت مبتدعًا في طريق فخذ طريقًا آخر. وقال فضيل بن عياض -رحمه الله-: سمعت سفيان بن عيينة -رحمه الله- يقول: من تبع جنازة مبتدع لم يزل في سخط الله تعالى حتى يرجع. وقد لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- المبتدع، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «من أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل منه صرفًا ولا عدلًا». يعني بالصرف: الفريضة، وبالعدل: النافلة. وعن أبي أيوب السجستاني -رحمه الله- أنه قال: إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: دعنا من هذا وحدثنا بما في القرآن، فاعلم أنه ضال. (فصل) واعلم أن لأهل البدع علامات يعرفون بها. فعلامة أهل البدعة الوقيعة في أهل الأثر. وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل الأثر: بالحشوية، ويريدون إبطال الآثار. وعلامة القدرية تسميتهم أهل الأثر: مجبرة. وعلامة الجهمية تسميتهم أهل السنة: مشبهة. وعلامة الرافضة تسميتهم أهل الأثر: ناصبة. وكل ذلك عصبية وغياظ لأهل السنة، ولا اسم لهم إلا اسم واحد: وهو «أصحاب الحديث». ولا يلتصق بهم ما لقبهم به أهل البدع، كما لم يلتصق بالنبي -صلى الله عليه وسلم- تسمية كفار مكة له ساحرًا وشاعرًا ومجنونًا ومفتونًا وكاهنًا، ولم يكن اسمه عند الله وعند ملائكته وعند إنسه وجنه وسائر خلقه إلا رسولًا نبيًا بريًا من العاهات كلها. قال الله تعال: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلًا} [الإسراء: 48].

هذا آخر ما ألفنا في باب معرفة الصانع والاعتقاد على مذهب أهل السنة والجماعة على وجه الاختصار والقدرة. * * * ثم نردف هذه الجملة بفصلين آخرين: لا يسع العاقل المؤمن جهلهما إذا أراد سلوك المحجة. أحد الفصلين: فيما لا يجوز إطلاقه على الباري -عز وجل- من الصفات، وأخلاق العباد والنقائض، وما يجوز من ذلك. والفصل الثاني: في بيان مقالة الفرق الضالة عن طريق الهدى الداحضة الحجة في يوم الدين والمحاسبة. * * *

فصل فيما لا يجوز إطلاقه على الباري من الصفات ويستحيل إضافته إليه

أما الفصل الأول: فبما لا يجوز إطلاقه على الباري -عز وجل- من الصفات ويستحيل إضافته إليه من الأخلاق، وما يجوز من ذلك لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بالجهل والشك والظن وغلبة الظن والسهو والنسيان والسنة والنوم والغلبة والغفلة والعجز والموت والخرس والصمم والعمى والشهوة والنفور والميل والحرد والغيظ والحزن والتأسف والكمد والحسرة والتلهف والألم واللذة والنفع والمضرة والتمني والعزم والكذب، ولا يجوز أن يسمى إيمانًا خلاف ما قالت السالمية، وتعلقهم بقوله -عز وجل-: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} [المائدة: 5] محمول على أنه من يكفر بوجوب الإيمان، كان كمن كفر بالرسول، وما جاء به -صلى الله عليه وسلم- من الله -عز وجل- من الأوامر والنواهي. ولا يجوز أن يوصف -عز وجل- بأنه مطيع ولا محبل لنساء العالم. ولا يجوز عليه الحد ولا النهاية، ولا القبل ولا البعد، ولا تحت ولا قدام، ولا خلف ولا كيف، لأن جميع ذلك ما ورد به الشرع إلا ما ذكرناه من أنه على العرش استوى، على ما ورد به القرآن والأخبار، بل هو -عز وجل- خالق لجميع الجهات ولا يجوز عليه الكمية. واختلف في جواز إطلاق تسميته بالشخص، فمن جوز ذلك فلقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-: (لا شخص أغير من الله، ولا شخص أحب إليه المعاذير من الله). ومن منع ذلك فلأن لفظ الخير ليس بصريح في الشخص لاحتماله أن يكون معناه: لا أحد أغير من الله. وقد ورد في بعض الألفاظ: (لا أحد أغير من الله). ولا يجوز أن يسمى فاضلاً وعتيقًا وفقيهًا ولا فهيمًا ولا فطنًا ولا محققًا وعاقلًا وموقرًا ولا طيبًا، وقيل يجوز.

ولا عاديًا، لأن ذلك منسوب إلى زمن عاد وهو محدث، ولا مطيقًا لأنه خالق كل طاقة وهي متناهية، ولا محفوظًا لأنه هو الحافظ. ولا يجوز وصفه بالمباشرة، ولا يجوز وصفه بأنه مكتسب، لأن ذلك محدث بقدرة محدثة، والله تعالى منزه عن ذلك. ولا يجوز عليه العدم وهو قديم لا بقدم، ولا أول لوجوده خلاف ما قال ابن كلاب من أنه قديم بقدم، وهو باق لا ببقاء، وهو -عز وجل- عالم بمعلومات غير متناهية، قادر بمقدورات غير متناهية خلاف ما أذاعت المعتزلة من أن كل ذلك متناه. وأما الصفات التي يجوز وصفه -عز وجل- بها: فالفرح والضحك والغضب والسخط والرضا، وقد قدمنا ذلك في أول الباب. ويجوز وصفه -عز وجل- بأنه موجود لقوله -عز وجل-: {ووجد الله عنده} [النور: 39]. ويجوز وصفه بأنه شيء لقوله تعالى: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله} [الأنعام: 19]. ويجوز أن يوصف بأنه: نفس وذات وعين من غير تشبيه بجارحة الإنسان على ما تقدم بيانه. ويجوز وصفه بأنه كائن من غير حد لقوله تعالى: {وكان الله بكل شيء عليمًا} [الأحزاب: 40، الفتح: 26]. {وكان الله على كل شيء رقيبًا} [الأحزاب: 52]. ويجوز وصفه بأنه قديم وباق، وبأنه مستطيع، لأن معنى الاستطاعة القدرة، وهو موصوف بالقدرة. ويجوز وصفه بأنه سيد، ويجوز وصفه بأنه عارف ومتين وواثق ودري ودار. لأن جميع ذلك راجع إلى معنى العالم، ولم يرد الشرع بمنع ذلك ولا اللغة، بل قال الشاعر: اللهم لا أدري ... وأنت الداري ويجوز وصفه بأنه راء ويرجع إلى معنى العالم، ويجوز وصفه بأنه مطلع على خلقه وعباده بمعنى عالم بهم، وكذلك واجد بمعنى عالم. ويجوز وصفه بأنه جميل ومجمل، يعني في الصنع إلى خلقه.

ويجوز وصفه بأنه ديان، على معنى أن مجاز لعباده على أفعالهم. الدين: الحساب، «كما تدين تدان» {مالك يوم الدين} [الفاتحة: 4] أي يوم الحساب، وعلى معنى الشارع لعباده عبادة وشريعة دعاهم إليها، وفرض ذلك عليهم ثم هو يجازيهم على ما فعلوا فيها. ويجوز وصفه بأنه مقدر على معنى التقدير: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 49]، {الذي قدر فهدى} [الأعلى: 3]. وعلى معنى الخبر قال تعالى: {إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين} [الحجر: 60]، أي أخبرنا لوطًا -عليه السلام- أن امرأته من الباقين في العذاب من دون أهله، ولا يجوز أن يكون معناه الظن والشك -تعالى الله عن ذلك-. ويجوز وصفه بأنه ناظر على معنى أنه راء مدرك للأشياء، لا على معنى أنه مترو مفكر، تعالى عن ذلك. ويجوز وصفه أنه شفيق على معنى الرحمة بخلقه والرأفة بهم، لا على معنى الخوف والحزن. وكذلك يجوز وصفه بأنه رفيق على معنى الرحمة والتعطف بخلقه لا على معنى التثبيت في الأمور والإجمال في إصلاحها والسلامة من عواقبها. ويجوز وصفه بأنه سخي كما يجوز وصفه بأنه كريم وجواد لأن معنى الكل التفضل والإحسان إلى خلقه. ولا يقصد بذلك الرخاوة واللين على ما هو في اللغة مستعمل في أرض سخية وقرطاس سخي إذا كانا لينين. ويجوز وصفه بأنه أمر وناه، ومبيح وحاضر، ومحلل ومحرم، وفارض وملهم، وموجب ونادب، ومرشد وقاض، وحاكم على ما ذكرناه. وكذلك يجوز وصفه بأنه واعد ومتوعد، ومخوف ومحذر، وذام ومادح، ومخاطب ومتكلم، وقائل كل ذلك راجع إلى معنى أنه موصوف بالكلام. ويجوز وصفه بأنه معدم على معنى أنه لم يوجد ولم يفعل، وعلى معنى أنه معدم

لما أوجده بعد إيجاده بقطع البقاء عنه فينعدم بذلك. ويجوز وصفه بأنه فاعل بمعنى أنه مخترع لذات ما فعله، وخالق له، وجاعل بقدرته، فاستحق لذلك هذا الوصف، لا على معنى المباشرة للأشياء لأن حقيقة ذلك تلاقي الأجسام ومماستها، والله سبحانه متعال عن ذلك. وكذلك يجوز وصفه بأنه جاعل على معنى أنه فاعل وفعله مفعول، كقوله تعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين} [الإسراء: 12]. ويجوز أن يكون الجعل بمعنى الحكم، قال -عز وجل-: {إنا جعلناه قرآنًا عربيًا} [الزخرف: 3]. ويجوز وصفه بأنه تارك في الحقيقة كما وصف بأنه فاعل، على معنى أنه فاعل ضد فعله الآخر بدلًا من الأول بقدرته العامة الشاملة، لا على معنى كف النفس ومنعها عما يدعو إلى فعله. ويجوز وصفه بأنه يوجد على معنى أنه يخلق؟ وكذلك يجوز وصفه بأنه مكون على معنى أنه موجد. ويجوز وصفه بأنه مثبت على معنى أنه يوجد في الشيء البقاء والثبا، كما قال -عز وجل-: {يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت} [إبراهيم: 27]، وقوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} [الرعد: 39]. ويجوز وصفه بأنه عامل وصانع بمعنى خالق. ويجوز وصفه بأنه مصيب، على معنى أن أفعاله واقعة على ما قصده وأراده من غير تفاوت وتزايد وتناقص، لأنه تعالى عالم بها وبحقائقها وكيفياتها، لا على معنى أن ذلك موافق لأمر آمر أمره بفعلها، تعالى عن ذلك. ويجوز إطلاق هذه الصفة على عبد من عبيده فيقال له إنه مصيب، بمعنى أنه مطيع لربه، متبع لأمره، منته لنهيه، وكذلك إذا كان مطيعًا لمن هو فوقه ورئيسه. ويجوز وصف أفعاله -عز وجل- بأنه صواب على معنى أنها حق وثابت. ويجوز وصفه بأنه مثيب ومنعم، على معنى أنه يجعل المثاب منعمًا معظمًا. وكذلك يجوز وصفه بأنه معاقب ومجاز، على معنى أنه يهين العاصي ويؤلمه على معصيته.

ويجوز وصفه بأنه قديم الإحسان على معنى أنه موصوف بالخلق والرزق في القدم، قال الله -عز وجل-: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} [الأنبياء: 101]. ويجوز وصفه بأنه دليل، وقد نص الإمام أحمد عليه في حق رجل قال له: زودني دعوة فإني أريد الخروج إلى طرطوس، فقال له: قل يا دليل الحائرين، دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين. ويجوز وصفه بأنه طبيب لما روي عن أبي رمثة التميمي أنه قال: «كنت مع أبي عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فرأيت على كتف النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل التفاحة. قال: فقال أبي: يا رسول الله إني طبيب أفأطبها لك، قال -صلى الله عليه وسلم- طبيبها الذي خلقها». وروى عن أبي السفر أنه قال: مرض أبو بكر -رضي الله عنه- فعادوه فقالوا له: ألا ندعو لك الطبيب؟ فقال قد رآني، قالوا: فأي شيء قال لك؟ قال: قال لي إني فعال لما أريد. وكذلك يروى أن أبا الدرداء -رضي الله عنه- مرض، فعادوه، فقالوا له: أي شيء تشتكي؟ قال: ذنوبي، فقالوا: أي شيء تشتهي؟ قال: الجنة، قالوا: ألا ندعو لك الطبيب؟ قال: هو أمرضني. فإذا ثبت هذا على ما ذكرنا فلا يجوز أن يدعا -عز وجل- بكل اسم لا يجوز إطلاقه عليه -عز وجل-، على ما ذكرنا في أول الفصل. وإنما يجوز أن يدعا بما يسمى به من الأسماء التي يجوز وصفه بها، وصفاته التي يجوز أن يوصف بها، وقد ذكرنا التسعة والتسعين اسمًا فيما تقدم، فهي آكد في الدعاء. وإذا أراد أن يصفه ويدعو بما ذكرنا في هذا الفصل جاز ذلك، إلا أنه يجتنب في دعائه من أن يدعوه -عز وجل- بقوله يا ساخر يا مستهزئ يا ماكر يا خادع، ومبغض وغضبان، ومنتقم ومعاد، ومعدم ومهلك، فلا يدعو بها وإن كان مما يجوز وصفه بها على وجه الجزاء والمقابلة لأهل الإحرام على وجه الاستحقاق. * * *

فصل في بيان مقالة الفرق الضالة عن طريق الهدى

وأما الفصل الثاني: في بيان مقالة الفرق الضالة عن طريق الهدى فالأصل في ذلك ما روي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لتسلكن سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل، ولتأخذن مثل أخذهم إن شبرًا فشبرًا وإن ذراعًا فذراعًا وإن باعًا فباعًا، حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتم فيه معهم. ألا إن بني إسرائيل افترقت على موسى بإحدى وسبعين فرقة كلها ضالة، إلا فرقة واحدة: الإسلام وجماعتهم. ثم إنها افترقت على عيسى ابن مريم باثنين وسبعين فرقة كلها ضالة إلا واحدة: الإسلام وجماعتهم. ثم إنكم تكونون على ثلاث وسبعين فرقة كلها ضالة إلا فرقة واحدة: الإسلام وجماعتهم». وعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تفترق أمتي على ثلاثة وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي الذين يقيسون الأمور برأيهم يحرمون الحلال ويحللون الحرام». وعن عبد الله بن زيد عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. وستفترق أمتي على ثلاثة وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: وما تلك الواحدة؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي». وهذا الافتراق الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن في زمانه ولا في زمن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم-.

وإنما كان بعد تقادم السنين والأعوام، وفوت الصحابة والتابعين والفقهاء السبعة فقهاء المدينة، وعلماء الأمصار وفقهائها قرنًا بعد قرن، وقبض العلم بموتهم إلا شرذمة قليلة، وهم الفرقة الناجية فحفظ الله الدين بهم. كما روي عن عروة عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله تعالى لا ينزع العلم من صدور الرجال بعد أن يعطيهم، ولكن يذهب بالعلماء، فكلما ذهب بعالم ذهب معه من العلم حتى يبقى من لا يعلم، فَيَضِلون ويُضَلون». وفي لفظ آخر عن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسئلوا فافتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا». وعن كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن الدين ليأزر إلى الحجاز كما تأزر الحية إلى جحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل، إن الدين بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبي للغرباء. قيل: ومن الغرباء؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي بعدي». وعن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لا يأتي على الناس زمان إلا أماتوا فيه سنة وأحيوا فيه بدعة. وعن الحارث عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفتن فقلنا: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كتاب الله هو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تلتبس له الألسن، هو

فصل في أصل الفرق الثلاثة والسبعين

الذي لم تنته الجن إذا سمعته أن قالوا: {إنا سمعنا قرآنًا عجبًا} [الجن: 1] من قال به صدق، ومن حكم به عدل». وعن عبد الرحمن بن عمر العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: «صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون ووجلت بها القلوب ورمضت منها الجلود، فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًا، فإنه من يعش من بعدي يرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة». وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أيما داع دعا إلى الهدى فاتبع فله مثل أجر من اتبعه، لا ينقص من أجورهم شيء، وأيما داع دعا إلى الضلالة فاتبع فعليه مثل أوزار من اتبعه لا ينقص من أوزارهم شيء». (فصل) فأصل ثلاث وسبعين فرقة عشرة: أهل السنة، والخوارج، والشيعة، والمعتزلة، والمرجئة، والمشبهة، والجهمية، والضرارية، والنجارية، والكلابية. فأهل السنة طائفة واحدة، والخوارج خمس عشرة فرقة، والمعتزلة ست فرق، والمرجئة اثنتا عشرة فرقة، والشيعة اثنتان وثلاثون فرقة، والجهمية والنجارية والضرارية والكلابية كل واحدة فرقة واحدة، والمشبهة ثلاث فرق، فجميع ذلك ثلاث وسبعون فرقة على ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-. * أما الفرقة الناجية فهي أهل السنة والجماعة. وقد بينا مذهبهم واعتقادهم على ما قدمنا ذكره. وتسمى هذه الفرقة الناجية القدرية والمعتزلة: مجبرة لقولها إن جميع المخلوقات بمشيئة الله تعالى وقدرته وإرادته وخلقه.

وتسميها المرجئة شكاكية لاستثنائها في الإيمان، يقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، على ما قدمنا بيانه. وتسميها الرافضة ناصبة، لقولها باختيار الإمام ونصبه بالعقد. وتسميها الجهمية والنجارية مشبهة، لإتيانها صفات الباري -عز وجل- من العلم والقدرة والحياة وغيرها من الصفات. وتسميها الباطنية حشوية، لقولها بالأخبار وتعلقها بالآثار. وما اسمهم إلا أصحاب الحديث وأهل السنة، على ما بينا. * * * * وأما الخوارج فلهم أسام وألقاب: سموا الخوارج؛ لخروجهم على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. وسموا محكمة؛ لإنكارهم الحكمين أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، ولقولهم لا حكم إلا لله، لا حكم الحكمين. وسموا أيضًا حرورية؛ لأنهم نزلوا بحروراء، وهو موضع. وسموا شراة؛ لقولهم شرينا أنفسنا في الله: أي بعناها بثواب الله وبرضاه الجنة. وسموا مارقة؛ لمروقهم من الدين، وقد وصفهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، بأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه. فهم الذين مرقوا من الدين والإسلام، وفارقوا الملة وشردوا عنها وعن الجماعة، وضلوا عن سواء الهدى والسبيل وخرجوا على السلطان، وسلوا السيف على الأئمة، واستحلوا دماءهم وأموالهم، وكفروا من خالفهم، ويسبون أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصهاره، ويتبرؤون منهم ويرمونهم بالكفر والعظائم، ويرون خلافهم، ولا يؤمنون بعذاب القبر ولا الحوض ولا الشفاعة، ولا يخرجون أحدًا من النار، ويقولون: من كذب كذبة أو أتى صغيرة أو كبيرة من الذنوب فمات من غير توبة فهو كافر وفي النار مخلد. ولا يرون الجماعة إلا خلف إمامهم، ويرون تأخير الصلاة عن وقتها والصوم قبل رؤية الهلال، والفطر مثل ذلك، والنكاح بغير ولي. ويرون المتعة والدرهم بالدرهمين يدًا بيد حلالًا.

ولا يرون الصلاة في الخفاف ولا المسح عليها ولا طاعة السلطان ولا خلافة قريش. وأكثر ما يكون الخوارج بالجزيرة وعمان والموصل وحضرموت ونواحي المغرب. والذي وضع لهم الكتب وصنفها عبد الله بن زيد ومحمد بن حرب ويحيى بن كامل وسعيد بن هارون. فهم خمس عشرة فرقة: - منهم النجدات: نسبوا إلى نجدة بن عامر الحنفي، من اليمامة وتميم، وهم أصحاب عبد الله بن ناصر. ذهبوا إلى أن من كذب كذبة أو أتى صغيرة وأصر عليها فهو مشرك، وإن زنى وسرق وشرب الخمر من غير أن يصر عليها فهو مسلم، وأنه لا يحتاج إلى إمام إنما الواجب العلم بكتاب الله فحسب. - ومنهم الأزارقة: وهم أصحاب نافع بن الأزرق ذهبوا إلى أن كل كبيرة كفر وأن الدار دار كفر، وأن أبا موسى وعمرو بن العاص -رضي الله عنهما- كفرا بالله حين حكمهما علي -رضي الله عنه- بينه وبين معاوية -رضي الله عنه- في النظر في الأصلح للرعية. ويرون أيضًا قتل الأطفال، يعني أولاد المشركين، ويحرمون الرجم، ولا يحدون قاذف المحصن، ويحدون قاذف المحصنات. - ومنهم الفدكية: منسوبة إلى ابن فديك. - ومنهم العطوية: منسوبة إلى عطية بن الأسود. - ومنهم العجاردة: وهم فرق كثيرة. - ومنهم اليمونية: جميعًا. يجيزون بنات البنين وبنات البنات وبنات الإخوة وبنات الأخوات، ويقولون إن سورة يوسف ليست من القرآن. - ومنهم الخازمية: تفردت بأن الولاية والعداوة صفتان في ذاته تعالى. وتشعبت الخازمية من المعلومية، ذهبت إلى أن من لم يعلم الله بأسمائه فهو جاهل، ونفوا أن تكون الأفعال خلقًا لله تعالى، وأن تكون الاستطاعة مع الفعل.

ومن أصل الخمس عشرة: - المجهولية: وهي تقول أن من علم الله بعض أسمائه فهو عالم به غير جاهل. - ومنهم الصلتية: وهي منسوبة إلى عثمان بن الصلت، وادعت أن من استجاب لنا وأسلم وله طفل فليس له إسلام حتى يدرك، ويدعوه فإن أبى فيقتله. - ومنهم الأخنسية: منسوبة إلى رجل يقال له الأخنس، ذهبوا إلى أن السيد يأخذ من زكاة عبده ويعطيه من زكاته إذا احتاج وافتقر. - ومنهم الصفرية: والحفصيلة طائفة متشعبة منها، يزعمون أن من عرف الله وكفر بما سواه من رسول وجنة ونار، وفعل سائر الجنايات من قتل النفس، واستحلال الزنا فهو بريء من الشرك، وإنما يشرك من جهل الله وأنكره فحسب. ويزعمون أن الحيران الذي ذكره الله تعالى في القرآن هو على وحزبه وأصحابه، يدعونه إلى الهدى ائتنا، وهم أهل النهروان. - ومنهم الأباضية: زعموا أن جميع ما افترضه الله تعالى على خلقه إيمان، وأن كل كبيرة فهو كفر نعمة لا كفر شرك. - ومنهم البيهسية: منسوبة إلى أبي بيهس، تفردوا فزعموا أن الرجل لا يكون مسلمًا حتى يعلم جميع ما أحل الله له وحرم عليه بعينه ونفسه. ومن البيهسية من يقول: كل من واقع ذنبًا حرامًا عليه ليس يكفر حتى يرفع إلى السلطان فيحده عليه، فحينئذ يحكم بالكفر. - ومنهم الشمراخية: منسوبة إلى عبد الله بن الشمراخ زعم أن قتل الأبوين حلال. وكان حين ادعى ذلك في دار التقية، فتبرأت منه الخوارج بذلك. - ومنهم البدعية: قولها كقول الأزارقة، وتفردت بأن الصلاة ركعتان بالغداة وركعتان بالعشى، لقول الله -عز وجل-: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} [هود: 114]. واتفقت مع الأزارقة على جواز سبي النساء وقتل الأطفال من الكفار مغتالًا لقوله تعالى: {لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا} [نوح: 26]. واتفقت جميع الخوارج على كفر علي -رضي الله عنه- لأجل التحكيم، وعلى كفر مرتكب الكبيرة، إلا النجدات فإنها لم توافقهم على ذلك.

فصل في الشيعة

* (فصل) وأما الشيعة فلهم أسام منها: الشيعة والرافضة والغالية والطيارة. وإنما قيل لها الشيعة، لأنها شيعت عليًا -رضي الله عنه- وفضلوه على سائر الصحابة. وقيل لها الرافضة لرفضهم أكثر الصحابة وإمامة أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-. وقيل سموا الروافض لرفضهم زيد بن علي لما تولى أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- وقال بإمامتهما، وقال زيد: رفضوني، فسموا رافضة. وقيل إن الشيعي من لا يفضل عثمان على علي -رضي الله عنهما-، لأن الرافضي من فضل عليًا على عثمان -رضي الله عنهما-. ومنهم القطعية لقبوا به لقطعهم على موت موسى بن جعفر ومنهم الغالية سموا بذلك لغلوهم في علي -رضي الله عنه-، وقولهم فيه ما لا يليق به من صفات الربوبية والنبوة. والذين صنفوا كتبهم: هشام بن الحكم، وعلي بن منصور، وأبو الأحوص، والحسين بن سعيد والفضل بن شاذان وأبو عيسى الوراق وابن الراوندي والمنيجي. وأكثر ما يكونون في بلاد قم وقاشان وبلاد إدريس والكوفة. (فصل) فأما الرافضة، فهم ثلاثة أصناف: الغالية، والزيدية، والرافضة. أما الغالية فيتفرق منها اثنتا عشرة فرقة: منها البيانية والطيارية، والمنصورية، والمغيرية، والخطابية، والمعمرية، والبزيعية، والمفضلية، والمنتاسخة، والشريعية، والسبئية، والمفوضة. وأما الزيدية فتشعبت ست شعب: منها الجارودية، والسليمانية، والبترية، والنعيمية، واليعقوبية، والسادسة لا تنكر الرجعة ويتبرؤون من أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-. وأما الرافضة فتفرقت أربع عشرة فرقة: القطعية، الكيسانية، الكريبية، العميرية، المحمدية، الحسينية، الناوسية، الإسماعيلية، القرامطة، المباركية، الشميطية، العمارية، الممطورية، الموسوية، والإمامية. والذي اتفقت عليه طوائف الرافضة وفرقها، إثبات الإمامة عقلًا وأن الإمامة نص،

وأن الأئمة معصومون من الآفات من الغلط والسهو والخطأ. ومن ذلك إنكارهم إمامة المفضول والاختيار الذي قدمناه في ذكر الأئمة. ومن ذلك تفضيلهم عليًا -رضي الله عنه- على جميع الصحابة وتنصيصهم على إمامته بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتبرؤهم من أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وغيرهما من الصحابة إلا نفرًا منهم سوى ما حكى عن الزيدية، فإنهم خالفوهم في ذلك. ومن ذلك أيضًا ادعاؤهم أن الأمة ارتدت بتركهم إمامة علي -رضي الله عنه- إلا ستة نفر. وهم علي وعمار والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ورجلان آخران. ومن ذلك قولهم: إن للإمام أن يقول لست بإمام في حال التقية. وأن الله تعالى لا يعلم ما يكون قبل أن يكون، وإن الأموات يرجعون إلى الدنيا قبل يوم الحساب. إلا الغالية منهم، فإنها زعمت بأن لا حساب ولا حشر. ومن ذلك قولهم: أن الإمام يعلم كل شيء ما كان وما يكون من أمر الدنيا والدين حتى عدد الحصى وقطر الأمطار وورق الشجر، وأن الأئمة تظهر على أيديهم المعجزات كالأنبياء -عليهم السلام-. وقال الأكثرون منهم: إن من حارب عليًا -رضي الله عنه- فهو كافر بالله -عز وجل-، وأشياء ذكروها غير ذلك. وأما الذي انفردت به كل فرقة: فمنهم الغالية: وقد ادعت أن عليًا -رضي الله عنه- أفضل من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وادعت أنه ليس بمدفون في التراب كبقية الصحابة -رضي الله عنهم-، بل هو في السحاب يقاتل أعداءه تعالى من فوق السحاب، وأنه كرم الله وجهه يرجع في آخر الزمان يقتل مبغضيه وأعداءه، وأن عليًا وسائر الأئمة لم يموتوا، بل هم باقون إلى أن تقوم الساعة، ولا يجوز عليهم الموت. وادعت أيضًا أن عليًا -رضي الله عنه- نبي وأن جبريل -عليه السلام- غلط في نزول

الوحي عليه. وادعت أيضًا أن عليًا كان إلهًا -عليهم لعنة الله وملائكته وسائر خلقه إلى يوم الدين، وقلع آثارهم وأباد خضراءهم، ولا جعل منهم في الأرض ديارًا. لأنهم بالغوا في غلوهم ومردوا على الكفر، وتركوا الإسلام وفارقوا الإيمان، وجحدوا الإله والرسل والتنزيل، فنعوذ بالله ممن ذهب إلى هذه المقالة. ويتفرع عن الغالية: - البيانية: وهم ينسبون إلى بيان بن سمعان. ومن جملة فريتهم وأباطيلهم أن الله على صورة الإنسان. كذبوا على الله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، قال -عز وجل-: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11]. - وأما الطيارية: من الغالية، وهي منسوبة إلى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر الطيار يقولون بالتناسخ، وأن روح آدم -عليه السلام- روح الله نسخت فيه. والمتعمقون من الغالية القائلون بالتناسخ يزعمون أن الروح المنقولة إلى هذه الدار بعد أن خرجت من الدنيا بالموت أول ما تنسخ في حمل، ثم تنقل إلى ما دون هيكله أبدًا حالًا بعد حال، إلى أن تنقل إلى دود العذرة وما شاكل ذلك، وهو آخر ما ينسخ فيه. حتى قال بعضهم: إن أرواح العصاة تنسخ في الحديد والطين والفخار، وتكون معذبة بالنار والطبخ والضرب والسبك والابتذال والامتهان عقابًا على إجرامهم. - وأما المغيرية: فمنسوبة إلى مغيرة بن سعيد، ادعى النبوة، وزعم أن الله نور على صورة رجل، وادعى إحياء الموتى وغير ذلك. - وأما المنصورية: فمنسوبة إلى أبي منصور، كان يزعم أنه صعد إلى السماء، ومسح الرب رأسه، وزعم أن عيسى -عليه السلام- أول خلق الله، ثم علي -رضي الله عنه-، ورسل الله لا تنقطع، وأن لا جنة ولا نار، وتزعم هذه الطائفة أن من قتل أربعين نفسًا ممن خالفهم دخل الجنة، ويستحلون أموال الناس، وأن جبريل -عليه السلام- أخطأ بالرسالة، وهو الكفر الذي لا يشوبه شيء. - وأما الخطابية: فمنسوبة إلى أبي الخطاب، يزعمون أن الأئمة أنبياء أمناء، وفي كل وقت رسول ناطق وصامت فمحمد ناطق وعلي -رضي الله عنه- صامت.

- وأما المعمرية: فكذلك تقول، وانفردت عن الخطابية بالزيادة في ترك الصلاة. - وأما البزيعية: المنسوبة إلى بزيع، زعموا أن جعفرًا هو الله فلا يرى ولكن شبه هذه الصورة، تبًا لهم ما أعظم فريتهم وكذبهم وأباطيلهم، بل يحطون إلى أسفل السافلين، إلى الهاوية والدرك الأسفل من النار بمقالتهم السوء ودعواهم الزور. - وأما المفضلية: فمنسوبة إلى المفضل الصيرفي، ينتحلون الرسالة والنبوة، وقولهم في الأئمة كقول النصارى في المسيح. - وأما الشريعية: فمنسوبة إلى شريع، زعموا أن الله تعالى في خمسة أشخاص النبي وآله، يعني في النبي وآله وهم: العباس وعلي وجعفر وعقيل. - وأما السبئية: فمنسوبة إلى عبد الله بن سبأ، من دعواهم أن عليًا لم يمت، وأنه يرجع قبل يوم القيامة، والسيد الحميري منهم. - وأما المفوضية: فهم القائلون إن الله فوض تدبير الخلق إلى الأئمة، وإن الله تعالى قد أقدر النبي -صلى الله عليه وسلم- على خلق العالم وتدبيره، وإن كان ما خلق الله من ذلك شيئًا، وكذلك قالوا في حق علي -رضي الله عنه-، ومنهم من إذا رأى السحاب سلم عليه، يزعم أن عليًا -رضي الله عنه- فيه، على ما بينا من قبل. - وأما الزيدية: فإنما سموا بذلك لميلهم إلى قول زيد بن علي في تولية أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-. - وأما الجارودية: فمنسوبة إلى أبي الجارود، زعموا أن عليًا -رضي الله عنه- وصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الإمام. وقالوا إن النبي -صلى الله عليه وسلم- نص على علي -رضي الله عنه- بصفته لا باسمه، ويسوقون الإمامة إلى الحسين، ثم هي شورى بينهم فيمن خرج منهم. - وأما السليمانية: فمنسوبة إلى سليمان بن كثير، قال زرقان: زعموا أن عليًا كرم الله وجهه كان الإمام، وأن بيعة أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- خطأ، لا يستحقان اسم السبق، وأن الأمة تركت الأصلح. - وأما البترية: فمنسوبة إلى الأبتر وهو النواء، وكان يلقب به وزعموا أن بيعة أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- ليست بخطأ، لأن عليًا -رضي الله عنه- ترك الإمارة لهما، وهم واقفون في عثمان، ويقولون علي إمام حين بويع.

- وأما النعيمية: فمنسوبة إلى نعيم بن اليمان، وهي تقول بقول الأبترية، إلا أنها تبرأت من عثمان -رضي الله عنه- وكفرت به. - وأما اليعقوبية: فيقولون بإمامة أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- إلا أنهم يقولون بتفضيل علي عليهما وينكرون الرجعة، فهي تنسب إلى رجل يقال له يعقوب. - ومنهم من تبرأ من أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- ويقولون بالرجعة. (فصل) وأما الرافضة فالأربع عشرة فرقة التي تفرعت عنها: - أولها القطعية: سموا بذلك لقطعهم على موت موسى بن جعفر، ساقوا الإمامة إلى محمد بن الحنفية، وهو القائم المنتظر. - والثانية: الكيسانية: وهي منسوبة إلى كيسان، يقولون بإمامة محمد بن الحنفية، لأنه دفع إليه الراية بالبصرة. - والثالثة: الكريبية: وهم أصحاب ابن كريب الضرير. - والرابعة العميرية: وهم أصحاب عمير وهو إمامهم إلى خروج المهدي. - والخامسة المحمدية: وقد زعمت أن القائم محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين، وأنه أوصى إلى أبي منصور دون بني هاشم، كما أوصى موسى -عليه السلام- إلى يوشع بن نون دون ولده وولد هارون. - وأما السادسة الحسينية: زعمت أن أبا منصور أوصى إلى ولده الحسين بن أبي منصور وهو الإمام بعده. - وأما الناوسية: فلقبوا به لأنهم نسبوا إلى ناوس البصري. - وأما الإسماعيلية: فقد قالوا إن جعفرًا ميت والإمام بعده إسماعيل، وقالوا إنه يملك، وهو المنتظر عندهم. - وأما القرامطة: فهم يسوقون الإمامة إلى جعفر، وأن جعفرًا نص على وراثة محمد ابن إسماعيل، ومحمد لم يمت وهي حي، وهو المهدي. - وأما المباركية: فمنسوبة إلى رئيسهم المبارك، زعموا أن محمد بن إسماعيل مات، وأن الإمامة في ولده. - وأما الشمطية: فمنسوبة إلى رئيسهم يقال له يحيى بن شميط، زعموا أن الإمام جعفر ثم محمد بن جعفر ثم في ولده.

- وأما المعمرية: ويقال لهم الأفطحية، لأن عبد الله بن جعفر كان أفطح الرجلين، يقولون إن الإمام بعد جعفر ابنه عبد الله وهم عدد كثير. - وأما الممطورية: فسموا بذلك لأنهم ناظروا يونس بن عبد الرحمن وهو من القطعية الذين يقطعون على موت موسى بن جعفر، فقال لهم يونس: أنتم أهون من الكلاب الممطورة، فلزمهم هذا اللقب، ويسمون الواقفة، لوقوفهم على موسى بن جعفر، وقولهم هو حي لم يمت، ولا يموت، وهو المهدي عندهم. - أما الموسوية: فسموا بذلك لوقوفهم في موسى وقولهم لا ندري أميت هو أم حي؟ وقالوا إن صحت إمامة غيره أنفذوها. - وأما الإمامية: فيسوقون الإمامة إلى محمد بن الحسن، وأنه القائم المنتظر الذي يظهر فيملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا. - وأما الزرارية: فهم أصحاب زرارة، ادعى ما ادعت العمارية، وقيل إنه ترك مقالتها وأنه سأل عبد الله بن جعفر عن مسائل ولم يعلمها فصار إلى موسى بن جعفر. فقد شبهت مذاهب الروافض باليهودية؛ قال الشعبي: محبة الروافض محبة اليهود، قالت اليهود: لا تصلح الإمامة إلا لرجل من آل داود، وقالت الرافضة: لا تصلح الإمامة إلا لرجل من ولد علي بن أبي طالب؛ وقالت اليهود: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح الدجال، وينزل بسبب من السماء، وقالت الروافض: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي وينادي مناد من السماء، وتؤخر اليهود صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم، وكذلك الروافض يؤخرونها؛ واليهود تزول عن القبلة شيئًا، وكذلك الرافضة؛ واليهود تنور في الصلاة، وكذلك الرافضة؛ واليهود تسدل أبوابها في الصلاة، وكذلك الروافض؛ واليهود تستحل دم المسلم، وكذلك الروافض؛ واليهود لا ترى على النساء عدة، وكذلك الرافضة؛ واليهود لا ترى في الطلاق الثلاث شيئًا، وكذلك الروافض؛ واليهود حرفت التوراة، وكذلك الرافضة حرفوا القرآن؛ لأنهم قالوا القرآن غير وبدل، وخولف بين نظمه وترتيبه، وأحيل عما أنزل عليه، وقرئ على وجوه غير ثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه قد نقص منه وزيد فيه؛ واليهود يبغضون جبريل -عليه السلام- ويقولون هو عدونا من الملائكة، وكذلك صنف من الروافض يقولون غلط جبريل -عليه السلام- بالوحي إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإنما بعث إلى علي -رضي الله عنه-، كذبوا تبًا لهم إلى آخر الدهر.

فصل في المرجئة

* (فصل) وأما المرجئة ففرقها اثنتا عشرة فرقة: الجهمية، والصالحية، الشمرية، اليونسية، اليونانية، النجارية، الغيلانية، الشبيبية، الغسانية، المعاذية، المريسية، والكرامية. وإنما سموا المرجئة لأنها زعمت أن الواحد من المكلفين إذا قال لا إله إلا الله محمدًا رسول الله وفعل بعد ذلك سائر المعاصي لم يدخل النار أصلًا. وأن الإيمان قول بلا عمل، والأعمال الشرائع، والإيمان قول مجرد، والناس لا يتفاضلون في الإيمان، وأن إيمانهم وإيمان الملائكة والأنبياء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يستثنى فيه، فمن أقر بلسانه ولم يعمل فهو مؤمن. (فصل): - وأما الجهمية: فمنسوبة إلى جهم بن صفوان، وكان يقول: الإيمان هو المعرفة بالله ورسوله وجميع ما جاء من عنده فقط. ويزعمون أن القرآن مخلوق، وأن الله تعالى لم يكلم موسى، وأنه تعالى لم يتكلم ولا يرى ولا يعرف له مكان وليس له عرش ولا كرسي، ولا هو على العرش. وأنكروا الموازين وعذاب القبر، وكون الجنة والنار مخلوقين. وادعوا أنهما إذا خلقتا تفنيان، والله -عز وجل- لا يكلم خلقه ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا ينظر أهل الجنة إلى الله تعالى ولا يرونه فيها، وأن الإيمان معرفة القلب دون إقرار اللسان، وأنكروا جميع صفات الحق -عز وجل-، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. - وأما الصالحية: فإنما سميت بذلك لقولها بمذهب أبي الحسين الصالحي. وكان يقول: الإيمان هو المعرفة، والكفر هو الجهل، وإن قول من قال ثالث ثلاثة ليس بكفر وإن كان لا يظهر إلا ممن كان كافرًا، وأن لا عبادة إلا الإيمان. - وأما اليونسية: فمنسوبة إلى يونس البري، زعم أن الإيمان هو المعرفة والخضوع والمحبة لله -عز وجل-، وأنه من ترك خصلة منها فهو كافر. - وأما الشمرية: فمنسوبة إلى أبي شمر، زعم أن الإيمان هو المعرفة والخضوع والمحبة والإقرار بأنه واحد {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] وذلك باجتماعه إيمانًا.

فصل في الكرامية

وقال أبو شمر: لا أسمى من ركب الكبيرة فاسقًا على الإطلاق دون أن أقول فاسق في كذا وكذا. - وأما اليونانية: فمنسوبة إلى يونان، زعموا أن الإيمان هو الإيمان والإقرار بالله ورسله، وما يجوز في العقل إلا أن يفعله. - وأما النجارية: فمنسوبة إلى الحسين بن محمد النجار. يقولون: إن الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله، وفرائضه المجتمع عليها، والخضوع له والإقرار باللسان، فمتى جهل منه شيئًا وقامت عليه الحجة ولم يقر به كان كافرًا. - وأما الغيلانية: فمنسوبة إلى غيلان، وافقوا الشمرية وزعموا أن العلم بحدوث الأشياء ضروري، والعلم بالتوحيد باللسان. وفي حكاية زرقان أن غيلان يقول: بأن الإيمان هو الإقرار باللسان وهو التصديق. - وأما الشبيبية: فهم أصحاب محمد بن شبيب. زعموا أن الإيمان هو الإقرار بالله والمعرفة بوحدانيته ونفى التشبيه عنه. وزعم محمد أن الإيمان كان في إبليس، وإنما كفر لاستكباره. - وأما الغسانية: فهم أصحاب غسان الكوفي، زعم أن الإيمان هو المعرفة والإقرار بالله ورسوله وبما جاء من عنده جملة على ما ذكره البرهوتي في كتاب الشجرة. - وأما المعاذية: فمنسوبة إلى معاذ الموصي، كان يقول: من ترك طاعة الله يقال له إنه فسق، ولا يقال فاسق، والفاسق ليس بعدو لله ولا ولي. - وأما المريسية: فمنسوبة إلى بشر المريسي، يزعمون أن الإيمان هو التصديق، وأن التصديق يكون بالقلب واللسان وإلى هذا كان يذهب ابن الراوندي. وزعم أيضًا أن السجود للشمس ليس بكفر ولكنه إمارة الكفر. (فصل): - وأما الكرامية: فمنسوبة إلى أبي عبد الله محمد بن كرام، زعموا أن الإيمان هو الإقرار باللسان دون القلب، وأن المنافقين كانوا مؤمنين في الحقيقة. ومن قولهم إن الاستطاعة تتقدم الفعل مع وجود كونها مقارنة له، بخلاف ما قال أهل السنة من أنها مع الفعل، ولا يجوز أن تتقدمه من غير شرط. ومؤلفو كتبهم: أبو الحسين الصالحي، ابن الراوندي، محمد بن شبيب، الحسين ابن محمد النجار.

فصل) في ذكر مقالة المعتزلة والقدرية

وأكثر ما يكون مذهبهم بالمشرق ونواحي خراسان. * * * * (فصل) في ذكر مقالة المعتزلة والقدرية: وإنما سموا المعتزلة لاعتزالهم الحق، وقيل لاعتزالهم أقاويل المسلمين، لأن الناس كانوا مختلفين في مرتكب الكبيرة. فقال بعضهم: هم مؤمنون بما معهم من الإيمان، وقال بعضهم: هم كافرون، فأحدث واصل بن عطاء قولًا ثالثًا وفارق المسلمين واعتزل المؤمنين فقال: ما هم بمؤمنين ولا كافرين فسموا بذلك المعتزلة. وقيل: إنما سموا بذلك، لاعتزالهم مجلس الحسن البصري -رحمه الله-، فمر الحسن بهم وقال: هؤلاء معتزلة فلقبوا بذلك. وهم يقتدون بعمرو بن عبيد، ولما غضب الحسن البصري على عمرو بن عبيد عوتب في ذلك، فقال: أتعاتبونني في رجل رأيته يسجد للشمس من دون الله في المقام؟ وسموا أيضًا قدرية لردهم قضاء الله -عز وجل- وقدره في معاصي العباد، وإتيانهم بها بأنفسهم. ومذهب المعتزلة والجهمية والقدرية في نفي الصفات واحد، وقد ذكرنا بعض مذاهبهم في الاعتقاد. ومؤلفوا كتبهم: أبو الهذيل، وجعفر بن حرب، الخياط، الكعبي، أبو هاشم، أبو عبد الله البصري، عبد الله الجبار بن أحمد الهمداني. وأكثر ما يكون مذهبهم بالعسكر والأهواز وجهرم. وهم ست فرق: الهذلية، النظامية، المعمرية، الجبائية، الكعبية، والبهشمية. والذي اجتمعت عليه فرق المعتزلة نفي الصفات جميعها. فنفت أن يكون له -عز وجل- علم وقدرة وحياة وسمع وبصر. وكذلك نفي الصفات المثبتة بالسمع، من الاستواء والنزول وغير ذلك. واجتمعت أيضًا على أن كلام الله محدث، وإرادته محدثة، وأنه تعالى تكلم بكلام خلقه في غيره، ويريد بإرادة محدثة، لا في محل، وأنه تعالى يريد خلاف معلومه، ويريد من عباده ما لا يكون، ويكون ما لا يريد، وأنه تعالى لا يقدر على مقدورات غيره، بل يستحيل ذلك.

وأنه لم يخلق أفعال عبيده، بل هم الخالقون لها دون ربهم. وإن كثر ما يتغذاه الإنسان لم يرزقه الله إذا كان حرامًا، وإنما الذي يرزق الله الحلال دون الحرام، وأن الإنسان قد يقتل دون أجله، والقاتل يقطع أجله قبل حينه. وأن من ارتكب كبيرة من الموحدين وإن لم يكن كفرًا فإنه يخرج بها من إيمانه، ويخلد في النار أبد الآبدين، وتبطل جميع حسناته. وأبطلوا شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأهل الكبائر، وأكثرهم نفوا عذاب القبر والميزان، ورأوا الخروج على السلطان وترك طاعته. وأنكروا انتفاع الميت بدعاء الحي له والصدقة عنه ووصول ثوابها إليه. وزعمت أيضًا أن الله سبحانه لم يكلم آدم ونوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا -صلوات الله عليهم أجمعين-، ولا جبريل ولا ميكائيل ولا إسرافيل ولا حملة العرش ولا ينظر إليهم مثل ما لا يكلم إبليس واليهود والنصارى. وأما الذي انفردت به كل فرقة منها: - أما الهذيلية: فقد انفرد شيخهم أبو الهذيل بأن لله علمًا وقدرة وسمعًا وبصرًا، وأن كلام الله بعضه مخلوق وبعضه غير مخلوق، وهو قوله تعالى: {كن} [البقرة: 117، آل عمران، 47، 59، الأنعام: 73، النحل: 40، مريم: 35، يس: 82، غافر: 68]. وقال: إن الله تعالى ليس بخلاف خلقه، وأن مقدور الله متناه فيبقى أهل الجنة لا حركة لهم، والله تعالى لا يقدر على تحريكهم ولا هم يقدرون على ذلك. ويجوز أن يكون الميت والمعدوم والعاجز يفعل الأفعال، وأبى أن يكون الله تعالى لم يزل سميعًا. - وأما النظامية: فكان شيخهم النظام يقول: إن الجمادات تفعل بإيجاب الخلقة. وكان ينفيى الأعراض إلا الحركة الاعتمادية، ويقول: إن الإنسان هو الروح، وإن أحدًا لم ير النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما رأى ظرفه يعني جسمه. وخرق الإجماع فقال: من ترك الصلاة عامدًا ذاكرًا فلا إعادة عليه. وكان ينفي إجماع الأمة، ويجوز اجتماعها على باطل، ويقول: إن الإيمان مثل الكفر، والطاعة كالمعصية وفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- كفعل إبليس اللعين وأن سيرة عمر وعلي -رضي الله عنهما- كسيرة الحجاج. وإنما التزم ذلك وركبه لأنه كان يقول إن الحيوان كله جنس واحد.

وزعم أن القرآن ليس بمعجز في نظمه، وأن الله تعالى ليس بقادر على تحريق الطفل ولو كان على شفير جهنم، ولا على طرحه فيها. وهو أول من قال بالكفر من أهل القبلة، وكان يقول: إن الجسم يتجزأ إلى ما لا غاية له. وكان يقول: إن الحيات والعقارب والخنافس في الجنة، وكذلك الكلاب والخنازير في الجنة. - أما المعمرية: فكان شيخهم معمر يقول بقول أهل الطبائع ويتجاوز ويزعم أن الله تعالى لم يخلق لونًا ولا طعمًا ولا رائحة ولا موتًا ولا حياة، ولأن ذلك كله فعل الجسم بطبعه. وكان يقول إن القرآن فعل الأجسام، وليس هو بفعل الله تعالى. وأنكر أن يكون الله تعالى قديمًا -تبًا له وأبعده الله تعالى مع هذه المقالة-. - أما الجبائية: فكان شيخهم الجبائي، خرق الإجماع وشذ عنه في أشياء منها: أنه كان يقول: إن العباد خالقون لأفعالهم ولم يسبقه إلى هذه المقالة أحد. وكان يقول: إن الله تعالى أحبل نساء العالمين بخلقه الحبل فيهن. وكان يقول: إن الله مطيع لعباده إذا فعل ما أراده. وقال من حلف أن يعطي غريمه حقه غدًا واستثنى في ذلك بقول إن شاء الله لم ينفعه الاستثناء، فإذا لم يعط حنث. وكان يقول من سرق خمسة دراهم كان فاسقًا، وإن نقصت منه حبة لم يفسق. - وأما البهشمية: فمنسوبة إلى أبي هاشم بن الجبائي. وكان أبو هاشم يجوِّز أن يكون المكلف قادرًا، وهو لا يكون فاعلًا ولا تاركًا، فيعاقبه الله تعالى على فعله. وكان يقول: من تاب من سائر الذنوب إلا ذنبًا واحدًا لم تصح توبته فيما تاب منه. - وأما الكعبية: فمنسوبة إلى أبي القاسم الكعبي وكان بغدادي المذهب. فأنكر أن يكون الله سميعًا بصيرًا، وأن يكون مريدًا بالحقيقة، وأن إرادة الله تعالى من فعل عباده هي الأمر به، وإرادته من فعل نفسه فعله، وزعم أن العالم كله ملأ، وأن المتحرك إنما هو الصفحة الأولى من الأجسام، وأن الإنسان لو تدهن بدهن ومشى لم يكن المتحرك، وإنما الدهن هو المتحرك.

فصل) في ذكر مقالة المشبهة، فهم ثلاث فرق: الهشامية، المقاتلية، الواسمية

وكان يقول: إن القرآن محدث ولا يقول مخلوق. * * * (فصل) في ذكر مقالة المشبهة، فهم ثلاث فرق: الهشامية، المقاتلية، الواسمية. والذي اتفقت عليه الفرق الثلاث إن الله جسم، وأنه لا يجوز أن يعقل الموجود إلا جسمًا، والذي غلب عليهم التشبيه فرق الروافض والكرامية. والذي ألف كبتهم: هشام بن الحكم، وله كتاب في إثبات الجسم. - أما الهشامية: فمنسوبة إلى هشام بن الحكم زعم أن الله تعالى جسم طويل عريض عميق نور ساطع له قدر من الأقدار كالسبيكة الصافية يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد. وحكى عنه أنه قال: أحسن الأقدار أن يكون سبعة أشبار، وقيل له: ربك أعظم أم أحد؟ فقال ربي أعظم. - وأما المقاتلية: فمنسوبة إلى مقاتل بن سليمان حكى عنه أنه قال: إن الله تعالى جسم، وإنه جثة على صورة الإنسان لحم ودم وله جوارح وأعضاء من رأس ولسان وعنق. وإنه في جميع ذلك لا يشبه الأشياء، والأشياء لا تشبهه. * * * (فصل) في ذكر مقالة الجهمية: تفرد جهم بن صفوان بأن الإنسان إنما ينسب إليه ما يظهر منه على المجاز لا على الحقيقة، كما يقال: طالت النخلة وأدركت الثمرة. وكان يأبى أن يقول: (إن الله شيء ويقول يحدث علم الله ويمتنع أن يقول)، إن الله كان عالمًا بالأشياء قبل كونها، ويقول: إن الجنة والنار تفنيان وينفي الصفات. وكان مذهب جهم بترمذ وهو بلد، وقيل بمرو، وله تآليف في نفي الصفات، قتله مسلم بن أحور المازني. * * * - وأما الضرارية: فمنسوبة إلى ضرار بن عمرو، وكان يقول ضرار إن الأجسام أعراض مجتمعة، وجوز أن تنقلب الأعراض أجسامًا، وأن الاستطاعة بعض المستطيع وهي قبل الفعل ومع الفعل، وأنكر قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب -رضي الله عنه-. * * *

(فصل) في ذكر مقالة السالمية: وهي منسوبة إلى ابن سال

- وأما النجارية: فهي منسوبة إلى الحسين بن محمد النجار كان يثبت فعل الفاعلين بالحقيقة لله وللعبد. وكان يقول بنفي الصفات، وقال بقول المعتزلة في نفي الصفات، إلا في نفي الإرادة، فإنه أثبت أن القديم مريد لنفسه. وكان يقول بخلق القرآن، ويقول إن الله مريد على معنى أنه ليس بمقهور ولا مغلوب، وإن الله متكلم بمعنى أنه ليس بعاجز عن الكلام، وأنه لم يزل جوادًا بمعنى نفي البخل عنه. ومذهبه موافق لمذهب ابن عون وابن يوسف الرازي، وأكثر ما يكون مذهبه بقاشان. * * * - وأما الكلابية: فمنسوبة إلى عبد الله بن كلاب، وكان يقول صفات الله ليست بقديمة ولا محدثة، وكان يقول: لا أقول صفاه هي هو، ولا هي غيره، وإن معنى الاستواء نفي الاعوجاج في قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] وإن الله لم يزل على ما كان عليه من قبل وأن لا مكان له، ونفى أن يكون القرآن حروفًا. (فصل) في ذكر مقالة السالمية: وهي منسوبة إلى ابن سالم. من قولهم إن الله سبحانه يرى يوم القيامة في صورة آدمي محمدي، وإنه -عز وجل- يتجلى لسائر الخلق يوم القيامة من الجن والإنس والملائكة والحيوان أجمع لكل واحد في معناه، وفي كتاب الله تكذيبهم، وهو في قوله -عز وجل-: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11]. ومن قولهم إن لله تعالى سرًا لو أظهره لبطل التدبير، وللأنبياء سرًا لو أظهروه لبطلت النبوة، وللعلماء سرًا لو أظهروه لبطل العلم. وهذا فاسد، لأن الله تعالى حكيم وتدبيره محكم لا يتطرق نحوه البطلان والفساد، وما ذكروه يؤدي إلى إبطال حكمته تعالى وهذا كفر. ومن قولهم إن الكفار يرون الله تعالى في الآخرة ويحاسبهم. ومن قولهم إن إبليس سجد لآدم في الثانية، وفي القرآن تكذيبهم، وهو قول الله -عز وجل-: {إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} [البقرة: 34]، وقوله تعالى: {إلا إبليس لم يكن من الساجدين} [الأعراف: 11].

ومن قولهم: إن إبليس ما دخل الجنة، وفي القرآن تكذيبهم، وهو قوله تعالى: {فاخرج منها فإنك رجيم} [الحجر: 24، وص: 77]. ومن قولهم: إن جبريل كان يجيء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يبرح من مكانه. ومن قولهم إن الله تعالى لما كلم موسى -عليه السلام- أعجب موسى بنفسه، فأوحى الله إليه يا موسى أتعجبك نفسك، مد عينيك، فمد موسى عينيه فنظر فإذا مائة طور، على كل طور موسى. وهذا منكر عند أهل النقل وأصحاب الحديث، وقد أوعد النبي -صلى الله عليه وسلم- من كذب عليه فقال: «من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار». ومن قولهم إن الله تعالى يريد من العباد الطاعات ولا يريد منهم المعاصي، وإنه -عز وجل- أرادها بهم لا منهم. وهذا باطل منهم، لأن الله تعالى قال: {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا} [المائدة: 41] يعني كفره، وقال الله تعالى: {ولو شاء ربك ما فعلوه} [الأنعام: 112]، {ولو شاء الله ما فعلوه} [الأنعام: 137]، وقال تعالى: {ولو شاء الله ما اقتتلوا} [البقرة: 253]. ومن قولهم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحفظ القرآن قبل النبوة وقبل أن يأتيه جبريل -عليه السلام-. وفي القرآن تكذيبهم، وهو قوله تعالى: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} [الشورى: 52]، وقوله تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} [العنكبوت: 48]. ومن قولهم: إن الله تعالى يقرأ على لسان كل قارئ، وإنهم إذا سمعوا القرآن من قارئ فإنما يسمعونه من الله. وهذا القول يفضي إلى الحلول، نعوذ بالله من ذلك، ويؤدي إلى أن الله تعالى يلحن ويغلط، وهذا كفر. ومن قولهم: إن الله تعالى في كل مكان، ولا فرق بين العرش وغيره من الأمكنة.

القسم الثالث في المجالس

القسم الثالث في المجالس

باب وأما الاتعاظ بمواعظ القرآن والألفاظ النبوية ففي مجالس نسوقها

باب وأما الاتعاظ بمواعظ القرآن والألفاظ النبوية ففي مجالس نسوقها الأول من ذلك: مجلس في قوله -عز وجل-: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98] اعلم أن هذه الآية في سورة النحل وهي مكية، إلا ثلاث آيات من آخرها أنزلت بالمدينة، وعدد آياتها مائة وعشرون آية وثمان آيات، وعدد كلماتها ألف وثمانمائة وإحدى وأربعون كلمة، وحروفها سبعة آلاف وسبعمائة وتسعة أحرف. قال أهل التفسير: كان سبب نزول هذه الآية: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ سورة النجم وقرأ والليل إذا يغشى ...} [الليل: 1] في صلاة الفجر بمكة أعلنهما فلما بلغ إلى قوله: {أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 19 - 20] نعس النبي -صلى الله عليه وسلم- فألقى الشيطان على لسانه «الغرانيق العلا عندها الشفاعة ترتجى» يعني الأصنام. قال: ففرح المشركون بذلك، لأنهم اثبتوا لها الشفاعة، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، كما قال الله -عز وجل-: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3]. وكانوا يقولون إنها أجسام طاهرة ليس لها ذنوب، فهي أولى بالعبادة لها من غيرها من الملوك والملائكة، لأن لهم ذنوبًا وهم ذوو أرواح، فشبهوا الأصنام بالغرانيق، وهي الذكور من الطيور، وإحداها: غرنوق وغرنيق، لكونها تعلو وترتفع في السماء. وقيل: هو طائر أبيض من طير الماء. وقيل: هو الكركي. ويسمى أيضًا الشاب الناعم غرنوقًا. ومنه حديث علي -رضي الله عنه-: فكأني انظر إلى غرنوق من قريش يتشحط في دمه: أي شاب. وقال مقاتل: يعني الملائكة رجوا أن تكون للملائكة شفاعة، لأن طائفة من الكفار

كانت تعبد الملائكة، فلما بلغ الرسول -صلى الله عليه وسلم- خاتمة النجم سجد وسجد كل من حضر من مسلم ومشرك، غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلًا شيخًا كبيرًا، فرفع ملء كفه من التراب إلى جبهته فسجد عليه، فقال: نحني كما تحني أم أيمن وصواحباتها، وكان أيمن خادم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقتل يوم حنين. فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك، وهما من سجع الشيطان وفتنته ألقاهما على لسان النبي -صلى الله عليه وسلم- عند آخر ذكر الطواغيت والأصنام. فعجب الفريقان كلاهما من سجودهم أجمعين، واتباعهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك. فأما المسلمون فعجبوا من سجود المشركين على غير إيمان ولا يقين، وأما المشركون فطابت أنفسهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، لما سمعوا منه ما ألقى الشيطان في أمنيته واستبشروا وقالوا: إن محمدًا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه، فسجدوا تعظيمًا لآلهتهم، ففشت الكلمتان في الناس بإظهار الشيطان حتى بلغتنا الحبشة، فكبر ذلك على النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما أمسى أتاه جبريل -عليه السلام- وقال: معاذ الله من هاتين الكلمتين ما أنزلهما ربي -عز وجل- ولا أمرني بهما ربك، فلما رأى ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شق عليه وقال: أطعت الشيطان وتكلمت بكلامه، وأشركته في أمر الله -عز وجل-، فنسخ الله ما ألقى الشيطان وأنزل عليه: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} [الحج: 52] يعني في تلاوته وقراءته {فينسخ الله ما يلقي الشطيان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم} [الحج: 52]. فلما برأ الله -عز وجل- نبيه -صلى الله عليه وسلم- من سجع الشيطان وفتنته انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم، ثم أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالاستعاذة فأنزل الله -عز وجل- {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النجل: 98]. قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: معناه إذا أردت أن تقرأ القرآن فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يعني احترز بالله من الشيطان الرجيم: أي إبليس اللعين، يعني المرجوم باللعنة، يقال: ليس شيء قط أغيظ على إبليس اللعين من التعوذ بالله منه {إنه ليس له سلطان} [النحل: 99] يعني ملكًا {على الذين آمنوا} [النحل: 99] في علم الله في الشرك فيضلهم عن الهدى {وعلى ربهم يتوكلون} [النحل: 99] يعني بالله يثقون {إنما سلطانه} [النحل: 100] يعني ملكه {على الذين يتولونه} [النحل: 100] يعني إبليس

فصل معنى التعوذ

اللعين، يعني يتبعونه على أمره فيضلهم عن دينهم الإسلام {والذين هم به} [النحل: 100] يعني بالله {مشركون} [النحل: 100] أي من أجله مشركون. (فصل) ومعنى أعوذ: الاستعاذة والاستجارة والالتجاء والمعاذ والملتجأ، يقال: عاذ به يعوذ عياذًا وأعوذ عوذًا، ومعنى معاذ الله: أي ألجأ إليه وأعوذ به. يقال: هذا عوذ لي مما أخاف، أي مجيري والدافع عني، فكان العبد يعوذ بالله ليقيه شر الشيطان، والتعوذ بالقرآن هو التشفي به. وقيل: معنى الاستعاذة: الاحتراز بالله -عز وجل-، قال الله تعالى حاكيًا عن أم مريم حنة: {وإني أعيذها بك وذريتها} [آل عمران: 36] يعني مريم وعيسى {من الشيطان الرجيم} [آل عمران: 36] يعني احترز بالله في حقهما من الشيطان الرجيم. واشتقاق الشيطان مأخوذ من الشطن وهو الحبل الطويل المضطرب، والشطن: البعد، فكأنه تباعد من الخير وطال في الشر واضطرب فيه، ثم قيل للإنسان شيطان: أي كالشيطان في فعله، وكل شيء مستقبح فهو مشبه بالشيطان، فيقال كأن وجهه وجه الشيطان، وكأن رأسه رأس الشيطان، ومنه قوله -عز وجل-: {طلعها كأنه رؤوس الشياطين} [الصافات: 65] فهو رأس الشيطان المعروف، وقد قيل هي حيات لها رؤوس منكرة وأعراف، وقيل رؤوس الشياطين ثبت معروف. وأما الرجيم: فهو المرجوم باللعن، أي رماه باللعن وأبعده من الحضرة بعصيانه في ترك السجود لآدم -عليه السلام-، ورجمته الملائكة بالرماح وطردته بها حينئذ من السماء إلى الأرض، ثم جعلت له الكواكب رجومًا، فيرجم هو وذريته إلى أن تقوم الساعة بالكواكب، وباللعن. كما قال الله -عز وجل-: {وجعلناها رجومًا للشياطين} [الملك: 5]. (فصل) الشيطان بعيد من الله، وبعيد من كل خير، وبعيد من الجنة، وقريب إلى النار. فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمته الكرام بالتعوذ من الشيطان الرجيم، المبعد من الرحمن ليبعدوا من النيران، ويقربوا إلى الجنان، وينظروا إلى وجه المنان. فكان الله -عز وجل- يقول: يا عبدي، الشيطان مني بعيد، وأنت مني قريب، فأحسن الأدب في حفظ الحال حتى لا يكون للشيطان عليك سبيل لسبب من الأسباب، وحسن الأدب في أداء الأمر وانتهاء النهي والرضا بجريان المقدور في النفس والمال والأهل والولد والخلائق أجمعين.

فصل ويستفيد العبد من الاستعاذة خمسة أشياء

فإذا دام العبد على ذلك ولازمه وواظب عليه وعانقه، كانت له النجاة من فتن الشيطان ووساوسه، وهواجس النفس وغوائلها، وعذاب القبر وضغطته، وهول القيامة وشدتها، وألم النار وزفرتها، وكان في جوار الله في جنة المأوى، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، متقلبًا في نعم الله في كل حال، دائمًا أبدًا، قال الله -عز وجل-: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الحجر: 42]. فإذا كان على العبد سمة العبودية للملك الأعلى، لم يكن للشيطان الضعيف الخسيس الأدنى عليه تسلط وابتلاء ولا في الجلوة ولا إذا خلا، لا على القلب بالمعصية إذا نوى، ولا على الجوارح إذا كادت بها أن تهوى وتردى. حينئذ يسمع النداء هكذا فعلنا بمن ترك الهوى، واتبع الحق وبه اهتدى، وفيه يختصم الملأ الأعلى، وبالعظيم يدعى في الملكوت الأعلى، وبه يباهى الملك الأعلى على العرش إذ هو عليه استوى، بكلامه القديم، المصون من سجع الشيطان والباطل عند قراءة القارئ إذا قرأ: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} [يوسف: 24] إذ هو السر والعلانية اتقى، فالفرار من الشيطان الرجيم ودعائه أحرى وأولى، إذ الحذر من العلي الأعلى حيث قال: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوًا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} [فاطر: 6}، وقال تعالى: {ولقد أضل منكم جبلًا كثيرًا أفلم تكونوا تعقلون} [يس: 62]. فاتباع الشيطان أصل كل شقاوة وعناء وفي المخالفة سعادة ونعماء وراحة وهدى، والخلود في دار البقاء. (فصل) ويستفيد العبد بالاستعاذة خمسة أشياء: أحدها: الثبات على الدين والبقاء. والثاني: السلامة من شر اللعين والعناء. والثالث: الدخول في الحصن الحصين والزلفى. والرابع: الوصول إلى اللقاء الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. والخامس: نيل معونة رب الأرض والسماء. كما ذكر في بعض الكتب المتقدمة لما قال إبليس اللعين في مخاطبته لله -عز وجل-: {لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} [الأعراف: 17].

فصل والذي يخاف الشيطان منه

قال الله تعالى: «وعزتي وجلالي لآمرنهم بالاستعاذة فإذا استعاذوا بي حفظتهم عن اليمين بالهداية، وعن الشمال بالعناية، وعن الخلف بالعصمة، وعن القدام بالنصرة، حتى لا تضرهم وسوستك يا ملعون». ورد في بعض الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من استعاذ بالله مرة حفظه الله تعالى في يومه ذلك». وقال أيضًا -عليه الصلاة والسلام-: «أغلقوا أبواب المعاصي بالاستعاذة وافتحوا أبواب الطاعة بالتسمية». وقيل: إن إبليس يبعث كل يوم ثلاثمائة وستين عسكرًا لإضلال المؤمن، فإذا استعاذ المؤمن بالله -عز وجل- نظر الله إلى قلبه ثلاثمائة وستين نظرة، ففي كل نظرة من نظراته يهلك عسكرًا من عساكره -لعنه الله-. (فصل) والذي يخاف الشيطان منه ويحذره الاستعاذة، وشعاع نور معرفة قلوب العارفين، فإن لم تكن من العارفين فعليك باستعاذة المتقين إلى الله ترقى إلى درجة العارفين، فحينئذ شعاع نور قلبك يكسر شوكته، ويهزم جنده ويبيد حضراه، ويقلع شافته في خاصتك، وربما جعلت سجنه لإخوانك وأتباعك، كما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: «إن الشيطان يفر من ظلك يا عمر». وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما سلك عمر واديًا إلا والشيطان سلك غير ذلك الوادي». وقيل: إن الشيطان كان يصرع إذا رأى عمر -رضي الله عنه-. فإذا علم الشيطان من العبد الصدق في عداوته والمخالفة لدعوته أيس منه وتركه واشتغل بغيره. وإنما يأتيه لمًا أحيانًا على وجه الاختفاء والتلصص، فليكن العبد أبدًا ملازمًا للصدق مستيقظًا مرتقبًا لمجيء الشيطان وكيده، فإن مثقبه دقيق، وعداوته قديمة أصلية، وإنه يجري في الجلود واللحوم كجري الدم في العروق. وقد روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه كان يقول بعد كبره: اللهم إني أعوذ بك من أن أزني أو أقتل، فقيل له: أتخاف من ذلك؟ فقال كيف لا أخاف وإبليس حي.

(فصل) وأولى ما يستعان به على محاربة الشيطان

(فصل) وأولى ما يستعان به على محاربة الشيطان ودفعه كلمة الإخلاص، وذكر المرء ربه -عز وجل-. كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- حاكيًا عن ربه -عز وجل- أنه قال: «لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي». وقوله عليه الصلاة والسلام: «من قال لا إله إلا لله مخلصًا دخل الجنة». فالشيطان سبب العذاب، فإذا قال العبد الكلمة وتقمص بموجباتها من أداء الأوامر وترك النواهي، فرآه الشيطان متلبسًا بذلك، تباعد منه ولم يقدم عليه، فنجا العبد من فتنته كما ينجو بجنة القتال من سلاح عدوه. وكذلك التسمية يكثر ذكرها، فإنه روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنه سمع رجلًا يقول تعس الشيطان فقال له عليه الصلاة والسلام: لا قتل هكذا، فإنه يتعاظم الشيطان اللعين ويقول: بعزتي غلبتك، ولكن قل: بسم الله، فإنه يتصاغر الشيطان حتى يصير مثل الذرة». وكذلك يستعان عليه بترك الطمع فيما سوى فضل الله -عز وجل- من أبناء الدنيا وأموالهم وحمدهم وثنائهم وجمعهم والتكثر بهم وهداياهم، فإن الدنيا وأبناءها مال الشيطان وجنوده وحزبه، والمرء مع ماله والملك مع جنده. فعلى العبد اليأس من ذلك كله، والاستغناء بالله -عز وجل- والثقة به، والتوكل عليه والرجوع إليه في جميع أموره وأحواله واستعمال الورع من الحرام والشبهة وترك منة الخلق والتقلل من مباح الدنيا وحلالها، والأكل بشهوة وشره كحاطب الليل من غير مفتيش وتنقير، ومن لم يبال من أين مطعمه ومشربه لم يبال الله تعالى من أي أبواب النار يدخله. فيلزم العبد ذلك حتى ييأس الشيطان منه، فيسلم برحمة الله وعونه، فإن لم يفعل ذلك فالشيطان قرينه في قلبه وصدره، قال الله -عز وجل-: {ومن يعش عن ذكر الرحمن

(فصل) روى مقاتل عن الزهري

نقيض له شيطانًا فهو له قرين} [الزخرف: 36]. فتارة يوسوسه في الصلاة، وأخرى يمنيه الأماني الباطلة من شهوات النفس المحرمة منها والمباحة، ومرة يثبطه عن المسارعة في الخيرات، والإتيان بالسنن والواجبات، والعبادات والقربات، فيخسر الدنيا والآخرة، فيحشر معه، وربما سلب الإيمان في آخر عمره فيخلد معه في النار يوم القيامة، مع فرعون وهامان وقارون، نعوذ بالله من سلب الإيمان، ومتابعة الشيطان في السر والإعلان. (فصل) روى مقاتل عن الزهري عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: راح أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات عشية يريدون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسلمان وعمار بن ياسر -رضي الله عنهم أجمعين-، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد أخذته الرحضاء، يعني عرق الحمى، يتحدر منه مثل الجمان، يعني اللؤلؤ، ثم مسح جبهته وقال: لعن الله الملعون ثلاثًا، ثم أطرق، فقال له علي -رضي الله عنه-: بأبي أنت وأمي من لعنت آنفًا؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: إبليس الخبيث، عدو الله دخل ذنبه في دبره، فباض سبع بيضات، فهم أولاده الموكلون ببني آدم: أحدهم: اسمه المدهش وكل بالعلماء، يردهم إلى الأهواء المختلفة. والثاني: اسمه حديث، وهو صاحب الصلاة، فينسيهم الذكر، ويعبثهم بالحصا، ويطرح عليهم التثاؤب والنعاس حتى ينام أحدهم فيقال له: قد نمت، فيقول: لم أنم، فيدخل في الصلاة بغير وضوء، والذي نفس محمد بيده ليخرجن أحدهم من صلاته ما له شطرها ولا ربعها ولا عشرها، ووزرها أكثر من أجرها. والثالث: اسمه الزلبنون، وهو صاحب الأسواق، يأمرهم بالتطفيف والكذب في الشراء والبيع والتحلية لسلعه، والمدحة لها إذا باعها حتى ينفقها عن نفسه. والرابع: اسمه بتر، وهو صاحب قد الجيوب وخمش الوجوه، والدعاء بالويل والثبور عند نزول المصيبة، حتى يحبط أجر صاحبها. والخامس: اسمه منشوط، وهو صاحب أخبار الكذب والنميمة والهمز والفخر حتى يؤثم العباد.

والسادس: اسمه واسم، وهو صاحب الزنا الذي ينفخ في إحليل الرجل وعجز المرأة حتى يزني كل واحد منهما بصاحبه. والسابع: اسمه الأعور، وهو صاحب السرقة، يقول للسارق: لتسد بها فاقتك، وتقضي بها دينك، وتستر بها عورتك ثم تتوب. فينبغي لكل مؤمن ألا يغفل عن الشيطان في سائر أحواله، ولا يأمنه في جميع أموره. وقد جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن للوضوء شيطانًا يقال له الولهان، فاستعيذوا بالله منه». وجاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «تراصوا في الصفوف لئلا يتخللكم الشياطين كأنها بنات حذف». قالوا: وما بنات حذف؟ قال أبو حذيفة: قال أبو عبيدة هي هذه الغنم الصغار الحجازية، واحدتها: حذفة. ويقال نقد أيضًا، ونقاد ليس لها أذناب ولا آذان يجاء بها من جرش، بلد باليمن. وقد روي عن عثمان بن العاص -رضي الله عنه- أنه قال: قلت يا رسول الله كيف حال الشيطان بيني وبين صلاتي وقراءتي؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: ذاك شيطان يقال له خنزب إذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثًا ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المشهور: «ما منكم من أحد إلا وله شيطان، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: ولا أنا إلا أن الله تبارك وتعالى قد أعانني عليه فأسلم». وفي حديث آخر عنه -صلى الله عليه وسلم-: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: ولا أنا إلا أن الله قد أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير».

وقيل: إن الله لما لعن إبليس، خلق منه زوجته الشيطانة من ضلعه الأيسر، كما خلقت حواء من آدم -عليه السلام-، فغشيها فحملت منه إحدى وثلاثين بيضة، فصارت أصلًا لذريته، فتفرعت الذرية عنها، فطبقت البر والبحر حتى قيل: فقصت كل بيضة عشرة آلاف ذكر وأنثى، يعني تفرعت منها، فسكنوا الجبال والجزائر والخرابات والفلوات والبحار والرمال والأدغال والآجام والعيون ومجامع الطرق والحمامات والكنف والمزابل والهواء ومعارك الحروب والنواقيس والقبور والدور والقصور وخيام الأعراب وجميع البقاع قال تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلًا} [الكهف: 50]. فويل لمن استبدل بعبادة الله -عز وجل- طاعة الشيطان وذريته، لا جرم أنه معهم في النار خالدًا فيها إن لم يتب ولم يتذكر فينتبه لنفسه ويسعى في فكاكها وخلاصها، فيفارق قرناء السوء والأعمال الخبيثة، ودعاة الضلال وجنود الشيطان، فيرجع إلى الله، ويلزم طاعته، ويجالس العلماء من عباده، والعارفين به العاملين له الداعين إليه الراغبين فيه، والراجين لفضله الخائفين لسطوته، الراهبين من أخذته الزاهدين في الدنيا، الراغبين في العقبى، القائمين في الليل، والصائمين في النهار، الباكين على ما فات من أيام البطالات، العازمين على الخيرات فيما يأتي من الساعات، التائبين من جميع الذنوب والخطيئات، المتوكلين على خالق الأرض والسموات، الواثقين برب الخليقة والبريات في اللحظات والساعات، القانتين في آناء الليل وأطراف النهار، أولئك آمنون من السلاسل والأغلال وآفات الدنيا وأهوال النيران، لأنهم خالفوا طاعة الشيطان، وأطاعوا الرحمن في السر والإعلان، فقابلهم الديان، وجازاهم المنان بما أخبر في قوله البيان: {فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورًا * وجزاهم بما صبروا جنة وحريرًا} [الإنسان: 11 - 12]، وقوله تعالى: {إن المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عن مليك مقتدر} [القمر: 54 - 55]، وقال تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46]. وقد ذكر الله -عز وجل- في كتابه هذا العبد المفتون بعد تقواه بقوله تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} [الأعراف: 201]. فأخبر -عز وجل- أن جلاء القلوب بذكر الله وبه يزول عنها الغطاء والظلمة والرين والغفلة، وبه تنكشف الكروب، فالذكر مفتاح التقوى والورع، والتقوى باب الآخرة،

(فصل) وفي القلب لمتان

كما أن الهوى باب الدنيا، قال الله تعالى: {واذكروا ما فيه لعلكم تتقون} [البقرة: 63] فأخبر تبارك وتعالى أن الإنسان بالذكر يتقى. (فصل) وفي القلب لمتان: لمة من الملك، وهي إيعاد بالخير وتصديق بالحق، ولمة من العدو، وهي إيعاد بالشر، وتكذيب بالحق، ونهي عن الخير، وهو مروي عن عبد الله ابن مسعود -رضي الله عنه-. وقال الحسن البصري -رحمه الله-: وإنما هما همان يجولان في القلب: هم من الله، وهم من العدو، فرحم الله عبدًا قف عند همه، فما كان من الله أمضاه، وما كان من عدوه جاهده. وقال مجاهد -رحمه الله- في قوله تعالى: {من شر الوسواس الخناس} [الناس: 4] قال: هو ينبسط على قلب الإنسان، فإذا ذكر الله خنس وانقبض، وإذا غفل انبسط على قلبه. وقال مقاتل -رحمه الله-: هو الشيطان في صورة خنزير معلق في القلب في جسد ابن آدم، يجري منه مجرى الدم، سلطه الله -عز وجل- على ذلك من الإنسان، فذلك قوله: {الذي يوسوس في صدور الناس} [الناس: 5]. فإذا سها ابن آدم وسوس في قلبه حتى يبتلع قلبه الخناس، الذي إذا ذكر الله -عز وجل- ابن آدم خنس عن قلبه، فذهب عنه وخرج من جسده. وقال عكرمة -رحمه الله-: الوسواس محله من الرجل في فؤاده وعينيه، ومحله في المرأة في عينيها إذا أقبلت، وفي عجيزتها إذا أدبرت. (فصل) وفي القلب خواطر ستة: أحدها: خاطر النفس. الثاني: خاطر الشيطان. الثالث: خاطر الروح. الرابع: خاطر الملك. الخامس: خاطر العقل. السادس: خاطر اليقين. فخاطر النفس يأمر بتناول الشهوات ومتابعة الهوى المباح منه والجناح.

وخاطر الشيطان يأمر في الأصل بالكفر والشرك والشكوى والتهمة لله -عز وجل- في وعده، وفي الفزع بالمعاصي والتسويف بالتوبة، وما فيه هلاك النفس في الدنيا والآخرة. فالخاطران مذمومان محكوم لهما بالسوء، وهما لعموم المؤمنين. وخاطر الروح، وخاطر الملك: يردان بالحق والطاعة لله -عز وجل-، وما يكون عاقبته سلامة الدنيا والآخرة، وما يوافق العلم. فهما محمودان لا يعدمهما خصوص الناس. وأما خاطر العقل، فتارة يأمر بما تأمر به النفس والشيطان، وآخرى بما يأمر به الروح والملك، وذلك حكمة من الله وإتقان لصنعه، ليدخل العبد في الخير والشر بوجود معقول، وصحة شهود وتميز، فيكون عاقبة ذلك من الجزاء والعقاب عائدًا له وعليه، لأن الله تعالى جعل الجسم مكانًا لجريان أحكامه، ومحلًا لنفاذ مشيئته في مباني حكمته، كذلك جعل العقل مطية الخير والشر، يجري معهما في خزانة الجسم إذا كان مكانًا للتكليف وموضعًا للتصريف، وسببًا للتعريف العائد إلى لذة النعيم أو عذاب أليم. وأما خاطر اليقين، وهو روح الإيمان ومورد العلم، فيرد من الله تعالى، ويصدر عنه. وهو مخصوص بخواص من الأولياء الموقنين الصديقين، والشهداء والأبدال، لا يرد إلا بحق، وإن خفي وروده ودق مجيئه، ولا ينقدح إلا بعلم لدني وأخبار والغيوب وأسرار الأمور، فهو للمحبوبين والمرادين والمختارين الفانين بالله فيه عنهم، الغائبين عن ظواهرهم، الذين انقلبت عبادتهم الظاهرة إلى الباطنة، ما خلا الفرائض والسنن المؤكدات، فهؤلاء أبدًا في مراقبة بواطنهم، والله تعالى يتولى تربية ظواهرهم، كما قال -عز وجل- في كتابه العزيز: {إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} [الأعراف: 196] تولاهم وكفاهم، وأشغل قلوبهم بمطالعة أسرار الغيوب، ونورها بالتجلي في كل قريب، فاصطفاهم لمحادثته، واختصهم بالأنس به، والسكون إليه، والطمأنينة لديه، فهم في كل يوم في مزيد علم ونمو ومعرفة، وتوفير نور، وقرب من محبوبهم ومعبودهم، وهم في نعيم لا نفاد له، وآلاء لا انقطاع لها، وسرور لا غاية له ولا

(فصل) وللنفس والروح مكانان

منتهى، فإذا بلغ الكتاب أجله، وانتهى ما قدر لهم من البقاء في دار الفناء، نقلهم منها بأحسن الانتقال، كما ينقل العروس من حجرة إلى دار، من الأدنى إلى الأعلى، فالدنيا في حقهم جنة، وفي الآخرة لأعينهم قرة، وهو النظر إلى وجهه الكريم من غير حجاب ولا باب ولا حاجب ولا بواب، ولا مانع ولا جداد، ولا من ولا امتنان، ولا ضيم ولا إضرار، ولا انقطاع ولا نفاد، كما قال عز من قائل: {إن المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر} [القمر: 54 - 55]، وكما قال: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26]. أحسنوا في الدنيا له بالطاعة، فجازاهم في العقبى بالجنة والكرامة، وأعطاهم النعمة والسلامة، وزادوا له بتطهير القلوب وترك العمل لما سواه، فجازاهم سبحانه وتعالى بالزيادة في دار البقاء والمنة، وهو دوام النظر إلى وجهه الكريم، كما أخبر في كتابه المبين لعباده أولى الألباب والعقول. (فصل) وللنفس والروح مكانان لإلقاء الملك والشيطان، فالملك يلقى التقوى إلى القلب، والشيطان يلقي الفجور إلى النفس، فتطالب النفس القلب باستعمال الجوارح بالفجور. وفي مكانين في البنية: العقل والهوى: يتصرفان بمشيئة حاكم، وهو التوفيق والإغواء. وفي القلب نوران ساطعان: وهما العلم، والإيمان. فجميع ذلك أدوات القلب وحواسه وآلاته، والقلب في وسط كالملك وهذه جنوده تؤدي إليه، أو كالمرأة المجلودة، وهذه الآلات حولها تظهر فيراها ويقدح فيها فيجدها. (فصل) أعوذ برب العرش والكرسي من الشيطان الغوي، وخواطر السوء وهواجس النفس، ومن فتنة كل جني وإنسي، ومن رياء ونفاق وعجب وكبر وشرك وخلال السوء الناشئة في قلبي، ومن كل شهوة ولذاة مردية في المهالك نفسي، ومن البدع والضلال والأهوية المسلطة للنيران على جسمي، ومن كل قول وفعل وهمة تحجب عن القلوب العرشية قلبي، ومن اتباع الأهوية المضلة والطبائع النفسية والأخلاق الردية أعوذ بالملك الحميد المجيد من الشيطان الخبيث المريد، أعوذ بالرب الودود من نقمته إذا غفلت عن طاعته إذ هو أقرب إلي من حبل الوريد، أعوذ به من سطوته إذا غضب على أهل

(فصل) ومجاهدة الشيطان

معصيته، أعوذ به من هيبته عند شدة بطشه في يوم القيامة للطاغين من بريته، وأعوذ به من كشف الغطاء والستر والتيهان في معصيته في البر والبحر، ونسيان الأصل والفرع، والميل إلى الزيغ والرعونة والخيلاء والكبر، وترك الطاعة والقربة والبر والتعالي عليه، والأيمان الكاذبة، والحنث دون البر، وخاتمة السوء والإفلاس من كل خير، والموافاة عند حضور المنية بالشر. (فصل) ومجاهدة الشيطان باطنة وهي بالقلب والجنان والإيمان، فإذا جاهدته كان مددك الرحمن، ومعتمدك الملك الديان، ورجاؤك رؤية وجه الجليل المنان. وجهاد الكفار جهاد ظاهر بالسيوف والرماح، ومددك فيه الملك والأعوان، ورجاؤك فيه دخول الجنان. فإذا قتلت في مجاهدة الكفار كان جزاؤك الخلود في دار البقاء، وإن قتلت في مجاهدة الشيطان ومخالفتك إياه بفناء أجلك واخترام منيتك كان جزاؤك رؤية وجه رب العالمين عند اللقاء، فإن قتلك الكافر كنت شهيدًا، وإن قتلك الشيطان بمتابعتك إياه، والانقياد لأمره كنت من قرب الملك الجبار طريدًا، فجهاد الكفار له نهاية وفناء، وجهاد الشيطان والنفس لا غاية له ولا منتهى. قال الله جل وعلا: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر: 99] يعني الموت واللقاء. فالعبادة بمخالفة الشيطان والهوى، قال الله -عز وجل-: {فكبكوا فيها هم والغاوون * وجنود إبليس أجمعون} [الشعراء: 94 - 95]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- حين رجع من غزوة تبوك: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». عني به -صلى الله عليه وسلم- مجاهدة الشيطان والنفس والهوى لمداومتها وطول ممارستها وخطرها والخوف من سوء خاتمتها. * * *

مجلس آخر: في قوله -عز وجل-: {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم}

مجلس آخر: في قوله -عز وجل-: {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} [النمل: 3] اعلم أن هذه الآية الشريفة في سورة النمل، وهي مكية، وعدد آياتها ثلاث وتسعون آية، وكلماتها ألف ومائة وتسع وأربعون كلمة، وحروفها أربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون حرفًا. وذلك أن سليمان بن داود النبي الملك -عليه السلام- وعلى نبينا المصطفى وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وسائر عباد الله الصالحين وملائكته المقربين، لما خرج من وادي النمل في مسيره من بيت المقدس إلى اليمن، أخذ بالناس في مفازة فعطش الناس، فسألوه عن الماء، فتفقد الهدهد عند ذلك فسأل عنه، ودعا أمير الطيور، وهو الكركي، فسأل عنه، ولم يكن معه إلا هدهد واحد، فقال الكركي: لا أدري أين ذهب ولا استأمرني، وكان -عليه السلام- يريد الهدهد ليضع منقاره في الأرض فيخبره كم بعد الماء وقربه، وكم بينه وبين الماء من قامة أو فرسخ، وكان الهدهد مخصصًا بذلك من دون بقية الطيور، وكان إذا أريد منه ذلك ارتفع في طيران إلى الجو فينظر ذلك ثم ينقض إلى طين تلك البقعة التي فيها الماء فيضع منقاره فيها فيعرف ذلك، فتبادر الشياطين فتحفر تلك البقعة فيخرج الماء، وتتخذ الأحواض والبرك والركايا، وتملأ الروايا والقرب والظروف، وتشرب الدواب والناس والجان، ثم يرتحلون. فلما فقد الهدهد في تلك الساعة، غضب سليمان عند ذلك غضبًا شديدًا وأوعده فقال: {لأعذبنه عذابًا شديدًا} [النمل: 21] يعني لأنتفن ريشه فلا يطير مع الطيور حولًا كاملًا {أو لأذبحنه} [النمل: 21] ثم استثنى فقال: {أو ليأتيني بسلطان مبين} [النمل: 21] يقول: أو ليأتيني بعذر وحجة بينة، وكان أشد عذابه الذي يعذب به الطير لما يريد عذابه أن ينتف ريشه حتى يتركه أقرع ليس عليه ريش. قال: {فمكث غير بعيد} [النمل: 22] أي لبث غير طويل، ثم أقبل الهدهد فقيل له: إن سليمان قد أوعدك فقال: هل استثنى؟ قيل: نعم، قال: فأقبل حتى قام بين يديه وسجد، فقال: دام ملكك الدهر وعشت الأبد فجعل ينكث بمنقاره ويومئ برأسه إلى سليمان {فقال} [النمل: 22] له: {أحطت بما لم تحط به} [النمل: 22] يقول: أبلغت

وعلمت ما لم تبلغ وتعلم يقول: جئتك بأمر لم يخبرك به الجن، ولم ينصحوك فيه، ولم تعلم به الإنس {وجئتك من سبأ} [النمل: 22] يقول: من قرية سبأ {بنبأ يقين} [النمل: 22] يعني بخبر عجيب لاشك فيه، فقال له سليمان: ما هو؟ فقال: {إني وجدت امرأة تملكهم} [النمل: 23] يقال لها بلقيس بنت أبي السرح الحميرية {وأوتيت من كل شيء} [النمل: 23] يقول: وأعطيت من كل شيء في بلادها اليمن وما والاها يعني: العلم والسلطان والمال والجنود وأنواع الخيل {ولها عرش عظيم} [النمل: 23] يقول: سرير حسن، وكان طول عرشها في السماء ثلاثين ذراعًا وقيل في السماء ثمانون ذراعًا، وفي العرض ثمانون في ثمانين، مكللًا بأنواع الجواهر والدرر واللؤلؤ {وجدتها وقومها يسجدون للشمس} [النمل: 24] يقول: يصلون للشمس {من دون الله} [النمل: 24] دين المجوسية {وزين لهم الشيطان أعمالهم} [النمل: 24] يعني حسنها لهم {فصدهم عن السبيل} [النمل: 24] يعني أن الشيطان صدها وجنودها عن طريق الإسلام والهدى {فهم لا يهتدون} [النمل: 24] يقول: لا يعرفون الإسلام {ألا يسجدوا لله} [النمل: 25] يعني هلا يسجدوا لله {الذي يخرج الخبء} [النمل: 25] يعني الغيب والسر {في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون} [النمل: 25] بألسنتهم {الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} [النمل: 26] يعني بالعظيم العرش فـ {قال} [النمل: 27] سليمان للهدهد: دلنا على الماء {سننظر} [النمل: 27] فيما تقول: {أصدقت} [النمل: 27] في مقالتك {أم كنت من الكاذبين} [النمل: 27] فلما دلهم على الماء وشربوا واستكفوا دعا سليمان الهدهد وكتب معه كتابًا وختمه بخاتمه ودفعه إليه، ثم قال: {اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم} [النمل: 28] يعني أهل سبأ {ثم تول عنهم} [النمل: 28] يعني ارجع {فانظر ماذا يرجعون} [النمل: 28] يعني ماذا يردون عليك من الجواب. والذي كتب في الكتاب {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} [النمل: 30] إنه من سليمان بن داود {ألا تعلوا علي} [النمل: 31] يعني ألا تعظموا على طاعتي {وائتوني مسلمين} [النمل: 31] يعني مصالحين: فإن كنتم من الجن فقد عبدتم لي، وإن كنتم من الإنس فعليكم السمع والطاعة، قال: فانطلق الهدهد بالكتاب حتى انتهى إليها ظهيرة وهي قائلة في قصرها قد غلقت عليها الأبواب، فلا يصل إليها شيء والحرس حول قصرها، وكان لها من قومها اثنا عشر ألف مقاتل، كل واحد منهم أمير على مائة ألف مقاتل، سوى نسائهم وذراريهم، وكانت تخرج إلى قومها تقضي بينهم في أمورهم

وحوائجهم في كل جمعة يومًا، قد جعلت على عرشها أربع أعمدة من ذهب، ثم تجلس هي فيه وهي تراهم ولا يرونها فإذا أراد الرجل منها الحاجة والأمر سألها، فقام بين يديها فينكس ولا ينظر نحوها، ثم يسجد فلا يرفع رأسه، حتى تأذن له إعظامًا لها، فإذا قضت حوائجهم وأمرت بأمرها دخلت قصرها ولم يروها إلى مثل ذلك اليوم، ملكها ملك عظيم. فلما أتى الهدهد بالكتاب وجد الأبواب قد غلقت دونها، والحرس حول القصر دائر حوله، فطلب السبيل إليها حتى وصل إليها من كوة في القصر، فدخل منها من بين إلى بيت حتى انتهى إلى أقصى سبعة أبيات علا عرشها في السماء ثلاثون ذراعًا، فرآها مستلقية على عرشها نائمة، ليس عليها إلى خرقة على عورتها، وكذلك كانت تصنع إذا نامت، قال: فوضع الكتاب إلى جنبها على السرير، ثم طار فوقف في كوة ينتظرها حتى تقرأه، فمكث طويلًا وهي لا تستيقظ، فلما أبطأ عليه ذلك انحط فنقرها فاستيقظت، فنظرت فإذا هي بالكتاب إلى جنبها على السرير، فأخذته وفركت عينيها فجعلت تنظر ما حال الكتاب وكيف وصل الكتاب إليها والأبواب مغلقة، فخرجت فإذا الحرس حول القصر، فقال: هل رأيتم أحدًا دخل علي وفتح بابًا؟ قالوا: لا، ما زالت الأبواب مغلقة كما هي ونحن حول القصر نحرس، ففتحت الكتاب وقرأته وكانت كاتبة وقارئة، فإذا فيه {بسم الله الرحمن الرحيم} فلما قرأته أرسلت إلى قومها فاجتمعوا إليها و {قالت} [النمل: 29] لهم: {يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم} [النمل: 29] يعني مختومًا وحسنًا {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا علي وائتنوني مسلمين} [النمل: 30 - 31] يعني مصالحين و {قالت يا أيها الملأ افتوني في أمري} [النمل: 32] يعني أخبروني بما أريد أن أصنع في أمري {ما كنت قاطعة أمرًا} [النمل: 32] يعني عاملة {حتى تشهدون} [النمل: 32] يعني تسمعون وتحضرون المشورة فـ {قالوا نحن أولوا قوة} [النمل: 33] يعني منعة {وأولوا بأس شديد} [النمل: 33] لم يغلبنا عدو قط بالقتال والمنعة والكثرة، ولم نعط أحدًا المقادة، وأنت أعلم بأمرك، فأمرينا بأمر نتبعه، فأبوا إلا تعظيمًا لحقها، فهو قوله -عز وجل-: {والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين} [النمل: 33] به نتبع أمرك، فنطقت بعلم وحكم و {قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها} [النمل: 34] يعني خربوها {وجعلوا أعزة أهلها أذلة} [النمل: 34] يعني منعة أهلها أذلة صغيرة {وكذلك يفعلون} [النمل: 34] الملوك المحاربون، يأخذون

أموالهم ويقتلون مقاتلتهم ويسبون ذراريهم، ثم قالت: {وإني مرسلة إليهم بهدية} [النمل: 35] يعني إلى سليمان {فناظرة بم يرجع المرسلون} [النمل: 35] يعني فأنظر ماذا يردون على رسلي وماذا يخبروني عنه، قال: فأهدت إليه اثنى عشر غلامًا فيهم تأنيث، مخضبة أيديهم، قد مشطتهم وألبستهم لبس الجواري وتقدمت إليهم إذا كلموهم يردوا عليهم بكلام فيه تأنيث، وأهدت إليه اثنتي عشرة جارية فيهن غلظ، فاستأصلت رؤوسهن وأزرتهن وألبستهن النعال، وقالت لهن: إذا كلمكن سليمان فارددن له جوابًا صحيحًا، وأرسلت إليه بعود الحرج البخور وبالمسك والعنبر والحرير في الأطباق على أيدي الوصائف، وأرسلت باثنتي عشرة بختية تحلب كذا وكذا من اللبن، وأرسلت إليه بخرزتين إحداهما مثقوبة وثقبتها ملتوية، والثانية غير مثقوبة، وأرسلت بقدح ليس فيه شيء، وأرسلت إليه مع هديتها إلى سليمان امرأة، وأوصتها بأن تحفظ جميع ما يكون من أمر سليمان وكلامه حتى تخبرها به، وقالت لهم: قوموا بين يديه قيامًا ولا تجلسوا حتى يأمركم، فإنه إن كان جبارًا لم يأمركم بالجلوس فأرضيه بالمال فيسكت عنا، وإن كان حليمًا عليمًا عالمًا أمركم بالجلوس، وأمرت المرأة أن تقول له بأن يدخل في الخرزة المثقوبة خيطًا بغير علاج إنس ولا جان، وأمرتها أن تقول له أن يثقب الأخرى بغير حديد ولا علاج إنس ولا جان، وأن يميز بين الغلمان والجواري، وأمرتها أن تقول له أن يملأ القدح ماء مزيدًا رويًا، ليس من الأرض ولا من السماء، وكتبت إليه تسأله عن ألف باب من العلم. فانطلق رسلها بهديتها حتى أتوا بها إلى سليمان، فوضعوا الهدية بين يديه وقاموا على أرجلهم ولم يجلسوا، فنظر إليهم سليمان لحظًا لم يحرك يدًا ولا رجلًا ولا تهشهش لها ولم يفرح ولم يعرف الرسل ذلك فيه ولا من مقالته، ثم رفع رأسه ونظر إلى رسلها وقال: إن الله -عز وجل- رفع السماء، ووضع الأرض فمن شاء وقف ومن شاء جلس، فأذن لهم بالجلوس، قال فتقدمت المرسلة إلى سليمان وقدمت إليه الخرزتين وقالت له أن بلقيس تقول لك بأن تدخل في هذه الخرزة المثقوبة خيطًا ينفذ إلى الجانب الآخر من غير علاج إنس ولا جان وأن تثقب الخرزة الثانية ثقبًا إلى الجانب الآخر بغير حديد ولا علاج إنس ولا جان، ثم قربت إليه القدح وقالت له إنها تقول لك بأن تملأ هذا القدح ماء مزيدًا رويًا ليس من الأرض ولا من السماء، ثم قدمت الوصف والوصائف وقالت إن بلقيس تقول لك أن تميز بين الغلمان والجواري.

فعند ذلك جمع سليمان أهل مملكته، فاجتمعوا عليه، ثم أخرج الخرزتين فقال: من لي بهذه الخرزة يدخل فيها خيطًا يخرج من الجانب الآخر، فتكلمت دودة تكون في الفصفصة يعني في الأرض الرطبة وهي دودة حمراء وقالت: أيها الملك أنا لك بها على أن تجعل رزقي في الرطبة، فقال: نعم، فعلق في رأس الدودة خيطًا فدخلت في الخرزة تحكها حتى خرجت من الجانب الآخر، فجعل رزقها في الرطبة، ثم قرب الخرزة الثانية وقال: من لي يثقف هذه الخرزة بغير حديد فتكلمت دودة أخرى بين يديه وهي الأرضة، فقالت: أيها الملك أنا لك بهذه، على أن تجعل رزقي في الخشب، فقال: ذلك لك، فوقفت على الخرزة فثقبتها إلى الجانب الآخر، فجعل رزقها في الخشب، ثم قدم القدح وأمر بإحضار الخيل العراب فحضروا، فأجريت حتى إذا جهدت وسال عرقها فحينئذ ملأ القدح من العرق، وهو الماء المزيد الروي ليس هو من الأرض ولا من السماء، ثم أمر بماء فوضع بين يديه فقال للوصفاء: توضؤوا ليتميز الغلمان من الجواري. قالت: فجعلت الجواري يصببن الماء على أكفهن فجعلت إحداهن تأخذ الماء بكفها اليسرى وتفرغه على ذراعها الأيسر، ثم تتبعها كفها اليمنى فتغسلها، فتعرف عند ذلك أنها جارية، فيعزلها حتى عزل اثنتي عشرة جارية وصيفة. وأما الغلمان فجعل الوصيف يأخذ الماء بكفه اليمنى فيغسل به ذراعه اليمنى ثم يتبع بها كفه اليسرى فيعرف أنه غلام، حتى عزل اثنى عشرة غلامًا. ثم نظر إلى المسائل فأجاب عنها بألف جواب مع رسولها، ثم رد عليها هديتها، و {قال} [النمل: 36] لمرسلتها: {أتمدونني بمال فما آتاني الله} [النمل: 36] من النبوة والملك {خير مما آتاكم} [النمل: 36] من المال {بل بهديتكم تفرحون} [النمل: 36] يعني تعجبون. ثم كتب إليها كتابًا ودفعه إلى الهدهد وقال: {ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها} [النمل: 37] يعني بجموع لا قبل لهم بها {ولنخرجنهم منها أذلة} [النمل: 37] يعني من قرية سبأ أذلة صغيرة {وهم صاغرون} أذلاء. فلما أتى الهدهد بالكتاب مرة أخرى فقرأته ورجعت رسلها عنده، فقصت عليها قصة سليمان وما فعل في جميع ما أرسلت به إليه وما رد إليها من الجواب، فقالت

لقومها: هذا أمر نزل علينا من السماء، لا ينبغي منابذته ولا نطيقه، ثم عمدت إلى عرشها فجعلته في آخر سبعة أبيات، ثم أقامت عليه الحرس، ثم أقبلت إلى سليمان. قال: فرجع الهدهد إلى سليمان فأخبره أنها قد أقبلت إليه، فجمع أهل مملكته إليه ثم {قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها} [النمل: 38] يعني سريرها {قبل أن يأتوني مسلمين} [النمل: 38] يعني مصالحين، فلا يحل لنا بعد الصلح أخذه {قال} له {عفريت من الجن} [النمل: 39] يقال له عمرو وهو العفريت الشديد الغليظ من الجن {أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك} [النمل: 39] يعني من مجلسك للقضاء وهو إلى نصف النهار {وإني عليه لقوي} [النمل: 39] أي على حمله {أمين} [النمل: 39] على ما فيه من اللؤلؤ والجواهر والزمرد والذهب والفضة، وكانت قوة العفريت أنه يضع قدامه حيث ينال طرفه يعني ينتهي بصره، فقال لسليمان: أنا أضع قدمي حيث يبلغ بصري فآتيك به، فقال سليمان: أريد أعجل من ذلك فـ {قال الذي عنده علم من الكتاب} [النمل: 40] يعني اسم الله الأعظم وهو: يا حي يا قيوم {أنا} [النمل: 40] أدعو ربي فأراجع همي وأنظر كتاب ربي و {آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} [النمل: 40] وهو آصف بن برخيا بن شعياء واسم أمه باطورا، وهو من بني إسرائيل، وكان يعلم اسم الله الأعظم: {أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} يعني قبل أن يجيء إليك الشيء الذي يبلغه طرفك أي نظرك، فقال له سليمان: غلبت إن فعلت، وإن لم تفعل فضحتني بين الجن وأنا سيد الإنس والجن، وقام آصف بن برخيا فتوضأ ثم سجد لله -عز وجل- يدعو الله باسمه الأعظم وهو يقول: يا حي يا قيوم. وروي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: هو الاسم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى، وهو: يا ذا الجلال والإكرام: قال فغاب عرشها تحت الأرض حتى نبغ عند كرسي سليمان. وقيل: إنه نبغ تحت كرسي كان يضع سليمان قدميه عليه إذا جلس على كرسيه الكبير، فلما رأى العرش قد نبغ قالت الجن لسليمان: أيقدر آصف أن يجيء بالسرير ولا يجيء ببلقيس، فقال آصف لسليمان: أنا آتيك بها، قال: فأمر سليمان فبني له صرح أملس من قوارير، ثم أجري تحته الماء وألقي فيه المسك، يرى من فوق الصرح من صفائه، ثم أمر سليمان بكرسيه فوضع في وسط الصرح، وأمر بكراسي لأصحابه،

فوضعت فجلس عليه وجلس أصحابه، وكان الذين يلونه -عليه السلام- من أهل الكراسي الإنس ثم الجن ثم الشياطين، وكان هذا دأبه -عليه السلام- حتى إذا أراد أن يسير في البلاد يجلس هو على كرسيه وأولئك على كراسيهم، ثم يأمر الريح فتحملهم بين السماء والأرض، وإذا أراد أن يسير على الأرض أمر الريح فتسكن فيسير على وجه الأرض. وكان لسليمان -عليه السلام- مجلس كما هو للملوك اليوم، فلما استقر بهم المجلس أمر آصف فعاد وسجد ودعا الله -عز وجل- باسمه الأعظم وهو: يا حي يا قيوم، فإذا ببلقيس مستقرة عنده. وقيل: إن الذي عنده علم من الكتاب هو ضبة بن آد، وكان هو على خيل سليمان. وقيل: إن الذي عنده علم من الكتاب هو الخضر -عليه السلام-، {فلما رآه مستقرًا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني} [النمل: 40] يعني ليختبرني {أأشكر} على ما أعطيت من الملك {أم أكفر} [النمل: 40] بالنعمة إذا رأيت من هو دوني أفضل مني علمًا، فعزم لله -عز وجل- على الشكر وقال: {ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر} [النمل: 40] بنعمته {فإن ربي غني كريم} [النمل: 40] لا يعجل بالعقوبة. فلما سمعت الجن بذلك وقعوا في بلقيس عند سليمان ليكرهوها إليه، خافوا أن يتزوجها فتظهره على أمورهم وكانت تعلم بذلك، لأن أمها جنية، وكان اسمها عميرة بنت عمرو، وقيل: إن اسمها رواحة بنت السكن ملك الجن، فقالوا: أصلح الله الملك إن في عقلها شيئًا ورجلاها كحافر الحمار وكانت بلقيس هلباء شعراء، فلما قيل له ذلك أراد أن يروز عقلها ويرى قدميها، فمن ثمة أجرى الماء وجعل فيه الضفادع والسمك، وأمر بعرشها أن يغير فيزاد فيه، وينقص منه ليروز عقلها فذلك قوله تعالى: {قال نكروا لها عرشها} [النمل: 41] يعني غيروا لها سريرها {ننظر أتهتدي} [النمل: 41] يعني أتعرفه {أم تكون من الذين لا يهتدون} [النمل: 41] يعني الذين لا يعرفون، فأقبلت حتى انتهت إلى الصرح فـ {قيل لها ادخلي الصرح} [النمل: 44] يعني القصر، وقيل الصرح: هو البيت بلغة حمير {فلما رأته حسبته لجة} [النمل: 44] يعني ماء غمرًا، فقالت في نفسها إنما أراد أن يغرقني كان غير هذا أحسن من ذا؟ {وكشفت عن ساقيها} [النمل: 44] فإذا ساقان شعراوان، وإنما هي من أحسن الناس وأبعد مما قيل له فيها، فقيل

(فصل) وإنما استوفيت هذه القصة

لها: {إنه صرح ممرد} [النمل: 44] يعني قصرًا أملس لا شعث فيه كالأمرد الذي لا شعر في وجهه، كان ملزق بعضه ببعض اتخذ بلاطه من القوارير، قال: فمضت نحو سليمان وقد أبصر قدميها وأبصر الشعر الذي على ساقها مهدبًا. قال فأعجبه ما رأى عجبًا شديدًا {فلما جاءت} [النمل: 42] إلى سليمان فـ {قيل} [النمل: 42] لها {أهكذا عرشك} [النمل: 42] فنظرت إليه فجعلت تعرف وتنكر فقالت في نفسها: من أين تخلص إلى ذلك السرير الذي هو داخل سبعة أبيات والحرس حوله، فلم تعرف ولم تنكر فـ {قالت كأنه هو} [النمل: 42] فقال سليمان: {وأوتينا العلم من قبلها} [النمل: 42] يعني من قبل بلقيس، وكانت مجوسية {وكنا مسلمين} [النمل: 42] من قبلها فـ {قالت} حينئذ {رب إني ظلمت نفسي} [النمل: 44] يعني في الظن الذي ظننت بسليمان أنه أراد أن يغرقني، وقيل: ظلمت نفسي يعني ضررت نفسي بعبادة الشمس {وأسلمت مع سليمان} [النمل: 44] يعني وأطعت الله مع سليمان، ويقال: أخلصت مع سليمان {لله رب العالمين} [النمل: 44] في العبادة فأسلمت {وصدها} [النمل: 43] يعني أن سليمان صدها عن {ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين} [النمل: 43] فتزوج بها سليمان، فأمر بالنورة فاتخذت فتنور سليمان وبلقيس، وهو أول من اتخذ النورة، قال: فسألها سليمان عن أشياء وهي سألته، ودخل بها سليمان، فولدت له غلامًا فسماه داود، ومات في حياته، ثم مات سليمان وماتت بلقيس بعده بشهر. وقيل: إن سليمان أعطاها قرية بالشام، فكانت تأخذ خراجها حتى ماتت. وقيل: إن سليمان لما دخل بها سرحها في جنوده، وردها إلى ملكها وكان يأتيها في كل شهر مرة، فيركب من بيت المقدس إلى اليمن على ما تقدم ذكره. (فصل) وإنما استوفيت هذه القصة في هذا المجلس لما فيها من العبرة لكل مؤمن عاقل ناظر في العواقب معتبر في سير السلف الصالح والطالح، وقدرة الله -عز وجل- النافذة في الأمم الماضية الخالية، وكرامته لأهل الطاعة وتسخيره أهل معصيته لهم وإعطائه مقادتهم وإذلالهم وتمليكه الخلق لأهل ولايته ومحبته، لما أطاع سيلمان ربه -عز وجل- كيف ملكه بلقيس وملكها، وقد كان في أهل مملكتها اثنا عشر ألف مقاتل، كل واحد منهم أمير على مائة ألف منهم، وجند سليمان يحتوي على أربعمائة ألف، مائتا

ألف من إنس ومائتا ألف من الجن، والتفاوت ما بين الجندين ظاهر. فهذا ملك لطاعته، وهذه ملكت لكفرها ومعصيتها. الإسلام يعلو ولا يعلى عليه {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا} [النساء: 141]. وكذلك أنت يا موفق إذا آمنت أمنت من أعدائك في الدنيا، ومن نار الله الموقدة التي في العقبى، تخدمك النار وتطرق بين يديك، وترشدك الطريق مكرمة لك ومعظمة وطائعة لأمر مولاها وممتثلة له، فتقول لك: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي. (عبارة لطيفة) أي أنك مكرم منور، خلعة الملك عليك، علامته الوقار عليك، فعلى الحواشي والعبيد تعظيمك وتوقيرك وخدمتك. وأما الكافر والعاصي، فتتغيظ النار عليه وتنتقم منه انتقام الجبار من عدوه عند ظفره به، كما قال -عز وجل-: {إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظًا وزفيرًا} [الفرقان: 12]. فإن أردت العزة في الدنيا والآخرة، فعليك بطاعة الله والصبر عن معصية الله، تجدها برحمة الله تعالى، قال الله -عز وجل-: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعًا} [فاطر: 10]، وقال تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} [المنافقون: 8]. فنفاقك يا مدعي الإيمان، وشركك يا مدعي الإخلاص حجباك عن رؤية عزة الجبار ونبيه المختار والمؤمنين الأخيار. فلو كنت عاملًا بموجب الإيمان موقنًا بشرائط الإتقان، لأمنت في الدنيا من كل مؤذ وكل شيطان من الإنس والجان، وفي الآخرة من عذاب النيران، وكانت النصرة لك ولأعدائك الهوان، قال الله -عز وجل-: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} [محمد: 7]، وقال تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم} [محمد: 35] ولكن الغفلة قد تكاثفت على قلبك وتراكم الرين عليه، وترادف السواد والظلمة لديه، فيالها من حسرة وندامة {يوم تبلى السرائر} [الطارق: 9] في يوم القيامة، يوم الحاقة، يوم الطامة الكبرى، يوم القارعة، يوم الصاخة {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} [الحاقة: 18]، {يومئذ يصدر الناس أشتاتًا ليروا أعمالهم * فمن يعمل

(فصل) في فضل {بسم الله الرحمن الرحيم}

مثقال ذرة خيرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره} [الزلزلة: 6 - 8]. قيل: إن الذرة هي قشرة الهباء الذي يظهر في شعاع الشمس مثل رؤوس الإبر، وقيل: أربع ذرات مثقال خردلة، وقيل: هي النملة الحمراء الصغيرة التي لا تكاد ترى إذا دبت، وقيل: إن الذرة جزء من ألف جزء من شعيرة. وقال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: إذا وضعت كفك على التراب ثم رفعتها، فكل شيء يعلق بها من التراب فهو ذرة. فأين أنت من يوم توزن فيه الأعمال بهذه الزنة تثقل وتخف بهذه الخفة، ويوم يقول الله تعالى فيه: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدًا * ونسوق المجرمين إلى جهنم وردًا} [مريم: 85 - 86] أي عطاشًا. وحينئذ ينكشف الغطاء ويظهر المخبأ، ويمتاز المؤمن من الكافر، والصديق من المنافق، والموحد من المشرك، والولي من العدو، والمحق من المدعي. فاحذر يا مسكين من هول ذلك اليوم، وانظر من أي الحزبين تكون؟ فإن أنت عملت لله العظيم واتقيت في عملك الخبير وصفيته عما يسوء للناقد البصير، فأنت في حزب المتقين الوافدين على الرحمن في يوم النشور. فلك الكرامة يا كريم، ولك السلامة والبشرى يا حكيم. وإن كان غير ذلك فاعلم أنك بالحزب الآخر لاحق وهالك، مع من هو هالك في النار مع فرعون وهامان وقارون متلاحق، قال الله -عز وجل-: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا} [الكهف: 110] فلا ينجيك في ذلك اليوم غير العمل الصالح. (فصل) في فضل {بسم الله الرحمن الرحيم} عن عطاء بن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: «لما نزلت {بسم الله الرحمن الرحيم} هرب الغيم إلى الشرق، وسكنت الرياح وهاج البحر، وأصغت البهائم بآذانها ورجمت الشياطين من السماء، وحلف الله -عز وجل- بعزته لا يسمى اسمه على شيء إلا شفاه، ولا يسمى اسمه على شيء إلى بارك فيه، ومن قرأ {بسم الله الرحمن الرحيم} دخل الجنة».

(فصل آخر): في فضل {بسم الله الرحمن الرحيم}

وعن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: «من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسع عشرة فليقل: {بسم الله الرحمن الرحيم} فإنها تسعة عشر حرفًا، ليجعل الله تعالى كل حرف منها جنة من واحد منهم». وعن طاوس عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- «سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن {بسم الله الرحمن الرحيم} قال: فقال: هو اسم من أسماء الله -عز وجل- وما بينه وبين اسم الله الأعظم إلا كما بين سواد العين وبياضها من القرب». وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من رفع قرطاسًا من الأرض فيه {بسم الله الرحمن الرحيم} إجلالًا لله أن يداس، كتب عند الله من الصديقين، وخفف عن والديه وإن كانا مشركين». يعني العذاب. وقيل: «لم يرن إبليس اللعين مثل ثلاث رنات قط: رنة حين لعن وأخرج من ملكوت السماء، ورنة حين ولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ورنة حين أنزلت فاتحة الكتاب لكون {بسم الله الرحمن الرحيم} فيها». وعن سالم بن أبي الجعد أن عليًا -رضي الله عنه- قال: «لما أنزلت {بسم الله الرحمن الرحيم} قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أول ما أنزلت هذه الآية على آدم، فقال: أمن ذريتي من العذاب ما داموا على قراءتها، ثم رفعت فأنزلت على إبراهيم الخليل فتلاها وهو في كفة المنجنيق فجعل الله عليه النار بردًا وسلامًا، ثم رفعت بعده، فما أنزلت إلا على سليمان وعندها قالت له الملائكة: الآن تم والله ملكك، ثم رفعت فأنزلها الله -عز وجل- علي، ثم تأتي أمتي يوم القيامة وهم يقولون: {بسم الله الرحمن الرحيم}، فإذا وضعت أعمالهم في الميزان رجحت حسناتهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اكتبوها في كتبكم فإذا كتبتموها فتكلموا بها». (فصل آخر): في فضل {بسم الله الرحمن الرحيم} عن عكرمة -رحمه الله- أنه قال: أول ما خلق الله اللوح والقلم، أمر الله القلم فجرى

على اللوح بما هو كائن إلى يوم القيامة، فأول ما كتب على اللوح: {بسم الله الرحمن الرحيم}، فجعل الله هذه الآية أمانًا لخلقه ما داموا على قراءتها، وهي قراءة أهل سبع سموات، وأهل الصفح الأعلى وأهل سرادقات المجد والكروبيين، والصافين، والمسبحين، فأول ما أنزلت على آدم -عليه السلام-، فقال: قد أمن ذريتي من العذاب ما داموا على قراءتها، ثم رفعت بعده فأنزلت على إبراهيم الخليل -عليه السلام- في سورة الحمد فتلاها وهو في كفة المنجنيق، فجعل الله النار عليه بردًا وسلامًا، ثم رفعت بعده فأنزلت على موسى -عليه السلام- في الصحف، فبها قهر فرعون وسحرته وهامان وجنوده وقارون وأتباعه، ثم رفعت بعده فأنزلت على سليمان بن داود عليهما السلام، فعندها قالت الملائكة: اليوم والله تم ملكك يا ابن داود، فلم يقرأها سليمان على شيء إلا خضع له، وأمره الله يوم أنزلها عليه أن ينادي في أسباط بني إسرائيل، ألا من أحب منكم أن يسمع آية أمان الله فليحضر إلى سليمان في محراب داود -عليه السلام-، فإنه يريد أن يقوم خطيبًا، فلم يبق محبوس نفسه في العبادة ولا سائح إلا هرول إليه، حتى اجتمعت الأحبار والعباد والزهاد والأسباط كلها عنده، فقام فرقى منبر الخليل إبراهيم وتلا عليهم آية الأمان: {بسم الله الرحمن الرحيم} فلم يسمعها أحد إلا امتلأ فرحًا، وقالوا: نشهد أنك لرسول الله حقًا، فبها قهر سليمان ملوك الأرض، وبها افتتح لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- مكة، ثم رفعت بعد سليمان فأنزلت على المسيح عيسى ابن مريم -عليه السلام-، ففرح بها واستبشر بها الحواريون، فأوحى الله تعالى إليه: يا ابن العذراء البتول أتدري أي آية أنزلت عليك؟ إنها آية الأمان، قوله: {بسم الله الرحمن الرحيم} فأكثر تلاوتها في قيامك وقعودك ومضجعك ومجيئك وذهابك وصعودك وهبوطك، فإنه من وافى بها يوم القيامة وفي صحيفته {بسم الله الرحمن الرحيم} ثمانمائة مرة وكان مؤمنًا بي وبربوبيتي أعتقته من النار، وأدخلته الجنة، فتلكن افتتاح قراءتك وصلاتك، فإن من جعلها في افتتاح قراءته وصلاته إذا مات على ذلك لم يرعه منكر ونكير، وهون عليه سكرات لموت وضغطة القبر، وكانت رحمتي عليه، وأفسح له في قبره، وأنور له في قبره، وأنور له فيه مد بصره، وأخرجه من قبره أبيض الجسم وأنور الوجه، يتلألأ نوره، وأحاسبه حسابًا يسيرًا، وأثقل موازينه، وأعطيه النور التام على الصراط حتى يدخل الجنة، وآمر المنادي أن ينادي به في عرصات القيامة بالسعادة والمغفرة. قال عيسى -عليه السلام-: اللهم يارب فهذا لي خاصة؟ فقال: لك خاصة ولمن تبعك

(فصل) في تفسير قوله: {بسم الله الرحمن الرحيم}

وأخذ أخذك وقال بقولك، وهو لأحمد وأمته من بعدك. وأخبر عيسى -عليه السلام- بذلك أتباعه فقال: {ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف: 6] من صفته ونعته وفضله كيت وكيت، وأخذ ميثاقهم بالإيمان به، وجدد شأنه عندما رفعه الله تعالى إلى السماء لأصحابه، فلما انقرض الحواريون ومن اتبعه وجاء الآخرون، فضلوا وأضلوا، وبدلوا واستبدلوا بالدين دنياهم، فرفعت عندها آية الأمان من صدور النصارى، وبقيت في صدور مسلمي أهل الإنجيل مثل بحيرا الراهب وأمثاله، حتى بعث الله النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزلت عليه في سورة الحمد بمكة، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكتبت تلك على رؤوس السور وصدور الرسائل والدفاتر، فكان نزول هذه الآية على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتحًا مبينًا، وحلف رب العزة بعزته ألا يسمي مؤمن موقن على شيء إلا باركت لفه فيه، ولا يقرؤه مؤمن إلا قالت الجنة له: لبيك وسعديك اللهم أدخل عبدك هذا في {بسم الله الرحمن الرحيم}، فإذا دعت الجنة لعبد فقد استوجب له دخولها. وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا يرد دعاء أوله {بسم الله الرحمن الرحيم}». قال: «وإن أمتي يأتون يوم القيامة وهم يقولون {بسم الله الرحمن الرحيم}، فتثقل حسناتهم في الميزان، فتقول الأمم: ما أرجح موازين أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- فتقول الأنبياء لهم: لأن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- مبتدأ كلامهم ثلاثة أسماء من أسماء الله تعالى الكرام، لو وضعت في كفة الميزان ووضعت سيئات الخلق جميعًا في الكفة الأخرى لرجحت حسناتهم». قال: وجعل الله تعالى هذه الآية شفاء من كل داء، وعونًا لكل دواء، وغنى من كل فقر، وسترًا من النار، وأمانًا من الخسف والمسخ والقذف ما داموا على قراءتها». (فصل) في تفسير قوله: {بسم الله الرحمن الرحيم} قوله -عز وجل-: {بسم الله} روي عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن عيسى -عليه السلام- أرسلته أمه -رضي الله عنها- إلى الكتاب ليتعلم، فقال له المعلم: قل {بسم الله الرحمن الرحيم} فقال عيسى -عليه السلام-: وما بسم الله؟ قال: لا أدري، قال: الباء: بهاء الله، والسين: سناء الله، والميم: مملكته}.

وقال أبو بكر الوراق، بسم الله: روضة من رياض الجنة لكل حرف منها تفسير على حدة. فالباء على ستة أوجه: - بارئ خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه {الخالق البارئ} [الحشر: 24]. - بصير بخلقه من العرش إلى الثرى، بيانه {والله بصير بما تعلمون} [الحجرات: 18]. - باسط رزق خلقه من العرض إلى الثرى، بيانه {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} [الرعد: 26]. - باق بعد فناء خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه {كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [الرحمن: 26 - 27]. - باعث الخلق بعد الموت من العرش إلى الثرى للثواب والعقاب، بيانه {وأن الله يبعث من في القبور} [الحج: 7]. - بار بالمؤمنين من العرش إلى الثرى، بيانه {هو البر الرحيم} [الطور: 28]. والسين على خمسة أوجه: - سميع لأصوات خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم} [الزخرف: 80]. - سيد قد انتهى سؤدده من العرش إلى الثرى، بيانه {الله الصمد} [الإخلاص: 2]. - سريع الحساب مع خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه {والله سريع الحساب} [النور: 39]. - سلام سلم خلقه من ظلمه من العرش إلى الثرى، بيانه {السلام المؤمن} [الحشر: 23]. - ساتر ذنوب عباده من العرش إلى الثرى، بيانه {غافر الذنب وقابل التوب} [غافر: 3]. والميم: على اثنى عشر وجهًا: - ملك الخلق من العرش إلى الثرى، بيانه {الملك القدوس} [الحشر: 23]. - مالك خلقه من العرش إلى الثرى بيانه {قل اللهم مالك الملك} [آل عمران: 26].

(فصل) اعلم أن الناس اختلفوا في هذا الاسم

- منان على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه {بل الله يمن عليكم} [الحجرات: 17]. - مجيد على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه {ذو العرش المجيد} [البروج: 15]. - مؤمن آمن خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه {وآمنهم من خوف} [قريش: 4]. - مهيمن اطلع على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه {المؤمن المهيمن} [الحشر: 23]. - مقتدر على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} [القمر: 55]. - مقيت على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه {وكان الله على كل شيء مقيتًا} [النساء: 85]. - مكرم أولياءه من العرش إلى الثرى، بيانه {ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء: 70]. - منعم على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة} [لقمان: 20]. - متفضل على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه {إن الله لذو فضل على الناس} [البقرة: 243]. - مصور خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه {الخالق البارئ المصور} [الحشر: 24]. وقال أهل الحقائق: وإنما المعنى في {بسم الله الرحمن الرحيم}: التيمن والتبرك وحث الناس على الابتداء في أقوالهم وأفعالهم ببسم الله كما افتتح الله سبحانه وتعالى كتابه العزيز به. (فصل) اعلم أن الناس اختلفوا في هذا الاسم: فقال الخليل بن أحمد وجماعة من أهل العربية: أنه اسم موضوع لله -عز وجل- لا يشاركه فيه أحد، قال الله تعالى: {هل تعلم له سميًا} [مريم: 65]. يعني أن كل اسم لله تعالى مشترك بينه وبين غيره، له على الحقيقة ولغيره على المجاز إلا هذا الاسم فإنه مختص به، فيه معنى الربوبية والمعاني كلها تحته، ألا ترى أنك إذا أسقطت منه الألف بقى لله، وإذا أسقطت من لله اللام الأولى بقى له، وإذا أسقطت من له اللام بقى هو. واختلفوا في اشتقاقه: فقال النضر بن شميل: هو من التأله، وهو التنسك والتعبد، يقال أله إلهة: أي

عبد عبادة. وقال آخرون: هو من الإله، وهو الاعتماد، يقال: ألهت إلى فلان إلهًا: أي فزعت إليه واعتمدت عليه. ومعناه: أن الخلق يفزعون ويتضرعون إليه في الحوادث والحوائج، فهو يألههم: أي يجبرهم، فسمى إلهًا -كما يقال: إمام للذي يؤتم به- فالعباد يؤلهون إليه: أي مضطرون إليه في المنافع والمضار، كالواله المضطر المغلوب. وقال أبو عمرو بن العلاء: هو من ألهت في الشيء: إذا تحيرت فيه فلم تهتد إليه. ومعناه: أن العقول تتحير في كنه صنعته وعظمته والإحاطة بكيفيته، فهو إله كما يقال: للمكتوب كتاب، وللمحسوب حساب، وقال المبرد: هو من قول العرب: ألهت إلا فلان: أي سكنت إليه، فكان الخلق يسكنون ويطمئنون بذكره. قال الله -عز وجل-: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد: 28]. وقيل: أصله من الوله، وهو ذهاب العقل لفقدان من يعز عليه، فكأنه سمي بذلك لأن القلوب توله بمحبته وتطرب وتشتاق عند ذكره. وقيل: معناه المحتجب لأن العرب إذا عرفت شيئًا ثم حجب عن أبصارها سمته لاهًا، يقال: لاهت العروس تلوه لوهًا: إذا احتجبت، فالله تعالى هو الظاهر بالربوبية بالدلائل والأعلام، والمحتجب من جهة الكيفية عن الأوهام. وقيل: معناه المتعالي، يقال لاه: أي ارتفع، ومنه قيل للشمس إلاهة. وقيل: معناه القدرة على الاختراع، وقيل: معناه السيد. {الرحمن الرحيم} قد قال قوم: هما بمعنى واحد، وهو ذو الرحمة، وهما من صفات الذات. وقيل: هما بمعنى ترك عقوبة من يستحق العقوبة، وإسداء الخير إلى من لا يستحقه، وهما من صفات الفعل. وفرق الآخرون بينهما فقالوا: الرحمن: للمبالغة، فمعناه: الذي وسعت رحمته كل شيء، والرحيم دون ذلك في الرتبة. وقال بعضهم: الرحمن: العاطف على جميع خلقه مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم بأن خلقهم ورزقهم، قال الله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف: 156]،

والرحيم: بالمؤمنين خاصة بالهداية والتوفيق في الدنيا وبالجنة والرؤية في الآخرة، قال الله تعالى: {وكان بالمؤمنين رحيمًا} [الأحزاب: 43]. فالرحمن خاص اللفظ عام المعنى، والرحيم عام اللفظ خاص المعنى، فالرحمن خاص من حيث أنه لا يجوز أن يسمى به أحد غير الله، عام من حيث أنه يشمل جميع الموجودات من طريق الخلق والرزق والنفع والدفع، والرحيم عام من حيث اشتراك المخلوقين في المسمى به خاص من طريق المعنى، لأنه يرجع إلى اللطف والتوفيق. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: هما اسمان دقيقان أحدهما أدق من الآخر. وقال مجاهد -رحمه الله-: الرحمن بأهل الدنيا الرحيم بأهل الآخرة. وفي الدعاء: يا رحمن الدنيا يا رحيم الآخرة. وقال الضحاك -رحمه الله-: الرحمن بأهل السماء حيث أسكنهم السموات وطوقهم الطاعات، وجنبهم الآفات، وقطع عنهم المطامع واللذات، والرحيم بأهل الأرض حيث أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب. وقال عكرمة -رحمه الله-: الرحمن برحمة واحدة، والرحيم بمائة رحمة. وروى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن لله -عز وجل- مائة رحمة، وأنه أنزل منها رحمة واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه، فبها يتعاطفون وبها يتراحمون، وأخر تسعة وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة». وفي لفظ آخر: «وإن الله تعالى قابض هذه إلى تلك فيكملها مائة ويرحم بها عباده يوم القيامة». الرحمن الذي إذا سئل أعطى، والرحيم الذي إذا لم يسأل غضب. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «من لا يسأل الله يغضب عليه». وقال الشاعر: الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب

(فصل) قل بسم الله تجد عفو ال

الرحمن بالنعماء وهي ما أعطى وحبا، الرحيم بالآلام، وهي ما صرف وزوى. الرحمن بالإنقاذ من النيران كما قال جل من قائل: {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} [آل عمران: 103]، والرحيم بإدخال الجنان كما قال: {ادخلوها بسلام آمنين} [الحجر: 46]. الرحمن برحمة النفوس، والرحيم برحمة القلوب. الرحمن بكشف الكروب، والرحيم بغفران الذنوب. الرحمن بتبيين الطريق، والرحيم بالعصمة والتوفيق. الرحمن بغفران السيئات، وإن كن عظيمات، والرحيم بقبول الطاعات، وإن كن غير صافيات. الرحمن بمصالح معاشهم، الرحيم بمصالح معادهم. الرحمن الذي يرحم ويقدر على كشف الضر ودفع الشر، الرحيم يرزق ويطعم ولا يطعم {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} [الذاريات: 58]. الرحمن بمن جحده، الرحيم بمن وحده. الرحمن بمن كفره، والرحيم بمن شكره. الرحمن بمن قال ند، والرحيم بمن قال فرد. (فصل) قل بسم الله تجد عفو الله، هذا سماعك من القارئ، فكيف سماعك من البارئ، فهذا سماعك والغم باق، فكيف سماعك والرب ساق، هذا سماعك بواسطة، فكيف سماعك بلا واسطة، هذا سماعك في دار الغرور، فكيف سماعك في دار السرور، هذا سماعك في جوار الشيطان، فكيف سماعك في جوار الرحمن، هذا سماعك من عبد ذليل، فكيف سماعك من الملك الجليل، هذه لذة الخبر، فكيف لذة النظر، هذه لذة المجاهدة، فكيف لذة المشاهدة، هذه لذة البيان، فكيف لذة العيان، هذه لذة المغايبة، فكيف لذة المعاينة. (فصل) قل بسم الله الذي تعالى عن الأضداد، بسم الله الذي تنزه عن الأنداد، بسم الله الذي تقدس عن اتخاذ الأولاد، بسم الله الذي نور الأنوار، بسم الله الذي أكرم الأبرار، بسم الله الذي قدر الأقدار، ونور القلوب والأبصار، بسم الله الذي تجلى لقلوب الأبرار في أوقات الأسحار، بسم الله الذي علم الأحباب الأسرار، فغمرها

(فصل) بسم الله للذاكرين ذخر وللأقوياء عز .. إلخ

بالأنوار واستودعها الأسرار، وأزاح عنها الأخطار، وحفظها من رق الأغيار، وحط عنها الأثقال والأغلال والآصال والأوزار، إذ كان موصوفًا في الأزل بالإحسان والإفصال وغفران الذنوب لأهل الاستغفار. قل بسم الله، اسم الذي أجرى الأنهار وأنبت الأشجار، اسم من عمر البلاد بأهل الطاعة من العباد، فجعلهم لها أوتادًا كالجبال فصارت الأرض بهم لمن عليها كالمهاد، فهم الأربعون الأخيار من الأبدال، المنزهون الرب عن الشركاء والأنداد وملوك في الدنيا وشفعاء الأنام يوم التناد، إذ خلقهم ربي مصلحة للعالم ورحمة للعباد. (فصل) بسم الله للذاكرين ذخر وللأقوياء عز وللضعفاء حرز وللمحبين نور وللمشتاقين سرور، بسم الله راحة الأرواح، بسم الله نجاة الأشباح، بسم الله نور الصدور، بسم الله نظام الأمور، بسم الله تاج الواثقين، بسم الله سراج الواصلين، بسم الله مغني العاشقين، بسم الله اسم من أعز عبادًا وأذل عبادًا، بسم الله اسم من جعل النار لأعدائه مرصادًا، وجعل الرؤية لأحبائه ميعادًا، بسم الله اسم الواحد بلا عدد، بسم الله اسم الباقي بلا أحد، بسم الله اسم القائم بلا عمد، بسم الله افتتاح كل سورة، اسم من طابت به الخلوات، اسم من به تمت الصلوات، اسم من به حسنت الظنون، اسم من سهرت له العيون، اسم من إذا قال للشيء كن فيكون، اسم من تنزه عن المساس، اسم من استغنى عن الإيناس، اسم من جل عن القياس. قل بسم الله حرفًا حرفًا، تأخذ الأجر ألفًا ألفًا، وتحط عنك الأوزار جرفًا جرفًا، من قالها بلسانه شهد الدنيا، ومن قالها بقلبه شهد العقبى، ومن قالها بسره شهد المولى. بسم الله كلمة طاب بها الفم، بسم الله كلمة لا يبقى معها الغم، كلمة تمت بها النعمة، كلمة كشفت بها النقمة، كلمة خصت بها هذه الأمة، كلمة جمعت بين جلال وجمال، فقوله بسم الله جلال في جلال، وقوله الرحمن الرحيم جمال في جمال، فمن شهد جلاله طاش، ومن شهد جماله عاش، كلمة جمعت بين قدرة ورحمة، فالقدرة جمعت طاعات المطيعين، والرحمة محقت ذنوب المذنبين. (فصل) قل بسم الله، فكأنه يقول بي وصل من وصل إلى الطاعات، ثم بنور الطاعات وصل إلى العيان، ثم استغنى بالعيان عن البيان، فصار قلبه وعاء للأسرار وعلم الأديان، ومن وصل إلى الحبيب نجا من النحيب، ومن وصل إلى النظر استغنى

(فصل) قل بسم الله

عن الخبر، ومن وصل إلى الصمد نجا من الكمد، ومن وصل إلى الرفاق نجا من الفراق، ومن وصل إلى ذي المجد سلم من الوجد، ومن وصل إلى اللقاء أمن من الشقاء. (فصل) قل بسم الله، فالباء: بارئ البرايا، والسين: ستار الخطايا، والميم: المنان بالعطايا. وقيل: إن الباء برئ من الأولاد، والسين: سميع الأصوات، والميم، مجيب الدعوات. وقيل: اطعموا فإني مطعمكم، واسقوا فإني ساقيكم، وانظروا إلي فإني باقيكم. وقيل: الباء: بكاء التائبين، والسين: سجود العابدين، والميم: معذرة المذنبين. وقيل: الله كاشف البلايا، الرحمن معطي العطايا، الرحيم غافر الخطايا، الله للعارفين، الرحمن للعابدين، الرحيم للمذنبين، الله الذي خلقكم وهو أحسن الخالقين، الرحمن الذي رزقكم وهو خير الرازقين، الرحيم الذي يغفر لكم وهو خير الغافرين. وقيل: الله بإسباغ النعم، الرحمن الرحيم بالجود والكرم، الله بإخراجنا من البطون، الرحمن بإخراجنا من القبور، الرحيم بإخراجنا من الظلمات إلى النور. (فصل) رحم الله من خالف الشيطان، وجانب العصيان، واتقى النيران، وأكثر الإحسان، وأدام ذكر الرحمن، فقال: بسم الله. رحم الله من اعتصم بالله، وأناب إلى الله، وتوكل على الله، واشتغل بذكر الله، فقال: بسم الله. رحم الله من زهد في الدنيا، ورغب في العقبى، وصبر على العطبى وشكر على النعمى، واشتغل بذكر المولى، فقال: بسم الله. طوبي لعبد اجتنب الطاغوت، وقنع من الدنيا بالقوت، واشتغل بذكر الحي الذي لا يموت، فيقول: بسم الله. * * *

مجلس: في قوله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}

مجلس: في قوله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} [النور: 31] هذا خطاب للعموم بالتوبة. وحقيقة التوبة في اللغة: الرجوع، يقال: تاب فلان من كذا: أي رجع عنه، فالتوبة هي الرجوع عما كان مذمومًا في الشرع إلى ما هو محمود في الشرع. والعلم بأن الذنوب والمعاصي مهلكات مبعدات من الله -عز وجل- ومن جنته، وتركها مقرب إلى الله -عز وجل- وجنته، فكأنه -عز وجل- يقول: ارجعوا إلي من هوى نفوسكم ووقوفكم مع شهواتكم عسى أن تظفروا ببغيتكم عندي في المعاد، وتبقوا في نعيمي في دار البقاء والقرار، وتفلحوا وتفوزوا وتنجوا وتدخلوا برحمتي الجنة العليا المعدة للأبرار، وخاطبهم أيضًا بخطاب الخصوص والاقتضاء فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحًا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار} [التحريم: 8] ومعنى النصوح الخالص لله تعالى الخالي عن الشوائب، مأخوذ من النصاح وهو الخيط. وهو توبة مجردة لا تتعلق بشي، ولا يتعلق بها شيء، يكون العبد معها مستقيمًا على الطاعة غير مائل إلى المعصية، لا يروغ كما يروغ الثعلب، ولا يحدث نفسه بعود إلى معصية، ولا ذنب من الذنوب، وأن يترك الذنب لله خالصًا كما ارتكبه للهوى خالصًا حتى يختم له بحسن الخاتمة. فالتوبة من سائر الذنوب واجبة بإجماع الأمة، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى التائبين في غير موضع، قال عز من قائل: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} [البقرة: 222] فذكر أنه يحبهم لتوبتهم وتطهرهم من الذنوب المبعدة عنه -عز وجل-، وقال في موضع آخر: {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الأمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين} [التوبة: 112] فذكر اسمًا معرفًا يعني التائبون ثم وصفه بهذه الأوصاف الحميدة، فعلم أن التائب من هذه صفته، فإذا

(فصل) والذي عنه التوبة

اتصف بها استحق البشارة واسم الإيمان بقوله: {وبشر المؤمنين} [التوبة: 112]. (فصل) والذي عنه التوبة من الذنوب كبائر وصغائر: أما الكبائر: فقد اختلف فيها العلماء، فقيل: هي ثلاث، وقيل أربع، وقيل سبع، وقيل تسع، وقيل إحدى عشرة. وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- إذا بلغه قول ابن عمر -رضي الله عنهما-: الكبائر سبع يقول: هي إلى سبعين أقرب منها إلى سبعة. وكان يقول: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة. وقيل: إنها مبهمة لا يعرف عددها كليلة القدر وساعة يوم الجمعة، ليعظم جد الناس في طلبها، فكذلك الكبائر ليشتد حذر الناس في ترك الذنوب كلها. وقيل: كل ما أوعد الله عليه بالنار فهو كبيرة. وقيل: كل ما أوجب الحد في الدنيا فهو كبيرة. وقد جمعها بعض العلماء بالله -عز وجل- فقال: هي سبع عشرة: أربع في القلب وهي: الشرك بالله، والإصرار على معصية الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله. وأربع في اللسان وهي: شهادة الزور، وقذف المحصن، واليمين الغموس وهي التي يحق بها باطل ويبطل بها حق أو يقطع بها مال امرئ مسلم باطلًا ولو سواكًا من أراك، والسحر. وثلاث في البطن وهي: شرب الخمر والمسكر من كل شراب، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا وهو يعلم به. واثنتان في الفرج وهما: الزنا واللواطة. واثنتان في اليدين هما: القتل، والسرقة. وواحدة في الرجلين وهي: الفرار من الزحف، الواحد من الاثنين، والعشرة من العشرين، والمائة من المائتين. وواحدة في جميع الجسد كله وهي: عقوق الوالدين، وهو ألا تبر قسمهما إذا أقسما عليك، وأن تضربهما إذا سباك، وألا تعطيهما إذا سألاك، وألا تطعمهما إذا جاعا واستطعماك.

(فصل) وأما الصغائر

(فصل) وأما الصغائر فأكثر من أن تحصى، ولا سبيل إلى تحقيق معرفتها وبيان حصرها، لكنا نعلم ذلك بشواهد الشرع وأنوار البصائر، فإن مقصود الشرع سباق الخلق إلى الله -عز وجل- وقربه وجواره بترك الذنوب، كما قال تعالى: {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} [الأنعام: 120]. ومنها النظر إلى مستحسن والقبلة له والمضاجعة معه من غير جماع، والسب لأخيه المسلم والشتم له دون القذف والضرب له، والغيبة والنميمة والكذب، وغير ذلك مما يطول شرحه. فإذا تاب المؤمن من الكبائر اندرجت الصغائر في ضمنها لقوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء: 31] ولكن لا يطمع نفسه في ذلك، بل يجتهد في التوبة عن جميع الذنوب كبيرها وصغيرها، كما قال الشاعر: خل الذنوب كبيرها وصغيرها ... فهو التقي لمن استقام وشمرا واصنع كماش فوق أرض الشوك يسـ ... لك ما خلا حتى يحاذر ما يرى لا تحقرن صغيرة في نفسها ... إن الجبال من الحصى لم تحقرا وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: «نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بواد هو وأصحابه ليس فيه حطب ولا شيء يرونه، فأمرهم أن يحتطبوا، فقالوا: يا رسول الله ما نرى حطبًا، قال: لا تحقروا شيئًا تأخذونه، فجعل الرجل يجمع الشيء بعضه إلى بعض حتى جمعوا سوادًا عظيمًا، فقال لأصحابه، ألا ترون، هكذا تكون المحقرات من خير وشر، حتى الذنب الصغير إلى الصغير، والكبير إلى الكبير، والخير إلى الخير، والشر إلى الشر». وقيل: إن الذنب إذا صغر عند العبد عظم عند الله تعالى، فإذا استعظمه العبد صغر عند الله تعالى، فإنما يستعظم الذنب الصغير العبد المؤمن لعظم إيمانه ونمو معرفته، كما جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب طائر على أنفه فأطاره». وقال بعضهم: الذنب الذي لا يغفر قول العبد: ليت كل شيء عملته مثل هذا، وهذا من نقصان إيمانه، وضعف معرفته، وقلة علمه بجلال الله -عز وجل-، ولو كان

(فصل) والتوبة فرض عين

عنده علم بذلك لرأي الصغير كبيرًا، والحقير عظيمًا، كما أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: لا تنظر إلى قلة الهدية وانظر إلى عظم مهديها، ولا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى كبرياء من واجهته بها. ولهذا قال: من جلت رتبته وعظمت منزلته عند الله -عز وجل- فلا صغيرة بل كل مخالفة كبيرة. وقال بعض الصحابة لأصحابه من التابعين: «إنكم لتعملون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الموبقات» وإنما قال ذلك لقربه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن الله ومن جلاله، فيعظم من العالم ما لم يعظم من الجاهل، ويتجاوز عن العامي ما لا يتجاوز عن العارف على قدر ما بينهما من التفاوت في العلم والمعرفة والمنزلة. (فصل) والتوبة فرض عين في حق كل شخص. لا يتصور أن يستغنى عنها أحد من البشر؛ لأنه لا يخلو أحد عن معصية الجوارح، فإن خلا عنها فلا يخلو عن الهم بالذنوب بالقلب، وإن خلا عن ذلك فلا يخلو من وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله تعالى، فإن خلا عنها فلا يخلو عن غفلة وتقصير في العلم بالله -عز وجل- بصفاته وأفعاله. كل ذلك على قدر منازل المؤمنين في أحوالهم ومقاماتهم، فلكل حال طاعات وذنوب وحدود وشروط، فحفظها طاعة، وتركها والغفلة عنها ذنب، فيحتاج إلى توبة، وهو الرجوع عن التعريج الذي وجد إلى سنن الطريق المستقيم الذي شرع له، ومقام أقيم فيه، ومنزلة مهدت له، والكل مفتقر إلى التوبة وإنما يتفاوتون في المقادير، فتوبة العوام من الذنوب، وتوبة الخواص من الغفلة، وتوبة خاص الخواص من ركون القلب إلى ما سوى الله -عز وجل- كما قال ذو النون المصري -رحمه الله-: توبة العوام من الذنوب، وتوبة الخاص من الغفلة. وكما قال أبو الحسين النوري: التوبة أن تتوب من كل شيء سوى الله -عز وجل-، فشتان بين تائب يتوب من الزلات، وتائب يتوب من الغفلات، وتائب يتوب من رؤية الحسنات، وتائب يتوب من طمأنينة القلب إلى غير خالق البريات. فالأنبياء -عليهم السلام- لم يستغنوا عن التوبة، ألا ترى إلى ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه

قال: «إنه ليغان على قلبي، وإني لاستغفر الله -عز وجل- في اليوم والليلة سبعين مرة». وآدم -عليه السلام- لما أكل من الشجرة -القصة المشهورة- تطايرت الحلل عن جسده وبدت عورته وبقى التاج والأكليل على رأسه، فاستحيا أن يرتفعا عنه، فجاءه جبريل -عليه السلام- فأخذ التاج عن رأسه والإكليل عن جبينه، ونودي هو وحواء: أن اهبطا من جواري، فإنه لا يجاورني من عصاني، فالتفت إلى حواء بالحياء وقال لها: هذا أول شؤم المعصية أخرجنا من جوار الحبيب، فأحوجنا إلى التوبة والتضرع والافتقار والاستكانة والذلة من بعد عيش قار، ومن ذلك الملك العظيم والفضل الكبير والعز والدلال وارتفاع المنزلة في أشرف الأمكنة وأطهرها وآمنها وأقربها إلى الله تعالى. فلو استغنى أحد عن التوبة وآمن من العدو وشؤم النفس ووسواس الشيطان ومكايده، واغتر بشرف المكان وطهارته والقرب إلى الله ودنو منزلته، لكان ذلك حقيقًا بآدم -عليه السلام-، فلم يستغن عن التوبة حتى تاب الله عليه لقوله -عز وجل-: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} [البقرة: 37]. وروي عن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- أنه قال: لما تاب الله على آدم -عليه السلام- هنته الملائكة فهبط جبريل -عليه السلام- وميكائيل ودردائيل -عليهم السلام- فقالوا: يا آدم قرت عيناك بتوبة الله عليك، فقال آدم -عليه السلام-: يا جبريل فإن كان بعد هذه التوبة سؤال فأين مقامي؟ فأوحى الله إليه: يا آدم ورثت ذريتك التعب والنصب، وورثتهم التوبة، فمن دعاني منهم لبيته كما لبيتك، ومن سألني منهم المغفرة لم أبخل عليه، لأني قريب مجيب يا آدم، وأحشر التائبين من القبور مستبشرين ضاحكين، ودعاؤهم مستجاب. وكذلك نوح النبي -عليه السلام- الذي أغرق الله تعالى أهل الشرق والغرب بدعوته والغيرة على عرضه، ولتكذيبهم إياه وشدة غضبه عليهم لذلك، وهو آدم الثاني، لأن الخلق من ذريته على ما قيل إنه لم يتوالد من الذين كانوا معه في السفينة من الناس غير أولاده الثلاثة وهم سام وحام ويافث، فالخلق تشعبت منهم ومع هذه المنزلة قال: {رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من

الخاسرين} [هود: 47]. وإبراهيم الخليل -عليه السلام- مع جلالة قدره واصطفاء الله له بخلته وجعله أبا الأنبياء والمرسلين، كما روى أنه أخرج من ولده وولده ولده أربعة آلاف نبي عليه وعليهم السلام، قال الله تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين} [الصافات: 77]. حتى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- من ولده، وموسى وعيسى وداود وسليمان -عليهم السلام- وغيرهم لم يستغن عن التوبة والاستكانة والافتقار إلى الله -عز وجل- فقال: {الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذي يميتني ثم يحيين * والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} [الشعراء: 78 - 82]، وقوله -عز وجل-: {وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} [البقرة: 128]. وموسى -عليه السلام- مع جلالة قدره واصطفاء الله له بالرسالة والكلام واصطناعه لنفسه، وإلقائه المحبة عليه، وتأييده له بالمعجزات الباهرات من اليد والعصا والآيات التسع والأشياء التي كانت له في التيه، من عمود النور بالليل والمن والسلوى وغير ذلك من الآيات التي لم تكن لأحد من الأنبياء قبله {قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين} [الأعراف: 151]. وداود النبي -عليه السلام- مع جلالة قدره وإعطاء الله له ذلك الملك العظيم، كان حراسة ثلاثة وثلاثين ألف حارس، وكان إذا قرأ الزبور اصطفت الطير على رأسه، ووقف الماء عن جريانه وحدته، واصطفت الإنس والجن حوله، والسباع والهوام كذلك لا يؤذي بعضها بعضًا، وتسبح الجبال بتسبيحه، وألين له الحديد لرزقه إجلالًا لقدره وصيانة لأمره، بكى أربعين يومًا ساجدًا، حتى نبت العشب من دموعه، فرحمه الله تعالى وتاب عليه، حتى قال -عز وجل-: {فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} [ص: 25]. وسليمان بن داود عليهما السلام مع ملكه العظيم وريحه المسخرة له، غدوها شهر ورواحها شهر، والملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، لما عوقب على خطيئته من أجل التمثال الذي عبد في داره أربعين يومًا من غير علمه فسلب ملكه أربعين يومًا فهرب تائهًا على وجهه، وكان يسأل بكفيه فلا يطعم، فإذا قال أطعموني فإني سليمان بن داود شج رأسه وضرب وأهين وكذب، ولقد استطعم يومًا من بيت فطرد وبزقت امرأة في وجهه.

وروي أنه ذات يوم أخرجت عجوز جرة فيها بول وصبته على رأسه، فبقى في الذل على ذلك إلى أن أخرج الله له الخاتم من بطن حوت، فلبسه حتى انتهت الأربعون يومًا من أيام العقوبة، فجاءت الطير حينئذ فعكفت عليه، وجاءت الجن والشياطين والوحوش فاجتمعت حوله، فلما عرفه الذين أهانوه وضربوه اعتذروا إليه مما جرى منهم إليه من الإساءة، فقال: لا ألومكم فيما صنعتم من قبل، ولا أحمدكم الآن فيما تصنعون، فإن هذا أمر من السماء ولابد منه، فتاب الله عليه، ورد إليه ملكه، وأحسن موئله ومرجعه -عليه السلام-. فإذا كان هؤلاء السادة الكبراء القادة ولاة الخلق والشرع وملوكها وخلفاء الله في خلقه حالهم كذلك، فما حالك واغترارك يا مسكين، وأنت في دار الغرور في إقطاع الشياطين، محيط بك جنود الأعداء من الخلق والهوى والنفس والشهوات والإرادات والوساوس وتزيين الشيطان وتحسينه، واغتررت بالعبادات الطاهرة من: الصوم والصلاة والزكاة والحج، وكف الجوارح عن المعاصي الظاهرة، وباطنك عار عن العبادات الباطنة صفر عنها من: الورع الشافي والتأني والتقوى والزهد والصبر والرضا والقناعة والتوكل والتفويض واليقين وسلامة الصدر وسخاوة النفس ورؤية المنة والنية والإحسان وحسن الظن وحسن الخلق وحسن المعاشرة وحسن المعرفة وحسن الطاعة والصدق والإخلاص وغير ذلك مما يطول شرحه. بل أنت مشحون ممتلئ بخلال قبيحة وأمهات الذنوب التي منها تتفرع كل محنة وداهية، وكل بلية مهلكة موبقة في الدنيا والآخرة من: خوف الفقر والسخط لقدر الله -عز وجل-، والاعتراض عليه في قضائه في خلقه، والتهمة له في ذلك، والشك في وعده، والغل والحقد والحسد والغش، وطلب العلو والمنزلة، وحب الثناء والمحمدة، وحب الجاه في الدنيا والرضا بها والطمأنينة إليها، والتكبر على عباد الله والتعظيم عليهم، والشمخ بالأنف كما قال تعالى: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم} [البقرة: 206]، والغضب والحمية والأنفة، وحب الرياسة والعداوة والبغضاء والطمع والبخل والشح والرغبة والرهبة والفرح والأشر والبطر والتعظيم للأغنياء والاستهانة بالفقراء، والفخر والخيلاء، والتنافس في الدنيا والمباهاة بها، والرياء والسمعة، والإعراض عن الحق استكبارًا، والخوض فيما لا يعني، وكثرة الكلام من غير نفع، والتيه والصلف، واختبار أحوال الغير، وترك حالتك التي أنت عليها، وجعلت عبادتك

في حفظها، والتملك والاقتدار، والتهاون في أمر الله، والتوقير للمخلوقين، والمداهنة لهم والعجب بالأعمال، وحب المدح بما لم تفعله، والاشتغال بعيوب الخلق والتعامي عن عيوبك، ونسيان نعمة الله وإضافتها إلى نفسك أو إلى الخلق الذين هم مسخرون وآلة لتلك النعمة، والوقوف مع الظاهر، والتقاعد عن النظر في الأصول، وحفظ الحدود، ووضع الشيء في محله، وإيثار الفرح، ونبض الحزن الذي يكون بعدمه خراب القلب، وخروج الخشية منه، وببعده إطفاء نور الحكمة، وبتزايده إيجاب قرب الرب والأنس به والاستماع إليه والفهم منه، والاستغناء به عن جميع البرية، والسعادة الأبدية، والنجاة السرمدية، والنعمة الكلية، ومشحون بالانتصار للنفس إذا نالها الذل الذي دواؤها فيه وسعادتها به، ودخولها في زمرة أحباب الله تعالى وأصفيائه وخلصائه وشهدائه وعلمائه، والعارفين بمجاري أقداره وأبدال أنبيائه -عليهم السلام-، وبضعف الانتصار للحق جلت عظمته وأنصار دينه وأوليائه القائمين بحجته، الداعين الخلق إلى طاعته، المحذرين لنقمته وتارة بتذكرهم لأيامه، المرغبين في رحمته وجنته، واتخاذ إخوان العلانية مع عداوتك إياهم في السر، والإعراض عن موافقة الأخيار الأبرار المنكسري القلوب والأفئدة، الذين هم جلساء الرحمن جلت عظمته، المطمئنون إليه، الملازمون للشدة، المداومون على الخدمة، المتنعمون بالمنة، المتلبسون بالخلعة، الموسومون بخلصاء الرحمن رب العزة، الآمنون في الدنيا من دوران الدول والفتنة، وفي القبور من شر هول المطلع والضغطة، وفي القيامة من طول الحساب والوحشة، الخالدون في دار البقاء في النعمة والسرور والبهجة والفرحة، المخصوصون فيها بكل ظريف ولطيف في ساعة ولحظة وطرفة. واغتررت أيضًا بما خولت من الدنيا، وما أطلقت فيها من القضاء، وأرحت من العناء، فأمنت من سلب العطاء والفضل والنعم الذي كان لغيرك، ثم انتقل منه إليك ممن تقدم ومضى، من فرعون وهامان وقارون وشداد وعاد وقيصر وكسرى، من الملوك الخالية والأمم الفانية الذاهبة، الذين تلاعبت بهم الدنيا وغرتهم الأماني، حتى جاء أمر الله وغرهم بالله الغرور، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، وجمعوا وفرقوا وقطع بينهم وبين ما خولوا وأزيلوا عن الفرش التي مهدوها لأنفسهم، وأهبطوا عن المنازل التي شيدوها، وأزيلوا عن العز الذي كانوا به ظفروا، وعن الملك الذي ادعوا وخيلوا، فطولبوا بالودائع التي استودعوها، وبالعواري التي استؤمنوها، فجاءهم من الله ما لم

يكونوا احتسبوا، وأوقفوا على مساوئ ما علموا، ونوقشوا على دقائق ما اقترفوا، وحبسوا في أضيق الحبوس التي في الدنيا لغيرهم حبسوا، وشددوا بأشد الذي شددوا، وعوقبوا بأبلغ ما عاقبوا، وبالنار أحرقوا، وبأيديهم وأرجلهم فيها بالأغلال غلوا، ومن زقوم وضريع طعموا، ومن حميم سقوا، ومن طينة الخبال ثنوا. أما كانت لك بهؤلاء الماضين عبرة، وبالمأسورين عن أهاليهم عظة عن ادعاء ملك ما خلقوا، وسكنى ما بنوا وعنه أجلوا، إذ كانوا في بنائهم ذلك جاروا أو ظلموا، فكم من عرض وظهر وخد ورأس حينئذ نالوا وضربوا، وكم من عين مسكين بائس فقير ذليل أبكوا وأدمعوا، وكم من غني ذي حسب أذلوا وأفقروا، وكم من بدعة وسنة سيئة ورسم شرعوا ورسموا، وكم من قلب حكيم لبيب عليهم كسروا وأغضبوا، وكم من دعاء ونحيب وصوت حزين في جنح الليل من أرباب القلوب لظلمهم إلى الرحمن رفعوا، شكاية منهم إليه في كشف ما بهم، إذ هم على الخبير سقطوا، فانتدبت لذلك الملائكة الكرام وإليه بادروا، وإلى الملك العظيم المنصف غير الجائر وصلوا وانتهوا، فنظر العزيز الحكيم العليم بما في صدورهم، والخبير بما يخفون وما يعلنون فيما شكوا ومنه ضجوا فأجابهم العزيز الجليل «لأنصرنكم ولو بعد حين». فجعلهم حصيدًا {فهل ترى لهم من باقية} [الحاقة: 8] فقوم بالغرق، وقوم بالخسف، وقوم بالحصب، وقوم بالقتل، وقوم بالمسخ في الصور، وقوم بالمسخ بالمعاني بأن جعل قلوبهم قاسية كالحجارة الصماء، فطبع عليها بطابع الكفر، وختمها بخاتم الشرك والرين والغطاء والظلمة، فلم يلج فيها الإسلام ولا الإيمان، ثم أخذهم أخذة رابية، وبطش بهم بطشة الجبار، فأدخلهم دار البوار {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها} [النساء: 56] فهم أبدًا في نكال وجحيم وطعام ذي غصة وعذاب أليم {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض} [هود: 107] لا يموتون فيها ومنها لا يخرجون، لا غاية لويلهم ولا منتهى لثبورهم، ولهم فيها معيشة ضنك، لا يتخلص إليهم روح ولا يخرج منهم نفس ولا روح، انقطعت آمالهم وأصواتهم، وتشتت قلوبهم في حلوقهم، وخرست ألسنتهم، وقيل لهم: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108]. فاحذر يا مسكين أن تفعل بأفعالهم، أو تستن بسنتهم، فتقفو آثارهم، فتموت من غير توبة، وتؤخذ على غفلة وغرة، من غير أن تمهد لنفسك عذرًا، وتعد لك جوابًا ومخلصًا، وتقدم بها زادًا ومجازًا، فيحل بك من العذاب والنكال ما حل بهم.

(فصل) في شروط التوبة وكيفيتها

(فصل) في شروط التوبة وكيفيتها. أما شروطها: ثلاثة: أولها: الندم على ما عمل من المخالفات، وهو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الندم توبة». وعلامة صحة الندم: رقة القلب، وغزارة الدمع، ولهذا روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «جالسوا التوابين، فإنهم أرق أفئدة». والثاني: ترك الزلات في جميع الحالات والساعات. والثالث: العزم على ألا يعود إلى مثل ما اقترف من المعاصي والخطيئات، وهو معنى قول أبي بكر الواسطي حين سئل عن التوبة النصوح فقال: ألا يبقى على صاحبها أثر من المعصية سرًا ولا جهرًا. من كانت توبته نصوحًا فلا يبالي كيف أمسى وأصبح، فالندم يورث عزمًا وقصدًا، فالعزم ألا يعود إلى مثل ما اقترف من المعاصي لعلمه المستفاد بالندم أن المعاصي حائلة بينه وبين معبوده وبين محاب الدنيا والآخرة السليمة من التبعات، كما ورد في الخبر «إن العبد يحرم الرزق الكثير بذنب يصيبه». وفي الخبر الآخر «إن الزنا يورث الفقر». وعن بعض العارفين قال: إذا رأيت التغير والتضييق في المعيشة والتعسر في الرزق وتشعب الحال، فاعلم أنك تارك لأمر مولاك تابع لهواك، وإذا رأيت الأيدي تسلطت عليك والألسن وتناولتك الظلمة في النفس والأهل والمال والولد، فاعلم أنك مرتكب للمناهي ومانع للحقوق ومتجاوز للحدود، وممزق للرسوم. وإذا رأيت الهموم والغموم والكروب في القلب قد تراكمت، فاعلم أنك معترض على الرب فيما قدر عليك وقضى لك متهم له في وعده، ومشرك به خلقه في أمره، غير واثق به ولا أنت راض بتدبيره فيك وفي خلقه، فإذا علم التائب هذا بالنظر في حاله والتفكر فيها ندم على ذلك.

ومعنى الندم: توجع القلب عند علمه بفوات محبوبه، فتطول حراته وأحزانه وبكاؤه ونحيبه وانسكاب عبراته، فيعزم على ألا يعود إلى مثل ذلك لما تحقق عنده من العلم بشؤم ذلك، وأنه أضر من السم القاتل والسبع الضاري والنار المحرقة والسيف القاطع "وإن المؤمن لا يلسع من جحر مرتين" فيهرب ضرورة من المعاصي كما يهرب من هذه المضار والمهالك، ففي المعاصي هلاك كلي، وفي الطاعات بقاء كلي، والسلامة الأبدية سعادة دنيوية وأخروية. فيا ليت المعاصي لم تخلق ولم تكن، قرب شهوة ساعة أورثت حزنًا طويلًا وأعقبت داء دويًا وأهدمت عمرًا طويلًا وأوقعت في النار جبلًا كبيرًا. وأما المقصد الثاني الذي ينبعث منه، وهو إرادة التدارك، فله تعلق بالحال، وهو موجب ترك كل محظور وهو ملابس له ومداوم عليه، وأداء كل فرض هو متوجه عليه في الحال، وله تعلق بالماضي وهو تدارك ما فرط بالمستقبل، وهو المداومة على الطاعة وترك المعصية إلى الموت. فأما شرط صحته فيما يتعلق بالماضي وهو أن يرد فكره إلى أول يوم بلغ فيه السن والاحتلام، فيفتش عما مضى من عمره سنة سنة وشهرًا شهرًا ويومًا يومًا وساعة ساعة ونفسًا نفسًا، فينظر إلى الطاعات ما الذي قصر فيها، وإلى المعاصي ما الذي قارف منها. أما الطاعات فإن كان ترك صلاة فلم يصلها البتة أو صلاها بغير شرائطها وغير أركانها، مثل أن صلاها من غير وضوء، أو من غير وضوء مختل من شرط كالنية، أو بعض واجباته كالمضمضة والاستنشاق وغسل الوجه وغير ذلك من الأعضاء، أو صلى في ثوب نجس أو حرير أو غصب أو على أرض مغصوبة فإنه يقضيها جميعًا من حين بلوغه إلى حين توبته، فيشتغل بقضاء الفرائض أولًا، ولا يزال يصليها إلى أن يضيق وقت صلاة الحاضرة ثم يصلي الحاضرة أداء، ثم يشتغل بقضاء الفوائت هكذا إلى أن يأتي على آخرها. فإذا حضرت الجماعة صلاها مع الجماعة، وينويها قضاء، ثم يصلى على عادته حتى إذا تضايق وقت التي صلاها مع الإمام صلاها وحده أداء، كل ذلك إنما يفعله احتياطًا

لتحصيل الترتيب في القضاء إذ هو واجب عندنا، فإن نوى مع الإمام أداء جماعة سومح ورخص له في ذلك، ولا يعيدها مرة أخرى والصحيح هو الأول. فإن كان في عمره الماضي مخلطًا في دينه من الذين قال الله تعالى في حقهم: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وأخر سيئا عسى الله أن ينوب عليهم} [التوبة: 102] تارة يغلب عليه الإيمان فيحسن العمل من صلاته وصيامه والتحرز من النجاسات والمحرم في الشرع ويحتاط لدينه، وأخرى تغلبه الشقاوة وتزيين الشيطان فينجس في صلاته ويتساهل في شرائطها وأركانها وواجباتها، فيأتي ببعضها ويترك بعضًا، أو يصلي يومًا ويترك أيامًا، أو يصلي من صلاة يوم وليلة صلاة أو صلاتين ويترك باقيها، فليجتهد وليتحر في ذلك، فما تيقن أنه أتى بها على التمام والكمال على وجه يسوغ في الشرع لم يقضها ويقضي الباقي، وإن نظر لنفسه وأرتكب العزيمة والأشد فقضي الجميع كان ذلك أحتياطًا وخيرًا قدمه لنفسه، وكفارة وترقيعًا لكل ما فرط من سائر الأوامر يوم القيامة، ودرجات في الجنة إذا مات على التوبة والإسلام والسنة. وإذا فرغ من قضاء الفرائض ومد الله في أجله، وأمهل في مدته، ووفقه لخدمته، ورضيه لطاعته، وأقامه في أهل محبته، وأنقذه من ضلالته، وأخرجه من مرافقه الشيطان ومتابعته ومن ركوب الهوى، وملاذ نفسه، فأدبره من دنياه، وأقبله على أخراه، فليشتغل حينئٍذ بقضاء السنن المؤكدات وما يتعلق بكل صلاة على مما ذكرناه في الفرائض. ثم بعد ذلك يجتهد في التهجد وصلاة الليل والأوراد التي نشير إليها في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى. وأما الصوم فإن كان تركه في سفر أو مرض أو أفطر عمدًا في الحضر أو ترك النية ليلًا عمدًا أو سهوًا، فليقض ذلك جميعه، وإن شك في ذلك، فليتحر ويجتهد في ذلك فلقض ما غلب على ظنه تركه، ويترك باقية فلا يقضيه، وإن أخذ بالأحوط فقضى الجميع كان خيرًا له، فيحسب من حين بلوغه إلى حين توبته، فإن كان بين ذلك عشر سنين صام عشرة أشهر، وإن كان اثنتي عشرة سنة صام سنة عن كل سنة شهرًا وهو شهر رمضان.

وأما الزكاة فيحسب جميع ماله وعدد السنين من أول تمام ملكه لا من زمان بلوغه وعقله، إذا الزكاة واجبة على الصبي والمجنون عندنا، فيخرجها ويدفعها إلى مستحقيها من الفقراء والمساكين وغيرهم، فإن كان قد أدى في بعض السنين وتوانى في بعض حسب ذلك، وأدى المتروك وترك المؤدى على ما تقدم في الصوم والصلاة. وأما الحج فإن كان قد تم شروطه في حقه فوجب عليه السعي فيه والقصد إليه فتوانى وفرط حتى افتقر واختلت الشرائط في حقه برهة من الزمان ثم قدر، فعليه الخروج والقصد إليه، وإن لم يجد المال وكان له قدرة على الخروج ببدنه مع الإفلاس فعليه الخروج، فإن لم يقدر إلا بمال فعليه أن يكتسب من الحلال قدر الزاد والراحلة، فإن لم يقدر على الكسب فليسأل الناس ليدفعوا إليه من زكاتهم وصدقاتهم ليحج، لأن الحج من السبيل عندنا، وهو واحد من الأصناف الثمانية، وهو قوله عز وجل: {وفي سبيل الله} [التوبة: 60] فإن مات قبل ذلك مات عاصيًا أثمًا، لأنه فرط في أداء الحج. وهو عندنا على الفور، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من جد زادًا وراحلة تبلغه البيت فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا أو على ملة"، وفي لفظ آخر "من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديًا وإن شاء نصرانيًا". وإن كان عليه كفارات ونذور فعليه الخروج منها والاحتياط فيها والتحرز على ما ذكرنا. وأما المعاصي فينبغي أن يفتش من أول بلوغه عن سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله وفرجه وجميع جوارحه، ثم ينظر في جميع أيامه وساعاته، ويفصل عند نفسه ديوان معاصيه، حتى يطلع على جميعها صغائرها وكبائرها، ويتذكرها جميعها برؤية قرنائه الذين كانوا معه فيها وشاركوه في اقترافها، والبقاع التي قارف عليها، والمنازل التي تستر فيها عن الأعين في زعمه، وغفل عن الأعين التي لا تنام ولا تغمض طرفة عين عنه {كراما كاتبين* يعلمون ما تفعلون} [الانفطار: 11 - 12]، {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق:18] غفل عن هؤلاء الكرام الحفظة {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد: 11] ويحصون عليه أفعاله وأنفاسه، وغفل عن عالم السر وأخفى العليم بذات الصدور، والخبير بما يخفون وما يعلنون، ثم ينظر في ذلك، فإن

كانت المعاصي تتعلق بحق الله وهي بينه وبينه لا تتعلق بمظالم العباد كالزنا وشرب الخمر وسماع الملاهي، وكالنظر إلى غير محرم، والقعود في المسجد وهو جنب، ومس المصحف بغير وضوء، واعتقاد وبدعة، فتوبته عنها بالندم والتحسر والاعتذار إلى الله عز وجل عنها ويحسب مقدارها من حيث الكثرة ومن حيث المدة، ويطلب لكل معصية عنها حسنة تناسبها، فيأتي من الحسنات بمقدار تلك السيئات أخذًا من قوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114] ومن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها" فتكفير كل سيئة بحسنة من جنسها بما تقارب أن تكون كفارة له دون غيره في التشبيه. فتكفير شرب الخمر بالتصدق بكل شراب حلال هو أحب إليه ,أطيب عنده، وسماع الملاهي بسماع القرآن وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحكايات الصالحين، وتكفير القعود في المسجد جنبًا بالاعتكاف فيه من الاشتغال بالعبادة، وتكفير مس المصحف محدثًا بإكرام المصحف وكثرة قراءة القرآن منه وكثرة تلقيه على الطهارة، والاعتبار بما فيه، والاتعاظ، واحترامه والعمل به، وبأن يكتب مصحفًا ويجعله وقفًا على المسلمين ليقرؤوا فيه. وأما مظالم العباد، ففيها أيضا معصية وجناية على حق الله تعالى، فإن الله تعالى نهي عن الظلم للعباد، كما نهى عن الزنا وشرب الخمر والربا، فما يتعلق من ذلك بحق الله تعالى تداركه بالندم والتحسر، وترك مثله في ثاني الحال، والإتيان بالحسنات لتكفر عنه، فتكفير إيذائه للناس بالإحسان إليهم والدعاء لهم، فإن كان المؤذي ميتًا فبالترحم عليه والإحسان إلى ولده وورثته إذا كانت الأذية باللسان أو الضرب، وتكفير غصب أموالهم في حق الله تعالى بالتصدق بما يملكه من الحلال. وإن كانت الأذية في الأعراض مثل إن اغتابهم ومشى بينهم بالنميمة وقدح فيهم، فتكفير ذلك بالثناء عليهم إن كانوا من أهل الدين والسنة وإظهار ما يعرف فيهم من خصال الخير في أقرانه وأمثاله في المحافل والمجامع. وتكفير قتل النفوس في حق الله تعالى بإعتاق الرقاب لأن ذلك إحياء للعبد، لأن العبد كالمفقود المعدوم فيما يرجع إلى نفسه، كما قال الله عز وجل: {ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء} [النحل: 75] فكليته لمولاه وتصرفاته وحركاته وسكناته، فهو موجود لسيده، إذ جميع ذلك

له، ففي إعتاقه إيجاد، فكان القاتل أعدم عبدًا عابدًا لله تعالى وعطل طاعته له، فجني على حقه، فأمره بإقامة عبد مثله عابد الله تعالى، ولا يتحقق ذلك إلا يعتقد عن رق العبودية، فيتصرف في نفسه لنفسه من غير مانع ولا حاجر، فيقابل الإعدام بالإيجاد، وهذا في حق الله تعالى. وأما في حق العباد فلا يخلو إما أن يكون في النفوس أو في الأموال أو الأعراض أو القلوب، وهذا هو الإيذاء المحض. وأما إذا كانت المظلمة في النقوس بأن جرى على يده قتل خطأ، فتوبته بتسليم الدية إلى من يستحقها من مناسب، أو مولى أو الإمام، فهي في عهدة ذلك حتى تصل الدية إليهم، إما من العاقلة، والعاقلة هو القرابة العصيبة، أو الإمام. فإن لم تكن له عاقلة، ولا وجد في بيت المال شيء سقطت، فإن كان هو قادرًا على أدائها ولا عاقلة له، فليس له غير عتق رقبة مؤمنة، فإن تطوع بالدية كان أولى، إذ الدية إنما تجب عندنا على العاقلة، فلا يخاطب بها القاتل وهو الصحيح. وقيل: إنه يجب عليه أداء الدية في هذه الحالة إذا لم تكن له عاقلة وله يسار، وهو مذهب الشافعي رحمه الله، لأن الدية تجب ابتداء على القاتل، ثم تتحملها عنه العاقلة على وجه التخفيف عنه والنصرة له، والمواساة له في الغرامة لما بينهما من التوارث، وقد عدمت العاقلة هاهنا، فوجبت عليه، لا سيما وهو في حالة التوبة والخروج من المظالم والتورع والخلاص عن حقوق الآدميين. وأما إن كان القتل عمدًا فلا يتخلص إلا بالقصاص، وكذلك إن كان دون النفس في محل يمكن الاقتصاص منه، فإن كان في النفس، فالكلام مع الوارث، وإن كلن فيما دون النفس فمع المجني عليه، فإن طابت النفوس بإسقاط ذلك والعفو عنه سقط، وإن طلبوا العفو على مال بذله وتبرأ عن عهدته. فإن قتل قتيلًا ولم يعرف أنه هو القاتل كان عليه أن يعترف عند ولي الدم، ويحكمه في روحه، فإن شاء عفا عنه، وإن شاء قتله أو أخذ المال عليه، ولا يجوز له إخفاؤه لأنه لا يسقط بمجرد التوبة، فإن قتل جماعة في أوقات مختلفة ومحال متعددة، وقد تقادم الزمان، ولا يعرف أولياءهم ولا عدد من قتلهم، أحسن توبته وعمله، وأقام على نفسه حد الله بأنواع المجاهدات والتعذيب لها، والعفو عمن ظلمه وآذاه، وأعتق

الرقاب، وتصدق بمال، وأكثر النوافل، ليفرق ثواب ذلك عليهم على قدر حقوقهم يوم القيامة، فينجو هو، ويدخل الجنة برحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء وهو أرحم الراحمين. ولا فائدة إذ ذاك في التحدث بما جرى عليه من أنواع القتل والجراحات وقطع الطريق، إذ لا يعثر بأربابها ومستحقيها ليوفيهم أو يستحل منهم، بل يشتغل بما ذكرناه. وكذلك إن زنا أو شرب أو سرق، ولا يعرف مالكها، أو قطع الطريق ولا يعرف المقطوع عليه، أو باشر امرأة دون الفرج مما يجب فيه حد الله أو التعزيز، فإنه لا يلزمه في صحة التوبة أن يفضح ويهتك ستره، ويلتمس من الإمام أو الحاكم إقامة الحدود عليه، بل يستتر بستر الله تعالى، وينوب إلى الله عز وجل فيما بينه وبين الله، ويستغل بأنواع المجاهدات من صيام النهار، والتقلل من المباح واللذات، وقيام الليل، وقراءة القرآن وكثرة التسبيح والتورع، وفير ذلك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أتى بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله تعالى عليه، ولا يبدي لنا صفحته، فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه حدود الله". فإن خالف ما قلناه، ورفع أمره إلى الوالي فأقام عليه الحد وقع موقعه وصحت توبته، وتكون مقبولة عند الله، وبريء من عهدة دينه، وتطهر من آثمة ولطخه. وأما الأموال، فإن كان تناول إنسان بغصب أو سرقة أو قطع طريق أو خيانة في عين من وديعة أو عارية أو معاملة بنوع تلبيس، كترويج زائف أو ستر عيب في المبيع، أو نقص أجرة أجير، أو منع أجرته جملة فكل ذلك عليه أن يفتش عنه لا من مدة بلوغه، بل من مدة وجود ذلك بعد بلوغه وعقله وتمييزه، أو قبل بلوغه وهو في حجر وليه ووصيه، واختلط ماله بماله، وتهاون الولي في ذلك، ولم يبال به بأن كان ظالمًا مجازنا في دينه فاختلط ذلك الحرام بمال الصبي تارة من فعل الصبي، وأخرى من ظلم الوصي وجب علي الصبي النائب بعد بلوغه تفتيش ذلك، ورد كل حق إلى أهله، وتصفيه ماله من تلك الشبهات والحرام، فليحاسب نفسه على الحبات والذرات من أول يوم جنايته إلى يوم توبته، قبل أن يأتيه الموت على غفلة من غير حساب، وتقوم عليه القيامة على غرة من غير تحصيل ثواب وتهذيب كتاب فيسأل فلا يسمع جوابًا، ويندم

فلا ينفعه الندم، ويستعتب فلا يعتب، ويعتذر فلا يعذر، ويستمهل فلا يمهل، ويستشفع فلا يشفع له إذا كان مفرطًا في حال حياته، ومجازفًا في حال يقظته وفطنته، متبصرًا في أمور معاشه، حريصًا في تحصيل شهواته ولذاته، متابعًا لهواه ولشيطانه، معرضًا عن طاعة ربه وجنابة، منبثطًا عن إجابته، متسارعًا في معصيته وخلافه، فلذلك طال في القيامة حسابه، وعظم ويله ونحيبه، وانقطع ظهره، ونكس رأسه، واشتد خجله وحياؤه، وانقطعت حجته وبرهانه، وأخذت حسناته، وتضاعفت سيئاته، وخسرت صفقته وظهر إفلاسه، واشتد عليه غضب ربه ويأخذه، وأخذته الزبانية إلى ما مهد لنفسه من عذاب ربه وأوبقها فأرداها، فساوى من في النار من قارون وفرعون وهامان، إذ مظالم العباد لا تسامح فيها، ولا ترك، وفي الأثر "إن العبد ليوقف بين يدي الله تعالى وله من الحسنات أمثال الجبال، لو سلمت له لكان من أهل الجنان، فيقوم أصحاب المظالم فيكون قد سب عرض هذا وأخذ مال هذا، وضرب هذا، فتقتص حسناته فلا يبقى له شيء، فتقول الملائكة: يارب فنيت حسناته وبقى طالبون كثيرون، فيقول: ألقوا من سيئاتهم إلى سيئاته، وصكوا له صكًا إلى النار، فيهلك هو بسيئة غيره بطريق القصاص. فكذلك ينجو المظلوم بحسنة الظالم، إذ ينقل إليه عوضًا مما ظلمه. وروت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الدواوين ثلاثة: ديوان يغفره الله، وديوان لا يغفره الله، وديوان لا يترك منه شيء. فأما الديوان الذي لا يغفره الله تعالى، فالشرك بالله جل جلاله، قال الله عز وجل: {أنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار} [المائدة: 72]. وأما الديوان الذي يغفره الله فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه. وأما الديوان الذي لا يترك منه شيء، فظلم العباد بعضهم بعضًا". وعن أبي هريرة رضي الله عنه [عن النبي -صلى الله عليه وسلم-] أنه قال: "أتدرون من المفلس من أمتي يوم القيامة قالوا: يا رسول الله، المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع له، قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه، وقد شتم هذا،

وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيقاص هذا من حسناته، وهذا من حسناته فإذا فنيت حسناته أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» فينبغي للمذنب أن يبادر إلى التوبة. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: "هلك المسوفون؛ يقول سوف نتوب". وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {بل يريد الإنسان ليفجر أمامه} [القيامة: 5] يعني يقدم ذنوبه ويؤخر توبته، ويقول: سأتوب حتى يأتي الموت، وهو على شر ما كان عليه فيموت عليه. وقال لقمان الحكيم لابنه: يا بني لا تؤخر التوبة إلى غد، فإن الموت يأتيك بغتة، فالواجب على كل أحد أن يتوب حين يصبح وحين يمسي. قال مجاهد رحمه الله: من لم يتب إذا أصبح وأمسى فهو من الظالمين. فالتوبة على وجهين: أحدهما: في حق العباد، وقد ذكرناها. والثاني: بينك وبين الله تعالى فتكون بالاستغفار باللسان والندم بالقلب والإضمار على ألا يعود على ما أشرنا إليه من قبل. فليجتهد هذا التائب من الظلم، ويبذل جهده في تكثير الحسنات حتى يقتص منه يوم القيامة، فتؤخذ حسناته وتوضع في موازين أرباب المظالم، ولتكن كثرة حسناته بقدر كثرة مظالمه للعباد وإلا هلك بسيئات غيره، وهذا يوجب استغراق جميع العمر في الحسنات لو طال عمره بحسب مدة الظلم، فكيف والموت على الرصد، وربما يكون الأجل قريبًا فتخترمه المنية قبل بلوغ الأمنية، وقبل إخلاص العمل، وتصحيح النية وتصفية اللقمة، فليبادر إلى ذلك، وليبذل الاجتهاد فيكتب جميع ذلك، وأسامي أصحاب المظالم واحدً واحدًا، وليطف نواحي العالم وأطراف البلاد وأقطارها يطلبهم ليستحلهم وليؤد حقوقهم، فإن لم يجدهم فإلى ورثتهم، وهو مع ذلك خائف من عذاب الله، راج لرحمته تائب مقلع عن جميع ما يكره مولاه، مثمر في طاعته

ومرضاته، فإن أدركته منيته وهو على ذلك فقد وقع أجره على الله، قال عز وجل: {ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله} [النساء: 100]. وقد جاء في الصحيحين المتفق عليه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب، فأتاه فقال له: أنه قد قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله، فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض؟ فدل على رجل عالم، فأتاه فقال له: أنه قد قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها ناسًا يعبدون الله، فأعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا انتصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقال ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلًا على الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم حكًا، فقال: قيسوا ما بين الأرضيين إلى أيهما كان أدنى فهو له، فقاسوا، فوجدوه وكان أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة. وفي رواية: فكان إلى الرقية الصالحة أقرب بشبر، فجعل من أهلها، وفي رواية: فأوحى الله عز وجل إلى هذه: أن تباعدي، وإلى هذه أن تقاربي وقال: قيسوا بينهما. فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر، فغفر له". فهذا دليل واضح على أن قصده إلى التوبة وسعيه إليها، ونيته لها نافع، ودليل على أنه لا خلاص إلا برجحان ميزان الحسنات ولو بمثقال ذرة، فلا بد للتائب من تكثير الحسنات والنوافل ليرضى بها الخصوم يوم القيامة، وترفع بها الفرائض، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا من النوافل ترفع بها القرائض" أو كما قال. ويعقد أيضًا مع الله تعالى عقدًا صحيحًا مؤكدًا، وعهدًا وثيقًا ألا يعود إلى تلك الذنوب، ولا إلى أمثالها ابدًا، ويستعين على ذلك بالعزلة والصمت وقلة الأكل وقلة النوم، وإحراز قوت حلال، والتورع عن الحرام والشبهة، إما بكسب أو بضاعة في يده من إرث، أو سبب حلال، فإن كان فيما ورثه شبهة أو حرام أخرجه ولم يأكل منه ولم

يتلبس بشيء منه، فإن رأس المعاصي الحرام، وملاك الدين الحلال والتورع، وتصفية اللقمة، فكل ما ينشأ من الإنسان من خير وشر فمن اللقمة، فالحلال يورث الخير، والحرام يورث الشر، كالقدر إذا طبخ ما فيها واستكمل نضجه تبين الرائحة الفائحة عما فيها، كل إناء ينضح بما فيه، ويكثر مجالسة الفقهاء والعلماء بالله، ليستفيد منهم أمر دينه، ويعرفونه سلوك الطريق إلى الله تعالى، وحسن الأدب في طاعته، والقيام في أمره، وينبهونه على ما خفي عليه من أمر السلوك في طريقه، فلا بد لكل من سلك طريقًا لم يعرفه من دليل يدله، ومرشد يرشده، وهاد يهديه، وقائد يقوده، وستعمل الصدق في جميع ذلك، والإخلاص والجد في المجاهدة، قال الله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 96] فقد ضمن للمجد الصادق في المجاهدة في طريقه الهداية فإذا صدق في ذلك لا يعدم الهداية، لأن الله لا يخلف الميعاد، وليس بظلام للعبيد، وهو أرحم الراحمين، رءوف رحيم، لطيف بخلقه، بار ببريته، معين وموفق للمقبلين عليه، وداع للمدبرين المولين عنه بألطف الدعاء، يفرح بتوبتهم كالوالدة الشفيقة إذا قدم ولدها من سفره البعيد. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الله أفرح بنوبة أحدكم من رجل من بأرض دوية مهلكة ومعه راحلة عليها طعامه وشرابه وما يصلحه، فأضلها، فخرج في طلبها حتى كادت نفسه تخرج، فقال: أرجع إلى المكان الذي أضللتها فيه، فأموت فيه، فرجع إلى مكانه، فغلبته عينه، فغمضها لحظة، فاستيقظ فإذا راحلته عند رأسه عليها طعامه وشرابه". قال على كرم الله وجهه: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وهو الصادق المصدوق قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من عبد أذنب ذنبًا فقام وتوضأ وصلى واستغفر الله من ذنبه، إلا كان حقًا على الله أن يغفر له" لأنه يقول جل وعلا: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} [النساء: 110]. وأما الأموال الحاضرة المغصوبة، فليرد إلى المالك ما يعرف له مالكًا معينًا أو إلى ورثته على ما تقدم، وما لا يعرف له مالكًا معينًا فعليه أن يتصدق به عن صاحبه، فإن اختلط الحرام بالحلال، مثل اختلاط المغصوب بالإرث الحلال، حسب واجتهد في معرفة

(فصل) ولا بد أن يعرفه قدر جنايته

مقدار الحرام وتصدق بذلك المقدار، وترك الباقي له ولعياله. وأما الأعراض فهو سب الناس وشتمهم مشافهة، وهو الجناية على القلوب، وكذلك غيبتهم، وذكرهم بالقبيح، وما يسوءهم من الغيبة، وهو كل كلام لا يحسن أن يقال له في وجهه فإذا قاله في غيبه منه، كان قد اغتابه، فكفارته أن يذكر له ذلك ويستحله، فإن كانوا جماعة فواحدًا واحدًا، ومن مات منهم قبل ذلك، فتدارك ذلك بكثير الحسنات على ما ذكرناه. كل ذلك إذا بلغتهم الغيبة، وأما إذا لم تبلغهم فلا يجب عليه استحلالهم، بل لا يجوز، لأن فيه إيصال الألم إلى قلوبهم، بل يأتي الذين أغتابهم عندهم فيكذب نفسه عندهم، ويثني على المغتابين. (فصل) ولا بد أن يعرفه قدر جنايته، ويعرض له في سائر المظالم، ولا يكفي في ذلك الاستحلال المبهم، لجواز أن يكون المظلوم إذا عرف قدر ظلمه على الحقيقة لم تطب نفسه بالإحلال بل يؤخر ذلك ليوم القيامة، ليأخذ بدله من حسناته، أو يحمله من سيئاته، وإن كان من جملة جنايته على الغير ما لو عرفه، وذكره لتأذي بمعرفته، كزناة بجاريته وأهله، أو نيبته باللسان إلى عيب خفي من عيوبه، يعظم أداه به، فهاهنا لا طريق له إلا أن يستحله مبهمًا، ويبقى عليه له مظلمة ما، فيجبرها بالحسنات كما يجبر له مظلمة الميت والغائب، وكل جناية على الغير لم يعلم بها لو ذكر الجاني له ذلك لم تطب نفسه بالإحلال بسرعة، أو لا يأمن المجني عليه مقابلته بها فق الجاني في ذلك وطريقه أن يتلطف له، ويسعى في مهماته وأغراضه ويظهر من حبه والشفقة عليه ما يستميل به قلبه، فإن الإنسان عبد الإحسان، وكل من نفر بسيئة مال ورجع بحسنة، فإن تعذر ذلك عليه، فالكفارة بتكثير الحسنات، ليجزي بها في يوم القيامة جنايته، فإن الله تعالى يحكم به عليه، ويلزمه قبول حسناته مقابلة لجنايته عليه إذا امتنع من القبول، كمن أتلف في الدنيا مالًأ، فجاء بمثله، فامتنع من له الحق عن قبول ذلك، وإبرائه عن ذلك، فإن الحاكم يحكم عليه بالقبض، شاء أم أبى، كذلك الله عز وجل يحكم بذلك في عرصات القيامة، وهو أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين. (فصل) فإذا تخلص من مظالم العباد، وتفرغ لعبادة الله تعالى في خاصته، سلك طريق الورع، لأن به يتخلص العبد في الدنيا والآخرة من العباد، ومن عذاب الله عز

وجل، وبه يخفف عنه الحساب يوم القيامة، فإن الحساب يوم القيامة لحقوق العباد والمعاملات التي جرت في الدنيا بين الأنام على غير وجه الشرع. وأما من حاسب نفسه في الدنيا، وأخذ من الخلق ما يستحقه، وأعرض عما ليس له، وخاف من طول الحساب في يوم القيامة، فعلى أي شيء يحاسب، وفي الخبر"إن الله تعالى يستحي أن يحاسب الورعين في يوم القيامة". ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"؟ وهذا إشارة إلى التوقف في كل شيء وترك الإقدام عليه إلا بإذن الشرع، فإن وجد في الشرع مساغًا لتناوله والشروع فيه فعل، وإلا وقف عنه ومال إلى غيره، وإليه أشار رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "ادع ما يريبك إلى ما لا يريبك". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن وقاف، والمنافق لقاف". وفي موضع آخر: المؤمن فتاش". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لو صلبتم حتى تكونوا كالحنايا، وصممتم حتى تكونوا كالأوتار فما ينفعكم إلا الورع الشافي". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يبال من أين مطعمه ومشربه لم يبال الله تعالى من أي باب من النار يدخله". عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أيها الناس إن أحدكم لن يموت حتى يستكمل رزقه فلا تستبقوا الرزق، واتقوا الله وأجملوا في الطلب، وخذوا ما حل لكم، وذروا ما حرم عليكم" وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يكتب العبد مالًا من الحرام ويتصدق به فيؤجر عليه، ولا ينفق منه شيئًا فيبارك له فيه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار".

وقال-صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا يمحو الشر بالشر، ولكن يمحو الشر بالخير". وعن عمران بن الحصين رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الله تعالى يقول عبدي أد ما افترضت عليك تكن من أعبد الناس، وانه عما ينهيك عنه تكن من أورع الناس، واقنع بما رزقتك تكن من أغنى الناس". وقال -صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة رضي الله عنه: "كن ورعًا تكن من أعبد الناس". وقال الحسن البصري رحمه الله: "مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة". وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: لا يتقرب إلى المتقربون بمثل الورع. وقيل: رد دائق من فضة أفضل عند الله من ستمائة حجة مبرورة، وقيل: سبعين حجة متقبلة. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: جلساء الله تعالى غدًا أهل الورع والزهد. وقال ابن المبارك رحمه الله: ترك فلس من الحرام أفضل من مائة فلس يتصدق به. روى عن ابن المبارك أنه كان بالشام يكتب الحديث، فانكسر قلمه فاستعار قلمًا، فلما فرغ من الكتابة نسى، فجعل القلم في مقلمته، فلما رجع إلى مرور، رأى القلم وعرفه، فتجهز للقدوم إلى الشام لرد القلم إلى صاحبه. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه أنا كان يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الحلال بين الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن لم يتق الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمي يوشك أن يقع فيه، وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها الجسد كله، وإذا فسدت فسد لها الجسد كله، ألا وهي القلب". وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: لكل شيء حد، وحدود الإسلام: الورع والتواضع والصبر والشكر، فالورع ملاك الأمور، والصبر النجاة من النار،

والشكر الفوز بالجنة. ودخل الحسن البصري رحمه الله مكة، فرأى غلامًا من أولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد أسند ظهره إلى الكعبة يعظ الناس فوقف عليه الحسن وقال له: ما ملاك الدين؟ فقال: الورع، فقال: ما آفة الدين؟ قال: الطمع، فتعجب الحسن منه. وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: الورع ورعان، ورع فرض، وورع حذر، فورع الفرض: الكف عن كل معاصي الله، وورع الحذر: الكف عن الشبهات في محارم الله تعالى. فورع العام من الحرام والشبهة، وهو كل ما كان للخلق عليه تبعة، وللشرع فيه مطالبه، وورع الخاص من كل ما كان فيه الهوى وللنفس فيه شهوة ولذة، وورع خاص الخاص من كل ما كان لهم فيه إرادة ورؤية. فالعام يتورع في ترك الدنيا، والخاص يتورع في ترك الجنة العليا، وخاص الخاص يتورع في ترك ما سوى الذي خلق وبرأ. قال يحيي بن معاذ الرازي رحمه الله: الورع على وجهين، ورع في الظاهر وهو ألا تتحرك إلا لله، وورع في الباطن، وهو ألا يدخل في قلبك سواء تبارك وتعالى. وقال يحيي رحمه الله أيضًا: من لم ينظر في دقيق من الورع لم يحصل له شيء ولم يصل إلى الجليل من العطاء. وقيل: من دق في الورع نظره جل في القيامة خطره. وقيل: الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة؛ والزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة، لأنك تبذلهما في طلب الرياسة. وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: الورع أول الزهد، كما أن القناعة طرف الرضا. وقال أبو عثمان رحمه الله: ثواب الورع خفة الحساب. وقال يحيي بن معاذ رحمه الله: من لم يصحبه الورع في فقره أكل الحرام النص. وقال يونس بن عبيد الله رحمه الله: الورع الخروج من كل شبهة، ومحاسبة النفس

مع كل طرفة. وقال سفيان الثوري رحمه الله: ما رأيت أسهل من الورع، كل ما حاك في نفسك تركته، وهو قول النبي-صلى الله عليه وسلم-: "الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس" وهو إذا لم ينشرح الصر به وكان في قلبك منه شيء، وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الإثم حزاز القلوب" يعني ما حز في صدرك وحاك ولم يطمئن عليه القلب فاجتنبه، ومنه الحديث "إياكم والحكاكات فإنها المأثم" وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". وقال معروف الكرخي رحمه الله: أحفظ لسانك من المدح كما تحفظه من الذم. وقال بشر بن الحارث رحمه الله: أشد الأعمال ثلاثة: الجود في القلة، والورع في الخلوة، وكلمة حق عند من يخاف ويرجى. وقيل: جاءت أخت بشير بن الحارث الحافي إلى الإمام أحمد بن حنبل رحمهم الله وقالت: يا إمام إنا نغزل على سطوحنا فتمر بنا مشاعل الظاهرية ويقع الشعاع علينا، فيحوز لنا الغزل في شعاعها؟ فقال: من أنت عافاك الله؟ قالت: أنا أخت بشر بن الحارث، فبكى الإمام أحمد رحمه الله وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في شعاعها. وقال على العطار رحمه الله: مررت بالبصرة في بعض الشوارع وإذا مشايخ قعود وصبيان يلعبون، فقلت: ألا تستحيون من هؤلاء المشايخ؟ فقال صبي من بينهم: هؤلاء المشايخ قل ورعهم فقلت هيبتهم. وقيل: إن مالك بن دينار رحمه الله مكث بالبصرة أربعين سنة، فلم يصح له يأكل من تمر البصرة ولا رطبها حتى مات ولم يذقه، وكان إذا انقضى وقت الرطب قال: يا أهل البصرة هذا بطني ما نقص منه شيء ولا زاد فيكم شيئًا. وقيل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله: ألا تشرب من ماء زمزم؟ فقال: لو كان لي دلو لشربت. وقيل: كان الحارث المحاسبي رحمه الله إذا مد بصره إلى طعام فيه شبهة ضرب على

رأس أصبعه عرق، فيعلم أنه غير حلال. وقيل: إن بشرًا الحافي رحمه الله كان إذا قدم بين يديه طعام فيه شبهة لا تمتد إليه يده. وقيل: إن أم أبي يزيد البسطامي رحمهما الله كانت إذا مدت يدها إلى طعام فيه شبهة تباعد حال كونها حبلي بأبي يزيد فلم تمد يدها إليه. وكان بعضهم إذا قدم إليه طعام فيه شبهة فاحت منه رائحة منكرة، فعلم من ذلك فامتنع من أكله. وقيل عن بعضهم: أنه كان إذا وضع في لقمة من طعام فيه شبهة لم يمتضغ فتصير كالرمل في فمه. وإنما فعل الله تعالى لهم ذلك تخفيفًا ورحمه وشفقة وحمية لهم، لما صفوا اللقم واجتهدوا في طلب الحلال وترك الحرام والشبهة، حماهم الله تعالى عما يكرهونه من المطاعم، فذب عنهم في معرفة ذلك، وكفاهم مؤنه التفتيش والتنقير عن بائع الطعام وكسبه ومعيشته، وعن الثمن الذي اشترى به وأصله وتحصيله من وجه الحلال. فجعل ذلك علامة عندهم في أي وقت رأوها كفوا أيديهم عن تناول الطعام، وإذا لم يروها تناولوه، هذا في حق هؤلاء السادة الكرام الذين سبقت لهم العناية وعمتهم الرعاية. وأما الحلال في حق العوام من المؤمنين، فكل ما لا يكون للخلق فيه تبعة ولا للشرع عليه مطالبة، كما قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله حين سئل عن الحلال قال: الحلال هو الذي لا يعصى الله فيه، وقال مرة أخرى: الحلال الصافي الذي لا ينسى فيه. فالحلال حلال حكم لا حلال عين، إذ لو كان حلال عين لم يحل لأحد أكل الميتة، ولا إذا اشترى الشرطي بماله الحرام طعامًا حلالًا، ثم رجع فاستقال البيع فرجع الطعام إلى يد مالكه الأول ألا يجوز أكله للمتورع المؤمن، لأنه قد تخلل بينهما حالة يحرم أكله فيها، وهو حصوله في يد الشرطي. فلما اتفق المسلمون على جواز أكل هذا الطعام الذي حصل في ملك الشرطي المشتري بماله الحرام الذي يحرم أكله عند جميع المسلمين علم أن الحلال والحرام ما كان

الشرع حكم به لا نفس العين لأن ذلك طعام الأنبياء كما جاء في الحديث "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع رجلًا يقول: اللهم ارزقني الحلال المطلق، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ذلك رزق الأنبياء، سل الله رزقًا لا يعذبك عليه". وكذلك في الشرع من اتجر من أهل الذمة واليهود والنصارى والمجوس في المحرمات من الخمر والخنزير وليناهم بيعها وأخذنا منهم العشر من أثمانها، وروى ذلك عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، فقال: ولوهم بيعها، وخذوا العشر من أثمانها. فإذا أخذ العشر منهم فما يصنع به، أليس ينتفع به المسلمون؟ فلو كان الحلال حلال العين لما جاز أخذ ذلك، لأن الخمر والخنزير وثمنهما حرام، فأحل ذلك لدخول اليد والعقد، كما قيل بين الحلال والحرام يد، فمن أخذ الشرع في يده مصباحًا فأخذ به وأعطى به ولم يتأول فيه ولم يخرج عنه، فأخذ ما أذن له الشرع وأعطى ما أذن له الشرع فيه، وصار جميع تصرفاته بالشرع أكل الحلال بالشرع، وليس عليه طلب الحلال المطلق والعين، إذ ذاك لا يكاد يدرك إلا أن يشاء الله أن يكرم به بعض أوليائه وأصفيائه {وما ذلك على الله بعزيز} [إبراهيم: 20، وفاطر: 17]. فالناس في الطعام على ثلاثة أضرب، متق، وولي، ويدل عارف، فحلال المتقي ما ليس للخلق عليه تبعة، ولا للشرع عليه مطالبة. وطعام الولي المحق الذي هو الزاهد الزائل الهوى ما ليس فيه الهوى، بل هو مجرد بأمره. وطعام البدل الذي هو المعارف المفعول فيه زائل الإرادة كرة القدر، وهو ما لم تكن فيه همسة ولا إرادة بل فضل كله من الله عز وجل، يرزقه ويدلله ويربيه بقدرته الشاملة ومنته العامة ومشيئته النافذة، كالطفل الرضيع في حجر أنه الشفيقة. فما لم يتحقق له المقام الأول لا يصل إلى المقام الثاني، وما لم يتحقق له المقام الثاني لا يصل إلى المقام الثالث. فطعام التقي شبهة في حق زائل الهوى، وطعام زائل الهوى شبهة في حق زائل الإرادة والهمة، كما قيل: سيئات المقربين حسنات الأبرار. فطعام الشيخ مباح للمريد، وطعام المريد حرام في حق الشيخ لصفاء حالته ونزاهة

رتبته وعلو منزلته وقربه من ربه عز وجل. ومن دقائق الورع ما نقل عن كهمس رحمه الله أنه قال: أذنبت ذنبًا وأنا أبكي عليه منذ أربعين سنة، وذلك أنه زارتي أخ لي فاشتريت بدانق سمكة مشوية، فلما فرغ أكلها أخذت قطعة من طين من جدار جار لي حتى غسل يده ولم استحله. وقيل: إن رجلًا كان في بيت بكراء، فكتب رقعة وأراد أن يتربها من جدار البيت، فخطر بباله أن البيت بالكراء، ثم إنه خطر بباله ألا خطر لهذا، فترب الكتاب فسمع هاتفًا يقول: سيعلم المستخف بالتراب ما يلقي غدًا من طول الحساب. ورؤى عتبة الغلام يتصب عرفًا في الشتاء فقيل له في ذلك؟ فقال: إنه مكان عصيت فيه ربي ، فسئل عنه فقال: كشطت من هذا الجدار قطعة طين غسل ضيف لي يده بها ولم استحل صاحبه. وقيل: إن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله رهن سطلًا له عند بقال بمكة، فلما أراد فكاكه أخرج البقال إليه سطلين وقال: خذ أيهما لك، فقال الإمام أحمد؛ أشكل على سطلي فهو لك والدراهم لك، فقال البقال: سطلك هذا وإنما أردت أن أجريك، فقال: لا أخذه ومضى وترك السطل عنده. وقيل: إن رابعة العدوية رحمها الله خاطت شفًا في قميصها في ضوء مشعلة سلطانية، ففقدت قلبها زمانًا حتى تذكرت ذلك فشقت قميصها فوجدت قلبها. ورؤى سفيان الثوري رحمه الله في المنام وله جناحان يطير بهما في الجنة من شجرة إلى شجرة، فقيل له: بم نلت هذا؟ قال: بالورع. وكان حسان بن أبي سنان رحمه الله لا ينام مضطجعًا ولا يأكل سمينًا ولا يثرب باردًا ستين سنة، فرؤى في المنام بعد ما مات فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: خيرًا، إلا أني محبوس عن الجنة بإبرة استعرتها فلم أردها. وكان لعبد الواحد بن زيد غلام خدمة سنين وتعبد أربعين سنة، وكان في ابتداء أمره كيالًا، فلما مات رؤى في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: خيرًا غير أني محبوس عن الجنة، وقد أخرج على من غبار القفيز أربعين قفيزًا. ومر عيسى ابن مريم عليه السلام بمقبرة، فنادى رجلًا منهم فأحياء الله تعالى فقال: من أنت؟ كنت حمالًا أنقل للناس، فنقلت يومًا لإنسان حطبًا فكسرت منه خلالًا

(فصل) ولا يتم الورع إلا أن يرى عشرة أشياء فريضة على نفسه

تخللت به فأنا مطالب به منذ مت. (فصل) ولا يتم الورع إلا أن يرى عشرة أشياء فريضة على نفسه: أولها: حفظ اللسان من الغيبة لقوله تعالى {ولا يغتب بعضكم بعضًا} [الحجرات: 12] والثاني: الاجتناب عن سوء الظن لقوله تعالى: {اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم} [الحجرات: 12] ولقوله -صلي الله عليه وسلم-: "إياكم والظن فإنه أكذب الحديث". والثالث: الاجتناب عن السخرية لقوله تعالى: {لا يسخر قوم من قوم} [الحجرات: 11] والرابع: غض البصر عن المحارم لقوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} [النور:30]. والخامس: صدق اللسان لقوله تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا} [الأنعام: 152]. يعني فاصدقوا. والسادس: أن يعرف منة الله تعالى عليه لكيلا يعجب بنفسه لقوله تعالى: {بل والله يمن عليكم أن هداكم للإيمان} [الحجرات: 17]. والسابع: أن ينفق ماله في الحق ولا ينفقه في الباطل لقوله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا} [الفرقان: 67]. يعني لم ينفقوا في المعصية ولم يمنعوا من الطاعة. والثامن: ألا يطلب لنفسه العلو والكبر لقوله تعالى: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا} [القصص:83]. والتاسع: المحافظة على الصلوات الخمس في مواقيتها بركوعها وسجودها لقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238]. والعاشر: الاستقامة على السنة والجماعة لقوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153]. (فصل) ويجوز أن يتوب عن بعض الذنوب دون بعض إذا لم يمكنه التوبة عن جميعها في حالة واحدة، مثل أن يتوب عن الكبائر دون الصغائر، لعلمه أن الكبائر

أعظم عند الله وأجلب لسخطه ومقته، والصغائر دونها، في الرتبة، إذ هي أقرب إلى تطرق العفو إليها، فلا يستحيل أن يتوب عن الأعظم، ثم إذا قوى الإيمان واليقين في قلبه، وظهرت أنوار الهداية وانشراح صدره للإنابة إلى الله تعالى، حينئذ تاب عن جميع الصغائر ودقائق الزلات والشرك الخفي وذنوب القلب أجمع، ومعاصي الحالات والمقامات بعد ذلك كلما رفع إلى حالة ومقام كان هناك ما يأتي وما يذر، أمر ونهى يعرفه كل ذائق لهذا الأمر، وسالك لهذه الطريق ومخالط لأهله. فلا يأخذ الناس في أول وهلة بما هو منتهي الأمر "إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ولا منفرين، إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإن المنبت - أي المنقطع - لا طريقًا سلك ولا ظهرًا أبقى". ومثل من يتوب عن بعض الكبائر دون بعض لعلمه أن بعضها أشد من البعض عند الله وأغلظ عقوبة وأبلغ، كالذي يتوب عن القتل والنهب والظلم للعباد، لعلمه أن ديون العباد لا تترك، وما بينه وما بين الله تعالى يتسارع العفو إليه. ومثل أن يتوب عن شرب الخمر دون الزنا، لعلمه أن الخمر مفتاح الشر، فإنه إذا زال عقله ارتكب جميع المعاصي وهو لا يشعر بها من القذف والسب والكفر بالله والزنا والقتل والغصب، لأن الخمر مجمع المعاصي وأمها وأصلها. وكمن يتوب عن صغيرة أو صغائر وهو مصر على كبيرة، مثل أن يتوب عن الغيبة أو عن النظر إلى المحرم، وهو مصر على شرب الخمر لشدة ضراوته بالخمر ولهجه بها وتعوده لها وتسويل نفسه بأنه مداو مرضه بها، وقد أمرنا باستعمال الدواء وتزيين الشيطان له ذلك وتحسينه وقوة شهوته فيها لما في شربها من السرور والفرح وذهاب الهموم وصحة الجسم على زعمهم، وذهول عن بوائقها وعاقبتها، والغفلة عن عقوبة الله له لأجلها، وفساد الدين والدنيا بها، لأنها سبب زوال العقل الذي به انتظام أمر الدين والدنيا والآخرة. وإنما قلنا أنه تصح التوبة عن بعض هذه الذنوب دون بعض لأنه لا يخلو كل مسلم من جمع بين طاعة الله ومعصيته في الأحوال كلها، وإنما يتفاوتون في الحالات وعظم الذنوب وصغرها على قرب أحوالهم من الله وبعدها. فإذا قال الفاسق إن قهرني الشيطان بواسطة غلبة الشهوة في بعض المعاصي، فلا

(فصل: في ذكر الأخبار والآثار الواردة في التوبة)

ينبغي لي أن أرخى العنان وخلع العذار بالكلية، فأنمزج في المعاصي، بل أجاهد فيما يخف على من ترك بعض المعاصي فأتركها فيكون قهري لبعض ذلك كفارة لبعض الباقي، ولعل الله يراني أخافه في بعض معاصيه، وأتركها لأجله، وأجاهد نفسي وشيطاني في تركها، فيعينني ويوفقني، ويحول بيني وبين بقية المعاصي برحمته. ولو لم يكن الأمر على ما قلنا لما صحت صلاة كل فاسق ولا صومه ولا زكاته ولا حجه ولا شيء من الطاعات، بأن يقال له: أنت فاسق خارج من طاعة الله بفسقك، مخالف لأمره، فعبادتك هذه لغير الله تعالى، فإن زعمت أنها لله عز وجل فاترك الفسق، فإن أمر الله فيه واحد ولا يتصور أن تقصد بصلاتك التقرب إلى الله ما لم تتقرب بترك الفسق. وهذا محال لا يقال، فما هذا إلا بمثابة من عليه ديناران لرجلين وهو قادر على الأداء إليهما، فأدى أحد الدينارين إلى أحدهما وجحد الآخر، وحلف عليه مع علمه ذلك وتحققه له، فلا شك أن ذمته بريئة مما قد أدى ومشتغلة بما جحد وأبى. فكذلك من أطاع الله تعالى في بعض أوامره مطيع له بطاعته، وإذا عصاه في بعض نواهيه عاص له بمعصية فهو مؤمن ملئ ناقص الإيمان طائع بطاعته عاص مخالف له بمخالفته، وهذا هو دأب كل مخلط في أمر دينه إلى أن يبلغ إلى حالة يزول هواه، فتنقطع عنه جميع المعاصي إلا من شاء الله أن يقضي عليه بها، إذ لا معصوم، ويتوب الله على من تاب، ويتفضل بالرحمة على من تاب. (فصل: في ذكر الأخبار والآثار الواردة في التوبة) قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: "خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة فقال: أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم تسعدوا، وأكثروا الصدقة ترزقوا، وأمروا بالمعروف تحصنوا، وانهوا عن المنكر تنصروا". وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يقول: "اللهم اغفر لي وتب على إنك أنت التواب الرحيم".

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن إبليس حين اهبط إلى الأرض قال: وعزتك وجلالك لا أزال أغوى ابن آدم ما دام الروح في جسده، فقال الرب: وعزتي وجلالي لا أمنعه التوبة ما لم يتغرغر بنفسه". وعن محمد بن عبد الله السلمي رحمه الله أنه قال: جلست إلى نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة فقال رجل منهم: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من تاب قبل موته بنصف يوم تاب الله عليه". وقال آخر: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من تاب قبل الغرغرة تاب الله عليه". وعن محمد بن مطرف رحمه الله أنه قال: يقول الله تعالى: ويح ابن آدم يذنب الذنب فيستغفرني فأغفر له، ثم يعود فأغفر له، ويحه لا هو يترك ذنبه ولا هو ييأس من رحمتي، أشهدكم أني قد غفرت له. وقال أنس رضي الله عنه: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته بعدما أنزلت {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} [هود: 3] يستغفرون كل يوم مائة مرة ويقولون: نستغفر الله ونتوب إليه. قال: "وجاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إني أذنبت ذنبًا، قال -صلى الله عليه وسلم-: استغفر الله، فقال: إني أتوب ثم أعود، قال -صلى الله عليه وسلم-: كلما أذنبت فتب حتى يكون الشيطان هو الحسير، قال: يا نبي الله إذا تكثر ذنوبي، فقال -صلى الله عليه وسلم-: عفو الله أكثر من ذنوبك ... ". وقال الحسن رحمه الله: لا تتمنى المغفرة بغير التوبة ولا تتمنى الثواب بغير العمل، لأن الغرة بالله أن تتمادى في سخطه، وتترك العمل بما يرضيه، وتتمنى عليه المغفرة، فتغرك الأماني، حتى يحل بك أمره، أما سمعته يقول: {وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور} [الحديد: 14]، وقال الله تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى} [طه: 82]، وقال عز وجل: {ورحمتي وسعت كل شيء

فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} [الأعراف: 156]. فالطمع في الرحمة والجنة من غير توبة وغير تقوى حمق وجهل وغرور لأنهما مقيدتان بهاتين الآيتين. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه بأصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا فطار". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن العبد ليذنب الذنب فيدخله الجنة، فقالوا: يا نبي الله وكيف يدخله الجنة؟ قال: يكون الذنب نصب عينه يستغفر منه ويندم عليه حتى يدخله الجنة". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لم أر شيئًا أحسن طلبًا ولا أسرع إدراكًا من حسنة حديثة لذنب قديم {إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} [هود: 114]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أذنب العبد ذنبًا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإذا تاب وفزع واستغفر صفا قلبه منها، وإذا لم يتب ولم ينزع ولم يستغفر كان الذنب على الذنب والسواد على السواد حتى يعمى القلب فيموت، فذلك قوله عز وجل: {كلا بل ران على قلوبهم كانوا يكسبون} [المطففين: 14] ". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ترك الخطيئة أهون من طلب التوبة فاغتنم غفلة المنية". قال: وكان آدم بن زياد رحمه الله يقول: لينزلن أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت، فاستقال ربه فأقاله، فليعمل بطاعة الله. قيل: أوحى الله تعالى إلي داود عليه السلام: أتق أن آخذك على غرة فتلقاني بلا حجة. ودخل بعض الصالحين على عبد الملك بن مروان، فقال له: عظني، فقال: هل أنت على استعداد لحلول الموت إن أتاك؟ قال: لا. قال: فهل أنت مجمع على التحول عن هذه الحالة إلى حالة ترضاها؟ قال: لا. قال: فهل بعد الموت دار فيها مستعتب؟ قال: لا.

(فصل آخر: في ذلك)

قال: فهل تأمن الموت أن يأتيك على غرة؟ قال: لا. قال: ما رأيت مثل هذه الخصال يرضى بها عاقل. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الندم توبة". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من أذنب ذنبًا ثم ندم عليه فهو كفارته". وقال الحسن رحمه الله: التوبة على أربع: دعاء، ثم استغفار باللسان، وندم بالقلب، وترك بالجوارح، وإضمار ألا يعود. وقال: التوبة النصوح: أن يتوب ثم لا يرجع فيما تاب منه. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه، كالمستهزئ بربه، وإن الرجل إذا قال: أستغفرك وأتوب إليك، ثم عاد ثم قالها ثم عاد ثلاث مرات كتبت في الرابعة من الكبائر". وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: كن وصي نفسك ولا تجعل الرجال أوصياءك، كيف تلومهم أن يضيعوا وصيتك وقد ضيعتها في حياتك؟ وأنشد بعضهم يقول: تمتع إنما الدنيا متاع ... وإن دوامها لا يستطاع وقدم ما ملكت وأنت حي ... أمير فيه متبع مطاع ولا يغررك من توصى إليه ... فقصر وصية المرء الضياع وقال آخر: إذا مات كنت متخذًا وصيًا ... فكن فيما ملكت وصى نفسك ستحصد ما زرعت غدًا وتجنى ... إذا وضع الحساب ثمار غرسك (فصل آخر: في ذلك) عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: "إن الرجل موكل به ملكان أحدهما عن يمينه والثاني عن شماله، صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال، فإذا عمل العبد

حسنة كتب له صاحب اليمين عشرًا، فإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال صاحب اليمين أمسك عنه فيمسك عنه ست ساعات من النهار أو سبعًا، فإن استغفر الله تعالى منها لم يكتب عليه شيئًا، وإن لم يستغفر كتب عليه سيئة واحدة". وفي لفظ آخر: "إن العبد إذا أذنب لم يكتب عليه حتى يذنب ذنبًا آخر فإذا اجتمعت عليه خمسة من الذنوب فإذا عمل حسنة واحدة كتب له خمس حسنات وجعل الخمس بإزاء خمس سيئات، فيصيح عند ذلك إبليس لعنة الله ويقول: كيف لي أن استطيع على ابن آدم فإني وإن اجتهدت عليه يبطل بحسنة واحدة جميع جهدي". وروي يونس عن الحسن -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس من عبد إلا عليه ملكان، وصاحب اليمين أمير على صاحب الشمال، فإذا عمل العبد السيئة قال له صاحب الشمال: أكتبها؟ فيقول له صاحب اليمين: دعه حتى يعمل خمس سيئات، فإذا عمل خمس سيئات، قال صاحب الشمال أكتبها؟ فيقول صاحب اليمين: دعه حتى يعمل حسنة، فإذا عمل حسنة، قال له صاحب اليمين: قد أخبرنا بأن الحسنة بعشر أمثالها، فتعال نمحو خمسًا بخمس ونثبت له خمسًا من الحسنات، قال: فيصيح الشيطان عند ذلك فيقول: متى أدرك ابن آدم. وهذه الأحاديث موافقة لقوله عز وجل: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى} [طه: 82]. قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "مكتوب حول العرش قبل آدم بأربعة آلاف عام {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى} [طه: 82]. وموافقة لقوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} [هود: 114]. وروى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: إذا تاب العبد وتاب الله عليه أنسى الله تعالى حفظته ما كان قد عمل من مساوئ عمله، وأنسى جوارحه ما عملت من الخطايا، وأنسى مقامه من الأرض، وأنسى مقامه من السماء فيجئ يوم القيامة وليس عليه شيء شهيد عليه".

(فصل آخر: في ذلك)

وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له ... " وفي لفظ "ولو عاد في اليوم سبعين مرة". وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "من قال: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، ثلاث مرات، غفر له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر". وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "ينظر الإنسان في كتابه يوم القيامة فيرى في أوله المعاصي وفي آخره الحسنات، فإذا رجع إلى أول الكتاب رأى كل ذلك حسنات، وذلك قوله تعالى: {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} [الفرقان: 70]. وهذا هو في حق التائب الذي ختم الله له بالتوبة والإنابة. وقال بعض السلف: إن العبد إذا تاب من الذنوب صارت الذنوب الماضية كلها حسنات. ولهذا قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: وليتمنين أناس يوم القيامة أن تكثر سيئاتهم، وإنما قال ذلك لما ذكر الله تعالى من تبديل السيئات بالحسنات لمن يشاء من عباده. وروى عن الحسن البصري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لو أخطأ أحدكم حتى يملأ ما بين السماء والأرض ثم تاب، تاب الله عليه". ولهذا جاء في الخبر: "يا ابن آدم لو لقيتني بقراب الأرض ذنوبًا لقيتك بقرابها مغفرة". (فصل آخر: في ذلك) وروى أن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- ذات يوم في موضع من نواحي الكوفة، وإذا الفساق قد اجتمعوا في دار رجل منهم وهم يشربون الخمر، ومعهم مغن يقال له زاذان كان يضرب بالعود ويغنى بصوت حسن، فلما سمع ذلك عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله تعالى كان أحسن، وجهل رداءه على رأسه ومضى، فسمع ذلك الصوت زاذان، فقال: من هذا؟

قالوا: كان عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: وأيش قال؟ قالوا: قال: ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة القرآن كان أحسن، فدخلت الهيبة قلبه، فقام فضرب بالعود على الأرض فكسره، ثم أسرع حتى أدركه وجعل المنديل في عنق نفسه وجعل يبكى بين يدي عبد لله فاعتنقه عبد الله وجعل يبكي كل واحد منهما، ثم قال عبد الله -رضي الله عنه-: كيف لا أحب من قد أحبه الله؟ فتاب من ضربه بالعود، وجعل يلازم عبد الله حتى تعلم القرآن وأخذ الحظ الوافر من العلم حتى صار إمامًا في العلم، وقد جاء في كثير من الأخبار روي زاذان عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وروي زاذان عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه-. وفي الإسرائيليات مروى أنه كانت امرأة بغية مغنية مفتنة للناس بجمالها، وكان باب دارها أبدًا مفتوحًا وهي قاعدة على السرير بحذاء الباب فكل من مر بها ونظر إليها افتتن بها واحتاج إلى عشرة دنانير أو أكثر من ذلك حتى تأذن له بالدخول عليها، فمر على بابها ذات يوم عابد من عباد بني إسرائيل فوقع بصره عليها في الدار وهي قاعدة على السرير فافتتن بها وجهل يجادل نفسه حتى أنه يدعو الله تعالى أن يزول ذلك عن قلبه، فلم يزل ذلك عن نفسه، ولم يملك نفسه حتى باع قماشًا كان له، فجمع من الدنانير ما يحتاج إليه، فجاء إلى بابها فأمرته أن يسلم الذهب إلى وكيل لها وواعدته لمجيئه، فجاء إليها لذلك الوعد وقد تزينت وجلست في بيتها على سريرها، فدخل عليها العابد وجلس معها على السرير، فلما مد يديه إليها وانبسط معها، تداركه الله برحمته ببركة عبادته المتقدمة، فوقع في قلبه أن الله تعالى يراني في هذه الحالة من فوق عرشه، وأنا في الحرام وقد حبط عملي كله، فوقعت الهيبة في قلبه، فارتعد في نفسه، وتغير لونه، فنظرت إليه المرأة فرأته متغير اللون، فقالت له: أيش أصابك يا رجل؟ فقال: إني أخاف الله ربي، فأذني لي بالخروج، فقالت له: ويحك إن كثيرًا من الناس يتمنون الذي وجدته فأيش هذا الذي أنت فيه؟ فقال: إني أخاف الله جل ثناؤه وإن المال الذي دفعته إلى وكيلك هو لك حلال، فأذني لي بالخروج، فقالت له: كأنك لم تعمل هذا العمل قط؟ قال: لا، فقالت له: من أين أنت وما اسمك؟ فأخبرها أنه من قرية كذا واسمه كذا، فأذنت له بالخروج من عندها، فخرج وهو يدعو بالويل والثبور ويبكي على نفسه، فوقعت الهيبة في قلب المرأة ببركة ذلك العابد، فقالت في نفسها: إن هذا الرجل أو ذنب أذنب فدخل عليه من الخوف ما دخل، وإني قد أذنبت منذ كذا وكذا سنة،

وإن ربه الذي خاف منه هو ربي، فينبغي أن يكون خوفي أشد من خوفه، فتابت إلى الله وغلقت الباب على الناس ولبست ثيابًا خلقًا وأقبلت على العبادة، فكانت في عبادتها ما شاء الله تعالى، فقالت في نفسها: إني لو انتهيت إلى ذلك الرجل لعله يتزوجني، فأكون عنده وأتعلم منه أمر ديني ويكون عونًا لي علي عبادة ربي، فتجهزت وحملت من الأموال والخدم ما شاء الله، وانتهت إلى تلك القرية وسألت عنه، فأخبروا العابد أنه قدمت امرأة تسأل عنك، فخرج العابد إليها، فلما رأته المرأة كشفت عن وجهها لكي يعرفها، فلما رآها العابد وعرف وجهها وتذكر الأمر الذي كان بينه وبينها صاح صيحة فخرجت روحه. فبقيت المرأة حزينة وقالت في نفسها: إني خرجت لأجله وقد مات فهل له أحد من أقربائه يحتاج إلى امرأة، فقالوا لها: له أخ صالح لكنه معسر لا مال له، فقالت: لا بأس به، فإن لي مالًا يكفينا، فجاء أخوه فتزوج بها، فولدت له سبعًا من البنين (كلهم صاروا أنبياء في بني إسرائيل). فانظر إلى بركة الصدق والطاعة وحسن النية كيف هدى الله زاذان بعبد الله بن مسعود لما كان صادقًا حسن السريرة فلا يصلح بك الفاسد حتى تكون أنت صالحًا في ذات نفسك، خائفًا لربك إذا خلوت، مخلصًا له إذا خالطت، غير مراء للخلق في حركاتك وسكناتك، موحدًا لله عز وجل في ذلك كله، فحينئذ يزاد في توفيقك وتسديد وتحفظ عن الهوى والإغواء من شياطين الجن والإنس والمنكرات كلها والفساق والبدع والضلالات أجمع، فزال بك المنكر من غير تكلف، ومن غير أن يصير المعروف منكرًا، كما هو في زماننا، ينكر أحدهم منكرًا واحدًا فيتفرع منه منكرات جمة وفاسد عظيم من السب والقذف والضرب والكسر وتخريق الثياب وإفساد الأموال، وكل ذلك لقلة صدقهم ونقصان إيمانهم ويقينهم وغلبة أهويتهم عليهم. فالمنكر فيهم بعد وفرض إزالته متوجه عليهم وبأنفسهم شغل طويل وهم ينكرون على الغير فيتركون الفرض العين ويتعلقون بالفرض على الكفاية، ويتركون ما يعنيهم ويشتغلون بما لا يعنيهم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". من أراد أن يزول به المنكر بسرعة، فعليه بالإنكار على نفسه والوعظ لها، ومنعها

(فصل) وإنما تعرف توبة التائب في أربعة أشياء

وفطمها عن المعاصي ما ظهر منها وما بطن، فإذا تطهر من ذلك كله حينئذ اشتغل بغيره، فزال به المنكر بأحسن ما يكون من الوجوه، كما زال في حق عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-. وانظر إلى بركة العبادة والصدق أيضًا في حق العابد كيف نجاه الله من البغية وارتكاب الكبيرة {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} [يوسف: 24]. فالله تعالى حال بينه وبين تلك الفاحشة لما تقدم له من الصدق في الخلوات وحسن الطاعة فيما سلف من الأيام والساعات، ثم كيف نجى الله تعالى تلك البغية ببركة العابد، ثم كيف نالت بركته أخاه، فأزال الله فقره وجهده، وزوجه بأحسن النساء، وأغناه ورزقه من حيث لا يحتسب، وجعله أبا الأنبياء السبعة، وجعلها أمهم عليهم السلام. فالخير كله في الطاعة والشر كله في المعصية، فلا كانت المعصية ولا كنا إذا كنا من أهلها. (فصل) وإنما تعرف توبة التائب في أربعة أشياء: أحدها: أن يملك لسانه من الفضول والغيبة والنميمة والكذب. والثاني: ألا يرى لأحد في قلبه حسدًا ولا عداوة. والثالث: أن يفارق إخوان السوء، فإنهم هم الذين يحملونه على رد هذا القصد ويشوشون عليه صحة هذا العزم، ولا يتم له ذلك إلا بالمواظبة على المشاهدة التي تزيد بها رغبته في التوبة، وتوفر دواعيه على إتمام ما عزم عليها مما يقوى خوف ورجاءه، فعند ذلك تنحل من قلبه عقد الإصرار على ما هي عليه من قبيح الأفعال، فيقف عن تعاطي المحظورات، ويكبح لجام نفسه عن متابعة الشهوات فيفارق الزلة في الحال، ويبرم العزيمة على ألا يعود إلى مثلها في الاستقبال. والرابع: أن يكون مستعدًا للموت نادمًا مستغفرًا لما سلف من ذنوبه مجتهدًا في طاعة ربه. وقيل: علامة أنه مقبول التوبة أربعة أشياء. أولها: أن ينقطع عن أصحاب الفسق ويريهم هيبته من نفسه، ويخالط الصالحين.

والثاني: أن يكون منقطعًا عن كل ذنب مقبلًا على جميع الطاعات. والثالث: أن يذهب فرح الدنيا من قلبه، ويرى حزن الآخرة دائمًا في قلبه. والرابع: أن يرى نفسه فارغًا عما ضمن الله له، يعني الرزق، مشتغلًا بما أمر الله به. فإذا وجدت فيه هذه العلامات كان من الذين قال الله تعالى في حقهم: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} [البقرة: 222]. ووجب له على الناس أربعة أشياء: أولها: أن يحبوه لأن الله قد أحبه. والثاني: أن يحفظوه بالدعاء على أن يثبته الله تعالى على التوبة. والثالث: ألا يعيروه بما سلف من ذنوبه لما روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من عير مؤمنًا بفاحشة فهو كفارة لها، وكان حقًا على الله تعالى أن يوقعه فيها، ومن عير مؤمنًا بجريرة لم يخرج من الدنيا حتى يركبها ويفتضح بها". ولأن المؤمن لا يقصد الوقوع في الذنب ولا يتعمده ولا يعتقده دينًا بتدين به، وإنما يكون ذلك فيه بتزيين الشيطان وفرط ضراوة الشهوة وشد الشبق وتراكم الغفلة والغرة، قال الله تعالى: {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات: 7]. فقد أخبر أنه بغض إلى المؤمنين المعصية، فلا يجوز أن يعير بها إذا تاب وأناب، بل يدعى له بالثبات على التوبة والتوفيق والحفظ. والرابع: أن يجالسوه ويذاكروه ويعينوه. ويكرمه الله تعالى أيضًا بأربع كرامات: أحدها: أن يخرجه من الذنوب كأنه لم يذنب قط. والثانية: يحبه الله تعالى. والثالثة: ألا يسلط عليه الشيطان ويحفظه منه. والرابعة: أن يؤمنه من الخوف قبل أن يخرجه من الدنيا لأنه عز وجل قال: {تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون} [فصلت: 30].

(فصل: في ذكر أقاويل شيوخ الطريقة في التوبة)

(فصل: في ذكر أقاويل شيوخ الطريقة في التوبة) قال أبو علي الدقاق رحمه الله: التوبة على ثلاثة أقسام: أولها: التوبة، وأوسطها: الإنابة، وآخرها: الأوبة. فالتوبة بداية والإنابة واسطة والأوبة نهاية. فإن من تاب لخوف العقوبة كان صاحب توبة، ومن تاب طمعًا في الثواب أو رهبة من العقاب كان صاحب إنابة، ومن تاب مراعاة للأمر لا لرغبة في الثواب أو رهبة من العقاب كان صاحب أوبة. وقيل أيضًا: التوبة: صفة المؤمنين، قال الله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} [ص: 30، 44]. وقال الجنيد رحمه الله تعالى: التوبة على ثلاثة معان: الأول: يندم. والثاني: يعزم على ترك المعاودة لما نهى الله عنه. والثالث: يسعى في أداء المظالم. وقال سهل بن عبد الله رحمه الله: التوبة وترك التسويف. وقال الجنيد: سمعت الحارث يقول: ما قلت قط اللهم إني أسألك التوبة، ولكني أقول: أسألك شهوة التوبة. وقال الجنيد: دخلت على السري رحمه الله يومًا فرأيته متغيرًا، فقلت له: ما لك؟ فقال: دخل على شاب فسألني عن التوبة، فقلت له: إلا تنسى ذنبك، فعارضني وقال: بل التوبة أن تنسى ذنبك، فقلت: إن الأمر عندي على ما قاله الشاب، فقال: لم؟ قلت: لأني إذا كنت في حال الجفاء فنقلني إلى حال الوفاء، فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء، فسكت. وقال سهل بن عبد الله رحمه الله: التوبة ألا تنسى ذنبك. وقال الجنيد رحمه الله حين سئل عن التوبة: هي أن تنسى ذنبك. وتكلم أبو نصر السراج رحمه الله في المقالتين فقال: أشار سهل إلى أحوال المريدين

والمتعرضين تارة لهم وتارة عليهم. فأما الجنيد فإنه أشار إلى توبة المحققين، فلا يذكرون ذنوبهم مما غلب على قلوبهم من عظمة الله تعالى ودوام ذكره. وقال: وهو مثل ما سئل رويم عن التوبة فقال: التوبة من التوبة. وقال ذو النون المصري رحمه الله: توبة العوام من الذنوب وتوبة الخواص من الغفلة. وقال أبو الحسين النوري رحمه الله: التوبة أن نتوب من كل شيء سوى الله عز وجل. قال عبد الله بن علي بن محمد التميمي رحمهم الله: شتان بين تائب يتوب من الزلات، وتائب يتوب من الغفلات، وتائب يتوب من رؤية الحسنات. وقال أبو بكر الواسطى رحمه الله: التوبة النصوح ألا يبقى على صاحبها أثر من المعصية سرًا ولا جهرًا، ومن كانت توبته نصوحًا لا يبالي كيف أمسى وأصبح. وقال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله في مناجاته: إلهي لا أقول تبت ولا أعود لما أعرف من خلقي، ولا أضمن ترك الذنوب لما أعرف من ضعفي، ثم إني أقول لا أعود لعلي أموت قبل أن أعود. وقال ذو النون رحمه الله: الاستغفار من غير إقلاع توبة الكذابين. وقال أيضًا رحمه الله: حقيقة التوبة أن تضيق عليك الأرض بما رحبت ثم تضيق عليك نفسك كما أخبر الله تعالى في كتابه العزيز {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا} [التوبة: 118]. وقال ابن عطاء رحمه الله: التوبة توبتان: توبة الإنابة، وتوبة الاستجابة. فتوبة الإنابة: أن يتوب العبد خوفًا من عقوبته، وتوبة الاستجابة: أن يتوب حياء من كرمه. وقال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله: زلة واحدة بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها. وقال أبو عمرو الأنماطي رحمه الله: ركب علي بن عيسى الوزير في موكب عظيم فجعل الغرباء يقولون: من هذا؟ فقالت امرأة قائمة على الطريق إلى متى تقولون من هذا؟ هذا عبد سقط من عين الله فأبلاه الله بما ترون، فسمع علي بن عيسى ذلك، فرجع إلى منزله واستعفى من الوزارة، وذهب إلى مكة وجاور بها إلى أن مات.

مجلس: في قوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}

مجلس: في قوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13] اختلف العلماء رحمهم الله في معنى التقوى وحقيقة المتقى. فالمنقول عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "جماع التقوى في قوله عز وجل: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} [النحل: 90]. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: المتقى الذي يتقى الشرك والكبائر والفواحش. وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: التقوى ألا ترى نفسك خيرًا من أحد. وقال الحسن رحمه الله: المتقى هو الذي يقول لكل من رآه هذا خير مني. وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لكعب الأحبار: حدثني عن التقوى، قال: هل أخذت طريقًا ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فما عملت فيه؟ فقال: حذرت وشمرت، قال كعب: كذلك التقوى. فنظمه الشاعر: خل الذنوب صغيرها ... وكبيرها فهو التقى واصنع كماش فوق أر ... ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة ... إن الجبال من الحصى وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: ليس التقى صيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله، فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير. وقيل ليطلق بن حبيب: أجمل لنا التقوى، فقال: التقوى عمل بطاعة الله على نور من الله رجاء لثواب الله حياء من الله. وقيل: التقوى: ترك معصية الله على نور من الله مخافة عقاب الله. وقال بكر بن عبد الله رحمه الله: لا يكون الرجل تقيًا حتى يكون نفي المطعم وتقي الغضب.

وقال عمر بن عبد العزيز أيضًا رحمه الله: المتقى ملجم كالمحرم في الحرم. وقال شهر بن حوشب رحمه الله: المتقي الذي يترك ما لا بأس به حذرًا من الوقوع فيما فيه بأس. وقال سفيان الثوري وفضيل رحمهما الله: هو الذي يحب للناس ما يحب لنفسه. وقال الجنيد بن محمد: ليس المتقي الذي يحب للناس ما يحب لنفسه، إنما المتقي الذي يحب للناس أكثر مما يحب لنفسه، أتدرون ما وقع لأستأذى سرى السقطى رحمه الله؟ سلم عليه ذات يوم صديق له، فرد عليه السلام وهو عابس لم يتبشش له، فقلت له في ذلك، فقال: بلغني أن المرء المسلم إذا سلم على أخيه ورد عليه أخوه قسمت بينهما مائة رحمة تسعون منها لأبشهما وعشرة للآخرة فأحببت أن يكون له التسعون. وقال محمد بن علي الترمذي رحمه الله: هو الذي لا خصم له. وقال سرى السقطي رحمه الله: هو الذي يبغض نفسه. وقال الشبلي رحمه الله: هو الذي يتقى ما دون الله. قال الناطق الصادق: إلا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل وقال محمد بن خفيف رحمه الله: التقوى مجانبة كل ما يبعدك عن الله. وقال القاسم بن القاسم رحمه الله: هو المحافظة على آداب الشريعة. وقال الثوري رحمه الله: هو الذي يتقى الدنيا وآفاتها. وقال أبو يزيد رحمه الله: هو التورع عن جميع الشبهات. وقال أيضًا: المتقى من إذا قال قال لله، وإذا سكت سكت لله، وإذا ذكر ذكر لله. وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: لا يكون العبد من المتقين حتى يأمنه عدوه كما يأمنه صديقه. وقال سهل رحمه الله: المتقى من تبرأ من حوله وقوته. وقيل: التقوى ألا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك. وقيل: هو الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-. وقيل: هو أن تتقى بقلبك من الغفلات، وبنفسك من الشهوات، وبحلقك من

اللذات، وبجوارحك من السيئات، فحينئذ يرجى لك الوصول إلى رب الأرض والسموات. وقال أبو القاسم رحمه الله: هي حسن الخلق. وقال بعضهم: يستدل على تقوى الرجل بثلاث: بحسن التوكل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر على ما فات. وقيل: المتقى هو الذي يتقى متابعة هواه. وقال مالك رحمه الله: حدثني وهب بن كيسان أن بعض فقهاء أهل المدينة كتب إلى عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-: إن لأهل التقوى علامات يعرفون بها: الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، والشكر عند النعماء، والتذلل لأحكام القرآن. وقال ميمون بن مهران رحمه الله: لا يكون الرجل تقيًا حتى يكون أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح والسلطان الجائر. وقال أبو تراب رحمه الله: بين يدي التقوى خمس عقبات من لا يجاوزها لا ينالها وهي: اختيار الشدة على النعمة، واختيار القوة على الفصول، واختيار الذل على العز، واختيار الجهد على الراحة، واختيار الموت على الحياة. وقال بعضهم: لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلا إذا كان بحيث لو جعل ما في قلبه على طبق فطاف به في السوق لم يستح من شيء مما عليه. وقيل: التقوى أن تزين سرك للحق كما تزين علانيتك للخلق. وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: يريد المرء أن يعطي مناه ... ويأبى الله إلا ما أرادا يقول المرء فائدتي وماله ... وتقوى الله أفضل ما استفاد عن مجاهد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبي الله أوصني، فقال -صلى الله عليه وسلم-: عليك بتقوى الله فإنه جامع كل خير، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله فإنه نور لك". وعن ابن هرمز نافع بن هرمز رحمه الله قال: سمعت أنسًا -رضي الله عنه- يقول:

"قيل يا محمد من آل محمد؟ قال: كل تقى" فالتقوى جماع الخيرات. وحقيقة الاتقاء: التحرز بطاعة الله عز وجل عن عقوبته: يقال: اتقى فلان بترسه. وأصل التقوى: اتقاء الشرك، ثم بعده اتقاء المعاصي والسيئات، ثم بعده اتقاء الشبهات، ثم يدع بعده الفضلات. وجاء في تفسير قوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} [آل عمران: 102] هو أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. وقال سهل بن عبد الله رحمه الله: لا معين إلا الله، ولا دليل إلا رسول الله، ولا زاد إلا التقوى، ولا عمل إلا الصبر عليه. وقال الكتاني رحمه الله: قسمت الدنيا على البلوى، وقسمت الجنة على التقوى، ومن لم يحكم بينه وبين الله التقوى والمراقبة لم يصل إلى الكشف والمشاهدة. وقال النصر أباذي أيضًا: من لزم التقوى اشتاق إلى مفارقة الدنيا، لأن الله تعالى يقول: {وللدار الآخرة خير للذين يتقون} [الأنعام: 32]. وقال بعضهم: من تحقق في التقوى هون الله على قلبه الإعراض عن الدنيا. وقال أبو عبد الله الروذباري: التقوى مجانية ما يبعدك عن الله تعالى. وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: التقى من لا يدنس ظاهره بالمعارضات، ولا باطنه بالغلالات، ويكون واقفًا مع الله تعالى موقف الاتفاق. وقال ابن عطية رحمه الله تعالى: للمتقى ظاهر وباطن، فظاهره محافظة الحدود، وباطنه النية والإخلاص. وقال أيضًا ذو النون المصري رحمه الله تعالى: لا عيش إلا مع رجال تحن قلوبهم للتقوى وترتاح بالذكر. وقال أبو حفص رحمه الله تعالى: التقوى في الحلال المحض لا غير. وقال أبو الحسين الزنجاني رحمه الله تعالى: من كان رأس ماله التقوى كلت الألسن عن وصف ربحه. وقال الواسطى رحمه الله تعالى: التقوى أن يتقى من تقواه، يعني من رؤية تقواه. وروى أن ابن سيرين رحمه الله تعالى اشترى أربعين جبًا سمنًا فأخرج غلامه فأرة

من جب، فسأله من أي جب من الجبات أخرجتها؟ فقال: لا أدري، فصبها كلها. وروى عن بعض الأئمة أنه كان لا يجلس في ظل شجرة غريمه ويقول: جاء في الخبر "كل قرض جر نفعًا فهو ربًا". وقيل: إن أبا يزيد رحمه الله تعالى غسل ثوبًا في الصحراء مع صاحب له، فقال لصاحبه، نعلق الثياب على جدران الكروم، فقال: لا نغرز الوتد في جدار الناس، فقال: نعلقه على الشجر، فقال: لا إنه يكسر الأغصان، فقال: تبسطه على الأذخر، فقال: لا إنه علف الدواب لا نستره عنها، قيل: فولى ظهره إلى الشمس والقميص على ظهره ووقف حتى جف جانبه، ثم قلبه حتى جف الجانب الآخر. وعن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى أنه قال: بت ليلة تحت صخرة بيت المقدس، فلما كان بعض الليل نزل ملكان، فقال أحدهما لصاحبه: من هاهنا؟ فقال الآخر: إبراهيم بن أدهم، فقال: ذاك الذي حط الله درجة من درجاته، فقال: لم ذلك؟ قال: لأنه اشترى بالبصرة التمر، فوقعت تمرة من تمر البقال على تمره، فقال إبراهيم: فمضيت إلى البصرة واشتريت التمر من ذلك الرجل وأوقعت تمرة على تمره، ورجعت إلى بيت المقدس ونمت تحت الصخرة، فلما كان بعض الليل إذا أنا بملكين نزلا من السماء، فقال أحدهما لصاحبه: من هاهنا؟ قال الآخر: إبراهيم بن أدهم، فقال: ذاك الذي رد الشيء إلى مكانه ورفعت درجته. وقيل: التقوى على وجوه: تقوى العامة: ترك الشرك بالخالق، وتقوى الخاصة: ترك الهوى بترك المعاصي ومخالفة النفس في سائر الأحوال، وتقوى خاص الخاص من الأولياء: ترك الإرادة في الأشياء والتجرد في النوافل من العبادات والتعلق بالأسباب، والركون إلى ما سوى المولى، ولزوم الحال والمقام، وامتثال الأمر في جميع ذلك مع إحكام الفرائض. وتقوى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يتجاوزهم غيب في غيب، فهو من الله وإلى الله، يأمرهم وينهاهم، ويوقفهم ويؤدبهم ويهذبهم ويطيبهم ويطبهم، ويكلمهم ويحدثهم، ويرشدهم ويهديهم، ويعطيهم ويهنيهم، ويطلعهم ويبصرهم، لا مجال للعقل في ذلك، فهم في معزل عن البشر بل عن الملائكة أجمع، إلا فيما يتعلق بالحكم

(فصل) وطريق التقوى

الظاهر والأمر المبين الموضوع للأمة وعوام المؤمنين، فإنهم يشاركون الخلق في ذلك، وينفردون عنهم فيما سوى ذلك. وقد يعطى بعض ذلك الكرام من الأبدال والخلص من الأولياء، فتقصر عباراتهم عن ذكر ذلك، فلا تظهر إلى الوجود ولا تدرك بالسمع والحس إلا ما يغلب على اللسان، فتبدر من ذلك كلمة أو كلمات، ثم يتداركه الله بالسكينة والتثبيت وإسبال الستر عليه، فيستيقظ لأمره ويحفظ لسانه ويستغفر الله تعالى مما جرى، ويغير العبارة ويحسن اللفظ على وجه يعقل ويفهم، على ما هو المعهود عند الناس. (فصل) وطريق التقوى أولًا: التخلص من مظالم العباد وحقوقهم، ثم من المعاصي الكبائر منها والصغائر، ثم الاشتغال بترك ذنوب القلب التي هي أمهات الذنوب وأصولها فمنها يتفرع ذنوب الجوارح من الرياء والنفاق والعجب والكبر والحرص والطمع والخوف من الخلق والرجاء لهم وطلب الجاه والرياسة والتقدم على أبناء جنسه، وغير ذلك مما يطول شرحه. وإنما يقوى على جميع ذلك بمخالفة الهوى، ثم الاشتغال بترك الإرادة فلا يختار مع الله شيئًا، ولا يدبر مع تدبيره ولا يتخير عليه ولا ينص على وجهة وسبب في رزقه، ولا يعترض عليه عز وجل في حكمه في خلقه، بل يسلم الكل إليه، ويستسلم بين يديه، ويطرح نفسه لديه، فيصير في يد قدرته كالطفل الرضيع في يد ظئره ودايته، والميت في يد غاسله، مسلوب اختياره، منزوع إرادته، فالنجاة كل النجاة في ذلك. فإن قال قائل: كيف الطريق إلى ذلك؟ قيل له: الطريق إلى ذلك بصدق اللجأ إلى الله عز وجل، والانقطاع إليه، ولزوم طاعته بامتثال أوامره وانتهاء نواهيه، والتسليم في قدره وحفظ الحال، وصيانته حدودها أبدًا. واختلفت أقاويل الشيوخ في النجاة: فقال الجنيد رحمه الله تعالى: ما نجا من نجا إلا بصدق اللجأ إلى الله عز وجل، قال الله عز وجل: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه} [التوبة: 118]. وقال رويم رحمه الله تعالى: ما نجا من نجا إلا بالصدق والتقوى، قال الله عز وجل:

(فصل) وقد دعا الله عز وجل خلقه إلى توحيده

{وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم} [الزمر: 61]. وقال الحريري رحمه الله: ما نجا من نجا إلا بمراعاة الوفاء، قال الله تعالى: {الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق} [الرعد: 20]. وقال عطاء رحمه الله تعالى: ما نجا من نجا إلا بتحقيق الحياء، قال الله تعالى: {ألم يعلم بأن الله يرى} [العلق: 14]. قال بعضهم: ما نجا من نجا إلا بالحكم والقضاء السابق في علم الله عز وجل، قال الله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} [الأنبياء: 101]. وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: ما نجا من نجا إلا بالإعراض عن الدنيا وأهلها، قال الله تعالى: {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو} [محمد: 36]. وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وما تقرب المتقربون إلى الله بشيء أفضل من أداء ما افترض الله عليك ... ". وقال: "منذ خلقها الله تعالى ما نظر إليها". وقال الحسن رحمه الله تعالى: معناه ما نظر إليها بعين رحمته من مقتها فهي الحجاب العظيم، وبها يتبين الخالص من المعيب، ولا يصلح لمن بقى عليه منها شيء الوصول إلى حلاوة مناجاته سبحانه لأنها ضد الله وضد ما يحب الله. (فصل) وقد دعا الله عز وجل خلقه إلى توحيده وطاعته بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب، فحذر وأنذر وخوف وزجر أعذارًا إليهم وتأكيدًا للحجة عليهم. فقال عز وجل: {رسلًا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: 165]. وقال عز من قائل: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولًا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى} [طه: 134]. وقال تعالى في آية أخرى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} [الإسراء: 15]. وقال تعالى: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين} [يونس: 57].

وقال جل وعلا في التخويف والتحذير: {ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد} [آل عمران: 30]. وقال تبارك وتعالى: {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} [البقرة: 235]. وقال جلت عظمته: {واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم} [البقرة: 231]. وقال جلت قدرته: {واتقون يا أولى الألباب} [البقرة: 197]. وقال سبحانه وتعالى: {واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه} [البقرة: 223]. وقال تعالى: {واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} [البقرة: 281]. وقال تعالى: {واتقوا يومًا لا تجزي نفس عن نفس شيئًا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة} [البقرة: 123]. وقال جل جلاله: {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يومًا لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئًا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} [لقمان: 33]. وقال تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم} [الحج: 1]. وقال عز وجل: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا} [النساء: 1]. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا} [الأحزاب: 70]. وقال عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} [الحشر: 18]. وقال تعالى: {واتقوا الله إن الله شديد العقاب} [المائدة: 2]. وقال تعالى: {قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة} [التحريم: 6]. وقال عز وجل: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115]. وقال جل وعلا: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} [القيامة: 36]. وقال تعالى: {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتًا وهم نائمون * أو أمن أهل

القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون} [الأعراف: 97 - 98]. فما جوابك يا مسكين عن هذه الآيات، وما عملك بها؟ فهل انتهيت بها عن إتباع شهواتك الخبيئة المردية لك في الدنيا والآخرة، المحلة لك في دار الشقاء والمهانة التي تحرقك نارها وتنهشك حياتها وتلسعك وتلسنك عقاربها وهوامها، وتأكلك ديدانها، وتضربك زبانيتها وخزانها، ويجدد عليك في كل يوم أنواع عذابها وأنت فيها مع فرعون وهامان ونمرود وقارون والشياطين سواء. وقال في الترغيب: {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا * ويرزقه من حيث لا يحتسب} [الطلاق: 2 - 3]. وقال تعالى: {ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا} [الطلاق: 5]. وقال تعالى: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك} [الانفطار: 6 - 7]. وقال عز وجل: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} [الحديد: 16]. فقد رغبك الله فيما عنده وطلب فضله وسعة رحمته وطيب رزقه والاستراحة إليه والطمأنينة لديه، بسلوك سبيل التقوى وملازمته والمواظبة عليه، فبين بذلك الطريق وأضاء لك المحجة، وضمن لك بعد ذلك غفران الذنوب وتكفير السيئات وعظم الأجر والجزاء بقوله عز وجل: {ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا} [الطلاق: 5]. ثم نبهك عن غرتك به ورقدتك عنه، وتعاميك عن طريقه وتصامك عن سماع آياته ومواعظة وزواجره، فقال تعالى: {ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك} [الانفطار: 6 - 7]. فوصف نفسه بالكريم لئلا تزهد في معاملته وتنفر عن مقاربته وتشتغل عنه بخليقته، ثم ذكرك بأنه خلقك وأوجدك من عدمك، وأحياك بعد أن لم تكن شيئًا، وأغناك بعد فقرك، وقواك بعد ضعفك، وبصرك في مصالحك بعد عماك، وعلمك بعد جهلك، وهداك بعد ضلالتك. فما قعودك يا غافل عن طلب فضله الواسع، وما تثبيطك عن ملازمة طاعته التي تشرفك في الدنيا وتسعدك في العقبي، وترفعك في الدرجات العلى. أرضيت بالحياة الدنيا من الآخرة، واستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير، وآثرت

(فصل) واعلم أن دخول النار بالكفر

الدنيا وأبناءها، وما ظهر لك من زينتها التي لا بقاء لها على الفردوس الأعلى، والمرافقة مع الأنبياء والصديقين والشهداء. أما سمعت قولته عز وجل: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} [التوبة: 38]. وقوله تعالى: {بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى} [الأعلى: 16 - 17]. وقوله تعالى: {فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى} [النازعات: 37 - 39]. * * * (فصل) واعلم أن دخول النار بالكفر وتضاعف العذاب وقسمة الدركات بالأعمال السيئة والأخلاق السيئة، ودخول الجنة بالإيمان وتضاعف النعيم وقسمة الدرجات بالأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة، وأن الله عز وجل خلق الجنة فحشاها بالنعيم ثوابًا لأهلها، وخلق النار فحشاها بالعذاب عقابًا لأهلها، وخلق الدنيا فحشاها بالآفات والنعيم محنة وابتلاء، ثم خلق الخلق والجنة والنار في غيب منهم لم يعاينوهما. فالنعيم والآفات التي في الدنيا هي أنموذج الآخرة ومذاقة ما فيها، وخلق في الأرض من عبيده ملوكًا، أعطاهم سلطانًا أرعب به القلوب وملك به النفوس، فهو أنموذج ومثال لتدبيره وملكه ونفاذ أمره ومعاملته، فجعل خبر ذلك كله تنزيلًا، ووصف الدارين ووصف ملكه وقدرته وتدبيره ومنته وصنائعه وضرب الأمثال على ذلك، ثم قال تعالى، {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43]. فالعلماء بالله يفهمون عن الله أمثاله، لأن المثل إنما هو صفة شيء قد شاهدته يريك صفة ما غاب عنك، ويبصرك بما تبصره بعينك لينفذ بصر قلبك إلى ما لا تبصره عينك، فيعقل قلبك ما خوطبت به من خبر الملكوت وخبر الدارين وخبر معاملة ملك الملوك، فليس في الدنيا نعمة ولا شهوة إلا وهي أنموذج الجنة وذوقها، ثم من وراء ذلك فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فلو سمى للعباد منها شيء لم ينتفعوا بتلك الأسماء، لأنهم لم يعقلوه هاهنا ولا أروه وليس له أنموذج في الدنيا.

والجنة مائة درجة، وإنما وصف منها ثلاث درجات الذهب والفضة والنور، ثم من وراء ذلك غير معقول، ولا تحمله العقول. وكذلك ما في الدنيا من الشدة والعذاب فهو أنموذج دار العقاب، ثم من وراء ذلك ما لا تحمله العقول من ألوان العذاب، كل ذلك يخرج لهم من غضبه ولأهل الجنة من رحمته. فكل من تناول من عبيده من دنياه ما أبيح له وشكره عليها أبدل له من الجنة ما يدق هذا في جنبه، ومن تناول ما لم يبح له فقد حرم نفسه حظها من الدرجات، ومن كذب بها حرم الجنة بما فيها أجمع. فلأهل الجنة عرائس وولائم وضيافات، فالعرائس للدعوة، وذلك أن رب العزة سبحانه دعاهم إلى دار السلام ليجدد لهم أبدانًا طرية وأعمارًا أبدية، والولائم للأزواج والضيافات للزيارة، ولأهل الجنة تلاق وزيارات فيما بينهم، ومتحدث في مواطن الألفة، ومجتمع في ظل طوبي يلقون الرسل هناك ويزورونهم ومجالس الملائكة فيما بينهم سلام الله عليهم أجمعين. وأسواق يأتونها يتخيرون الصور، وهدايا من الرحمن في أوقات الصلوات، يغدى ويراح عليهم من ألوان الأطعمة والأشربة والفواكه بكرة وعشيًا، أرزاقهم دارة لا مقطوعة ولا ممنوعة، ومزيد من الله يومًا بيوم، فإذا أتاهم المزيد نسوا ما قبله، ثم لهم منتزه يخرجون إليه في رياض على شاطئ نهر الكوثر، عليه خيام الدر مضروبة، والخيمة ستون ميلًا في عرض مثله، من لؤلؤة واحدة ليس لها باب، فيها جواز عبقات، لم ينظر إليهن ملك ولا أحد من أهل الجنة من الخدام والحور، وهو قوله عز وجل: {فيهن خيرات حسان} [الرحمن: 70]. وإذا قال الله لهن {حسان} فمن يقدر أن يصف حسنهن، ثم قال الله تعالى: {حور مقصورات في الخيام} [الرحمن: 72]. فتلك خيرة الرحمن اختار صورهن الحسان من بين الصور، أبدعن من سحائب الرحمة، فإذا أمطرت أمطرت جواري حسانًا على مشيئة الكريم، نور وجوههن من نور العرش، فضربت عليهن خيام الدر فلم يرهن أحد منذ خلقن، فهن مقصورات في الخيام قد قصرن - أي حبس - على أزواجهن من جميع الخلق.

فأهل الجنة يتنعمون في القصور مع الأزواج، ويلبثون في النعمة ما شاء الله، حتى إذا كان اليوم الذي يريد الله عز وجل أن يجدد لهم نعمة ونزهة، نودوا في درجات الجنان: يا أهل الجنان، إن هذا يوم نزعة وسرور وتفسح وحبور، فاخرجوا إلى متنزهكم، فيخرجون على خيول الدر والياقوت من أبواب مدائنهم إلى تلك الميادين، ثم يسيرون من الميادين إلى تلك الرياض على شاطئ نهر الكوثر، فيهديهم الله إلى منازلهم، فينزل كل رجل منهم عند خيمته ولا باب لها، فتصدع الخيمة عن باب، وذلك بعين ولي الله تعالى، ليعلم أن التي فيها لم يطلع عليها أحد، وفاء لما قدم الله من الوعد في دار الدنيا حيث قال: {فيهن خيرات حسان} [الرحمن: 70]، ثم قال تعالى: {حور مقصورات في الخيام} [الرحمن: 72]، ثم قال عز وجل: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} [الرحمن: 74]. فيستوى معها على سرير النزهة في تلك الحجال، فيمال عليهم من وليمتها، فإذا طعموا الولائم سقاهم الله شرابًا طهورًا، وتفكهوا بطرف الفواكه التي جدد الله لهم من تلك الهدايا في ذلك اليوم والحلي والحلل، فخلع عليهم كسوة الرحمن، واشتغلوا بالخيرات الحسان، يقضون منهن الأوطار والنهمات، ثم يتحولون إلى مجالس العبقريات الموشاة بألوان النقوش على شواطئ الأنهار في تلك الرياض، يركبون الرفارف الخضر ويتكئون عليها وهو قوله تعالى: {متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان} [الرحمن: 76]. وإذا قال الله لشيء {حسان}، فماذا بقى، فالرفرف، هو شيء إذا استوى عليه رفرف به وأهوى كالأرجوحة يمينًا وشمالًا ورفعًا وخفضًا يتلذذ مع أنيسه. فإذا ركبوا الرفارف أخذ إسرافيل عليه السلام في السماع، وروى في الخبر "أنه ليس أحد من خلق الله أحسن صوتًا من إسرافيل عليه السلام". فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم وتسبيحهم، فإذا ركبوا الرفارف وأخذ إسرافيل في السماع بألوان الأغاني تسبيحًا وتقديسًا للملك القدوس، فلم يبق في الجنة شجرة إلا وردت، ولم يبق ستر ولا باب إلا ارتج وانفتح، ولم يبق حلقة باب إلا طنت طنينها، ولم يبق أجمة من آجام الذهب والفضة إلا وقع هبوب الصوت في مقاصبها، فزمرت تلك المقاصب بفنون الزمر، ولم تبق جارية من جواري

الحور العين إلا غنت بأغانيها والطير بألحانها، فيوحي الله عز وجل إلى الملائكة أن جاوبوهم، وأسمعوا عبادي الذين نزهوا أسماعهم عن مزامير الشيطان فيجاوبون بألحان وأصوات روحانية، فتختلط هذه الأصوات فتصير رجة واحدة. ثم يقول الله تعالى: قم يا داود عن ساق عرشي فمجدني، فيندفع داود في تمجيد ربه بصوت يغمر الأصوات ويحليها، وتتضاعف اللذة وأهل الخيام على تلك الرفارف تهوى بهم، وقد حفت بهم أفانيس اللذات والأغاني، فذلك قوله عز وجل: {فهم في روضة يحبرون} [الروم: 15]- قال يحيى بن كثير رحمه الله: الروضة: اللذة والسماع -. فبينما هم على لذاتهم وسرورهم إذ يفتح لهم باب الملك القدوس من جنة عدن، فارتجت أصوات صفوف الروحانيين من باب جنة عدن بتماجيد الماجد الكريم إلى درجات الجنان، وثارت ريح عدنية بألوان الطيب والروح والنسيم وهو نسيم القربة، وسطع على أثر ذلك نور فأشرقت منه رياضهم وخيامهم وشواطئ أنهارهم، وامتلأ كل شيء منهم نورًا، ثم ناداهم الجليل جل جلاله من فوق رؤوسهم: السلام عليكم أحبائي وأوليائي وأصفيائي يا أهل الجنة كيف وجدتم منتزهكم، هذا يومكم بدل نيروز أعدائي، طلبوا يومًا من الدنيا ليجددوا على أنفسهم النعمة التي قد كدروها على أنفسهم لخبثهم وشقائهم، فلم ينالوا ما طلبوا من اللذة، وخسروا في جنب ما طلبوا في العاجل، ولم يتصبروا حتى ينالوا هذا الذي أعددت في الأجل لأهل طاعتي، فأعرضتم عما إليه أقبلوا، وأمتنعتم مما فيه تنافس أهل الدنيا، فاليوم يذوقون وبال ما تنافسوا فيه وشيكًا ما انقطع به ما طلبوا من اللذة والنهمة في دار الفناء، وصاروا إلى الذل والهوان، وجزيتم بما صبرتم جنة وحريرًا، ومنتزهًا وسلامًا، وهذا يوم نيروزكم ومنتزهكم، وهذا يوم زيارتكم في داري في جنة عدن، وطالما رأيتكم في أيام الدنيا في مثل ذلك اليوم مشتغلين بعبادتي وطاعتي، والمترفون في لهوهم ولبسهم سكارى حيارى عصاة متمردين، يتنعمون بحطام الدنيا، ويفرحون بتداولها بينهم، وأنتم تراقبون جلالي، وتحفظون حدودي وترعون عهدي وتشفقون على حقوقي. ويفتح لهم باب من أبواب النيران فيفور لهبها ودخانها وصراخ أهلها وعويلهم، لينظر أهل الجنان من هذه المجالس إلى ما من الله عليهم، فيزدادون غبطة وسرورًا. وينظر أهل النار من تلك السجون والمحابس في تلك الأغلال والقيود فيتحسرون

على ما فاتهم، فيستغيثون بوجوه أهل الجنان إلى الله، وينادونهم بأسمائهم، فيقول الله تبارك اسمه: {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون * هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون * لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون * سلام قولًا من رب رحيم * وامتازوا اليوم أيها المجرمون * ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وإن اعبدوني هذا صراط مستقيم} [يس: 55 - 61]. فتجيش لهم النار فتفرق جمعهم وينقطع نداؤهم، فترمى بهم إلى جزائر في النار، فإذا أخرجوا إليها دبت إليهم عقارب لها أنياب كأمثال النخل، ثم يقبل عليهم سيل من نار من تحت العرش حشوه غضب الله، فيحملهم فيفرقهم في بحار النيران، وينادي مناد من قبل الله تعالى: هذا يومكم الذي كنتم تبارزوني فيه بالعظائم، وتتمردون على بنعمتي، وتفرحون في دار الأحزان والعبودية بما تضاهون به ما أعددت لأهل طاعتي، فقد انقطعت عنكم تلك اللذات، فذوقوا وبال ما آثرتموه، فإن أهل الجنة قد شغلوا عنكم بالتنعيم بالولائم وألوان الفواكه وطرف الهدايا وافتضاض العذاري وركوب الرفارف، والتلذذ بالأغاني وألوان السماع وسلامي عليهم وإقبالي بالبر واللطف إليهم، والمزيد ما يستفرغ نعمهم ليتهنوا بنعيمهم ويزدادوا به لذة على لذتهم. فيا أهل الجنة هذا لكم بدل يوم أعدائي الذين تباشروا وأهدوا إلى ملوكهم وقبلوا هداياهم وأنتم الفائزون. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إني رجل قد حبب إلى الصوت الحسن فهل في الجنة صوت حسن؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: أي والذي نفسي بيده، إن الله عز وجل ليوحي إلى شجرة في الجنة أن أسمعي عبادي الذين اشتغلوا بعبادتي وذكرى عن عزف البرابط والمزامير، فترفع بصوت لم تسمع الخلائق بمثله من تسبيح الرب وتقديسه". وعن أبي قلابة رحمه الله قال: قال رجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هل في الجنة من ليل؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: وما هيجك على هذا؟ قال: سمعت الله عز وجل يذكر في الكتاب: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيًا} [مريم: 62] فقلت: الليل بين البكرة والعشى، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ليس هناك ليل إنما هو ضوء ونور، يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو،

ويأتيهم طرف الهدايا من الله لمواقيت الصلوات التي كانوا يصلونها في الدنيا، وتسلم عليهم الملائكة". فمن أراد أن يكون له حظ في هذا العيش اللذيذ الدائم، فعليه بحفظ حدود وشروط التقوى، وهي مذكورة في قوله عز وجل: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكن وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} [البقرة: 177] وعليه بالإتيان بحدود الإسلام وأجزائه. وروى عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- أنه قال في تفسير قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} [البقرة: 208] الإسلام ثمانية أسهم: الصلاة سهم، والزكاة سهم، والصيام سهم، والحج سهم، والعمرة سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له. وعن عاصم، يعني الأحوال، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مثل الإسلام كمثل الشجرة الثابتة، الإيمان بالله أصلها، والصلوات الخمس فروعها، وصيام شهر رمضان لحاؤها، والحج والعمرة جناها، والوضوء والغسل من الجنابة شربها، وبر الوالدين وصلة الرحم غصونها، والكف عن محارم الله ورقها، والأعمال الصالحة ثمرها، وذكر الله عروقها"، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "كما لا تحسن الشجرة ولا تصلح إلا بالورق الأخضر، كذلك لا يصلح الإسلام إلا بالكف عن المحارم، والأعمال الصالحة".

(فصل) في صفة النار وما أعد الله لأهلها فيها وفي صفة الجنة وما أعد الله لأهلها فيها

(فصل) في صفة النار وما أعد الله لأهلها فيها وفي صفة الجنة وما أعد الله لأهلها فيها عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان يوم القيامة واجتمع الخلائق ليوم لا ريب فيه في صعيد واحد، غشيتهم ظلمة سوداء لا ينظر بعضهم بعضًا من شدة الظلمة، والخلائق قيام على صدور أقدامهم، وبينهم وبين ربهم عز وجل مسيرة سبعين عامًا. قال: فبينما هم كذلك إذ تجلى الخالق تبارك وتعالى للملائكة، فأشرقت الأرض بنور ربها، وانجلت الظلمة فغشي الخلائق كلهم نور ربهم، والملائكة حافون من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ويقدسون له. قال: فبينما الخلائق قيام كلهم صفوفًا، كل أمة قائمة في ناحية، إذ أتى بالصحف والميزان، ووضعت الصحف وعلق الميزان بيد ملك من الملائكة يرفعه مرة ويخفضه مرة أخرى، قال: فبينما هم كذلك إذ كشف الغطاء عن الجنة فأزلفت، فهبت منها ريح فوجد المسلمون عرفها كالمسك وبينهم وبينها مسيرة خمسمائة عام، ثم كشف الغطاء عن جهنم فهبت منها ريح مع دخان شديد، فوجد المجرمون عرفها وبينهم وبينها مسيرة خمسمائة عام. ثم جئ بها تقاد موثقة بسلسلة عظيمة عليها تسعة عشر خازنًا من الملائكة، مع كل خازن منهم سبعون ألف ملك أعوان له، فيقودها كل خازن منهم مع أعوانه، وسائر الخزان مع أعوانهم يمشون عن يمينها وشمالها وورائها، بيد كل ملك منهم مقمعة من حديد يصيحون بها، فتمشى ولها زفير وشهيق ووعث وظلمة ودخان وتقعقع ولهب عال من شدة غضبها على أهلها، فينصبونها بين الجنة والموقف، فترفع طرفها، فتنظر إلى الخلائق، ثم تجمع إليهم لتأكلهم، فيحبسونها خزنتها بسلاسلها، فلو تركت لأتت على كل مؤمن وكافر. فلما رأت أنها قد حبست عن الخلائق فارت فورًا شديدًا {تكاد تميز من الغيظ} [الملك: 8].

ثم شهقت الثانية فتسمع الخلائق صوت صريف أسنانها فارتعدت عند ذلك الأفئدة، وانخلعت القلوب وطارت الأفئدة وشخصت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر. قال قائل: يا نبي الله حلها لنا، قال -صلى الله عليه وسلم-: نعم، هي مثل هذه الأرض عظمًا سبعون جزاء من بعد، سوداء مظلمة لها سبعة رؤوس، لكل رأس منها ثلاثون بابًا، طول كل باب منها مسيرة ثلاث ليال، وشفتها العليا تضرب منخرها، والشفة السفلى تسحبها، وفي كل منخر من مناخرها وثاق وسلسلة عظيمة، يمسكها سبعون ألف ملك غلاظ شداد كالحة أنيابهم أعينهم كالجمر وألوانهم كلهب النار، يفور من مناخرهم لهب، ودخان عال، مستعدين لأمر الجبار تبارك وتعالى. قال: فحينئذ تستأذن جهنم ربها عز وجل في السجود، فيقول لها: نعم اسجدي، قال: فتسجد ما شاء الله، قال: ثم يقول لها الجبار عز وجل: ارفعي، قال: فترفع رأسها فتقول: الحمد لله الذي جعلني ينتقم بي ممن عصاه، ولم يجعل شيئًا ممن خلق ينتقم به مني، قال: ثم تقول بلسان طلق ذلق سلق: الحمد لله ما شاء الله من ذلك بصوت لها جهير، ثم تزفر زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا أحد ممن شهد الموقف إلا جثا على ركبتيه، ثم تزفر الثانية فلا تبقى قطرة في عين أحد إلا بدرت، ثم تزفر الثالثة فلو كان لكل آدمي أو جني عمل اثنين وسبعين نبيًا لواقعوها، ثم تزفر الرابعة فلا يبقى شيء إلا انقطع كلامه، غير أن جبريل وميكائيل وإبراهيم خليل الرحمن عز وجل متعلقون بالعريش يقول كل واحد منهم: نفسي نفسي لا أسألك غيرها. قال" ثم ترمى بشرر كعدد نجوم السماء، عظم كل شرارة كالسحابة العظيمة، الطالعة من المغرب، فيقع ذلك الشرر على رؤوس الخلائق، قال: ثم ينصب الصراط عليها فهيأ له سبعمائة قنطرة، ما بين كل قنطرتين منها سبعون عامًا، وقيل: سبع قناطر، وعرض الصراط من الطبقة الأولى إلى الطبقة الثانية مسيرة خمسمائة عام، ومن الثانية إلى الثالثة مسيرة خمسمائة عام، ومن الثالثة إلى الرابعة مثلها، ومن الرابعة إلى الخامسة مثلها، ومن الخامسة إلى السادسة مثلها، ومن السادسة إلى السابعة مسيرة خمسمائة عام وهي أعرضهن وأشدهن حرًا وأبعدهن قعرًا وأكثرهن جمرًا وأكثرهن ألوانًا بسبعين جزءًا، فأما الطبقة الدنيا فقد جاز لهبها الصراط يمينًا وشمالًا في السماء مسيرة ثلاثة أميال، وكل طبقة أشد حرًا وأكبر جمرًا وأكثر في ألوان العذاب من التي فوقها بسبعين جزءًا، في

كل طبقة بحر وأنهار وجبال وشجر، طول كل جبل منها في السماء مسيرة سبعين عامًا، وفي كل طبقة منها سبعون جبلًا، وفي كل جبل منها سبعون ألف شعبة، في كل شعبة منها سبعون ألف شجرة ضريع، لكل شجرة منها سبعون شعبة، على كل شعبة منها سبعون حية وسبعون عقربًا، طول كل حية منها مسيرة ثلاثة أميال، فأما العقارب فكالبخاتي العظام، على كل شجرة منها سبعون ألف ثمرة، في كل ثمرة رأس شيطان، في جوف كل ثمرة منها سبعون دودة طول كل دودة منها مسيرة غلوة، ومنها ثمر ليس فيه دود وليس فيه شوك. وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن لجهنم سبعة أبواب، لكل باب منها سبعون واديًا، قعر كل واد منها مسيرة سبعين عامًا، ولكل واد منها سبعون ألف شعبة، وفي كل شعبة منها سبعون ألف مغارة، وفي كل مغارة سبعون ألف شق، كل شق منها مسيرة سبعين عامًا، في جوف كل شق منها سبعون ألف ثعبان، في شدق كل ثعبان منها سبعون ألف عقرب، لكل عقرب منها سبعون ألف فقارة، في كل فقارة قلة سم لا ينتهي الكافر ولا المنافق حتى يوافى ذلك كله". قال: فبينما الخلائق جاثون على ركبهم وجهنهم تخطر كما يخطر الجمل المغتلم، قال: فينادي مناد بصوت عال، فيقوم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، ثم عرضوا عرضة ردت فيها المظالم، ثم عرضوا الثانية فتجادلت الأرواح والأجساد وظهرت الأجساد على الأرواح، ثم عرضوا على الله الثالثة، فطارت الصحف فوقعت في أيدي الخلق، فمنهم من أوتى كتابه بيمينه، ومنهم من أوتى كتابه بشماله، ومنهم من أوتى كتابه وراء ظهره. فأما الذين أوتوا كتابهم بأيمانهم فأعطوا نورًا من نور ربهم، وهنتهم الملائكة بكرامتهم، فجازوا الصراط برحمة ربهم، ودخلوا جنانهم فلقيتهم خزانهم عند أبواب جنانهم بكسوتهم ومراكبهم وبالحلية التي تنبغي لهم، فافترقوا إلى منازلهم وانقلبوا مسرورين إلى قصورهم، فدخلوا على أزواجهم فنظروا إلى ما لا عين رأت وتصف ألسنتهم، ولم تبصر أبصارهم، ولم يخطر على قلوبهم، فأكلوا وشربوا ولبسوا حليتهم ثم اعتنقوا أزواجهم ما قدر لهم، ثم حمدوا خالقهم الذي أذهب عنهم حزنهم، وآمنهم من فزعهم، ويسر لهم حسابهم، ثم شكروا ما أعطاهم ربهم، فقالوا: {الحمد لله الذي

هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} [الأعراف: 43]. فقرت أعينهم بما تزودوا من دنياهم، كانوا موقنين مؤمنين مصدقين خائفين راجين راغبين، فعند ذلك نجا الناجون وهلك الكافرون. وأما الذين أوتوا كتابهم بشمالهم ومن وراء ظهورهم فاسودت وجوههم وانقلبت زرقًا عيونهم، ووسموا على خراطيمهم وعظمت أجسادهم، وغلظت جلودهم وهتفوا بويلهم حين نظروا إلى كتابهم، وعاينوا ذنوبهم، لم يغادروا صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوها مثبتة في كتابهم، فهم كاسف بالهم سيء ظنهم شديد رعبهم كثير همهم، منكسة رؤوسهم خاشعة أبصارهم خاضعة رقابهم، يسارقون النظر إلى نارهم، لا يرتد إليهم طرفهم، لأنهم عاينوا أمرًا عظيمًا كبيرًا مفظعًا جليلًا طامًا مكربًا مفزعًا مرعبًا محزنًا مخسئًا مهمًا للقلوب وللعيون مبكيًا، فأقروا بالعبودية لربهم واعترفوا بذنوبهم وكان اعترافهم عليهم نارًا وعارًا وتحزنًا وشقاء وإلزامًا وسخطًا. قال: فبينما القوم بين يدي ربهم عز وجل جاثون على ركبهم بذنوبهم معترفون، زرقًا أعينهم لا يبصرون، هاوية قلوبهم فلا يعقلون، مرجفة أوصالهم فلا يتكلمون، منقطعة أرحامهم فلا يتواصلون {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} [المؤمنون: 101]. أصيبوا في أنفسهم فلا ينجبرون، ويسألون الرجعة فلا يجابون، قد أيقنوا بما كانوا يكذبون، فهم عطاش لا يروون، وجياع لا يشبعون، وعراة لا يكتسون، مغلوبون لا ينصرون، محزنون مسلوبون، مخسورون أنفسهم وأهليهم وأموالهم ومكاسبهم. قال: فبينما القوم كذلك إذ أمر الله تعالى خزنة جهنم أن يخرجوا منها ومعهم أعوانهم، وأن يحملوا آداتهم من السلاسل والأغلال والمقامع، قال: فخرجوا منها على ناحية ينتظرون بماذا يؤمرون. قال: فلما نظر إليهم الأشقياء وعاينوا وثاقهم وثيابهم عضوا أيديهم، فأكلوا أناملهم وهتفوا بويلهم وفاضت دموعهم وزلزلت أقدامهم ويئسوا من كل خير، فيقول خذوهم فغلوهم ثم الجحيم صلوهم ثم في سلسلة فأوثقوهم. قال: فمن شاء الله أن يلقيه في تلك الأطباق دعا خزانها، فقال لهم خذوهم، فابتدر إلى كل إنسان منهم سبعون ملكًا، فشددوا وثاقهم وجعلوا الأغلال الثقال في أعناقهم والسلاسل في مناخرهم، فخنقوا وجمعوا بين نواصيهم وأقدامهم من وراء ظهورهم،

فتكسرت أصلابهم. قال: فلما فعل ذلك بهم شخصت أبصارهم وانتفخت أوداجهم، واحترقت لحوم رقابهم وسلخت عروقهم، واشتعل حر الأغلال في رؤوسهم، فغلت منها أدمغتهم، ففاضت على جلودهم حتى وقعت على أقدامهم فتساقطت منها جلودهم واخضرت منها لحومهم، فسال منها صديدهم. قال: فلما جعلت الأغلال في أعناقهم ملأت ما بين مناكبهم إلى آذانهم، فاحترقت لحومهم وتقطعت شفاههم وبدت أنيابهم وألسنتهم بصوت وصراخ، ووهج لها لهب عال يجرى حرها مجرى الدم في عروقها مجوفة، ويجرى خلالها لهب النار فيبلغ حر تلك الأغلال قلوبهم، فتسلخت حتى بلغت حناجرهم، فاشتد خناقهم وانقطعت أصواتهم وفنيت جلودهم. قال: فبينا هم كذلك أمر الله تعالى خزنة جهنم أن يكسوهم ثيابًا، قال: فألبسوهم ثيابهم وسرابيلهم شديدًا سوادها، ومنتنًا ريحها وخشنًا مسها تلظى من شدة حرها، لو وضعت على جبال الأرض أذابتها. قال: ثم يقول الله عز وجل لخزنة جهنم: سوقوهم إلى منازلهم، قال: فيأتون بسلاسل أخر أطول وأغلظ من اللاتي أوثقوا فيها، قال: فيأخذ كل ملك سلسلة من تلك السلاسل فيقرن فيها أمة من الأمم، ثم يضع طرفها على عاتقه فيوليهم ظهره، ثم ينطلق بهم مسحوبين على وجوههم، في دبر كل أمة منهم سبعون ألف ملك، يضربونهم بمقامع حتى يأتوا بهم جهنم فيوقفونهم عليها. قال: ثم تقول لهم الملائكة: {هذه النار التي كنتم بها تكذبون * أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون * أصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون} [الطور: 14 - 16]. قال: فلما أوقفوا عليها فتحت لهم أبوابها وكشف عنها غطاؤها، فتسعرت وألهبت نارها، فخرج منها دخان شديد مع شرر كعدد نجوم السماء فطارت إلى السماء مقدار سبعين عامًا، ثم رجع ذلك فوقع على رؤوسهم، فاحترقت أشعارهم وانقلعت جماجمهم. قال: ثم صرخت جهنم بأعلى صوتها: إلى يا أهل النار إلى يا أهل النار، أما وعزة

ربي لأنتقمن منكم. ثم قالت: الحمد لله الذي جعلني أغضب لغضبه وينتقم بي من أعدائه، رب زدني حرًا إلى حرى وقوة إلى قوتي. قال: فتخرج منها ملائكة أخر، فيستقبل كل أحد منهم أمة من الأمم، فيرفعهم براحته فيكبهم في جهنم على وجوههم، فيهوون على رؤوسهم مقدار سبعين عامًا من قبل أن يبلغوا رؤوس جبالها. قال: وإذا بلغوا رؤوس جبالها لم يتقاروا عليها حتى يبدل لكل إنسان منهم سبعون جلدًا. قال: فأول أكلة يأكلون على رؤوس تلك الجبال أكلة من الزقوم، ظاهرة حرارتها شديدة مرارتها كثير شوكها. قال: فبينما هم يمضغون أكلتهم تلك، إذ أتتهم الملائكة يضربونهم بمقامعهم فتكسرت عظامهم ثم أخذوا بأرجلهم فألقوهم في جهنم فهووا على رؤوسهم مقدار سبعين عامًا من قبل أن يتقاروا في شعابها. قال: فما تقاروا في شعابها حتى يبدل لكل إنسان منهم سبعون جلدًا. قال: وأكلتهم تلك في أفواههم لا يستطيعون أن يسيغوها، قال: فتجتمع الأكلة والقلب عند الحلق فيغص بها، فيستغيث كل إنسان منهم بالشرب فإذا في تلك الشعاب أودية تنصب إلى جهنم. قال: فينطلقون يمشون حتى يردوها، فينكبون عليها يشربون منها. قال: فتتقطع جلودهم وجوههم فتقع فيها. قال: فلا يستطيعون أن يشربوا منها. قال: فيعرضون عنها إعراضه فتدركهم الملائكة وهم منكبون على تلك العيون، فيضربونهم فتكسر عظامهم ثم يأخذون بأرجلهم فيلقونهم في جهنم، فيهوون على رؤوسهم مقدار أربعين ومائة عام في لهب ودخان شديد من قبل أن يتقاروا في أوديتها. قال: فلا يتقارون في أوديتها حتى يبدل لكل إنسان منهم سبعون جلدًا. قال: ومنتهى تلك العيون في تلك الأودية. قال: فيشربون منها فإذا هي ماء حميم، فلا يتقار في بطونهم حتى يبدل الله لكل

إنسان منهم سبعة جلود. قال: فإذا تقار في بطونهم قطع أمعاءهم، فخرجت من مقاعدهم وجرى باقية في عروقهم، فذابت لحومهم، وتصدعت عظامهم وأدركتهم الملائكة فضربت وجوههم وأدبارهم ورؤوسهم بمقامعهم، لكل مقمع منها ثلاثمائة وستون حرفًا، فإذا ضربت بها رؤوسهم انقعلت جماجمهم وتكسرت أصلابهم، وسحبوا في النار على وجوههم حتى توسطوا جحيمها، فاشتعلت النار في جلودهم وتشعبت في آذانهم، فخرج لهبها من مناخرهم وأضلاعهم، وتفجر الصديد من أجسادهم، وخرجت أعينهم فتعلقت على خدودهم، ثم قرنوا مع شياطينهم الذين كانوا يطيعونهم، وآلهتهم التي كانت مستغاثهم، فألقوا في أماكن ضيقة مقرنين، فهتفوا بويلهم ثم جئ بأموالهم فأحميت في نارهم، فكويت بها جباهم وجنوبهم ووضعت على ظهورهم فخرجت من بطونهم، فهم أولياء جهنم وقرناء الشياطين والحجارة، وعلقوا بخطاياهم كالجبال ليشتد عليهم العذاب فطول أحدهم مسيرة شهر وعرضه مسيرة خمسة أيام وغلظه مسيرة ثلاث ليال ورأسه مثل الأقرع وهو جبل بأقصى الشام، في فيه اثنان وثلاثون نابًا، قد خرج بعضها من رأسه وبعضها من أسفل لحيته وأنفه مثل الرابية العظيمة، طول شعر رأسه وغلظه مثل شجرة الأرز وكثرته كآجام الدنيا، وشفته العليا قالصة، والسفلى تسعون ذراعًا، وطول يده مسيرة عشرة أيام وغلظها مسيرة يوم، وفخذه مثل ورقان وغلظ جلده أربعون ذراعًا بذراعه، وطول ساقه مسيرة خمس ليال وغلظها يوم، كل حدقة له مثل حراء، وهو جبل بمكة، إذا صب فوق رأسه القطران اشتعلت فيه النار، فلم تزدد إلا التهابًا. قال: وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: والذي نفسي بيده لو أن رجلًا خرج من النار يجر سلسلة مغلولة يداه إلى عنقه، في عنقه الأغلال وفي رجليه الكبول، ثم رآه الخلائق لانهزموا عنه وفروا منه كل مفر. قال: فمن شدة حرها وغمها وألوان عذابها وضيق منازلها، اخضرت لحومهم وتصدعت عظامهم وغلت أدمغتهم ففارت على جلودهم، واحترقت جلودهم فغضت أوصالهم، فسال منها صديدهم، فتدودت أجسامهم وسمنت ديدانهم وصارت مثل حمر الوحش، لها أظافير مثل أظافير النسور والعقبان، تشتد ما بين جلدهم ولحمهم،

وتنهشهم، وتزفر زفرة، وتتردد كما يتردد الوحش المذعور، يأكلن لحمه ويشربن دمه، ليس لها مأكل ولا مشرب غيرها، ثم تأخذهن الملائكة فتسحبهم على وجوههم على الجمر والحجارة كأنها أسنة، مستعدين منطلقين بهم إلى بحر جهنم، مسيرة سبعين عامًا، فلا يبلغونه حتى تنقطع أوصالهم وتبدل جلودهم كل يوم سبعين ألف مرة، فإذا انتهى إلى خزنتها أخذوا بأرجلهم فدفعوهم فيه، فلا يعلم أحد قعر ذلك البحر إلا الذي خلقه. وقد قيل: إنه مكتوب في بعض أسفار التوراة: أن بحر الدنيا عند بحر جهنم كعين صغيرة في ساحل بحر الدنيا. قال: فإذا قذفوا فيه ووجدوا مس العذاب قال بعضهم لبعض: كأنما الذي عذبنا به قبل هذا حلم. قال: فيغمسون مرة ويرتفعون ويغلى فتقذفهم سبعين باعًا، بعد كل باع كبعد المشرق من المغرب ثم تسوقهم الملائكة بمقامعهم، فيضربونهم بها ويردونهم إلى قعرها مسيرة سبعين عامًا، منها طعامهم وشرابهم فيرتفعون من قعرها مقدار أربعين ومائة عام فيريد أحدهم أن يتنفس، فتستقبله الملائكة بمقامعهم متبادرين إليه لضربه، غير أنه يذكر أنه إذا رفع رأسه وقع على رأسه سبعون ألف مقمع لا يخطئه شيء منها، فيرده سبعين عامًا في قعرها، كل باع منها كبعد المشرق من المغرب. قال: فهم فيها ما شاء الله من ذلك، حتى تأكل لحومهم وعظامهم، وتبقى رواحهم، فيضربهم موجه سبعين عامًا، ثم تنبذهم إلى ساحل من سواحله فيه سبعون ألف مغارة، في جوف كل مغارة سبعون ألف شق، كل شق منها مسيرة سبعين عامًا، في جوف كل شق منها سبعون ألف ثعبان، طول كل ثعبان منها سبعون ذراعًا، لكل ثعبان منها سبعون نابًا، في كل ناب منها قلة سم، في شدق كل ثعبان منها ألف عقرب، لكل عقرب منها سبعون فقارة، في كل فقارة منها قلة من سم. قال: فتخرج أرواحهم من ذلك البحر إلى تلك المغارة، فتجدد لهم أجساد وجلود، ويغلون في الحديد، فتخرج عليهم تلك الحيات والعقارب فتعلق في كل إنسان منهم سبعون ألف حية وسبعون ألف عقرب، فيصبرون، ثم ترتفع إلى ركبهم فيصبرون، ثم ترتفع إلى صدورهم فيصبرون، ثم ترتفع إلى تراقيهم فيصبرون، ثم ترتفع فتعلق

بمناخرهم وشفاههم وألسنتهم وآذانهم فيجزعون، وليس لهم مستغاث إلا أن يهربوا إلى جهنم، فيقعوا فيها. فأما الحيات فتمضغ لحومهم وتنشف دماءهم، وأما العقارب فتلدغهم فتتساقط لحومهم وتقطع أوصالهم، فإذا وقعوا في النار مكثت النار سبعين عامًا لا تحرقهم من سم الحيات والعقارب. قال: ثم تحرقهم النار سبعين عامًا، ثم تجدد لهم جلود غير جلودهم، ثم يستغيثون بالطعام، فتأتيهم الملائكة بطعام يقال له الوليمة، وهو أشد يبسًا من الحديد، فيمضغونه فلا يستطيعون أن يأكلوا منه شيئًا، فيلقونه من أفواههم ويبدأون بأيديهم من شدة الجوع، فيأكلون أناملهم ثم يأكلون أكفهم، فإذا أكلوها بدأوا بسواعدهم فأكلوها أيضًا إلى مرافقهم، ثم بدأوا بمرافقهم فأكلوها إلى مناكبهم، فتبقى رؤوس المناكب، ولو نالوا بعدها شيئًا من أجسادهم بأفواههم لأكلوه فإذا فعلوا ذلك بأجسادهم أخذوا فنوطوا بعراقيبهم بكلاليب من حديد على شجرة الزقوم. قال: فنوط منهم سبعون ألفًا في شعبة واحدة فما تنحني، مصوبين على رؤوسهم، فيوقد تحتهم الحميم، فيستقبل حر النار وجوههم مقدار سبعين عامًا حتى تذوب أجسادهم وتبقى أرواحهم، ثم تجدد لهم جلود وأجساد، ثم يناطون بأناملهم ولهب النار من تحتهم، تدخل من مقاعدهم وتأكل من أفئدتهم حتى تخرج من مناخرهم وأفواههم ومسامعهم مقدار سبعين عامًا، حتى تذوب عظامهم ولحومهم وتبقى أرواحهم، ثم يتركون ويجدد لهم جلود وأجساد، ثم يناطون بأبصارهم مثلها، فلا يزالون يعذبون كذلك حتى لا يبقى مفصل في أجسادهم إلا نوطوا به مقدار سبعين عامًا، ولا تبقى شعرة في رؤوسهم إلا نوطوا بها، فيأتيهم الموت من مكان كل مفصل منهم، وما هم بميتين ومن ورائهم عذاب غليظ، فإذا فعل ذلك بهم كله أنزلوهم فانطلقوا بكل إنسان منهم إلى منزله مغلولًا بسلسلة مسحوبًا على وجهه. قال: ولهم منازل فيها كقدر أعمالهم، فمنهم من يعطى منزلة مسيرة شهر طولها وعرضها مثل ذلك نار تتوقد لا ينزلها غيره. ومنهم من يعطى منزلة مسيرة تسع وعشرين ليلة طولًا وعرضًا مثل ذلك، ثم كذلك تنتقص منازلهم وتضيق، حتى إن أحدهم ليعطى منزلة مسيرة يوم طولًا وعرضًا، ومن

نحو سعة منزلهم يعذبون. فمنهم من يعذاب على القفا، ومنهم من يعذب جالسًا، ومنهم من يعذب جاثيًأ على ركبتيه، ومنهم من يعذب قائمًا على رجليه، ومنهم من يعذب منبطحًا على بطنه، فهذه المنازل كلها أضيق على أهلها من زج الرمح. ومنهم من تكون ناره إلى كعبه، ومنهم من تكون ناره إلى ركبته، ومنهم من تكون ناره إلى حقويه، ومنهم من تكون ناره إلى سرته، ومنهم من تكون ناره إلى ترقوته، ومنهم من تكون ناره غرقًا، فمرة تعلو به ومرة تديره فتبلغه مسيرة شهر في قعرها. فإذا وقعوا في منازلهم قرن كل منهم مع قرنائهم، فبكوا حتى تنزف دموعهم، ثم يبكون الدم بعدم الدموع، حتى لو أن السفن أرسلت إذا بكوا في دموعهم لجرت. قال: ولهم يوم يجتمعون فيه في أصل الجحيم، ثم لا تكون جماعة أبدًا. قال: فإذا أذن الله في ذلك اليوم نادى مناد في أصل الجحيم يسمع صوته أعلاهم وأسفلهم، وأدناهم وأقصاهم يقال له "حشر" يقول: يا أهل النار اجتمعوا، فيجتمعون أجمعون في أصل الجحيم، ومعهم الزبانية. قال: فيأتمرون بينهم فيقول الذين استضعفوا {للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعًا} [إبراهيم: 21] في الدنيا {فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء} [إبراهيم: 21] {قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد} [غافر: 48]. وقال الذين استكبروا للذين استضعفوا {لا مرحبًا بكم} [ص: 60] بنا تستغيثون، قال الذين استضعفوا للذين استكبروا: {بل أنتم لا مرحبًا بكم أنتم قدمتوه لنا فبئس القرار} [ص: 60]. وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا {ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابًا ضعفًا في النار} [ص: 61]. فقال الذين استكبروا للذين استضعفوا {لو هدانا الله لهديناكم} [إبراهيم: 21]. {وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادًا} [سبأ: 33] فنتبرأ منكم وما كنتم تدعوننا إليه في الدنيا. قال: ثم أقبلوا أجمعون على قرنائهم من الشياطين، فقالوا: أغويناكم كما غوينا، قال الشيطان عند آخر مقالتهم بصوت له عال: يا أهل النار {إن الله وعدكم وعد

الحق} [إبراهيم: 22] ودعاكم الله فلم تجيبوا ولم تصدقوا {و} إني {وعدتكم} وعدًا {فخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي} [إبراهيم: 22] فأنا أكفر اليوم بما عبدتموني من دون الله. قال: {فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين} [الأعراف: 44]. قال: فلعن عند ذلك الذين استضعفوا الذين استكبروا، ولعن الذين استكبروا الذين استضعفوا، ولعنوا قرناءهم من الشياطين، ولعنهم قرناؤهم، ثم قالوا لقرنائهم: يا ليت بيننا وبينكم بعد المشرقين، فبئس القرناء أنتم لنا اليوم، وبئس الوزراء كنتم لنا في الدنيا، فلما نظروا إلى جماعتهم قال بعضهم لبعض هلموا فلنطلب الخزنة، فلعلهم يشفعون لنا عند ربهم، فـ {يخفف عنا يومًا من العذاب} [غافر: 49]. قالوا: نعم فنادوا بأجمعهم الخزنة {ادعوا ربكم يخفف عنا يومًا من العذاب} [غافر: 49] قال: وهم على ذلك يعذبون. قال: وبين مراجعة الخزنة إياهم مقدار سبعين عامًا ثم يراجعونهم، فيقولون: {أولم تلك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا} بأجمعهم {بلى} [غافر: 50]. قال الخزنة: {فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} [غافر: 50]. قال: فلما رأوا أن الخزنة لا ترد عليهم خيرًا استغاثوا بمالك، فقالوا: يا مالك ادع لنا ربك فليقض علينا الموت، فيمكث مالك مقدار الدنيا لا يجيبهم ولا يرد عليهم قولًا، ثم يراجعون فيقول: {إنكم ماكثون} [الزخرف: 77] أحقابًا من قبل أن يقضى عليكم بالموت، فلما رأوا مالكًا لا يرد عليهم خبرًا استغاثوا بربهم، فقالوا: {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} [المؤمنون: 107]. يعني نقول إن عدنا في معصيتك، قال: فمكث الجبار سبحانه وتعالى مقدار سبعين عامًا لا يراجعهم بقولهم ولا يرد عليهم خيرًا، ثم أجابهم بقوله وأنزلهم منزله الكلاب {اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108]. قال: فلما رأوا ربهم لا يرحمهم ولا يرد عليهم خيرًا، قال بعضهم لبعض: {سواء علينا أجزعنا} من العذاب {أم صبرنا ما لنا من محيص} [إبراهيم: 21]، {فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم} [الشعراء: 100 - 101]، {فلو أن لنا كرة فنكون من

المؤمنين} [الشعراء: 102]. قال: ثم تنصرف بهم الملائكة إلى مساكنهم، فزلت عند ذلك أقدامهم ودحضت حجتهم ونظروا ما عند ربهم عز وجل، ويئسوا من رحمة ربهم وتلقاهم الكرب الشديد ونزل بهم الخزي والهوان الطويل، فهتفوا بحسرتهم على ما فرطوا في دنياهم، وحملوا أوزارهم على رقابهم وأوزار أتباعهم، من غير أن ينقص شيء من أوزارهم وعذابهم أكثر من تراب أرضهم وقطر بحورهم مع زبانية سريع أمرهم غليظ كلامهم عظيمة أجسادهم كالبرق، وجوههم كالجمر، أعينهم كاللهب، ألوانهم كالحة، أنيابهم كصياصي البقر أظفارهم، يعنى القرون، والمقامع الطوال الثقال المحرقة بأيديهم لو ضربوا بها الجبال انصدعت، وكانت رميمًا، يضربون بها عصاه ربهم فيحق لهم أن تسيل عينهم الدم بعد الدموع، لأنهم إن دعوهم لم يجيبوهم، وإن بكوا لم يرحموهم، وإن استغاثوا بماء بارد لم يغيثوهم إلا بماء كالمهل يشوى الوجوه. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنه لتأتى أهل النار سحابة عظيمة كل يوم فتبسط عليهم لها صواعق تخطف أبصارهم، ورعد يقصف ظهورهم، وظلمة لا يبصرون معها زبانيتهم، فتنادى تلك السحابة بصوت له جهر: يا أهل النار أما تريدون أن أمطركم؟ فيقولون بأجمعهم: امطرينا الماء البارد، فتمطرهم ساعة حجارة تقع على رؤوسهم فتقطع جماجمهم، ثم تمطرهم ساعة أخرى أنهارًا من حميم وجمرًا كثيرًا وشواظًا وخطاطيف من الحديد، ثم تمطرهم ساعة أخرى حيات وعقارب ودودًا وغسلين. قال: فإذا أمطرت في جهنم سجر بحرها فماجت لججها وغضبت، فلم تترك في جهنم سهلًا ولا جبلًا إلا ارتفعت عليه، فغرقت أهل النار أجمعين من غير أن يموتوا. قال: فتزداد جهنم على من فيها من العصاة غيظًا وحرًا وزفيرًا وشهيقًا ولهبًا ودخانًا وظلمة ووعثًا وسمومًا وحميمًا وجحيمًا وسعيرًا وشدة على من فيها لنقمة ربها". فنعوذ بالله منها ومن أعمالها ومقارنة أهلها، اللهم ربنا وربها لا توردنا حياضها، ولا تجعل في أعناقها أغلالها، ولا تكسنا من ثيابها، ولا تطعمنا من زقومها، ولا تسقنا من حميمها، ولا تسلط علينا خزنتها، ولا تجعلنا مأكلة لنارهم، ولكن جوزنا برحمتك صراطها واصرف عنا شرورها ولهبها حتى تنجينا برحمتك منها ومن دخانها ومن كربها وعذابها، آمين يا رب العالمين.

وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ولو أن أدنى باب من أبواب جهنم فتح بالمغرب لذابت منه جبال المشرق كما يذوب القطر، ولو أن شرارة من شرر جهنم طارت فوقعت بالمغرب ورجل بالمشرق لغلى دماغه حتى يفوز على جسده، وإن أدنى أهل النار عذابًا رجال تحذي لهم نعال من نار فتخرج من مسامعهم ومناخرهم وتغلي منها أدمغتهم، والذين يلونهم يلقون على صخرة من صخور جهنم فينتفضون فيها كما ينتفض الحب من المقلى الحار، وكلما سقطوا من صخرة وقعوا على أخرى ... ". فأهل النار كلهم يعذبون على قدر أعمالهم، فنعوذ بالله من أعمالهم ومصيرهم. قال -صلى الله عليه وسلم-: "وأما عذاب الذين لا يحفظون فروجهم، فيناطون بفروجهم بقدر ما كانت في الدنيا حتى تذوب أجسادهم وتبقى أرواحهم، ثم يتركون فتجدد لهم أجساد وجلود، ثم يضربون، فيجلد كل إنسان منهم سبعون ألف ملك قدر ما كانت الدنيا حتى تذوب أجسادهم وتبقى أرواحهم، فذلك عذابهم". وأما عذاب السارق، فيقطع عضوًا عضوًا ثم يجدد، فلذلك عذابه غير أنه يتبادر إلى كل إنسان منهم سبعون ألف ملك معهم الشفار. وأما عذاب الذين يشهدون الزور، فيناطون بألسنتهم، ثم يجلد كل إنسان منهم سبعون ألف ملك حتى تذوب أجسادهم وتبقى أرواحهم. وأما عذاب المشركين، فيجعلون في مغار جهنم ثم يغلق عليهم وفيها حيات وعقارب وحجر كثير ولهب ودخان شديد، يجدد لكل إنسان منهم كل ساعة سبعون ألف جلد فذلك عذابهم. وأما عذاب الجبارين المتكبرين، فيجعلون في توابيت من نار ثم يقفل عليهم فتوضع في الدرك الأسفل من النار. قال: فيعذب كل إنسان منهم كل ساعة تسعة وتسعين لونًا من العذاب، يجدد لهم في كل يوم ألف جلد، فذلك عذابهم. قال: وأما الذين يغلون فيأتون بغلولهم ثم يلقى بهم في بحر جهنم ثم يقال لهم غوصوا حتى تخرجوا غلولكم لينتهوا إلى قعره، ولا يعلم قعره إلا الذي خلقه. قال: فيغوصون ما شاء الله، ثم يخرجون رؤوسهم يتنفسون فيبتدر إلى كل إنسان منهم سبعون ألف ملك، مع كل ملك مقمع من حديد فيهوى بها إلى رأسه، فذلك

فصل) وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "إن لجسر جهنم سبع قناطر

عذابهم أبدًا. قال: وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله قضى على أهل النار أنهم لابثون فيها أحقابًا، فلا أدرى كم من حقب، غير أن الحقب الواحد ثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يومًا، واليوم ألف سنة مما تعدون". فالويل لأهل النار، والويل لتلك الوجوه التي كانت لا تصبر على حر الشمس حين تلفحها النار، وويل لتلك الرؤوس التي كانت لا تصبر على الصداع حين يصب فوقها الحميم، وويل لتلك الأعين التي كانت لا تصبر على الرمد حين تزرق وتشخص في النار، وويل لتلك الآذان التي كانت تسمع الأحاديث فتلذا بها حين يفور منها لهب النار، وويل لتلك المناخر التي كانت تجزع من ريح الجيف حين تنشقت بالنار، وويل لتلك الأعناق التي كانت لا تصبر على الوجع حين يجعل فيها الأغلال، وويل لتلك الجلود التي كانت لا تصبر على اللباس الخشن حين يجعل عليها ثياب من نار خشن مسها، منتن ريحها تتلظى نارًا، وويل لتلك البطون التي كانت لا تصبر على الأذى حين يدخلها الزقوم مع ماء حميم يقطع أمعاءهم، وويل لتلك الأقدام التي كانت لا تصبر على الحفا حين تحذي لها نعال من نار، فويل لأهل النار من أصناف العذاب. (فصل) وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "إن لجسر جهنم سبع قناطر، بين كل قنطرتين سبعون عامًا، وعرض الجسر كحد السيف، فيجوز عليه أول زمرة من الناس سراعًا كطرف العين، والزمرة الثانية كالبرق الخاطف، والزمرة الثالثة كالريح، والزمرة الرابعة كالطير، والزمرة الخامسة كالخيل، والزمرة السادسة كالرجل المسرع، والزمرة السابعة يمرون عليها مشاة، ثم يبقى رجل واحد فهو آخر من يمر على ذلك الجسر، فيقال له: مر، فيضع عليه قدميه فتزل إحداهما ثم يركبه فيحبو على ركبتيه، فتصيب النار من شعره وجلده. قال: فلا يزال يترجرج على بطنه فتزل قدمه الأخرى وتثبت يده وتتعلق الأخرى، فهو على ذلك تصيبه النار، وهو يظن أنه لا ينجو منها، فلا يزال يترجرج على بطنه حتى يخرج منها، فإذا خرج منها نظر إليها فقال: تبارك الذي أنجاني منك، ما أظن أن ربي أعطى أحدًا من الأولين والآخرين مثل ما أعطاني، أنه نجاني منك، بعد إذ رأيت ولقيت.

قال: فيأتيه ملك من الملائكة، فيأخذ بيده فينطلق به إلى غدير بين يدي باب الجنة، فيقول له الملك: اغتسل في هذا الغدير واشرب منه. قال: فيغتسل ويشرب منه، فيعود له ريح أهل الجنة وألوانهم، ثم ينطلق به فيوقفه على باب جهنم ويقول له: قف هاهنا حتى يأتيك إذنك من ربك عز وجل. قال: فينظر إلى أهل النار ويسمع عواءهم كعواء الكلاب. قال: فيبكي فيقول: يا رب اصرف وجهي عن أهل النار، لا أسألك يا رب غيره. قال: فيأتيه ذلك الملك من عند رب العالمين عز وجل، فيحول وجهه عن النار إلى الجنة. قال: وبين مقامه إلى باب الجنة خطوة، فينظر إلى باب الجنة وعرضه، وأن ما بين عضادتي باب الجنة مسيرة أربعين عامًا للطير المسرع. قال: فيسأل ذلك الرجل ربه عز وجل فيقول: يا رب إنك قد أحسنت إلى الإحسان كله، أنجيتني من النار وصرفت وجهي عن أهل النار إلى أهل الجنة، وإنما بيني وبين باب الجنة خطوة فأسألك يا رب بعزتك أن تدخلني الباب، ولا أسألك غيره، ولكن أجعل الباب بيني وبين أهل النار، فلا أسمع حسيسها، ولا أرى أهلها. قال: فيأتيه ذلك الملك من عند رب العالمين، فيقول: يا ابن آدم ما أكذبك ألست زعمت أنك لا تسأل غيره. قال عليه السلام: فيقول: ويحلف-: لا وعزة الرب لا أسألك غيره، فيأخذ بيده فيدخله الباب ثم ينطلق الملك إلى رب العالمين عز وجل. قال: فينظر ذلك الرجل في الجنة عن يمينه وشماله وبين يديه مسيرة سنة، فلا يرى أحدًا غير الشجر والثمر وبين مقامه إلى أدنى شجرة خطوة. قال: فينظر إليها فإذا أصلها ذهب وغصنها فضة بيضاء، وورقها كأحسن حلل رآها آدمي وثمارها ألين من الزبد وأحلى من العسل وأطيب ريحًا من المسك. قال: فتحير ذلك الرجل مما رأى. قال: فيقول: يا رب نجيتني من جهنم وأدخلتني باب الجنة وأحسنت إلى الإحسان كله، وإنما بيني وبين هذه الشجرة خطوة لا أسألك غيرها. قال: فيأتيه ذلك الملك فيقول: ما أكذبك يا ابن آدم ألست زعمت أنك لا تسأل

غيرها زيادة، فما لك تسأل وأين ما أقسمت ألا تستحي؟ قال: فيأخذ بيده فينطلق به إلى أدنى منازله فإذا هو بقصر من لؤلؤ بين يديه على مسيرة سنة. قال: فإذا أتاه نظر إلى ما بين يديه فرأى منزلًا كأنما كان ذلك القصر وما وراءه معه حلمًا، فلا يملك نفسه حين ينظر إليه فيقول: يا رب أسألك هذا المنزل ولا أسألك غيره. قال: فيأتيه ملك من الملائكة فيقول: يا ابن آدم أما أقسمت بربك عليك ألا تسأل غيره، ما أكذبك يا ابن آدم هو لك فإذا أتاه نظر إلى ما هو بين يديه كأنما كان منزله معه حلمًا. قال: فيقول: يا رب أسألك هذا المنزل، قال: فيأتيه ذلك الملك فيقول له: يا ابن آدم ما لك لا توفى بالعهد، ألست زعمت أنك لا تسأل غيره؟ ولا يلومه لأنه يرى ما تكاد نفسه تخرج منه من العجائب. قال: فيقول: هو لك، قال: فإذا بين يديه منزل آخر، كأنما كانت معه تلك المنازل حلمًا، فيبقى مبهوتًا لا يستطيع أن يتكلم. قال عليه الصلاة والسلام: فيقول له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ما لك لا تسأل ربك؟ فيقول: يا سيدي صلى الله عليك، والله لقد حلفت لرب العزة حتى خشيت منه وسألته حتى استحيت. قال: فيقول له رب العزة جل جلاله: أيرضيك أن أجمع لك الدنيا منذ يوم خلقتها إلى يوم أفنيتها ثم أضعفها لك عشرة أضعاف؟ قال فيقول ذلك الرجل: يا رب أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟ قال: فيقول له رب العزة جل وعلا: إني لقادر أن أفعله فاسألني ما شئت. قال: فيقول الرجل: يا رب ألحقني بالناس. قال: فيأتيه ملك فيأخذ بيده، فينطلق به يمشي في الجنة حتى يبدو له شيء كأنه لم يكن رأى معه شيئًا فيخر ساجدًا، ويقول في سجوده: إن ربي عز وجل تجلى لي، فيقول له الملك: ارفع رأسك إن هذا منزلك وهو أدنى منازلك. قال: فيقول: لولا أن الله عز وجل حبس بصري لحار من نور هذا القصر، قال:

فينزل في ذلك القصر فيلقاه رجل إذا رأى وجهه وثيابه يبقى مبهوتًا يظن أنه ملك، فيأتيه ذلك الرجل فيقول: السلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ لقد آن لك أن تجئ، فيرد عليه السلام ثم يقول له: من أنت يا عبد الله؟ فيقول: أنا قهرمان لك وأنا على هذا المنزل ولك مثلي ألف قهرمان، كل واحد منهم على قصر من قصورك، ولك ألف قصر في كل قصر ألف خادم وزوجة من الحور العين. قال: فيدخل في قصره ذلك فإذا هو بقبة من لؤلؤة بيضاء وفي جوفها سبعون بيتًا، في كل بيت سبعون غرفة، لكل غرفة سبعون بابًا، لكل باب منها قبة من لؤلؤ فيدخل تلك القباب فيفتحتها ولم يفتحها أحد من خلق الله قبله، فإذا هو في جوف تلك القبة بقبة من جوهرة حمراء طولها سبعون ذراعًا، لها سبعون بابًا، كل باب منها يفضى إلى جوهرة حمراء على مثل طولها لها سبعون بابًا، ليس منها جوهرة على لون صاحبتها في كل جوهرة أزواج ومناص وأسرة. قال: فإذا دخلها وجد فيها زوجة من الحور العين، فتسلم عليه فيرد عليها السلام ثم يقوم مبهوتًا، فتقول له: قد آن لك أن تزورنا وأنا زوجتك. قال: فينظر في وجهها فيرى وجهه في وجهها كما يرى أحدكم وجهه في المرآة من الحسن والجمال والصفوة، فإذا عليها سبعون حلة في كل حلة سبعون لونًا ليس فيها لون على لون صاحبتها يرى مخ ساقها من ورائهن، لا يعرض عنها إعراضه إلا ازدادت حسنًا في عينه سبعين ضعفًا، فهي له مرآة وهو لها مرآة. قال: وإن لكل قصر منها ثلثمائة وستون بابًا، على كل باب ثلثمائة وستون قبة من لؤلؤة وياقوتة وجوهرة ليس منها قبة على لون صاحبتها، فإذا أشرف على ظهر القصر أشرف على ملكه مسيرة من الأرض ما ينفذ بصره فيها، إذا سار فيه سار في ملكه مائة سنة لا ينتهي إلى شيء فيه إلا نظر فيه أجمع، وإن الملائكة تدخل عليه في كل قصوره من كل باب بالسلام والهدايا من عند رب العالمين، ليس منهم ملك إلا ومعه من الهدايا ما ليس مع الآخر كل يوم في النهار تسلم عليه الملائكة معها الهدايا. وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل يقول: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبي الدار} [الرعد: 23 - 24]. وقال تعالى: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيًا} [مريم: 62].

وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن هذا الرجل يسميه أهل الجنة المسكين لفضل منازلهم على منزله وإن لهذا المسكين ثمانين ألف خادم في طعامه إذا اشتهى الطعام نصبوا له مائدة من موائدها من ياقوتة حمراء ممنطقة من ياقوتة صفراء محفوفة بالدار والزبرجد وقوائمها من لؤلؤ حافتها عشرون ميلًا. قال: فيوضع له عليها من الطعام سبعون لونًا، ويقوم بين يديه ثمانون خادمًا مع كل خادم منهم صحفة فيها طعام وكأس فيه شراب، في كل صحفة من الطعام ما ليس في الأخرى، وفي كل كأس شربة ما ليس في الأخرى، يجد طعم أولها كطعم آخرها، ويجد لذة آخرها كلذة أولها، يشبه بعضه بعضًا، وليس منها لون إلا وهو يصيب منه، وليس خادم إلا ويعطى حظه من ذلك الطعام والشراب إذا رفع من بين يديه". وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "وإن أهل الدرجة العليا يزورونه ولا يزورهم، وإن أهل الدرجة العليا ليسعى على كل رجل منهم ثمانمائة ألف خادم، وبيد كل خادم منهم صحفة فيها طعام ليس في الأخرى، وليس منها لون إلا وهو يصيب منه، وليس منهم خادم وإلا ويعطي حظه من ذلك الطعام والشراب إذا رفع من بين يديه، وما منهم من أحد إلا وله اثنتان وسبعون زوجة من الحور العين وآدميتان، لكل زوجة منهن قصر من ياقوتة خضراء ممنطقة بحمراء، فيها سبعون ألف مصراع، لكل مصراع قبة وليس منها زوجة إلا وعليها سبعون ألف حلة في كل حلة سبعون ألف لون، ليس منها حلة تشبه الأخرى، وليس منهن زوجة إلا بين يديها ألف جارية قيام لحوائجها، وسبعون ألف جارية لمجلسها، وما منهن جارية إلا وقد أشغلتها في حاجتها، إذا قرب إليها الطعام قام بين يديها سبعون ألف جارية، كل جارية منهم بيدها صحفة فيها من الطعام، وكأس فيها من الشراب ما ليس في الأخرى". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يشتاق الرجل إلى أخ له كان يحبه في الله عز وجل في الدنيا، فيقول: يا ليت شعري ما فعل أخي فلان شفقة عليه أن يكون قد هلك، فيطلع الله عز وجل على ما في قلبه، فيوحي إلى الملائكة أن سيروا بعبدي هذا إلى أخيه فتأتيه الملائكة بنجيبة عليها رحلها من مياثر النور. قال: فيسلم عليه، فيرد عليه السلام ويقول له: قم فاركب وانطلق إلى أخيك. قال: فيركب عليها، فيسير في الجنة ألف عام أسرع من أحدكم إذا ركب بنجيبته

فسار عليها فرسخًا. قال: فلا يكون شيء أسرع حتى يبلغ منزل أخيه. قال: فيسلم عليه، فيرد عليه السلام ويرحب به. قال: فيقول: أين كنت يا أخي لقد كنت أشفقت عليك؟. قال: فيعتنق كل واحد منهما صاحبه ثم يقولان: الحمد لله الذي جمع بيننا، فيحمدان الله عز وجل بأحسن أصوات سمعها أحد من الناس. قال: فيقول الله عز وجل لهما عند ذلك: يا عبدي ليس هذا حين عمل، ولكن هذا حين تحية ومسألة، فاسألاني أعطيكما ما شئتما. قال: فيقولان: يا رب أجمع بيننا في هذه الدرجة. قال: فيجعل الله عز وجل تلك الدرجة مجلسهما في خيمة محفوفة بالدر والياقوت، ولأزواجهما منزل سوى ذلك. قال: فيشربون ويأكلون ويتمتعون .... ". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الرجل منهم ليأخذ لقمة فيجعلها في فيه، ثم يخطر بباله طعام آخر، فتتحول تلك اللقمة إلى الذي تمنى". قيل: يا رسول الله ما ارض الجنة؟ قال: أرضها رخامة من فضة مملسة، وترابها مسك، وتلالها زعفران، وحيطانها در وياقوت وذهب وفضة، يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، وليس في الجنة قصر إلا يرى ظاهره من باطنه، وباطنه من ظاهره، وليس في الجنة رجل إلا وهو يلبس إزارًا ورداء وحللًا غير مقطعة وغير مخيطة، وليس منهم رجل إلا وهو يلبس تاجًا من لؤلؤ مجوفًا بالدر والياقوت والزبرجد، له ضفيرتان من الذهب، في عنقه طوق من ذهب محفوف بالدر والياقوت الأخضر، وفي يد كل رجل منهم ثلاث أسورة، سوار من ذهب، وسوار من فضة، سوار من لؤلؤ، تحت تيجانهم أكاليل من در وياقوت، وعلى حللهم تلك يلبسون السندس، وعلى السندس الإستبرق والحرير الأخضر، متكئين على فرش بطائنها من إستبرق، وظواهرها العبقري الحسان، أسرتها من ياقوت أحمر، وقوائمها اللؤلؤ على كل سرير منها ألف مثال، لكل مثال سبعون لونًا، ليس منها مثال يشبه الآخر، بين يدي كل سرير منها سبعون ألف زريبة لكل زريبة سبعون لونًا، ليس منها زريبة تشبه

صاحبتها، عن يمين كل سرير منها سبعون ألف كرسي، وعن شمالها مثل ذلك، ليس منها كرسي يشبه الآخر. وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أهل الجنة أجمعين أعلاهم وأسفلهم على طول آدم، وطول آدم عليه السلام ستون ذراعًا، شبابًا جردًا مردًا مكحولين محممين هم ونساءهم على قدر واحد". قال: فلما فعل ذلك بهم، نادي مناد في الجنة، فيسمع صوته أدناهم وأقصاهم، فيقول: يا أهل الجنة أرضيتم منازلكم؟ فيقولون بأجمعهم: نعم والله لقد أنزلنا ربنا منزل الكرامة، لا نبغي عنها حولًا ولا بها بدلًا، رضينا بربنا جارًا، اللهم ربنا فإنا سمعنا مناديك فأجبناه القول الصادق، اللهم ربنا فإنا اشتهينا النظر إلى وجهك فأرناه، فإنه أفضل ثوابنا عندك. قال: فأمر الله عز وجل عند ذلك الجنة فيها منزله ومجلسه واسمها دار السلام، خذي زينتك، وتزيني واستعدي لزيارة عبادي فاستمعت لربها وأطاعته قبل أن تنقضي الكلمة، وأخذت زينتها واستعدت لزوار الله تعالى، فيأمر الله تعالى ملكًا من الملائكة أن أدع عبادي إلى زيارتي. قال: فيخرج ذلك الملك من عند الرحمن، فينادي بأعلى صوته، بصوت له لذيذ ممدود يقول: يا أهل الجنة، يا أولياء الله زوروا ربكم. قال: فيسمع صوته أعلاهم وأسفلهم، فيركبون على النوق والبراذين بأجمعهم، فيسيرون في ظل إلى جنب تلال من مسك أبيض وزعفران أصفر، فيسلمون عند الباب وتسليمهم أن يقولوا: السلام علينا من ربنا، فيستأذنون فيؤذن لهم، فيعمدون فيدخلون الباب، فتهب ريح من تحت العرش اسمها المثيرة، فتنسف تلال المسك والزعفران، فتغبر جيوبهم ورؤوسهم وثيابهم، فيدخلون وينظرون إلى عرش ربهم وكرسيه نورًا يتلألأ عليهم من غير أن يتجلى لهم، فيقولون: سبحانك ربنا قدوس، رب الملائكة والروح، تباركت ربنا وتعاليت، أرنا ننظر إلى وجهك. قال: فيأمر الله عز وجل الحجب التي من نور: أن اعتزلي، فلا يزال يرتفع حجاب وراء حجاب حتى يرتفع سبعون حجابًا، كل حجاب هو أشد نورًا من الذي يليه سبعين ضعفًا، فيتجلى لهم رب العزة عز وجل، فيخرون له سجدًا ما شاء الله، يقولون وهم

ساجدون: سبحانك لك الحمد والتسبيح أبدًا، أنجيتنا من النار وأدخلتنا الجنة، فنعم الدار رضينا عنك الرضا كله، فارض عنا، فيقول تبارك وتعالى: إني قد رضيت عنكم الرضا كله، وليس هذا أوان عمل، ولكن هذا حين نضرة ونعيم، فاسألوني أعطكم، وتمنوا على أزدكم. قال: فيتمنون من غير أن يتكلموا، فيتمنون أن يديهم لهم ما أعطاهم، فيقول تعالى: إني معطيكم الذي تمنيتم ومثل الذي أعطيتكم. قال: فيرفعون رؤوسهم بالتكبير، ولا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم إلى ربهم عز وجل من شدة نور رب العزة، وذلك المجلس يسمى شرقي قبة عرش رب العالمين، فيقول لهم رب العزة مرحبًا يا عبادي وجيراني وأصفيائي وأحبائي وأوليائي وخيرتي من خلقي وأهل طاعتي. قال: فإذا بين يدي عرش رب العزة منابر من نور، من دون تلك المنابر كراسي من نور، من دون تلك الكراسي الفرش، ودون الفرش النمارق، ودون النمارق الزرابي. قال: فيقول لهم رب العزة: هلم اجلسوا على كرامتكم، فيتقدم الرسل فيجلسون على تلك المنابر، ويتقدم الأنبياء فيجلسون على تلك الكراسي، ويتقدم الصالحون فيجلسون على تلك الزرابي. قال: فتوضع لهم موائد من نور، على كل مائدة سبعون لونًا مكللة باللؤلؤ والياقوت. قال: فيقول رب العزة لحفدته: أطعموهم، قال: فيوضع لهم على كل مائدة سبعون ألف صحفة من در وياقوت، وفي كل صحفة سبعون لونًا من الطعام. قال: فيقول عز وجل: كلوا يا عبادي، قال: فيأكلون ما شاء الله من ذلك، قال: فيقول بعضهم لبعض: إن طعامنا الذي عند أهلنا عند هذا حلم. قال: فيقول رب العزة لحفدته: اسقوا عبادي، قال: فيأتونهم بشراب فيشربون منه، فيقول بعضهم لبعض: إن شرابنا عند هذا الشراب حلم. قال: فيقول رب العزة لحفدته: أطعمتموهم وسقيتموهم ففكهوهم الآن. قال: فيأتون بفاكهة فيأكلون منها، فيقول بعضهم لبعض: إن فاكهتنا عند هذه حلم. قال: فيقول رب العزة سبحانه: أطعمتموهم وفكهتموهم وسقيتموهم، أكسوهم

وحلوهم: قال: فيأتونهم بكسوة وحلية فيلبسونها، فيقول بعضهم لبعض: إن كسوتنا وحليتنا عند هذه حلم. قال: فبينما هم جلوس على كراسيهم بعث الله عز وجل عليهم ريحًا من تحت العرش تسمى المثيرة، فتأتيهم بمسك وزعفران وكافور من تحت العرش أشد بياضًا من الثلج، فتغبر ثيابهم ورؤوسهم وجيوبهم فتطيبهم، ثم ترفع عنهم الموائد مع ما عليها من الطعام. قال -عليه الصلاة والسلام-: فيقول لهم رب العزة سلوني الآن أعطكم وتمنوا أزدكم، قال: فيقولون بأجمعهم: اللهم ربنا فإنا نسألك رضاك عنا، فيقول عز وجل: إني قد رضيت يا عبادي عنكم، قال: فيخرون له سجدًا بالتسبيح والتكبير، فيقول رب العزة: يا عبادي ارفعوا رؤوسكم ليس هذا حين عمل هذا حين نظرة ونعيم. قال: فيرفعون رؤوسهم ووجوههم مشرقة من نور ربهم، قال: فيقول رب العزة عز وجل: انصرفوا إلى منازلكم، قال: فيخرجون من عند ربهم، ثم تلقاهم غلمانهم بدوابهم، قال: فيركب كل واحد منهم على ناقته أو برذونه، ويركب معه سبعون ألف غلام على مثل الذي يركب، فيسير من شاء منهم بالسواء إلى داره، ثم يسير معه سائرهم حتى يقدم القصر الذي يريد. قال: فإذا جاء قصره فدخل على زوجته قامت إليه فرحبت به وقالت له، جئتني يا حبيبي، جئتني بحسن ونور وجمال وكسوة وريح وحلية لم أفارقك عليها. قال: فينادي ملك من عند الرحمن عز وجل بصوت عال فيقول: يا أهل الجنة كذلك أنتم أبدًا، يجدد لكم النعيم قال: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبي الدار} [الرعد: 23 - 24] إن ربكم يقرأ عليكم السلام ومعهم من الأطعمة والأشربة والكسوة والحلية". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين أمير يرون له الفضيلة والسؤدد، فيها جبال من مسك أبيض وزعفران أصفر، إذا أكلوا طعامهم تجشوا أطيب من المسك، فإذا شربوا شرابهم رشحت جلودهم المسك لا يتغوطون ولا يهريقون الماء ولا يبصقون ولا يمتخطون ولا يمرضون ولا يصدعون". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أهل الجنة أعلاهم وأسفلهم يتغدون متكئين ساعتين، ويتفاضلون

ساعتين، ويمجدون خالقهم أربع ساعات، ويتزاورون ساعتين، وفيها ليل ونهار وظلمة، ليلها أشد بياضًا من النهار، اليوم سبعين جزءًا". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أدنى أهل الجنة عطية من لو نزل عليه الإنس والجن لكان عنده من الكراسي والفرش والنمارق والزرابي ما يجلسون ويتكئون عليه، ويفضل عليهم من الموائد والصحائف والخدم والطعام والشراب إلا كقدر ما أصاب رجلًا واحدًا". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن جذوع الشجر ذهب ومنها فضة ومنها ياقوت ومنها زبرجد، وسعفها مثل ذلك، وورقها كأحسن حلل رآها أحد، وثمرها ألين من الزبد وأحلى من العسل، طول كل شجرة منها خمسمائة سنة وغلظ أصلها مسيرة سبعين عامًا، وعرض أصلها مسيرة خمسمائة عام إذا رفع الرجل منهم بصره نظر إلى أقصى فرع من الشجرة وما فيها من الثمار، وإن على بطن كل شجرة سبعين ألف لون من الثمار، وليس منها لون على طعم الآخر، إذا اشتهى شيئًا من تلك الأنواع انحنت له تلك الشعبة التي فيها تلك الثمرة التي اشتهى من مسيرة خمسمائة عام أو مسيرة خمسين عامًا أو دون ذلك، حتى يأخذها بيده إن شاء، فإن عجز أن يأخذها بيده فتح فاه فدخلت فيه، فإذا قطف منها شيئًا أحدث الله مكانها أحسن منها وأطيب، فإذا أصاب منها حاجته واكتفى رجعت الشعبة حيث كانت. ومنها شجرة لا تثمر ولكن فيها أكمام فيها حرير وحلل وسندس وزخرف وعبقري، ومنها شجرة لها أكمام فيها المسك والكافور". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أهل الجنة يرون ربهم كل يوم جمعة". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لو أن إكليلًا من الجنة دلى من السماء لذهب بضوء الشمس". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن في الجنة قصورًا في كل قصر منها أربعة أنهار: ماء معين، ولبن معين، وخمر معين، وعسل معين، إذا شرب منه شيئًا صار ختامه مسكًا، ولا يشربون منها شيئًا حتى يمزج من عيون في الجنة اسم أحدها الزنجبيل، والأخرى تسنيم، والأخرى كافور، وإن المقربين يشربون منها صرفًا ... ". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لولا أن الله قضى بينهم أنهم يتنازعون الكأس بينهم ما رفعوها عن أفواههم أبدًا". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أهل الجنة يتزاورون على مسيرة مائة ألف عام أو فوق ذلك أو

دون ذلك، فإذا رجعوا من عند إخوانهم فلهم أهدى إلى منازلهم من أحدكم إلى منزله". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أهل الجنة إذا رأوا ربهم عز وجل وأرادوا الانصراف، يعطي كل رجل منهم رمانة خضراء فيها سبعون حلة، لكل حلة سبعون لونًا ليس منها حلة على لون الأخرى، فإذا انصرفوا من عند ربهم عز وجل مروا في أسواق الجنة، ليس فيها بيع ولا شراء، وفيها من الحلل والسندس والإستبرق والحرير والزخرف والعبقري من در وياقوت وأكاليل معلقة، فيأخذون من تلك الأسواق من هذه الأصناف ما يطيقون حمله، ولا ينقص من أسواقها شيء، وفيها صور كصور الناس من أحسن ما يكون، مكتوب في نحر كل صورة منها: من تمني أن يكون حسنه على حسن صورتي جعل الله حسنه على صورتي، فمن تمني أن يكون حسن وجهه على تلك الصورة جعله الله على تلك الصورة. قال: ثم ينصرفون إلى منازلهم فيلقاهم غلمانهم صفوفًا قيامًا بالترحيب والتسليم، فيبشر كل واحد منهم صاحبه الذي يليه حتى تبلغ البشري زوجته، ثم يستخفها الفرح حتى تقوم إليه فتستقبله عند بابه بالترحيب والتسليم، فتعانقه ويعانقها فيدخلان جميعًا معتنقين". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لو أن امرأة من نساء أهل الجنة برزت لم يرها ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا افتتن بحسنها". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن آخر شراب يشربه أهل الجنة على إثر طعامهم شراب يقال له: طهور دهاق، فإذا شرب منه شربة هضم طعامهم وشرابهم فجعله كالمسك وجشأة المسك، ولا يكون في بطونهم أذى، فإذا شربوا اشتهوا الطعام فهذا دأبهم أبدًا". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن دواب أهل الجنة خلقن من ياقوت أبيض". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "هن ثلاث جنات، الجنة، وعدن، ودار السلام، الجنة أصغر من جنة عدم بتسعمائة ألف ألف جزء، وإن قصور الجنة ظاهرها من ذهب وباطنها من زبرجد وأبرجتها من ياقوت أحمر وشرفاتها نظام اللؤلؤ".

وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الرجل من أهل الجنة ليتمتع عند زوجته التكأة الواحدة مقدار سبعمائة عام ما يتحول، ثم تناديه زوجته الأخرى من القصر أحسن منها: يا أخي قد آن لك أن تكون لنا منك دولة، فيقول الرجل: من أنت؟ فتقول: أنا من التي يقول الله عز وجل: {فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين} [السجدة: 17] فيتحول إليها فيمكث عندها مقدار سبعمائة عام يأكل ويشرب ويباضعها". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها سبعمائة عام ما يقطعها تجرى من تحتها الأنهار وإن على كل غصن من غصونها مدائن مبنية، طول كل مدينة منها عشرة آلاف ميل، وإن ما بين كل مدينة إلى الأخرى كما بين المشرق والمغرب، وإن عيون السلسبيل لتجرى من تلك القصور إلى تلك المدائن، وإن الورقة منها لتظل الأمة العظيمة ... ". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الرجل من أهل الجنة إذا دخل على زوجته قالت: والذي هو أكرمني بك ما في الجنة شيء هو أحب إلى منك". قال: وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن في الجنة ما لا يصفه الواصفون، ولا يخطر على قلوب العالمين، ولا تسمع به آذان الواعين، وفيها ما لم تره عيون المخلوقين". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله عز وجل ينزل المتحابين فيه في جنة عدن على عمود من ياقوته حمراء، غلظها مسيرة سبعين ألف عام على سبعين ألف بيت، لكل أهل بيت قصر مشرفين على أهل الجنة، مكتوب على جباههم كتاب من نور: هؤلاء المتحابون في الله، إذا اطلع أحدهم من قصره إلى أهل الجنة ملأ نور وجهه قصور أهل الجنة كما تملأ الشمس بيوت أهل الأرض، فينظر أهل الجنة وجهه فيقول بعضهم لبعض: هذا من المتحابين في الله عز وجل، فإذا وجهه مثل القمر ليلة البدر". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن فضل حسن الرجل على حسن الخادم من أهل الجنة كمثل القمر ليلة البدر على النجوم". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن نساء أهل الجنة يتغنين عند آخر طعامهم بأصوات لذيذة ممدودة يقلن: نحن الخالدات فلا نموت أبدًا، ونحن الآمنات فلا نخاف أبدًا، ونحن الراضيات فلا نسخط أبدًا، ونحن الشابات فلا نهرم أبدًا، ونحن الكاسيات فلا نعري أبدًا، ونحن

الخيرات الحسان أزاوج قوم كرام". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن طير الجنة له سبعون ألف ريشة، لكل ريشة منها لون ليس يشبه الآخر، عظم كل طير منها ميل في ميل، إذا اشتهى المؤمن شيئًا منها أتى به فوضع في جوف الصحفة، فانتقض فوقع منه سبعون لونًا من الطعام من نحو طبيخ وشواء وألوان شتى، طعمها أطيب من المن، ولينها ألين من الزبد، وبياضها أشد بياضًا من المخيض، فإذا أكل منها انتفض وطار ولم تنقص منها ريشة، فطيورهم ومراكبهم ترعى في رياض الجنة حول قصورهم". وكان -صلى الله عليه وسلم- "إن أهل الجنة يعطيهم الله تعالى خواتيم من ذهب يلبسونها وهي خواتيم الخلد، ثم يعطيهم خواتيم من در وياقوت ولؤلؤ، وذلك إذا زاروه في دار السلام". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أهل الجنة إذا زاروا ربهم أكلوا وشربوا وتمتعوا. قال: يقول رب العزة عز وجل: يا داود مجدني بصوتك الحسن، فيمجده ما شاء الله تعالى من ذلك فلا يبقى منه شيء في الجنة إلا أنصت لحسن صوته ولذاذته. قال: فيمجده ما شاء الله ثم يحبوهم رب العزة عز وجل بالكسوة والحلية، ثم ينصرفون إلى أهليهم". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن لكل رجل من أهل الجنة شجرة يقال لها طوبي، فإذا أراد أحدهم أن يلبس الكسوة المرتفعة انطلق إلى طوبي ففتحت له أكمامها، وهي ستة ألوان في كل واحد منها سبعون لونًا، ليس منها ثوب لونه على لون الآخر ولا على وشيه، فيأخذ من أي ذلك شاء، أرق من النعمان". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أزواج أهل الجنة مكتوب في بحر كل امرأة منهن: أنت حبيبي وأنا حبيبتك، ليس عنك معدل ولاعنك مقصر، وليس لك في قلبي غل ولا غش، فينظر الرجل إلى نحر زوجته فيرى سواء كبدها من وراء عظمها ولحمها، فكبده لها مرآة وكبدها له مرآة، ولا يعيبها ذلك إلا كما يعيب السلك الياقوت، بياضهن كبياض المرجان وصفاؤهن كصفاء الياقوت، قال الله عز وجل: {كأنهن الياقوت والمرجان} [الرحمن: 58]. وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أهل الجنة على النوق والبراذين يقع خف إحداهن عند أقصى

(فصل) في قوله عز وجل: {فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا ...} [الإنسان: 11] إلى آخر صفة أهل الجنة

طرفها، وموضع حافز ذلك البرذون عند أقصى طرفه خلقت من در وياقوت، عظم كل دابة منهن سبعون ميلًا، أزمة النوق والبراذين حلق اللؤلؤ والزبرجد". (فصل) في قوله عز وجل: {فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورًا ...} [الإنسان: 11] إلى آخر صفة أهل الجنة. أما قوله: {فوقاه الله شر ذلك اليوم} يعني يوم القيامة يقيهم شدة الحساب وهول جهنم، إذا جئ بها في عرصات القيامة يقودها تسعة عشر خازنًا من الملائكة، مع كل خازن منهم سبعون ألف ملك أعوان له غلاظ شداد كالحة أنيابهم، أعينهم كالجمر وألوانهم كلهب النار، يفور من مناخرهم لهب ودخان عال مستعدين لأمر الجبار تبارك وتعالى، فيقودها كل خازن وأعوانه بوثاق وسلسلة عظيمة، فتارة يمشون عن يمينها وأخرى عن شمالها، ومرة من ورائها، بيد كل ملك منهم مقمع من جديد، يصيحون بها فتمشى، ولها زفير وشهيق ووعث وظلمة ودخان وقعقعة ولهب عال من شدة غضبها على أهلها، فينصبونها بين الجنة والموقف، فترفع طرفها فتنظر إلى الخلائق، ثم تجمع إليهم لتأكلهم، فتحبسها الخزنة بسلاسلها ولو تركت لأتت على كل مؤمن وكافر، فإذا رأت أنها قد حبست عن الخلائق فارت فورة شديدة كادت تميز من الغيظ، ثم شهقت الثانية فسمعت الخلائق صوت صريف أسنانها، فارتعدت عند ذلك الأفئدة، وانخلعت القلوب، وطارت الأفئدة، وشخصت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، ثم تزفر زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا أحد ممن شهد الموقف إلا جثا على ركبتيه. ثم تزفر أخرى فلا تبقى قطرة في عين أحد إلا بدرت، ثم تزفر الثالثة فلو كان لكل آدمي أو جني عمل اثنين وسبعين نبيًا لواقعوها وظنوا أنهم لم ينجوا منها، ثم تزفر الرابعة فلا يبقى شيء إلا انقطع كلامه، ويتعلق جبريل وميكائيل وخليل الرحمن عز وجل بالعرش يقول كل واحد منهم نفسي نفسي لا أسألك غيرها، ثم ترمى بشرر كعدد نجوم السماء، عظم كل شرارة منها كالسحابة العظيمة الطالعة من المغرب، فيقع ذلك الشرر على رؤوس الخلائق. فهذا هو الشرر الذي وعد الله المؤمنين الذين يوفون بالنذر ويخافون عذابه أن يقيهم، فالله تعالى يكفى أهل التوحيد والإيمان وأهل السنة شر ذلك اليوم، ولقاهم برحمته

وييسر حسابهم ويدخلهم جنته ويخلدهم فيها أبد الآباد بمنه، ويزيد الكافرين وأهل الشرك والأوثان شرًا إلى شر، وخوفًا إلى خوف، وعذابًا إلى عذاب، فيدخلهم جهنم ويخلدهم فيها أبد الآباد. ثم قال عز وجل: {ولقاهم نضرة وسرورًا} [الإنسان: 11] فالنضرة في الوجوه والسرور في القلوب، وذلك أن المؤمن إذا خرج من قبره يوم القيامة نظر أمامه، فإذا هو بإنسان وجهه مثل الشمس يضحك طيب النفس، وعليه ثياب بيض وعلى رأسه تاج، فينظر إليه حتى يدنوا منه، فيقول سلام عليك يا ولي الله، فيقول: وعليك السلام من أنت يا عبد الله، أنت ملك من الملائكة؟ فيقول: لا والله، فيقول: أنت نبي من الأنبياء؟ فيقول: لا والله، فيقول: أنت من المقربين؟ فيقول: لا والله، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح أبشرك بالجنة والنجاة من النار، فيقول له: يا عبد الله أبعلم تبشرني؟ فيقول: نعم، فيقول: ما تريد مني؟ فيقول له: اركبني، فيقول له: سبحان الله ما ينبغي لمثلك أن يركب عليه، فيقول: بلى فإني طالما ركبتك في دار الدنيا، فإني أسألك بوجه الله إلا ما ركبتني، فيركبه، فيقول له: لا تخف أنا دليلك إلى الجنة، فيفرح فيتبين ذلك الفرح في وجهه حتى يتلألأ، ويرى فيه النور والسرور في قلبه، فذلك قوله عز وجل: {ولقاهم نضرة وسرورًا} [الإنسان: 11]. وأما الكافر فإذا خرج من قبره نظر أمامه، فإذا هو برجل قبيح الوجه أزرق العينين أشد سوادًا من القبر في ليلة مظلمة، وثيابه سود، يجر أنيابه في الأرض بدهدهة مثل دهدهة الرعد، وريحه أنتن من الجيفة فيقول: من أنت يا عبد الله؟ ويريد أن يعرض عنه بوجهه، فيقول: يا عدو الله إلى إلى أنت لي وأنا لك اليوم، فقال: ويحك أشيطان أنت؟ فيقول: لا والله، ولكن عملك الصالح، فيقول: ويحك ما تريد مني؟ فيقول: أريد أن أركبك، فيقول له: أنشدك بالله مهلًا، فإنك تفضحني على رؤوس الخلائق، فيقول: والله ما منه بد فطالما ركبتني فأنا اليوم أركبك، قال: فيركبه، فذلك قوله عز وجل: {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون} [الأنعام: 31]. ثم ذكر عز وجل أولياءه فقال: {وجزاهم} [الإنسان: 12] بعد البشارة {بما صبروا} [الإنسان: 12] على البلاء وأداء الأوامر، وانتهاء المناهي والتسليم في القدر {جنة وحريرًا} [الإنسان: 12].

أما الجنة فيتنعمون فيها، وأما الحرير فيلبسون، قال: {متكئين فيها} [الإنسان: 13] يعني في الجنة {على الأرائك} [الإنسان: 13] يعني السرر عليها الحجال يعني الستر {لا يرون فيها شمسًا ولا زمهريرًا} [الإنسان: 13] يعني ولا يصيبهم حر الشمس ولا برد الزمهرير، لأنه ليس فيها شتاء ولا صيف. ثم قال عز وجل: {ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلًا} [الإنسان: 14] يعني ظلال الشجر، وذلك أن أهل الجنة يأكلون من الفواكه إن شاءوا قيامًا، وإن شاءوا قعودًا، وإن شاءوا نيامًا، وإذا أرادوها دنت منهم حتى يأخذوا منها ثم يقوم أحدهم قائمًا، وذلك قوله عز وجل: {وذللك قطونها تذليلًا} يعني أغصانها. ثم قال عز وجل: {ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب} [الإنسان: 15] فهي الأكواب يعني الكيزان مدورة الرؤوس التي ليست لها عرا. وقال عز وجل: {قواريرًا} [الإنسان: 15] يعني هي قوارير ولكنها من فضة، وذلك أن قوارير الدنيا من ترابها، وقوارير الجنة من فضة {قدروها تقديرًا} [الإنسان: 16] يعني قدرت الأكواب على الإناء وقدر الإناء على كف الخادم على ري القوم إذا سقوها لم يبق فيها شيء، ولم يزد عليه فكانت قدرًا على الإناء وكف الخادم وري القوم فذلك قوله تعالى: {قدروها تقديرًا}. وقال تعالى: {ويسقون فيها كأسًا} [الإنسان: 17] يعني خمرًا وكل شراب في الإناء ليس بخمر فليس هو بكأس. وقال تعالى {كان مزاجها زنجبيلًا} [الإنسان: 17] يعني كلها قد مزج فيها الزنجبيل. ثم قال عز وجل: {عينًا فيها تسمى سلسبيلًا} [الإنسان: 18] يعني نهرًا فيها تسمى سلسبيلًا يسيل عليهم من جنة عدن، فتمر على كل جنة ثم ترجع تعم الجنة كلها. قال تعالى: {ويطوف عليهم ولدان مخلدون} [الإنسان: 19] فالولدان: هم الغلمان الذين لا يشيبون أبدًا فهم مخلدون، يعني لا يحتلمون ولا يكبرون أبدًا، غلمان {إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤًا} [الإنسان: 19] في الحسن والبياض {منثورًا} [الإنسان: 19] في الكثرة، يعني مثل اللؤلؤ المنثور الذي لا يدري ما عدده. ثم قال عز وجل: {وإذا رأيت ثم} [الإنسان: 20] يعني هنالك من الجنة {رأيت نعيمًا وملكًا كبيرًا} [الإنسان: 20] وذلك أن رجلًا من أهل الجنة له قصر، في ذلك القصر

سبعون قصرًا، في كل قصر سبعون بيتًا، كل بيت من لؤلؤة مجوفة طولها في السماء فرسخ وعرضها فرسخ في فرسخ، عليها أربعة آلاف مصراع من ذهب، في ذلك البيت سرير منسوج بقضبان الدر والياقوت عن يمين السرير وعن يساره أربعة آلاف كرسي من ذهب، قوائمها من ياقوت أحمر، على ذلك السرير سبعون فراشًا، كل فراش على لون، وهو متكئ على يساره، عليه سبعون حلة من ديباج، الذي يلي جسده حريرة بيضاء، وعلى جبهته إكليل مكلل بالزبرجد والياقوت وألوان الجواهر، كل جوهرة على لون، وعلى رأسه تاج من ذهب فيه سبعون زاوية، في كل زاوية درة تساوي مال المشرق والمغرب، وفي يده ثلاثة أسورة: سوار من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ، وفي أصابع يديه ورجليه خواتيم من ذهب وفضة فيه ألوان الفصوص، وبين يديه عشرة آلاف غلام لا يكبرون ولا يشيبون أبدًا، وتوضع بين يديه مائدة من ياقوتة حمراء طولها ميل في ميل، ويوضع على المائدة سبعون ألف إناء من ذهب وفضة، وفي كل إناء سبعون لونًا من الطعام، فيأخذ اللقمة بيده، فما يخطر على باله غيرها حتى تتحول اللقمة عن حالها إلى الحالة التي يشتهيها، وبين يديه غلمان بأيديهم أكواب من فضة وأوان من فضة، ومعهم الخمر والماء، فيأكل على قدر أربعين رجلًا من الألوان كلها فإذا شبع من لون من الطعام سقوه شربة مما يشتهي من الأشربة فيتجشأ، فيفتح الله عز وجل عليه ألف باب من الشهوة، ويشرب حتى يعرق، فإذا عرق ألقى الله عليه ألف باب من الشهوة إلى الطعام والشراب، ويدخل عليه الطير من الأبواب كأمثال النجائب العظام، فيقومون بين يديه صفًا فينعت كل نفسه بصوت مطرب لذيذ ألذ من كل غناء في الدنيا، يقول: يا ولي الله كلني إني كنت أرعى في كذا وكذا في رياض الجنة، وأشرب من عين كذا وكذا فيجملون إليه أصواتهم فيرفع بصره فينظر إلى أعلاه صوتًا وأجودها نعتًا فيشتهيها، فيعلم الله عز وجل ما قد استقر في قلبه من حبه، فيجئ ذلك الطير فيقع على المائدة بعضه قديد وبعضه شوى، أشد بياضًا من الثلج وأحلى من العسل، فيأكل حتى إذا شبع منها واكتفى صار طيرًا كما كان، فيخرج من الباب الذي كان دخل منه، فهو على الأرائك وزوجته مستقبلته، يبصر وجهه في وجهها من الصفا والبياض، كلما أراد يجامعها نظر إليها فيستحى منها أن يدعوها، فتعلم ما يريد منها زوجها، فتدنوا إليه فتقول: بأبي أنت وأمي، أرفع رأسك وانظر إلي فإنك اليوم لي وأنا لك، فيجامعها على قوة مائة رجل من الأولين، وعلى شهوة أربعين رجلًا، كلما أتاها وجدها عذراء

لا يغفل عنها مقدار أربعين يومًا، فإذا فرغ وجد ريح المسك منها فيزداد حبًا لها، وفيها أربعة آلاف وثمانمائة زوجة مثلها، لكل زوجة سبعون خادمًا وجارية. وروى عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لو أن جارية أو خادمًا أخرجت إلى الدنيا لاقتتل عليها أهل الدنيا كلهم حتى يتفانوا، ولو أن امرأة من الحور العين أخرجت ذوائبها في الأرض لأطفال نور الشمس من نورها. قيل: يا رسول الله، وكم بين الخادم والمخدوم؟ قال: والذي نفسي بيده، إن بين الخادم والمخدوم كالكوكب المظلم إلى جنب القمر في النصف. قال: فبينما هو جالس على سريره إذ بعث الله عز وجل إليه ملكًا معه سبعون حلة، كل حلة على لون، قد غابت بين أصبعي الملك ومعه التسليم والرضا، فيجئ حتى يقوم على بابه فيقول لحاجبه، ائذن لي على ولي الله فإني رسول رب العالمين إليه، فيقول الحاجب: والله ما أملك منه المناجاة، ولكن سأذكرك إلى من يليني من الحجبة، فلا يزالون يذكرون أمره بعضهم إلى بعض حتى يأتيه الخبر بعد سبعين بابًا، فيقول: يا ولي الله إن رسول رب العزة على الباب، فيأذن له بالدخول عليه، فيدخل الملك فيقول: السلام عليك يا ولي الله إن رب العزة عز وجل يقرئك السلام وهو عنك راض فلولا أن الله عز وجل لم يقض عليه الموت لمات من الفرح، فذلك قوله عز وجل: {ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم} [التوبة: 72] وذلك قوله تعالى: {وإذا رأيت} يعني يا محمد {ثم رأيت نعيمًا} يعني هنالك النعيم الذي هو فيه {وملكًا كبيرًا} حين لا يدخل عليه رسول الله رب العالمين إلا بإذن، ثم قال جل وعلا: {عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق} [الإنسان: 21] يعني الديباج، وإنما قال عاليهم لأن الذي يلي جسده حريرة بيضاء، ثم قال: {وحلوا أساور من فضة} [الإنسان: 21] وفي آية أخرى {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤًا} [الحج: 32، وفاطر: 33] فهي ثلاث أسورة، ثم قال عز وجل: {وسقاهم ربهم شرابًا طهورًا} [الإنسان: 21]. وذلك أن على باب الجنة شجرة ينبع من ساقها عينان، فإذا جاز الرجل الصراط إلى العينين يدخل في عين منها فيغتسل فيها، فيخرج وريحه أطيب من المسك، طوله سبعون ذراعًا في السماء على طول آدم عليه السلام وميلاد عيسى عليه السلام أبناء ثلاث وثلاثين سنة، فأهل الجنة كلهم رجالهم ونساؤهم على قدر واحد يكبر الصغير

حتى يكون ابن ثلاث وثلاثين سنة وينحط الشيخ عن حاله إلى ثلاث وثلاثين سنة، كلهم رجالهم ونساؤهم على قدر واحد في حسن يوسف بن يعقوب عليهما السلام، ويشرب من العين الأخرى، فينفى ما في صدره من غل أو هم أو حسد أو حزن، فيطهر الله عز وجل قلبه بذلك الماء، فيخرج وقلبه على قلب أيوب، ولسانه على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم- عربي، ثم ينطلقون حتى يأتوا الباب، فتقول لهم الخزنة، طبتم، فيقولون: نعم، فيقولون: ادخلوها خالدين، يبشرونهم بالخلود قبل الدخول بأنهم لا يخرجون أبدًا، فأول ما يدخل من باب الجنة ومعه الملكان اللذان كانا معه في دار الدنيا الكرام الكاتبين. فإذا هو بملك معه نجيبة من ياقوتة حمراء زمامها من ياقوتة خضراء فإذا كانت النجيبة من ياقوتة حمراء كان زمامها من ياقوتة خضراء، فإذا كانت النجيبة من ياقوتة خضراء كان زمامها ياقوتة حمراء عليها راحلة مقدمها ومؤخرها در وياقوت، وصفحتاها الذهب والفضة، ومعه سبعون حلة، فيلبسها ويضع على رأسه التاج، ومعه عشرة آلاف غلام كاللؤلؤ المكنون، فيقول: يا ولي الله اركب فإن هذا لك، ولك مثلها، فيركبها ولها جناحان خطوها منتهى الصبر، فيسير على نجيبة وبين يديه عشرة آلاف غلام، ومعه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا حتى يأتي إلى قصوره، فينزلها، ثم قال عز وجل: {إن هذا} الذي وضعت لكم في هذه السورة {كان لكم جزاء} لأعمالكم من حسن الثواب {وكان سعيكم} [الإنسان: 22] أي عملكم {مشكورًا} [الإنسان: 22] يعني شكر الله عز وجل أعمالكم فأثابكم الجنة". * * *

باب: في ذكر فضائل الشهور والأيام

[باب: في ذكر فضائل الشهور والأيام] مجلس في فضائل شهر رجب قال الله عز وجل: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم} [التوبة: 36]. سبب نزول هذه الآية أن المؤمنين ساروا من المدينة إلى أهل مكة قبل أن يفتح على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إنا نخاف أن يقاتلنا كفار مكة في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: {إن عدة الشهور عند الله أثنا عشر شهرًا في كتاب الله} يعني في اللوح المحفوظ {يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم} يعني من العدة حرم، يعني رجب، وذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم، واحد فرد وهو رجب وثلاثة سرد متتابعة {وذلك الدين القيم} [التوبة: 36] يعني الحساب القيم المستقيم {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} [التوبة: 36] يعني في الأشهر الحرم، خص الله تعالى بالنهي هذه الأربعة الأشهر ليبين لنا تمييزها بعظم حرمتها وتأكيد أمرها بالنهي عن الظلم فيها على غيرها من الشهور، وإن كان الظلم منهيًا عنه في سائر الشهور، كما قال الله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] أمر بالمحافظة على الصلاة الوسطى وهي العصر، وإن كان الأمر شاملًا في المحافظة لجميع الصلاة، وإنما أفرد الوسطى بالصلاة بالذكر لما ذكرنا من الاختصاص، والتمييز في الحرمة والتأكيد يعني بالظلم ألا تقتلوا فيهن أحدًا من مشركي العرب إلا أن يبدؤوكم بالقتل. وقال أبو يزيد رحمه الله: الظلم: هو لترك لطاعة الله تعالى والعمل بمعاصي الله عز وجل. وقال غيره: هو وضع الشيء في غير موضعه، وهو راجع إلى ذلك، ثم قال تعالى: {وقاتلوا المشركين} [التوبة: 36] يعني كفار مكة {كافة} [التوبة: 36] جميعًا {كما يقاتلونكم كافة} [التوبة: 36] يعني إن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم جميعًا {واعلموا أن الله} [التوبة: 36] في النصر {مع المتقين} [التوبة: 36].

(فصل) ورجب: هو اسم من الأسماء المشتقة

واختلف أهل التفسير في {الدين القيم}: فقال مقاتل رحمه الله: الدين القيم: هو الدين الحق. وقال آخرون: هو الدين الصادق، وهو دين الإسلام. وقال آخرون: هو دين الحنيفية. وقال آخرون: الدين القيم: هو الذي أمر الله به المسلمين. (فصل) ورجب: هو اسم من الأسماء المشتقة، واشتقاقه من الترجيب. والترجيب: هو التعظيم عند العرب، يقال: رجبت هذا الشهر: إذا عظمته. ومن ذلك قول الحباب بن المنذر بن الجموح يوم سقيفة بني ساعدة، يوم توفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واختلف المهاجرون والأنصار في أمير ينصبونه، فقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير ... القصة المشهورة، فغضب الحباب فسل سيفه وقال: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب: أي أنا العظيم في قومي، المطاع فيهم، والعذيق: تصغير عذق، وهو النخلة الكريمة على أهلها، كانوا يعمدونها إذا مالت لئلا تسقط، والرجبة: البناء الذي يكون حول النخلة. وقوله: جذيلها المحكك: جذيل: تصغير جذل، وهو الجذع والنخلة التي تحتك بها الإبل الجرباء. وقيل: الجذل عود ينصب في معاطن الإبل يحتك به الفصال. وقال أبو زيد، عن يحيى بن زياد الفراء: إنما سمي رجب لأنهم كانوا يرجبون الأعذاق في هذا الشهر على النخل، ويشدونها بالخوص إلى السعف لئلا تنفضها الرياح، يقال منه: رجبت النخلة ترجيبًا: إذا فعلت بها ذلك. وقال آخرون: الترجيب: أن يوضع الشوك على الأعذاق حفظًا لها من تناول أيدي المستطعمين والتحرز من تناثر التمر على الأرض. وقال آخرون: الترجيب: أن تدعم النخلة إذا مالت بدعامة لئلا تسقط وتخر. وقال آخرون: هو مأخوذ من قول العرب: رجبت الشيء: أي هبته ورهبته. وقال آخرون: الترجيب: التأهب والاستعداد، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنه ليرجب فيه خير كثير لشعبان".

(فصل) ولرجب أسماء أخر

وقال آخرون: الترجيب: تكرر ذكر الله تعالى وتعظيمه، لأن الملائكة يرجبون أصواتهم فيه بالتسبيح والتحميد والتقديس لله عز وجل. ويقال: شهر رجم بالميم أيضًا، فيكون معناه: ترجم فيه الشياطين حتى لا يؤذوا فيه المؤمنين. فرجب ثلاثة أحرف، راء وجيم وباء. فالراء: رحمة الله عز وجل، والجيم: جود الله تعالى، والباء: بر الله عز وجل، فمن أول هذا الشهر إلى آخره من الله عز وجل ثلاث عطايا للعباد، رحمة بلا عذاب، وجود بلا بخل، وبر بلا جفاء. (فصل) ولرجب أسماء أخر: منها أنه سمى رجب مضر، ومنصل الأسنة، وشهر الله الأصم، وشهر الله الأصب، والشهر المطهر، والشهر السابق، والشهر الفرد. أما قولهم: رجب مضر، فقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في بعض خطبه: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان". وإنما عرف موضعه بقوله: بين جمادى وشعبان، إبطالًا للنسيء الذي كانت العرب تفعله في الجاهلية، وهو قوله عز وجل: {إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا} [التوبة: 37] وذلك أن العرب في الجاهلية كانت إذا أرادت الصدر من منى قام رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة، وكان رئيس القوم، فيقول: أنا الذي أجاب ولا أعاب ولا يرد لي قضاء، فيقولون له: صدقت، أنسئنا شهرًا، يريدون: أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر، وأحل لنا المحرم. وإنما دعاهم إلى ذلك لئلا تتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها، وقد كان معاشهم من الإغارة، فيفعل ذلك عامًا، ثم يرجع إلى تحريم المحرم، وإباحة صفر، فذلك الإنساء" ومنه قيل: نسأ الله في أجله، وأنسأ الله أجله.

فوصف النبي -صلى الله عليه وسلم- رجب بصفتين وقيده بنعتين: أحدهما قوله: "رجب مضر" لأن مضر كانت تبالغ في تعظيمه وتكبيره وتحريمه. الثاني: أنه قيده بقوله بين جمادى وشعبان خوفًا من التقديم والتأخير كما جرى في تحريم المحرم إلى صفر، فخص الشهر وقيده، وأيد تحريمه وأكده. وقيل: إنما سمى رجب مضر، لأن بعض الكفار دعا على قبيلة من القبائل فيه فأهلكهم الله عز وجل. وقيل: إن الدعاء فيه مستجاب على الظلمة، وكل جائر، ولهذا كانت الجاهلية يؤخرون دعواتهم على من ظلمهم، فيدعون عليه في رجب فلا يرد خائبًا. وأما منصل الأسنة، فلأنهم كانوا ينزعون الأسنة فيه عن الرماح، ويغمدون سيوفهم وسهامهم تهيئًا له وتعظيمًا، فسمي بذلك منصل الأسنة، ويقال نصلت السهم: إذا جعلت له نصلًا، وأنصلته: إذا نزعت عنه نصله. وأما شهر الله الأصم، فلما روي عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أنه لما استهل رجب رقي المنبر يوم الجمعة وخطب ثم قال: ألا إن هذا شهر الله الأصم، وهو شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤد دينه، ثم ليزك ما بقي. قال ابن الأنباري: أما قوله الأصم، فإنما سمي بذلك لأن العرب كانت تظل تحارب بعضها بعضًا، فإذا أهل رجب وضعوا السلاح ونزعوا الأسنة، فلا تسمع فيه قعقعة السلاح، ولا صلصلة الرماح، وكان الرجل إذا ركب في طلب قاتل أبيه فإذا رآه في رجب لم يتعرض له، كأنه لم يره ولم يسمع له خبرًا، فسمي أصم لذلك. وقيل: سمي أصم لأنه لم يسمع فيه غضب الله تعالى على قوم قط، لأن الله تعالى عذب الأمم الماضية في سائر الشهور، ولم يعذب أمة من الأمم في هذا الشهر. وفي هذا الشهر حمل الله نوحًا في السفينة، فجرت به ومن معه في السفينة ستة أشهر. قال إبراهيم النخعي: إن رجب شهر الله تعالى، فيه حمل الله نوحًا في السفينة، فصامه نوح عليه السلام وأمر بصيامه من كان معه، فأمنه الله تعالى، ومن كان معه من الطوفان، وطهر الأرض من الشرك والعدوان. ورفع ذلك غيره إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ما أخبرنا به هبة الله بإسناده عن أبي حازم، عن

سهل بن سعد -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ألا إن رجب من الأشهر الحرم، وفيه حمل الله نوحًا في السفينة، فصامه نوح في السفينة، وأمر من كان معه بصيامه، فأنجاهم الله تعالى وأمنهم من الغرق، وطهر الله الأرض من الكفر والطغيان بالطوفان". وقيل: إنه سمى أصم لأنه أصم عن جفائك وزلتك وسميع بفضلك يا مؤمن وشرفك، فجعله الله تعالى أصم من جفائك وزلتك، لئلا يشهد عليك بها يوم القيامة، بل يكون شهيدًا لك لما سمع من فضلك وإحسان العمل فيه. وأما الأصب فمعناه، أنه تصب الرحمة فيه صبًا على العباد، ويعطيهم الله تعالى من الكرامات والمثوبات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. من ذلك ما أخبرنا الشيخ هبه الله بن المبارك السقطي رحمه الله بإسناد عن إبراهيم، عن علقمة، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " {إن عدة الشهور عند الله أثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرام} [التوبة: 36]. فوجب يقال له شهر الله الأصم، وثلاث أخر متواليات، يعني: ذا القعدة وذا الحجة والمحرم، ألا إن رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتى. فمن صام من رجب يومًا إيمانًا واحتسابًا استوجب رضوان الله الأكبر، وأسكن الفردوس الأعلى، ومن صام منه يومين فله من الأجر ضعفان، وزن كل ضعف مثل جبال الدنيا، ومن صام من رجب ثلاثة أيام جعل الله بينه وبين النار خندقًا طوله مسيرة سنة، ومن صام من رجب أربعة أيام عوفى من البلايا ومن الجنون والجذام والبرص ومن فتنة المسيح الدجال، ومن صام منه خمسة أيام وقى من عذاب القبر، ومن صام منه ستة أيام خرج من قبره ووجهه أضوأ من القمر في ليلة البدر، ومن صام منه ثمانية أيام فإن للجنة ثمانية أبواب، يفتح الله له بصوم كل يوم بابًا من أبوابها، ومن صام منه تسعة أيام خروج من قبره وهو ينادي: أشهد أن لا إله إلا الله ولا يرد وجهه دون الجنة، ومن صام منه عشرة أيام جعل الله تعالى له على كل ميل من الصراط فراشًا يستريح عليه، ومن صام منه حدى عشر يومًا لم ير في القيامة أفضل منه، إلا من صام مثله أو زاد عليه، ومن صام من رجب اثنى عشر يومًا كساه الله تعالى يوم القيامة

حلتين، الحلة الواحدة خير من الدنيا وما فيها، ومن صام من رجب ثلاثة عشر يومًا يوضع له يوم القيامة مائدة في ظل العرش فيأكل عليها والناس في شدة شديدة، ومن صام من رجب أربعة عشر يومًا أعطاه الله عز وجل ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر، ومن صام منه خمسة عشر يومًا يوفقه الله تعالى يوم القيامة موقف الآمنين، ولا يمر به ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا قال له: طوبي لك إنك من الآمنين". وفي لفظ آخر: زيادة على خمسة عشر، وهي: "من صام منه ستة عشر يومًا كان في أوائل من يزور الرحمن وينظر إليه ويسمع كلامه، ومن صام منه سبعة عشر يومًا ينصب الله له على كل ميل من الصراط مستراحًا يستريح عليه، ومن صام منه ثمانية عشر يومًا زاحم إبراهيم الخليل -عليه السلام- في قبته، ومن صام منه تسعة عشر يومًا بنى الله له قصرًا في الجنة تجاه قصر إبراهيم وآدم -عليهما السلام- ويسلم عليهما ويسلمان عليه، ومن صام منه عشرين يومًا، نادى مناد من السماء: يا عبد الله أما قد مضى فقد غفره الله لك، فاستأنف العمل فيما بقى". وأما المطهر فلأنه يطهر صائمه من الذنوب والخطيئات، فمن ذلك ما أخبرنا به الشيخ الإمام هبة الله بن المبارك السقطي -رحمه الله- عن الحسن بن أحمد بن عبد الله المقري بإسناده عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن شهر رجب شهر عظيم من صام منه يومًا كتب الله تعالى له صوم ألف سنة، ومن صام منه يومين كتب الله له صوم ألفي سنة، ومن صام منه ثلاثة أيام كتب الله تعالى له صوم ثلاثة آلاف سنة، ومن صام منه سبعة أيام أغلقت عنه سبعة أبواب جهنم، ومن صام منه خمسة عشر يومًا بدلت سيئاته حسنات، ونادى مناد من السماء: قد غفر لك، فاستأنف العمل، ومن زاد زاده الله تعالى". وأخبرنا الشيخ الإمام هبة الله بن المبارك بإسناده عن يونس، عن الحسن -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صام يومًا من رجب عدل له بصيام سنتين، ومن

صام النصف من رجب عدل له بصيام ثلاثين سنة". وأخبرنا الشيخ الإمام هبة الله، عن الحسن بن أحمد بن عبد الله المقري بإسناده عن العلاء بن كثير، عن مكحول -رحمه الله- قال: إن رجلًا سأل أبا الدرداء -رضي الله عنه- عن صيام رجب، فقال له: سألت عن شهر كانت الجاهلية تعظمه في جاهليتها، وما زاده الإسلام إلا فضلًا وتعظيمًا، ومن صام منه يومًا تطوعًا يحتسب به ثواب الله تعالى، ويبتغي به وجهه مخلصًا، أطفأ صومه ذلك اليوم غضب الله تعالى، وأغلق عنه بابًا من أبواب النار، ولو أعطى ملء الأرض ذهبًا ما كان جزاء له، ولا يستكمل أجر شيء من الدنيا دون يوم الحساب وله إذا أمسى عشر دعوات مستجابات، فإن دعا به لشيء من عاجل الدنيا أعطيه، وإلا ادخر له من الخير كأفضل ما دعا به داع من أولياء الله تعالى وأصفيائه. ومن صام يومين كان له مثل ذلك، وله مع ذلك أجر عشرة من الصديقين في عمرهم، بالغة أعمارهم ما بلغت، ويشفع في مثل ما يشفعون فيه، ويكون في زمرتهم حتى يدخل الجنة معهم، ويكون من رفقائهم. ومن صام ثلاثة أيام، كان له مثل ذلك، وفال الله تعالى عند إفطاره: لقد وجب حق عبدي هذا ووجبت له محبتي وولايتي، أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت له من ذنبه ما تقدم وما تأخر. ومن صام أربعة أيام كان له مثل ذلك، وثواب أولي الألباب التوابين، ويعطي كتابه في أوائل الفائزين. ومن صام خمسة أيام كان له مثل ذلك، ويبعث يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر، ويكتب له عدد رمل عالج حسنات، ويدخل الجنة، ويقال له: تمن على الله ما شئت. ومن صام ستة أيام كان له مثل ذلك، ويعطي سوى ذلك نورًا يستضيء به أهل الجمع في القيامة، ويبعث في الآمنين حتى يمر على الصراط بغير حساب، ويعافى من عقوق الوالدين وقطيعة الرحم ويقبل الله عليه بوجهه إذا لقيه يوم القيامة. ومن صام سبعة أيام كان له مثل ذلك، ويغلق عنه سبعة أبواب النار، ويحرمه الله على النار، ويوجب له الجنة يتبوأ منها حيث يشاء.

ومن صام ثمانية أيام كان له مثل ذلك، وفتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخلها من أي باب شاء. ومن صام تسعة أيام كان له مثل ذلك، ويرفع كتابه في عليين، ويبعث يوم القيامة في الآمنين ويخرج من قبره، ووجهه نور يتلألأ، ويشرق لأهل الجمع حتى يقولوا هذا نبي مصطفى، وإن أدنى ما يعطي أن يدخل الجنة بغير حساب. ومن صام عشرة أيام فبخ فبخ فبخ له، فيعطي مثل ذلك وعشرة أضعافه، وهو ممن يبدل الله سيئاته حسنات، ويكون من المقربين القوامين لله بالقسط، وكان كمن عبد الله ألف عام صائمًا قائمًا صابرًا محتسبًا. ومن صام عشرين يومًا كان له مثل ذلك وعشرون ضعفًا وهو ممن يزاحم إبراهيم خليل الله -عليه السلام- في قبته، ويشفع في مثل ربيعة ومضر، كلهم من أهل الخطايا والذنوب. ومن صام ثلاثين يومًا كان له مثل ذلك وثلاثون ضعفًا، وينادي مناد من السماء أبشر يا ولي الله بالكرامة العظمى، قال: وما الكرامة العظمى؟ قال: النظر إلى وجه الله تعالى الجميل، ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء الصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، طوبي لك غدًا إذا كشف الغطاء، وأفضيت إلى جسيم ثواب ربك الكريم، فإذا نزل به ملك الموت سقاه الله تعالى عند خروج نفسه شربة من حياض الفردوس، ويهون عليه سكرات الموت حتى ما يجد ألم الموت، ويظل في قبره ريان، ويظل في الموقف ريان حتى يرد حوض النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإذا خرج من قبره شيعه سبعون ألف ملك، معهم النجائب من الدر والياقوت، ومعهم طرائف الحلي والحلل، فيقولون له: يا ولي الله، النجاء النجاء إلى ربك عز وجل الذي أظمأت له نهارك، وأنحلت له جسمك، فهو من أول الناس دخولًا جنات عدن يوم القيامة مع الفائزين، -رضي الله عنهم ورضوا عنهم-، وذلك هو الفوز العظيم. قال: وإن كان له في كل يوم يصومه صدقة على زنة قوته، تصدق بها، فهيهات هيهات هيهات ثلاثًا، لو اجتمع جميع الخلائق على أن يقدروا قدر ما أعطى ذلك العبد من الثواب ما بلغوا معشار العشر مما أعطى الله ذلك العبد من الثواب". وعن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: من فرج عن مؤمن

(فصل آخر)

كربة في شهر رجب، وهو شهر الله الأصم، أعطاه الله تعالى في الفردوس قصرُا مد بصره ألا فأكرموا رجب يكرمكم الله عز وجل بألف كرامة. وعن عقبة عن سلامة بن قيس يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من تصدق في رجب باعده الله من النار كمقدار غراب طار فرخًا من وكره في الهواء، حتى مات هرمًا" وقيل الغراب يعيش خمسمائة عام. وأما السابق، فلأنه أول الأشهر الحرام. وأما الفرد، فلأنه مفرد عن إخوانه، كما روي ثور بن يزيد، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع في خطبته: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد: رجب مضر الذي بين جمادي وشعبان". (فصل آخر): عن عكرمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي". وعن موسى بن عمران قال: سمعت أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة نهرًا يقال له رجب، أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، من صام يومًا من رجب سقاه الله من ذلك النهر". وعن أنس بن مالك أنه قال: "إن في الجنة قصرًا لا يدخله إلا صوام رجب". وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: "لم يصم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهرًا بعد رمضان إلا رجب وشعبان". وعن أنس -رضي الله عنه- أيضًا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صام ثلاثة أيام من الشهر الحرام الخميس والجمعة والسبت، كتب الله له عبادة تسعمائة سنة".

وقيل: رجب لترك الجفاء، وشعبان للعمل والوفاء، ورمضان للصدق والصفاء. رجب شهر التوبة، شعبان شهر المحبة، رمضان شهر القربة. رجب شهر الحرمة، شعبان شهر الخدمة، رمضان شهر النعمة. رجب شهر العبادة، شعبان شهر الزهادة، رمضان شهر الزيادة. رجب شهر يضاعف الله فيه الحسنات، شعبان شهر تكفر فيه السيئات، رمضان شهر تنتظر فيه الكرامات. رجب شهر السابقين، شعبان شهر المقتصدين، رمضان شهر العاصين. وقال ذو النون المصري -رحمه الله-: رجب لترك الآفات، وشعبان لاستعمال الطاعات، ورمضان لانتظار الكرامات، فمن لم يترك الآفات، ولم يستعمل الطاعات، ولم ينتظر الكرامات، فهو من أهل الترهات. وقال أيضًا -رحمه الله-: رجب شهر الزرع، وشعبان شهر السقي، ورمضان شهر الحصاد، وكل يحصد ما زرع، ويجزي ما صنع، ومن ضيع الزراعة ندم يوم حصاده، وأخلف ظنه مع سوء معاده. وقال بعض الصالحين: السنة شجرة، رجب أيام إيراقها، وشعبان أيام إثمارها، ورمضان أيام قطافها. وقيل: خص رجب بالمغفرة من الله تعالى، وشعبان بالشفاعة، ورمضان بتضعيف الحسنات، وليلة القدر بإنزال الرحمة، ويوم عرفة بإكمال الدين، كما قال الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم]، ويوم الجمعة بإجابة أدعية الداعين، ويوم العيد بالعتق من النار، وفكاك رقاب المؤمنين. وروي زياد المازني، عن الحسين بن علي -رضي الله عنهما- أنه قال: صوم رجب وشعبان توبة من الله عز وجل. وروى عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من صام يومًا من رجب، فكأنما صام ألف سنة، وكأنما اعتق ألف رقبة، ومن تصدق فيه بصدقة، فكأنما تصدق بألف دينار، وكتب الله له بكل شعرة على بدنه ألف حسنة، ورفعت ألف درجة، ومحا عنه ألف سيئة، وكتب له بكل يوم يصومه وبكل صدقة يتصدق بها ألف حجة وألف عمرة، وبني له في الجنة ألف دار وألف قصر وألف

حجرة، في كل حجرة ألف مقصورة، وفي كل مقصورة ألف حور، كل حور أحسن من الشمس ألف مرة". (فضل: في فضل صيام أول يوم من رجب، وقيام أول ليلة منه). أخبرنا الإمام الشيخ هبة الله السقطي رحمه الله بإسناده عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل رجب، قال: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان كما بلغتنا رجب". وأخبرنا الشيخ الإمام هبة الله السقطي بإسناده عن ميمون بن مهران بإسناده عن أبي ذر -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من صام أول يوم من رجب عدل صيام شهر، ومن صام سبعة أيام أغلقت عنه أبواب جهنم السبعة، ومن صام ثمانية أيام فتحت له أبواب الجنة الثمانية، ومن صام منه عشرة أيام، بدل الله سيئاته حسنات، ومن صام منه ثمانية عشر يومًا نادى منادي من الماء: قد غفر لك فاستأنف العمل". وأخبرنا الشيخ الإمام هبة الله بإسناده عن سلامة بن قيس يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من صام أول يوم من رجب تباعدت عنه ذنوبه بقدر ما بين السماء والأرض وذكر باقي الحديث". وعن أنس بن مالك يرفعه "من صام أول يوم من رجب كفر الله عنه ذنوبه سنتين، ومن صام خمسة عشر يومًا حاسبه الله حسابًا يسيرًا، ومن صام ثلاثين يومًا من رجب كتب الله له رضوانه ولم يعذبه". وروي أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- كتب إلي الحجاج بن أرطأة وهو على البصرة وقيل: إلى عدي بن أرطأة: عليك بأربع ليال في السنة فإن الله تعالى يفرغ فيهن الرحمة إفراغًا، وهي أول ليلة من رجب، وليلة النصف من شعبان، وليلة السابع والعشرين من رجب، وليلة الفطر. وعن خالد بن معدان -رحمه الله- أنه قال: خمس ليال في السنة من واظب عليهن رجاء ثوابهن، وتصديقًا بوعدهن، أدخله الله تعالى الجنة: أول ليلة من رجب يقوم ليلها

(فصل: في الأدعية المأثورة في أول ليلة من رجب)

ويصوم نهارها، وليلتي العيدين يقوم ليلهما ويفطر نهارهما وليلة النصف من شعبان يقوم ليلها ويصوم نهارها، وليلة عاشوراء يقوم ليلها ويصوم نهارها. (فصل) وقد جمع بعض العلماء -رحمهم الله- الليالي التي يستحب إحياؤها فقال: إنها أربع عشرة ليلة في السنة، وهي أول ليلة من شهر المحرم، وليلة عاشوراء، وأول ليلة من شهر رجب، وليلة النصف منه، وليلة سبع وعشرين منه، وليلة النصف من شعبان، وليلة عرفة، وليلتا العيدين، وخمس ليال منها في شهر رمضان وهي وتر ليالي العشر الأواخر. وكذلك يستحب مواصلة سبعة عشر يومًا بالأوراد والمواظبة على العبادة فيها، وهي: يوم عرفة، ويوم عاشوراء، ويوم النصف من شعبان، ويوم الجمعة، ويوما العيدين، والأيام المعلومات وهي عشر ذي حجة، والأيام المعدودات وهي أيام التشريق، وأكدها يوم الجمعة وشهر رمضان، لما روي أنس -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا سلم يوم الجمعة سلمت الأيام وإذا سلم شهر رمضان سلمت السنة". ثم آكد الأيام وأفضلها بعد ذلك يوم الاثنين والخميس، وهما يومان ترفع فيهما الأعمال إلى الله عز وجل. (فصل: في الأدعية المأثورة في أول ليلة من رجب) ويستحب أن يدعو في أول ليلة من رجب إذا فرغ من صلاته بهذا الدعاء وهو أن يقول: إلهي تعرض لك في هذه الليلة المتعرضون، وقصدك القاصدون، وأمل فضلك ومعروفك الطالبون، ولك في هذه الليلة نفحات وجوائز وعطايا ومواهب، تمن بها على من تشاء من عبادك، وتمنعها ممن لم تسبق له العناية منك، وها أنا عبدك الفقير إليك، المؤمل فضلك ومعروفك، فإن كنت يا مولاي تفضلت في هذه الليلة على أحد من خلقك وجدت عليه بعائدة من عطفك، فصل على محمد وآله، وجد على بطولك ومعروفك يا رب العالمين. وكان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يفرغ نفسه للعبادة في أربع ليال في السنة وهي: أول ليلة من رجب، وليلة الفطر، وليلة الأضحى، وليلة النصف من شعبان.

(فصل: في الصلاة الواردة في شهر رجب)

وكان من دعائه فيها" اللهم صل على محمد وآله ومصابيح الحكمة وموالي النعمة ومعادن العصمة، واعصمني بهم من كل سوء، ولا تأخذني على غرة ولا على غفلة، ولا تجعل عواقب أمري حسرة وندامة، وارض عني، فإن مغفرتك للظالمين وأنا من الظالمين، اللهم اغفر لي ما لا يضرك، وأعطني ما لا ينفعك، فإنك الواسعة رحمته، البديعة حكمته، فأعطني السعة والدعة والأمن والصحة والشكر والمعافاة والتقوى والصبر والصدق عليك وعلى أوليائك، وأعطني اليسر مع العسر، وأعمم بذلك أهلي وولدي وإخواني فيك، ومن ولدتني من المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات. (فصل: في الصلاة الواردة في شهر رجب) أخبرنا الشيخ الإمام هبة الله بن المبارك السقطي حدثنا محمد بن أحمد المحاملي، حدثنا علي بن محمد المعدل بن إسماعيل بن محمد الصفار، أخبرنا سعدان بن نصر بن منصورًا البزار، أخبرنا سفيان بن عيينة عن الأعمش عن طارق بن شهاب عن سلمان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال وقد استهل رجب: "يا سلمان ما من مؤمن ولا مؤمنة يصلي في هذا الشهر ثلاثين ركعة يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب و {قل هو الله أحد} ثلاث مرات، و {قل يا أيها الكافرون ...} ثلاث مرات، إلا محا الله عنه ذنوبه، وأعطى من الأجر كمن صام الشهر كله، وكان من المصلين إلى السنة المقبلةـ ورفع له كل يوم عمل شهيد من شهداء بدر، وكتب له بصيام كل يوم عبادة سنة، ورفع له ألف درجة، فإن صام الشهر كله وصلى هذه الصلاة أنجاه الله من النار وأوجب له الجنة، وكان في جوار الله سبحانه، أخبرني بذلك جبريل -عليه السلام- وقال: يا محمد هذه علامة بينكم وبين المشركين والمنافقين، لأن المنافقين لا يصلون ذلك. قال سلمان -رضي الله عنه-: قلت يا رسول الله، أخبرني كيف أصليها ومتى أصليها. قال: يا سلمان تصلي في أوله عشر ركعات تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة واحدة، و {قل هو الله أحد ....} ثلاث مرات، و {قل يا أيها الكافرون ...} ثلاث مرات، فإذا سلمت رفعت يديك وقلت: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، ثم امسح بهما وجهك.

فصل في تأكيد الفضيلة في صوم أول الخميس من رجب والصلاة في أول ليلة الجمعة

وصل في وسط الشهر عشر ركعات اقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة واحدة، و {قل هو الله أحد ...} ثلاث مرات، و {قل يا أيها الكافرون ..} ثلاث مرات، فإذا سلمت فارفع يديك إلى السماء وقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، إلهًا واحدًا صمدًا فردًا وترًا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، ثم امسح بهما على وجهك. وصل في آخر الشهر عشر ركعات اقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة واحدة، و {قل هو الله أحد ...} ثلاث مرات، و {قل يا أيها الكافرون ...} ثلاث مرات، فإذا سلمت فارفع يديك إلى السماء وقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وسل حاجتك يستجب لك دعاؤك، ويجعل الله بينك وبين جهنم سبعين خندقًا، كل خندق كما بين السماء والأرض، ويكتب لك بكل ركعة ألف ألف ركعة، ويكتب لك براءة من النار وجوازًا على الصراط". قال سلمان -رضي الله عنه-: فلما فرغ النبي -صلى الله عليه وسلم- من الحديث، خررت ساجدًا أبكي شكرًا لله تعالى لما سمعت من هذه الزيادة، وجدت في كتاب العمل بالسنة، والله أعلم. فصل في تأكيد الفضيلة في صوم أول الخميس من رجب والصلاة في أول ليلة الجمعة أخبرنا الشيخ أبو البركات هبة الله السقطي، اخبرنا القاضي أبو الفضل جعفر بن يحيى بن الكمال المكي، أخبرنا أبو عبد الله بن الحسين بن عبد الكريم بن محمد بن محمد الجزري بمكة في المسجد الحرام، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن جهضم الهمداني، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن سعيد السعدي البصري، أخبرنا أبي، قال: أخبرنا خلف بن عبد الله الصغاني، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي، قيل: يا رسول الله ما معنى قولك شهر الله؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: لأنه مخصوص بالمغفرة، وفيه تحقن الدماء، وفيه تاب الله تعالى على أنبيائه، وفيه أنقد أولياءه من يد أعدائه، ومن صامه استوجب على الله ثلاثة أشياء: مغفرة لجميع ما سلف من ذنوبه، وعصمة فيما بقي من

عمره، وأما الثالث فيأمن العطش يوم العرض الأكبر، فقام شيخ ضعيف فقال: يا رسول الله إني أعجز عن صيامه كله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: صم أول يوم منه وأوسط يوم فيه، وآخر يوم منه، فإنك تعكي ثواب من صامه كله، فإن الحسنة بعشر أمثالها، ولكن لا تغفلوا عن أول ليلى جمعة في رجب، فإنها ليلة تسميها الملائكة ليلة الرغائب، وذلك أنه إذا مضى ثلث الليل لا يبقى ملك في جميع السموات والأرضين إلا ويجتمعون في الكعبة وحواليها، فيطلع الله تعالى عليهم اطلاعة فيقول: ملائكتي سلوني ما شئتم، فيقولون: ربنا حاجتنا إليك أن تغفر لصوام رجب، فيقول الله تعالى: قد فعلت ذلك. ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فما من أحد يصوم يوم الخميس أول خميس في رجب، ثم يصلي فيما بين المغرب والعشاء العتمة -يعني ليلة الجمعة- اثنتا عشرة ركعة، يقرأ في كل ركعة بقاتحة الكتاب مرة و {إنا انزلناه في ليلة القدر ....} ثلاث مرات، و {قل هو الله أحد ..} اثنتا عشرة مرة، يفصل بين كل ركعتين بتسليمة، فإذا فرغ من صلاته صلى علي سبعين مرة يقول: الله صل على محمد النبي الأمي وعلى آله وسلم، ثم يسجد سجدة يقول في سجوده: سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبعين مرة، ثم يرفع رأسه فيقول: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم، فإنك أنت العزيز الأعظم سبعين مرة، ثم يسجد الثانية فيقول فيها مثل ما قال في السجدة الأولى، ثم يسأل الله حاجته في سجوده، فإنها تقضى". قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده ما من عبد ولا أمة صلى هذه الصلاة إلا غفر الله له جميع ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر وعدد الرمل ووزن الجبال، وعدد قطر الأمطار ووزن الأشجار، وشفع يوم القيامة في سبعمائة من أهل بيته، فإذا كانت أول ليلة في قبره جاءه ثواب هذه الصلاة بوجه طلق ولسان ذلق، فيقول له: يا حبيبي أبشر فقد نجوت من كل شدة، فيقول: من أنت؟ فو الله ما رأيت رجلًا أحسن وجهًا من وجهك، ولا سمعت كلامًا أحلى من كلامك، ولا شممت رائحة أحلى من رائحتك، فيقول له: يا حبيبي أنا ثواب تلك الصلاة التي صليتها في ليلة كذا في شهر كذا في سنة كذا، جئت الليلة لأقضي حاجتك، وأؤنس وحدتك، وأدفع عنك وحشتك، فإذا نفخ في الصور أظللتك في عرصات القيامة على رأسك، فأبشر فلن تعدم الخير من مولاك أبدًا".

(فصل: في فضل صيام يوم السابع والعشرين من رجب)

(فصل: في فضل صيام يوم السابع والعشرين من رجب) أخبرنا الشيخ أبو البركات هبة الله السقطي، قال: أخبرنا الشيخ الحافظ أبو بكر أحمد بن علي ثابت بن الخطيب، قال: أخبرنا عبد الله بن علي بن محمد بشير، قال: أخبرنا علي بن عمر الحافظ، أخبرنا أبو بكر نصر بن جيشون بن موسى الخلال، أخبرنا علي بن سعيد الديلمي، أخبرنا ضمرة بن ربيعة القرشي عن ابن شوذب عن مطر صام يوم السابع والعشرين من رجب كتب له ثواب صيام ستين شهرًا، وهو أول يوم نزل فيه جبريل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة". وأخبرنا هبة الله بإسناده عن الحسن البصري -رحمه الله- قال: "كان عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- إذا كان يوم السابع والعشرين من رجب أصبح معتكفًا وظل مصليًا إلى وقت الظهر، فإذا صلى الظهر تنفل هنيهة، ثم صلى أربع ركعات يقرأ في كل ركعة {الحمد لله ...} مرة، والمعوذتين مرة، و {إنا أنزلناه في ليلة القدر ....} ثلاثًا، و {قل هو الله أحد ...} خمسين مرة، ثم يخلد إلى الدعاء إلى قوت العصر ويقول: هكذا كان يصنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا اليوم". وأخبرنا هبة الله بإسناده عن أبي سلمة، عن أبي هريرة وسلمان الفارسي -رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن في رجب يومًا وليلة من صام ذلك اليوم وقام تلك الليلة كان له من الأجر كمن صام مائة سنة وقامها" وهي لثلاث بقين من رجب، وهو اليوم الذي بعث فيه نبينا -صلى الله عليه وسلم-. (فصل: في آداب الصيام، وما ينهي عنه من الآثام) يننبغي للصائم أن يجرد صومه من الآثام ويتمه بتقوى الله عز وجل لما أخبرنا به الشيخ هبة الله، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد بن عبد الله الفقيه الحنبلي، قال: أخبرنا محمد بن أحمد الحافظ، قال: أخبرنا الحسين بن جعفر الواعظ، قال: أخبرنا أحمد بن عيسى بن السكن، قال: أخبرنا ابن إسحاق الملقب بالحسام قال: أخبرنا إسحاق بن رزين الراسني، قال: أخبرنا إسماعيل بن يحيى، قال: أخبرنا مسعر بن كدام، عن

فصل في فضل صيام يوم السابع والعشرين من رجب

عطية عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رجب من الشهور الحرام وأيامه مكتوبة على باب السماء السادسة، فإذا صام الرجل منه يومًا وجرد صومه بتقوى الله عز وجل نطق الباب ونطق اليوم وقالا: يا رب اغفر له، وإذا لم يتم صومه بتقوى الله تعالى لم يستغفر له وقالا له أو قيل له: خدعتك نفسك". وعن الأعرج عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الصيام جنة فإذا كان أحدكم صائمًا فلا يجهل، فإن امرأ شاتمه أو قاتله فليقل إني صائم". وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من لم يترك قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يترك طعامه وشرابه". وعن الحسن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الصيام جنة من النار ما لم يخرقه، قيل: وما يخرقه؟ قال: بكذبة أو بغيبة". وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ليس الصيام من الأكل والشرب، ولكن الصيام من اللغو والرفث". أخبرنا الشيخ أبو نصر محمد بن البناء، قال: أخبرنا والدي الشيخ أبو علي بن الحسن ابن أحمد بن عبد الله بن البناء، قال: أخبرنا محمد الحافظ، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثنا جعفر بن محمد الحمال، قال: حدثنا سعيد بن عتبة، قال: أخبرنا بقية بن خلف، قال: حدثنا محمد بن الحجاج، عن خاقان، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خمس يفطران الصائم وينقضن الوضوء، الكذب، والنميمة، والغيبة، والنظر بشهوة، واليمين الكاذبة". وأخبرنا أبو نصر عن والده بإسناده عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صام من ظل يأكل لحوم الناس".

وأخبرنا أبو نصر عن والده بإسناده عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: "من تأمل خلف امرأة من فوق ثيابها بطل صومه". وأخبرنا أبو نصر بإسناده عن سليمان بن موسى قال: قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك من الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويم فطرك سواء. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "اهتز لذلك العرش وغضب له الرب" عني به -صلى الله عليه وسلم- إذا لم يرد بالعمل وجه الله تعالى بل أريد به الخلق. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى يقول: أنا خير شريك، ومن أشرك معي شريكًا في عمله فهو لشريكي دوني، إني لا أقبل إلا ما أخلص لي، يا ابن آدم أنا خير قيم فانظر عملك الذي عملت لغيري فإنما جزاؤك على الذي عملت له". وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: "اللهم طهر لساني من الكذب، وقلبي من النفاق، وعملي من الرياء، وبصري من الخيانة. فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور". فينبغي للصائم أن يتأدب ويحذر من الرياء ونظر الخلق وعلمهم في صومه وجميع عباداته، لئلا يخسر الدنيا والآخرة. وحدثنا الشيخ أبو نصر عن والده بإسناده عن أبي فراش أنه سمع عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "صام نوح الدهر إلا يومين الفطر والأضحى، وصام داود نصف الدهر، وصام إبراهيم ثلاثة أيام من كل شهر، صام الدهر وأفطر الدهر". وأخبرنا الشيخ أبو نصر، عن والده بإسناده عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن

فصل ما يقوله عند الإفطار

عبد الله - رضي الله عنهما - "أن رجلًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل البادية فقال: يا رسول الله أخبرني عن صومك، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى احمرت وجنتاه، فلما رأى ذلك عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - أقبل على الرجل فزجره وانتهره حتى أسكته، فلما سرى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عمر - رضي الله عنه -: يا نبي الله جعلني الله فداءك أخبرني عن رجل يصوم الدهر كله؟ قال: لا صام ذلك ولا أفطر، أو صام ذلك ولا أفطر، فقال: يا نبي الله أخبرني عن رجل يصوم ثلاثة أيام من كل شهر؟ قابل -صلى الله عليه وسلم -: ذلك صوم الدهر كله، فقال: يا نبي الله أخبرني عن رجل صوم الاثنين والخميس؟ قال - صلى الله عليه وسلم - أما الخميس فيوم ترفع فيه الأعمال، وأما الاثنين فهو اليوم الذي ولدت فيه وأنزل على في الوحي". (فصل) فإذا جاء وقت الإفطار فليقل عند إفطاره: "بسم الله، اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، سبحانك وبحمدك، ابللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم". وكان عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - يقول عند فطره: "اللهم إني ... أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي". وعن أبي العالية رحمه الله قال: من قال عند إفطاره: الحمد لله الذي علا فقهر، والحمد لله الذي نظر فخبر، والحمد لله الذي ملك فقدر، والحمد لله الذي يحيى الموتى، فقد خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. وعن مصعب بن سعيد، عن عبد الله بن الزبير عن سعيد بن مالك - رضي الله عنهم - قال: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم - كان إذا أفطر عن غيره قال: أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة". (فصل) اعلم أن شهر رجب تستجاب فيه الدعوة، وتقال فيه العثرة، وتضاعف على من اجترم فيه العقوبة. من ذلك ما أخبرنا هبة الله قال: أخبرنا القاضي هناد بن إبراهيم النسفي، قال: أخبرنا عبد القاهر بن عمر الجزري بها، قال: أخبرنا هبة الله، قال: أخبرنا محمد بن الفرحان قال: أنبأنا أحمد بن الحسين بن سعيد الأنباري، قال: أنبأنا محمد بن إبراهيم ابن يعقوب، قال: أنبأنا إبراهيم بن فراش، عن عمرو بن سمرة، عن موسى بن

العباس، عن الأصبغ، عن نباتة عن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما-قال: بينما نحن في الطواف إذ سمعنا صوتًا وهو يقول شعرًا: يا من يجيب دعاء المضطر في الظلم ... يا كاشف الكرب والبلوى مع السقم قد بات وفدك حول البيت والحرم ... ونحن ندعو وعين الله لم تنم هب لي بجودك ما أخطأت من جرم ... يا من أشار إليه الخلق بالكرم إن كان عفوك لم يسبق لمجترم ... فمن يجود على العاصين بالنعم قال الحسين بن علي -رضي الله عنهما-: قال لي أبي علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: يا حسين أما تسمع النادب ذنبه والمعاتب ربه، امض فعساك تدركه وناده، قال الحسين -رضي الله عنه-: فأسرعت حتى أدركته، وإذا أنا برجل جميل الوجه نقي البدن نظيف الثياب طيب الريح، إلا أنه قد شل جانبه الأيمن، فقلت: أجب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فقام يجر شقه حتى وقف على أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه فقال له: من أنت وما شأنك؟ قال: يا أمير المؤمنين ما شأن من أخذ بالعقوبة ومنع الحقوق؟ قال: وما اسمك؟ قال: منازل بن لاحق، قال: فما قصتك؟ قال: كنت مشهورًا في العرب باللهو والطرب، أركض في صبوتي ولا أفيق من غفلتي، إن تبت لم تقبل توبتي، وإن استقلت لم تقبل عثرتي، أديم العصيان في رجب وشعبان، وكان لي والد شفيق رفيق، يحذرني مصارع الجهالة وشقوة المعصية يقول لي: يا بني لله سطوات ونقمات، فلا تتعرض لمن يعاقب بالنار، فكم قد ضج منك الظلام، والملائكة الكرام والشهر الحرام والليالي والأيام، وكان إذا ألح علي بالعتب ألححت عليه بالضرب، فأبلغت إليه يومًا فقال: والله لأصومن ولا أفطر، ولأصلين ولا أنام فصام أسبوعًا ثم ركب جملًا أورق وأتى مكة يوم الحج الأكبر وقال: لأفدن إلى بيت الله الحرام ولأستعدين عليك الله، قال: فقدم مكة يوم الحج الأكبر، فتعلق بأستار الكعبة ودعا علي وقال: يا من إليه أتى الحجاج من بعد ... يرجون لطف عزيز واحد صمد هذا منازل لا يرتد عن عققي ... فخذ بحقي يا رحمان من ولدي وشل منه بجود منك جانبه ... يا من تقدس لم يولد ولم يلد قال: فو الذي رفع السماء وأنبع الماء ما استتم كلامه حتى شل جانبي الأيمن،

فظللت كالخشبة الملقاة بأرجاء الحرم، وكان الناس يغدون ويروحون علي ويقولون: هذا أجاب الله فيه دعوة أبيه. فقال له -رضي الله عنه-: فما فعل أبوك؟ قال: يا أمير المؤمنين سألته أن يدعو الله لي في المواضع التي دعا علي فيها بعد أن رضا عني، فأجابني، فحملته على ناقة وجدت في السير حتى وصلنا إلى واد هناك يقال له واد الأراك، فنفر طائر من شجرة، فنفرت الناقة فوقع منها ومات في الطريق. فقال علي -رضي الله عنه-: ألا أعلمك دعوات سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: ما دعا بها مهموم إلا فرج الله تعالى عنه همه، ولا مكروب إلا فرج الله تعالى عنه كربه، فقال: نعم. فقال الحسين بن علي -رضي الله عنهما-: فعلمه الدعاء، فدعا به وخلص من مرضه وغدا علينا صحيحًا سالمًا، فقلت للرجل: كيف عملت؟ قال: لما هدأت العيون دعوت به مرة وثانية وثالثة، فنوديت: حسبك الله فقد دعوت الله باسمه الأعظم الذي إذا دعى به أجاب، وإذا سئل به أعطى، ثم حملتني عيني فنمت، فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في منامي، فعرضتها عليه فقال -صلى الله عليه وسلم-: صدق علي ابن عمي، فيها اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب، وإذا سئل به أعطى، ثم حملتني عيني مرة ثانية فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله أريد أن أسمع الدعاء منك، فقال -صلى الله عليه وسلم-: قل اللهم إني أسألك يا عالم الخفية، ويا من السماء بقدرته مبنية، ويا من الأرض بعزته مدحية، ويا من الشمس والقمر بنور جلاله مشرقة ومضية، ويا مقبلًا على كل نفس مؤمنة زكية، ويا مسكن رعب الخائفين وأهل التقية، يا من حوائج الخلق عنده مقضية، يا من نجى يوسف من رق العبودية، يا من ليس له بواب ينادي، ولا صاحب يغشى، ولا وزير يؤتى، ولا غيره رب يدعى، ولا يزداد على كثرة الحوائج إلا كرمًا وجودًا، وصلى الله على محمد وآله، وأعطني سؤالي إنك على كل شيء قدير، قال: فانتبهت وقد برأت. قال علي -رضي الله عنه-: تمسكوا بهذا الدعاء، فإنه كنز من كنوز العرش، وقد نقل مثل ذلك في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وغيره مما يطول شرحه. وفي الجملة لا ينبغي لذي لب أن يستهين بالمعاصي والمظالم ودعاء المظلوم، فقد قال

النبي -صلى الله عليه وسلم- "الظلم ظلمات يوم القيامة". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليستحين إذا بسط العبد كفيه إليه بالدعاء أن يردهما صفرًا، فإما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يؤخره له في يوم القيامة". وقد أنشد في ذلك: أتسمع بالدعاء فتزدريه ... تبين فيك ما صنع الدعاء سهام الليل لا تخطى ولكن ... لها أمد وللأمد انقضاء * * *

مجلس في فضل شهر شعبان

مجلس في فضل شهر شعبان وما ينزل في ليلة النصف من المغفرة والرضوان أخبرنا الشيخ أبو نصر محمد، عن والده أبي علي الحسين، أخبرنا أبو الحسين علي بن أحمد بن عمر بن حفص جعفر المقري بإفتاء أبي الفتح الحافظ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي، أخبرنا إسحاق بن الحسن، أخبرنا عبد الله بن سلمة، أخبرنا مالك بن أنس، عن أبي النضر -مولى عمر بن عبد الله -عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ورضي عنها أنها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته صام في شهر أكثر من صيامه في شعبان" وهو حديث صحيح أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، عن مالك رحمه الله. وأخبرنا أبو نصر عن محمد عن والده بإسناده عن هشام بن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وكان أحب صيامه في شعبان، فقلت: يا رسول الله ما لي أرى صيامك في شعبان؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: يا عائشة إنه شهر ينسخ لملك الموت فيه اسم من يقبض روحه في بقية العام فأنا أحب ألا ينسخ اسمي إلا وأنا صائم". وأخبرنا أبو نصر عن محمد عن والده بإسناده عن عطاء بن يسار، عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم في شهر بعد رمضان أكثر من صيامه في شعبان". وذلك أن كل من يموت في تلك السنة ينسخ اسمه في شعبان من الأحياء إلى الأموات، وإن الرجل ليسافر وقد نسخ اسمه فيمن يموت.

فصل) قال الله تعالى: {وربك يخلق ما يشاء ويختار}

وحدثنا أبو نصر عن والده بإسناده عن ثابت عن أنس -رضي الله عنه- قال: "سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أفضل الصيام قال: صيام شعبان تعظيمًا لرمضان". وأخبرنا أبو نصر عن والده بإسناده عن معاوية بن الصالح قال: إن عبد الله بن قيس حدثه أنه سمع عائشة -رضي الله عنها- تقول: "كان أحب الشهور إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شعبان يصله برمضان". وقال عبد الله -رضي الله عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صام آخر يوم إثنين من شعبان غفر له" يعني آخر إثنين فيه، لا آخر يوم من الشهر، لأن استقبال الشهر باليوم واليومين فيه منهى عنه. وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما سمي شعبان لأنه ينشعب لرمضان فيه خير كثير، وإنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب". (فصل) قال الله تعالى: {وربك يخلق ما يشاء ويختار} [القصص: 68]. فالله تعالى اختار من كل شيء أربعة، ثم اختار من الأربعة واحدًا. اختار من الملائكة أربعة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، ثم اختار منهم جبريل. واختار من الأنبياء عليهم السلام أربعة: إبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا -صلى الله عليه وسلم- أجمعين، ثم اختار منهم محمدًا -صلى الله عليه وسلم-. واختار من الصحابة -رضي الله عنهم- أربعة: أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا -رضي الله عنهم-، ثم اختار منهم أبا بكر -رضي الله عنه-. ومن المساجد أربعة: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد المدينة المشرفة ومسجد طور سيناء، ثم اختار منها المسجد الحرام. ومن الأيام أربعة: يوم الفطر ويوم الأضحى ويوم عرفة ويوم عاشوراء، ثم اختار منها يوم عرفة. ومن الليالي أربعة: ليلة البراءة وليلة القدر وليلة الجمعة وليلة العيد، ثم اختار منها

(فصل) شعبان خمسة أحرف

ليلة القدر. ومن البقاع أربعة: مكة، والمدينة، وبيت المقدس، ومساجد العشائر، ثم اختار منها مكة. ومن الجبال أربعة: أحدًا، وطور سيناء، ولكام، ولبنان، ثم اختار منها طور سيناء. ومن الأنهار أربعة: جيحون، وسيحون، والفرات، والنيل، ثم اختار منها فراتًا. واختار من الشهور أربعة: رجب وشعبان ورمضان والمحرم، واختار منها شعبان، وجعله شهر النبي -صلى الله عليه وسلم- فكما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل الأنبياء كذلك شهره أفضل الشهور. وقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "شعبان شهري، ورجب شهر الله، ورمضان شهر أمتي، شعبان هو المكفر، ورمضان هو المطهر". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "شعبان شهر بين رجب ورمضان يغفل الناس عنه، وفيه ترفع أعمال العباد إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم". وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فضل رجب على سائر الشهور كفضل القرآن على سائر الكلام، وفضل شعبان على سائر الشهور كفضلي على سائر الأنبياء، وفضل رمضان على سائر الشهور كفضل الله تعالى على سائر خلقه". وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: "كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم إذا نظروا إلى هلال شعبان أكبوا على المصاحف يقرؤونها، وأخرج المسلمون زكاة أموالهم ليتقوى بها الضعيف والمسكين على صيام شهر رمضان، ودعا الولاة أهل السجن، فمن كان عليه حد أقاموه عليه وإلا خلوا سبيله، وانطلق التجار فقضوا ما عليهم وقبضوا ما لهم، حتى إذا نظروا إلى هلال رمضان اغتسلوا واعتكفوا". (فصل) شعبان خمسة أحرف، شين وعين وباء وألف ونون، فالشين من الشرف، والعين من العلو، والباء من البر، والألف من الألفة، والنون من النور، فهذه العطايا

من الله تعالى للعبد في هذا الشهر. وهو شهر تفتح فيه الخيرات، وتنزل فيه البركات، وتترك فيه الخطيئات، وتكفر فيه السيئات، وتكثر فيه الصلوات على محمد -صلى الله عليه وسلم- خير البريات. وهو شهر الصلاة على النبي المختار، قال الله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا} [الأحزاب: 56]. فالصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الشفاعة والاستغفار ومن المؤمنين الدعاء والثناء. وقال مجاهد رحمه الله: الصلاة من الله التوفيق والعصمة، ومن الملائكة العون والنصرة، ومن المؤمنين الاتباع والحرمة. وقال ابن عطاء: الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- من الله تعالى الوصلة، ومن الملائكة الرقة، ومن المؤمنين المتابعة والمحبة. وقال غيره: صلاة الرب تبارك وتعالى على نبيه -صلى الله عليه وسلم- تعظيم الحرمة، وصلاة الملائكة عليه -صلى الله عليه وسلم- إظهار الكرامة، وصلاة الأمة عليه -صلى الله عليه وسلم- طلب الشفاعة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرًا". فينبغي لكل مؤمن لبيب ألا يغفل في هذا الشهر، بل يتأهب فيه لاستقبال شهر رمضان بالتطهر من الذنوب والتوبة عما فات وسلف فيما مضى من الأيام، فيتضرع إلى الله تعالى في شهر شعبان، ويتوسل إلى الله تعالى بصاحب الشهر محمد -صلى الله عليه وسلم- حتى يصلح فساد قلبه، ويداوي مرض سره، ولا يسوف ويؤخر ذلك إلى غد، لأن الأيام ثلاثة: أمس وهو أجل، واليوم وهو عمل، وغدًا وهو أمل، فلا تدري هل تبلغه أم لا، فأمس موعظة، واليوم غنيمة، وغدًا مخاطرة. وكذلك الشهور ثلاثة: رجب فقد مضى وذهب فلا يعود، ورمضان وهو منتظر لا تدري هل تعيش إلى إدراكه أم لا؟ وشعبان وهو واسطة بين شهرين فليغتنم الطاعة فيه. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لرجل وهو يعظه، قيل هو عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك

(فصل: في ليلة البراءة: وما خصت به من الكرامة والفضائل)

قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك". (فصل: في ليلة البراءة: وما خصت به من الكرامة والفضائل) قال الله عز وجل: {حم * والكتاب المبين * إنا أنزلناه في ليلة مباركة} [الدخان: 1 - 3]. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: {حم} يعني قضى الله ما هو كائن إلى يوم القيامة {والكتاب المبين} يعني القرآن {إنا أنزلناه} يعني القرآن {في ليلة مباركة} هي ليلة النصف من شعبان وهي ليلة البراءة، وقال ذلك أكثر المفسرين سوى عكرمة فإنه قال: هي ليلة القدر. وقد سمى الله تعالى أشياء في القرآن مباركًا: -منها سمى القرآن مباركًا، قال: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه} [الأنبياء: 50] فمن بركته أن من قرأه وآمن به اهتدى، وتخلص من النار ولظى، حتى يتعدى ذلك إلى الآباء والأبناء، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ القرآن نظرًا في المصحف خفف الله عز وجل عن أبويه العذاب وإن كانا كافرين". -ومنها أنه عز وجل سمى الماء مباركًا قال: {ونزلنا من السماء ماء مباركًا} [ق: 9] فمن بركته أن حياة الأشياء به؛ كما قال الله عز وجل: {وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون} [الأنبياء: 30]. وقيل فيه عشر لطائف: الرقة، واللين، والقوة، واللطافة، والصفاوة، والحركة، والرطوبة، والبرودة، والتواضع، والحياة، وجعل الله تعالى هذه اللطائف في المؤمن اللبيب: رقة القلب، ولين الخلق، وقوة الطاعة، ولطافة النفس، وصفاوة العمل، والحركة في الخير، والرطوبة في العين، والبرودة في المعاصي، والتواضع عند الخلق، والحياة عند استماع الحق. -ومنها أنه عز وجل سمى الزيتون مباركًا في قوله تعالى: {من شجرة مباركة زيتونة} [النور: 3]. وهي أول شجرة أكل منها آدم عليه السلام حين أهبط إلى الأرض،

وفيها طعام واستضاءة كما قال الله تعالى: {وصبغ للأكلين} [المؤمنون: 20]. وقيل الشجرة المباركة هو إبراهيم عليه السلام، وقيل هو القرآن وقيل هو الإيمان، وقيل هي نفس المؤمن المطمئنة الأمارة بالخير الممتثلة للأمر، المنتهية للنهي، المسلمة للقدر، الموافقة للرب فيما قضى وسطر. -ومنها أنه عز وجل سمي عيسى عليه السلام مباركًا قال تعالى: {وجعلني مباركًا أين ما كنت} [مريم: 31] فمن بركته عليه السلام ظهور الثمرة من النخلة اليابسة لأمه الصديقة مريم عليهما السلام، ونبع الماء من تحته، قال عز وجل: {فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريًا * وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا جنيًا * فكلي وأشربي وقري عينًا} [مريم: 24 - 26] وأبرأ الأكمه والأبرص، وأحيا الموتى بدعوته وغير ذلك من الخير والمعجزات. -ومنها أنه عز وجل سمي الكعبة مباركًا قال عز وجل: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا} [آل عمران: 96]. ومن بركاتها أن من دخلها وعليه أثقال من الذنوب خرج مغفورًا له، قال الله تعالى: {ومن دخله كان آمنًا} [آل عمران: 97] فمن دخل البيت وهو مؤمن محتسب تائب أمنه الله عذابه وقبل توبته وغفر له. وقيل من دخله كان آمنًا من أن يؤذى في الحرم حتى يخرج منه، ولهذا يحرم قتل صيده وقطع شجره لحرمة الكعبة، فحرمة الكعبة لحرمة الله، وحرمة المسجد لحرمة الكعبة، وحرمة مكة لحرمة المسجد، وحرمة الحرم لحرمة مكة. كما قيل: إن الكعبة قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل مكة، ومكة قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض. وإنما سماها بكة لأن الأقدام تبك بعضها بعضًا: أي تدفع وتدرأ، وبكة ومكة واحد تبدل أحدهما بالأخرى، ككمد وكبد، ولازم ولازب. -ومنها سمي ليلة البراءة مباركة لما فيها من نزول الرحمة والبركة والخير والعفو والغفران لأهل الأرض. ومن ذلك ما أخبرنا الشيخ أبو نصر عن والده، قال: أخبرنا محمد، قال: أخبرنا عبد الله بن محمد، أخبرنا إسماعيل بن عمر البجلي، أخبرنا عمر بن موسى الوجيهي،

عن زيد بن علي عن آبائه، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ينزل الله تعالى في ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لكل مسلم إلا لمشرك أو مشاحن أو قاطع رحم أو امرأة تبغي في فرجها". وأخبرنا أبو نصر عن والده بإسناده عن يحيى بن سعيد، عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لما كانت ليلة النصف من شعبان انسل النبي -صلى الله عليه وسلم- من مرطي، ثم قالت: والله ما كان مرطي من حرير ولا قز ولا كتان ولا خز ولا صوف. قال: قلت لها: سبحان الله فمن أي شيء كان؟ قالت: كان سداؤه من شعر وكانت لحمته من وبر، وأحسب نفسي أن يكون -صلى الله عليه وسلم- قد أتى بعض نسائه، فقمت فالتمسته في البيت فوقعت يدي على قدميه وهو ساجد، فحفظت من دعائه -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: سجد لك سوادي وخيالي، وآمن بك فؤادي، أبوء لك بالنعم وأعترف لك بالذنب، ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ برحمتك من نقمتك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. قالت: فما زال -صلى الله عليه وسلم- قائمًا وقاعدًا حتى أصبح وقد أصعدت، يعني انتفخت قدماه وأنا أغمزها وأقول: بأبي أنت وأمي أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، أليس قد فعل الله بك، أليس أليس؟. قال -صلى الله عليه وسلم-: يا عائشة أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ هل تدرين ما في هذه الليلة؟ قالت: قلت: وما فيها؟ قال: فيها يكتب كل مولود في هذه السنة، وفيها يكتب كل ميت، وفيها تنزل أرزاقهم، وفيها ترفع أعمالهم وأفعالهم. قلت: يا رسول الله ما أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: ما أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله. قلت: ولا أنت؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته، فمسح يده على هامته وعلى وجهه". وأخبرني أبو نصر، قال: أنبأنا والدي، حدثنا محمد بن أحمد الحافظ، أنبأنا عبد الله

ابن محمد، أنبأنا أبو العباس الهروي وإبراهيم بن محمد الحسن، قال: أخبرنا أبو عامر الدمشقي، أنبأنا الوليد بن مسلم، أخبرني هشام بن الغار وسليمان بن مسلم وغيره، عن مكحول، عن عائشة -رضي الله عنها-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لها: "يا عائشة أية ليلة هي؟. قالت: الله ورسوله أعلم، فقال: ليلة النصف من شعبان، فيها ترفع أعمال الناس، ولله فيها عتقاء من النار بعدد شعر غنم كلب، فهل أنت أذنت لي الليلة؟ قالت: قلت: نعم، فصلى فخفف القيام وقرأ الحمد وسورة خفيفة، ثم سجد إلى شطر الليل، ثم قام في الركعة الثانية، فقرأ فيها نحوًا من قراءة الأولى، فكان سجوده إلى الفجر. قالت عائشة رضي الله عنها: أنظره حتى ظننت أن الله تعالى قد قبض روح رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فلما طال علي دنوت منه حتى مسست أخمص قدميه، فتحرك فسمعته يقول في سجوده: أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك، جل وجهك لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. قلت: يا رسول الله قد سمعتك تذكر في سجودك الليلة شيئًا ما سمعتك تذكره قط، قال -صلى الله عليه وسلم-: وعلمت ذلك؟ قلت: نعم، قال -صلى الله عليه وسلم-: تعلميهن وعلميهن، فإن جبريل عليه السلام أمرني أن أذكرهن في السجود". وأخبرني أبو النصر عن والده، قال: أنبأنا عبد الله بن محمد، أنبأنا إسحاق بن أحمد الفارسي، أنبأنا أحمد بن الصباح بن أبي شريح، أنبأنا يزيد بن هارون، حدثنا الحجاج بن أرطاة، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "فقدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة، فخرجت فإذا هو بالبقيع رافعًا رأسه إلى السماء، فقال لي: أكنت تخافين أن يحيف الله ورسوله عليك؟ فقلت له: يا رسول الله ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال -صلى الله عليه وسلم-: إن الله تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا، فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب". وعن عكرمة مولى ابن عباس ر حمه الله ورضي الله عنهما في قوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 4] قال: "هي ليلة النصف من شعبان، يدبر الله تعالى أمر السنة، وينسخ الأحياء من الأموات، ويكتب حاج بيت الله، فلا يزيد فيهم أحد ولا

ينقص منهم أحد". وقال حكيم بن كيسان: يطلع الله تعالى إلى خلقه في ليلة النصف من شعبان، فمن طهره في تلك الليلة زكاه إلى مثلها. وقال عطاء بن يسار: يعرض عمل السنة في ليلة النصف من شعبان، فيخرج الرجل مسافرًا وقد نسخ من الأحياء إلى الأموات، ويتزوج وقد نسخ من الأحياء إلى الأموات. وأخبرني أبو نصر عن والده بإسناده، عن مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يفتح الله الخير في أربع ليال سحًا، ليلة الأضحى، وليلة الفطر، وليلة النصف من شعبان ينسخ الله فيها الآجال والأرزاق، ويكتب فيها الحاج، وليلة عرفة إلى الأذان". قال سعيد، قال لي إبراهيم بن أبي نجيح: هي خمس ليال فيها ليلة الجمعة. وروى أبو هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "جاءني جبريل عليه السلام ليلة النصف من شعبان وقال لي: يا محمد ارفع رأسك إلى السماء، قال: قلت له: ما هذه الليلة؟ قال: هذه الليلة يفتح الله سبحانه فيها ثلاثمائة باب من أبواب الرحمة، يغفر لجميع من لا يشرك به شيئًا، إلا أن يكون ساحرًا أو كاهنًا أو مدمن خمر أو مصرًا على الربا والزنا، فإن هؤلاء لا يغفر لهم حتى يتوبوا. فلما كان ربع الليل نزل جبريل عليه السلام وقال: يا محمد ارفع رأسك، فرفع رأسه فإذا أبواب الجنة مفتوحة، وعلى الباب الأول ملك ينادي: طوبي لمن ركع في هذه الليلة، وعلى الباب الثاني ملك ينادي: طوبي لمن سجد في هذه الليلة، وعلى الباب الثالث ملك ينادي: طوبي لمن دعا في هذه الليلة، وعلى الباب الرابع ملك ينادي: طوبي للذاكرين في هذه الليلة، وعلى الباب الخامس ملك ينادي: طوبي لمن بكى من خشية الله في هذه الليلة، وعلى الباب السادس ملك ينادي: طوبي للمسلمين في هذه الليلة، وعلى الباب السابع ملك ينادي: هل من سائل فيعطي سؤله؟ وعلى الباب الثامن ملك ينادي: هل من مستغفر فيغفر له؟ فقلت: يا جبريل إلى متى تكون هذه الأبواب مفتوحة؟ قال: إلى طلوع الفجر من أول الليل، ثم قال: لله تعالى فيها عتقاء من النار بعدد شعر غنم كلب".

(فصل) وقد سميت ليلة البراءة

(فصل) وقد سميت ليلة البراءة لأن فيها براءتين، براءة للأشقياء من الرحمن، وبراءة للأولياء من الخذلان. وقد روى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا كان ليلة النصف من شعبان أطلع الله على خلقه فيغفر للمؤمنين، ويمهل الكافرين، ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه". وقيل: إن للملائكة ليلتي عيد في السماء، كما أن للمسلمين يومي عيد في الأرض، فعيد الملائكة ليلة البراءة وليلة القدر، وعيد المؤمنين يوم الفطر ويوم الأضحى، وعيد الملائكة بالليل لأنهم لا ينامون، وعيد المؤمنين بالنهار لأنهم ينامون. وقيل: إن الحكمة في أن الله تعالى أظهر ليلة البراءة وأخفى ليلة القدر، لأن ليلة القدر ليلة الرحمة والغفران والعتق من النيران، أخفاها الله عز وجل لئلا يتكلوا عليها، وأظهر ليلة البراءة لأنها ليلة الحكم والقضاء، وليلة السخط والرضا، ليلة القبول والرد والوصول والصد، ليلة السعادة والشقاء والكرامة والنقاء. فواحد فيها يسعد والآخر فيها يبعد، وواحد يجزى وواحد يخزى، وواحد يكرم وآخر يحرم، وواحد يؤجر وآخر يهجر، فكم من كفن مغسول وصاحبه في السوق مشغول، وكم من قبر محفور وصاحبه بالسرور مغرور، وكم من فم ضاحك وهو عن قريب هالك، وكم من منزل كمل بناؤه وصاحبه قد أرف يعني قرب فناؤه، وكم من عبد يرجو الثواب فيبدو له العقاب، وكم من عبد يرجو البشارة فتبدو له الخسارة، وكم من عبد يرجو الجنان فتبدو له النيران، وكم من عبد يرجو الوصل فيبدو له الفصل، وكم من عبد يرجو العطاء فيبدو له البلاء، وكم من عبد يرجو الملك فيبدو له الهلك. وقيل: إن الحسن البصري رحمه الله كان يخرج من داره يوم النصف من شعبان، وكأن وجهه قد قبر ودفن، ثم أخرج من قبره، فقيل له في ذلك، فقال: والله ما الذي انكسرت سفينته بأعظم مصيبة مني، قيل له: ولم ذلك؟ قال: لأني من ذنوبي على يقين، ومن حسناتي على وجل، فلا أدري اتقبل مني أم ترد علي. (فصل) فأما الصلاة الواردة في ليلة النصف من شعبان فهي: مائة ركعة بألف ركعة {قل هو الله أحد ...} في كل ركعة عشر مرات، وتسمى هذه

الصلاة صلاة الخير وتعرف بركتها. وكان السلف الصالح يصلونها جماعة يجتمعون لها، وفيها فضل كثير وثواب جزيل. وروى عن الحسن رحمه الله أنه قال: حدثني ثلاثون من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن من صلى هذه الصلاة في هذه الليلة نظر الله إليه سبعين نظرة، وقضى له بكل نظرة سبعين حاجة، أدناها المغفرة. ويستحب أن تصلي هذه الصلاة أيضًا في الأربع عشر ليلة التي يستحب إحياؤها التي ذكرناها في فضائل رجب، ليحوز بها المصلي هذه الكرامة وهذه الفضيلة والمثوبة. * * *

مجلس: في فضائل شهر رمضان

بسم الله الرحمن الرحيم مجلس: في فضائل شهر رمضان قال الله -عز وجل -: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ...} [البقرة: 183] إلى قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة: 185]. قال الحسن البصري -رحمه الله -: إذا سمعت الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا} فأسرع لها سمعك فإنها لأمر تؤمر به أو لنهي تنهى عنه. وقال جعفر الصادق -رحمه الله -: لذة ما في النداء إزالة تعب العبادة والعناء. قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} يا: نداء من العالم، وأي: اسم من المعلوم المنادى، وها: تنبيه على نداء المنادى الذي هو إشارة إلى المعرفة السابقة والصحبة القديمة. آمنوا: إشارة إلى السر المعلوم بين المنادى والمنادي، كأنه يقول: يا من هو لي بسره المخلص له بضميره وبلبه {كتب} أي فرض وأوجب {عليكم الصيام} وهو مصدر كقولك: صمت صيامًا وقمت قيامًا. وأصل الصيام في اللغة: الإمساك يقال: صامت الريح: إذا سكنت وأمسكت عن الهبوب، وصامت الخيل: إذا وقفت وأمسكت عن السير، ويقال: صام النهار، إذا اعتدل وقام قائم الظهيرة، لأن الشمس إذا بلغت كبد السماء وقفت وأمسكت عن السير سويعة كما قال الراجز: حتى إذا صام النهار واعتدل ... وسال للشمس لعاب فنزل ويقال للرجل إذا صمت وأمسك عن الكلام صام، قال الله تعالى: {إني نذرت للرحمن صومًا} [مريم 26] أي صمتًا، فالصوم: هو الإمساك عن المعتاد من الطعام والشراب والجماع في الشرع مع ترك الآثام، قال الله -عز وجل -: {كما كتب على الذين من قبلكم} أي من الأنبياء والأمم أولهم آدم -عليه السلام -، وهو ما روى عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده قال: سمعت علي بن أبي طالب -رضي الله عنه -

يقول: "أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ذات يوم عند انتصاف النهار وهو في الحجرة، فسلمت عليه، فرد -عليه السلام -ثم قال: يا علي هذا جبريل يقرئك السلام، فقلت: عليك وعليه السلام يا رسول الله، فقال -صلى الله عليه وسلم -: ادن مني، فدنوت منه، فقال: يا علي يقول لك جبريل صم من كل شهر ثلاثة أيام يكتب لك بأول يوم عشرة آلاف حسنة، وباليوم الثاني ثلاثون ألف حسنة، وباليوم الثالث مائة ألف حسنة، فقلت: يا رسول الله هذا الثواب لى خاصة أم للناس عامة؟ قال -صلى الله عليه وسلم -: يا علي يعطيك الله هذا الثواب ولمن يعمل مثل عملك بعدك، قلت: يا رسول الله، وما هي، قال: الأيام البيض ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر". قال عنترة: فقلت لعلي -رضي الله عنه -: لأي شيء تسمى هذه الأيام أيام البيض؟ فقال علي -رضي الله عنه -: لما أهبط الله تعالى آدم -عليه السلام -من الجنة إلى الأرض أحرقته الشمس فاسود جسده فأتاه جبريل -عليه السلام -فقال: يا آدم أتحب أن يبيض جسدك؟ قال: نعم، قال له: فصم من الشهر ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر، فصام آدم -عليه السلام -أول يوم فابيض ثلث جسده، ثم صار اليوم الثاني فابيض ثلثا جسده، ثم صام اليوم الثالث فابيض جسده كله فسميت أيام البيض". فآدم -عليه السلام من الذين كتب عليهم الصيام من قبل محمد -صلى الله عليه وسلم -. وقال الحسن وجماعة من العلماء بالتفسير: أراد الله تعالى بالذين من قبلكم: النصارى، شبه صيامنا بصيامهم لاتفاقهما في الوقت والقدر. وذلك أن الله تعالى فرض على النصارى صيام شهر رمضان، فاشتد ذلك عليهم، لأنه ربما كان يأتي في الحر الشديد أو في البرد الشديد، وكان يضر بهم في أسفارهم ومعايشهم، فاجتمع رأى علمائهم ورؤسائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السنة بين الشتاء والصيف، فجعلوه في الربيع وزادوا فيه عشرة أيام كفارة لما صنعوا فصار أربعين يومًا، ثم إن ملكًا لهم اشتكى فمه، فجعل لله إن هو برئ من وجعه ذلك أن يزيد في صومهم أسبوعًا، فزادوا فيه أسبوعيًا، ثم مات ذلك الملك، ووليهم ملك آخر فقال أتموه خمسين يومًا. قال مجاهد -رحمه الله: أصابهم موتان، فقال: زيدوا في صيامكم، فزادوا عشرًا قبل

(فصل) اختلف الناس في معنى قوله رمضان

وعشرًا بعد. وقال الشعبي -رحمه الله -: لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه، فيقال من شعبان ويقال من رمضان، وذلك أن النصارى فرض عليهم شهر رمضان كما فرض علينا، فحولوه إلى الفصل، وذلك أنهم كانوا ربما صاموا في القيظ فعدوا ثلاثين يومًا، ثم جاء بعدهم قرن منهم فأخذوا بالثقة في أنفسهم، فصاموا قبل الثلاثين يومًا وبعدها يومًا، ثم لم يزل الآخر يستن بسنة القرن الذي قبله حتى صاروا إلى خمسين يومًا، فذلك قوله -عز وجل -: {كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: 183] يعني لكي تتقوا الأكل والشرب والجماع. وقال أهل التفسير أيضًا: فرض الله تعالى على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم -وعلى المؤمنين صوم يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر حين قدم المدينة، فكانوا يصومونها، إلى أن نزل صيام شهر رمضان قبل قتال بدر بشهر وأيام، قال الله تعالى: {أيامًا معدودات} [البقرة: 184] يعني شهر رمضان ثلاثين يومًا أو تسعة وعشرين يومًا. وروى عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص أنه سمع ابن عمر -رضي الله عنهما -يحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا وهكذا لتمام الثلاثين" وسمى الشهر شهرًا لشهرته، وهو مأخوذ من الشهرة وهي البياض، ومنه يقال: شهرت السيف إذا سللته وشهر الهلال إذا طلع. (فصل) اختلف الناس في معنى قوله رمضان: فقال بعضهم: رمضان اسم من أسماء الله تعالى، فيقال شهر رمضان، كما يقال: شهر الله الأصم لرجب، وعبد الله. وروى جعفر الصادق -رحمه الله -عن آبائه -رضي الله عنهم -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "شهر رمضان شهر الله". وقال أنس بن مالك -رضي الله عنه -: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا رمضان بل انسبوه كما نسبه الله تعالى في القرآن، فقال: شهر رمضان".

فصل في قوله -عز وجل -: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}

وروى الأصمعى قال أبو عمرو: إنما سمى رمضان لأنه رمضت فيه الفصال من الحر. وقال غيره: لأن الحجارة كانت ترمض فيه من الحرارة، والرمضاء: الحجارة المحماة. وقيل: سمى بذلك لأنه يرمض الذنوب: أي يحرقها، وهو مروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم -". وقيل: إن القلوب تأخذ من الحرارة الموعظة والفكرة في أمر الآخرة كما يأخذ الرمل والحجارة من حر الشمس. وقال الخليل: مأخذه من الرمض، وهو مطر يأتي في الخريف، فسمى هذا الشهر رمضان لأنه يغسل الأبدان من الآثام غسلاً، ويطهر القلوب تطهيرًا. فصل في قوله -عز وجل -: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [البقرة: 185] روى أن عطية بن الأسود سأل ابن عباس -رضي الله عنهما -فقال: إنه وقع الشك في قوله تعالى: {إنا أنزلنا في ليلة مباركة} [الدخان: 3] وقد نزل القرآن في سائر الشهور. وقال الله تعلى: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث} [الإسراء: 106] {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32]. فقال ابن عباس: نزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان، فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل -عليه السلام -على محمد -صلى الله عليه وسلم -نجومًا نجومًا في ثلاث وعشرين سنة، وذلك قول الله -عز وجل -: {فلا أقسم بمواقع النجوم} [الواقعة: 75]. وقال داود بن أبى هند: قلت للشعبي: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن أما كان ينزل عليه، -عليه السلام -في سائر السنة؟ قال: بلى، ولكن جبريل -عليه السلام -كان يعارض محمدًا -صلى الله عليه وسلم -في رمضان بما أنزل الله، فيحكم الله ما يشاء ويثبت ما يشاء وينسيه ما يشاء. عن شهاب بن طارق عن أبى ذر الغفاري -رضي الله عنه -عم النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "أنزلت صحف إبراهيم في ثلاث ليال مضين من شهر رمضان، وأنزلت توراة موسى -عليه

(فصل: فيما يختص بشهر رمضان من الفضائل)

السلام -في ست ليال مضين من رمضان، وأنزل إنجيل عيسى -عليه السلام -في ثلاثة عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، وأنزل زبور داود -عليه السلام -في ثماني عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، وأنزل الفرقان على محمد -صلى الله عليه وسلم -في الرابعة والعشرين من شهر رمضان" ثم وصف -عز وجل -القرآن فقال: {هدى للناس} [البقرة: 185} من الضلالة {وبينات} [البقرة: 185] من الحلال والحرام والحدود والأحكام {من الهدى والفرقان} [البقرة: 185] يفصل بين الحق والباطل. (فصل: فيما يختص بشهر رمضان من الفضائل) أخبرني أبو نصر عن والده، قال: أنبأنا ابن الفارس، قال: حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الجلودى النيسابورى، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، قال: أنبأنا علي بن حجر السعدى، قال: أنبأنا يوسف بن زياد، قال: أخبرنا همام بن يحيى عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب عن سلمان -رضي الله عنه -قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -في آخر يوم من شعبان فقال: "أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعًا، من تقرب فيه بخصلة من الخير أو أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد به في رزق المؤمن، فمن فطر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء، قالوا: ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم، قال: يعطى الله هذا الثوب لمن فطر صائمًا على تمرة أو على شربة ماء أو مذقة لبن، وهو شهر أوله رحمة ووسطه مغفرة وآخره عتق من النار، فمن خفف عن مملوكه فيه غفر الله له وأعتقه من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتان ترضون بهما ربكم، وخصلتان لا غنى لكم عنهما. فالخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه، وأما اللتان لا غنى لكم عنهما: فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار، ومن أشبع فيه صائمًا سقاه الله تعالى من حوضي شربة لا يظمأ بعدها أبدًا".

وعن الكلبي عن أبى نضرة عن أبى سعيد الخدرى -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "إن أبواب الجنة وأبواب السماء لتفتح لأول ليلة من شهر رمضان، ولا تغلق إلى آخر ليلة منه، ليس من عبد أو أمة يصلى في ليلة منه إلا كتب الله له بكل سجدة ألفًا وسبعمائة حسنة، وبنى له بيتًا في الجنة من ياقوتة حمراء له سبعون ألف باب، لكل باب منها مصراعان من ذهب موشح من ياقوته حمراء، فإذا صام أول يوم من شهر رمضان غفر الله له ذنب إلى آخر يوم من رمضان، وكان كفارة إلى مثلها، وكان له بكل يوم يصومه قصر في الجنة له ألف باب من ذهب، واستغفر له سبعون ألف ملك من غدوه إلى أن تتوارى بالحجاب، وكان له بكل سجدة سجدها من ليل أو نهار شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها". وأخبرني أبو نصر عن والده بإسناده عن الأعرج، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، نظر الله إلى خلقه وإذا نظر إلى عبد لم يعذبه أبدًا، ولله -عز وجل -في كل يوم ألف ألف عتيق من النار". وأخبرني أبو نصر عن والده بإسناده عن سهل، عن أبيه، عن أبى هريرة -رضي الله عنه -قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين". وعن نافع بن بردة، عن أبى مسعود الغفاري -رضي الله عنه -أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يقول: "ما من عبد يصوم يومًا من رمضان إلا زوج زوجة من الحور العين في خيمة من درة مجوفة مما نعت الله -عز وجل -: {حور مقصورات في الخيام} [الرحمن: 72] على كل امرأة منهن سبعون حلة ليس منها حلة على لون الأخرى، ويعطى سبعون لونًا من الطيب، ليس منها لون على لون الآخر، ويعطى لكل امرأة منهن سبعون سريرًا من ياقوتة حمراء موشحة بالدر، على كل سرير سبعون فراشًا على كل فراش أريكة، لكل امرأة سبعون ألف وصيف لحاجتها، وسبعون ألف وصيف لزوجها مع وصيفة صحفة من ذهب فيها لون من طعام، فيجد لآخر لقمة منها لذة لم يجدها لأوله ويعطى

(فصل) أخبرني أبو نصر عن والده بإسناده

زوجها مثل ذلك، على سرير من ياقوت أحمر، هذا لكل يوم صامه من رمضان سوى ما يعمل من الحسنات". (فصل) أخبرني أبو نصر عن والده بإسناده، قال: حدثنا محمد بن أحمد، قال: حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا أبو القاسم بن عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن بن إبراهيم بن يسار وإبراهيم بن محمد بن حارث، قال: حدثنا سلمة بن شبيب، قال: حدثنا القاسم بن محمد، قال: حدثنا هشام بن الوليد، قال: حدثنا حماد ابن سليمان الدوسي، عن الحسن، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم -يقول: "إن الجنة لتتجدد وتزين من الحول إلى الحول لدخول شهر رمضان، فإذا كان أول ليلة من شهر رمضان، هبت ريح من تحت العرش يقال لها المثيرة، فتصفق ورق أشجار الجنة وحلق المصاريع، فيسمع لذلك طنين لم يسمع السامعون أحسن منه، فتزين الحور العين حتى يقفن بين شرف الجنة، فينادين هل من خاطب إلى الله -عز وجل -فيزوجه، ثم يقلن: يا رضوان: ما هذه الليلة؟ فيجيبهن بالتلبية يا خيرات حسان، هذه أول ليلة من شهر رمضان فتحت أبواب الجنان للصائمين من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم -فيقول الله تعالى: يا رضوان افتح أبواب الجنان، يا مالك أغلق أبواب النيران عن الصائمين من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم -يا جبريل اهبط إلى الأرض فصفد مردة الشياطين وغلهم بالأغلال، ثم اقذف بهم في لجج البحار حتى لا يفسدوا على أمة محمد حبيبي صيامهم. قال: ويقول الله -عز وجل -في كل ليلة من شهر رمضان ثلاث مرات: هل من سائل فأعطيه سؤله، هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له؟ من يقرض الملئ غير المعدم، والوفى غير الظلوم؟ قال: وله في كل يوم من شهر رمضان عند الإفطار ألف ألف عتيق من النار، كلهم قد استوجبوا العقاب، فإذا كان ليلة الجمعة ويوم الجمعة أعتق الله تعالى في كل ساعة ألف ألف عتيق من النار، كلهم قد استوجبوا العذاب، فإذا كان في آخر يوم من شهر رمضان أعتق الله في ذلك اليوم بعدد ما أعتق من أول الشهر إلى آخره، فإذا كان ليلة القدر يأمر جبريل -عليه السلام -فيهبط في كبكبة من الملائكة ومعه لواء أخضر إلى

الأرض، فيركزه على ظهر الكعبة، وله ستمائة جناح لا ينشرها إلا في ليلة القدر، فينشرها في تلك الليلة، فيجاوز المشرق والمغرب، ويبث جبريل -عليه السلام -الملائكة في هذه الأمة فيسلمون على كل قائم ومصل وذاكر، ويصافحونهم ويؤمنون على دعائهم حتى يطلع الفجر، ثم ينادى جبريل -عليه السلام -: يا معشر الملائكة الرحيل الرحيل، فيقولون: يا جبريل ما صنع الله في حوائج المؤمنين من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم -؟ فيقول: إن الله تعالى نظر إليهم وعفا عنهم وغفر لهم إلا أربعة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: هؤلاء الأربعة: مدمن خمر، وعاق والدية، وقاطع رحم، ومشاحن. قيل: يا رسول الله من المشاحن؟ قال: المصارم، فإذا كان ليلة الفطر سميت تلك الليلة ليلو الجائزة، فإذا كان غداة الفطر بث الله تعالى الملائكة في كل البلاد فيهبطون إلى الأرض، فيقومون على أفواه السكك فينادون بصوت يسمعه كل من خلق الله تعالى إلا الجن والإنس فيقولون: يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم -أخرجوا إلى رب كريم يعطى الجزيل ويغفر الذنب العظيم، فإذا برزوا إلى مصلاهم يقول الله تعالى لملائكته: يا ملائكتي ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟. قال: فتقول الملائكة: إلهنا وسيدنا توفيه أجرته، فيقول: فإني أشهدكم يا ملائكتي أني قد جعلت ثواب صيامهم من شهر رمضان وقيامهم رضاي ومغفرتي، ثم يقول: يا عبادي سلوني فوعزتي وجلالي لا تسألوني اليوم في جمعكم لآخرتكم شيئًا إلا أعطيتكم، ولا لدنياكم إلا نظرت لكم، وعزتي وجلالي لأسترن عليكم عثراتكم ما راقبتموني، وعزتي وجلالي لا أخزيكم ولا أفضحكم بين أصحاب الحدود، انصرفوا مغفورًا لكم، قد أرضيتموني ورضيت عنكم. قال: فتفرح الملائكة ويستبشرون بما يعطي الله -عز وجل -هذه الأمة إذا أفطروا من شهر رمضان". وعن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس -رضي الله عنهما -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -نحوه، واللفظ متقارب. وأخبرني أبو نصر عن والده بإسناده عن نافع، عن ابن مسعود -رضي الله عنه -أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يقول يوم أهل شهر رمضان: "لو يعلم العباد ما في شهر رمضان

لتمنى العباد أن يكون شهر رمضان سنة، فقال رجل من خزاعة: يا رسول الله حدثنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: إن الجنة لتزين لشهر رمضان من رأس الحول إلى الحول، حتى إذا كان أول ليلة منه وهبت ريح من تحت العرش، فصفقت ورق الجنة، فنظرت الحور العين إلى ذلك فقلن: يا رب اجعل من عبادك في هذا الشهر لنا أزواجًا تقر عيننا بهم، وتقر أعينهم بنا، فما من عبد صام شهر رمضان إلا زوجه الله زوجة من الحور العين في خيمة من درة مجنونة، مما نعت الله به: {حور مقصورات في الخيام} [الرحمن: 72] على كل امرأة منهن سبعون حلة ليس منها حلة على لون الأخرى، وتعطى سبعون لونًا من الطيب ليس منه لون يشبه الأول، كل امرأة منهن على سرير من ياقوت موشح بالدر عليه سبعون فراشًا، بطائنها من إستبرق، وفوق السبعين فراش سبعون أريكة، ولكل امرأة منهن سبعون ألف وصيف يخدمها، وسبعون ألف وصيف لزوجها بيد كل وصيف صحفة من ذهب فيها لون من الطعام، يجد لآخره من اللذة ما لا يجد لأوله، ويعطى زوجها مثل ذلك، على سرير من ياقوتة حمراء، عليه سواران من ذهب مرصع بالياقوت هذا لكل من صام شهر رمضان سوى ما عمل من الحسنات". وعن قتادة عن أنس بن مالك -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نادى الجليل جلت عظمته رضوان خازن الجنان، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: نجد جنتي وزينها للصائمين من أمة أحمد، ولا تغلقها عنهم حتى ينقضي شهرهم، ثم ينادى مالكًا خازن النار: يا مالك، فيقول: لبيك ربي وسعديك، فيقول: أغلق أبواب الجحيم عن الصائمين من أمة أحمد، ثم لا تفتحها عليهم حتى ينقضي شهرهم، ثم ينادي جبريل -عليه السلام -، فيقول: لبيك ربي وسعديك، فيقول. انزل إلى الأرض فغل مردة الشياطين عن أمة أحمد حتى لا يفسدوا عليهم صيامهم وإفطارهم، ولله -عز وجل -في كل يوم من شهر رمضان عند طلوع الشمس وعند الإفطار عتقاء يعتقهم من النار عبيدًا وإماء، وله في كل سماء مناد فيهم ملك له عرف تحت عرش رب العالمين، وفرائسه في تخوم الأرض السابعة السفلى، له جناح بالمشرق، مكلل بالمرجان والدر والجواهر، ينادي: هل من تائب يتاب عليه، هل من داع يستجاب له، هل من مظلوم ينصره الله، هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطي سؤله؟

قال وينادي الرب -تعالى ذكره -الشهر كله: عبادي وإمائي أبشروا واصبروا وداوموا، يوشك أن أرفع عنكم المؤنات وتفضوا إلى رحمتي وكرامتي، فإذا كان ليلة القدر نزل جبريل -عليه السلام -في كبكبة من الملائكة يصلون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله -عز وجل -". وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "لو أذن الله للسموات والأرض أن تتكلما لبشرتا من صام رمضان بالجنة". وعن عبد الله بن أبى أوفى -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "نوم الصائم عبادة، وصمته تسبيح، ودعاؤه مستجاب، وعمله مضاعف". وروى الأعمش عن أبي خيثمة -رضي الله عنه -أنه قال: كانوا يقولون رمضان إلى رمضان، والحج إلى الحج والجمعة إلى الجمعة، والصلاة إلى الصلاة كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر. وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -أنه كان يقول إذا دخل شهر رمضان: مرحبًا بالمطهر خير كله، صيام نهاره وقيام ليله، والنفقة فيه كالنفقة في سبيل الله. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "من صام رمضان وقامه إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه". وعن أبي هريرة -رضي الله عنه -أيضًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "كل حسنة يعملها ابن آدم تتضاعف عشرًا إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم فإن الله تعالى يقول: الصوم لي وأنا أجزى به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي، والصوم جنة، وللصائم فرحتان فرحة عند إفطاره وفرحة عند لقاء ربه". وأخبرنا أبو البركات السقطى بإسناده عن يزيد بن هارون قال: حدثنا المسعودي قال: بلغني أن من قرأ في ليلة من شهر رمضان في التطوع {إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا} [الفتح: 1] حفظ في ذلك العام.

(فصل) رمضان خمسة أحرف

(فصل) رمضان خمسة أحرف: الراء: رضوان الله، والميم: محاباة الله عن العصاة، والضاد: ضمان الله، والألف: ألفة الله، والنون: نور الله، فهو شهر رضوان ومحاباة وضمان وألفة ونوال وكرامة للأولياء والأبرار. وقيل: مثل شهر رمضان في الشهور كمثل القلب في الصدور، وكالأنبياء في الأنام، وكالحرم في البلاد، فالحرم يمنع منه الدجال اللعين، وشهر رمضان تصفد فيه مردة الشياطين، والأنبياء شفعاء للمجرمين، وشهر رمضان شفيع للصائمين، والقلب مزين بنور المعرفة والإيمان، وشهر رمضان مزين بنور تلاوة القرآن، فمن لم يغفر له في شهر رمضان ففي أي شهر يغفر له، فليتب العبد إلى الله -عز وجل -قبل أن تغلق أبواب التوبة، وليتب إليه -عز وجل -قبل أن يفوت وقت الإنابة، وليبك قبل أن يقضي وقت البكاء والرحمة. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: "إن أمتي لم يخزوا ما أقاموا شهر رمضان، فقال رجل: يا نبي الله وما خزيهم؟ قال: من انتهك فيه محرمًا أو عمل سيئة أو شرب خمرًا، أو زنى لم يقبل منه رمضان، لعنه الله وملائكته وأهل السموات إلى مثله من الحول، وإن مات فيما بينه وبينه رمضان فليس له عند الله حسنة". (فصل) قيل: إن سيد البشر آدم -عليه السلام -، وسيد العرب محمد -صلى الله عليه وسلم -، وسيد الفرس سلمان، وسيد الروم صهيب، وسيد الحبش بلال، وسيد القرى مكة، وسيد الأودية وادي بيت المقدس، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الليالي ليلة القدر، وسيد الكتب القرآن، وسيد القرآن البقرة آية الكرسي، وسيد الأحجار الحجر الأسود، وسيد الآبار زمزم، وسيد العصى عصا موسى، وسيد الحيتان الحوت الذي كان يونس -عليه السلام -في بطنه، وسيد النوق ناقة صالح، وسيد الأفراس البراق، وسيد الخواتم خاتم سليمان -عليه السلام -، وسيد الشهور شهر رمضان. * * *

(فصل: في فضائل ليلة القدر)

(فصل: في فضائل ليلة القدر) قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر ...} [القدر: 1] إلى آخر السورة، فأنزلناه كناية عن القرآن أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا إلى السفرة، وهم الكتبة من الملائكة، فكان ينزل في تلك الليلة من اللوح المحفوظ على قدر ما ينزل به جبريل -عليه السلام بإذن الله تعالى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم -في السنة كلها، إلى مثلها من قابل، حتى نزل القرآن كله في ليلة القدر من شهر رمضان إلى سماء الدنيا. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما -وغيره: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر: 1] يعني أنزلنا جبريل بهذه السورة وجملة القرآن في ليلة القدر على الكتبة ثم نزل بعد ذلك نجمًا نجمًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -في ثلاث وعشرين سنة، في سائر الشهور والأيام والليالي والأوقات. قوله تعالى: {في ليلة القدر} أي في ليلة عظيمة، وقيل: في ليلة الحكم، وسميت ليلة القدر تعظيمًا لها ولقدرها لأن الله تعالى يقدر فيها ما يكون من أمر السنة إلى مثلها من العام المقبل. ثم قال: {وما أدراك ما ليلة القدر} [القدر: 2} يا محمد لولا أن الله أعلمك بعظمتها، فكل ما في القرآن {وما أدراك} فقد أعلمه، وما فيه {ومما يدريك} فلم يدره، ولم يطلعه عليه كقوله -عز وجل -: {وما يدريك لعل الساعة تكون قريبًا} بالأحزاب: 63] وما بين له وقتها. قوله تعالى: {ليلة القدر} أي ليلة العظمة والحكمة. وقيل: هي الليلة المباركة التي قال الله -عز وجل -: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة ... * فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 3 - 4] ثم قال -عز وجل -: {ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر: 3] يعني العمل فيها خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. ويقال أن الصحابة -رضي الله عنهم -لم يفرحوا بشيء كفرحهم بقوله تعالى: {خير من ألف شهر} وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ذكر يومًا لأصحابه أربعة من بني إسرائيل بأنهم عبدوا الله ثمانين عامًا لم يعصوه طرفة عين، وذكر أيوب وزكريا وحزقيل ويوشع ابن نون -عليهم السلام -، فعجب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -من ذلك، فأتاه جبريل -عليه

السلام -وقال له: يا محمد عجبت أنت وأصحابك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا الله تعالى فيها طرفة عين، فقد أنزل الله عليك خيرًا من ذلك، ثم قرأ عليه {إنا أنزلناه في ليلة القدر ...} إلى آخرها، وقال له: هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك منه، فسر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن نجيح: إنه كان في بني إسرائيل رجل لبس السلاح ألف شهر في سبيل الله تعالى لم يضعه عنه، فذكر ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم -لأصحابه، فتعجبوا من قوله، فأنزل الله -عز وجل -: {ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر: 3] يعني خير لكم ممن تلك الألف شهر التي لبس فيها ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ولم يضعه. وقيل: إنه كان اسمه شمعون العابد في بني إسرائيل، وقيل شمسون. {تنزل الملائكة} [القدر: 4] يعني تنزل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر {والروح} [القدر: 4] يعني جبريل -عليه السلام. وقال الضحاك عن ابن عباس -رضي الله عنهما -أنه قال: الروح على صورة الإنسان عظيم الخلق وهو عظيم الخلق، وهو الذي قال الله -عز وجل -: {ويسألونك عن الروح} [الإسراء: 85] وهو الملك يقوم مع الملائكة صفًا يوم القيامة. وقال مقاتل: هو أشرف الملائكة عند الله تعالى. وقال غيره: إنه ملك وجهه على صورة الإنسان وجسده جسد الملائكة، وهو أعظم مخلوق عند العرش يقوم صفًا، وتقوم الملائكة صفًا، قال الله تعالى: {يوم يقوم الروح والملائكة صفًا} [النبأ: 38]. {فيها} [القدر: 4] يعني في ليلة القدر. {بإذن ربهم} [القدر: 4] أي بأمر ربهم. {من كل أمر} [القدر: 4] يعني بكل خير. {سلام هي حتى} [القدر: 5] أي هي سلام، أي سليمة. {حتى مطلع الفجر} [القدر: 5] لا يحدث فيها داء ولا كهانة. {مطلع الفجر} بكسر اللام يريد: الطلوع، وبالفتح يريد: الموضع الذي يطلع فيه، وقيل سلام، يعني سلام الملائكة على المؤمنين من أهل الأرض، يقولون: سلام سلام حتى يطلع الفجر.

(فصل) وتلتمس ليلة القدر

(فصل) وتلتمس ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، وآكدها ليلة سبع وعشرين. وعند مالك -رحمه الله -جميع ليالي العشر الأواخر ليس بعض بآكد من بعض. وعند الشافعي -رحمه الله آكدها إحدى وعشرون. وقيل: إنها ليلة التاسع عشر، وهو مذهب عائشة -رضي الله عنها. وقال أبو بردة الأسلمى -رضي الله عنه -: هي ليلة ثلاث وعشرين. وقال أبو ذر والحسن -رضي الله عنهما -: إنها ليلة سبع وعشرين. والدليل على أن آكدها ليلة سبع وعشرين -والله أعلم -ما روى حنبل -رحمه الله -بإسناده عن ابن عمر -رضي الله عنهما -قال: "كانوا لا يزالون يقصون على النبي -صلى الله عليه وسلم -الرؤيا من العشر الأواخر فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: أرى رؤياكم قد تواترت إنها ليلة سابعة من العشر الأواخر، من كان متحريًا فليتحرها الليلة السابعة من العشر الأواخر". ويروى أن ابن العباس قال لعمر بن الخطاب -رضي الله عنهم -: إني نظرت في الأفراد فلم أر فيها أحرى لي من السبعة، فذكر بعض ما نذكره في السبعة فقال: السموات سبع، والأرضون سبع، والليالي سبع، والأفلاك سبع، والنجوم سبع، والسعي بين الصفا والمروة سبع، والطواف بالبيت سبع، ورمي الجمار سبع، وخلق الإنسان من سبع، ورزقه من سبع، وشق في وجهه سبع، والخواتيم سبع، والحمد سبع آيات، وقراءة القرآن على سبعة أحرف، والسبع المثاني، والسجود على سبعة أعضاء، وأبواب جهنم سبع، وأسماؤها سبع، وأدراكها سبع، وأصحاب الكهف سبع، وأهلك عاد بالريح العقيم في سبع ليال، ومكث يوسف -عليه السلام -في السجن سبع سنين، والبقرات سبع، والسنون الجدية سبع، والسنون الخصبة سبع، والصلوات الخمس سبع عشرة ركعة، وقال الله -عز وجل -: {وسبعة إذا رجعتم} [البقرة: 196] وحرم من السناء بالنسب سبع، ومن الصهر سبع، وجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -طهارة الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات إحداهن التراب، وعدد حروف سورة القدر إلى قوله: {سلام هي} سبع

(فصل: فهل ليلة الجمعة أفضل أم ليلة القدر؟)

وعشرون حرفًا، ومكث -عليه السلام -في بلائه سبع سنين، وقالت عائشة -رضي الله عنها -: تزوجني رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وأنا بنت سبع سنين، وأيام العجوز يعني الحسوم سبعة، ثلاثة من شباط وأربعة من آذار، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "شهداء أمتي سبعة: القتيل في سبيل الله، والمطعون، والمسلول، والغريق، والحريق، والمبطون، والنفساء". وأقسم الله -عز وجل بسبع: {والشمس وضحاها ...} [الشمس: 1] إلى قوله: {ونقس وما سواها} [الشمس: 7]، وكان طول موسى -عليه السلام -سبعة أذرع بذراع ذلك القرن، وطول عصى موسى سبعة أذرع. فإذا ثبت أن أكثر الأشياء سبع، فقد نبه الله تعالى عباده على أنه ليلة القدر السابعة والعشرون بقوله تعالى: {سلام هي حتى مطلع الفجر} [القدر: 5] فعلمنا بذلك أنها ليلة السابع والعشرين. (فصل: فهل ليلة الجمعة أفضل أم ليلة القدر؟) اختلف أصحابنا في ذلك، فاختار الشيخ أبو عبد الله بن بطة، والشيخ أبو الحسن الجزرى، وأبو حفص عمر اليرمكى -رحمهم الله -أن ليلة الجمعة أفضل. واختار أبو الحسن التميمى -رحمه الله -أن الليلة التي أنزل فيها القرآن من ليالي القدر أفضل من ليلة الجمعة، فأما أمثال تلك الليلة من ليالي القدر فليلة الجمعة أفضل. وقال أكثر العلماء: ليلة القدر أفضل من ليلة الجمعة وغيرها من الليالي. وجه اختيار أصحابنا ما روى القاضي الإمام أبو يعلى -رحمه الله -بإسناده عن ابن عباس -رضي الله عنهما -أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "يغفر الله ليلة الجمعة لأهل الإسلام أجمعين" وهذه فضيلة لم تنقل عنه -عليه الصلاة والسلام -لغيرها من الليالي. وروى عنه -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "أكثروا على من الصلاة في الليلة الغراء واليوم الأزهر، ليلة الجمعة ويوم الجمعة" والغرة من الشيء خياره ولأن ليلة الجمعة تابعة ليومها. وقد جاء في فضل يومها ما لم يجئ في فضل ليلة القدر، من ذلك ما روى أنس -رضي الله عنه -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "ما طلعت الشمس على يوم أعظم عند الله من

يوم الجمعة ولا أحب إليه منه". وروى أبو هريرة -رضي الله عنه -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -: "لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة، وما من دابة إلا وهي تفزع ليوم الجمعة إلا هذين الثقلين من الجن والأنس". وروى أبو هريرة -رضي الله عنه -أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "إن الله يبعث الأيام يوم القيامة على هيئتها، ويبعث الجمعة وهي زهراء منيرة، وأهلها يحفون بها كالعروس تهدى إلى كريمها تضئ لهم ويمشون في ضوئها، وألوانهم كالثلج، وريحهم كالمسك يخوضون في جبال الكافور، وينظر إليهم الثقلان ما يطوفون تعجبًا حتى يدخلون الجنة. فإن قيل: فما جوابكم عن قوله -عز وجل -: {ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر: 3]. قيل: المراد بها خير من ألف شهر ليس فيها ليلة الجمعة، كما أن تقديرها عندهم خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وأيضًا أن ليلة الجمعة باقية في الجنة، لأن في يومها تقع الزيارة إلى الله سبحانه وتعالى وهي معلومة في الدنيا بعينها على القطع، وليلة القدر مظنون عينها. وجه اختيار التميمى وغيره من العلماء أن ليلة القدر أفضل؛ قوله تعالى: {خير من ألف شهر} وألف شهر: ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر. وقيل: إنه عرض على النبي -صلى الله عليه وسلم -أعمار أمته فاستقلها، فأعطى ليلة القدر. وعن مالكى بن أنس -رحمه الله -أنه قال: سمعت ممن أثق به يقول: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -رأى أعمار الناس قبله أو ما شاء الله تعالى من ذلك، فكأنه تصاغر أعمار أمته بأن لا يبلغوا منن العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر". وقد مالك بن أنس -رحمه الله -: بلغني أن سعيد بن المسيب قال: من حضر صلاة العشاء ليلة القدر أصاب منها حظًا.

فصل لماذا لم يطلع الله عباده على ليلة القدر

وعن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "من صلى العشاء والمغرب في جماعة فقد أخذ بحظه من ليلة القدر، ومن قرأها -يعني سورة القدر -فكأنما قرأ ربع القرآن". ويستحب أن يقرأها في العشاء الأخيرة من شهر رمضان. (فصل) فإن قال قائل، لم لم يطلع عباده على ليلة القدر يقينًا وقطعًا كما أطلعهم على ليلة الجمعة وبينها لهم؟ قيل له: يتكل العباد على عملهم فيها، فيقولون: قد عملنا في ليلة خير من ألف شهر، فقد غفر الله لنا وحصل لنا عنده درجات وجنات، فلا يعملوا عملاً ويطمئنوا فيغلب عليهم الرجاء فيهلكوا، وهذا كما لم يطلعهم على فناء آجالهم لئلا يقول من كان في عمره طول: أتبع الشهوات واللذات والتنعيم في الدنيا، فإذا قاربت فناء أجلى تبت واشتغلت بعبادة ربي وأموت تائبًا مصلحًا، فيغيب الله تعالى عنهم آجالهم ليكونوا أبدًا على وجل وحذر من الموت فيحسنوا العمل ويداوموا على التوبة وإصلاح العمل، فيأتيهم الموت وهم على خير حال، فتصل إليهم الأقسام من اللذات والشهوات في الدنيا، وينجون من عذاب الله في الآخرة برحمة الله تعالى. وقيل: إن الله تعالى أخفى خمسة أشياء في خمسة: الأول: أخفى رضاه في الطاعات. والثاني: أخفى غضبه في المعاصي. والثالث: أخفى الصلاة الوسطى بين الصلوات. والرابع: أخفى وليه في خلقه. والخامس: أخفى ليلة القدر في شهر رمضان. (فصل) وأن الله -عز وجل -أعطى المصطفى -صلى الله عليه وسلم -خمس ليالي: الأولى: ليلة المعجزة والقدرة وهي ليلة انشقاق القمر؛ قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} [القمر: 1] وكان انفلاق البحر لموسى -عليه السلام -، وهو يضرب العصا. والانشقاق لمحمد -صلى الله عليه وسلم -وهو بإشارة أصبع المصطفى -صلى الله عليه وسلم -، فهو أعظم في المعجزات والإعجاز والقدرة.

والثانية: ليلة الإجابة والدعوة، قوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن} [الأحقاف: 29]. والثالثة: ليلة الحكم والقضية، قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 3 - 4]. والرابع: ليلة الدنو والقربة، هي ليلة المعراج، قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1]. وأما الخامسة: فليلة السلام والتحية، قوله: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر: 1] إلى قوله تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها} [القدر: 4] يعني ليلة القدر. روى عن ابن عباس -رضي الله عنهما -أنه قال: "إذا كان ليلة القدر يأمر الله سبحانه وتعالى جبريل -عليه السلام -أن ينزل إلى الأرض ومعه سكان سدرة المنتهى سبعون ألف ملك، ومعهم ألوية من نور، فإذا هبطوا إلى الأرض ركز جبريل -عليه السلام -لواءه والملائكة ألويتهم في أربع مواطن: عند الكعبة، وعند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم -، وعند مسجد بيت المقدس، وعند مسجد طور سيناء، ثم يقول جبريل -عليه السلام تفرقوا، فيتفرقون فلا تبقى دار ولا حجرة ولا بيت ولا سفينة فيها مؤمن أو مؤمنة إلا دخلت الملائكة فيها، إلا بيت فيه كلب أو خنزير أو خمر أو جنب من حرام أو صورة، فيسبحون ويقدسون ويهللون ويستغفرون لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم -، حتى إذا كان وقت الفجر يصعدون إلى السماء، فيستقبلهم سكان السماء الدنيا فيقولون لهم: من أين أقبلتم؟ فيقولون: كنا في الدنيا، لأن الليلة ليلة القدر لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم -، فقال سكان سماء الدنيا: ما فعل الله بحوائج أمة محمد؟ فيقول جبريل -عليه السلام -إن الله غفر لصالحيهم وشفعهم في طالحيهم، فترفع ملائكة سماء الدنيا أصواتهم بالتسبيح والتقديس والثناء على رب العالمين شكرًا لما أعطاه الله هذه الأمة من المغفرة والرضوان، ثم تشيعهم ملائكة سماء الدنيا إلى السماء الثانية، ثم كذلك سماء بعد سماء إلى السابعة، ثم يقول جبريل -عليه السلام -: يا سكان السموات ارجعوا، فترجع ملائكة كل سماء إلى مواضعهم، ويرجع سكان سدرة المنتهى إلى السدرة، فيقول سكان السدرة: أين كنتم؟ فيجيبون مثل ما أجابوا أهل السماء الدنيا، فترفع سكان السدرة أصواتهم بالتسبيح والتقديس، فتسمع جنة المأوى، ثم جنة النعيم، ثم جنة عدن، ثم الفردوس، فيسمع عرش الرحمن، فيرفع العرش صوته

(فصل) والأمارة في أنها ليلة القدر

بالتسبيح والتهليل والثناء على رب العالمين شكرًا لما أعطى هذه الأمة، فيقول الله -عز وجل -وهو أعلم: يا عرشي لم رفعت صوتك؟ فيقول: إلهى بلغني أنك قد غفرت البارحة لصالحى أمة محمد -صلى الله عليه وسلم -وشفعت صالحيها في طالحيها، فيقول الله تعالى: صدقت يا عرشي، ولأمة محمد عندي من الكرامة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر". وقيل: إن جبريل -عليه السلام -إذا نزل من السماء ليلة القدر لا يدع أحدًا من الناس إلا سلم عليه وصافحه، وعلامة ذلك اقشعرار جلده وترقيق قلبه وتدميع عينيه. ولهذا روى أن النبي -صلى الله عليه وسلم -كان مهمومًا لأجل أمته، فقال الله تعالى: يا محمد لا تغتم فإني لا أخرج أمتك من الدنيا حتى أعطيهم درجات الأنبياء، وذلك أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام -تنزل عليهم الملائكة بالروح والرسالة والوحي والكرامة، وكذلك أنزل بالملائكة على أمتك في ليلة القدر بالتسليم والرحمة مني. (فصل) والأمارة في أنها ليلة القدر، أن تكون ليلة طلقة سمحة لا حارة ولا باردة. وقيل: لا يسمع فيها نباح الكلاب، وتطلع الشمس صبيحتها، ليس لها شعاع كالطست، وتكشف عجائبها لأرباب القلوب والولاية وأهل الطاعة لمن يشاء الله تعالى من المؤمنين من عباده، وعلى قدر أحوالهم وأقسامهم ومنازلهم في القرب من الله -عز وجل -. (فصل) وصلاة التراويح سنة النبي -صلى الله عليه وسلم -. صلاها ليلة، وروى ليلتين، وروى ثلاثًا، ثم انتظروه فلم يخرج، وقال: "لو خرجت لفرضت عليكم". ثم استديمت في أيام عمر -رضي الله عنه -، فلذلك أضيفت إليه لأنه ابتدأها، والحديث المروى في ذلك عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها -أن النبي -صلى الله عليه وسلم -خرج في جوف الليل في شهر رمضان، فصلى في المسجد وصلى الناس بصلاته، فلما كانت الليلة الثانية كثر الناس حتى عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليهم حتى خرج لصلاة الفجر، فلما صلى الفجر أقبل على الناس وقال: "إنه لم يخف على شأنكم الليلة، ولكن خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عن ذلك".

قالت: وكان -صلى الله عليه وسلم -يرغبهم في حديث رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة، فتوفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -والأمر على ذلك في أيام خلافة أبى بكر الصديق -رضي الله عنه -وصدرًا من خلافة عمر -رضي الله عنه -. وروى عن علي -رضي الله عنه -أنه قال: إنما أخذ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -هذه التراويح من حديث سمعه مني، قالوا: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يقول: "إن لله تعلى حول العرش موضعًا يسمى حظيرة القدس وهي من النور، فيها ملائكة لا يحصى عددهم إلا الله -عز وجل -، يعبدون الله تعالى عبادة لا يفترون ساعة، فإذا كان ليالي شهر رمضان استأذنوا ربهم أن ينزلوا إلى الأرض، فيصلون مع بني آدم، فيأذن لهم فينزلون كل ليلة إلى الأرض فيصلون مع بني آدم، فكل من مسهم من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم -أو مسوه سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدًا" فقال عمر -رضي الله عنه -إذ ذاك: فنحن أحق بهذا، فجمع للتراويح وسنها. وروى عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه -أنه خرج في أول ليلة من شهر رمضان، فسمع القرآن في المساجد، فقال: نور الله قبر عمر كما نور مساجد الله بالقرآن، وكذلك يروى عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه -. وفي لفظ آخر: أن عليًا -رضي الله عنه -اجتاز بالمساجد وهي تزهو بالقناديل والناس يصلون التراويح، فقال: نور الله -عز وجل -على عمر قبره كما نور مساجدنا. وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "من علق في بيت من بيوت الله قنديلاً لم تزل الملائكة تستغفر له وتصلى عليه وهم سبعون ألف ملك حتى يطفأ ذلك القنديل". وعن أبى ذر الغفاري -رضي الله عنه -أنه قال: "صلينا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فلما كانت الليلة الثالثة والعشرون قام فصلى بنا حتى مضى ثلث الليل، ثم لما كانت الليلة الرابعة والعشرون لم يخرج إلينا، فلما كانت الليلة الخامسة والعشرون خرج وصلى بنا حتى مضى شطر الليل، فقلنا له: لو نفلتنا ليلتنا هذه، فقال -صلى الله عليه وسلم -: إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة، ولم يصل بنا في الليلة السادسة والعشرين، فلما كانت الليلة السابعة والعشرون قام بنا وجمع أهله وصلى بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، قيل: وما الفلاح؟ قال: السحور".

(فصل) ويستحب لها الجماعة والجهر بالقراءة

(فصل) ويستحب لها الجماعة والجهر بالقراءة. لأن النبي -صلى الله عليه وسلم -صلاها كذلك في تلك الليالي، ويكون ابتداؤها في الليلة التي تكون صبحتها رمضان، لأنها ليلة من شهر رمضان، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم -كذلك صلاها، ويكون فعلها بعد صلاة الفرض، وبعد ركعتي سنة بتسليمة، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم -هكذا صلاها وهي عشرون ركعة يجلس عقيب كل ركعتين، ويسلم، فهي خمس ترويحات، كل أربعة منها ترويحة، وينوى في كل ركعتين: أصلى ركعتي التراويح المسنونة إمامًا كان أو مأمومًا. ويستحب أن يقرأ في الركعة الأولى منها في أول ليلة في شهر رمضان بالفاتحة ثم يعقبها بسورة العلق وهى {اقرأ باسم ربك الذي خلق ...} لأنها أول سورة نزلت من القرآن عند إمامنا أحمد بن محمد بن حنبل -رحمه الله -، وكذلك عند جميع أئمة الدين والسنة -رضوان الله عليهم -، ثم يسجد في آخرها، ثم ينهض فيبدأ بسورة البقرة. ويستحب له قراءة الختمة كاملة ليسمع الناس جميع القرآن فيقفوا على ما فيه من الأوامر والنواهي والمواعظ والزواجر، ولا يستحب الزيادة على ختمة واحدة، لئلا يشق ذلك على المأمومين فيضجروا وتلحقهم السآمة ويكرهوا الجماعة ويثقلوا بها، فيفوتهم أجر عظيم وثواب جزيل، فيكون ذلك بسبب الإمام فيعظم إثمة فيكون من الفاتنين، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم -في مثل ذلك لمعاذ -رضي الله عنه -: "أفتان أنت يا معاذ" وذلك لما صلى بقوم وطول في القراءة وقطع أحدهم الصلاة وانفرد، ثم شكا ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم -. ويستحب تأخير الوتر إلى آخر صلاة التراويح، ويقرأ في الركعة الأولى {سبح اسم ربك الأعلى ...}، وفي الثانية بسورة "الكافرون"، وفي الثالثة سورة الإخلاص، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم -كذلك كان يصلي. ويكره التنفل بين كل ترويحتين، ويكره أن يصلى التراويح في مسجدين وكذلك صلاة النوافل في جماعة بعد التراويح في إحدى الروايتين، لأنه هو التعقيب، وذلك مكروه عند الإمام أحمد -رحمه الله تعالى -، روى عن أنس بن مالك -رضي الله عنه -أنه كرهه، بل ينام نومة خفيفة ثم يقوم ويأتي بما شاء من النوافل والتهجد ثم يرجع إلى منامه، وهى ناشئة الليل التي أثنى الله عليها وذكرها وقال: {إن ناشئة الليل هي أشد

(فصل آخر: يختم به ما يتعلق بليلة القدر وجميع شهر رمضان)

وطئًا وأقوم قيلاً} [المزمل: 6]. والرواية الثانية: إن ذلك جائز غير مكروه لكنه يؤخره لما روى عمر -رضي الله عنه -قال: تدعون فضل الليل آخره، الساعة التي تنامون بها أحب إلى من الساعة التي تقومون. (فصل آخر: يختم به ما يتعلق بليلة القدر وجميع شهر رمضان) قوله -عز وجل -: {تنزل الملائكة والروح فيها} [القدر: 4] إذا نزلت الملائكة والروح الذي هو جبريل -عليه السلام -ومعه سبعون ألف ملك وهو أمير عليهم، فجبريل -عليه السلام -يسلم على من كان قاعدًا، والملائكة تسلم على من كان نائمًا، والبارئ -سبحانه وتعالى -يسلم على عباده من كان قائمًا، كما جاز أن يسلم الله -عز وجل -على عباده المؤمنين من أهل الجنة في الجنة بقوله: {سلام قولاً من رب رحيم} [يس: 58] جار أن يسلم على عباده الأبرار في الدنيا الذي سبقت لهم منا الحسنى والعناية والسعادة في الأزل، الفانين عن الخلق الباقين بالرب، المطمئنين إلى الحق، فلا يبقى في ليلة القدر بقعة إلا وعليها ملك ساجد أو قائم يدعو للمؤمنين والمؤمنات إلا أن تكون كنيسة أو بيعة أو بيت النار أو بيت الوثن، أو بعض أماكنهم التي يطرحون فيها الخبث، فلا يزالون يدعون ليلتهم تلك للمؤمنين والمؤمنات، وأما جبريل -عليه السلام -فلا يدع أحدًا من المؤمنين والمؤمنات إلا ويسلم عليه ويصافحه ويقول له: إن كنت في الطاعة فسلام عليك بالقبول والإحسان، وإن كنت في المعصية فسلام عليك بالغفران، وإن كنت في النوم فسلام عليك بالرضوان، وإن كنت في القبر فسلام عليك بالروح والريحان، فهو قوله -عز وجل -: {من كل أمر * سلام} [القدر: 4 - 5]. وقيل: إن الملائكة تسلم على أهل الطاعات ولا تسلم على أهل العصيان، فمنهم الظلمة ليس لهم نصيب في سلام الملائكة، وآكل الحرام وقاطع الرحم والنمام وآكل أموال اليتامى، ليس لهم نصيب في سلام الملائكة، فأي مصيبة أعظم من هذه المصيبة؟. يمضى شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، ولا يكون لك حظ في سلام ملائكة رب العصاة والأبرار، فهل كان ذلك إلا لبعدك من الرحمن، وكونك من أهل الطغيان وموافقى الشيطان، وتحليك بحلية سالكى سبيل النيران؟ وبعدك وتجافيك عن سالكى سبيل الجنان، وهجرانك لطاعة من بيده الضرر والإحسان؟

فشهر رمضان شهر الصفاء وشهر الوفاء وشهر الذاكرين وشهر الصابرين وشهر الصادقين، فإذا لم يؤثر في إصلاح قلبك وإقلاعك عن معاصي ربك ومجانبة أهل الشقاء والجرائم، فما الذي يؤثر في قلبك؟ فأي خير يرجى منك؟ وأي بقية بقية فيك؟ وأي فلاح يترقب منك؟ فتنبه يا مسكين لما حل بك، واستيقظ من رقدتك وغفلتك، وانظر إلى الذي دهاك، وشيع بقية شهرك بالتوبة والإنابة، وتمتع فيها بالاستغفار والطاعة لعلك تكون ممن تناله الرحمة والرأفة، وودعها بإسبال العبرات، وابك على نفسك المشؤومة بالعويل والويل والنياحات، فكم من صائم لا يصوم غيره أبدًا، وكم من قائم لا يقوم بعده أبدًا، والعامل يعطى أجره عند فراغه من عمله وقد فرغنا من العمل، فليت شعري أمقبول صيامنا وقيامنا أم مضروب بهما وجوهنا؟ يا ليت شعري من المقبول منا فننهينه؟ ومن المردود منا فنعزيه؟ وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر". السلام عليك يا شهر الصيام، السلام عليك يا شهر القيام، السلام عليك يا شهر الإيمان، السلام عليك يا شهر المغفرة والغفران، السلام عليك يا شهر الدرجات والنجاة من الدركات، السلام عليك يا شهر التائنبين العابدين، السلام عليك يا شهر العارفين، السلام عليك يا شهر المجتهدين، السلام عليك يا شهر الأمان، كنت للعاصين حبسًا وللمتقين أنسًا، السلام على القناديل والمصابيح الزاهرة، والعيون الساهرة، والدموع الهاطلة، والمحاريب المتعطرة، والعبرات المنسكبة المتفطرة، والأنفاس الصاعدة من القلوب المحترقة. اللهم اجعلنا ممن قبلت صيامهم وصلاتهم وبدلت سيئاته بحسناته، وأدخله برحمتك في جنتك، ورفعت درجاته برحمتك يا أرحم الراحمين. * * *

[مجلس] في ذكر يوم الفطر

[مجلس] في ذكر يوم الفطر قال الله تعالى: {قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى} [الأعلى: 14 - 15]. قوله: {قد أفلح} فالفلاح على وجهين: أحدهما: الفوز والنجاة من النيران في العقبى ومن الآفات والبلايا في الدنيا. والثاني: اليمن والسعادة بالتوفيق للطاعة في الدنيا والخلود في الجنان في الأخرى، قال الله -عز وجل -: {قد أفلح المؤمنون} [المؤمنون: 1] يعنى سعدوا، ونظيره {قد أفلح من تزكى} [الأعلى: 14] أي وفق للزكاة، وتطهيره إيمانه وتقواه من الآثام، وأما من لم يزك فلا فلاح له قاله الله -عز وجل -: {إنه لا يفلح المجرمون} [يونس: 17] أي لا يفوزوا ولا يسعدوا. وأما قوله: {من تزكى} فقد اختلف في ذلك: فقال ابن عباس -رضي الله عنهما -: يعنى من تطهر من الشرك بالإيمان. وقال الحسن -رحمه الله -: {من تزكى} يعنى من كان صالحًا وعمله زاكيًا ناميًا. وقال أبو الأحوص: عنى به -عز وجل -زكاة الأموال كلها. وقال قتادة وعطاء -رحمهما الله -: أراد به زكاة الفطر لا غير. وقوله: {وذكر اسم ربه فصلى} قد اختلف في ذلك أيضًا: فقال ابن عباس -رضي الله عنهما -: معناه وحد الله تعالى وصلى الصلوات الخمس. وقال أبو سعيد الخدرى -رضي الله عنه -: {ذكر اسم ربه} بالتكبير و {صلى} يعنى خرج إلى العيد فصلى. وقال وكيع بن الجراح -رحمه الله -: زكاة الفطر لرمضان كسجدة السهو للصلاة. وفرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم -زكاة الفطر طهرة للصائم من الرفث فكأنها جبران للصائم لما دخله من النقصان بالآثام من اللغو والرفث والكذب والغيبة والنميمة وأكل الشبهات والنظر إلى المستحسنات، فجعلت الفطرة مكفرة لها ومتممة للصيام جابرة له، كالتوبة للذنوب والاستغفار لها، والسجود للسهو، فكما أن السجود للسهو شرع ترغيمًا

(فصل) وإنما سمى العيد عيدا لأنه يعيد الله إلى عبادة الفرح والسرور في يوم عيدهم

للشيطان إذ كان هو السبب في ذلك، فكذلك التوبة عن المعاصي والفطرة لرمضان شرعتا ترغيمًا له، لأن المعاصي والرفث الحاصل في الصيام بسببه، أعاذنا الله وجميع المؤمنين من مكايده ومصايده وغوائله، وسلمنا من آفات الدنيا وبلائها، وأخرجنا منها إلى رحمته وكرامته برحمته ومنه آمين. (فصل) وإنما سمى العيد عيدًا لأنه يعيد الله إلى عبادة الفرح والسرور في يوم عيدهم. وقيل: إنما سمى عيدًا لأن فيه عوائد الإحسان من الله وفوائد الامتنان منه للعبد. وقيل: لأنه يعود العبد فيه إلى التضرع والبكاء، ويعود الرب -عز وجل -فيه إلى الهبة والعطاء. وقيل: لأنهم عادوا إلى مثل ما كانوا عليه من الطهارة. وقيل: معناه عادوا من طاعة الله إلى طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم -، ومن الفريضة إلى السنة، ومن صوم رمضان إلى صوم ستة أيام من شوال. وقيل: إنما سمى عيدًا لأنه يقال المؤمنين فيه: عودوا إلى منازلكم مغفورًا لكم. وقيل: إنما سمى العيد عيدًا لأن فيه ذكر الوعد والوعيد، ويوم الجزاء والمزيد، ويوم عتق الإماء والعبيد، وإقبال الحق إلى القريب من خلقه والبعيد، ووجود الإنابة والأوبة من العبد الضعيف إلى الغفور الودود. قال وهب بن منبه -رحمه الله -: خلق الله الجنة يوم الفطر، وغرس شجرة طوبى يوم الفطر، واصطفى جبريل -عليه السلام -للوحي يوم الفطر، والسحرة وجدوا المغفرة يوم الفطر. وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "إذا كان يوم الفطر وخرج الناس إلى الجبانة اطلع الله عليهم فيقول: عبادي لي صمتم ولي صليتم انصرفوا مغفورًا لكم". وروى عن أنس بن مالك -رضي الله عنه -أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "ليلة الفطر يوفى الله تعالى أجور من صام شهر رمضان، فيأمر الله تعالى غداة الفطر لملائكته فيهبطون إلى الأرض، ويقومون على أفواه السكك ومجامع الطرق فينادون بصوت يسمعه جميع الخلائق إلا الإنس والجن: يا أمة محمد أخرجوا إلى ربكم -عز وجل -، يشكر القليل ويعطى الجزيل ويغفر الذنب العظيم، فإذا برزوا إلى مصلاهم وصلوا ودعوا لم يدع لهم

(فصل) وأربعة أيعاد لأربعة أقوام

الرب تبارك وتعالى حاجة إلا قضاها ولا سؤالاً إلا أجابه ولا ذنبًا إلا غفره، فينصرفون مغفورًا لهم". وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما -: "فإذا كانت ليلة الفطر سميت تلك الليلة ليلة الجائزة، وإذا كان غداة الفطر بث الله ملائكته في كل البلاد، فيهبطون إلى الأرض فيقومون على أفواه السكك فينادون بصوت يسمعه كل من خلق الله تعالى إلا الجن والإنس، فيقولون: يا أمة محمد اخرجوا إلى رب كريم يعطى الجزيل ويغفر الذنب العظيم، فإذا برزوا إلى مصلاهم يقول الله تعالى لملائكته: يا ملائكتي، فيقولون: لبيك وسعديك، فيقول لهم: ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟ فيقولون: إلهنا وسيدنا ومولانا -توفيه أجره، فيقول جل جلاله: أشهدكم يا ملائكتي أني قد جعلت ثواب صيامهم من شهر رمضان وقيامهم رضائي ومغفرتي، ثم يقول: يا عبادي سلوني فوعزتي وجلالي لا تسألوني اليوم في جمعكم شيئًا لآخرتكم إلا أعطيتكم، ولا لدنياكم إلا نظرت لكم، وعزتي وجلالي لأسترن عليكم عثراتكم ما راقبتموني، ولا أخزيكم ولا أفضحكم بين أصحاب الحدود، انصرفوا مغفورًا لكم، قد أرضيتموني ورضيت عنكم، قال: فتفرح الملائكة وتستبشر بما يعطى الله -عز وجل -هذه الأمة إذا أفطروا من شهر رمضان". (فصل) وأربعة أيعاد لأربعة أقوام: أحدها: عيد قوم إبراهيم، قوله -عز وجل -: {نظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم} [الصافات: 88 - 89]. وذلك أن قومه خرجوا إلى عيد لهم فتخلف إبراهيم -عليه السلام -عنهم واعتل بعلة ولم يخرج معهم، لأنه لم يكن على دينهم، فلما خرجوا أخذ فأسًا وكسر أصنامهم، وجاء بالفأس فوضعه على عنق الضم الكبير، فلما رجعوا قالوا: {من فعل هذا بآلهتنا ...} [الأنبياء: 59] إلى قوله -عز وجل -: {أأنت فعلت هذا بآياتنا يا إبراهيم} [الأنبياء: 62] القصة إلى آخرها، فغار خليل الرحمن -عليه السلام -لربه، فأتعب يده بكسر الأصنام وخاطر بنفسه في ولاية رب الأنام، فأكرمه ربه بالخلة، وأحيا على يده الطيور الميتة، وأخرج من ظهره أهل الرسالة والنبوة وجعله أبا المصطفى خير البرية -صلى الله عليه وسلم -. وأما العيد الثاني: فهو عيد قوم موسى كليم الرحمن -عليه السلام -، قوله -عز وجل -: {موعدكم يوم الزينة} [طه: 59].

قيل: سمى يوم الزينة لأنه -عز وجل -زين موسى وقومه بإهلاك عدوهم فرعون وقومه، فخرج مع فرعون وقومه اثنان وسبعون ساحرًا، وقيل: ثلاثة وسبعون، ومعهم ستمائة ألف عصا وحبل، وجعلوا في وسط العصا الزئبق، والخلائق قيام على الرمضاء، واشتد حر الشمس فسأل الزئبق فسعت العصى الملتفة بالحبال، فتخيل للناس أنها حيات تسعى وهي لا تتحرك {فأوجس في نفسه خيفة موسى} [طه: 67] على قومه، قال: ربما يتوهمون أن الذي فعلوه حق فينقص إيمانهم أو يرتدون، فقال الله تعالى لموسى -عليه السلام -: {وألق عصاك} [النمل: 10] فألقاها فإذا هي تلقف ما يأفكون وألقى موسى عصاه فإذا هي حية كأعظم جمل يكون، ولها عينان تتقدان نارًا، ودمدمة وهيبة، فأقبلت على ما صنعوا من السحر والحبال والعصى فتلقفتها، يعني التقمتها بأسرها ولم تتغير بانفتاخ بطن ونقصان حركة ولا زاد في طولها ولا في عرضها {فألقى السحرة ساجدين} [الشعراء: 46] له -عز وجل -وكان أكبرهم اسمه شمعون، فـ {قالوا آمنا} [الشعراء: 47] يعني صدقنا بـ {رب موسى وهارون} [الشعراء: 48] ثم أقبلت الحية على عسكر فرعون وقومه فانهزموا. وقيل: مات منهم خمسون ألفًا، القصة بطولها. وأما الثالث: فهو عيد عيسى -عليه السلام -وقومه، قوله تعالى: {اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا وآية منك} [المائدة: 114]. وذلك أن الحواريين قالوا: يا عيسى هل يستطيع ربك أن يعطيك إن سألته أن ينزل علينا مائدة من السماء، قال لهم عيسى -عليه السلام -: اتقوا الله فلا تسألوه البلاء إن كنتم مؤمنين، فإنها إن أنزلت ثم كذبتم بها عوقبتم {قالوا نريد أن نأكل منها} [المائدة: 113] فقد جعنا {وتطمئن قلوبنا} [المائدة: 113] يعني تسكن قلوبنا إلى ما تدعونا إليه من الإيمان والتصديق {ونعلم أن قد صدقتنا} [المائدة: 113] بأنك نبي ورسول {ونكون عليها} [المائدة: 113] يعني على المائدة {من الشاهدين} [المائدة: 113] عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم. والحواريون هم الذين أجابوا عيسى -عليه السلام -حين مر بهم وهم ببيت المقدس يقصرون الثياب. وبالنبطية: الحواريون: المبيضون للثياب، وهم اثنا عشر رجلاً لما قال لهم عيسى عليه

السلام -: {من أنصاري إلى الله} [الصف: 14، وآل عمران: 52] يعني من ينصرني مع الله على أهل الكفر والطغيان فأدعوهم إلى طاعة الله تعالى وتوحيده فـ {قال الحواريون نحن أنصار الله} [الصف: 14، وآل عمران: 52] فتركوا معيشتهم واتبعوا عيسى -عليه السلام -يسبحون معه أينما توجه من الأرض، فيرون العجائب والمعجزات التي تجرى على يده عليه السلام -، فأي وقت جاعوا أو احتاجوا إلى الطعام أخرج عيسى يده فأخرج من الأرض لكل واحد منهم رغيفين ولنفسه كذلك، وكان جبريل -عليه السلام يمشي معه ويريه العجائب ويؤيده ويبصره بالأشياء، فما زال عيسى -عليه السلام -يرى بني إسرائيل العجائب ولم يزدهم ذلك إلا بعدًا من تصديقه وإتباعه، حتى يخرج معه يومًا خمسة آلاف بطريق من بني إسرائيل وسألوه المائدة مع الحواريين، فقال عيسى ابن مريم -عليه السلام -عند ذلك: {اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا} [المائدة: 114]. يقول: تكون عيدًا لمن كان في زماننا عند نزول المائدة، وتكون عيدًا لمن بعدنا، وتكون المائدة {آية منك وارزقنا} [المائدة: 114] يعني المائدة {وأنت خير الرازقين} [المائدة: 114] من غيرك فإنك خير من يرزق {قال الله} [المائدة: 115] تعالى: {إني منزلها} [المائدة: 115] يعني المائدة عليكم {فمن يكفر بعد منكم} [المائدة: 115] أي بعد نزولها منكم {فإني أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين} [المائدة: 115] فأنزلها الله عليهم يوم الأحد من السماء سمكًا طريًا وخبزًا رقاقًا وتمرًا. وقيل: كانت سفرة فيها سمكة مشوية، وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وفيها خمسة أرغفة، على كل رغيف زيتونة، وخمس رمانات وتمرات قد نضد حولها من البقول ما خلا الكراث. وقيل: إن عيسى -عليه السلام -قال لأصحابه وهم جلوس في روضة: هل مع أحد منكم شيء؟ فجاء شمعون بسمكتين صغيرتين وخمسة أرغفة، وجاء آخر بشيء من السويق، فعمد عيسى -عليه السلام -فقطعهما صغارًا وكسر الخبز فوضعه فلقًا، ووضع السويق، وتوضأ ثم صلى ركعتين ودعا ربه، فألقى الله سبحانه وتعالى على أصحابه شبه السبات، ففتح القوم أعينهم وزاد الطعام حتى بلغ الركب، فقال عيسى -عليه السلام -للقوم: كلوا وسموا الله ولا ترفعوا، وأمرهم أن يجلسوا حلقًا حلقًا، فجلسوا وأكلوا

حتى شبعوا وهم خمسة آلاف رجل، وقيل إنهم كانوا ألف رجل وثمانمائة رجل وامرأة من بين فقير وجائع وبين من له فاقة إلى رغيف واحد، فصدروا كلهم شباعًا يحمدون ربهم، وإذا ما عليها كهيئته، ورفعت السفرة إلى السماء وهم ينظرون، قال فاستغنى كل فقير أكل منها يومئذ فلم يزل غنيًا حتى مات، وبرئ كل زمن وشفى كل مريض. وقال مقاتل: فنادى عيسى -عليه السلام -: أكلتم؟ قالوا: نعم، قال: فلا ترفعوا، قالوا: لا نرفع ورفعوا، فبلغ كل ما رفعوا من الفضل أربعة وعشرين مكتلاً، فآمنوا عند ذلك بعيسى -عليه السلام -وصدقوا به ثم رجعوا إلى قومهم اليهود، يعني بني إسرائيل ومعهم فضل المائدة، فلم يزل بهم قومهم حتى ارتدوا عن الإسلام، وكفروا بالله تعالى، وجحدوا بنزول المائدة، فمسخهم الله -عز وجل -وهم نيام خنازير ذكور، وليس فيهم صبى ولا امرأة. وقيل في ذلك إشارة: مائدة وضع عليها طعام محدود، صدر عنها الجم الغفير والجمع الكثير وهي بحالها، فكيف بمائدة الرضا وبساط الرحمة التي لا حد لها ولا نهاية. ففي الخبر "إن لله -عز وجل -مائة رحمة، واحدة أنزلها إلى خلقه فبها يتراحمون وبها يتعاطفون، وأخر تسعة تسعين عنده يرحم بها عباده يوم القيامة". وفي خبر آخر "أن يوم القيامة يبسط الجليل جل جلاله بساط المجد يدخل ذنوب الأولين والآخرين في حواشيه ويبقى البساط فارغًا حتى يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه". ومع ذلك لا ينبغي لكل عاقل لبيب أن يتكل على ذلك ويغتر به، ولا يغلبه الرجاء فيهلك، بل يبذل مجهوده ويستفرغ وسعه في أداء الأوامر وانتهاء النواهي وتسليم الأمور والقدر إلى الله -عز وجل -، ويكثر من الاستغفار والتوبة، ويكون أبدًا على حذر، لا خوف مؤيس من رحمة الله، ولا رجاء يوقع في ارتكاب المحارم وإهمال الأوامر، بل يبتغى بين ذلك سبيلاً، كما قيل: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا، فليكن خوفه ورجاؤه كجناحي الطائر، والطائر لا يطير بجناح واحد. وأما العيد الرابع: فهو عيد أمة محمد -صلى الله عليه وسلم -وقد ذكرنا ما يتعلق به أول المجلس.

(فصل) يشترك المؤمن والكافر في العيد

(فصل) يشترك المؤمن والكافر في العيد، فكل له عيد، فالمؤمن عيده لرضا الرحمن، والكافر عيده لرضا الشيطان، المؤمن يذهب إلى عيده وعلى رأسه تاج الهداية وعلى عينيه علامة فكرة العبرة، وعلى أذنيه استماع الحق، وعلى لسانه الشهادة بالتوحيد، وفي قلبه المعرفة واليقين، وعلى عنقه رداء الإسلام، وفي وسطه منطقة العبودية، ومعدنه المحاريب والمساجد، ومعبوده رب العباد والبرية، ثم التضرع منه والسؤال، ويقابله الرب بالإجابة والنوال، ثم يحله دار الكرامة والجنان. والكافر يذهب إلى عيده وعلى رأسه تاج الخسران والضلال، وعلى أذنيه ختم الغفلة والحجاب، وعلى عينيه السهو والشهوات، وعلى لسانه ختم الشقاوة والإبعاد، وعلى قلبه ظلمة النكرة والجحود، وعلى وسطه زنار الفرقة والشقاق، وموضعه البيعة والكنائس أو بيت النار، ومعبوده الوثن والأصنام، ومصيره آخرًا إلى جهنم والنيران. (فصل) ليس العيد بلبس الناعمات وأكل الطيبات ومعانقة المستحسنات والتمتع باللذات والشهوات. لكن العيد بظهوره علامة القبول للطاعات، وتكفير الذنوب والخطيئات، وتبديل السيئات بالحسنات، والبشارة بارتفاع الدرجات، والخلع والطرف والهبات والكرامات، وانشراح الصدر بنور الإيمان، وسكون القلب بقوة اليقين وما ظهر عليه من العلامات، وانفجار بحور العلوم من القلوب على الألسنة وأنواع الحكم والفصاحة والبلاغة. كما قيل: إن رجلاً دخل على علي -رضي الله عنه -وكرم الله وجهه في يوم عيد وهو يأكل الخبز الخشكار فقال له: اليوم يوم العيد وأنت تأكل الخبز الخشكار؟ فقال: اليوم عيد لمن قبل صومه، وشكر سعيه، وغفر ذنبه، اليوم لنا عيد وغدًا لنا عيد، وكل يوم لا نعصى الله فيه فهو لنا عيد. فينبغي لكل عاقل أن يترك النظر إلى الظاهر ولا يتقيد به، بل يكون نظره في يوم العيد نظر التفكير والاعتبار، فيشبه العيد بيوم القيامة، فليذكر نفخ الصور يوم القيامة عند سمع صوت بوق السلطان ليلة العيد، وإذا بات الناس ليلة العيد ورقدوا منتظرين عيدهم متأهبين له، فيذكر الرقود بين النفختين، وإذا رأى الناس صبيحة يوم العيد وقد خرجوا من قصورهم وبيوتهم مختلفى الأحوال متفاوتى اللباس والألوان كل له زى وحلية، واحد منهم مسرور وواحد مغموم، وواحد راكب وآخر ماش، وواحد غني

وآخر فقير، وواحد في فرحة وآخر في ترحة، فليذكر تفاوت أهل القيامة، أهل الطاعة مسرور وأهل المعصية مغموم، المتقى راكب والمجرم المشرك متعثر مكبوب على وجهه مسحوب أو ماش. كما قال عز من قائل: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدًا} [مريم: 85] أي ركبانًا على النجائب {ونسوق المجرمين إلى جهنم وردًا} [مريم: 86] أي عطاشًا. والزاهد والعارف والبدل كل واحد في راحة وغنى عند مليكهم ومحبوبهم تحت ظل العرش عليهم الحلى والحلل، وأنوار الطاعات والمعارف على وجوههم ظاهرة وهي نضرة مشرقة، وبين أيديهم موائد عليها أنواع الأطعمة والأشربة والفواكه حتى يقضى حساب الخلائق، ثم يصيرون إلى الجنة إلى منازلهم التي أعد الله تعالى لهم، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. كما قال الله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 17]. وأما الراغب في الدنيا فهو في نياحة وبكاء وعناء، ومصدود عما فيه القوم من النعيم بدنياه، وتناوله الحرام والشبهات، وتخليطه في طاعة ربه، وهو يرى مكانه في الجنة فلا يصل إليه حتى يخرج مما عليه من الحقوق. والكافر ينادى بالويل والثبور لما قد عاين وانكشف له من أنواع العذاب والنكال والهوان والهلاك والخلود في النيران، وإذا رأى الأعلام قد نشرت والألوية قد ضربت فليذكر أهل الإسلام أصحاب الأعلام حين ينادى منادي الرحمن بالتوجه إلى زيارة رب الأنام إلى دار السلام بأمر السلام. وإذا رأى الصفوف قد استكملت والخلائق قد اجتمعت فليذكر وقوف الخلائق بين يدى الجبار وصفوف الفجار والأبرار يوم النشر الذي فيه تظهر الأسرار. وإذا رأى الناس قد انصرفوا من الجبانة فكل يرجع إلى ما قد قسم له من دار أو مسجد أو خان، فليذكر منصرف الخلائق من بين يدى الملك المنان الديان إلى الجنة أو إلى النار كما قال ذو العظمة والامتنان: {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون} [الروم: 14] {فريق في الجنة وفريق في السعير} [الشورى: 7]. * * *

مجلس في فضائل أيام العشر

مجلس في فضائل أيام العشر قوله -عز وجل -: {والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر * والليل إذا يسر * هل في ذلك قسم لذى حجر} [الفجر: 1 - 5]. {والفجر} اختلف الناس في ذلك، فقال ابن عباس -رضي الله عنهما -عنى بالفجر: صلاة الصبح، {وليال عشر} هي عشر ذي الحجة {والشفع} الخلق {والوتر} هو الله {والليل إذا يسر} يعنى إذا ذهب {هل في ذلك قسم لذى حجر} أي إن ذلك قسم لذى لب وعقل، وجواب القسم قوله تعالى: {إن ربك لبالمرصاد} [الفجر: 14]. وقال مقاتل -رحمه الله: {والفجر} عنى به: غداة جمع يوم النحر، {وليال عشر} وهي عشر ليال قبل الأضحى، وإنما سماها -عز وجل -: ليال عشر، لأنها تسعة أيام وعشر ليال، {والشفع والوتر} أما الشفع: فآدم وحواء -عليهما السلام -، والوتر: فهو لله -عز وجل -، {والليل إذا يسر} إذا أقبل، وهي ليلة الأضحى، فأقسم -عز وجل -بيوم النحر والعشر وبآم وحواء، وأقسم بنفسه تبارك وتعالى وبليلة الأَحى، فلما فرغ منها قال: {هل في ذلك قسم لذي حجر} يعنى: هل في ذلك القسم كفاية لذي لب، يعني ذا عقل، فيعرف عظم هذا القسم {إن ربك لبالمرصاد}. وقيل: المراد بالفجر: فجر النهار، وقيل: هو النهار، فعبر عنه بالفجر، لأنه أوله. وقال مجاهد -رحمه الله -: هو فجر يوم النحر خاصة. وقال عكرمة -رحمة الله -: أقسم الله تعالى بانفجار المياه من العيون والنبات من الأرض، والثمار من الشجر. وقيل: أقسم الله بانفجار الماء من أصابع النبي -صلى الله عليه وسلم -. وقيل: أقسم الله بانفجار الصخرة وخروج الناقة لصالح. وقيل: أقسم الله تعالى بانفجار الماء من الحجر بعصا موسى -عليه السلام -. وقيل: أقسم الله بانفجار الماء من عيون العصاة. وقيل: أقسم الله تعالى بانفجار المعرفة من القلوب كما قال الله تعالى: {أومن كان

ميتًا فأحييناه} [الأنعام: 122] يعنى بالإيمان والمعرفة، وأيضًا قوله تعالى: {وليال عشر}. روى جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: {والفجر وليال عشر}: هي عشر الأضحى" وقال ابن الزبير وابن عباس -رضي الله عنهم -: إنها عشر ذي الحجة، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما -، في رواية أخرى: إنه العشر الأواخر من شهر رمضان. وقال مجاهد -رحمه الله -: إنها عشر موسى -عليه السلام -. وقال محمد بن جرير الطبرى -رحمه الله -: إنها عشر أول المحرم. قوله تعالى: {والشفع والوتر}: قال قتادة والسدى -رحمهم الله -: الشفع: كل اثنين، والوتر. هو الله تعالى. وقيل: هما آدم وحواء، وهو قول مقاتل، وهو أن آدم كان وترًا فشفع بزوجته حواء. وقيل: الصلاة منها شفع، ومنها وتر. قال الربيع بن أنس وأبو العالية -رحمهم الله -: هي صلاة المغرب الشفع فيها ركعتان، والوتر الثالثة. وقيل: الشفع هو يوم النحر، لأنه العاشر، والوتر هو يوم عرفة لأنه التاسع. وقيل: الشفع يومان بعد النحر، والوتر اليوم الثالث. قوله تعالى: {والليل إذا يسر} يعنى إذا ذهب. وقيل: إذا أظلم. وقيل: إنه ليلة المزدلفة خاصة. وقيل: يعنى إذا سرى فيه أهله، لأن السرى: هو سرى الليل. وقوله تعالى: {هل في ذلك قسم لذى حجر} يعنى لذى عقل، وهو قول ابن عباس -رضي الله عنهما -. وقال الحسن وأبو رجاء -رحمهما الله -: لذى علم، وقال محمد بن كعب -رحمة الله -لذى دين، معناه: إن في ذلك قسم لذى حجر، و"هل" هاهنا في موضع "إن". ومعنى قوله -عز وجل -: {والفجر * وليال عشر} وحق رب الفجر، وحق رب ليال عشر إلى آخر القسم، وكذلك فيما شاكل ذلك كقوله تعالى. {والشمس وضحاها} [الشمس: 1]، {والسماء والطارق} [الطارق: 1]، {والسماء ذات البروج} [البروج: 1] وغيرها.

فصل فيما ورد في عشر ذي الحجة من كرامات الأنبياء

فصل فيما ورد في عشر ذي الحجة من كرامات الأنبياء وما نقل في ذلك من الأخبار والأنباء وفضائل الأعمال أخبرنا الشيخ أبو البركات، قال: أنبأنا الشيخ الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب، قال: أنبأنا محمد بن أحمد بن زرقونة، قال: أنبأنا محمد بن عبد الله الشافعي -رحمه الله، قال: أنبأنا محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بحلب، قال: أنبأنا عمرو بن عثمان، قال: أنبأنا الوليد، عن ابن المبارك، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، -رضي الله عنهما -أنه قال في عشر ذي الحجة: قبل الله توبة آدم، وتاب عليه بعرفة، لأنه اعترف بذنبه. وفيه وجد إبراهيم الخليل -عليه السلام -الخلة فبذل ماله للضيفان، ونفسه للنيران، وولده للقربان، وقلبه للرحمن، ولم يصح لأحد التوكل إلا لإبراهيم خليل الرحمن. وفيه بنى إبراهيم -عليه السلام -الكعبة الشريفة قال الله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} [البقرة: 127]. وفيه أكرم الله موسى -عليه السلام -بالمناجاة. وفيه نزلت على داود المغفرة وفيه كانت ليلة المباهاة. وقيل: فيه افتتاح نزول القرآن بكرة يوم الأضحى والنبي -صلى الله عليه وسلم -متوجه إلى المصلى. وفيه كانت بيعة الرضوان، فأنزل الله تعالى: {إذ يبايعونك تحت الشجرة} [الفتح: 18] وهي شجرة سمرة كان ذلك يوم الحديبية، وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ألف وأربعمائة رجل، وقيل: ألف وخمسمائة رجل، وأول من أطلق يده للمبايعة أبو سنان الأسدى، عليه وعلى جميع الصحابة -رحمة الله تعالى -وبركاته وتحياته والتابعين لهم بإحسان. وفيه يوم التروية، ويوم عرفة، ويوم النحر وهو يوم الحج الأكبر، وأخبرنا الشيخ أبو البركات، عن أحمد بن علي الحافظ، بإسناده عن أبى سعيد الخدرى -رضي الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "سيد الشهود شهر رمضان، وأعظمها حرمة ذو الحجة". وأخبرنا الشيخ أبو البركات، عن الفضل بن محمد القصار الأصفهاني قال: أنبأنا أبو

سعيد الحسن بن علي بن سهلان، قال: أخبرنا عبد الله بن محمد الوراق قال: أخبرنا أبو بكر البزار، قال: أخبرنا أبو كامل الفضل بن الحسن الجحدرى، قال: أنبأنا أبو عاصم بن هلال، عن أيوب، عن ابن الزبير، عن جابر -رضي الله عنه -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "أفضل أيام الدنيا أيام عشر ذي الحجة، قيل: ولا مثلها في سبيل الله؟ قال: ولا مثلها في سبيل الله، إلا رجل عفر وجهه في التراب". وأخبرنا الشيخ أبو البركات عن القاضي أبى المضفر هناد بن إبراهيم البخارى النسفى بإسناده عن عطاء بن أبى رباح، قال: سمعت عائشة -رضي الله عنها -قالت: "كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -رجل يحب السماع يعنى الغناء، وكان إذا أهل هلال ذي الحجة أصبح صائمًا، فاتصل الحديث برسول الله -صلى الله عليه وسلم -فأحضروا الرجل وقال له: "ما حملك على صيام هذه الأيام، فقال: يا رسول الله إنها أيام مشاعر وأيام الحج، فأحببت أن يشركنى الله تعالى في دعائهم فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم -: لك بعدد كل يوم تصومه عتق مئة رقبة ومئة بدنة تهديها، ومئة فرس تحمل عليها في سبيل الله، فإذا كان يوم التروية، فلك عتق ألف رقبة وألف بدنة تهديها في سبيل الله وألف فرس تحميل عليها في سبيل الله، فإذا كان يوم عرفة فلك عتق ألفى رقبة وألفى بدنة تهديها وألفى فرس تحمل عليها في سبيل الله، وصيام سنة قبلها وسنة بعدها". وأخبرنا الشيخ أبو البركات بإسناده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما -قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله -عز وجل -منه في هذه الأيام، يعنى أيام العشر، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء". وأخبرنا الشيخ أبو البركات، عن أبى بكر بن أحمد بن علي بن ثابت الحافظ بإسناده عن هيبرة بن خالد الخزاعى، عن حفصة -رضي الله عنها -أنها قالت: "أربع لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم -يتركهن: صوم عشر ذي الحجة، وعاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين قبل الغداة". وأخبرنا الشيخ أبو البركات، عن حمزة بن عيسى بن الحسن الوراق بإسناده عن

(فصل) وأما الصلاة الواردة في أيام العشر

سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة -رضي الله عنه -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "ما من أيام أحب إلى الله تعالى أن يتعبد له فيهن من أيام عشر ذي الحجة، وإن صيام يوم يعدل صيام سنة، وقيام ليلة كقيام سنة". وأخبرنا الشيخ أبو البركات عن الحسن بن أحمد المقرئ بإسناده، عن محمد بن المنكدر، عن جابر -رضي الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "من صام أيام العشر كتب الله له بكل يوم صوم سنة". وعن سعيد بن جبير -رحمه الله -أنه كان يقول: لا تطفئوا سرجكم ليال العشر، ويأمر بإيقاظ الخدم، وتعجبه فيه العبادة. (فصل) وأما الصلاة الواردة في أيام العشر: فما أخبرنا به الشيخ أبو البركات، عن الشريف أبى عبد الله محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن المهدي بإسناده، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنهما -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "من أحيا ليلة من ليالي عشر ذي الحجة، فكأنما عبد الله عبادة من حج واعتمر طول سنته، ومن صام سنته، ومن صام فيها يومًا فكأنما عبد الله تعالى سائر سنته". وأخبرنا الشيخ أبو البركات عن محمد بن محمد بن عبد العزيز الشاهد بإسناده عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين زين العابدين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي -رضي الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "إذا دخل عشر ذي الحجة، فجدوا في الطاعة، فإنها أيام فضلها الله تعالى وجعل حرمة ليلها كحرمة نهارها، فمن صلى في ليلة من ليالي العشر في الثلث الأخير أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بالحمد مرة، والمعوذتين، ويكرر سورة الإخلاص ثلاثًا، ويقرأ آية الكرسي، ويكرر ذلك في كل ركعة، فإذا فرغ من صلاته رفع يديه وقال: سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان ذي القدرة والملكوت، سبحان الله الحي الذي لا يموت، لا إله إلا هو يحيى ويميت، وهو حي لا يموت، سبحان الله رب العباد والبلاد، والحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا على كل حال، الله أكبر كبيرًا، ربنا جل

(فصل) والعشر لخمسة أنبياء -عليهم السلام -

جلاله وقدرته بكل مكان -قال الشيخ: يعني علمه بكل مكان -ثم يدعو بما شاء، فإن له من الأجر بإزاء من حج إلى بيت الله الحرام وزار قبر النبي -صلى الله عليه وسلم -وجاهد في سبيل الله، ولم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه، وإن صلاها في كل ليلة من ليالي العشر، أحله الله تعالى الفردوس الأعلى، ومحا عنه كل سيئة، وقيل له: استأنف العمل، فإذا كان يوم عرفة، وصام نهارها، وصلى ليلها، ودعا بهذا الدعاء، وأكثر التضرع بين يدي الله تعالى يقول الله: يا ملائكتي اشهدوا أني قد غفرت له وأشركته بالحجاج إلى بيتي، قال: فتستبشر الملائكة بما يعطى الله تعالى ذلك العبد بصلاته ودعائه. (فصل) والعشر لخمسة أنبياء -عليهم السلام -: الأول: عشر آدم -عليه السلام -، وهو أنه لما خلق الله حواء من ضلعه الأيسر القصير وهو نائم، فاستيقظ من سنته، فرأى حواء جالسة عنده، فقال لها: لمن أنت؟ قالت: لك، فأراد أن يمسها، فقيل له. لا تمسها حتى تعطى مهرها، قال: إلهي وما مهرها؟ قال الله تعالى: هو أن تصلى على نبي آخر الزمان عشرًا فلذلك مهرها. والثاني: عشر إبراهيم خليل الرحمن -عليه السلام -، قال الله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} [البقرة: 124] وهي عشر خصال: خمس منها في الرأس: الفرق، وقص الشارب، والسواك، والمضمضة، والاستنشاق، وخمس منها في البدن: وهي تقليم الأظفار، ونتف الإبطين، والختان، وحلق العانة، وتخليل الأصابع. فلما أتم إبراهيم -عليه السلام -هذه الخصال العشرة أكرمه الله تعالى بالخلة، قوله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} [النساء: 125]. والثالث: عشر شعيب النبي -عليه السلام -، قوله -عز وجل -: {فإن أتممت عشرًا فمن عندك} [القصص: 27] وهو أنه أجره موسى -عليه السلام -نفسه عشرين سنين، فكان أجرته مهر ابنة شعيب النبي -عليه السلام -. وقيل: إن شعيبًا -عليه السلام -بكى عشرين سنة حتى ذهب بصره، فرد الله بصره عليه فأوحى الله إليه: يا شعيب إن كنت تخاف النيران فقد أمنتك، وإن كنت تريد الجنان فقد وهبت لك، وإن كنت تطلب الرضوان فقد أعطيتك، فقال: يا جبريل ليس بكائي حبًا للجانان، ولا خوفًا من النيران، ولكن شوقًا إلى لقاء الرحمن، فقال الله -عز وجل -:

فصل من أكرم هذه الأيام العشرة أكرمه الله تعالى بعشر كرامات

الآن حق لك، فابك ثم ابك ثم عوض لبكائه وهو أن جعل الله نبيه موسى -عليه السلام -خادمًا له عشر سنين، جزاء لما كان من بكائه على محبته، سوى ما قد ادخر له عنده من الكرامات والمنازل العاليات والقرب منه تبارك وتعالى، والنظر إلى وجهه الكريم، وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. والرابع: عشر موسى -عليه السلام -، قوله -عز وجل -: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} [الأعراف: 142]. وذلك أن الله -عز وجل -وعد موسى -عليه السلام -المناجاة، وأعطاه التوراة، فصام موسى -عليه السلام -ثلاثين يومًا، وكان ذلك شهر ذي الحجة، وقيل: إنه شهر ذي القعدة، فلما قصد المناجاة وضع قطعة زيتون في فيه لما شاهد من تغير رائحة فمه، فقال -عز وجل -: يا موسى أما علمت أن خلوف فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك؟ ثم أمره أن يصوم عشرًا من المحرم آخرها يوم عاشوراء. وعلى قول من قال: الشهر كان ذا القعدة، فيكون عشر ذي الحجة، ثم قربه وأكرمه بالمناجاة والقربة، قوله -عز وجل -: {ولما جاء موسى لميقاتنا} [الأعراف: 143]. والخامس: عشر نبينا المصطفى -صلى الله عليه وسلم -قوله تعالى: {والفجر * وليال عشر} [الفجر: 1 - 2] يعنى عشر ذي الحجة، وقد ذكرناه. (فصل) وقيل: من أكرم هذه الأيام العشرة أكرمه الله تعالى بعشر كرامات: البركة في عمره، والزيادة في ماله، والحفظ لعياله، والتكفير لسيئاته، والتضعيف لحسناته، والتسهيل لسكراته، والضياء لظلماته، والتثقيل لميزانه، والنجاة من دركاته، والصعود على درجاته. ومن تصدق في هذه الأيام العشر بصدقة على مسكين، فكأنما تصدق على أنبيائه ورسله، ومن عاد فيها مريضًا فكأنما عاد أولياء الله وبدلائه، ومن شيع جنازة فكأنما شيع جنائز شهدائه، ومن كسا مؤمنًا كساه الله تعالى من حلله، ومن لطف فيها بيتيم لطف الله تعالى به في القيامة تحت ظل عرشه، ومن حضر مجلسًا من مجالس العلم، فكأنما حضر مجالس أنبياء الله ورسوله. وقال وهب بن منبه -رحمه الله -: إن آدم -عليه السلام -لما أهبط إلى الأرض بكى على ذنبه ستة أيام، ثم أوحى الله إليه في اليم السابع وهو محزون كظيم منكس رأسه، يا

(فصل) وقد أقسم الله تعالى بـ {الفجر وليال عشر

آدم ما هذا الجهد الذي بك؟ فقال: إلهي عظمت مصيبتي، وأحاطت بي خطيئتي، وصرت في دار الهوان بعد الكرامة، وفي دار الشقاوة بعد السعادة، وفي دار الموت والفناء بعد الخلد والبقاء، فكيف لا أبكي على خطيئتي؟ فأوحى الله تعالى إليه: يا آدم أما اصطنعتك لنفسي، ثم اصطفيتك على خلقي، وخصصتك بكرامتي، وألقيت عليك محبتي؟ أما خلقتك بيدي وأسجدت لك ملائكتي؟ ألم تكن في بحبوحة كرامتي ومنتهى رحمتي، فعصيت أمري، ونسيت عهدي، فكيف نسيت نعمتي؟ فوعزتي وجلالي لو ملأت الأرض رجالاً كلهم مثلك يعبدوني ويسبحوني الليل والنهار ولا يفترون ثم عصوني لأنزلتهم منازل العاصين. قال: فبكى عند ذلك ثلاث مئة عام على جبل الهند تجري دموعه في أودية جبالها فنبتت من تلك الدموع أشجار طيبة، فقال له جبريل -عليه السلام -: اذهب إلى بيت الله الحرام، واصبر حتى تدخل أيام العشر، ثم تب إلى الله لعله يرحم ضعفك، فمضى فكان يخطو خطوة، فكان موضع قدميه عمرانًا، وما بينهما مفاوز. وقيل: كان بين قدميه ثلاثة فراسخ، حتى أتى البيت، فطاف بالبيت أسبوعًا، وبكى حتى خاض في دموعه إلى ركبتيه، وجرت على الأرض، فقال: لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءًا، وظلمت نفسي فاغفر لي وأنت خير الغافرين، وارحمني إنك أرحم الراحمين، فأوحى الله إليه: يا آدم قد رحمت ضعفك، وغفرت ذنبك، وقبلت توبتك، فذلك قوله -عز وجل -: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} [البقرة: 37] فوجد آدم من بركات أيام العشر - التوبة. وكذلك المؤمن الذي عصى ربه واتبع هواه في معصية مولاه إذا تاب وأناب، وانقاد لطاعة مولاه في هذه الأيام يتفضل عليه بالرحمة والغفران، وإبدال السيئات بالحسنات برحمة منه. (فصل) وقد أقسم الله تعالى بـ {الفجر وليال عشر * والشفع والوتر * والليل إذا يسر ...} إلى قوله: {إن ربك لبالمرصاد} وهي ثمان قناطر على جسر جهنم، فيسئل العبد في أول موقف منها عن الإيمان بالله، فإن كان مؤمنًا نجا، وإلا تردى في النار، ثم جاز إلى الثاني فيسئل عن الوضوء والصلاة، فإن قصر فيهما تردى إلى النار، وإن أكمل ركوعها وسجودها نجا، ثم جاز إلى الثالث فيسئل عن الزكاة، فإن كان قد أداها نجا، ثم

جاز إلى الرابع، فيسئل عن الصيام، فإن كمل صيامه نجا، ثم جاز إلى الخامس فيسئل عن الحج والعمرة، فإذا كان أداهما نجا، ثم جاز إلى السادس فيسئل عن الأمانة، فإن لم يخن فيها نجا ثم جاز إلى السابع فيسئل عن الغيبة والنميمة والبهتان، فإن لم يكن اغتاب نجا، ثم جاز إلى الثامن فيسئل عن أكل الحرام، فإن لم يكن أكل نجا وإلا تردى في النار. * * *

[مجلس] في ذكر يوم التروية

[مجلس] في ذكر يوم التروية قال الله -سبحانه وتعالى -: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً} [الحج: 27] وهذه الآية في سورة الحج، وهي من أعاجيب سور القرآن العظيم، لأن فيها مكيًا ومدنيًا وحضريًا وسفريًا وليليًا ونهاريًا، وفيها ناسخ ومنسوخ. فأما المكي فمن رأس ثلاثين آية منها إلى آخرها، وأما الآيات المدنية فمن رأس خمسة عشر إلى رأس الثلاثين، وأما الليالي منها فمن أولها إلى رأس خمس آيات، وأما النهاري منها فمن رأس خمس إلى رأس تسع، وأما الحضري منها فإلى رأس العشرين، ونسب ذلك إلى المدينة لقربها منها. وأما الناسخ، فقوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون} [الحج: 39]. وأما المنسوخ فثلاث آيات: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي} [الحج: 52] نسخت بقوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى: 6]. والثانية: قوله تعالى: {فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} [البقرة: 113] فنسخت بآية السيف. والثالثة: {وجاهدوا في الله حق جهاده} [الحج: 78] فنسخت بقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. قوله تعالى: {وأذن فى الناس بالحج} [الحج: 27] أي ناد يا إبراهيم ذريتك وغيرهم من بني آدم من المؤمنين بالحج {يأتوك رجالاً} [الحج: 27] أي يجيئون إليك رجالاً على أرجلهم {وعلى كل ضامر} [الحج: 27] يعني ركبانًا على الإبل {يأتين من كل فج عميق} [الحج: 27] يعني من كل أرض بعيدة وطريق بعيد. قال الله تعالى ذلك لإبراهيم -عليه السلام -حين فرغ من بناء البيت الحرام، وقال: إلهي من يقصد هذا البيت؟ فأمره أن يؤذن في الناس بالحج، فصعد أبا قبيس وهو الجبل الذي الصفا في أصله، فنادى بأعلى صوته: يا أيها الناس أجيبوا ربكم إن الله يأمركم أن تحجوا بيته، فسمع نداء إبراهيم كل مؤمن ومؤمنة على وجه الأرض.

(فصل: في فضل من أحرم بالحج ولبى وقصد البيت وإليه دنا)

وقيل من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فالتلبية اليوم جواب نداء إبراهيم -عليه السلام -عن أمر ربه، فأجابوا كلهم: لبيك لبيك فمن أجاب ذلك اليوم لا يخرج من الدنيا حتى يزور هذا البيت. (فصل: في فضل من أحرم بالحج ولبى وقصد البيت وإليه دنا) روى مجاهد عن ابن عباس -رضي الله عنهما -قال: "كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إذ أقبلت طائفة من اليمن قالوا: فداك الأمهات والأباء، أخبرنا بفضائل الحج، قال: نعم، أي رجل خرج من منزله حاجًا أو معتمرًا، فكلما رفع قدمًا ووضع قدمًا تناثرت الذنوب من قدميه كما يتناثر الورق من الشجر، فإذا ورد المدينة وصافحني بالسلام صافحته الملائكة بالسلام، فإذا ورد ذا الحليفة واغتسل طهره الله من الذنوب، وإذا لبس ثوبين جديدين جدد الله له الحسنات، وإذا قال: لبيك اللهم لبيك أجابه الله تعالى بلبيك وسعديك أسمع كلامك وأنظر إليك، وإذا دخل مكة فطاف وسعى بين الصفا والمروة أوصل الله له الخيرات، وإذا وقف بعرفات وضجت له الأصوات بالحاجات، باهى الله تعالى بهم ملائكة سبع سموات فيقول: ملائكتي وسكان سمواتي، أما ترون إلى عبادي أتوني من كل فج عميق شعثًا غبرًا، قد أتفقوا الأموال وأتعبوا الأبدان، فوعزتي وجلالي وكرمي لأهبن مسيئهم لمحسنهم، ولأخرجنهم من الذنوب كيوم ولدتهم أمهاتهم؟ فإذا رموا الجمار وحلقوا الرؤوس وزاروا البيت، نادى مناد من بطنان العرش: ارجعوا مغفورًا لكم واستأنفوا واستقبلوا العمل". وروى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أتاه أعرابي وقال له: يا رسول الله خرجت أريد الحج ففاتنى، وأنا رجل متزر -يعني محرمًا -فمرني بما أصنع فأبلغ به الحج أو مثل أجر الحج، قال: فالتفت إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فقال له: انظر إلى أبى قبيس، فنظر إلى أبى قبيس، قال له: فلو أن لك أبا قبيس ذهبًا أحمر وجعلته في سبيل الله ما بلغت ما بلغ الحاج، ثم قال -عليه السلام -: إن الحاج إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئًا ولا يضعه إلا كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات، فإذا ركب بعيره لم يرفع البعير خفًا ولا يضعه إلا كتب الله له مثل ذلك، فإذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه، فإذا سعى بين الصفا والمروة خرج من ذنوبه، فإذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه، ثم قال: إذا وقف بالمشعر الحرام خرج من ذنوبه، فإذا رمى الجمار خرج من

ذنوبه، ثم قال له: أنى لك أن تبلغ ما بلغ الحاج". وعن علي بن أبى طالب كرم الله وجهه أنه قال: "كنت طائفًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم -بالبيت الحرام، فقلت له: يا رسول الله فداك أبي وأمي، ما هذا البيت؟ فقال: يا علي، أسس الله تعالى هذا البيت في دار الدنيا كفارة لذنوب أمتي، فقلت: فداك أبي وأمي يا رسول الله، ما هذا الحجر الأسود؟ قال -صلى الله عليه وسلم -: تلك جوهرة كانت في الجنة، فأهبط الله بها إلى دار الدنيا، لها شعاع كشعاع الشمس، فاشتد سوادها وتغير لونها منذ مستها أيدي المشركين". وعن ابن مليكة عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما -أنه قال. سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يقول: ينزل الله على هذا البيت الحرام في كل ليلة ويوم مائة وعشرون رحمة، ستون منها للطافين بالبيت الحرام، وأربعون منها للعاكفين حول البيت الحرام، وعشرون منها للناظرين إلى البيت الحرام. وعن الزهرى عن سعيد بن المسيب عن عمر بن سلمة -رضي الله عنه -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "يقول الله تعالى: إن عبدًا صححت له في جسمه وفسحت له في عمره وتمضى عليه ثلاثة أعوام لا يغدو إلى هذا البيت إنه لمحروم إنه لمحروم}. وعن أبى سعيد الخدرى -رضي الله عنه -قال: "حججنا مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -في أول خلافته، فدخل المسجد حتى وقف عند الحجر، فقال: إنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يقبلك ما قبلتك، فقال له علي -رضي الله عنه -: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين فإنه يضر وينفع بإذن الله، ولو أنك قرأت القرآن وعلمت ما فيه لما أنكرت علي، فقال له عمر -رضي الله عنه -، يا أب الحسن وما تأويله في كتاب الله -عز وجل -؟ فقال: قوله تعالى: {وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم} [الأعراف: 172] فلما أقروا بالعبودية كتب إقرارهم في رق، ثم دعا الحجر فألقمه ذلك الرق، فهو أمين الله تعالى على هذا المكان ليشهد لمن وافاه يوم القيامة، فقال عمر -رضي الله عنه -: يا أبا الحسن لقد جعل الله بين ظهرانيك من العلم غير قليل. وعن أبى صالح عن أبى هريرة -رضي الله عنه -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال "الحجاج

والعمار وفد الله -عز وجل -إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم". وعن مجاهد -رحمه الله -أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج". وروى عن الحسن -رحمه الله -أنه قال في الخبر: "إن الملائكة يتلقون الحاج فيسلمون على صاحب الجمال وصافحون أصحاب البغال والحمير ويعانقون الرجالة". وروى عن الضحاك -رحمه الله -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -مرسلاً أنه قال: "أيما مسلم خرج من بيته قاصدًا في سبيل الله فوقصته الدابة قبل القتال أو لدغته هامة، أو مات بأي حتف مات فهو شهيد، وأيما مسلم خرج من بيته إلى بيت الله الحرام، ثم نزل به الموت قبل بلوغه إلا أوجب الله له الجنة". وعن سفيان بن عيينة -رحمه الله -عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة -رضي الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "من حج هذا البيت ثم عاد فلم يرفث ولم يفسق ولم يجهل عاد كما ولدته أمه". وروى عن سعيد بن المسيب -رحمه الله -عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليدخل ثلاثة نفر بالحجة الواحدة الجنة: الموصى بها، والمنفذ لها، والحاج عنه، والعمرة والجهاد كذلك". وعن علي بن عبد العزيز -رحمه الله -قال: كنت عديلاً لأبى عبيد القاسم بن سلام سنة من السنين، فلما صرت إلى الموقف فصرت إلى ركن جبل الحل، فتطهرت ونسبت نفقتي عنده، فلما صرت إلى المأزمين قال لي أبو عبيد: لو اشتريت لنا زبدًا وتمرًا، فخرجت لأبتاعه فتذكرت النفقة، ورجعت عودًا على بدء إلى أن وافيت الموضع، فإذا النفقة بحالها، فأخذتها ورجعت وكنت قد صادفت الوادي مملوءًا قردة وخنازير وغير ذلك فجزعت منهم، ثم إني رجعت فإذا هم على حالهم حتى دخلت على أبى عبيد قبيل الصبح، فسألني عن أمري فأخبرته وذكرت القردة والخنازير، فقال: تلك ذنوب بني آدم تركوها وانصرفوا.

(فصل) واختلفوا في تسمية يوم التروية

(فصل) واختلفوا في تسمية يوم التروية: والتروية: اسم اليوم الثامن من شهر ذي الحجة وهو اليوم الذي يخرج الناس فيه من مكة إلى منى، فسمى يوم التروية لأن الناس يروون من ماء زمزم. والتروية: تفعلة من قولهم ارتوى يرتوى: إذا استقى الماء وسقى وشرب واغتسل، والناس يسقون من ماء زمزم في ذلك اليوم مستكثرين. وقيل: سميت التروية لأن إبراهيم -عليه السلام -رأى في المنام في ليلتها أنه يذبح ولده، فلما أصبح تروى وتفكر أنه من العدو الشيطان، أم من الحبيب الرحمن؟ فبقى ذلك اليوم متفكرًا، ذا روية فيما رآه، فلما كان يوم عرفة قيل له. افعل ما تؤمر به، فعرف أنه من الحبيب، فلهذا سمى يوم عرفة. قوله -عز وجل -: {وأذن فى الناس بالحج} [الحج: 27] أمر خليله بدعوة عباده إلى بيته. فالدعوات أربعة: دعوة الله لعبادة، قال الله -عز وجل -: {والله يدعو إلى دار السلام} [يونس: 25] دعاهم من دار التكليف إلى دار التشريف، من دار الغيبة إلى دار المشاهدة، ومن دار الروال إلى دار النوال، ومن دار البلوى إلى دار المولى، دعاهم من دار أولها بكاء ووسطها عناء وآخرها فناء إلى دار أولها عطاء ووسطها رضاء وآخرها لقاء. والثانية: دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم -دعا أمته إلى دين الإسلام، قوله -عز وجل -: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل: 125] الدعوة إليه -صلى الله عليه وسلم -والهداية ليست إليه كما قال -عليه الصلاة والسلام -: "بعثت هاديًا وليس إلى من الهداية شيء، وبعث إبليس غاويًا، وليس إليه من الضلالة شيء". قاله الله -عز وجل -: {إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء} [القصص: 56]. سأل النبي -صلى الله عليه وسلم -هداية عمه أبى طالب، فأبى أن يهديه، وهدى وحشيًا قاتل حمزة -رضي الله عنهما -، كأنه -عز وجل -يقول لنبيه -عليه السلام -: يا محمد عليك الدعوة كما قال -عز وجل -: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك} [المائدة: 67]، وقال تعالى: {إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا * وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا} [الأحزاب: 45 - 46]،

ولك الشفاعة، وأما الإجابة والهداية فإلى، قال الله -عز وجل -: {يهدى الله لنوره من يشاء} [النور: 35]، قوله تعالى: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} [السجدة: 13]. والثالثة: المؤذن يدعو إلى الصلاة لله وأداء أمر الله تعالى، قال الله تعالى: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} [فصلت: 33]. وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما -عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "إن المؤذنين والملبين يوم القيامة يخرجون من قبورهم يؤذن ويلبى الملبى، ويستغفر للمؤذن مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس من شجر ومدر سمع صوته، ويكتب للمؤذن بكل إنسان صلى في ذلك المسجد مثل حسناته، ويعطيه الله تعالى ما بين الأذان والإقامة كل شيء سأله، إما أن يعجله في الدنيا أو يصرف عنه سوءًا، أو يدخر له في الآخرة". وروى أن النبي -صلى الله عليه وسلم -جاءه رجل فقال: "يا رسول الله أخبرني بعمل واحد أدخل به الجنة، فقال: تكون مؤذن قومك، يجمعون بك صلاتهم، قال: يا رسول الله، فإن لم أطق؟ قال: تكون إمام قومك يقيمون بك صلاتهم، قال: فإن لم أطق؟ فعليك بالصف الأول". وعن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها -قالت: "نزلت هذه الآية في المؤذنين {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا} [فصلت: 33] يعنى دعا الخلق إلى الصلاة، وصلى بين الأذان والإقامة". وعن أبى أمامة الباهلى -رضي الله عنه -أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "يغفر للمؤذن مدى صوته، وله مثل أجر من صلى معه من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا". وعن سعد بن أبى وقاص -رضي الله عنه عن خولة بنت حكيم -رضي الله عنها -قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. "المريض ضيف الله ما دام في مرضه، يرفه له كل يوم عمل سبعين شهيدًا، فإن عافاه الله من مرضه فيخرج من ذنوبه كيوم وضعته أمه، وإن قضى عليه بالموت أدخله الجنة بغير حساب". وقال بعضهم: المؤذن حاجب الله تعالى يعطى بكل أذان ثواب ألف نبي، والإمام وزير الله يعطى بكل صلاة ثواب ألف صديق، والعالم وكيل الله تعالى يعطى بكل

حديث نورًا يوم القيامة، ويكتب له عبادة ألف سنة، والمتعلمون من الرجال والنساء هم خدم الله فما جزاؤهم إلا الجنة". وقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: "أطول الناس أعناقًا يوم القيامة المؤذنون". وقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: "من أذن سبع سنين أعتقه الله من النار بعد أن يحسن نيته". وقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: "يغفر الله تعالى للمؤذن مدى صوته، ويصدقه كل ما سمعه من رطب ويابس". وأما الدعوة الرابعة: فدعوة إبراهيم الخليل -عليه السلام -، قوله -عز وجل -: {وأذن في الناس بالحج} [الحج: 27]، وقد ذكرناها في أول المجلس. * * *

مجلس في فضائل يوم عرفة

مجلس في فضائل يوم عرفة قال الله -عز وجل -: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} [المائدة: 3]. هذه الآية نزلت بعرفات دون سائر آيات هذه السورة، لأنها نزلت بالمدينة وهي سورة المائدة. وقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} يعني شرائع دينكم من الحلال والحرام {وأتممت عليكم نعمتي} أي متى عليكم: أي لا يجتمع معكم بعرفات كافر ولا مشرك {ورضيت لكم الإسلام دينًا} يعنى اخترت لكم دين الإسلام. نزلت هذه الآية يوم عرفة بعرفات في حجة الوداع، ثم مكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بعد نزولها إحدى وثمانين يومًا، ثم قبضه الله تعالى إلى رحمته ورضوانه، مروى ذلك عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما -، عنه وغيره من المفسرين. وقال محمد بن كعب القرظى -رحمه الله -: نزلت هذه الآية يوم فتح مكة. وقال جعفر الصادق -رحمه الله - {اليوم} إشارة إلى بعث النبي -صلى الله عليه وسلم -، ويوم رسالته. وقيل: اليوم إشارة إلى يوم الأزل، والإتمام: إشارة إلى الوقت، والرضا: إشارة إلى الأبد. وقيل: كما الدين في شيئين: في معرفة الله تعالى، وإتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. وقيل: كما الدين في الأمن والفراغ، لأنك إذا كنت آمنًا بما تكفل الله تعالى لك صرت فارغًا لعبادته. وقيل: إن كمال الدين في التبرى من الحول والقوة، والرجوع من الكل إلى من له الكل. وقيل: إن كمال الدين حيث رد الحج إلى يوم عرفة، لأنهم كانوا يحجون كل سنة، في كل شهر، فلما رد الله وقت الحج إلى الميقات وجعله فريضة، أنزل {اليوم أكملت لكم دينكم}.

(فصل) قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم}

والدين على وجوه عدة في القرآن: - منها بمعنى الدنيا، وهو قوله -عز وجل -: {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} [يوسف: 76] يعني في دنياه وعادته وسيرته. - ومنها الحساب، قوله -عز وجل -: {ذلك الدين القيم} [التوبة: 36، ويوسف: 4، والروم: 30] يعني الحساب المستقيم. - ومنها الجزاء، قوله -عز وجل -: {يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق} [النور: 25] أي الجزاء الأعدل. - ومنها بمعنى الحكم، قوله -عز وجل -: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} [النور: 2] يعني في حكم الله. - ومنها بمعنى العيد، قوله تعالى: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا} [الأنعام: 7] يعنى عيدهم. - ومنها الصلاة والزكاة، وقوله تعالى: {وذلك دين القيمة} [البينة: 5]. - ومنها القيامة: قوله تعالى: {مالك يوم الدين} [الفاتحة: 4]. - ومنها الشريعة: قوله -عز وجل -: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] يعني شرائع دينكم. (فصل) قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] وذلك أن الله تعالى أنزل الكتب جملة واحدة لكم وأنزل الفرقان متفرقًا. فقيل: أيهما أحسن نزولاً؟ قيل: القرآن أحسن لأن الله تعالى لما أنزل التوراة جملة واحدة فقبلها بنو إسرائيل، فعملوا بها قليلاً، فثقلت عليهم تلك الأوامر والنواهي التي في التوراة فـ {قالوا سمعنا وعصينا} البقرة: 93]. وأما القرآن فأنزله الله شيئًا بعد شيء على التدريج متفرقًا، فأول ما أمر الله المؤمنين بقوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وضمن لهم إذا قالوها الجنة، فسمعوا وأطاعوا، ثم أمرهم بإقامة صلاتين ركعتين قبل طلوع الشمس وركعتين بعد غروبها، ثم أمرهم بالصلوات الخمس، ثم أمرهم بالجمعة مع الجماعة بعد الهجرة، ثم أمرهم بالزكاة، ثم أمرهم بصوم عاشوراء، ثم أمرهم بصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ثم أمرهم بصوم شهر

(فصل) واختلف العلماء في المعنى الذي لأجله قيل للموقف عرفات، وليوم الوقوف بها عرفة

رمضان، ثم أمرهم بالجهاد، ثم أمرهم بالحج، ثم لما تمت الأوامر والنواهي أنزل الله على رسوله في حجة الوداع: {اليوم أكملت لكم دينكم} وكان ذلك يوم الجمعة، ويوم عرفة، كذلك نقل عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -. قال طارق بن شهاب -رحمه الله -: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقال له: آية تقرؤنها لو كانت نزلت علينا وعلمنا ذلك اليوم لاتخذناه عيدًا، فقال له عمر -رضي الله عنه -: أي آية؟ فقال: {اليوم أكملت لكم دينكم}، فقال عمر -رضي الله عنه -. قد علمت في أي يوم نزلت وفي أي مكان نزلت، إنها نزلت يوم عرفة ويوم الجمعة، ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وقوف بعرفات، وكلاهما بحمد الله تعالى لنا عيد، ولا يزال هذا اليوم عيدًا للمسلمين ما بقى واحد. وقال رجل من اليهود لابن عباس -رضي الله عنهما -: لو كان هذا اليوم فينا لاتخذناه عيدًا، قال له ابن عباس -رضي الله عنهما -: وأي عيد أكمل من يوم عرفة. (فصل) واختلف العلماء في المعنى الذي لأجله قيل للموقف عرفات، وليوم الوقوف بها عرفة. فقال الضحاك: إن آدم -عليه السلام -لما أهبط إلى الأرض وقع بالهند وحواء بجدة، فجعل آدم يطلب حواء وهي تطلبه، فاجتمعا بعرفات يوم عرفة وتعرفا، فسمى هذا اليوم عرفات، والموضع عرفات. وقال السدى: إنما سمعت عرفات، لأن هاجر حملت إسماعيل -عليه السلام -فأخرجته من عند سارة، وكان إبراهيم -عليه السلام -غائبًا، فلما قدم لم ير إسماعيل -عليه السلام -وحدثته سارة بالذي صنعت هاجر، فانطلق في طلب إسماعيل فوجده مع هاجر بعرفات فعرفه، فسميت عرفات. وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "إن إبراهيم -عليه السلام -غدا من فلسطين، فحلفته سارة أن لا ينزل عن ظهر دابته حتى يرجع إليها من الغيرة، فأتى إسماعيل ثم رجع، فحبسته سارة سنة ثم استأذنها فأذنت له، فخرج حتى بلغ مكة وجبالها، فكان ليلة يسير ويسعى حتى أذن الله -عز وجل -له في الثلث الليل الأخير عند سند جبل عرفة، فلما أصبح عرف البلاد والطريق، فجعل الله -عز وجل -عرفة حيث عرف. فقال: اللهم اجعل بيتك أحب بلادك إليك حيث تهوى إليه قلوب المسلمين من كل فج عميق".

وقال عطاء -رحمه الله -: إنما سميت عرفات لأن جبريل -عليه السلام -كان يرى إبراهيم -عليه السلام -المناسك، فيقول عرفت، ثم يريه فيقول عرفت فسميت عرفات. وروى سعيد بن المسيب عن علي بن أبى طالب -رضي الله عنه -أنه قال: "بعث الله -عز وجل -جبريل إلى إبراهيم -عليهما السلام -فحج به، حتى إذا أتى عرفات قال: قد عرفت، وكان قد أتاها مرة من قبل ذلك، فسميت عرفات". وروى أبو الطفيل -رحمه الله -عن ابن عباس -رضي الله عنهما -قال: "إنما سميت عرفة لأن جبريل -عليه السلام -أتى إبراهيم -عليه السلام -فأراه بقاع مكة ومشاهدها، فكان يقول: يا إبراهيم هذا موضع كذا وهذا موضع كذا، فيقول قد عرفت قد عرفت". وروى أسباط عن السدى -رحمهما الله -قال: لما أذن إبراهيم -عليه السلام -في الناس بالحج أجابوه بالتلبية، وأتاه من أتاه، فأمره الله -عز وجل -أن يخرج إلى عرفات ونعتها له، فخرج، فلما بلغ الشجرة استقبله الشيطان على الجمرة الثالثة التي هي جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات وكبر مع كل حصاة، فطار فوقع على الجمرة الثانية فرماه وكبر، فطار فوقع على الجمرة الأولى، فرماه وكبر، فلما رأى أنه لا يطيقه ذهب، فانطلق إبراهيم حتى أتى ذا المجاز، فلما نظر إليه لم يعرفه فجاز، فلذلك سمى ذا المجاز، ثم انطلق حتى وقف بعرفات، فلما نظر إليها بالنعت عرفها، فقال: عرفت، فسميت عرفات بذلك، وسمى ذلك اليوم يوم عرفة، حتى إذا أمسى اردلف إلى جميع فسميت مزدلفة. وإنما سمى جمعًا لأنه يجمع فيه بين الصلاتين بين المغرب والعشاء، وإنما سمى المشعر الحرام لأن الله أشعر الناس وأعملهم بأنه حرم كسائر بقاع الحرم كيلا يأتوا فيه بمحرم. وعن أبى صالح عن ابن عباس -رضي الله عنهما -قال: إنما سميت تروية وعرفة، لأن إبراهيم -عليه السلام -رأى ليلة التروية في منامه أنه يؤمر بذبح ابنه، فلما أصبح روى يومه أجمع: أي فكر، أمن الله هذا الحلم، أم من الشيطان؟ فسمى اليوم من فكرته تروية، ثم رأى ليلة عرفة ذلك ثانيًا، فلما أصبح عرف أن ذلك من الله -سبحانه وتعالى، فسمى ذلك اليوم يوم عرفة. وقال بعضهم: سميت بذلك لأن الناس يعترفون في هذا اليوم على الموقف بذنوبهم.

(فصل: في شرف يوم عرفة وليلته)

والأصل فيه أن آدم -عليه السلام -لما أمر بالحج فوقف بعرفات يوم عرفة، فقال: {ربنا ظلمنا أنفسنا} [الأعراف: 33]. وقيل: هي مأخوذة من العرف وهو الطيب، قال الله -عز وجل -: {عرفها لهم} [محمد: 6] أي طيبها. وقيل: هي ضد منى، لأن منى موضع يمنى فيه الدم، أي يصب، ولذلك سميت منى، ففيه تكون الفروث والدماء، فهي ليست بطيبة، وعرفات ليست فيها تلك الأقذار فهي طيبة، فلذلك سميت عرفات، ويوم الوقوف بها يوم عرفة. وقيل: لأن الناس يتعارفون بها. وقيل: أصل هذين الاسمين من الصبر، يقال: رجل عارف: إذا كان صابرًا خاضعًا خاشعًا. ويقال في المثل: "النفس عروف وما حملتها تتحمل". وقال ذو الرمة: "عروف لما حطت عليه المقادير" أي صبور على قضاء الله، فسمى بهذا الاسم لخضوع الحاج وتذللهم وصبرهم على الدعاء وأنواع البلاء، واحتمال الشدائد والمشاق لإقامة هذه العبادة. (فصل: في شرف يوم عرفة وليلته) أخبرنا هبة الله بن المبارك، قال: أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد، أنبأنا علي بن محمد بن عبد الله المعدل، أنبأنا أبو علي بن الصواف، أنبأنا عبد الله بن محمد بن ناجية، أنبأنا عمر بن حفص أبو عمرو، أنبأنا محمد بن مروان، أنبأنا هشام الدستوائى، عن أبى الزبير عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "ما من يوم أفضل من يوم عرفة، يباهى الله تعالى فيه بأهل الأرض أهل السماء، يقول: انظروا إلى عبادي شعثًا غبرًا جاءوني من كل فج عميق، يرجون رحمتي ويخافون عذابي، فلم ير يوم أكثر عتقًا من النار من يوم عرفة". وأخبرنا هبة الله عن أبى محمد الحسن بن محمد بن أحمد الفارسي بإسناده عن

الحسن العربي، عن ابن عباس -رضي الله عنهما -قال: خطب النبي -صلى الله عليه وسلم -يوم عرفة فقال: "أيها الناس إنه ليس البر في إيجاف الإبل ولا في إيضاع الخيل، ولكن سيرًا جميلاً، تواصلوا ضعيفًا، ولا تؤذوا مسلمًا". عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما -قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يقول: "إن الله تعالى ينظر إلى عباده يوم عرفة، فلا يدع أحدًا في قلبه مثقال ذرة من الإيمان إلا غفر له" فقلت لابن عمر: للناس جميعًا أم لأهل عرفة؟ فقال: بل للناس جميعًا. وأخبرنا هبة الله، قال: أنبأنا مكابر بن الجحش المازنى بالبصرة، بإسناده عن أبى الزبير عن جابر -رضي الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "إذا كان يوم عرفة ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا، فيباهى بالحاج الملائكة، فيقول لهم -عز وجل -: يا ملائكتي انظروا إلى عبادي جاءوني شعثًا غبرًا يرجون رحمتي ويخافون عذابي، فحق على المزور أن يكرم زائره، وحق على المضيف أن يكرم ضيفه، اشهدوا أني قد غفرت لهم وجعلت قراهم دخول الجنة، قال: فتقول الملائكة: يا رب إن فيهم فلانًا يزهو، وفلانة تزهو، فيقول الله -عز وجل -: قد غفرت لهم، فما من يوم أكثر عتقًا من النار من يوم عرفة". وأخبرنا هبة الله بإسناده عن طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه -، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: "ما رأى إبليس يومًا هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحض ولا أغيظ من يوم عرفة، وذلك لما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب إلا ما رأى يوم بدر، قالوا: يا رسول الله وما رأى يوم بدر؟ قال: أما إنه رأى جبريل يدعو الملائكة". وعن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما -أنه كان يقول: إن يوم الحج الأكبر يوم عرفة، وهو يوم المباهاة، ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا فيقول لملائكته: انظروا إلى عبادي في أرضي صدقوني، فليس من يوم أكثر عتيقًا من النار من يوم عرفة. وعن أبى هريرة -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "اليوم الموعود يوم القيامة، والشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة". وعن عطاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "إن الله تعالى

باهى بالناس يوم عرفة عامة، وباهى بعمر بن الخطاب خاصة". وعن ابن عمر -رضي الله عنهما -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن أعظم الناس جرمًا من انصرف ممن عرفات ويرى أن الله -عز وجل -لم يغفر له". وعن أبى هريرة -رضي الله عنه -أنه قال: "إن الله تعالى يرحم عشية يوم عرفة لأهل الجمع جميعًا إلا أهل الكبائر، فإذا كان غداة المزدلفة غفر لأهل الكبائر والتبعات". أخبرنا هبة الله بن المبارك، قال: أخبرنا أبو الفتح محمد بن أحمد الطبرى يعرف بالباهر، قال: أخبرنا علي بن أحمد بن الرفاء السامرى، أنبأنا إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، أنبأنا أبو مصعب عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما -، قال: "وقف بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -عشية عرفة، فلما قام عند الدفعة استنصت الناس فأنصتوا، فقال: يا أيها الناس إن ربكم -عز وجل -قد تطول عليكم في يومكم هذا، فوهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأله، وغفر ذنوبكم إلا التبعات، ادفعوا بسم الله، فلما صرنا بالمزدلفة وقف بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -سحرًا، فلما كان عند الدفعة استوقف الناس فوقفوا واستنصتهم فأنصتوا، ثم قال: يا أيها الناس إن ربكم قد تطول عليكم في يومكم هذا، فوهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأله، وغفر ذنوبكم وغفر التبعات وضمن لأهلها الثواب، ادفعوا بسم الله، فقام أعرابي وأخذ بزمام الناقة، فقال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما بقى من عمل إلا وقد عملته، وإني لأحلف على اليمين الفاجرة، فهل دخلت فيمن وصفت؟ فقال: يا أعرابي إنك إن تحسن فيما تستأنف يغفر لك ما مضى خل زمام الناقة". وأخبرنا هبة الله عن أبى على الحسن بن الحباب المقرى، بإسناده عن عباس بن مرداس -رضي الله عنه -أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة والرحمة، فأجابه الله تعالى: إني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضًا، فأما ذنوبهم فيما بينى وبينهم فقد غفرتها، فقال: أي رب إنك قادر أن تثبت هذا المظلوم خيرًا من مظلمته وتغفر لهذا الظالم، قال: فلم يجبه تلك العشية، فلما كان غداة مزدلفة أعاد الحديث، فأجابه: إني قد غفرت لهم، قال: ثم تبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله تبسمت في ساعة لم تكن تتبسم فيها؟ فقال: تبسمت من عدو الله إبليس لأنه لما علم

(فصل) في تفصيل صيامه وما ورد فيه من الصلوات، وما أمر به من صنوف الدعوات

أن الله قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور، ويحثو التراب على رأسه". وعن سعيد بن جبير -رحمه الله -قال: "بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يوم عرفة بعرفات في الموضع الذي ترفع العباد فيه أيديهم إلى الله تعالى ويعجبون بالدعاء، إذ هبط عليه جبريل -عليه السلام -، وقال: يا محمد إن العلى الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك: هؤلاء حجاج بيتي وزواري، وحق على المزور أن يكرم الزائر، أشهدك وأشهد ملائكتي أني قد غفرت لهم جميعًا وهكذا أفعل بزوار يوم الجمعة". وعن علي -رضي الله عنه -أنه لما كان عشية يوم عرفة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم -واقف، أقبل على الناس بوجهه فقال: مرحبًا بوفد الله ثلاث مرات، الذين إذا سألوا أعطوا، وتخلف عليهم نفقاتهم في الدنيا، وتجعل لهم عند الله في الآخرة مكان كل درهم ألف، ألا أبشركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنه إذا كان في هذه العشية ينزل الله إلى سماء الدنيا، ثم يأمر ملائكته فيهبطون إلى الأرض، فلو طرحت إبرة لم تسقط إلا على رأس ملك، فيقول الله -عز وجل -: يا ملائكتي انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثًا غبرًا من أطراف الأرض، هل تسمعون ما يسألون؟ قالوا: يسألونك أي رب المغفرة، قال -سبحانه وتعالى -: أشهدكم أني قد غفرت لهم ثلاث مرات، فأفيضوا من موقفكم مغفورًا لكم". (فصل) في تفصيل صيامه وما ورد فيه من الصلوات، وما أمر به من صنوف الدعوات أخبرنا هبة الله بن المبارك، قال: أنبأنا أحمد بن محمد، بإسناده عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: "من صام يوم عرفة غفر الله له ما تقدم من ذنبه لسنة". وأخبرنا هبة الله بإسناده عن أبى قتادة -رضي الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال. "صيام يوم عرفة كفارة سنتين، سنة ماضية وسنة مستقبلة". وأما الصلاة فمما أخبرنا به هبة الله بن المبارك قال: أنبأنا الشيخ أبو علي الحسن بن أحمد عبد الله المقرى، قال: أنبأنا أبو الفتح هلال بن محمد بن جعفر الحفار، قال:

أنبأنا أبو الحسن علي بن أحمد الحلواني، أنبأنا موسى بن عمران البلخى، أنبأنا يوسف ابن موسى القطان، أنبأنا عمر بن نافع، أنبأنا مسعود بن واصل، أنبأنا النهاس بن فهم، عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "من صلى يوم عرفة بين الظهر والعصر أربع ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة و {قل هو الله أحد ...} خمسين مرة، كتب له ألف ألف حسنة، ورفع له بكل حرف في القرآن درجة في الجنة ما بين كل درجتين مسيرة خمسمائة عام، ويزوجه الله بكل حرف في القرآن سبعين حوراء، مع كل حوراء سبعون ألف مائدة من الدر والياقوت، على كل مائدة سبعون ألف لون ما بين لحم طير خضر، برده برد الثلج، وحلاوته حلاوة العسل، وريحه المسك، لم تمسه نار ولا حديدة، يجد لأخره طعمًا كما يجد لأوله، ثم يأتيهم طائر جناحاه من ياقوتتين حمراوين ومنقاره من ذهب، له سبعون ألف جناح، فينادى بصوت لذيذ لم يسمع السامعون بمثله: مرحبًا بأهل عرفة. وقال: يسقط ذلك الطير في صفحة الرجل منهم، فيخرج من تحت كل جناح من أجنحته سبعون لونًا من الطعام فيأكل منها، ثم ينتفض فيطير، فإذا وضع في قبره أضاء له بكل حرف في القرآن نور حتى يرى الطائفين حول البيت، ويفتح له باب من أبواب الجنة، ثم يقول عند ذلك: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، مما يرى من الثواب والكرامة". وأخبرنا هبة الله بن المبارك، قال: أنبأنا الحسن بإسناده عن علي بن أبى طالب -رضي الله عنه -وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنه -، قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "من صلى يوم عرفة ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب ثلاث مرات، في كل مرة يبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم ويختمها بأمين، ثم يقرأ {قل يا أيها الكافرون ...} ثلاث مرات، و {قل هو الله أحد ...} مائة مرة، يبدأ في كل مرة ببسم الله الرحمن الرحيم، إلا قال الله تعالى: اشهدوا أنى قد غفرت له ذنوبه". وأما الدعوات، فما أخبرنا هبة الله بن المبارك عن القاضي الشريف أبى الحسن محمد ابن علي المهتدى بالله، عن أبى الفتح يوسف بن عمر بن مسرور القواس، قال: أنبأنا

عبد الله بن أحمد بن ثابت البزاز، أنبأنا أيوب، يعني: أبو الوليد الضرير، أنبأنا أبو النصر، يعني هاشم بن القاسم، عن محمد بن الفضل بن عطية، عن أبيه، عن عبد الله ابن عمر الليثي، عن أبيه -رضي الله عنه -قال: بلغنا أن الله تعالى أهدى إلى عيسى -عليه السلام- خمس دعوات جاء بهن جبريل -عليه السلام -في أيام العشر وقال: يا عيسى ادع بهؤلاء الخمس دعوات، فإنه ليس عبادة أحب إلى الله تعالى من عبادة أيام العشر. أولهن: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. والثانية: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً صمداً، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً. والثالثة: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. والرابعة: حسبي الله وكفى، سمع الله لمن دعا، ليس وراء الله منتهى. والخامسة: اللهم لك الحمد كما تقول، وخيراً مما تقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، ولك يا رب تراثي: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن شتات الأمر، اللهم إني أسألك من خير ما تجري به الريح. فسأل الحواريون عيسى ابن مريم -عليه السلام-: ما ثواب من قال هذه الكلمات؟. فقال: أما من قال الأولى مائة مرة، فإنه لا يكون لأحد من أهل الأرض عمل مثل ذلك العمل في ذلك اليوم، وكان أكثر العباد حسنات يوم القيامة. ومن قال الثانية مائة مرة، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه مثلها سيئات، ورفع له عشرة آلاف درجة في الجنة. ومن قال الثالثة مائة مرة، نزل سبعون ألف ملكك من سماء الدنيا رافعي أيديهم يصلون على من قالها. ومن قال الرابعة مائة مرة، تلقاها ملك حتى يضعها بين يدى الرحمن -عز وجل -، فينظر إلى من قالها، ومن نظر الله تعالى إليه لم يشق. وقالوا: يا عيسى، فما ثواب من قال الخامسة؟ قال: هي دعوتي ولم يؤذن لي في تفسيرها.

(فصل) ما أختص به رسول الله -صلى الله عليه وسلم -من الدعاء في عشية عرفة

وأخبرنا هبة الله بن المبارك، عن الحسن بن أحمد بن عبد الله المقرى، بإسناده عن خليفة بن الحسين، عن علي بن أبى طالب -رضي الله عنه -أنه قال: "أكثر ما يدعو به النبي -صلى الله عليه وسلم -عشية عرفة يقول: اللهم لك الحمد كما تقول وخيرًا مما تقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، ولك يا رب تراثي، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وفتنة الصدر وشتات الأمر، اللهم إني أسألك من خير ما تجرى به الريح". وأخبرنا هبة الله بن المبارك بإسناده عن موسى بن عبيدة، عن علي بن أبى طالب -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي سمعي نورًا، وفي بصري نورًا، اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري، اللهم إني أعوذ بك من وساوس الصدر وفتنة القبر وشتات الأمر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل، ومن شر ما يلج في النهار ومن شر ما تهب به الرياح، ومن شر بوائق الدهر". وروى الضحاك -رحمه الله -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال في حجة الوداع حين اجتمعوا بعرفة: "هذا يوم الحج الأكبر، ولا حج لمن لم يواف عرفة اليوم والليلة، فاليوم دعاء وسؤال الرب -عز وجل -، وهو يوم تهليل وتكبير وتلبية، إنه من وافى اليوم هذا المكان وحرم سؤال ربه -عز وجل -فهم المحروم، وإنكم تدعون جوادًا لا يبخل، وحليمًا لا يجهل، وعالمًا لا ينسى، إنه صام يوم عرفة مقيمًا في أهله فقد صام عامًا أمامه وعامًا خلفه". (فصل) وأما ما أختص به رسول الله -صلى الله عليه وسلم -من الدعاء في عشية عرفة، فهو ما أخبرنا به هبة الله بن المبارك، قال: أنبأنا القاضي أبو القاسم عبد الرحمن بن الحسن بن عبد الرحمن العكبرى بها، قال: حدثنا علي بن محمد بن عبد الله المعدل، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم، حدثنا أحمد بن محمد بن أبى شيبة، حدثنا هلي بن مسلم، أنبأنا ابن أبى فديك، قال: حدثني إبراهيم بن فضيل المخزومي، عن سليمان بن

(فصل) في دعا جبريل وميكائيل وإسرافيل والخضر وإلياس -عليهم السلام -عشية عرفة

زيد، عن هرم بن حيان، عن علي بن أبى طالب -رضي الله عنه -أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "ليس في الموقف بعرفة قول ولا عمل أفضل من هذا الدعاء، وأول من ينظر الله إليه صاحبه، وهو أنه -صلى الله عليه وسلم -كان إذا وقف بعرفة استقبل البيت الحرام بوجهه، وبسط يديه كهيئة الداعي، ثم يلبي ثلاثًا ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، يقولها مائة مرة، ثم يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا، يقول ذلك مائة مرة، ثم يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ويقول: إن الله هو السميع العليم، يقولها ثلاث مرات، ثم يقرأ فاتحة الكتاب ثلاث، ثم يقرأ فاتحة الكتاب ثلاث مرات، ويبدأ في كل مرة ببسم الله الرحمن الرحيم، ويختمها بآمين، ويقرأ {قل هو الله أحد ...} مائة مرة، ثم يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، صل على النبي الأمي ورحمة الله وبركاته مائة مرة، ثم يدعو الله -عز وجل -بما شاء، فيقول الله تعالى: انظروا إلى عبدي توجه بيتي وكبرني ولباني وسبحني وحمدني وهللني، وقرأ بأحب السور إلي وصلى على رسولي أشهدكم أني قد قبلت عمله، وأوجبت له أجره، وغفرت له ذنوبه، وشفعته فيما سألنى". (فصل) في دعا جبريل وميكائيل وإسرافيل والخضر وإلياس -عليهم السلام -عشية عرفة أخبرنا هبة الله بن المبارك، قال: أنبأنا الحسن بن أحمد بن عبد الله المقرى، قال: أخبرنا الحسين بن عمر المؤدب، قال: حدثنا أبو القاسم الفامى، قال: حدثنا أبو علي الحسن بن علي، قال: حدثنا أحمد بن عمار، أنبأنا محمد بن مهدى، قال: حدثني ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس -رضي الله عنهما -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "يجتمع البرى والبحري، يعني إلياس والخضر -عليهما السلام -كل عام بمكة". قال ابن عباس -رضي الله عنهما -: وبلغنا أنه يحلق أحدهما رأس صاحبه، فيقول أحدهما للآخر: قل بسم الله ما شاء الله، لا يأتي بالخير إلا الله، بسم الله ما شاء الله، لا يصرف السوء غير الله، بسم الله ما شاء الله، وما بكم من نعمة فمن الله، بسم الله ما شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فصل أكثر دعاء المسلم في الموقف

قال ابن عباس -رضي الله عنهما -: قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: "من قالها كل يوم أمن من الغرق والحرق والسرق، ومن كل شيء يكرهه حتى يمسى، ومن قالها حين يمسى كان في حرز الله حتى يصبح". وأخبرنا هبة الله بن المبارك، قال: أنبأنا الحسن بن أحمد، أنبأنا عبيد الله بن أحمد الأزهري، قال: أنبأنا أبو طالب بن حمدان السكري، قال: أنبأنا إسماعيل، قال: حدثنا عباس الدورى، قال: أنبأنا عبيد الله بن إسحاق العطار، قال: أنبأنا محمد بن المبشر القيسى، عن عبد الله الحسن، عن أبيه عن جده، عن علي -رضي الله عنه -قال: يجتمع في كل يوم عرفة بعرفات جبريل وميكائيل وإسرافيل والخضر -عليهم السلام -، فيقول جبريل: ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، فيرد عليه ميكائيل فيقول، ما شاء الله، كل العزة من الله، فيرد عليه إسرافيل فيقول، ما شاء الله الخير كله بيد الله، فيرد عليه الخضر، فيقول، ما شاء الله لا يدفع السوء إلا الله، ثم يتفرقون، ولا يجتمعون إلى قابل في ذلك اليوم" والله أعلم. (فصل) قال ابن جريج: بلغني أنه كان يؤمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الموقف {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} [البقرة: 201]. وروى مجاهد عن ابن عباس -رضي الله عنهما -قال: عند الركن اليماني ملك قائم منذ خلق الله تعالى السموات والأرض يقول آمين، فيقولوا: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}. عن حماد بن ثابت قال: إنهم قالوا لأنس بن مالك -رضي الله عنه -، ادع لنا، فقال: "اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قالوا: زدنا، فأعدها، قالوا: زدنا، قال: ما تريدون قد سألت الله لكم خير الدنيا والآخرة، وقال أنس -رضي الله عنه -، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يكثر أن يدعو بها فيقول: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} ". وقد ذكر الله تعالى من دعا بهذا الدعاء وجعل له نصيبًا وحظًا من فضله ورحمته، قال الله -عز وجل -: {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا} [البقرة: 2] أي أعطنا إبلاً

وغنمًا وبقرًا وعبيدًا وإماءً وذهبًا وفضة، ينوى الدنيا في كل شيء ولها ينفق ولها يعمل ولها نصيب، فهي همه وسؤله وطلبته، فقال الله -عز وجل -: {وما له في الآخرة من خلاق} [البقرة: 200] يعني حظًا ولا نصيبًا {ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} [البقرة: 201] وهم النبي -صلى الله عليه وسلم -والمؤمنون -رضوان الله عليهم -. واختلف العلماء في معنى الحسنيين: فقال علي بن أبى طالب -كرم الله -وجهه قوله: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة} امرأة صالحة {وفي الآخرة حسنة} الحور العين (وقنا عذاب النار} وهي المرأة السوء. وقال الحسن -رحمه الله -: {في الدنيا حسنة} الجنة. وقال السدى وبان حبان: {فى الدنيا حسنة} أي رزقاً حلالاً واسعًا وعملاً صالحًا {وفي الآخرة حسنة} هي المغفرة والثواب. وقال عطية -رحمه الله -: {في الدنيا حسنة} العلم والعمل به {وفي الآخرة حسنة} تيسير الحساب ودخول الحساب. وقيل: {في الدنيا حسنة} التوفيق والعصمة {وفي الآخرة حسنة} النجاة والرحمة. وقيل: {في الدنيا حسنة} أولادًا أبرارًا {وفي الآخرة حسنة} مرافقة الأنبياء. وقيل: {في الدنيا حسنة} المال والنعمة {وفي الآخرة حسنة} تمام النعمة، وهو الفوز من النار ودخول الجنان. وقيل: {في الدنيا حسنة} الثبات على الإيمان {وفى الآخرة حسنة} السلامة والرضوان. وقيل: {في الدنيا حسنة} الإخلاص {وفى الآخرة حسنة} الخلاص. وقيل: {في الدنيا حسنة} حلاوة الطاعة {وفي الآخرة حسنة} لذة الرؤية. وقال قتادة -رحمه الله -: في الدنيا عافية، وفي الآخرة عافية. والذي يؤيد هذا التأويل ما روى ثابت البنانى عن أنس -رضي الله عنه -: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -عاد رجلاً مريضًا قد صار مثل الفرخ المنتوف، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: هل كنت تدعو الله بشيء أو تسأله شيئًا؟ فقال: كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبى به في الآخرة، فعجله لي في الدنيا،

فقال -صلى الله عليه وسلم -: سبحان الله إذن لا تستطيعه أو لا تطيقه، هلا قلت: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار؟ فدعا الله -عز وجل -بها فشفاه". وقال سهل بن عبد الله -رحمه الله -: في الدنيا: السنة، وفي الآخرة: الجنة. وعن المسيب عن عوف -رحمه الله -أنه قال: في هذه الآية من آتاه الله -عز وجل -الإسلام والقرآن وأهلاً ومالاً، فقد أوتى في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة. وعن عبد الأعلى بن وهب قال: سمعت سفيان الثورى -رحمه الله -يحدث في هذه الآية قال: {فى الدنيا حسنة} الرزق الطيب {وفى الآخرة حسنة} الجنة. * * *

مجلس في فضائل يوم الأضحى ويوم النحر

مجلس في فضائل يوم الأضحى ويوم النحر قول الله -عز وجل -: {إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وأنحر * إن شائنك هو الأبتر} [الكوثر: 1 - 3]. قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما -: الكوثر هو الخير الكثير، منه القرآن والنبوة والنهر الذي في الجنة، وهو نهر يجرى من بطنان الجنة، باطنه الدر المجوف، وعلى حافتيه قباب من الياقوت الأخضر، ماؤه أحلى من العسل وألين من الزبد، حمأته المسك الأذفر، وترابه الكافور الأبيض، وحصاه الدر والياقوت، يطرد مثل السهام، أعطاه الله تعالى لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم -. وقال مقاتل -رحمه الله -: {إنا أعطيناك الكوثر} هو نهر في بطنان الجنة. وإنما سمى الكوثر لأنه أكثر أنهار الجنة خيرًا. ولذلك النهر عجاج يطرد مثل السهام، طينه المسك الأذفر ورضراضه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ، أشد بياضًا من الثلج وألين من الزبد وأحلى من العسل، حافتاه قباب الدر المجوف، كل قبة طولها فرسخ في فرسخ، عليها أربعة آلاف مصراع من ذهب، في كل قبة زوجة من الحور العين، لها سبعون خادمًا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: "ليلة الإسراء قلت لجبريل: ما هذه الخيام؟ فقال جبريل -عليه السلام -: هذه مساكن لأزواجك في الجنة". ويتفجر من الكوثر أربعة أنهار لأهل الجنان التي ذكرها الله -عز وجل -في سورة محمد -صلى الله عليه وسلم -أحدها: الماء، والثاني: الخمر، والثالث: اللبن، والرابع: العسل. قوله -عز وجل -: {فصل لربك وأنحر} قال مقاتل -رحمه الله -: يعنى صل لربك الصلوات الخمس، وأنحر البدن يوم النحر. وقيل: {فصل لربك): يعنى صلاة العيد {وأنحر}: يعنى البدن بمنى. وقيل: ارفع يدك بالتكبير إلى نحرك. قيل: {وأنحر} يعنى استقبل القبلة بنحرك. وقوله -عز وجل -: {إن شائنك هو الأبتر} [الكوثر: 3] وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم -دخل المسجد.

(فصل) فأما الذكر

الحرام من باب بنى سهم بن عمرو بن هصيص والناس من قريش جلوس في المسجد، فمضى النبي -صلى الله عليه وسلم -فسلم ولم يجلس حتى خرج من باب الصفا، فنظروا إليه حين خرج ولم يروه حين دخل، فلم يغرفوه، فتلقاه العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعد بن سهم على باب الصفا وهو يدخل والنبي -صلى الله عليه وسلم -يخرج، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم -توفى ابنه عبد الله ابن محمد، وكان الرجل إذا مات ولم يكن له منه من بعده ابن يرثه يسمى الأبتر، فلما انتهى العاص بن وائل إلى القوم، فقالوا له: من ذا الذي تلقاك، فقال: الأبتر، فنزل قوله -عز وجل -: {إن شانئك} يعنى عدوك ومبغضك {هو الأبتر} يعنى مقطوع من الخير الذي هو العاص بن وائل، وأما أنت يا محمد فستذكر معي إذا ذكرت، فرفع الله -عز وجل -ذكره -عليه السلام -في الناس عامة. قال الله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك} [الشرح: 1 - 4] فيذكر -صلى الله عليه وسلم -في كل عيد وجمعة على المنابر والمساجد والأذان والإقامة والصلاة وكل موطن، حتى في خطبة النكاح وخطبة الكلام وفي الحاجات -صلى الله عليه وسلم -، وجعل مأواه الفردوس الأعلى وما ضره قول شانئه وعدوه، وجعل مأوى العاص بن وائل النار، وأنواع العذاب والنكال لقوله للنبي -صلى الله عليه وسلم -ذلك، وكفره بالله -عز وجل -، فهكذا يجازى الله -عز وجل -كل محب النبي -صلى الله عليه وسلم -من المؤمنين من أمته بالجنة، ومبغضه -عليه السلام -من المنافقين والكفار بالنار. (فصل) فأما الذكر: فقوله -عز وجل -: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرًا كثيرًا} [الأحزاب: 41]. وقوله -عز وجل -: {فاذكروني أذكركم واشكروا لى ولا تكفرون} [البقرة: 152]. اختلف العلماء في ذلك: فقال ابن عباس -رضي الله عنهما -: اذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي، كما قال الله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69]. وقال سعيد بن جبير -رحمه الله -: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي، كما قال الله تعالى: {وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون} [آل عمران: 132]. وقال فضيل بن عياض -رحمه الله -: فاذكروني بطاعتي أذكركم بثوابي، كما قال الله -عز وجل -: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً *

أولئك لهم جنات عدن} [الكهف: 30 - 31]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: "من أطاع الله فقد ذكر الله، وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن، ومن عصى الله فقد نسى الله، وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن". وقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه -: كفى بالتوحيد عبادة وكفى بالجنة ثوابًا. وقال ابن كيسان -رحمه الله -: فاذكروني بالشكر أذكركم بالزيادة، لقوله تعالى: {ولئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم: 7]. وقيل: اذكروني بالتوحيد والإيمان أذكركم بالدرجات والجنان، لقوله -عز وجل -: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار} [البقرة: 25]. وقيل: اذكروني على ظهر الأرض أذكركم في بطنها إذا نسيكم أهل الدنيا، كما قال الأصمعى: رأيت أعرابيًا واقفًا يوم عرفة بعرفات وهو يقول: إلهي عجت إليك الأصوات بضروب اللغات يسألونك الحاجات، وحاجتي إليك أن تذكرني عند البلاء إذا نسيني أهل الدنيا. وقيل: اذكروني في الدنيا أذكركم في العقبى. وقيل: اذكروني بالطاعات أذكركم بالمعافاة، دليله قوله تعالى: {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} [النحل: 97]. وقيل: اذكروني في الخلاء والبلاء والملاء، كما روى في الخبر أن الله تعالى قال في بعض الكتب: "أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء، وأنا معه إذا ذكرني، فمن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم، ومن تقرب إلى شبرًا، تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إلى ذراعًا، تقربت إليه باعًا، ومن أتاني ماشيًا، أتيته هرولة، ومن أتاني بقراب الأرض خطيئة، أتيته بمثلها مغفرة، بعد ألا يشرك بى شيئًا". وقيل: اذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدة والبلاء، كما قال الله -عز وجل -: {فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} [الصافات: 143 - 144].

وقال سلمان الفارسي -رضي الله عنه -: إن العبد إذا كان دعا في السراء فإذا نزل به البلاء قالت الملائكة: يا ربنا عبدك ق نزل به البلاء فيشفعون له، فيجيبهم الله تعالى، وإذا لم يكن دعى قالوا: الآن فلا تشفعون له، بيانه قصة فرعون {الآن وقد عصيت قبل} [يونس: 91]. وقيل: اذكروني بالتسليم والتفويض أذكركم بأصلح الاختيار، بيانه قوله -عز وجل -: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق: 3]. وقيل: اذكروني بالشوق والمحبة أذكركم بالوصل والقربة. وقيل: اذكروني بالحمد والثناء أذكركم بالمن والجزاء. وقيل: اذكروني بالتوبة أذكركم بغفران الحوبة، اذكروني بالدعاء أذكركم بالعطاء، اذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال، اذكروني بلا غفلة أذكركم بلا مهلة، اذكروني بالندم أذكركم بالكرم، اذكروني بالمعذرة أذكركم بالمغفرة، اذكروني بالإرادة أذكركم بالإفادة، اذكروني بالتنصل أذكركم بالتفضل، اذكروني بالإخلاص أذكركم بالخلاص، اذكروني بالقلوب أذكركم بكشف الكروب، اذكروني بلا نسيان أذكركم بالأمان، اذكروني بالافتقار أذكركم بالاقتدار، اذكروني بالاعتذار والاستغفار أذكركم بالرحمة والاغتفار، اذكروني بالإيمان أذكركم بالجنان، اذكروني بالإسلام أذكركم بالإكرام، اذكروني بالقلب أذكركم بكشف الحجب، اذكروني ذكرًا فانيًا أذكركم ذكرًا باقيًا، اذكروني بالابتهال أذكركم بالإفضال، اذكروني بالتذلل أذكركم بعفو الزلل، اذكروني بالاعتراف أذكركم بمحو الاقتراف، اذكروني بصفاء السر أذكركم بخالص البر، اذكروني بالصدق أذكركم بالرفق، اذكروني بالصفو أذكركم بالعفو، اذكروني بالتعظيم أذكركم بالتكريم، اذكروني بالتكبير أذكركم بالنجاة من السعير، اذكروني بترك الجفاء أذكركم بحفظ الوفاء، اذكروني بترك الخطأ أذكركم بأنواع العطاء، اذكروني بالجهد في الخدمة أذكركم بإتمام النعمة، اذكروني من حيث أنتم أذكركم من حيث أنا، ولذكر الله أكبر. وقال الربيع -رحمه الله -في الآية: إن الله تعالى ذاكر من يذكره، وزائد من يشكره، ومعذب لمن يكفره. وقال السدى -رحمه الله فيها -: ليس من عبد يذكر الله تعالى إلا ذكره، لا يذكره مؤمن إلا ذكره بالرحمة، ولا يذكره كافر إلا ذكره بالعذاب.

(فصل) وأما الدعاء

وقال سفيان بن عيينة -رحمه الله -: بلغنا أن الله -عز وجل -قال: أعطيت عبادي ما لو أعطيته جبريل وميكائيل كنت قد أجزلت لهما، قلت: اذكروني أذكركم، وقلت لموسى: قل للظلمة لا يذكروني فإني أذكر من ذكرني، وإن ذكرى إياهم أن ألعنهم. وقال أبو عثمان النهدى -رحمه الله -: إني أعلم حين يذكرني ربي، قيل: كيف ذلك؟ فقال: إن الله -عز وجل -قال: {فاذكرونى أذكركم} [البقرة: 152] فإذا ذكرت الله ذكرنى. وقيل: أوحى الله -عز وجل -إلى داود -عليه السلام -: يا داود بي فافرحوا، وبذكري فتنعموا. وقال الثورى -رحمه الله -: لكل شيء عقوبة، وعقوبة العارف انقطاعه عن الذكر. وقيل: إذا تمكن الذكر من القلب فإذا دنا منه الشيطان صرع كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيقولون: ما لهذا؟ فيقال: قد مسه الإنس. وقال سهل بن عبد الله -رحمه الله -: ما أعرف معصية أقبح من نسيان هذا الرب الكريم. وقيل: الذكر الخفي لا يرفعه الملك لأنه لا اطلاع له عليه، فهو سر بين العبد وبين الله تعالى. وقال بعضهم: وصف لي ذاكر في الأجمة فأتيته، فبينما هو جالس وإذا سبع عظيم ضربه ضربة ونهش منه قطعة، فغشى عليه وعلى، فلما أفقت قلت له: ما هذا؟ فقال: قيض الله على هذا السبع فكلما دخلتنى فترة عن ذكرى جاءني فعضني كما رأيت. (فصل) وأما الدعاء: فقوله -عز وجل -: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60] وقوله تعالى: {فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب} [الشرح: 7 - 8] أي إذا فرغت من صلاتك فانصب للدعاء له تبارك وتعالى. وقوله -عز وجل -: {وإذا سالك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} [البقرة: 186]. اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية. فروى الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس -رضي الله عنهما -أنه قال: "سألت يهود أهل المدينة النبي -صلى الله عليه وسلم -كيف يسمع ربنا دعاءنا وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة

خمسمائة عام، وأن غلظ كل سماء مثل ذلك؟ فنزلت هذه الآية: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} [البقرة: 186]. وقال الحسن -رحمه الله -: سأل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: أين ربنا؟ فأنزل الله هذه الآية. وقال عطاء وقتادة -رحمهما الله -: لما نزلت هذه الآية: {وقال ربكم ادعونى أستجب لكم} [غافر: 6] قال رجل: يا رسول الله كيف ندعو ربنا ومتى ندعوه؟ فأنزل الله هذه الآية: {وإذا سألك عبادى عني فإني قريب}. وقال الضحاك -رحمه الله -: سأل بعض الصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: قريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية: {وإذا سألك} يا محمد {عبادى عني فإني قريب}. قال أهل المعاني: فيه إضمار كأنه قال: فقل لهم أو فأعلمهم أنى قريب منهم بالعلم. وقال أهل الإشارة: رفع الواسطة إظهار للقدرة. قوله: {أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجبوا لى} [البقرة: 186] أي فليستجيبوا لي بالطاعة، يقال: أجاب واستجاب بمعنى واحد. وقال أبو رجاء الخرساني -رحمه الله -: يعنى فليدعوني. والإجابة في اللغة الطاعة وإعطاء ما سئل، يقال: أجابت السماء بالمطر وأجابت الأرض بالنبات: أي سئلت السماء المطر فأعطت، وسئلت الأرض النبات فأعطت. والإجابة من الله -عز وجل -: هو الإعطاء ومن العبد الطاعة. قوله: {وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون} [البقرة: 186] أي لكى يهتدوا. فإن سأل سائل عن قوله: {أجيب دعوة الداع إذا دعان} وقوله: {ادعونى أستجب لكم} وقال: قد نرى كثيرًا من خلق الله تعالى يدعون فلا يجاب لهم: قيل: اختلف أهل العلم في وجه الآيتين وتأويلهما. فقال بعضهم: معنى الدعاء هاهنا: الطاعة، ومعنى الإجابة: الثواب كأنه قال -عز وجل -: أجيب دعوة الداع بالثواب إذا أطاعني.

وقال بعضهم: معنى الآيتين خاص وإن كان لفظهما عامًا، تقديرهما أجيب دعوة الداع إن شئت، وأجيب دعوة الداعى إذا وافق القضاء، وأجيب دعوة الداع إذا لم يسأل محالاً، وأجيب دعوة الداع إذا كانت الإجابة له خيرًا. يدل على ذلك ما روى عن علي بن أبى المتوكل عن أبى سعيد -رضي الله عنه -، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "ما مسلم دعا الله -عز وجل -بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم إلا أعطى الله تعالى بها صاحبها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها، قالوا. يا رسول الله إذا نكثر، قال -صلى الله عليه وسلم -: الله أكثر". وقال بعضهم: إن الآية عامة ليس فيها أكثر من إجابة الدعوة، فإما إعطاء المنية وقضاء الحاجة فليس بمذكور في الآية، وقد يجيب السيد عبده والوالد ولده ولا يعطيه سؤاله. فالإجابة كائنة لا محالة عند حصول الدعوة، لأن قوله: أجيب وأستجب خبر، والخبر لا يعترض عليه النسخ، لأنه إذا نسخ صار المخبر كذابًا، وتعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وخبر الله تعالى لا يقع بخلاف مخبره. والذي يؤيد هذا التأويل ما روى نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "من فتح له باب الدعاء فتحت له أبواب الإجابة". وأوحى الله تعالى إلى داود -عليه السلام -: قل للظلمة لا يدعوني فإني أوجبت على نفسي أن أجيب من دعاني، وإني إذا أجبت الظالمين لعنتهم. وقيل: إن الله تعالى يجيب دعوة المؤمن في الوقت إلا أنه يؤخر إعطاء مراده ليدعوه فيسمع صوته. يدل عليه ما روى عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "إن العبد ليدعو الله -عز وجل -وهو يجيبه، فيقول الله تعالى: يا جبريل اقض لعبدي هذا حاجته وأخرها، فإني أحب أن لا أزال أسمع صوته، وإن العبد ليدعو الله -عز وجل -وهو يبغضه فيقول: يا جبريل اقض لعبد هذا حاجته بإخلاصه

(فصل) وأما النحر

وعجلها، فإني أكره أن أسمع صوته". وقيل: إن يحيى بن سعيد -رحمه الله -قال: رأيت رب العزة في المنام فقلت: يا رب كم أدعوك فلا تستجيب لي، قال: يا يحيى إني أحب صوتك. وقال بعضهم: إن للدعاء آدابًا وشرائط وهي أسباب الإجابة ونيل المنى، فمن راعاها واستكملها كان من أهل الإجابة، ومن أغفلها أو أخل بها فهو من أهل الاعتداء في الدعاء. وقيل: إنه سئل إبراهيم بن أدهم -رحمه الله -فقيل له: ما بالنا ندعو الله فلا يستجيب لنا؟ فقال: لأنكم عرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم ترهبوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا بهم، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس. (فصل) وأما النحر: فقوله -عز وجل -: {وأنحر}. والأصل في النحر أمر الله تعالى لخليله إبراهيم النبي -صلى الله عليه وسلم -وذلك ن إبراهيم خليل الرحمن لما أنجاه الله تعالى من نار نمرود الجبار وسلمه من كيده وعذابه، قال: {إني ذاهب إلى ربى} [الصافات: 99] يعني مهاجرًا إلى ربي، يعني إلى رضا ربي بالأرض المقدسة {سيهدين} [الصافات: 99] لدينه، وهو عليه السلام -أول من هاجر من خلق الله في دين الله -عز وجل -، فهاجر ومعه لوط وسارة أخت لوط، وهو ابن خال إبراهيم عليه السلم، فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد قال: {رب هب لى من الصالحين} [الصافات: 100]. يقول: هبب لي ولدًا صالحًا، فاستجاب الله له {فبشرناه بغلام حليم} [الصافات: 101] يعنى عليم وهو العالم، وهو إسحاق بن سارة، {فلما بلغ معه السعى} [الصافات: 102] يعني المشى إلى الجبل {قال يا بنى إني أرى في المنام أني أذبحك} [الصافات: 102] يعنى أمرت في المنام بذبحك وذلك لنذر كان عليه في -عليه السلام - {فانظر ماذا ترى} [الصافات: 102] فرد عليه إسحاق -عليه السلام -بقوله: {يا أبت أفعل ما تؤمر} وأطع

ربك، فمن ثم لم يقل إسحاق لإبراهيم افعل ما رأيت في المنام، ورأى ذلك إبراهيم -عليه السلام -ثلاث لبال متتابعات، وكان إسحاق صام وصلى قبل الذبح فقال: {ستجدنى إن شاء الله من الصابرين} [الصافات: 102] على الذبح {فلما أسلما} [الصافات: 103] يقول: أسلما لأمر الله تعالى وطاعته {وتله للجبين} [الصافات: 103] يقول كبه على جبهته، فلما أذخ بناصيته ليذبحه لله، علم الله منهما الصدق، وقال الله -عز وجل -: {وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا} [الصافات: 104 - 105] في ذبح ابنك، فخذ الكبش واذبحه فداء عن ولدك، قال الله -عز وجل -: {وفديناه بذبح عظيم} [الصافات: 107] واسم الكبش زرير، وكان من الوعول يرعى في الجنة أربعين سنة قبل أن يذبح. وقيل: إنه هو الكبش الذي قربه هابيل بن آدم المقتول شهيدًا -عليه السلام -، وكان يرعى في الجنة قد فدى به إسحاق النبي -عليه السلام -من الذبح، قال الله -عز وجل -: {إنا كذلك نجزى المحسنين} [الصافات: 105] يعنى هكذا نجزى كل محسن، فجزاه الله خيرًا بإحسانه بطاعته لأمر الله تعالى في الذبح لابنه إسحاق. وقيل: إن المأمور بذبحه إنما هو إسماعيل بن إبراهيم -عليه السلام -، ثم قال الله -عز وجل -: {إن هذا لهو البلاء المبين} [الصافات: 106] يعني النعيم المبين حين عفا عنه وفداه بالكبش. وقيل: إنه لما وضع الخليل -عليه السلام السكين على حقل ولده نودي: {أن يا إبراهيم} [الصافات: 104] خل ولدك، فإن مرادنا لم يكن قربانًا للولد، وإنما كان مرادنا خلو القلب عن محبة الولد، ولهذا قيل: إنه ذكر في بعض الكتب أن إبراهيم -عليه السلام -لما أراد أن يذبح ولده قال في سره: يا رب، أيش لو كان هذا الذبح على يدي غيري، قال الله تعالى: لا يكون إلا على يدك، فقالت الملائكة: يا ربنا لم فعلت هكذا؟ قال: حتى يزيد بلاء على بلاء، فقالت الملائكة: لم؟ قال: حتى لا يحب أحدًا غيري، فإني لا أقبل الشريك في الحب، فإبراهيم -عليه السلام -أحب ولده فابتلى بذبحه، ويعقوب أحب يوسف فغاب عنه أربعين سنة وابتلى بفراقه، ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم -أحب الحسن والحسين -رضي الله عنهما -وعلقا بقلبه، فجاء جبريل -عليه السلام -وأخبره بأن أحدهما يسم والآخر يقتل حتى لا يحب مع الحبيب سواه.

(فصل) ويستحب إذا خرج المؤمن إلى صلاة العيد في طريق أن يرجع في طريق أخرى

(فصل) ويستحب إذا خرج المؤمن إلى صلاة العيد في طريق أن يرجع في طريق أخرى. لما روى ابن عمر -رضي الله عنهما -أن النبي -صلى الله عليه وسلم -أخذ يوم العيد في طريق ورجع في آخر. وفي حديث آخر أنه كان يخرج في طريق ويرجع في طريق آخر، فاختلف الناس في ذلك، فقال أكثرهم: إنما أراد بذلك اختلاف حرز المشركين لعسكره، فخالف بين الطريقين ليختلف الحرز. وقال آخرون: إنما قصد بذلك الاختصار في الرجوع كأنه سلك الطريق الأطول في الممر لكثرة الحسنات ورجع في الأقصر. وقال آخرون: لما مضى في طريق شهدت له الأرض، ثم رجع في طريق آخر لتشهد له الأرض الثانية. وقيل: إنه -عليه السلام -مضى على حي من الأحياء ثم رجع على غيرهم ليساوى بينهم في الإكرام، لأن رؤيته -عليه السلام -كانت رحمة، قال الله تعالى: {وما أرسلناك إل رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107]. وقيل: إن الأرض تفتخر بوطء النبي -صلى الله عليه وسلم -وغيره من الأنبياء والأولياء وسعيهم عليها، فأراد أن يساوى بين البقعتين لكي لا تفتخر بعضها على بعض. وقيل: إنه -عليه السلام -كان قد سلك إلى المصلى من طريق وقصده الحقيقة إلى الله تعالى، ثم أراد الرجوع إلى الأهل والوطن والطين والماء المعروف المعهود، فكره أن يسلك إلى الله تعالى طريقًا ثم يسلكه إلى غيره، فرجع من طريق آخر. وقيل: إنه -عليه السلام -لو لم يرجع في طريق آخر لوجب على الناس الاستنان به -عليه السلام -، وتعذر عليهم التفرق بعد صلاة العيد إلى منازلهم، فأراد أن يبين التوسعة عليهم في الرجوع في أي طريق شاءوا. وقيل: إنه -صلى الله عليه وسلم -فزع من مكيدة الكفار والمنافقين. وقيل: إنه كان يتصدق على من كان معه، فكان يرجع في طريق آخر حتى تتوفر

(فصل: في فضيلة يوم النحر والأضحية)

الصدقة على الفقراء. وقيل: إنه كان يفعل ذلك لأجل ازدحام الناس عليه -صلى الله عليه وسلم -. (فصل: في فضيلة يوم النحر والأضحية) روى عبد الله بن قرط -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "أعظم الأيام عند الله يوم النحر". وروى أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال لفاطمة -رضي الله عنها -: "قومي إلى أضحيتك فاشهديها، فإنه يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها كا ذنب عملت، وقولي: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين". وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "إن داود -عليه السلام -قال: إلهي ما ثواب من ضحى من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم -قال: ثوابه أن يعطى بكل شعرة منها عشر حسنات، ويمحى عنه عشر سيئات، ويرفع له عشر درجات، فقال: إلهي فما ثوابه إذا شق بطنها؟ قال: إذا انشق القبر عنه أخرجه الله تعالى آمنًا من الجوع والعطش ومن أهوال القيامة، يا داود له بكل بضعة من لحمها طير في الجنة كأمثال البخت، وبكل كراع منها مركب من مراكب الجنة، وبكل شعرة على جسدها قصر في الجنة، وبكل شعرة على رأسها جارية من الحور العين. أما علمت يا داود أن الضحايا هي المطايا، وأن الضحايا تمحو الخطايا وتدفع البلايا، مر بالضحايا فإنها فداء المؤمن كفداء إسحاق من الذبح". وقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: "أحسنوا ضحاياكم فإنها مطاياكم يوم القيامة". وروى أن عليًا -رضي الله عنه -قرأ: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدًا} [مريم: 85] ثم قال: وهل يكون الوفد إلا ركبانًا على نجائبهم، ونجائبهم صحاياهم يؤتون بنوق لم ير الخلائق مثلها عليها أرحلة من الذهب، وأمتها من الزبرجد، ثم تنطلق بهم إلى الجنة حتى يقرعوا بابها. وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "ضحوا وطيبوا بها نفسًا فإنه من أخد أضحيته

فاستقبل بها القبلة كان دمها وشعرها محصورين له يوم القيامة، فإن الدم إذا وقع في التراب فإنما يقع في حرز الله، انفقوا يسيرًا تؤجروا كثيرًا". وروى "أن النبي -صلى الله عليه وسلم -دعا بكبشين أملحين أقرنين عظيمين، فأضجع أحدهما وقال: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عن محمد وعن أهل بيته، ثم ثنى بالآخر وقال: بسم الله والله أكبر اللهم هذا عن محمد وعن أمته". وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -"أنه ضحى بكبشين يوم النحر". وأخبرنا هبة الله عن محمد بن أحمد الخارون المعدل الكوفى، قال: أنبأنا القاضي محمد بن عبد الله الجعفى، أنبأنا محمد بن جعفر الأشجعى، أنبأنا على بن المنذر الطرفى، أنبأنا ابن فضيل عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "من قرب أضحيته يوم النحر لينحرها، قربة الله تعالى إلى الجنة، فإذا نحرها غفر الله له بأول قطرة تقطر من دمها، وجعلها الله تعالى له مركبًا يوم القيامة إلى المحشر، ويعطى بعدد شعرها وصوفها حسنات". وروى عن أنس بن مالك -رضي الله عنه -: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم -ضحى بكبشين أقرنين أملحين، فكان يذبح ويسمى ويضع رجله على صفحتها". قال أبو عبيدة: الأملح ما فيه بياض وسواد، والسواد أغلبه. وروت عائشة -رضي الله عنها -أنه "أمر النبي -صلى الله عليه وسلم -بكبش أقرن بطأ في سواد وينظر في سواد ويبرك في سواد، فأتى به فضحى به فأضجعه وذبحه فقال: بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد". قال أصحاب الحديث: قوله: "وبطأ في سواد وينظر في سواد معناه: لكثرة شحمه ولحمه ما يظل في ظل نفسه وينظر فيه ويبرك فيه".

(فصل: في صلاة ليلة الأضحى)

وقال أهل اللغة: معنى السواد في هذا الموضع: أنه كان أسود اليدين والعينين والركبتين. (فصل: في صلاة ليلة الأضحى) وهو أن يصلى ركعتين في كل ركعة فاتحة الكتاب خمس عشرة مرة، و {قل هو الله أحد ...} كذلك، و {قل أعوذ برب الفلق ...} مثل ذلك، و {قل أعوذ برب الناس ...} كذلك، فإذا سلم قرأ آية الكرسى ثلاث مرات، واستغفر الله خمس عشر مرة، ثم يدعو بما شاء من خير الدنيا والآخرة. (فصل) والأضحية سنة: لا يستحب تركها لمن قدر عليها عند الإمام أحمد ومالك والشافعي -رحمهم الله -، وعند غيرهم هي واجبة. والأصل في استحبابها دون وجوبها ما روى عن ابن عباس -رضي الله عنهما -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "أمرت بالنحر وهو لكم سنة". وفي خبر آخر: "ثلاث على فرض، ولكم تطوع: النحر، والوتر، وركعتا الفجر ... ". وفي حديث أم سلمة -رضي الله عنها -قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحى فلا يمس من شعره ولا بشرته شيئًا". فعلق -صلى الله عليه وسلم -الأضحية بالإرادة، وما كان واجبًا بالشرع لا يتعلق بالإرادة. (فصل) وأفضلها الإبل ثم البقر ثم الغنم، ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن والثنى مما سواه. أما الجذع فهو ما كمل له ستة أشهر، والثنى من المعز ما كمل له سنة، ومن البقر ما كمل له سنتان، ومن الإبل ما كمل له خمس سنين، وتجزئ الشاة عن واحد، والبدنة من الإبل والبقر عن سبعة. وأفضل الضحايا الشهب ثم الصفر ثم السود، والأفضل أن يذبحها بنفسه، فإن لم

يحسن فليشاهد ذبحها، ويأكل ثلثها، ويهدى ثلثها، ويتصدق بثلثها، ويجتنب فيها المعيبة. والعيوب خمسة، فلا يضحى بعضباء القرن والأذن وهي ما ذهب أكثر أذنها أو قرنها، وقيل: ما ذهب ثلث أذنها وقرنها. وكذلك لا يضحى بالجماء، لأنها كالعضباء في أصح القولين، ولا بالعوراء البين عورها، وهي ما انخسفت عينها وذهبت، ولا بالعجفاء التي لا تنقى، وهي الهزيلة التي لا مخ فيها، وال بالعرجاء البين عرجها، وهي التي لا تقدر على المشي مع المسرح، ولا المشاركة في العلف لضعفها، ولا بالمريضة البين مرضها، ولا بالجرباء، لأن جربها يفسد اللحم. وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم -أن يضحى بالمقابلة، وهي ما قطع شيء من مقدم أذنها وبقى معلقًا، ولا بالمدابرة، وهي ما قطع شيء من خلف أذنها، ولا بالخرقاء، وهي ما ثقب الكي أذنها، ولا بالشرقاء، وهي ما شق الكي أذنها، وذلك محمول على نهي تنزيه لا على نهي تحريم، والأولى أن يجتنب ذلك، وإن ضحى بها جاز. وأيام النحر ثلاثة: يوم العيد بعد الصلاة أو قدرها، ويومان بعده، وهو مذهب أكثر الفقهاء، وقال الشافعي -رحمه الله -: يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة. والذي ذكرناه من أنه ثلاثة أيام منقول عن عمر وعلي وابن عباس وأبى هريرة -رضي الله عنهم -. ومن ضحى قبل صلاة الإمام فهي شاة لحم لا يحصل بذلك ثواب الأضحية لما روى منصور عن الشعبي عن البراء بن عازب -رضي الله عنهما -قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يوم النحر بعد الصلاة -فقال: "من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم، فقام أبو بردة بن نبار -رضي الله عنه -فقال: يا رسول الله لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب فعجلت وأكلت وأطعمت أهلي وجيراني، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: تلك شاة لحم فقال: إن عندي عناقًا جذعة وهي خير من شاتي لحم فهل تجزئ عني؟ فقال -صلى الله عليه وسلم -: نعم، ولا تجزئ عن أحد بعدك".

(فصل: في ذكر أيام التشريق)

وعن الأسود بن قيس -رضي الله عنه -قال: شهدت النبي -صلى الله عليه وسلم -يوم النحر مر بقوم ذبحوا قبل الصلاة، فقال -صلى الله عليه وسلم -: "من ذبح قبل الصلاة فليعد". وفي بعض الأخبار "من كان ذبح قبل أن يصلي فليعد أخرى مكانها ومن لم يكن ذبح فليذبح". (فصل: في ذكر أيام التشريق) قال الله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} [البقرة: 203] يعني بالذكر: التكبير إدبار الصلوات، وعند الجمرات يكبر مع كل حصاة وغيرها من الأوقات، يستحب ذلك من أول العشر إلى آخر أيام التشريق. قوله: {في أيام معدودات} يعنى أيام التشريق أيام منى الثلاث، وأما المعلومات. فهي أيام العشر، وعلى هذا أكثر العلماء، ويدل عليه قوله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} [البقرة: 203] وإنما يكون الصدر في أيام التشريق في يومين منها أو جميع الثلاث. قال ابن عباس -رضي الله عنهما: أمر الله تعالى بذكره في الأيام المعدودات وهي أيام التشريق ثلاثة أيام بعد النحر، وجعلها معدودة لقلتها من بين الشهور، وكما قال تعالى: {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة} [يوسف: 20]. وقيل: إنما سميت معدودة، لأنها تعد من أيام الحج، فيفرغ فيها مما عليه من أفعال الحج من رمي الجمار والبيتوتة بمزدلفة. وقال الزجاج: تستعمل المعدودات في اللغة للشيء القليل فسميت بذلك لأنها ثلاث أيام، فالأيام المعدودات، أيام التشريق، والذكر المأمور فيها: التكبير. وعن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما -أنه قال: الأيام المعدودات ثلاثة أيام، يوم النحر ويومان بعده. وقال إبراهيم النخعى -رحمه الله -: الأيام المعدودات: أيام العشر، والمعلومات. أيام النحر.

وسبب أمر الله تعالى المسلمين بالذكر في هذه الآية والتي قبلها قوله -عز وجل -: {فاذكروا الله كذكركم آباءكم} [البقرة: 200] على ما ذكر المفسرون أن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم وقفوا عند البيت وذكروا مآثر آبائهم ومفاخرهم، وكان الرجل يقول إن أبى كان يقرى الضيف، ويطعم الطعام، وينحر الجزور، ويفك العانى، ويجز النواصى، ويفعل كذا وكذا، ويتفاخرون بذلك، فأمرهم الله -عز وجل -بذكره، فنزل الله -عز وجل -: {فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا} [البقرة: 200] إلى قوله تعالى: {واذكروا الله فى أيام معدودات} [البقرة: 203]. وقال -جل وعلا -: {فاذكرونى} [البقرة: 152] فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم وأحسنت إليكم وإليهم. وقال السدى -رحمه الله -: كانت العرب إذا قضت مناسكها وأقاموا بمنى يقوم الرجل فيسأل الله -عز وجل-ويقول: اللهم إن أبى كان عظيم الجفنة عظيم القبة كثير المال، فأعطني مثل ذلك، وليس يذكر الله -عز وجل -، إنما يذكر أباه، ويسأل أن يعطى في دنياه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال ابن عباس وعطاء والربيع والضحاك معناه: فاذكروا الله تعالى كذكر الصبيان الصغار الآباء، وهو قول الصبي أول ما يفصح ويفقه كلام أبيه وأمه، ثم يلهج بأبيه وأمه. وعن عمر بن مالك عن أبى الجوزاء قال: قلت لابن عباس -رضي الله عنهما -: أخبرني عن قول الله -عز وجل -: {فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا} البقرة: 2] وقد يأتي على الرجل يوم لا يذكر فيه أباه، فقال ابن عباس -رضي الله عنهما -: ليس كذلك، ولكن أن تغضب لله -عز وجل -إذا عصى أشد من غضبك لوالديك إذا شتما. وعن محمد بن أبى حميد عن محمد بن كعب القرظى -رحمه الله - {فاذكروا الله كذكركم آباءكم} أي كذكر آباءكم إياكم {أو أشد ذكرًا} يعنى بل أشد كقوله: {أو يزيدون} [الصافات: 147] أي بل يزيدون. قال مقاتل -رحمه الله -: {أو أشد ذكرًا} يعنى أكثر ذكرًا كقوله: {أو أشد قسوة} [البقرة: 74] {أو أشد خشية} [النساء: 77].

(فصل) وقد سمى الله -عز وجل -أشياء في القرآن ذكرا

(فصل) وقد سمى الله -عز وجل -أشياء في القرآن ذكرًا: - من ذلك أنه سمى التوراة ذكرًا، فقال -عز وجل -: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء: 7، والنحل: 43]. - وسمى القرآن ذكرًا، قوله -عز وجل -: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه} [الأنبياء: 5]. - وسمى اللوح المحفوظ ذكرًا، قوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر} [الأنبياء: 105] يعنى من بعد اللوح المحفوظ. - وسمى الموعظة ذكرًا، قوله -عز وجل -: {فلما نسوا ما ذكروا} [الأنعام: 44، والأعراف: 165]. - وسمى الرسول ذكرًا، قوله -عز وجل -: {قد أنزل الله إليكم ذكرًا * رسولاً} [الطلاق: 10 - 11]. - والخبر ذكرًا، قوله -عز وجل -: {هذا ذكر من معي وذكر من قبلي} [الأنبياء: 24]. - والشرف ذكرًا، قوله -عز وجل -: {وإنه لذكر لك ولقومك} [الزخرف: 44]. - والتوبة ذكرًا، قوله -عز وجل -: {ذلك ذكرى للذاكرين} [هود: 114]. - والصلاة ذكرًا، قوله -عز وجل -: {فاذكروا الله كما علمكم} [البقرة: 239]. - وسمى صلاة العصر ذكرًا، قوله -عز وجل -: {إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي} [ص: 33] يعني صلاة العصر. - والجمعة أيضًا ذكرًا، قوله -عز وجل -: {فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9]. - والشفاعة ذكرًا، قوله -عز وجل -: {اذكرني عند ربك} [يوسف: 42]. - وسمى الطاعة ذكرًا، قوله -عز وجل -: {فاذكروني أذكركم} [البقرة: 152] معناه: اذكروني بالطاعة أذكركم بالمغفرة. - وسمى الندامة ذكرًا، قوله تعالى: {أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله} [آل عمران: 135] أي ندموا بالقلب واستغفروا باللسان. - وسمى التكبير ذكرًا، قوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} [البقرة: 202] يعني أيام التشريق. * * *

(فصل) واختلف لم سميت أيام التشريق

(فصل) واختلف لم سميت أيام التشريق: فقال قوم إن المشركين كانوا يقولون أشرق ثبير كيما نفير، يعني ادخل في الشرق يا ثبير، وهو اسم جبل، كيما نغير أي كيما ندفع، لأنهم كانوا لا يدفعون ولا يفيضون من المزدلفة إلا بعد أن تشرق الشمس فجاء الإسلام فأبطل ذلك. وقيل: إنما سميت أيام التشريق لأنهم كانوا يشرقون فيها لحوم الأضاحي، وتشريق اللحم: أن يشرح ويشرق في الشمس، ويسمى القديد شرائق اللحم. وقيل: بل سميت الصلاة يوم النحر، والتشريق صلاة العيد، وإنما أخذ من شروق الشمس لأن ذلك يكون وقتها، وسمى المصلى المشرق لأن الناس يبرزون فيه للشمس، فسمى يوم العيد يوم التشريق لهذا المعنى، ثم صارت أيام التشريق تبعًا للعيد. وقيل لذى النون المصري -رحمه الله -: لم سمى الموقف بالمشعر ولم يسم بالحرم؟ فقال: لأن الكعبة بيته، والحرم حجابه، والمشعر بابه، فلما قصده الوافدون أوقفهم بالباب الأول يتضرعون إليه، ثم أوقفهم بالحجاب الثاني وهو المزدلفة، فلما نظر إلى تضرعهم أمرهم بتقريب قربانهم، فلما أن قربوها وتطهروا من الذنوب أمرهم بالزيارة على الطهارة. فقيل له: لم كره الصيام في أيام التشريق؟ قال: لأن القوم زاروا الله تعالى وهم في ضيافته، ولا ينبغي للضيف أن يصوم عند من أضافه. فقيل له: يا أبا الفيض ما معنى تعلق الرجل بأستار الكعبة؟ قال: مثله كمثل رجل بينه وبين صاحبه جناية، فهو متعلق بذيل رجال يشفعون له أن يهب له جرمه. (فصل) واختلف في قدر التكبير في هذه الأيام: قال نافع -رحمه الله -: كان عمر وعبد الله ابنه -رضي الله عنهما -يكبران بمنى هذه الأيام عقيب الصلاة، وفي المجلس، وعلى الفرش، والفسطاط، وفي الطريق، ويكبر الناس بتكبيرها، ويتلوان هذه الآية، فالاتفاق حاصل على كون التكبير سنة، وإنما الخلاف في قدره. وكان علي -رضي الله عنه -يكبر من صلاة الغداة من يوم عرفة، إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، وهو مذهب إمامنا أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى -، وأحد أقوال الشافعي ومذهب أبى يوسف ومحمد بن الحسن، وهو أولى الأقاويل وأجمعها

وكان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه -يكبر من صلاة الغداة يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر، وهو مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان -رحمه الله تعالى -. وكان ابن عباس وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم -يكبران من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، وهو قول عطاء -رحمه الله -. والأظهر من مذهب الشافعي -رحمه الله -أن يبدأ بالتكبير من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق اقتداء بالحاج، وهو مذهب الإمام مالك، وللشافعي قول ثالث: أوله من صلاة المغرب ليلة النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق. وأما لفظ التكبير، فكان ابن مسعود رضي الله عنه يكبر اثنين: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد، وهو مذهب إمامنا أحمد وأبى حنيفة -رحمهما الله -وأهل العراق. وعن مالك -رحمه الله تعالى -أنه كان يقول: الله أكبر الله أكبر، ثم يقطع فيقول: الله أكبر لا إله إلا الله. وكان سعيد بن جبير والحسن -رحمهما الله تعالى -يقولان: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثلاثًا نسقًا ثم يسوق التكبير إلى آخره على ما ذكرنا أولاً وهو مذهب الشافعي -رحمه الله -وأهل المدينة. وعن قتادة -رحمه الله -أنه كان يقول: الله أكبر كبيرًا، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر ولله الحمد. وروى أبو هريرة -رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: "أيام منى أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى". وعن جعفر بن محمد -رحمه الله -أنه قال: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بعث مناديًا فنادى في أيام التشريق. إنها أيام أكل وشرب وبعال". (فصل) وإن كان محرمًا فمن صلاة الظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق عند إمامنا أحمد -رحمه الله تعالى-، وكذلك في الصحيح عنه لا يكبر إلا إذا صلى الفرض في

(فصل) وهذا التكبير الذي ذكرناه في عيد الأضحى في عيد الفطر بل هو آكد في الفطر

جماعة، ولا يكبر إذا كان وحده ولا عقيب النوافل. (فصل) وهذا التكبير الذي ذكرناه في عيد الأضحى في عيد الفطر بل هو آكد في الفطر ليلة الفطر لقول الله -عز وجل -: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185]. غير أن ابتداءه من بعد غروب الشمس ليلة الفطر إلى أن يفرغ الإمام من خطبتي العيد يوم العيد ثم ينقطع. وقال الإمام أبو حنيفة -رحمه الله -: ليس في الفطر تكبير مسنون. وقال مالك -رحمه الله -: يكبر يوم الفطر دون ليلته ويكون وقته إلى أن يأتي المصلى ويخرج الإمام ويظهر الناس للصلاة. وقال الشافعي -رحمه الله -: يكبر من غروب الشمس ليلة الفطر إلى أن يفرغ الإمام من خطبتي العيد ثم ينقطع. وقال في قول: يكبر من غروب الشمس ليلة العيد إلى أن يظهر الإمام في المصلى. وقال في قول: إلى أن يحرم بالصلاة. وفي قول: إلا أن يفرغ من الصلاة. * * *

مجلس في فضائل يوم عاشوراء

مجلس في فضائل يوم عاشوراء قال الله تعالى: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله ...} إلى قوله: {منها أربعة حرم} [التوبة: 36] وقد تقدم ذكر ذلك. وإن منها المحرم، فهذا الشهر من الأشهر المحرمة عند الله تعالى، وفيه يوم عاشوراء الذي عظم الله تعالى أجر من أطاعه فيه. من ذلك ما أخبرنا به أبو نصر عن والده، بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس -رضي الله عنهما -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "من صام يومًا من المحرم فله بكل يوم ثلاثون يومًا". ومن ذلك ما روى عن ميمون بن مهران عن ابن عباس -رضي الله عنهما -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "من صام يوم عاشوراء من المحرم أعطى ثواب عشرة آلاف ملك، ومن صام يوم عاشوراء من المحرم أعطى ثواب عشرة آلاف شهيد وثواب عشرة آلاف حاج ومعتمر، ومن مسح بيده على رأس يتيم يوم عاشوراء رفع الله تعالى له بكل شعرة على رأسه درجة في الجنة، ومن فطر مؤمنًا ليلة عاشوراء فكأنما أفطر عنده جميع أمة محمد -صلى الله عليه وسلم -وأشبع بطونهم. قالوا: يا رسول الله لقد فضل الله تعالى يوم عاشوراء على سائر الأيام؟ قال -صلى الله عليه وسلم -: نعم خلق الله تعالى السموات في يوم عاشوراء، وخلق الجبال يوم عاشوراء، وخلق البحار يوم عاشوراء، وخلق القلم يوم عاشوراء، وخلق اللوح يوم عاشوراء، وخلق آدم يوم عاشوراء، وأدخله الجنة يوم عاشوراء، وولد إبراهيم -عليه السلام -يوم عاشوراء، ونجاه الله من النار يوم عاشوراء، وفدى ابنه من الذبح يوم عاشوراء، وأغرق فرعون يوم عاشوراء، وكشف الله تعالى البلاء عن أيوب يوم عاشوراء، وتاب الله تعالى على آدم يوم عاشوراء، وغفر الله تعالى ذنب داود -عليه السلام -يوم عاشوراء، وولد عيسى يوم عاشوراء، ويوم القيامة في يوم عاشوراء".

وفي لفظ آخر عن ابن عباس -رضي الله عنهما -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "من صام يوم عاشوراء كتب الله له عبادة ستين سنة بصيامها وقيامها، ومن صام يوم عاشوراء أعطى ثواب ألف شهيد، ومن صام يوم عاشوراء كتب الله له أجر أهل سبع سموات، ومن فطر مؤمنًا يوم عاشوراء فكأنما أفطر عنده جميع أمة محمد -صلى الله عليه وسلم -وأشبع بطونهم، ومن مسح رأس يتيم في يوم عاشوراء رفعت له بكل شعرة على رأسه درجة في الجنة، فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -: يا رسول الله لقد فضلنا الله تعالى بيوم عاشوراء، قال -صلى الله عليه وسلم -: خلق الله تعالى السموات يوم عاشوراء والأرض كمثله، وخلق الجبال يوم عاشوراء والنجوم كمثله، وخلق العرش يوم عاشوراء والكرسي كمثله، وخلق اللوح يوم عاشوراء والقلم كمثله، وخلق جبريل يوم عاشوراء والملائكة كمثله، وخلق آدم في يوم عاشوراء، وولد إبراهيم في يوم عاشوراء، ونجاه الله من النار يوم عاشوراء، وفدى الله ابنه يوم عاشوراء، وأغرق فرعون في يوم عاشوراء، ورفع إدريس في يوم عاشوراء، وكشف الضر عن أيوب في يوم عاشوراء، ورفع عيسى في يوم عاشوراء، وولد عيسى في يوم عاشوراء، وتاب الله على آدم في يوم عاشوراء، وغفر ذنب داود في يوم عاشوراء، وأعطى الله الملك لسليمان في يوم عاشوراء، وولد نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم -في يوم عاشوراء، واستوى الرب تبارك وتعالى على العرش في يوم عاشوراء، ويوم القيامة في يوم عاشوراء، وأول مطر نزل من السماء يوم عاشواء، وأول رحمة نزلت في يوم عاشوراء، ومن اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض مرضًا إلا مرض الموت، ومن اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم ترمد عينه تلك السنة كلها، ومن عاد مريضًا يوم عاشوراء فكأنما عاد ولد آدم، ومن سقى شربة من ماء يوم عاشوراء فكأنما لم يعص الله طرفة عين، ومن صلى أربع ركعات يوم عاشوراء يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وخمسين مرة {قل هو الله أحد ...} غفر الله تعالى له ذنوب خمسين عامًا ماضيًا وخمسين عامًا مستقبلاً، وبنى له في الملأ الأعلى ألف منبر من نور". وقد ورد في حديث آخر "من صلى يوم عاشوراء أربع ركعات، بتسليمتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة واحدة، و {إذا زلزلت الأرض زلزالها ...} مرة، و {قل يا أيها الكافرون} مرة، و {قل هو الله أحد ...} مرة، ويصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم -سبعين مرة إذا فرغ منها" مروى ذلك في حديث أبى هريرة -رضي الله عنه -.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "افترض على بني إسرائيل صوم يوم في السنة وهو يوم عاشوراء العاشر من المحرم فصوموه ووسعوا فيه على عيالكم، ومن وسع على عياله من ماله في يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته، ومن صام هذا اليوم كان كفارة أربعين سنة، وما من أحد أحيا ليلة عاشوراء وأصبح صائمًا مات ولم يدر بالموت". وفي حديث على -كرم الله -وجهه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "من أحيا ليلة عاشوراء أحياه الله تعالى ما شاء". وعن سفيان بن عيينة عن جعفر الأحمر الكوفي عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر -وكان من أفضل من رؤى بالكوفة على ما قيل في زمانه -أنه بلغه: أن من وسع على عياله في يوم عاشوراء وسع الله تعالى عليه سائر سنته. قال سفيان -رحمه الله -: فجرينا ذلك منذ خمسين سنة فلم نر إلا سعة. وعن عبد الله -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "من وسع على أهله في يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته". وقيل عن بعض السلف أنه قال: "من صام يوم الزينة، يعنى يوم عاشوراء أدرك ما فاته. من صام السنة، ومن تصدق فيه يومئذ أدرك ما فاته من صدقة السنة". وقال يحيى بن أبى كثير -رحمه الله -: من اكتحل يوم عاشوراء بكحل فيه مسك لم يشتك عينه إلى قابل من ذلك اليوم. وأخبرنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن أبى غليظ بن أمية بن خلف الجمحى قال: "رأى النبي -صلى الله عليه وسلم -على بيتي صردًا فقال: هذا أول طائر صام يوم عاشوراء". وقال قيس بن عباد: كانت الوحش تصوم يوم عاشوراء. وعن أبى هريرة -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "أفضل صيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي يدعونه المحرم، وأفضل الصلاة بعد المفروضة وفي جوف الليل.

(فصل) واختلف العلماء -رحمهم الله -في تسميته بيوم عاشوراء

الصلاة يوم عاشوراء". وعن علي -كرم الله وجهه -قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "في شهر الله المحرم تاب الله على قوم ويتوب على آخرين". وعن ابن عباس -رضي الله عنهما -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "من صام آخر يوم من ذي الحجة وأول يوم من المحرم فقد ختم السنة الماضية بصوم واستفتح السنة المستقبلة بصوم، وجعل الله -عز وجل -له كفارة خمسين سنة". وعن عروة عن عائشة -رضي الله عنها -قالت: "كان عاشوراء يومًا تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يصومه بمكة، فلما قدم المدينة فرض صيام رمضان، قال: فمن شاء صام يوم عاشوراء ومن شاء تركه". وعن ابن عباس -رضي الله عنهما -قال: "قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسأل عن ذلك، فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله -عز وجل -فيه موسى -عليه السلام -وبنى إسرائيل على قوم فرعون فنحن نصومه تعظيمًا له، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: نحن أولى بموسى منكم، فأمر بصومه". (فصل) واختلف العلماء -رحمهم الله -في تسميته بيوم عاشوراء: فقال أكثرهم: إنما سمى يوم عاشوراء، لأنه عاشر يوم من أيام المحرم. وقال بعضهم: إنما سمى عاشوراء، لأنه عاشر الكرامات التي أكرم الله -عز وجل -هذه الأمة بها: أولها: رجب، وهو شهر الله تعالى الأصم، وإنما جعله كرامة لهذه الأمة وفضله على سائر الشهور كفضل هذه الأمة على سائر الأمم. الكرامة الثانية: شهر شعبان، وفضله على سائر الشهور كفضل النبي -صلى الله عليه وسلم -على سائر الأنبياء. والثالثة: شهر رمضان وفضله على سائر الشهور كفضل الله تعالى على خلقه.

والرابعة: ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر. والخامسة: يوم الفطر، وهو يوم الجزاء الأوفى. والسادسة: أيام العشر، وهي أيام ذكر الله تعالى. والسابعة: يوم عرفة، وصومه كفارة سنتين. والثامنة: يوم النحر، وهو يوم القربان. والتاسعة يوم الجمعة، وهو سيد الأيام. والعاشرة: يوم عاشوراء، وصومه كفارة سنة. فلكل وقت من هذه الأيام كرامة جعلها الله تعالى لهذه الأمة تكفيرًا لذنوبهم وتطهيرًا لخطاياهم. وقال بعضهم: إنما سمى عاشوراء، لأن الله تعالى أكرم فيه عشرة من الأنبياء عليهم السلام بعشر كرامات: إحداها: أنه -عز وجل -تاب على آدم -عليه السلام -فيه. والثانية: رفع الله -عز وجل -إدريس النبي -عليه السلام -فيه مكانًا عليًا. والثالثة: استوت سفينة نوح -عليه السلام فيه على الجودى. والرابعة: ولد إبراهيم -عليه السلام -فيه، واتخذ الله تعالى خليلاً وأنجاه من نار نمرود فيه. والخامسة: تاب الله -عز وجل -على داود -عليه السلام -فيه، ورد الملك على سليمان -عليه السلام -فيه. والسادسة: كشف الله ضر أيوب -عليه السلام -فيه. والسابعة: نجى الله -عز وجل -موسى -عليه السلام -من البحر، وأغرق فرعون في البحر فيه. والثامنة: نجى الله -عز وجل -يونس -عليه السلام -من بطن الحوت فيه. والعاشرة: ولد نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم -فيه. * * *

(فصل) واختلفوا في أي يوم هو من المحرم

(فصل) واختلفوا في أي يوم هو من المحرم: فقال أكثرهم: اليوم العاشر من المحرم وهو الصحيح لما تقدم. وقال بعضهم: هو الحادي عشر منه. ونقل عن عائشة -رضي الله عنها -أنه هو التاسع منه. وعن الحكيم بن الأعرج أنه سأل ابن عباس -رضي الله عنهما -عن أي يوم يصام عاشوراء؟ فقال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد، ثم أصبح صائمًا من تاسعه. قلت: أكذلك كان يصومه محمد -صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. وفي حديث آخر عن ابن عباس -رضي الله عنهما -أيضًا، أنه صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: إذا كان العام المقبل إن شاء الله تعالى صمنا يوم التاسع، فلم يأت العام المقبل حتى توفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عباس -رضي الله عنهما -في لفظ آخر: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: لئن عشت إلى قابل إن شاء الله تعالى صمت يوم التاسع، مخافة أن يفوته يوم عاشوراء". (فصل) ونذكر من فضائل يوم عاشوراء أن الحسين بن علي -رضي الله تعالى عنهما -قتل فيه. روى عن أم سلمة -رضي الله عنها -قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -في منزلي، إذ دخل عليه الحسين -رضي الله عنه -فطالعتهما من الباب وإذا الحسين -رضي الله عنه -على صدر النبي -صلى الله عليه وسلم -يلعب، وفي يد النبي -صلى الله عليه وسلم -قطعة من طين ودموعه تجرى، فلما خرج الحسين -رضي الله عنه -دخلت فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله طالعتك وفي يدك طينة وأنت تبكي، فقال -صلى الله عليه وسلم -لي: لما فرحت به وهو على صدري يلعب أتاني جبريل -عليه السلام -، وناولني الطينة التي يقتل عليها، فلذلك بكيت". وروى عن الحسن البصري -رحمه الله -أنه قال: إن سليمان بن عبد الملك رأى النبي -صلى الله عليه وسلم -في المنام يبشره ويلاطفه، فلما أصبح سأل الحسن -رضي الله عنه -عن ذلك، فقال له

(فصل) وقد طعن قوم على من صام هذا اليوم العظيم

الحسن -رضي الله عنه -: لعلك فعلت إلى أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -معروفًا، فقال: نعم، وجدت رأس الحسين بن علي -رضي الله عنه -في خزانة يزيد بن معاوية، فكسوته خمسة أثواب من الديباج، وصليت عليه مع جماعة من أصحابي وقبرته، فقال له الحسن -رحمه الله -: لقدر رضى النبي -صلى الله عليه وسلم -عنك بسبب ذلك، فأحسن إلى الحسن -رحمه الله -، وأمر له بالجوائز. وروى عن حمزة الزيات قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم -وإبراهيم الخليل -عليه السلام -في المنام يصليان على قبر الحسين بن علي -رضي الله عنهما -. وأخبرنا أبو نصر عن والده بإسناده عن أبى أسامة عن جعفر بن محمد -رحمه الله -قال: هبط على قبر الحسين بن علي -رضي الله عنهما -يوم أصيب سبعون ألف ملك يبكون عليه إلى يوم القيامة. (فصل) وقد طعن قوم على من صام هذا اليوم العظيم وما ورد فيه من التعظيم وزعموا أنه لا يجوز صيامه لأجل قتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما -فيه. وقالا: ينبغي أن تكون المصيبة فيه عامة لجميع الناس لفقده فيه، وأنتم تتخذونه يوم فرح وسرور، وتأمرون فيه بالتوسعة على العيال والنفقة الكثيرة، والصدقة على الفقراء والضعفاء والمساكين، وليس هذا من حق الحسين -رضي الله عنه -على جماعة المسلمين. وهذا القائل خاطئ ومذهبه قبيح فاسد، لأن الله تعالى اختار بسبط نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم -الشهادة في أشرف الأيام وأعظمها وأجلها وأرفعها عنده، ليزيده بدلك رفعة في درجاته وكراماته، مضافة إلى كرامته وبلغه منازل الخلفاء الراشدين الشهداء بالشهادة، ولو جار أن يتخذ يوم موته يوم مصيبة لكان يوم الإثنين أول بذلك، إذ قبض الله تعالى نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم -فيه، وكذلك أبو بكر الصديق -رضي الله عنه -قبض فيه، وهو ما روى هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها -قالت: قال لي أبو بكر -رضي الله عنه -. أي يوم توفي النبي -صلى الله عليه وسلم -فيه؟ قلت: يوم الإثنين، قال -رضي الله عنه -: إني أرجو أن أموت فيه، فمات -رضي الله عنه -فيه، وفقد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وفقد أبى بكر -رضي الله عنه -أعظم من فقد غيرهما. وقد اتفق الناس على شرف يوم الإثنين وفضيلة صومه، وأنه تعرض فه الأعمال، وفي يوم الخميس ترفع أعمال العباد، وكذلك يوم عاشوراء لا يتخذ يوم مصيبة، ولأن

يوم عاشوراء أن يتخذ يوم مصيبة ليس بأولى من أن يتخذ يوم فرح وسرور لما قدمنا ذكر وفضله، من أنه نجى الله تعالى فيه أنبياءه من أعدائهم، وأهلك فيه أعداءهم الكفار من فرعون وقومه وغيرهم، وأنه تعالى خلق السموات والأرض والأشياء الشريفة فيه، وآدم -عليه السلام -وغير ذلك، وما أعد الله تعالى لمن صامه من الثواب الجزيل والعطاء الوافر الكثير، وتكفير الذنوب وتمحيص السيئات فصار عاشوراء بمثابة بقية الأيام الشريفة كالعيدين والجمعة وعرفة وغيرها، ثم لو جاز أن يتخذ هذا اليوم مصيبة لاتخذه الصحابة والتابعون -رضي الله عنهم، لأنهم أقرب إليه منا وأخص به. وقد ورد عنهم الحث على التوسعة على العيال فيه والصوم فيه، من ذلك ما روى عن الحسن -رحمه الله -أنه قال: "صوم يوم عاشوراء فريضة". وكان علي -رضي الله عنه -يأمر بصيامه فقالت لهم عائشة -رضي الله عنها -: "من يأمركم بصوم يوم عاشوراء؟ قالوا: علي -رضي الله عنه، قالت: أما إنه أعلم من بقى بالسنة". وروى عن علي -رضي الله عنه -أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "من أحيا ليلة عاشوراء أحياه الله تعالى ما شاء" فدل على بطلان ما ذهب إليه القائل، والله تعالى أعلم. * * *

مجلس في فضائل يوم الجمعة

مجلس في فضائل يوم الجمعة قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} [الجمعة: 9]. قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما -: {يا أيها الذين آمنوا} يعنى أقروا وصدقوا بوحدانية الله تعالى: {إذا نودى للصلاة} يعنى إذا دعيتم بالأذان يوم الجمعة {فاسعوا إلى ذكر الله} يعنى فامشوا إلى صلاة الجمعة {وذروا البيع} يعنى واتركوا البيع بعد النداء {ذلكم} يعنى الصلاة {خير لكم} من الكسب والتجارة {إن كنتم تعلمون} يعنى تصدقون. وسبب نزول هذه الآية أن اليهود افتخروا على المسلمين بأشياء ثلاثة: أحدها: قالوا: نحن أولياء الله وأحباؤه دونكم. والثاني: لنا كتاب ولا كتاب لكم. والثالث: لنا سبت ولا سبت لكم. فرد الله عليهم وكذبهم في هذه السورة، فقال لنبيه -صلى الله عليه وسلم -: {قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} [الجمعة: 6] بقولكم نحن أولياء الله من دونكم. وأنزل الله -عز وجل -لقولهم أنتم أميون لا كتاب لكم، قوله -جل وعلا -: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم} [الجمعة: 2] وذمهم فقال تعالى: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا} [الجمعة: 5]. وأنزل تبارك وتعالى لقولهم لنا سبت ولا سبت لكم: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة ...} إلى قوله: {ذلكم خير لكم}. ثم قال -عز وجل -: {وإذا رأو تجارة أو لهوًا انفضوا إليها} [الجمعة: 11]. وذلك أن العير كانت إذا قدمت المدينة استقبلوها بالطبل والتصفيق، فيخرج الناس من المسجد، فلما كان ذات يوم جاءت العير فخرج الناس من المسجد، غير اثنى عشر

(فصل: في فضائل يوم الجمعة من طريق الآثار)

رجلاً وامرأة، ثم جاءت عير أخرى فخرجوا أيضًا إلا اثنى عشر رجلاً وامرأة، ثم إن دحية بن خليفة الكلبى من بنى عامر بن عوف أقبل بتجارة من الشام قبل أن يسلم، وكان يحمل معه من أنواع التجارة، وكان يتلقاه أهل المدينة بالطبل والتصفيق، فوافق قدومه يوم الجمعة والنبي -صلى الله عليه وسلم -قائم على المنبر يخطب، فخرج إليه الناس، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: انظروا كم بقى في المسجد؟ فقالوا: اثنا عشر رجلاً وامرأة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: لولا هؤلاء لقد سومت عليهم الحجارة، يعنى علم على الحجارة لهم، فأنزل الله -عز وجل -: {وإذا رأو تجارة أو لهوًا انفضوا إليها وتركوك قائمًا} [الجمعة: 11] على المنبر {قل ما عند الله خير من اللهو} [الجمعة: 11] يعنى من الطبل والتصفيق {ومن التجارة} [الجمعة: 11] التي جاء بها دحية {والله خير الرازقين} [الجمعة: 11] من غيره. وقيل: من الاثنى عشر رجلاً الذين بقوا في المسجد أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما -. (فصل: في فضائل يوم الجمعة من طريق الآثار) من ذلك ما روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة -رضي الله عنه -قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "لم تطلع الشمس ولم تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة، وما من دابة إلا وهى تفزع من يوم الجمعة إلا الثقلان الجن والإنس، وعلى كل باب من أبواب المسجد ملكان يكتبان الناس الأول فالأول، كرجل قرب بدنة، وكرجل قرب بقرة، وكرجل قرب شاة، وكرجل قرب دجاجة، وكرجل قرب بيضة، فإذا قام الإمام طريت الصحف". وعن أبى سلمة عن أبى هريرة -رضي الله عنه -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "إن خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق الله تعالى آدم، وفيه أدخله الجنة وفيه أهبط منها، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يصادفها مؤمن يسأل الله تعالى فيها شيئًا إلا أعطاه إياه". قال أبو سلمة: قال عبد الله بن سلام -رضي الله عنه -: قد عرفت تلك الساعة، وهى آخر ساعة من النهار، وهى الساعة التي خلق فيها آدم -عليه السلام -، قال الله -عز وجل -:

{خلق الإنسان من عجل} [الأنبياء: 37]. وروى عبد الله بن منذر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله، وهو أعظم عند الله تعالى من يوم الفطر، وفيه خمس خلال: فيه خلق الله تعالى آدم -عليه السلام، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه توفى، وفيه ساعة لا يسأل العبد ربه فيها شيئًا إلا أعطاه إياه ما لم يسأل حرامًا، وفيه تقوم الساعة، وما من ملك مقرب عند ربه -عز وجل -إلا وهو يفزع من يوم الجمعة، ولا سماء ولا أرض إلا وهى تشفق من يوم الجمعة". وعن أبى هريرة -رضي الله عنه -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم -عليه السلام -، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة". وعن أبى هريرة -رضي الله عنه -أيضًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "اليوم الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، والموعود يوم القيامة، ما طلعت شمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله تعالى فيها خيرًا إلا أعطاه أو يستعيذه من شر إلا يعيذه". أخبرنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن علي بن أبى طالب -رضي الله عنه -قال: "إذا كان يوم الجمعة خرجت الشياطين يزفون الناس إلى أسواقهم ومعهم الرايات، وتخرج الملائكة على أبواب المساجد يكتبون الناس على قدر منازلهم، السابق والمصلى والذي يليه، حتى يخرج الإمام، فمن دنا من الإمام فنصت واستمع ولم يلغ كان له كفلان من الأجر، ومن نأى عنه فاستمع ونصت ولم يلغ كان له كفل من الأجر، ومن دنا من الإمام فلغا ولم ينصت ولم يستمع كان عليه كفلان، ومن نأى عنه فلغا ولم ينصت ولم يستمع كان عليه كفل من الوزر، ومن قال صه فقد تكلم، ومن تكلم فلا جمعة له، ثم قال علي -رضي الله عنه -: هكذا سمعت من نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم -".

فقوله: فلا جمعة له أي جمعة كاملة من الأجر والثواب ومعناه ناقص الأجر والثواب. وعن أبى هريرة -رضي الله عنه -قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يقول: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب أنصت فقد لغوت". وعن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده -رضي الله عنه -قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: "تقف الملائكة على أبواب المساجد يوم الجمعة يكتبون مجيء الناس حتى يخرج الإمام، فإذا خرج الإمام طويت الصحف ورفع الأقلام". قال: "فتقول الملائكة بعضهم لبعض: ما حبس فلانًا وما حبس فلانًا؟ قال: فتقول الملائكة بعضهم لبعض: اللهم إن كان مريضًا فاشفه، وإن كان ضالاً فاهده، وإن كان غائبًا فأعنه". وقال جعفر: حدثنا ثابت. قال: بلغنا أن الله تعالى ملائكة معهم ألواح من فضة وأقلام من ذهب يكتبون من صلى ليلة الجمعة ويوم الجمعة في جماعة. أخبرنا الشيخ أبو نصر عن والده، بإسناده عن أبى الزبير، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما -: قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: "من كان يؤمن بالله والبوم الآخر فعليه الجمعة في يوم الجمعة، إلا مريضًا أو مسافرًا أو امرأة أو صبيًا أو مملوكًا، ومن استغنى عنها بلهو أو تجارة استغنى الله عنه، والله غنى حميد". وعن أبى الجهد الضمرى عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "من ترك الجمعة ثلاثًا تهاونًا بها طبع الله تعالى على قلبه". وأخبرنا الشيخ أبو نصر عن والده بإسناده عن سعيد بن المسيب عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما -قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يقول على منبره: "يا أيها الناس توبوا إلى الله تعالى قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلوا، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له تسعدوا، وأكثروا من الصدقة في السر والعلانية تؤجروا

وتحمدوا وترزقوا، واعلموا أن الله تعالى قد فرض عليكم الجمعة فريضة مكتوبة في مقامي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة، من وجد إليها سبيلاً وتركها في حياتي أو بعدي جحودًا بها أو استخفافًا بها، وله إمام جائز أو عادل، فلا جمع الله له شمله، ولا بارك له في أمره، ألا فلا صلاة له، ألا فلا وضوء له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حج له، ألا ولا بركة له حتى يتوب، فإن تاب تاب الله عليه، ألا ولا تؤمن امرأة رجلاً ولا يؤمن أعرابي مهاجرًا، ألا ولا يؤمن فاجر مؤمنًا إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه وسوطه". وأخبرنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن ثابت البنانى عن طاوس عن أبى موسى الأشعري -رضي الله عنه -قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "إن الله يبعث الأيام يوم القيامة على هيئتها، ويبعث الجمعة وهي زاهرة منيرة، أهلها يحفون بها كالعروس تهدى إلى كريمها تضيء لهم، يمشون في ضوئها، ألوانهم كالثلج وريحهم كالمسك، يخوضون في جبال الكافور، وينظر إليهم الثقلان، ما يطرفون تعجبًا حتى يدخلوا الجنة، لا يخالطهم أحد إلا المؤذنون المحتسبون". وأخبرنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن ثابت البنانى، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "إن لله تعالى ستمائة ألف عتيق من النار في كل يوم، وليلة الجمعة ويوم الجمعة أربع وعشرون ساعة، في كل ساعة ستمائة ألف عتيق من النار". وفي لفظ آخر عن ثابت عن أنس -رضي الله عنه -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "إن لله في كل ساعة من ساعات الدنيا ستمائة ألف عتيق من النار يعتقهم كلهم، قد استوجبوا النار يوم القيامة، وفي يوم الجمعة وليلة الجمعة أربع وعشرون ساعة، ليس فيها ساعة إلا ولله -عز وجل -فيها ستمائة ألف عتيق يعتقهم من النار كلهم قد استوجبوا النار". وعن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن أبى الدرداء -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "من صلى يوم الجمعة في جماعة كتبت له حجة متقبلة، وإن صلى العصر كانت

فصل من اغتسل يوم الجمعة ثم راح

له عمرة، وإن تمسى في مكانه لم يسأل الله تعالى شيئًا إلا أعطاه". وعن أبى أمامة الباهلى -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "من صام يوم الجمعة وصلى مع الإمام وشهد جنازة وتصدق بصدقة وعاد مريضًا وشهد نكاحًا وجبت له الجنة". وأخبرنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -رضي الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "يحضر الجمعة ثلاثة نفر: فرجل حضرها بلغو فذاك حظه، ورجل حضرها بدعاء فهو رجل دعا الله تعالى، فإن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدًا، فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، فإن الله -عز وجل -يقول: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [الأنعام: 16]. وقد ورد في الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "ما من دابة إلا وهي قائمة على ساق يوم الجمعة مشفقة من قيام الساعة إلا الشياطين وشقي بني آدم". ويقال: إن الطير والهوام تلقى بعضها بعضًا في يوم الجمعة، فتقول: سلام عليكم يوم صالح. وفي بر آخر: "إن جهنم تسعر في كل يوم قبل الزوال عند استواء الشمس في كبد السماء، فلا تصلوا في هذه الساعة إلا يوم الجمعة، فإنها صلاة كلها وإن جهنم لا تسعر فيه". (فصل) روى عن أبى صالح عن أبى هريرة -رضي الله عنه -أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما فرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة،

فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر". فالساعة الأولى تكون بعد صلاة الصبح، والساعة الثانية تكون عند ارتفاع الشمس، والثالثة عند انبساطها وهي الضحى الأعلى إذا مضت الأقدام بحر الشمس، والساعة الرابعة تكون قبل الزوال، والخامسة إذا زالت الشمس أو مع استوائها. وعن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "اغتسل في كل يوم جمعة أخرجه الله تعالى من ذنوبه ثم قيل له: استأنف العمل". وروى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "من غسل واغتسل وغدا وابتكر ودنا من الإمام ولم يلغ، كان له بكل خطوة صيام سنة وقيامها". وقوله -صلى الله عليه وسلم -: "من غسل" بالتشديد: أي غسل أهله كناية عن الجماع، ولهذا يستحب عند أهل العلم إتيان الزوجة في يوم الجمعة، كان بعض السلف يفعله إتباعًا لهذا الحديث. ومن روى بالتخفيف: أي غسل رأسه ثم غسل جسده. وعن الحسن عن أبى هريرة -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا هريرة اغتسل كل يوم جمعة، ولو صار أن تشترى الماء بقوت يومك". فغسل الجمعة مستحب عند أكثر الفقهاء، وواجب عند داود، فلا ينبغي أن يتركه من يأتي الجمعة. ووقته: بعد طلوع الفجر الثاني، والأولى له له أن يعقبه بالرواح إلى المسجد ليخرج من الخلاف، وأن يتحفظ من نقض الطهارة حتى يصلى الجمعة وينوى بالغسل خدمة مولاه، فإن أصبح جنبًا فتوضأ واغتسل ناويًا بهما الجنابة والجمعة جاز، ويتنظف بأخذ شعره وظفره وقطع رائحته: أي الكريهة، ويلبس أحسن ثيابه وأفضلها البياض ويتعمم ويرتدي، فإنه جاء في الحديث: "إن الملائكة تصلي على أصحاب العمائم يوم الجمعة" ويتطيب بأطيب طيبه مما يظهر ريحه ويخفى لونه، وليخرج من بيته إلى الجامع وعليه

السكينة والوقار خاشعًا متواضعًا مخبتًا مفتقرًا مكثرًا من الدعاء والاستغفار، والصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وينوى بخروجه زيارة مولاه في بيته والتقرب إلى الله تعالى بأداء فرائضه، والعكوف في المسجد إلى حين انقلابه إلى بيته، وينوى كف جوارحه عن اللهو واللغو في الطريق والجامع، وليترك راحته يوم الجمعة وحظوظ دنياه، وليواصل الأوراد والعبادة فيه، فيجعل أول نهاره إلى انقضاء صلاة الجمعة للخدمة، ثم يجعل وسط النهار إلى صلاة العصر لاستماع العلم ومجالس الذكر، وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس للتسبيح والاستغفار، وأفضل ما يشتغل به في هذا الوقت وفي كل يوم وليلة من الأذكار أن يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، مائتي مرة، سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة، لا إله إلا الله الملك الحق المبين مائة مرة، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي مائة مرة وأستغفر الله العظيم الحي القيوم وأسأله التوبة مائة مرة، وما شاء الله لا قوة إلا بالله مائة مرة فذلك سبعمائة مرة من أنواع الأذكار. وقد نقل عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم -، أنه كان يسبح في كل يوم اثنى عشر ألف تسبيحة، وعن بعض التابعين أنه كان يسبح كل يوم ثلاثين ألفًا، كل قد علم صلاته وتسبيحه، فاحذر أن تكون من المحرومين، فلا تذكر ولا تذكر، والمؤمن أولاً يكون ذاكرًا لله -عز وجل -، ثم مذكورًا له، قال الله تعالى: {فاذكروني أذكركم} البقرة: 152]. وأما قبل الصلاة فلا يستحب له حضور القاص، لأن القصص بدعة وكان ابن عمر وغيره من الصحابة -رضي الله عنهم -يخرجون القصاص من الجامع، اللهم إلا أن يكون عالمًا بالله تعالى من أهل المعرفة واليقين، فيكون حضور مجلسه أفضل من صلاته لحديث أبى ذر -رضي الله عنه -: "حضور مجلس العلم أفضل من صلاة ألف ركعة". وفي حديث آخر: "لئن يتعلم أحدكم بابًا من العلم أو يعلمه خير له من صلاة ألف ركعة". وإذا أتى الجامع لا يتخطى رقاب الناس إلا أن يكون إمامًا أو مؤذنًا، لما روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال لرجل رآه يتخطى رقاب الناس: "يا فلان ما منعك أن تصلي معنا

فصل أتاني جبريل في كفه كمأة بيضاء

الجمعة؟ فقال: أولم ترنى يا رسول الله؟ قال -صلى الله عليه وسلم -: رأيتك تلبثت وآذيت" أي تأخرت عن البكور، وآذيت الحضور. وفي حديث آخر قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: "ما منعك اليوم أن تجمع؟ قال: يا نبي الله قد جمعت، قال -صلى الله عليه وسلم -: أولم أرك تتخطى رقاب الناس". وقد قيل: إن من فعل ذلك جعل جسرًا يوم القيامة على جهنم يتخطاه الناس. ولا تمرن بين يدى المصلى، لأن في الخبر "لأن يقف أحدكم أربعين سنة خير له من أن يمر بين يدى المصلى". وفي لفظ آخر "لأن يكون الرجل رمادًا تذروه الرياح خير له من أن يمر بين يدي المصلى". ولا يقيمن أحدًا من موضعه ويجلس مكانه، لما روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "لا يقيمن أحدكم أخاه من مجلسه ثم يجلس فيه". وكان ابن عمر -رضي الله عنهما -إذا قام له الرجل من مجلسه لم يجلس فيه حتى يعود إليه. وإن رأى بين يديه فرجة فهل يجوز له أن يتخطى رقاب الناس فيجلس فيها؟ على روايتين عند إمامنا أحمد -رحمه الله تعالى -، فإن قدم صاحبًا له فجلس في موضعه، فإذا جلس هناك جاز وإن بسط له شيئًا فهل لغيره أن يرفعه ويجلس هناك؟ على وجهين عند أصحابنا. ويجتهد أن يدنو من الإمام فينصت إلى الخطبة فلا يتكلم، فإن تكلم أثم في إحدى الروايتين، ولا يحرم الكلام قبل الشروع في الخطبة وبعد الفراغ منها. (فصل) أخبرنا الشيخ أبو نصر عن والده، قال: أنبأنا أبو القاسم عبد الله بن عمر الفقيه الشافعي -رحمه الله تعالى -، قال: حدثنا حبيب بن الحسن القزاز، قال: حدثنا

جعفر بن محمد بن الحسين الخراساني، قال: حدثنا أبو أيوب سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، قال: حدثنا محمد بن شعيب، عن عمر بن عبد الله مولى عفرة، عن أنس ابن مالك -رضي الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "أتاني جبريل -عليه السلام -في كفه كمأة بيضاء فيها نكتة سوداء، فقلت: ما هذه يا جبريل؟ قال: هذه الجمعة، لكم فيها خير كثير، قلت: وما هذه النكتة السوداء؟ قال: هذه الساعة، تقوم يوم الجمعة، وهو سيد الأيام، ونحن نسميه عندنا يوم المزيد، قلت: ولم تسمونه يوم المزيد يا جبريل؟ قال: ذلك لأن ربك -عز وجل -اتخذ في الجنة واديًا أفيح من مسك أبيض، فإذا كان يوم الجمعة من أيام الآخرة هبط الجبار تبارك وتعالى من عرشه إلى كرسيه إلى ذلك الوادي، وقد حف الكرسي بمنابر من نور يجلس عليها النبيون، وحفت المنابر بكراسي من ذهب مكللة بالجواهر يجلس عليها الصديقون والشهداء، ثم جاء أهل الغرف حتى حفوا بالكثيب، فيقول الله -عز وجل -: أنا الذي صدقتكم وعدى وأتممت عليكم نعمتي وأحللتكم كرامتي، ثم يقول: فسلوني، فيقولون بأجمعهم: نسألك الرضا عنا، فيقول: رضاي عنكم أحلكم داري وأنيلكم كرامتي، ثم يقول: سلوني، فيعيدون فيقولون: ربنا نسألك الرضا، ثم يقول: سلوني، فيسألونه حتى تنتهي أمنية كل عبد منهم، ثم يقولون: حسبنا ربنا، فيفتح لهم بقدر انصرافهم من يوم الجمعة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ويرجع أهل الغرف إلى غرفهم، غرفة من لؤلؤة بيضاء، وياقوتة حمراء وزمردة خضراء، ليس فيها فصم ولا وصم، مطردة فيها الأنهار متدلية فيها ثمارها وفيها أزواجها وخدمها ومساكنها، فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى يوم الجمعة، ليزدادوا فضلاً من ربهم ورضوانًا". وأخبرنا أبو نصر عن والده، قال: حدثنا محمد بن أحمد الحافظ، قال: حدثنا أبو علي محمد بن أحمد الصواف، قال: حدثنا أبو العباس عبد الله بن الصقر، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو صالح الخزاز، قال: حدثنا عمرو بن شمس عن سعد بن طريف الإسكاف، عن الأصبغ بن نباتة، عن علي -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان يوم الجمعة غدا أمين الله جبريل -عليه السلام -إلى المسجد الحرام، فركز لواء فيه، وغدا سائر الملائكة إلى المساجد التي يجمع فيها، فركزوا ألويتهم وراياتهم

فصل في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد يدعو الله تعالى إلا استجيبت دعوته

بأبواب المساجد، ثم ينشرون قراطيس من فضة وأقلاماً من ذهب، ثم يكتبون الأول فالأول من بكر إلى الجمعة، فإذا دخل كل مسجد سبعون رجلاً ممن بكر إلى المسجد طويت القراطيس، وكان أولئك السبعون الذين بكروا كالذين اختار موسى {واختار موسى قومه سبعين رجلاً} [الأعراف: 155] والذين اختارهم موسى من قومه كانوا أنبياء" ثم يتخلل الملائكة الصفوف فيتفقدون الرجال، ويقول بعضهم لبعض: ما فعل فلان؟ فيقولون: مات، فيقولون. رحمه الله تعالى، فإنه كان صاحب جمعة، ويقولون: ما فعل فلان؟ فيقولون: غائب، فيقولون: حفظه الله فإن كان صاحب جمعة، فيقولون: ما فعل فلان؟ فيقولون: مريض، فيقولون: عافاه الله فإنه كان صاحب جمعة". (فصل) وفي يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد يدعو الله تعالى إلا استجيبت دعوته. أخبرنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أتيت الطور فوجدت فيه كعباً، فحدثته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وحدثني عن التوراة، قال: فما اختلفنا في شيء حتى انتهينا إلى حديث، فقلت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "في الجمعة ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي فيسأل الله تعالى فيها خيراً إلا أعطاه إياه" فقال كعب: في كل سنة، قال: فقلت بل في كل جمعة، كذلك قال -صلى الله عليه وسلم-، فذهب قليلاً ثم رجع فقال: صدقت والله، إنها لكما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل جمعة، وإنه سيد الأيام وأحبها إلى الله تعالى. فيه خلق آدم عليه السلام، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه تقوم الساعة، ما من دابة إلا وهي مصيخة تنتظر ما يكون في يوم الجمعة إلا الثقلين، فرجعت فلقيت عبد الله بن سلام رضي الله عنه فحدثته بحديثي وحديث كعب، قال: فقال عبد الله رضي الله عنه: كذب كعب هو كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في التوراة، قال: فقلت: إنه قد رجع، فقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: إني لأعلم تلك الساعة، قلت: أي ساعة هي؟ قال: آخر ساعة من نهار يوم الجمعة، قال: فقلت: وكيف وقد سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يوافقها مؤمن يصلي" ولات حين صلاة قال: أما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من انتظر صلا فرض فهو

في صلاة، قلت: بلى، قال: فهي كذلك". وفي لفظ عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه، وقال: بيده يقللها". وقد روى عن بعض السلف أنه قال: إن لله تبارك وتعالى فضلاً من الرزق سوى أرزاق العباد ولا يعطى من ذلك الفضل إلا لمن سأله عشية الخميس ويوم الجمعة. وأخبرنا أبو النصر عن والده، بإسناده عن سعيد بن راشد، عن زيد بن على عن مرجانة، عن فاطمة بنت النبي -صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنها، عن أبيها -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه" قلت: يا أبت أية ساعة هي؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا تدلى نصف الشمس للغروب" قالت: فكانت فاطمة رضي الله عنها إذا كان يوم الجمعة أمرت غلاماً لها يقال له زيد تقول: اصعد إلى الضراب، فإذا تدلى نصف الشمس للغروب فآذني وأعلمني، فكان يصعد، فإذا كانت تلك الساعة آذنها وأعلمها، فتقوم وتدخل المسجد حتى تغرب الشمس وتصلي. وفي حديث كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه عن جده رضي الله عنه، قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "في الجمعة ساعة من نهار ولا يسأل الله فيها عبد شيئاً إلا أعطاه سؤله، قيل له: وأية ساعة هي يا رسول الله؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها". قال كثير بن عبد الله المزني: يعني بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجمعة. وأخبرنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن محمد بن المنكدر قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: عرض هذا الدعاء على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لو دعى الله به على كل شيء بين المشرق والمغرب في ساعة يوم الجمعة لاستجيب لصاحبه:

(فصل: في الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في يوم الجمعة)

سبحانك لا إله إلا أنت يا حنان يا منان، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام. وقال صفوان بن سليم: بلغني أن من قال حين يجلس الإمام على المنبر يوم الجمعة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو على كل شيء قدير، غفر له. وقال البراء بن عازب رضي الله عنهما: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "فضل يوم الجمعة في رمضان على سائر الأيام كفضل رمضان على سائر الشهور". (فصل: في الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في يوم الجمعة) أخبرنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أكثروا من الصلاة علىَّ يوم الجمعة، فإنه يوم تضاعف فيه الأعمال، وسلوا الله لي الدرجة الوسيلة من الجنة، قيل: يا رسول الله: وما الدرجة الوسيلة من الجنة؟ قال: هي أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا نبي، وأرجو أن أكون هو". وعن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، حلت له الشفاعة يوم القيامة". وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أكثروا الصلاة على نبيكم في الليلة الغراء واليوم الأزهر، ليلة الجمعة ويوم الجمعة". وعن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت واقفاً بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "من صلى علىَّ في كل جمعة ثمانين مرة غفر الله تعالى له ذنوب ثمانين سنة، قلت: يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: تقول اللهم صل

(فصل: فيما يستحب أن يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة)

على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وتعقد واحدة". وعن مكحول الشامي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا من الصلاة علىَّ في يوم الجمعة، فإن صلاة أمتي تعرض على في كل يوم جمعة، فمن كان أكثرهم علىَّ صلاة كان أقربهم مني منزلة يوم القيامة". (فصل: فيما يستحب أن يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة) أخبرنا أبو نصر عن والده بإسناده عن أبي الأحوص، عن عبد الله رضي الله عنه قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في الصبح يوم الجمعة: الم السجدة، وهل أتى". وروى عنه -صلى الله عليه وسلم- "أنه كان يقرأ في المغرب ليلة الجمعة: {قل يا أيها الكافرون ...}، و {قل هو الله أحد ...}، وفي العشاء بسورة الجمعة والمنافقين". وقيل: إنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ ذلك في صلاة الجمعة. وعن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ ليلة الجمعة سورة يس وحم الدخان أصبح مغفوراً له". وقيل: إن من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة كان كمن تصدق بعشرة آلاف دينار سوية. ويستحب أن يصلي ليلة الجمعة ويوم الجمعة أربع ركعات بأربع سور: سورة الأنعام، وسورة الكهف، وسورة طه، وسورة الملك، فإن لم يحسن القرآن قرأ جميع ما يحسن منه، فذلك له ختمة، فقد قيل: ختمة من حيث علمه، وإن كان يحسن القرآن يستحب له أن يختم في يوم الجمعة، فإن لم يقدر يشفع إليه ليلة الجمعة، فإن جعل آخر ختمته في ركعتي المغرب أو ركعتي الفجر كان أحسن، وكذلك إن جعل ختمته بين الآذان والإقامة يوم الجمعة كان فيه فضل كبير، وإن قرأ ألف مرة {قل هو الله أحد ...} يوم الجمعة في عشر ركعات أو عشرين أو في غير صلاة كان أفضل من ختمة القرآن. ويستحب الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- ألف مرة يوم الجمعة، وكذلك التسبيح ألف مرة، وهي بالكلمات الأربع التي تقدمت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.

(فصل: في تسميته بيوم الجمعة)

(فصل: في تسميته بيوم الجمعة) أخبرنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن سلمان رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتدري لم سمى يوم الجمعة؟ قلت: لا، قال: لأن فيه جمع أبوكم آدم. قال لكني أقول: لا يتطهر رجل يوم الجمعة فيتوضأ ويحسن وضوءه، ثم يأتي الجمعة، إلا كفّر له ما بينها وبين الجمعة الأخرى ما اجتنب الكبائر". وقال بعضهم: هو من الاجتماع، وهو اجتماع قالب آدم وروحه بعد أن كان ملقى أربعين سنة، وقال آخرون: لاجتماع آدم وحواء لما خلقها الله تعالى من ضلع آدم عليه السلام، وقال آخرون: لاجتماع آدم وحواء بعد الفرقة الطويلة. وقيل: إنما سمي بذلك لاجتماع أهل البلد والرسانيق فيه. وقيل: لأنه تقوم فيه القيامة، وهو يوم الجمع، قال الله عز وجل: {يوم يجمعكم ليوم الجمع} [التغابن:9]. (فصل) وجميع ما ذكرناه من صيام الأشهر والأضحية والعبادات من الصلاة والأذكار وغير ذلك، وما سنذكر إن شاء الله تعالى، لا يقبل إلا بعد التوبة وطهارة القلب وإخلاص العمل لله تعالى وترك الرياء والسمعة. أما التوبة: فقد تقدم بيانها ونزيد عليه بأن الله يحب التوابين ويحب كل قلب طاهر من الذنوب، فقال عز وجل: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} [البقرة: 222]. قال عطاء ومقاتل والكلبي رحمهم الله: إن الله يحب التوابين من الذنوب، والمتطهرين بالماء من الأحداث والمحيض والجنابات والنجاسات، بيانه قصة أهل قباء، حيث ذكرهم الله عز وجل بقوله تعالى: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} [التوبة: 18] سألهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عما يعملون، فقالوا: نتبع الماء الأحجار في الاستنجاء. وقال مجاهد رحمه الله: يحب التوابين من الذنوب والمتطهرين عن أديار السماء أن يأتوها، من أتى امرأة في دبرها فليس من المتطهرين، فإن دبر المرأة مثله من الرجل. وقيل: التوابين من الذنوب والمتطهرين من الشرك.

(فصل) وأما الإخلاص

وروي عن أبي المنهال رحمه الله أنه قال: كنت عند أب العالية فتوضأ وضوءًا حسنًا، فقلت: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}، فقل: الطهور ممه، إن الطهور حسن، ولكنهم المتطهرون من الذنوب. وعن سعيد بن جبير رحمه الله قال: إن الله تعالى يحب التوابين من الشك، والمتطهرين من الذنوب. وقيل: التوابين من الكفر، والمتطهرين بالإيمان. وقيل التوابين من الذنوب لا يعودون فيها، والمتطهرين منها لم يصيبوها. وقيل: التوابين من الكبائر، والمتطهرين من الصغائر. وقيل: التوابين من الأفعال، والمتطهرين من الأقوال. وقيل: التوابين من الأقوال والأفعال، والمتطهرين من العقود والإضمار. وقيل: التوابين من الآثام، والمتطهرين من الأجرام. وقيل: التوابين من الجرائر، والمتطهرين من خبث السرائر. وقيل: التوابين من الذنوب، والمتطهرين من العيوب. وقيل: التواب الذي كلما أذنب تاب، قال الله عز وجل: {فإنه كان للأوابين غفوراً} [الإسراء: 25]. وعن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مر رجل ممن كان قبلكم بجمجمة، فنظر إليها فقال: أي رب أنت أنت وأنا من أنا، أنت العواد بالمغفرة وأنا العواد بالذنوب، ثم خر ساجداً، فقيل له: ارفع رأسك فأنا العواد بالمغفرة، وأنت العواد بالذنوب فرفع رأسه فغفر له". (فصل) وأما الإخلاص: فقد قال الله عز وجل: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة: 5]، وقال جلا وعلا: {ألا لله الدين الخالص} [الزمر: 3]. وقال تعالى: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن ينال التقوى منكم} [الحج:37]. وقال جل جلاله: {ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون} [البقرة: 139].

اختلف الناس في معنى الإخلاص: قال الحسن رحمه الله: سألت حذيفة رضي الله عنه عن الإخلاص ما هو؟ قال: "سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإخلاص ما هو؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: سألت جبريل عليه السلام عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت رب العزة جل وعلا عن الإخلاص ما هو؟ فقال سبحانه وتعالى: هو سر من سرى استودعته قلب من أحببت من عبادي". وعن أبي إدريس الخولاني رحمه الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لكل حق حقيقة وما يبلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحب أن يحمد على شيء من عمل عمله لله عز وجل". وقال سعيد بن جبير رحمه الله: الإخلاص أن يخلص العبد دينه لله وعمله لله تعالى، ولا يشرك به في دينه، ولا يرائي بعمله أحداً. وقال الفضيل رحمه الله تعالى: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص هو الخوف من أن يعاقبك الله تعالى عليهما. وقال يحيى بن معاذ رحمه الله: الإخلاص: تمييز العمل من العيوب، كتمييز اللبن من الفرث والدم. وقال أبو الحسن البوشنجي رحمه الله: هو ما لا يكتبه الملكان، ولا يفسده الشيطان، ولا يطلع عليه الإنسان. وقال رويم رحمه الله: هو ارتفاع رؤيتك من الفعل. وقيل: هو ما يراد به الحق ويقصد به الصدق. وقيل: هو ما لا تشوبه الآفات ولا يتبعه رخص التأويلات. وقيل: هو ما استنر من الخلائق واستصفى من العلائق. وقال حذيفة المرعشي: هو أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن. وقال أبو أيوب المكفوف: هو أن يكتم حسناته كما يكتم سيئاته. وقال سهل بن عبد الله: هو الإفلاس.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين". وقيل: الإخلاص: إفراد الحق في الطاعة بالقصد، وهو إرادة العبد بطاعته القرب إلى مولا" دون أحد من خلقه، فلا يتصنع للخلق، ولا يكتسب منهم الحمد، ولا يتسجلب منهم الحب، ولا يدفع بها عن نفسه اللوم والذم. وقيل: الإخلاص: تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين. وقال ذو النون المصري رحمه الله: الإخلاص لا يتم إلا بالصدق فيه والصبر عليه، والصدق لا يتم إلا بالإخلاص فيه والمداومة عليه. وقال أبو يعقوب السوسي: متى شهدوا في إخلاصهم احتاج إخلاصهم إلى إخلاص. وقال ذو النون رحمه الله أيضاً: ثلاث من علامات الإخلاص. استواء المدح والذم من العامة، ونسيان رؤية الأعمال، واقتضاء ثواب العمل في الآخرة. وقال ذو النون أيضاً رحمه الله: الإخلاص: ما حفظ من العدو أن يفسده. قال أبو عثمان المغربي رحمه الله: الإخلاص ما لا يكون للنفس فيه حظ بحال، وهذا إخلاص العوام. وأما إخلاص الخواص فهو ما يجرى عليهم لا بهم، فتبدوا عنهم الطاعات وهم عنها بمعزل، ولا يقع لهم عليها رؤية ولا بها اعتداد، فذلك إخلاص الخواص. وقال أبو بكر الدقاق رحمه الله: نقصان كل مخلص في إخلاصه رؤية إخلاصه، فإذا أراد الله تعالى أن يخلص إخلاصه، ويسقط عن إخلاصه رؤية إخلاصه، فيكون مخلصاً لا مخلصاً. وقال سهل رحمه الله: لا يعرف الرياء إلا مخلص. وقال أب سعيد الخراز رحمه الله: رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين. وقال أبو عثمان رحمه الله: الإخلاص: نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق. وقيل: الإخلاص ما أريد به الحق وقصد به الصدق. وقيل: هو الإغماض عن رؤية الأعمال.

(فصل) وينبغي لكل متعبد وعارف أن يحذر في جميع أحواله من الرياء ورؤية الخلق والعجب

وقال سري السقطي رحمه الله: من تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله تعالى. وقال الجنيد رحمه الله: الإخلاص سر بين الله تعالى وبين العبد، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده ولا هوى يميله. وقال رويم رحمه الله. الإخلاص في العمل هو الذي لا يريد صاحبه عليه عوضاً في الدارين، ولا حظاً من الملكين. وسئل سهل بن عبد الله رحمه الله: أي شيء أشد على النفس؟ فقال: الإخلاص، لأنه ليس لها منه نصيب. وقيل: هو ألا يشهد على عملك أحد غير الله عز وجل. وقال بعضهم: دخلت على سهل بن عبد الله رحمه الله يوم جمعة قبل الصلاة، فرأيت في البيت حية، فجعلت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، فقال: ادخل لا يبلغ أحد حقيقة الإيمان وعلى وجه الأرض شيء يخافه، ثم قال: هل لك في صلاة الجمعة؟ فقلت: بيننا وبين المسجد مسيرة يوم وليلة، فأخذ بيدي، فما كان إلا قليلاً حتى رأيت المسجد، فدخلنا وصلينا الجمعة ثم خرجنا، فوقف ينظر إلى الناس وهم يخرجون، فقال: أهل لا إله إلا الله كثير ولكن المخلصون منهم قليل, كنت مع إبراهيم الخواص رحمه الله في سفر، فجئنا إلى موضع فيه حيات كثيرة، فوضع ركوته وجلس وجلست، فما كان برد الليل وبرد الهواء، خرجت الحيات، فصحت بالشيخ، فقال: اذكر الله تعالى، فذكرت فرجعت، ثم عادت، فصحت به، فقال مثل ذلك، فلم أزل إلى الصباح في مثل تلك الحالة، فلما أصبحنا قام ومشي ومشيت معه، فسقطت من وطائه حية عظيمة قد تطوقت، فقلت: ما أحسست بها؟ فقال: لا، منذ زمان ما بت ليلة أطيب من البارحة. وقال أبو عثمان رحمه الله تعالى: من لم يذق وحشة الغفلة لم يجد طعم أنس الذكر. (فصل) وينبغي لكل متعبد وعارف أن يحذر في جميع أحواله من الرياء ورؤية الخلق والعجب. فإن النفس خبيئة، وهي منشأ الأهوية المضلة والشهوات المردية واللذات الحائلة بين

العبد وبين الحق عز وجل، لا طريق إلى الأمن من غوائلها ما دام الروح في جسد ابن آدم، وإن بلغ العبد إلى حالة البدلية والصديقية، وإن كانت هذه الحالة أسلم من الابتداء وآمن من شرها ودواهيها، والخير أغلب والنور أكثر، والهداية متحققة بسبيل الله، والتوفيق شامل والحفظ موجود، غير أن العصمة ليست لنا، إنما ذلك مختص بالأنبياء عليهم السلام، ليقع الفرق بين النبوة والولاية. وقد توعد الله عز وجل أهل الرياء والسمعة، ونبه على شؤم النفس وغوائلها، ونهى عن إتباعها وأمر بمخالفتها في القرآن تارة، وفيما نطق به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأخبار والسنة أخرى. من ذلك قال الله عز وجل: {فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون* الذين هم يراءون* ويمنعون الماعون} [الماعون: 4 - 7]. وقال جل وعلا: {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون} [آل عمران: 167]. وقال تعالى: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً * مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} [النساء: 142 - 143]. وقال تعالى: {إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله} [التوبة: 34] الأحبار: هم العلماء، والرهبان: العباد. وقال عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلوان * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف: 2 - 3]. وقال تعالى: {وأسروا قولكم أو أجهروا به إنه عليم بذات الصدور} [الملك: 13]. وقال جل وعلا: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} [الكهف: 110]. وقال تعالى: {إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} [يوسف: 53]. وقال تعالى: {وأحضرت الأنفس الشح} [النساء: 128]. وقال عز وجل لداود عليه السلام: يا داود اهجر هواك فإنه لا منازع ينازعني في ملكي غير الهوى، وقال تعالى: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} [ص: 26]. وأما السنة فمن ذلك ما روى عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه قال: "دخلت

على النبي -صلى الله عليه وسلم- فرأيت في وجهه ما ساءني، فقلت: ما الذي بك يا رسول الله؟ فقال -صلى الله عليه وسلم: أخاف على أمتي الشرك بعدي، فقلت: أيشركون من بعدك يا رسول الله؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً ولا حجراً، ولكنهم يراءون في أعمالهم، والرياء: هو الشرك، ثم تلا قوله تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} [الكهف: 11]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "يجاء يوم القيامة بصحف مختومة، فيقول الله عز وجل للملائكة: القوا هذا واقبلوا هذا، فيقولون: وعزتك ما علمنا إلا خيراً، فيقول تعالى: نعم، ولكن هذا عمل لغيري، ولا أقبل إلا ما ابتغى به وجهي". وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: "اللهم طهر لساني من الكذب، وقلبي من النفاق، وعملي من الرياء، وبصري من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين، وما تخفى الصدور". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقعدوا إلا إلى عالم يدعوكم من خمس إلى خمس: من الرغبة إلى الزهد، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الكبر إلى التواضع، ومن المداهنة إلى المناصحة، ومن الجهل إلى العلم". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى يقول: أنا خير شريك: من أشرك معي شريكاً في عمله فهو لشريكي دوني، إني لا أقبل إلا ما أخلص لي، يا ابن آدم أنا خير قسيم، فانظر عملك الذي عملت لغيري، فإنما أجرك على الذي عملت له". وقل -صلى الله عليه وسلم-: "بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة في الدين والتمكين في البلاد، ما لم يعملوا عمل الآخرة للدنيا، ومن يعمل عمل الآخرة للدنيا لم يقبل منه وما له في الآخرة من نصيب".

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يعطى الدنيا على نية الآخرة، ولا يعطى الآخرة على نية الدنيا". وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مررت ليلة أسرى بي بقوم تقرض شفاهم بمقاريض من نار، فقلت لجبريل عليه السلام، من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون الشيء ولا يعملون به، يقولون ما يعرفون، ويفعلون ما ينكرون، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان، والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يكون عليكم أمراء كذبة، ووزراء فجرة، وأعوان خونة، وعرفاء ظلمة، وقراء فسقة، وعباد جهال، يفتح الله تعالى عليهم فتنة غبراء مظلمة، فيتهوكون فيها تهوك اليهود الظلمة، فحينئذ ينقض الإسلام عروة عروة حتى لا يقال الله الله". وعن عدى بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يؤتى بناس يوم القيامة في أعظم نكال، فيقول الله تعالى: إنكم كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين، هم الناس ولم تهابوني، وأجللتم الناس ولم تجلوني، وعزتي لأذيقنكم أليم العذاب". وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يلقى رجل في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدار به كما تدار الرحى بصاحبها، فيقال له، أليس كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر ولا أجتنبه". وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر".

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اهتز لذلك العرش وغضب له الرب تبارك وتعالى". وقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "بئس العبد عبد حال بينه وبين ثواب الله عبد من خلق الله تعالى، يتعبد له رجاء ما في يديه، فيتعب بدنه في مرضاته، فيخرج دينه، وتضيع مروءته، حتى يحول بينه وبين ربه، لا يرجو الله تعالى في الكبير، ويرجو العبد في الصغير، يعطي العبد من خدمته ما لا يعطي الله تعالى من طاعته". وعن مجاهد رحمه الله أنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إني أتصدق بصدقة فألتمس بها وجه الله تعالى، وأحب أن يقال لي خيراً، فنزل قوله سبحانه: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} [الكهف: 110]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يخرج في آخر الزمان أقوام يختلون الدنيا بالدين، فيلبسون للناس جلود الضأن من اللين، وألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله تعالى: أبي يفترون أم علي يجترؤن؟ بي حلفت لأبعثن على أولئك فتنة تدع الحليم فيها حيران". وعن ضمرة عن أبي حبيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الملائكة يرفعون عمل عبد من عباد الله فيستكثرونه ويزكونه حتى ينتهوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه، فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاكتبوه في سجين، ويصعدون بعمل عبد من عباده يستقلونه ويحقرونه حتى ينتهوا به إلى حيث شاء الله من سلطانه، فيوحى الله إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدي هذا أخلص لي عمله فاكتبوه في عليين". وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة يقضي بين خلقه وكل أمة جائية، فأول من يدعى به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله تعالى للقارئ: ماذا عملت فيما

علمت؟ فيقول: كنت أقوم به آناء الليل وأطراف النهار، فيقول تبارك وتعالى، كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، بل أردت أن يقال فلان قارئ، فق قيل ذلك، ويقال لصاحب المال: ماذا عملت فيما آتيتك؟ فيقول: كنت أصل الرحم وأتصدق به، فيقول الله تبارك وتعالى: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، بل أردت أن يقال فلان جواد، وقد قيل ذلك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله تعالى، فيقول الله تعالى: لماذا قاتلت؟ فيقول: قاتلت حتى قتلت في سبيلك، فيقول الله تبارك وتعالى: كذبت، وتقول الملائكة، كذبت، بل أردت أن يقال فلان جرئ، وقد قيل ذلك، ثم ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيديه على ركبتيه وقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلاق الله عز وجل تسعر بهم النار يوم القيامة". قال: فبلغ هذا الخبر إلى معاوية رضي الله عنه: فبكى بكاء شديداً وقال: صدق الله تعالى وصدق رسوله -صلى الله عليه وسلم- وقرأ هذه الآية: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} [هود: 15 - 16]، {أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون} [النمل: 5]. وعن عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يؤمر بناء يوم القيامة من أهل النار إلى الجنة، حتى إذا دنوا منها واستنشقوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله تعالى لأهلها نودوا: أن اصرفوهم لا نصيب لهم فيها، فيرجعون بحسرة وندامة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها، فيقولون: يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثواب ما أعددت لأوليائك، فيقول الله تعالى: ذلك أردت بكم كتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين متواضعين، وأجللتم الناس ولم تجلوني، وتركتم للناس ولم تتركوا لي، فاليوم أذيقكم أليم عقابي مع ما حرمتكم من جزيل ثوابي". وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لما خلق الله تعالى

جنة عدن، خلق فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم قال لها: تكلمي، فقالت: {قد أفلح المؤمنون} [المؤمنون: 1] ثلاثاً، ثم قالت: إني حرام على كل بخيل ومراء". وسأل رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فيم النجاة غداً؟ قال: لا تخادع الله تعالى، قال: وكيف أخادع الله عز وجل؟ قال: أن تعمل بما أمرك وتريد به غير وجه الله تعالى، قال: فاتقوا الرياء فإنه الشرك بالله تعالى، فإن المرائي ينادي يوم القيامة بأربعة أسماء على رؤوس الخلائق: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، ضل عملك وبطل أحرك، فلا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع". فتعوذ بالله من الرياء والسمعة والنفاق، فإن ذلك عمل أهل النار، قال الله عز وجل: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [النساء: 145] يعني في الهاوية مع فرعون وهامان وقومهما. فإن قيل: قد جاء في بعض الأخبار ما يدل على أن رؤية الخلق للعمل لا تضر، وهو ما روى عن وكيع عن سفيان عن حبيب عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إني أعمل العمل أسره، فيطلع عليه فيعجبني، ألى فيه أجر؟ فقال: لك أجران أجر السر وأجر العلانية". قيل: هذا محمول على أن ذلك الرجل كان يعجبه اقتداء الناس به في عمله، وعلم ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه، فقال له: لك أجران أجر لعملك، وأجر لاقتداء الناس بك، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ... " الحديث إلى آخره. وأما إذا تجرد العجب من الاقتداء به، فإنه لا أجر له، لأن العجب يسقط العبد من عين الله. وقال الحسن البصري رحمه الله: إذا شئت لقيت أبيض بيضاء ذليق اللسان، حديد النظر، ميت القلب، ترى أبداناً ولا قلوب، وتسمع الصوت ولا أنيس، أخصب ألسنة

وأجدب قلوب، حتى لقد حدثني جماعة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنه لا تزال هذه الأمة تحت يد الله في كنفه ما لم تمال قراؤها أمراءها، ولم يترك صلحاؤها فجارها، وما لم يأمن خيارها شرارها، فإذا هم فعلوا ذلك رفع الله تعالى عنهم يده، وضربهم بالفاقة والفقر، وملأ قلوبهم رعباً، وسلط عليهم جبابرهم فساموهم سوء العذاب". وقال أيضاً رحمه الله: بئس العبد عبد يسأل المغفرة وهو يعمل بالمعصية، يخشع ليحسب عنده أمانة وإنما يتصنع بالخيانة، ينهى ولا ينتهي، يأمر ولا يفعل، إن أعطى قتر وإن منع لم يعذر، وإن صح آمن وإن سقم ندم، وغن افتقر حزن، وإن استغنى فتن، يرجو النجاة ولا يعمل، ويخاف العذاب ولا يحذر، يريد الزيادة ولا يشكر، ويؤثر الثواب ولا يصبر، يعجل النوم ويؤخر الصوم. وقال يوماً لفرقد السبخي وهو جالس في مجلسه وعليه ثياب فاخرة وعلى فرقد جبة من صوف: ثيابي ثياب أهل الجنة، وثيابك ثياب أهل النار، وجعلوا زهدهم في ثيابهم، وكبرهم في صدورهم، والله لأحدهم أعجب بصوفه من صاحب المطرف بمطرفه ما له تفاخر، البسوا ثياب الملوك وأميتوا قلوبكم بالخشية. وقال عمر رضي الله عنه: البس من الثياب ما لم تستهزئ به القراء ولا يزدريك السفهاء. وكان يقال: كن صوفي القلب قطني الثياب. وفي الجملة: الناس في اللباس على ثلاثة أضرب: الأتقياء، والأولياء، والبدلاء. فلباس الأتقياء: هو الحلال الذي ليس للخلق عليه تبعة ولا للشرع فيه مطالبة، فكل حلال، سواء كان لباسهم قطناً أو كتاناً أو صوفاً، زرقاً أو بيضاً. ولباس الأولياء: ما وقع به الأم، وهو أدنى ما يستر به العودة والجسد مما لابد منه وتدعو إليه بالضرورة، ليتحقق بذلك كسر أهويتهم، فيبلغوا إلى درجة الأبدال. ولباس البدلاء: ما جاء به القدر مع حفظ الحدود، قميص بقيراط أو حلة بمائة دينار، فلا إرادة، تسموا إلى الأعلى، ولا هوى يكسر بالأدنى، بل ما تفضل به المولى من جميع ما أحل وأعطى من غير نصب ولا عناء، ولا بشرف من النفس ولا منى، وما سوى هذه الوجوه فهو من الجاهلية الأولى، ورعونة النفس واتباع الهوى. * * *

القسم الرابع في فضائل الأعمال

القسم الرابع في فضائل الأعمال

باب في ذكر فضائل أيام الأسبوع والأيام البيض وما ورد في صيام ذلك

باب في ذكر فضائل أيام الأسبوع والأيام البيض وما ورد في صيام ذلك من التخصيص وذكر أوراد الليل والنهار فيها من ذلك ما أخبرنا أبو نصر عن والده وبإسناده، قال أنبأنا أبو الحسن على بن أحمد المقري، قال: حدثنا أبو الحسين أحمد بن عثمان بن يحيى الآدمي، قال: حدثنا عباس ابن محمد بن حاتم الدوري، قال: حدثنا حجاج بن محمد الأعور، قال: حدثنا ابن جريح، قال: أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد، عن عبيد الله بن رافع مولى أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي فقال: خلق الله تعالى التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق الخير يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل". وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الأيام، فسئل عن يوم السبت فقال: يوم مكر وخديعة، قالوا: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: لأن فيه مكرت قريش بي في دار الندوة، وسئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن يوم الأحد، فقال-صلى الله عليه وسلم-: يوم غرس وعمارة قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال -صلى الله عليه وسلم-، لأن فيه ابتداء الدنيا وعمارتها، وسئل -صلى الله عليه وسلم- عن يوم الاثنين، قال -صلى الله عليه وسلم-: يوم سفر وتجارة، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: لأن فيه سافر شعيب النبي عليه السلام واتجر، وسئل -صلى الله عليه وسلم- عن يوم الثلاثاء، قال -صلى الله عليه وسلم-: يوم دم، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: لأن فيه حاضت حواء، وقتل ابن آدم أخاه، وسئل -صلى الله عليه وسلم- عن يوم الأربعاء، قال -صلى الله عليه وسلم-: يوم نحس وشؤم، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال -صلى الله عليه وسلم -: لأن فيه أغرق الله تعالى فرعون وقومه، وأهلك عاداً وثمود، وسئل -صلى الله عليه وسلم- عن يوم الخميس، فقال -صلى الله عليه وسلم-: فيه قضاء

الحوائج، والدخول على السلاطين، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: فيه دخل إبراهيم خليل الرحمن على نمرود فقضى حوائجه، وأخذ منه هاجر، وسئل -صلى الله عليه وسلم- عن يوم الجمعة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: يوم خطبة ونكاح، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: لأن فيه كانت الأنبياء تنكح". وروى عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال: "ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرج في سفر إلا يوم الخميس". وعن معاوية بن قرة عن أنس رضي الله عنه يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من احتجم يوم الثلاثاء لسبعة عشر من الشهر أخرج الله تعالى منه داء سنة". وقيل: إن الله تعالى أعطى يوم السبت لموسى ولخمسين نبياً مرسلاً، وأعطى يوم الأحد لعشرين نبياً ولعيسى عليه السلام، وأعطى يوم الاثنين لمحمد -صلى الله عليه وسلم- ولثلاثة وستين مرسلاً، وأعطى يوم الثلاثاء لسليمان عليه السلام ولخمسين مرسلاً، وأعطى يوم الأربعاء ليعقوب عليه السلام ولخمسين مرسلاً، وأعطى يوم الخميس لآدم عليه السلام ولخمسين نبياً، ويوم الجمعة لله عز وجل وتقدس، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إلهي ما حظ أمتي؟ قال تبارك وتعالى: يا محمد الجمعة لي والجنة لي، فأعطيت الجمعة لأمتك والجنة معها، وأنا مع الجمعة والجنة لأمتك". وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صام يوم الأربعاء والخميس والجمعة بنى الله تعالى له قصراً في الجنة من لؤلؤ وياقوت وزمرد، وكتب الله تعالى له براءة من النار". وفي لفظ آخر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صام ثلاثة أيام من الشهر الحرام، الخميس والجمعة والسبت، كتب الله له عبادة تسعمائة سنة".

(فصل) وأما صيام الأيام البيض ففيها فضل كثير

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "صوموا يوم السبت والأحد، وخالفوا اليهود والنصارى". وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: تفتح أبواب السماء كل اثنين وخميس، فيغفر الله تعالى في ذلك اليوم لكل عبد لا يشرك بالله تعالى شيئاً، إلا امرأ كان بينه وبين أخيه شحناء، يقول تعالى: انظروا هذين حتى يصطلحا". وروى "أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يدع صومها حضراً ولا سفراً، ويقول: إنهما يومان تعرض فيهما الأعمال". (فصل) وأما صيام الأيام البيض ففيها فضل كثير. من ذلك ما أخبرنا أبو نصر عن والده قال: أنبأنا هلال بن محمد، قال حدثنا النقاش، قال: حدثنا الحسين بن سفيان، قال: حدثنا سليمان بن يزيد مولى بن هاشم، قال: حدثنا على بن يزيد، عن عبد الملك بن هارون، عن سعيد بن عثمان، عن علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "صوم يوم الثالث عشر يعدل صيام ثلاثة آلاف سنة، وصوم الرابع عشر يعدل صوم عشرة آلاف سنة، ومن صام يوم الخامس عشر يعدل صوم مائة ألف سنة، فذلك مائة ألف سنة وثلاثة عشر ألف سنة". وعن أبي إسحاق عن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "صيام ثلاثة أيام من كل شهر ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر صوم الدهر كله". وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صام ثلاثة أيام من الشهر صام الدهر" وقد صدقه الله في كتابه العزيز بقوله عز وجل: {من جاء بالحسنة فله عشرة أمثالها} [الأنعام: 160]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يدع صيام الأيام

البيض في سفر ولا حضر". وعن الشعبي رحمه الله قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم يقول: "من صام ثلاثة أيام من كل شهر، وصلى ركعتي الفجر، ولم يترك الوتر في سفر ولا حضر، كتب له أجر شهيد". وعن سعيد بن أبي هند عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أوصاني حبيبي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بثلاث لا أدعهن حتى ألقاه: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، والوتر قبل النوم، وصلاة الضحى". وعن عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده قال: سمعت على بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: "أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم عند انتصاف النهار وهو في الحجرة، فسلمت عليه، فرد النبي -صلى الله عليه وسلم- علىّ ثم قال: يا علي، هذا جبريل يقرئك السلام، فقلت: عليك وعليه السلام، يا رسول الله، فقال: ادن مني، فدنوت منه، فقال: يا على يقول لك جبريل عليه السلام: صم من كل شهر ثلاثة أيام يكتب لك بأول عشرة آلاف سنة، وباليوم الثاني ثلاثين ألف سنة، وباليوم الثالث مائة ألف سنة، فقلت: يا رسول الله هذا الثواب لي خاصة أم للناس عامة، قال -صلى الله عليه وسلم: يا على يعطيك الله هذا الثواب ولمن يعمل مثل عملك بعدك، قلت: يا رسول الله وما هي؟ قال -صلى الله عليه وسلم: الأيام البيض ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر". قال عنترة: قلت لعلي رضي الله عنه، لأي شيء سميت هذه الأيام البيض؟ فقال على بن أبي طالب رضي الله عنه: لما أهبط الله آدم عليه السلام من الجنة إلى الأرض أحرقته الشمس فاسود جسده، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا آدم أتحب أن يبيض جسدك؟ قال: نعم، قال: فصم من الشهر ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر، فصام آدم عليه السلام أول يوم فابيض ثلث جسده، ثم صام اليوم الثاني فابيض ثلثا جسده،

باب في صيام الدهر وما لمن صامه من الثواب والأجر

ثم صام اليوم الثالث فابيض جسده كله، فسميت الأيام البيض". وعن زر بن حبيش رحمه الله قال: سألت ابن مسعود رضي الله عنه عن الأيام البيض قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنها فقال: "إن آدم عليه السلام لما عصى وأكل من الشجرة، أوحى الله تعالى إليه: يا آدم اهبط من جواري، وعزتي وجلالي لا يجاورني من عصاني، قال: فهبط إلى الأرض مسوداً، قال: فبكت الملائكة وضجت وقالت: يا رب خلقت خلقته بيدك، وأسكنته جنتك، وأسجدت له ملائكتك، في ذنب واحد حولته بياضه سواداً، فأوحى الله تعالى إليه: يا آدم صم لي هذا اليوم، يوم ثالث عشر فصامه فأصبح ثلثه أبيض، ثم أوحى الله تعالى إليه: يا آدم صم لي هذا اليوم، يوم ثالث عشر فصامه فأصبح ثلثه أبيض، ثم أوحى الله تعالى إليه: يا آدم صم هذا اليوم، يوم رابع عشر، فصامه فأصبح ثلثاه أبيض، ثم أوحى الله تعالى إليه يا آدم صم هذا اليوم، يوم خامس عشر، فصامه فأصبح كله أبيض، فسميت الأيام البيض". وقال القتبي في أدب الكاتب: العرب تسميتها الأيام البيض، لأن لياليها تبيض بطلوع القمر من أولها إلى آخرها. باب في صيام الدهر وما لمن صامه من الثواب والأجر أخبرنا أبو نصر عن والده، قال: حدثنا أبو الحسن على بن أحمد المقرى، قال: حدثنا إبراهيم بن أحمد القرمسيني، قال: حدثنا الحسن بن سهل، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي نجا عن صفوان بن سليم، عن علقمة بن أبي علقمة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الصيام صيام داود، ومن صام الدهر كله فقد وهب نفسه لله تعالى".

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا، وعقد تسعين". وعن شعيب عن سعد بن إبراهيم قال: "كانت عائشة رضي الله عنها تصوم الدهر". وعن يعقوب قال: حدثنا أبي، قال: "سرد سعد رضي الله عنه الصم قبل أن يموت أربعين سنة". وعن أبي إدريس عائذ الله قال: "صام أبو موسى الأشعري رضي الله عنه حتى صار كأنه خلال، قال: فقلت: يا أبا موسى لو أجممت؟ أي أرحت نفسك، فقال: إجمامها أريد، إني رأيت السابق من الخيل الضامرة". وعن أبي إسحاق بن إبراهيم قال: حدثني عمار الراهب قال: رأيت مسكينة الظفارية في منامي، وكانت تحضر معنا مجلس عيسى بن زاذان بالأبلة، تنحدر من البصرة حتى تأتيه قاصدة، قال عمار: فقلت لها: يا مسكينة ما فعل عيسى؟ فضحكت ثم قالت: قد كسى حلة البهاء وطافت بأباريق حوله الخدم، ثم حلى، وقيل: يا قارئ أرق فلعمري لقد برك الصيام. وكان عيسى قد صام حتى انحنى وانقطع صوته. وعن أنس رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة رضي الله عنه لا يصوم على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أجل الغزو، فلما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لم أره مفطراً إلا يوم الفطر ويوم النحر. وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام قال: "حدثني من رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في يوم صائف يصب على رأسه الماء من شدة الحر والعطش وهو صائم". وعن سفيان عن أبي إسحاق عن الحرث عن علي رضي الله عنه قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم يوماً ويفطر يوماً" وما نقل في حديث جابر رضي الله عنه قال: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لما سأله عمر رضي الله عنه: يا نبي الله أخبرني عن رجل يصوم الدهر كله؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: لا صام ذلك ولا أفطر" فمحمول على رجل صام الدهر ولم يفطر يومي العيدين وأيام التشريق، كذا

(فصل: في فضل الصيام في الجملة)

قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وأما إذا أفطر هذه الأيام وصام بقية السنة فلا نهى في حقه، بل له ما ذكرنا من الفضائل. * * * (فصل: في فضل الصيام في الجملة) من ذلك ما أخبرنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن عمرو بن ربيعة عن سلامة بن قيس رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صام يوماً ابتغاء وجه الله تعالى، بعده الله من جهنم كبعد غراب طار وهو فرخ حتى مات هرماً" وقيل: إن الغراب يعيش مقدار خمسمائة سنة. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً عرضه كما بين السماء والأرض". وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك وجهه عن النار سبعين خريفاً". وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من عبد أصبح صائماً إلا فتحت له أبواب السماء، وسبحت أعضاؤه، واستغفر له أهل سماء الدنيا إلى أن توارى بالحجاب، وإن صلى ركعة أو ركعتين تطوعاً أضاءت له السموات نوراً، وقلن أزواجه من الحور العين: اللهم اقبضه إلينا فقد اشتقنا إلى رؤيته، وإن هلل أو سبح تلقاها سبعون ألف ملك يكتبونها إلى أن توارى بالحجاب". وعن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل حسنة يعملها ابن آدم فهي بعشر حسنات إلى مئة حسنة أو سبعمائة حسنة، إلا الصوم، فإن الله تعالى قال في بعض كتبه: الصوم لي وأنا أجزي به، وخلوف فم الصائم أطيب

عند الله من ريح المسك". وعن علي رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من منعه الصيام من الطعام والشراب الذي يشتهيه أطعمه الله من ثمار الجنة، وسقاه من شرابها". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لكل أهل عمل باب من أبواب الجنة يدعون منه بذلك العمل، ولأهل الصيام باب يدعون منه يقال له الريان، قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله هل أحد يدعى من هذه الأبواب كلها؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: نعم، وأنا أرجو أن تكون منهم يا أبا بكر". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن لكل شيء باباً وإن باب العبادة الصيام". وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بالصوم تصفو قلوبكم". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الصوم نصف الصبر ولكل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصوم". وعن أبي أوفى رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نوم الصائم عبادة، وسكوته تسبيح، وعمله متقبل". وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يوضع للصائمين يوم القيامة مائدة من ذهب عليها شهد فيأكلون منها والناس ينظرون". وعن أحمد بن أبي الحواري، قال: حدثني أبو سليمان، قال: جاءني أبو على الأصم بأحسن حديث سمعته في الدنيا، قال: يوضع للصوام مائدة يأكلون عليها والناس في الحساب، قال: فيقولون: يارب نحن نحاسب وهؤلاء يأكلون؟ قال:

(فصل) وأما أوراد الليل والحث على قيامه

فيقول: إنهم طالما صاموا وأفطرتم وقاموا ونمتم". وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصائمون إذا خرجا من قبورهم تنفح من أفواههم ريح المسك، ويؤتون بمائدة من الجنة فيأكلون منها، وهم في ظل العرش". وقال سفيان بن عيينة: بلغني أن الصائم لا يحاسب على ما يفطر عليه. وعن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يقوم الله عز وجل: الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي، والصوم جنة، وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فيه أطيب عند الله من رائحة المسك". وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصو جنة يجتن بها العبد من النار". وعن سعيد بن جبير عن ابن عمر رضي الله عنهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما آسى على شيء من الدنيا أتركه خلفي إلا الصيام في الهاجرة والمشي إلى الصلاة". وعن مجاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو أن رجلاً صام لله يوماً تطوعاً ثم أعطى ملء الأرض ذهباً لم يستوف ثوابه دون يوم الحساب". (فصل) وأما أوراد الليل والحث على قيامه: مما اتفق عليه في الصحيحين وما ذكر في غيرهما من الكتب، فمن ذلك ما روى عن شقيق عن عبد الله رضي الله عنه قال: ذكر عند النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل، فقيل: يا رسول الله

إن فلاناً نام الليلة حتى أصبح ما صلى، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ذلك رجل بال الشيطان في أذنه". وفي الخير "إذا نام الرجل عقد الشيطان على رأسه، ثلاث عقد، فإن قعد وذكر الله تعالى انحلت عقدة، وإن توضأ انحلت عقدتان، وإن صلى ركعتين انحلت العقد كلها، وأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح كسلان خبيث النفس". وفي خبر آخر "إن للشيطان سعوطاً ولعوقاً وذروراً، فإذا سعط العبد ساء خلقه، وإذا لعقه ذرب لسانه بالشر، وإذا ذره نام بالليل حتى الصبح". وطول القيام في صلاة الليل، وهي مثنى مثنى، وكثرة الركوع والسجود في صلاة النهار، وإن أراد أن يصلها أربعاً بتسليمة جاز. وصلاة الليل في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- نافلة وفضيلة وقربة وكرامة، وفي حق أمته مكملة ومتممة للفرائض. وعن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان الرجل في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: وكنت غلاماً شاباً عزباً، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، وإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان كقرني البئر، فرأيت ناساً قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار أعوذ بالله من النار، فلقينا ملك آخر فقال لي: لن تراع، قال: فقصصتها على حفصة فقصتها حفصة رضي الله عنها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلى من الليل؟ فكان بعد ذلك رضي الله عنه لا ينام من الليل إلا قليلاً". وعن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل".

وعن أبي صالح عن ابن شهاب قال: أخبرني علي بن حسين أن أباه الحسين بن علي رضي الله عنهما، أخبره أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أخبره "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طرقه هو وفاطمة ابنته رضي الله عنهما، فوجدهما نياماً فقال: ألا تصلون؟ فقلت: يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله تعالى، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قلت ذلك له، فلم يرجع شيئاً، فسمعته وهو يضرب فخذه ويقول -صلى الله عليه وسلم- {كان الإنسان أكثر شيء جدلاً} [الكهف: 54]. وحدثنا أبو نصر عن والده بإسناده عن سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ركعتان يصليها العبد في جوف الليل خير من الدنيا وما فيها، ولولا أن أشق على أمتي لفرضتها عليهم". وحدثنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن أبي العالية، قال: حدثني أبو مسلم، أنه سأل أبا ذر رضي الله عنه: أي صلاة الليل أفضل؟ فقال أبو ذر رضي الله عنه: سألت عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "جوف الليل، أو قال نصف الليل وقليل فاعله". وفي بعض الأخبار "سأل داود النبي عليه السلام ربه عز وجل وقال: إلهي إني أحب أن أتعبد لك، فأي وقت أفضل؟ فأوحى الله تعالى إليه: يا داود لا تقم أول الليل ولا آخره، فإنه من قام أوله نام آخره، ومن قام آخره لم يقم أوله، ولكن قم وسط الليل حتى تخلو بي وأخلو بك، وارفع إلى حوائجك". وعن يحيى بن المختار عن الحسن رحمه الله أنه قال: ما عمل عبد عملاً أقر لعين، ولا أخف لظهر، ولا أطيب لنفس، من قيام في جوف الليل يداوم أو إنفاق مال في حق. وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: "يا أيها الناس إني لكم ناصح، إني عليكم شفيق، صلوا في ظلمة الليل لوحشة القبور، وصوموا في الدنيا لحر يوم النشور، وتصدقوا لمخافة يوم عسير، يا أيها الناس إني لكم ناصح، إني عليكم شفيق". وحدثنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي جعفر أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا بقى ثلث الليل ينزل الله تعالى

إلى السماء الدنيا فيقول: من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، من ذا الذي يسترزقني فأرزقه، من الذي يستكشف الضر فأكشفه عنه حتى ينفجر الفجر". وحدثنا أبو نصر عن والده بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا ثلث الليل الآخر فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فيستجاب له؟ هل من سائل فيعطى سؤله؟ " فمن ثم كانوا يستحبون الصلاة في آخر الليل. وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر وإدبار الصلوات المكتوبات". وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن خير الصيام صيام داود عليه السلام، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وخير الصلاة صلاة داود عليه السلام، كان يرقد نصف الليل ويصلي آخر الليل، حتى إذا بقي سدس الليل رقد". وفي لفظ آخر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، كان يرقد شطر الليل ثم يقوم، ثم يرقد آخره، ثم يقوم ثلث الليل بعد شطره". وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إني أجعل الليل أثلاثاً، فثلثاً أنام، وثلثاً أصلي، وثلثاً أستذكر فيه حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: فضل صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية.

(فصل) وأما صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المذكورة في المتفق عليه

وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: ركعة بالليل خير من عشر بالنهار. وسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل عليه السلام: "أي الليل أسمع؟ فقال: إن العرش يهتز من السحر". وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم". إن قيام الليل قربة إلى الله تعالى، وتكفير للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد. وحدثنا أبو نصر عن والده بإسناده عن الأعمش عن أبي سفيان، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الليل ساعة لا يوافقها عبد يسأل الله تعالى فيها شيئاً إلا أعطاه إياه" وهي في كل ليلة، قالوا: وهذا عام مثل الساعة في يوم الجمعة، ومثل ليلة القدر في العشر الأخير من رمضان. ويقال: "إن في الليل وقتاً لابد أن ينام فيه ويغفل كل ذي عين إلا الحي القيوم الذي لا يموت، فلعلها هذه الساعة". وفي حديث عمرو بن عتبة رضي الله عنه: "عليك بصلاة آخر الليل فإنها مشهودة محضورة تحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار". (فصل) وأما صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المذكورة في المتفق عليه، فما روى عن أبي إسحاق قال: أتيت الأسود بن يزيد وكان لي أخاً وصديقاً، فقلت له: يا أبا عمرو حدثني ما حدثتك عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: قالت رضي الله عنها: "كان -صلى الله عليه وسلم- ينام في أول الليل ويحيى آخره، ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ثم لم يمس ماء حتى ينام فإذا سمع النداء الأول قالت: وثب، لا والله ما قالت قام فأفاض عليه الماء، ولا والله ما قالت قام فأفاض عليه الماء، ولا والله ما قالت اغتسل، وأنا أعلم ما تريد، وإن لم يكن جنباً توضأ وضوءه للصلاة ثم صلى". وعن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس رضي الله عنهما "أنه بات ليلة عند

ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها قال: فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأهله في طولها، ونام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، استيقظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجلس فمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه، ثم قام فصلى. قال ابن عباس رضي الله عنه: فقمت فصنعت مثل ما صنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده اليمنى على رأسي، فأخذ بأذني اليمني فقلتها فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاء المؤذن، ثم قام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح". وعن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما كنت ألقى النبي -صلى الله عليه وسلم- من آخر السحر إلا وهو نائم عندي" يعني بعد الوتر. وعن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعجبه الدائم من العمل، فقلت: أي الليل كان يقوم؟ قالت: إذا سمع الصارخ". وعن الحسن رحمه الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صلوا من الليل ولو أربعاً، صلوا ولو ركعتين، ما من أهل بيت يعرف لهم صلاة بالليل إلا ناداهم مناد يا أهل البيت: قوموا لصلاتكم". وعن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن". وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقرأ في سورة الليل، فقال -صلى الله عليه وسلم-: رحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية، كنت أسقطتها من

(فصل آخر: في صلاة الليل)

سورة كذا وكذا". وأما قدر صلاته -صلى الله عليه وسلم- في الليل، فما أخبرنا به الشيخ أبو نصر، عن والده، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن أبي الفوارس، قال: حدثنا أحمد بن يوسف، قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم ب ملحان، قال: حدثني أبو بكر، قال: حدثني الليث عن ابن أبي حبيب، عن عراك، عن عروة رحمه الله قال: "إن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة وركعتي الفجر". وروى أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي من الليل اثنتى عشرة ركعة، ثم يوتر بواحدة، وقيل عشر ركعات ثم يوتر بواحدة. (فصل آخر: في صلاة الليل) وقد ذكر الله تعالى القائمين بالليل في كتابه العزيز، فقال عز وجل: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات: 17 - 18]. وقال جل وعلا: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً} [السجدة: 16]. وقال تعالى: {أمن هو قانت الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} [الزمر: 9]. وقال جل وعلا: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} [الإسراء: 79]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة نادى مناد: ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، فيقومون وهم قليل، ثم يرجع فينادي: ليقم الدين كانت لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون وهم قليل، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانوا يحمدون الله عز وجل في السراء والضراء، فيقومون وهم قليل، ثم يحاسب سائر الناس من بعدهم". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "استعينوا بطعام السحر على صوم النهار، وبقيلولة النهار على قيام

الليل، إن صاحب النوم يجئ مفلساً، وما نام أحد طول ليله إلا بال الشيطان في أذنه". وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربما ردد آية حتى يصبح. وقالت عائشة رضي الله عنها: "نام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة حتى ألص جلده بجلدي، ثم قال: يا عائشة أتأذنين لي أن أتعبد لربي الليلة، قلت: والله إني لأحب قربك ولكني أؤثر هواك، ثم قام -صلى الله عليه وسلم- يقرأ القرآن ويبكي حتى بل بالدموع منكبيه، ثم جلس يقرأ ويبكي حتى بل بالدموع جنبيه وحقويه، ثم اضطجع يبكي ويقرأ حتى بل بالدموع ما يلى الأرض، فأتاه بلال رضي الله عنه فقال: بأبي وأمي ألم يغفر الله لك؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً، إنه أنزل على في هذه الليلة {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيا لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار} [آل عمران: 190 - 191]. وقالت عائشة رضي الله عنها: "ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي في شيء من صلاة الليل جالساً حتى دخل في السن، فجعل يصلى وهو جالس، فإذا بقى عليه من السورة ثلاثون آية أو أربعون آية، قام فقرأ بها ثم ركع -صلى الله عليه وسلم-". وقال يعمر بن بشر: أتيت باب عبد الله بن المبارك بعد العشاء الآخرة، فوجدته يصلى وهو يقرأ: {إذا السماء انفطرت} [الانفطار: 1] حتى إذا بلغ {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم} [الانفطار: 6] وقف يرددها إلى أن ذهب هوى من الليل، فرجعت حين طلع الفجر وهو يرددها، فلما رأى التفجر قد طلع قطع، ثم قال: حلمك وجهلي، حلمك وجهلي، فانصرفت وتركته. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الشتاء ربيع المؤمن قصر نهاره فصامه، وطال ليله فقامه". وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذا الناس

(فصل: في فضل الصلاة بين العشاءين)

ينامون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وبصمته إذا الناس يخوضون". * * * (فصل: في فضل الصلاة بين العشاءين) حدثنا أبو نصر عن والده، قال: حدثنا أبو الفتح محمد بن أحمد بن أبي الفوارس الحافظ إملاء، قال: حدثنا بشر، قال: حدثنا محمد بن سليمان المصيعي، قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن عمر بن عبد الله بن خثعم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى ست ركعات بعد المغرب لم يتكلم بينهن عدلن بعبادة ثنتى عشرة سنة". وفي حديث زيد بن الحباب: ولم يتكلم بينهن بسوء. وقيل: يستحب أن يقرأ في الركعتين الأوليين بـ {قل يا أيها الكافرون ...}، و {قل هو الله أحد ...}، ليسرع بهما، لأنه قيل: إنهما يرفعان مع صلاة المغرب، ثم يصلى باقيها ويطول فيها إن شاء. وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صلى أربع ركعات بعد المغرب قبل أن يكلم أحداً رفعت له في عليين، وكان كمن أدرك ليلة القدر في المسجد الأقصى، وهو خير من قيام نصف ليلة". وحدثنا أبو نصر عن والده بإسناده عن طارق بن شهاب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من صلى المغرب وصلى من بعدها أربعاً كان كمن حج بعد حجة، قلت: فإن صلى بعدها ستاً؟ قال: يغفر له ذنوب خمسين عاماً". وعن سعيد بن جبير، عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من عكف نفسه ما بين المغرب والعشاء في مسجد جماعة لم يتكلم إلا بصلاة أو قرآن كان

حقاً على الله أن يبني له قصرين في الجنة مسيرة كل قصر منهما مائة عام، ويغرس له بينهما غراساً لو ضافه أهل الدنيا لو سعهم". وحدثنا أبو نصر عن والده بإسناده عن هشام بن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من صلاة أحب إلى الله تعالى من صلاة المغرب، بها يفتح العبد ليلته، ويختم بها نهاره، لم تحط عن مسافر ولا عن مقيم، من صلاها وصلى بعدها أربعاً من غير أن يكلم جليساً بنى الله له قصرين مكللين بالدر والياقوت، بينهما من الجنان ما لا يعلم علمه إلا هو، وإن صلاها وصلى بعدها ستاً من غير أن يكلم جليساً غفر له ذنوب أربعين عاماً". وكان أبو هريرة رضي الله عنه يصلي بين العشاءين ثنتي عشرة ركعة. وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى بين المغرب والعشائ عشرين ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة". وروى أن أنس بن مالك رضي الله عنه كان يصلي ما بين المغرب والعشاء ويقول: "هي ناشئة الليل". وعن عبد الرحمن بن الأسود عن عمه أنه قال: ما أتيت ساعة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إلا وجدته يصلي ما بين المغرب والعشاء. وكان يقول: هي ساعة غفلة، وقيل: فيها نزلت {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} [السجدة: 16]. وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من قرأ بعد المغرب {ألم * تنزيل ....} السجدة، و {تبارك الذي بيده الملك ....}، جاء يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر وقد أدى حق تلك الليلة". وهذه الركعات التي وردت بها الأخبار يحتمل أن تكون منفردة عن الركعتين السنة، ويحتمل أن تكون معها.

(فصل) وأما الركعتان قبل صلاة المغرب

(فصل) وأما الركعتان قبل صلاة المغرب: فقد سئل أحمد بن حنبل رحمه الله فقال: أما أنا فلا أفعلهما، وإن فعلهما رجل لم يكن به بأس. وسئل ابن عمر رضي الله عنهما عن صلاتهما فقال. ما رأيت أحداً على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصليهما ولم ينه ابن عمر عنهما. وروى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنا نصلي على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب ركعتين، فقلت له: هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاهما، فقال: قد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرانا نصليها فلا يأمرنا ولا ينهانا". وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: قد كان بالكوفة خيار أصحاب رسول اله -صلى الله عليه وسلم- على ابن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر وأبو مسعود الأنصاري وغيرهم رضي الله عنهم، فما رأيت أحداً منهم يصلي قبل المغرب، وما صلى هاتين الركعتين أبو بكر ولا عمر ولا عثمان رضي الله عنهم. (فصل آخر) في ذكر ما ورد فعله بين العشاءين ورؤية فاعله للنبي -صلى الله عليه وسلم- ببركة فعله ذلك في المنام وغير ذلك من الثواب عن عبد الرحمن بن حبيب الحارثي البصري، عن سعيد بن سعد بن أبي طيبة كرز ابن وبرة الحارثي رحمه الله، وكان من الأبدال، قال: أتاني أخ لي من أهل الشام فأهدى لي هدية وقال لي: أقبل مني هذه الهدية يا كرز فإنها نعم الهدية، قال: فقلت: يا أخي ومن أهدى إليك هذه الهدية؟ قال: أعطانيها إبراهيم التيمي رحمه الله تعالى، قال: فقلت: فهل سألت إبراهيم من أعطاه هذه العطية، قال: بلى. قال لي: كنت جالسً في قبالة الكعبة وأنا في التهليل والتسبيح والتحميد، فجاءني رجل فسلم على وجلس عن يميني، فلم أر في زماني أحسن منه وجهاً ولا أحسن منه ثياباً ولا أطيب منه ريحاً ولا أشد منه بياضاً، فقلت: يا عبد الله من أنت ومن أين جئت وما أنت؟ فقال: أنا الخضر جئت للسلام عليك وحباً لك في الله، وعندي هدية

أريد أن أهديها إليك، فقلت له: فأعلمني هديتك هذه ما هي؟ فقال الخضر عليه السلام: تقرأ قبل أن تطلع الشمس وتبسط على الأرض وقبل أن تغرب سورة {الحمد ...} سبع مرات، و {قل أعوذ برب الناس ...} سبع مرات، و {قل أعوذ برب الفلق ....} سبع مرات، و {قل هو الله أحد ....} سبع مرات، و {قل يا أيها الكافرون ...} سبع مرات، وآية الكرسي سبع مرات، وتقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر سبع مرات، وتصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- سبع مرات، وتستغفر لنفسك ولوالديك وللمؤمنين والمؤمنات سبع مرات، وعقيب الاستغفار: اللهم رب افعل بي وبهم عاجلاً وآجلاً في الدين والدنيا والآخرة ما أنت له أهل، ولا تفعل بنا يا مولانا ما نحن له أهل، إنك غفور حليم جواد كريم بر رؤوف رحيم سبع مرات، وانظر ألا تدع ذلك غدوة وعشياً، فإن الذي أعطانيها قال لي: قلها مرة واحدة في دهرك؟ فقلت: أحب أن تعرفني من أعطاك هذه الهدية؟ قال أعطانيها محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال: فقلت للخضر عليه السلام: علمني شيئاً إن قلته رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في منامي فأسأه أهو أعطاك هذه العطية؟ فقال لي: أمتهم أنت لي؟ قلت: لا، ولكني أحب أن أسمع ذلك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقال لي: إن كنت تريد أن ترى النبي -صلى الله عليه وسلم- في منامك، فاعلم أنك إذا صليت المغرب تقوم تصلى إلى العشاء الآخرة من غير أن تكلم أحداً من الآدميين، وأقبل على صلاتك التي أنت فيها، وتسلم في كل ركعتين، واقرأ في كل سورة {الحمد ....} مرة، و {قل هو الله أحد ....} سبع مرات، ثم تصلى صلاة العتمة في جماعة، ولا تكلمن أحداً، حتى تأتي منزلك، وتصلي الوتر، وتصلي عند نومك ركعتين، تقرأ في كل ركعة سورة {الحمد ....} و {قل هو الله أحد ....} سبع مرات، ثم اسجد بعد الصلاة، واستغفر الله تعالى في سجودك سبع مرات، وقل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم سبع مرات، ثم ارفع رأسك من السجود واستو جالساً، وارفع يديك وقل: يا حى يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا إله الأولين والآخرين، ويا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، يا رب يا رب يا رب، يا الله يا الله يا الله، ثم قم فادع بمثل ما دعوت في قيامك، ثم اسجد وادع في سجودك مثل ما

دعوت، ثم ارفع رأسك ونم حيث شئت مستقبل القبلة وأنت تصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- وآدم حتى يغلبك النوم. فقلت له: أحب أن تعلمني ممن سمعت هذا الدعاء، فقال: أمهتم أنت لي؟ فقلت: والذي بعث محمداً -صلى الله عليه وسلم- بالحق نبياً ما أنا بمتهم لك. فقال عليه السلام: إني حضرت محمداً -صلى الله عليه وسلم- حيث علم هذا الدعاء، وأوحى إليه به وكنت عنده، فتعلمته ممن علمه إياه. قال إبراهيم: فقلت له: أخبرني بثواب هذا الدعاء. فقال لي الخضر عليه السلام: إذا لقيت محمداً -صلى الله عليه وسلم- فاسأله عن ثوابه. قال إبراهيم، ففعلت ما قال لي الخضر عليه السلام، ولم أزل أصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا في فراشي، فذهب عني النوم من شدة الفرح بما علمني الخضر عليه السلام وبما رجوته من لقاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأصبحت على تلك الحال إلى أن صليت الفجر، وجلست في محرابي إلى أن ارتفع النهار، فصليت الضحى وأنا أحدث نفسي: إن عشت الليلة فعلت كما فعلت في الليلة الماضية، فغلبني النوم، فجاءتني الملائكة فحملوني فأدخلوني الجنة، فرأيت قصوراً من الياقوت الأحمر، وقصوراً من زمرد أخضر، وقصوراً من لؤلؤ أبيض، ورأيت أنهاراً من عسل ولبن وخمر، ورأيت في قصر منها جارية أشرفت على فرأيت صورة وجهها أشد من نور الشمس الصاحية، وإذا لها ذوائب قد سقطت على الأرض من أعلى القصر، فسألت الملائكة الذين أدخلوني: لمن هذا القصر ولمن هذه الجارية؟ فقالوا: للذي يعمل مثل عملك، فلم يخرجوني من تلك الجنان حتى أطعموني من ثمرها وسقوني من ذلك الشراب، ثم أخرجوني وردوني إلى الموضع الذي كنت فيه، فأتاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه سبعون نبياً وسبعون صفاً من الملائكة، كل صف ما بين المشرق والمغرب، فسلم على وأخذ بيدي، فقلت: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إن الخضر أخبرني أنه سمع منك هذا الحديث، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- صدق الخضر وكل ما يحكيه فهو حق، وهو عالم أهل الأرض، وهو رئيس الأبدال، وهو من جنود الله في الأرض، فقلت: يا رسول الله ما لمن يعمل هذا العمل من الثواب سوى ما رأيت؟ فقال -صلى الله عليه وسلم- لي: وأي ثواب يكون أفضل من هذا الذي رأيت وأعطيت، لقد رأيت موضعك من الجنة وأكلت من ثمارها وشربت من شرابها، ورأيت الملائكة والأنبياء

(فصل: في ذكر الصلاة بعد العشاء الآخرة)

معي، ورأيت الحور العين، فقلت: يا رسول الله فمن يعمل مثل ما عملت ولم ير مثل الذي رأيت في منامي، هل يعطي شيئاً مما أعطيته فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: والذي بعثني بالحق نبياً، إنه ليغفر له جميع الكبائر التي عملها، ويرفع الله عنه غضبه ومقته، والذي بعثني بالحق نبياً ليعطي العامل لهذا، وإن لم ير الجنة في منامه مثل ما أعطيت، وإن منادياً ينادي من السماء: إن الله قد غفر لعامله ولجميع أمته -صلى الله عليه وسلم- من المؤمنين والمؤمنات من المشرق والمغرب ويؤمر صاحب الشمال ألا يكتب على أحد منهم شيئاً من السيئات إلى السنة المقبلة، قال: فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، بالذي أراني جمالك وأراني الجنة، أله هذا الثواب والفضل، قال -صلى الله عليه وسلم-: نعم يعطي ذلك جميعاً، فلت: يا رسول الله إنه ينبغي لجميع المؤمنين والمؤمنات أن يتعلموا هذا الدعاء ويعلموه، لما فيه من الثواب والفضل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: والذي بعثني بالحق نبياً ما يعمل بهذا إلا من خلقه الله سعيداً، ولا يتركه إلا من خلقه الله شقياً، فقلت: يا رسول الله فهل يعطي عامل هذا شيئاً غير هذا؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: والذي بعثني بالحق نبياً إن من عمل هذا العمل ليلة واحدة كتبت له بكل قطرة نزلت من السماء منذ خلق الله الدنيا إلى يوم ينفخ في الصور حسنات، ويمحى عنه بعدد كل حبة تنبت من الأرض سيئات له ولمن عمل به من المؤمنين والمؤمنات من الأولين والآخرين". وعن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى ليلة الجمعة ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وآية الكرسي، وخمسة عشرة مرة {قل هو الله أحد ...}، يقول في آخر صلاته ألف مرة: اللهم صل على محمد النبي الأمي، فإنه يراني في ليلته، ولا تتم له الجمعة الأخرى، إلا وقد رآني، ومن رآني فله الجنة وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" ذكرها في الحديث. * * * (فصل: في ذكر الصلاة بعد العشاء الآخرة) من ذلك ما حدثنا به أبو نصر عن والده، بإسناده عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "من صلى أربعاً بعد العشاء الآخرة كان كمن أدرك ليلة القدر في

(فصل) وأما الوتر فالأفضل فيه آخر الليل

المسجد الحرام". وكذلك عن كعب الأحبار "من صلى بعد العشاء الآخرة أربع ركعات بقراءة حسنة، كان له من الأجر مثل ليلة القدر" يعني كأنما صلاها في ليلة القدر. وأخبرنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى ركعتين بعد العشاء الآخرة يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب، وعشرين مرة {قل هو الله أحد ....}، بنى الله له قصرين في الجنة يتراءهما أهل الجنة". (فصل) وأما الوتر فالأفضل فيه آخر الليل. لما تقدم من فضل قيام آخر الليل. وما روى عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن رجلاً سأله عن قيام الليل فقال: مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فواحدة توتر لك ما قبلها". وكان عمر الفاروق رضي الله عنه يوتر في آخر الليل، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه يوتر في أول الليل، فسألهما النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال لأبي بكر رضي الله عنه: "متى توتر؟ فقال: أول الليل قبل أن أنام، وقال لعمر رضي الله عنه: متى توتر؟ فقال: من آخر الليل، فقال -صلى الله عليه وسلم- عن أبي بكر رضي الله عنه: حذر هذا، وقال عن عمر رضي الله عنه: قوى هذا". وقد روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إن الأكياس يوترون أول الليل، وإن الأقوياء يوترون آخر الليل وهو أفضل. وقيل: بل أول الليل أفضل لفعل أبي بكر رضي الله عنه، وما روى عن عثمان رضي الله عنه أنه قال أما أنا فأوتر أول الليل، فإذا استيقظت صليت ركعة شفعت بها وترى، فما شبهتها إلا بالغريبة من الإبل ضممتها إلى أخواتها، ثم أوترت في آخر صلاتي.

(فصل) ومن أوتر أول الليل ثم قام إلى التهجد فهل يفسخ وتره أم يصلي ما يشاء من غير أن يفسخه

والمشهور عنه رضي الله عنه من فعله أنه كان يحيى الليل كله في ركعة واحدة يختم فيها القرآن وهي وتره. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: أوصاني خليلي أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم- بثلاث: الوتر قبل النوم، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى". ولاسيما في حق من يخاف ألا يستيقظ إلا بعد طلوع الفجر، فإن الأولى أن ينام على وتر. وقد قال علي رضي الله عنه: الوتر على ثلاثة أنحاء: إن شئت أوترت أول الليل، ثم صليت ركعتين ركعتين، وإن شئت أوترت بركعة، فإن استيقظت شفعت إليها أخرى، ثم أوترت من آخر الليل، وإن شئت أخرت الوتر حتى يكون آخر صلاتك. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من خاف ألا يستيقظ من آخر الليل فليوتر من أول الليل ثم ليرقد، ومن طمع أن يقوم من آخر الليل، فإن قيام آخر الليل محظور، وذلك أفضل". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم إذا أوتر من آخر الليل فإن كانت له حاجة إلى أهله دنا منهن، وإلا اضطجع في مصلاه حتى يأتيه بلال رضي الله عنه فيؤذنه بالصلاة". وقالت عائشة رضي الله عنها: "من كل الليل قد أوتر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أوله وأوسطه وانتهاء وتره إلى السحر". وفي الخبر "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوتر عند الأذان، ويصلى الركعتين عند الإقامة". وكان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلون العشاء، ثم يصلون ركعتين، ثم أربعاً، فمن بدا له أن يوتر أوتر، ومن أراد أن ينام نام. (فصل) ومن أوتر أول الليل ثم قام إلى التهجد فهل يفسخ وتره أم يصلي ما يشاء من غير أن يفسخه على روايتين عن أحمد رحمه الله: أحدهما لا يفسخه، وقال في

(فصل: في دعاء الوتر)

رواية الفضل بن زياد: الوتر آخر الليل أفضل، فإن خاف رجل أن ينام فليوتر أول الليل، فإن قام آخر الليل صلى ركعتين ولم يوتر، والرواية الأخرى: بنقضه. قال الفضل بن زياد: قلت لأحمد: افتراء ينقض وتره؟ قال: لا، وإن نقضه فلا بأس، قد فعل ذلك عمر وعلى أسامة وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهم. وصفة نقض الوتر وفسخه، أنه إذا أوتر الليل بواحدة، ونام ثم قام في أثناء الليل ليصلي، صلى ركعة واحدة ينوي بها نقص وتره وإشفاعه وسلم منها، فيصير كل ما صلى من قبل شفعاً، ثم يصلى ما شاء مثنى مثنى، ثم يوتر بركعة واحدة قبل طلوع الفجر. ويكشف ذلك فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي قدمنا ذكره، ولا يترك الوتر الأول على حاله، ثم يوتر مرة أخرى لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا وتران في ليلة" وإن لم ينقضه وصلى ما أراد، فقد بينا جواز ذلك. (فصل: في دعاء الوتر) وهو أن يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الوتر: "اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونحلع ونترك من يفجرك. اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نعي ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق. اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت. "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك".

(فصل) وإذا كان ممن يصلي بالليل وغلبه النعاس، فالأولى له أن ينام

وإن زاد على ذلك جار، ثم يمر يده على وجهه في إحدى الروايتين، والأخرى يمرها على صدره، فإن كان إماماً في شهر رمضان قال في جميعها: بالنون والألف أهدنا وعافنا ... إلى آخر الدعاء. (فصل) وإذا كان ممن يصلي بالليل وغلبه النعاس، فالأولى له أن ينام. لما روى في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا نعس أحدكم وهو في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإنه إذا صلى وهو ينعس لعله يذهب ليستغفر فيسب نفسه". وعن عبد العزيز بن صهيب عن أنس رضي الله عنه قال: "دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد وحبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا؟ فقالوا: هو لزينب تصلى، فإذا كسئت أو فترت أمسكت به، فقال: حلوة، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: يصلي أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر فليقعد". وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها "أنها كانت عندها امرأة من بني أسد، فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "من هذه؟ قالت: هذه فلانة لا تنام الليل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: عليكم بالذي تطيقون من العمل، فوالله لا يمل الله عز وجل حتى تملوا". قالت: وأحب العمل إلى الله تعالى الذي يداوم عليه صاحبه وإن قل، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أمرهم بما يطيقون من العمل يقولون: يا رسول الله إنا لسنا كهيئتك، إن الله عز وجل قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيغضب حتى يعرف في وجهه، فالسنة في حق من غلبة النوم حتى شغله عن الصلاة والذكر أن ينام حتى يذهب عنه ثقل النوم، وينسبط للعبادة ويعقل ما يقول. وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يكره النوم قاعداً. وفي الخبر: "لا تكابدوا الليل". وقد كان من الصالحين من يمهد لنفسه النوم ليتقوى بذلك على أوسط الليل، ومنهم

من كره التعمد للنوم وكان لا ينام حتى يغلبه النوم. ويقال: إن وهب بن منبه اليماني رحمه الله ما وضع جنبه إلى الأرض ثلاثين سنة، كانت له مسورة من آدم إذا غلبه النوم وضع صدره عليها وخفق خفقات ثم يفزع إلى القيام. وكان يقول: لأن أرى في بيتي شيطاناً أحب إلى من أن أرى فيه وسادة، يعني لأنها تدعو إلى النوم. وسئل بعضهم عن وصف الأبدال فقال: أكلهم فاقة ونومهم غلبة وكلامهم ضرورة وصمتهم حكمة وعلمهم قدرة. وسئل بعضهم عن صفة الأبدال فقال: أكلهم فاقة ونومهم غلبة وكلامهم ضرورة وصمتهم حكمة وعلمهم قدرة. وسئل بعضهم عن صفة الخائفين فقال: أكلهم أكل المرضى، ونومهم نوم الفرقى. ولا ينظر إلى أحوال الصالحين، بل إلى ماروى عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-،والاعتماد عليه حتى يدخل العبد في حالة ينفرد بها عن غيره. وعن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي العمل أفضل؟ قال: أدومه وإن قل". وعن علقمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دائمة"، ولهذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوم ليلة نصف الليل، وليلة ثلثه، وليلة نصف الليل مع نصف سدسه، ويقوم ليلة ربعه فقط، ويقوم سدس الليل فحسب، وكل ذلك مذكور في سورة المزمل. وروى عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "صل من الليل ولو قدر حلب شاه". وقد يكون ذلك قدر أربع ركعات، وقد يكون قدر ركعتين. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ركعتان يصليهما العبد في جوف الليل خير من الدنيا وما فيها، ولولا أن أشق على أمتي لفرضتهما عليهم". كل ذلك ليسهل على أمته قيام الليل والعبادة، ولا يثقل عليهم، وتبغض العبادة إليهم فيسأموا، بل أرشدهم -صلى الله عليه وسلم- لقيم الليل وذكر فضله وثوابه لئلا يقتصروا على

الفرائض والسنن خاصة. ويستحب من قيام الليل ثلثه، وأقل الاستحباب من القيام سدسه، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقم ليلة قط حتى أصبح، بل كان ينام فيها، ولم ينم ليلة حتى يصبح، بل كان يقوم فيها على ما بيناه. وقيل: إن صلاة أول الليل للمتهجدين، وقيام أوسطه للقانتين، وقيام آخره للمصلين، والقيام من الفجر للغافلين. وعن يوسف بن مهران أنه قال: بلغني أن تحت العرش ملكاً في صورة ديك براثنه من لؤلؤ، وصيصته من زبرجد أخضر، فإذا مضى ثلث الليل الأول ضرب بجناحيه ورقاً وقال: ليقم القائمون، فإذا مضى نصف الليل ضرب بجناحيه وزقاً وقال: ليقم المتهجدون، فإذا مضى ثلثا الليل ضرب بجناحيه وزقا وقال: ليقم القانتون، فإذا طلع الفجر ضرب بجناحيه وزقاً وقال: ليقم القانتون، فإذا طلع الفجر ضرب بجناحيه وزقاً وقال: ليقم الغافلون وعليهم أوزارهم. وقال بعض العارفين: إن الله تعالى ينظر بالأسحار إلى قلوب المتيقظين فيملؤها أنواراً، فترد الفوائد على قلوبهم فتستنير، ثم تنتشر من قلوبهم العوافي إلى قلوب الغافلين. وروى أن الله تعالى أوحى إلى بعض الصديقين إن لي عباداً من عبادي يحبوني وأحبهم، ويشتاقون إلى وأشتاق إليهم، ويذكرونني وأذكرهم، وينظرون إلى وأنظر إليهم فإن حذوت طريقهم أحببتك، وإن عدلت عنهم مقتك، فقال: يارب وما علامتهم؟ قال: يراعون الظلال بالنهار كما يراعى الراعي الشفيق غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها عند الغروب، فإذا جهنم الليل واختلط الظلام، وفرشت الفرش ونصبت الأسرة وخلا كل حبيب يجيبه، نصبوا إلى أقدامهم وافترشوا إلى وجوههم، فناجوني بكلامي، وتملقوني بإنعامي، فبين صارخ وباك، وبين متأوه وشاك، وبين قائم وقاعد، وبين راكع وساجد، بعيني ما يتحملون من أجلي، وبسمعي ما يشكون من حبي، أول ما أعطيهم أقذف من نوري في قلوبهم، فيخبرون عني كما أخبر عنهم، والثانية لو كانت السموات السبع والأرض وما فيها في موازينهم لاستقللتها لهم، والثالثة أقبل بوجهي الكريم عليهم فترى من أقبلت بوجهي الكريم عليه يعلم أحد ما أريد أن أعطيه.

(فصل) وأما قيام الليل، فعمل الأقوياء الذين سبقت لهم منه العناية

(فصل) وأما قيام الليل، فعمل الأقوياء الذين سبقت لهم منه العناية، وأديمت لهم الرعاية، وأحيط على قلوبهم بالتوفيق ونور الجلال ثم الجمال، فجعل القيام بالليل لهم موهبة وخلعة، فلم يسلبه عنهم مولاهم عز وجل حتى اللقاء. وقد روى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يحيى الليل بركعة واحدة يختم فيها القرآن وقدمنا ذكره. وذكر عن أربعين رجلاً من التابعين أنهم كانوا يحبون الليل كله، ويصلون صلاة الغداة بوضوء العشاء الآخرة أربعين سنة، صح النقل عنهم واشتهر، منهم سعيد بن جبير، وصفوان بن سليم، وأبو حازم، ومحمد بن المنكدر من أهل المدينة، وفضيل بن عياض، ووهب بن الورد من أهل مكة، وطاوس، ووهب بن منبه من أهل اليمن، والربيع بن خيثم، والحكم من أهل الكوفة، وأبو سليمان الداراني، وعلى بن نكار من أهل الشام، وأبو عبد الله الخواص، وأبو عاصم من أهل عبادان، وحبيب أبو محمد، وأبو جائز السليماني من أهل فارس، ومالك بن دينار، وسليمان التيمي، ويزيد الرقاشي، وحبيب بن أبي ثابت، ويحيى البكاء من أهل البصرة، وغيرهم ممن يطول ذكرهم، رحمة الله عليهم ورضوانه. (فصل) ومن استكملت غفلته، وأحاطت به خطيئاته، وقيدته وثبطته عن قيام الليل زلته وذنوبه، وأحب قيامه والدخول في زمرة القانتين المستغفرين بالأسحار، فليستغفر الله تعالى ثلاثاً عند نومه واضطجاعه، ثم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم يقرأ عشر آيات من أول سورة الكهف، وعشراً من آخرها، ويقرأ. {آمن الرسول ...}، و {قل يا أيها الكافرون ...}، فإن الله تعالى يوقظه ويؤهله لقيام الليل بنعمته الواسعة، ومغفرته الشاملة، ورعايته العامة للمؤمنين من عباده. وليقل أيضاً: اللهم أيقظني في أحب الساعات إليك، واستعملني بأحب الأعمال لديك، التي تقربني إليك زلفى، وتبعدني من سخطك بعداً، أسألك فتعطيني، وأستغفرك فتغفر لي، وأدعوك فتستجيب لي، اللهم لا تؤمني مكرك، ولا تولني غيرك، ولا ترفع عني سترك، ولا تنسني ذكرك، ولا تجعلني من الغافلين، فإنه قيل. من قال هذه الكلمات عند نومه أهبط الله عز وجل له ثلاثة أملاك يوقظونه للصلاة، فإن صلى ودعا أمنوا على دعائه، وإن لم يقم تعبد الأملاك في الهواء، وكتب له ثواب عبادتهم.

(فصل) ومن أنعم عليه بقيام الليل وفعل شيء من النوافل، فليجتهد في المداومة عليه من القدرة وعدم العذر

وليقل أيضاً ما نقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من سره أن يستيقظ بالليل فليقل عند اضطجاعه: اللهم ابعثني من مضجعي لذكرك وشكرك وصلاتك واستغفارك وتلاوة كتابك وحسن عبادتك، ثم ليسبح ثلاثاً وثلاثين مرة، وليحمد ثلاثاً وثلاثين مرة، وليكبر أربعاً وثلاثين مرة". وإن أحب أن يقول خمساً وعشرين مرة، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فهو أخف عليه، ومجموعها مائة، أجزاء عن الأول. وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان رسول الله آخر ما يقول حين ينام وهو واضع خده على يده اليمنى، وهو يرى أنه ميت في ليلته تلك: اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين، وأغني من الفقر". (فصل) ومن أنعم عليه بقيام الليل وفعل شيء من النوافل، فليجتهد في المداومة عليه من القدرة وعدم العذر. لما روى عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من عبد الله سبحانه عبادة ثم تركها ملالة مقته الله تعالى". وقالت عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا غلبه نوم أو مرض فلم يقم تلك الليلة، صلى من النهار أثنى عشرة ركعة". وفي الخبر "أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل". (فصل) ويستحب لمن قام من الليل للتهجد أن يقول: "الحمد لله الذي أحياني بعدما توفاني وإليه النشور". ويقرأ العشر من آخر آل عمران، ثم يستاك ويتوضأ، ثم يقول: سبحانك وبحمدك،

لا إله إلا أنت أستغفرك وأسألك التوبة، فاغفر لي وتب على إنك أنت التواب الرحيم. اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، واجعلني صبوراً شكوراً، واجعلني ممن يذكرك كثيراً ويسبحك بكرة وأصيلاً، ثم يرفع رأسه إلى السماء ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، أنا عبدك وابن عبدك، ناصيتي بيدك، جار في حكمك، دل في قضاؤك، هذه يداي بما كسبت، وهذه نفسي بما اجترحت، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، علمت سوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي ذنبي العظيم، إنك أنت ربي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ولا إله إلا أنت يا الله. فإذا قام إلى الصلاة متوجهاً فليقل: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، ثم ليسبح عشراً، وليحمد عشراً، وليهلل عشراً، وليكبر عشراً، وليقل: الله أكبر ذو الملكوت والجبروت، والكبرياء والعظمة، والجلال والقدرة، وإن شاء أن يقول هذه الكلمات فإنها مأثورة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قيامه للتهجد وهي: اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت بهاء السموات والأرض، ولك الحمد أنت زين السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ومن عليهن، أنت الحق، ومنك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اهدني لأحسن الأعمال، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها فإنه لا يصرف سيئها إلا أنت، أسألك مسألة البائس المسكين، وأدعوك دعاء المفتقر الذليل، فلا تجعلني بدعائك رب شقياً، وكن بي رؤوفاً رحيماً يا خير المسئولين وأكرم المعطين. وأخبرنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة ابن عبد الرحمن، قال: سألت عائشة رضي الله عنها، بأي شيء كان يكبر ويفتح النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان يكبر ويفتح فيقول: اللهم رب جبريل

(فصل) ويستحب إذا قام لصلاة الليل أن يفتح صلاته بركعتين خفيفتين

وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، أهدني لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". (فصل) ويستحب إذا قام لصلاة الليل أن يفتح صلاته بركعتين خفيفتين، ولا يتناول شيئاً من الطعام والشراب حتى يفرغ مما أنعم الله عليه من فعل الصلاة والتسبيح، لأنه إذا استيقظ من نومه يكون حامي القلب فارغ الهم، فإذا أكل أو شرب تغير قلبه عن هيئته وأظلم، فالأولى له أن يؤخر ذلك، إلا أن يكون قد نام جائعاً وأفرطه الجوع، أو يخاف من جوع النهار في شهر رمضان، ويخاف طلوع الفجر، فإن المستحب تقديم الأكل. (فصل) ويستحب ألا ينام حتى يقرأ ثلثمائة آية ليدخل في زمن العابدين، ولم يكتب من الغافلين، فليقرأ سورة الفرقان والشعراء، فإن فيهما ثلثمائة آية، وإن لم يحسنهما قرأ سورة الواقعة ونون والحاقة وسورة الواقعة، أي سأل سائل، والمدثر، فإن لم يحسنهن فليقرأ سورة الطارق إلى خاتمة القرآن، فإنها ثلثمائة آية، فإن قرأ مقدار ألف آية كان أحسن وأكمل للفضل، وكتب له قنطار من الأجر، وكتب من القانتين، وذلك من سورة تبارك الذي بيده الملك إلى خاتمة القرآن: فإن لم يحسنها فليقرأ مائتين وخمسين مرة قل هو الله أحد بالبسملة، فإن مجموعها ألف آية. وينبغي له ألا يدع قراءة أربع سور في كل ليلة: ألم تنزيل، وسورة يس، وحم الدخان، وتبارك، وإن قرأ معها سورة الزمر والواقعة كان أحسن. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا ينام حتى يقرأ السجدة وتبارك الملك، وفي خبر آخر: بني إسرائيل والزمر، وفي خبر آخر: المسبحات، ويقال: فيها آية أفضل من ألف آية. (فصل) والذي يستعان به على قيام الليل أشياء: منها أكل الحلال، والاستقامة على التوبة رغم خوف الوعيد، وشوق رجاء الموعود، ومنها أنه يجتنب أكل الشبهات والإصرار على الذنوب، ويدفع غلبة هم الدنيا وجهاً عن

القلب بذكر الموت، والتفكير في المعاد، وما يلقى بعد الموت. وقال رجل للحسن رحمه الله: يا أبا سعيد إني أبيت معافى وأحب قيام الليل وأعد طهوري فما بالي لا أقوم؟ فقال: ذنوبك قيدتك. وقال الثوري رحمه الله: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته، قيل: وما هو؟ قال رأيت رجلاً يبكي، فقلت في نفسي: هذا مراء. وكان الحسن رحمه الله يقول: إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل وصيام النهار. وقيل: كم من أكلة منعت قيام ليلة، وكم من نظرة حرمت قراءة سورة، وإن العبد ليأكل الأكلة، أو يفعل فعلة فحرم بها قيام السنة، فبحسن التفقد يعرف المزيد من النقصان، وبقلة الذنوب يوقف على التفقد. وقال أبو سليمان رحمه الله تعالى: لا يفوت أحداً صلاة جماعة إلا بذنب، وكان يقول: الاحتلام بالليل عقوبة، والجنابة البعد. ومنها: قلة الطعام والشراب، وخلو المعدة منها، لما روى عون بن عبد الله رحمه الله أنه قال: كان في بني إسرائيل ناس يتعبدون، فكان إذا كان فطرهم قام عليهم قائم فقال: لا تأكلوا كثيراً، فإنكم إذا أكلتم كثيراً نمتم كثيراً وإذا نمتم كثيراً صلتم قليلاً. وقيل: إن كثرة النوم من كثرة شرب الماء. وقيل: إنه اتفق رأي سبعين صدّيقاً وهم يقولون: إن كثرة النوم من كثرة شرب الماء. ومنها: أنه يلزم قلبه الهم والغم والحزن ويقظة دائمة، فيحيى بها القلب، ويديم الفكر في الملكوت، ويقيل في النهار، ولا يكثر تعب جوارحه في أمور الدنيا، فإن اختار أن يقوم أول الليل حتى يغلبه النوم، ثم ينام ثم يقوم متى استيقظ، ثم ينام متى غلبه النوم ثم يقوم آخر الليل، فيكون له في الليل قومتان ونومتان، فيكابد الليل فهو من أشد الأعمال وهي حالة الحضور واليقظة والفكر والتذكر، وقيل: إنها من أخلاق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد يكون للعابد في الليل قومات ونومات في تضاعيف ذلك، وإما أن يكون القيام والنوم موزوناً عدلاً فلا يكون ذلك إلا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فيكون قلبه دائم اليقظة، ووحي من الله سبحانه يؤمر به وينهى ويوقظ وينوم ويقلب ويحرك، خاص له ذلك دون بقية الخلق.

(فصل) ويستحب لمن قام الليل أن ينام آخره لوجهين

(فصل) ويستحب لمن قام الليل أن ينام آخره لوجهين: أحدهما: أنه يذهب النعاس بالغداة، والنوم بالغداة مكروه، ولهذا كانوا يأمرون الناعس بالنوم بعد صلاة الصبح، ويمنعون قبلها، وقد ورد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت له هجعة بعد صلاة الفجر. والوجه الثاني: أن نوم آخر الليل يذهب صفرة الوجه، وإذا كابد نومه ولم ينم بقيت الصفرة بحالها. وينبغي أن يتقي ذلك لأنه باب غامض، وهو من الشهوة الخفية والشرك الخفي؛ لأنه يشار إليه بالأصابع، ويتوهم فيه الصلاح والسهر والصوم والخوف من الله عز وجل لأجل تلك الصفرة التي في وجهه، نعوذ بالله من الشرك الخفي والرياء، وكل أمارة تدل عليهما. وينبغي أن يقلل شرب الماء بالليل لما قدمنا من أنه يجلب النوم، ولأنه يكون منه صفرة الوجه، سيما في آخر الليل، وعند الانتباه من النوم، وفي الخبر "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أوتر من آخر الليل اضطجع على شقه الأيمن ضجعة حتى يأتيه بلال رضي الله عنه فيخرج معه إلى الصلاة". وقد كان السلف يستحبون هذه الضجعة بعد الوتر، وقبل صلاة الصبح حتى جعلها بعضهم سنة، وهو أبو هريرة رضي الله عنه ومن تابعه في ذلك. وإنما استحبوا ذلك لأنه مزيد لأهل المشاهدة والحضور، لأنهم يكشف لهم عن الملكوت ويضيء لهم أنواع العلوم من الجبروت، ويلقنون غرائب الحكم والعلوم، ويطلعون على ما غاب عنهم من الأقسام والحظوظ، وما أعدها لهم رب الخليقة علام الغيوب، وفي حق العمال وأهل المجاهدة راحة وسكون، ولذلك نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، يستريح فيها أهل أوراد الليل والنهار. وكذلك يستحب أن يفصل في تضاعيف صلاة الليل بجلوس يسبح فيه مائة تسبيحة، ليكون عوناً على الصلاة، ولتسكن الجوارح، وتزول سآمة النفس للقيام، ويحبب إليها التهجد والصلاة، وهو داخل تحت قوله عز وجل: {ومن الليل فسبحه وأدبار النجوم} [الطور 49]، وقوله تعالى: {وأدبار السجود} [ق 4] أي أعقاب الصلاة.

(فصل) فإن فاته قيام الليل بنوم أو شغل، فإن قضاه ما بين طلوع الشمس إلى زوالها كان كمن صلى في وقته في الليل

(فصل) فإن فاته قيام الليل بنوم أو شغل، فإن قضاه ما بين طلوع الشمس إلى زوالها كان كمن صلى في وقته في الليل: لما حدثنا به أبو نصر عن والده، بإسناده عن عبد الله بن غنم قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اربع ركعات قبل الظهر بعد الزوال يحسبن بمثلهن من السحر". وفي لفظ آخر عن عمر رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من نام عن حزبه من الليل أو نسيه فقرأه من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، فكأنما قرأه في ليله". وعن بعض السلف أنه قال: اجتمع رأي آل محمد -صلى الله عليه وسلم- أن من صلى وقرأ ورده الذي فاته من الليل قبل الزوال كان كمن صلاه في الليل، وإن لم يقدر على ذلك فيقضيه ما بين الظهر والعصر، قال الله تعالى: {هو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً} [الفرقان 62] أي جعلهما خلفتين يتعاقبان في الفصل، فيخلف أحدهما الآخر. (فصل) فقد تحصل من هذه الجملة أن أوراد الليل خمسة: أحدهما: ما بين العشائين. والثاني: ما بعد العشاء الأخير إلى وقت منامه. والثالث: جوف الليل. والرابع: الثلث الأخير. والخامس: وهو السحر الأخير إلى طلوع الفجر الثاني وهو القراءة والاستغفار وللتفكر والاعتبار دون الصلاة، لأنه لا يؤمن أ، تصادف صلاته طلوع الفجر، وهو الوقت المنهي عن الصلاة فيه، ولذا قال -صلى الله عيله وسلم-: "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشيت الفجر فأوتر بركعة توتر لك ما قبلها". اللهم إلا أن يكون قد نام عن وتره وورده، فإنه يصليها هذه الساعة على ما تقدم بيانه في فصل فعل الوتر.

(فصل) وأما أوراد النهار فخمسة أيضا

فصول أوراد النهار (فصل) وأما أوراد النهار فخمسة أيضاً: أحدها: من وقت طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس. والثاني: صلاة الضحى وما كان في معناها إلى الزوال. والثالث: أربع ركعات بعد الزوال بقراءة حسنة وسلام واحد. وقيل: إن أبواب السماء تفتح لها. والرابع: ما بين الظهر والعصر. والخامس: بعد العصر إلى المغرب. (فصل) وأما الورد الأول من النهار: فيستحب الجلوس بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، يذكر الله تعالى فيه أما بتلاوة القرآن أو تسبيح أو تفكر أو تذكر أو تعليم أو جلوس إلى عالم، وكذلك بعد صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس، لأنهما وقتان نهى عن التنفل بالصلاة فيهما، لما أخبرنا الشيخ أبو نصر عن والده، قال: أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن شاذان، قال: أخبرنا أبو علي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الخطى، قال: حدثنا محمد بن يعقوب، قال: حدثنا هديبة بن خالد القيسي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الشعبي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لأن أقعد مع قوم أذكر الله تعالى من صلاة الفجر حتى تطلع الشمس أكبر وأهلل أحب إلي من أن أعتق رقبتين، ولأن أذكر الله عز وجل من بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس أكبر وأهلل أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل". وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تناموا عن طلب أرزاقكم" قيل: يا أنس ما معنى قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تناموا عن طلب أرزاقكم؟ قال: فإذا صليتم الفجر، فقولوا ثلاثاً وثلاثين مرة الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.

وفي حديث آخر: يسبح ثلاثاً وثلاثين مرة، ويحمد ثلاثاً وثلاثين مرة، ويكبر أربعاً وثلاثين مرة، ويختمها بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير". هكذا يفعل بعد العصر وعند النوم. وحدثنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن عروة بن الزبير، عن أبيه رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "غدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، فقال رجل: يا رسول الله فمن لا يستطيع غزواً قال: من جلس حين يصلي المغرب يذكر الله تعالى حتى يصلي العشاء، كان مجلسه ذلك روحة في سبيل الله، ومن جلس حين يصلي الغداة يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس كانت مثل غدوة في سبيل الله". وحدثنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من عبد يقول في دبر صلاة الغداة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، عشر مرات إلا كتب الله له بهن عشر حسنات، ومحا عنه بهن عشر سيئات، ورفع له بهن عشر درجات، كن عدل عشر رقاب، ولا يضره يومئذ ذنب يصيبه إلا أن يكون شركاً. وما من عبد أحسن الوضوء فغسل وجهه كما أمر الله تعالى، إلا حط الله عنه كل ذنب نظرت إليه عيناه، أو تكلم به لسانه، وما من عبد غسل يديه كما أمر الله عز وجل إلا حد الله عنه ذنب بطشت به يداه، وما من عبد مسح رأسه وأذنيه إلا حط الله عنه ذنب استمعت إليه أذناه، ثم غسل رجليه كما أمره الله تعالى، إلا حط الله عنه كل ذنب مشت به رجلاه إلى خطيئة حتى يقوم إلى صلاته، فتكون تلك الصلاة فضيلة، وما من عبد نام على ذكر طاهراً، فأول ما ينتبه يدعو بدعوة غلا كانت دعوة مستجابة، وما من عبد رمى بسهم في سبيل الله عز وجل فأصاب أو أخطأ إلا أعطي به تحرير رقبة، وما من عبد شاب شيبة في سبيل الله، إلا أعطي بها نوراً يوم القيامة، ومن أعتق رقبة كانت له فداء من نار جهنم، كل عضو بعضو". وحدثنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من صلى الغداة في مسجده ثم جلس يذكر الله تعالى

إلى أن تطلع الشمس، فإذا طلعت حمد الله تعالى وقام فصلى ركعتين، أعطاه الله بكل ركعة ألف ألف قصر في الجنة، في كل قصر ألف ألف حوراء، مع كل حوراء ألف ألف خادم، وكان عند الله من الأوابين". وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى الفجر لم يقم من مجلسه حتى تمكنه الصلاة، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى الصبح وجلس في مجلسه حتى تمكنه الصلاة كانت بمنزلة حجة وعمرة متقبلتين" فكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا صلى الغداة جلس حتى تطلع الشمس، فقيل له: لم تفعل هذا؟ فقال: أريد به السنة. وحدثنا أبو نصر عن والده، فإسناده عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى الفجر في جماعة، ثم اعتكف إلى طلوع الشمس، ثم صلى أربع ركعات متوالية، يقرأ في أول ركعة بفاتحة الكتاب وآية الكرسي ثلاث مرات، و {قل هو الله أحد ...} سبع مرات، وفي الركعة الثانية فاتحة الكتاب مرة، {والشمس وضحاها ...}، وفي الركعة الثالثة فاتحة الكتاب، {والسماء والطارق ...}، وفي الركعة الرابعة فاتحة الكتاب مرة، وآية الكرسي مرة، و {قل هو الله أحد ...} ثلاث مرات، بعث الله تعالى إليه سبعين ملكاً، من كل سماء عشرة أملاك، معهم أطباق من أطباق الجنة، ومناديل من مناديل الجنة، فيحملون تلك الصلاة على تلك الأطباق، ثم يصعدون بها، فلا يمرون بقوم من الملائكة إلا استغفروا لصاحبها، فإذا وضعت بين يدي الجبار قال الله تعالى: عبدي لي صليت، وإياي عبدت، فاستأنف العمل فقد غفرت لك". وهذه الصلاة هي تفسير ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه عز وجل قال: "يا ابن آدم صل لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره". وقد حمله بعضهم على صلاة الفجر فرضها ومسنونها، والصحيح ما ذكرنا. * * *

(فصل) وأما الورد الثاني: فصلاة الضحى

(فصل) وأما الورد الثاني: فصلاة الضحى. وهي صلاة الأوابين، وهل يستحب المداومة عليها أم لا؟ على وجهين عند أصحابنا. والأصل في ذلك ما حدثنا به أبو نصر عن والده، بإسناده عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة الضحى صلاة الأوابين". وبهذا الإسناد قال -صلى الله عليه وسلم-: "صلاة الضحى أكثر صلاة دواد عليه السلام". وحدثنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن باباً من أبواب الجنة يقال له الضحى، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذين كانوا يصلون صلاة الضحى دائمين عليها، أدخلوهم برحمة الله". وكان الناس على عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعلي رضي الله عنهما يصلون صلاة الصبح، ثم ينتظرون الوقت الذي يصلى فيه صلاة الضحى فيصلونها في المسجد. وعن الضحاك بن قيس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لقد أتى علينا زمان لا ندري ما وجه هذه الآية {يسحبن بالعشي والإشراق} [ص: 18] حتى رأينا الناس يصلون الضحى. وقال ابن أبي مليكة رحمه الله: سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن صلاة الضحى فقال: إنها لفي كتاب الله تعالى ثم قرآ: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيه اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال}. وكان ابن عباس رضي الله عنهما يصلي ركعتي الضحى، ولكن لا يدمن عليها، ولهذا لما سئل عكرمة عن صلاة ابن عباس رضي الله عنهما الضحى قال: كان يصليها اليوم ويدعها العشرة. وقال النخعي رحمه الله: كانوا يكرهون أن يديموا صلاة الضحى فيصلون ويدعون لئلا تكون كالمكتوبة. * * *

(فصل) وأما عدد صلاة الضحى، فأقلها ركعتان، وأعدلها ثمان ركعات، وأكثرها اثنتا عشرة ركعة

(فصل) وأما عدد صلاة الضحى، فأقلها ركعتان، وأعدلها ثمان ركعات، وأكثرها اثنتا عشرة ركعة. فأما الركعتان فما أخبرنا به الشيخ أبو نصر عن والده، بإسناده عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "في الإنسان ثلثمائة وستون مفصلاً، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل كل يوم بصدقة، قالوا: ومن يطيق ذلك يا رسول الله؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: النخامة يراها في المسجد فيدفنها، أو الشيء ينحيه عن الطريق، فإن لم يقدر فركعتا الضحى تجزيه". وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أوصاني خليلي أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم- بثلاث: الوتر قبل النوم، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى. وروي أربع ركعات، وهو ما تقدم في الفصل الذي قبله من حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الحديث. وما روت معاذة عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة الضحى أربعاً، ثم ست ركعات". وعن حميد الطويل عن أنس رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنه كان يصلي الضحى ست ركعات، ثم ثمان ركعات". وعن عكرمة بن خالد عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: "لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الفتح، فتح مكة، نزل بأعلى مكة، فصلى ثمان ركعات، فقلت: يا رسول الله ما هذه الصلاة؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: صلاة الضحى" قال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: وهو ثبت. والاختيار عند أهل العلم رحمهم الله ثماني ركعات. وكذلك روى أبو سعيد رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن عائشة رضي الله عنها أيضاً أنها صلت الضحى ثمان ركعات.

(فصل) وأما وقتها

وقال القاسم بن محمد رحمه الله: كانت عائشة رضي الله عنها تصلي الضحى ثمان ركعات وتطيل ذلك، وكانت إذا صلتها غلقت الباب عليها، ثم عشر ركعات إن اختارت، ثم ثنتا عشرة ركعة وهو أفضلها، لما حدثنا به أبو نصر عن والده، بإسناده عن حمزة بن موسى بن أنس بن مالك الأنصاري، عن عمه ثمامة بن أنس، عن جده أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من صلى الضحى اثنتي عشرة ركعة بنى الله تعالى له قصراً من ذهب في الجنة". وحدثنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صلى اثنتي عشرة ركعة من النهار بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة". وحدثنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر إن النهار اثنتا عشرة ساعة، فأعد لكل ساعة منها ركعة وسجدتين، يدرأ عنك ما فيها من ذنب، يا أبا ذر من صلى ركعتين لم يكن من الغافلين، ومن صلى أربعاً كتب من الذاكرين، ومن صلى ستاً لم يلحقه في يومه حنث إلا الشرك، ومن صلى اثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة، قلت: يا رسول الله أجمعاً أم شتى؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: لا عليك". (فصل) وأما وقتها: فلها وقتان: جائز، وهو بعد طلوع الشمس إلى صلاة الظهر، ومستحب، وهو حين ترمض الفصال عند قرب الزوال. والدليل على استحبابها في هذا الوقت ما روي أن زيد بن أرقم رضي الله عنه رأى قوماً يصلون الضحى في مسجد قباء، فقال: لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة الأوابين حين ترمض الفصال". ويجوز فعلها أيضاً بعد الزوال، لما روى عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ساعة السبحة حين تزول الشمس من كبد السماء". وهي صلاة

(فصل) وأما الذي يقرأ فيها

المخبتين، وأفضلها في شدة الحر وإن هو لم يصلها إلا أن صلى الظهر قضايا على وجه الاستحباب. (فصل) وأما الذي يقرأ فيها: فما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "صلاة الضحى بسورة والشمس وضحاها والضحى". وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى اثنتي عشرة ركعة صلاة الضحى، فقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة، وآية الكرسي مرة، وثلاث مرات {قل هو الله أحد ...} نزل من كل سماء سبعون ألف ملك، معهم قراطيس بيض وأقلام من نور يكتبون له الحسنات إلى أن ينفخ في الصور، فإذا كان يوم القيامة أتته الملائكة مع كل ملك حلة وهدية، فيقومون على قبره ويقولون: يا صاحب القبر قم بإذن الله عز وجل فإنك من الآمنين". (فصل) وقد ورد عن بعض الصحابة رضي الله عنهم إنكار صلاة الضحى: من ذلك ما روى ابن المنادي من أصحابنا، بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ما صليت الضحى منذ أسلمت، إلا أن أطوف بالبيت، وإنها لبدعة ونعمت البدعة، وإنها لمن أحسن ما أحدثه الناس. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في صلاة الضحى: يا عباد الله لا تحملوا الناس ما لم يحملهم الله إياه، فإن كنتم لابد فاعلين فصلوها في بيوتكم. وكل هذا لا يدل على رد ما قدمنا ذكره من الفضائل الواردة في فعلها وإنما أرادوا بذلك لئلا تشبه بصلاة الفرض فيعتقد الناس وجوبها. وليس كل الناس سواء في نشاط العبادة فطلبوا الخفة عنهم، وتسهيل الطاعة عليهم، ولهذا المعنى روي عن عتبان بن مالك رضي الله عنه قال: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى في بيته سبحة الضحى، فقاموا وراءه فصلوا". وكانت عائشة رضي الله عنها إذا أرادت أن تصليها غلقت الباب، وابن عباس رضي الله عنهما كان يصليها يوماً ويتركها عشراً.

(فصل) وأما الورد الثالث: فالصلاة قبل الظهر وبعدها

(فصل) وأما الورد الثالث: فالصلاة قبل الظهر وبعدها: حدثنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن أم حبيبة رضي الله عنها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من صلى أربع ركعات قبل الظهر وأربعاً بعدها، حرم الله تعالى لحمه على النار". وقيل: إن أبواب السماء والجنة تفتح من بعد الزوال على أن يصلى الظهر، ولهذا قيل: إن الدعوات تستجاب في هذه الساعة، فيستحب ملازمة العبادة والدعاء والذكر فيها، وفي ذلك حديث مروي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يواظب على أربع ركعات قبل الظهر، فسئل فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أبواب الجنة تفتح عند زوال الشمس فلا ترتج حتى تقام الصلاة، فأحب أن أقدم". وسئلت عائشة رضي الله عنها: أي صلاة كانت أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يواظب عليها؟ فقالت رضي الله عنها: "كان يصلي أربعاً قبل الظهر يطيل فيهن القيام، ويحسن فيهن الركوع والسجود". (فصل) وأما الورد الرابع: ففيما بين الظهر والعصر: حدثنا أبو نصر عن والده، قال: حدثنا أبو محمد، حدثنا عمر بن أحمد، قال: أنبأنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا صالح بن مالك، قال: حدثنا جعفر بن عمر، قال: حدثنا يونس بن أبي عمرة عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أحيا ما بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء غفر له وشفع له ملكان". وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يحيي ما بين الظهر والعصر، وعن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه قال: كانوا يشبهون الصلاة بين العشاءين وفيما بين الظهر والعصر بصلاة الليل، كان ذلك دأب كثير من العباد فيصلون أورادهم بين الظهر والعصر، ينفردون عن الخلق وينقطعون إلى الحق في هذه الساعة، وهي ساعة شريفة للخلوة

(فصل) وقد ورد حديث جامع للنوافل في هذه الأوقات

بالرب عز وجل ذكره، وهي صلاة الغفلة. ويستحب العكوف في المسجد بين الظهر والعصر للصلاة والذكر، ليجمع بين الاعتكاف والانتظار للصلاة، وقد كان ذلك دأب السلف، إلا أن يكون قد فاته النوم قبل الزوال، فلينم في هذه الساعة ليتقوى به على قيام الليل، فإن نومه قبل الظهر لليلة الماضية وبعد الظهر لليلة المستقبلة. ولا يستحب أن يزيد في النوم على ثمان ساعات، وقيل إن نقص في النوم عن هذا المقدار اضطرب بدنه، لأن النوم قوت البدن وراحته. وحدثنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن سهيل عن أيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صلى اثنتي عشرة ركعة كل يوم بنى الله له بيتاً في الجنة، اثنتين قبل الفجر، وأربعاً قبل الظهر، واثنتين قبل الظهر، واثنتين قبل العصر، واثنتين بعد المغرب". وعن سعيد بن المسيب عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال المصلون لأربع قبل العصر حتى يغفر الله لهم مغفرة حتماً"ز (فصل) وقد ورد حديث جامع للنوافل في هذه الأوقات، وهو ما حدثنا به أبو نصر عن والده، قال: حدثنا محمد بن أحمد الحافظ، قال: حدثنا محمد بن بدر الحمامي، قال: حدثنا حماد بن مدرك، قال: حدثنا عثمان بن عبد الله الشامي، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم، عن عبد الله بن أبي سعيد عن طاوس، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى بعد المغرب أربع ركعات قبل أن يكلم أحداً رفعت له في عليين، وكان كمن أدرك ليلة القدر في المسجد الأقصى". يعني مسجد بيت المقدس "وهي خير من قيام نصف ليلة"، وهي قول الله تبارك وتعالى: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} [الداريات: 17]، وهي قول الله تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} [السجدة: 16]، وهي قول الله تعالى: {ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها} [القصص: 15].

(فصل) وأما الورد الخامس، بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس

ومن صلى أربعاً بعد العشاء الآخرة، كان كمن أدرك ليلة القدر في المسجد الحرام". "ومن صلى أربعاً قبل الظهر وأربعاً بعدها حرم الله تعالى جسده على النار أن تأكله أبداً". "ومن صلى أربعاً قبل العصر كتب له براءة من النار". وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ركعتا الفجر أحب إلى من الدنيا وما فيها". وحدثنا أبو نصر عن والده، بإسناده عن علي كرم الله وجهه أنه سئل عن تطوع النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ومن يطيق ذلك، كان يمهل حتى إذا كانت الشمس عن يساره مقدارها عن يمينه في العصر صلى ركعتين، فإذا كانت عن يساره مقدارها عن يمينه في الظهر صلى أربعاً، فإذا زالت الشمس صلى أربعاً، فيصلي بعد الظهر ركعتين وقبل العصر أربعاً". وفي الجملة يغتنم العبد الصلاة بين الأذان والإقامة والدعاء والتضرع، فإنها ساعة مرجو إجابة الداعي فيها على ما تقدم. (فصل) وأما الورد الخامس، بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس. فهو الذكر من التسبيح والتهليل، والاستغفار والتفكر في الملكوت، وقراءة القرآن، لأن صلاة النافلة منهي عنها فيه، ويقرأ قبل غروب الشمس: {والشمس وضحاها ...}، {والليل إذا يغشى ...}، والمعوذتين يختم نهاره، ويستفتح ليله بالقرآن والاستعاذة. وروي عن الحسن رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال فيما يذكر من رحمة ربه عز وجل: أن الله تعالى قال: "يا ابن آدم اذكرني من بعد صلاة الفجر ساعة، وبعد صلاة العصر ساعة، أكفك ما بينهما". * * *

باب في الصلوات الخمس وبيان أوقاتها وأعدادها وسنتها وفضائلها

باب في الصلوات الخمس وبيان أوقاتها وأعدادها وسنتها وفضائلها (فصل) الصلوات المكتوبة خمس: الفجر وهي ركعتان، والظهر وهي أربع ركعات، والعصر وهي أربع ركعات، والمغرب وهي ثلاث ركعات، والعشاء الآخرة وهي أربع ركعات، فذلك سبع عشرة ركعة. وقد كانت فرضت خمسين صلاة ليلة أسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج، ثم أعيدت إلى خمس حكمة من الله عز وجل، يتبين بذلك التخفيف وسهولة ما أبقى مما أسقط عن عبادة المؤمنين، كما أسقط عنهم ثبوت واحد لعشرة من المشركين في القتال إلى ثبوت واحد لاثنين منهم، وكما أسقط تحريم الأكل والشراب والجماع بعد النوم في ليالي الصيام بقوله: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} [البقرة: 187] بعد أن كان ذلك محرماً عليهم. (فصل) والأصل في وجوبها: قوله عز وجل: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} [البقرة: 43]. والأصل في بيان أوقاتها آيات وأخبار: أما الآيات: فقوله عز وجل: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون} [الروم: 17 - 18]. فسبحان الله: أي صلوا الله حين تمسون صلاة المغرب والعشاء، وحسن تصبحون صلاة الفجر، وعشياً صلاة العصر، وحين تظهرون صلاة الظهر. وقال عز وجل: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} [النساء: 103]. وقال تعالى: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل} [هود: 114]. وقال تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء: 78] أي عند غروبها، وقيل:

(فصل: في ذكر من صلى هذه الصلوات أولا قبل نبينا -صلى الله عليه وسلم-)

عند زوالها. وقال جلت عظمته: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى} [طه: 130]. قال قتادة رحمه الله: قبل طلوع الشمس: هي صلاة الفجر، وقبل غروبها: صلاة العصر، ومن آناء الليل: صلاة المغرب والعشاء، وأطراف النهار: صلاة الظهر. وأما الأخبار: فما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أمَّني جبريل عليه السلام عند البيت، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس، وكانت بقدر الشراك، ثم صلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم صلى بين المغرب حين أفطر الصائم، ثم صلى بي العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، ثم صلى بي الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم صلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم صلى بين المغرب حين أفطر الصائم، ثم صلى بي العشاء إلى ثلث الليل الأول، ثم صلى بي الفجر حين أسفر، ثم التفت إلي فقال: يا محمد هذا وقت الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين من قبلك، فيما بين هذين الوقتين". وهذا الخبر هو أصل المواقيت. وفي هذا الباب أحاديث وردت كلها ترجع إلى معناه فلم تذكرها. (فصل: في ذكر من صلى هذه الصلوات أولاً قبل نبينا -صلى الله عليه وسلم-) روي في بعض الأخبار "أن رجلاً من الأنصار سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن صلاة الفجر- من صلاها أولاً؟ فأخبره أن من صلاها أولاً آدم عليه السلام، والظهر صلاها إبراهيم عليه السلام حين نجاه الله تعالى من نار نمرود، والعصر صلاها يعقوب عليه السلام حين أخبره جبريل عليه السلام بسلامة يوسف عليهما السلام، والمغرب صلاها داود عليه السلام حين تاب الله عليه، وصلاة العتمة صلاها يونس ابن متى عليه السلام حين أخرجه الله من بطن الحوت كالفرخ الذي لا ريش له، فجاء جبريل عليه السلام فقال: إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول لك: إني مستح منك كيف عذبتك في دار الدنيا،

(فصل: في بيان وقت صلاة الفجر)

فهل أنت راضٍ عني؟ فقام فصلى أربع ركعات ثم قال: إني عن ربي راض، إني عن ربي راض". (فصل) وأول ما وجب من الصلوات على نبينا -صلى الله عليه وسلم- وأمر بفعلها، صلاة الفجر والمغرب، فكان -صلى الله عليه وسلم- يصلي ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، وهو قوله عز وجل: {وبسح بحمد ربك بالعشي والإبكار} [غافر: 55] إلى أن أسري به -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء ليلة المعراج، ففرض عليه خمس صلوات على ما بينا. وصلاة الفجر هي أول صلاة النهار ثم الظهر. وإنما بدأ العلماء في بيان صفة الصلوات بالظهر اتباعاً للسنة، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عباس رضي الله عنهما "أمَّني جبريل عند البيت فصلى بي الظهر ... " إلى آخر الحديث، فبدأ ببيان وقتها، فجعل أول المواقيت وقتها، لأنها فرضت أولاً. وقد بينا أن الفجر هي التي صلاها آدم عليه السلام، وهو أول نبي أرسل في الأرض من الإنس، فعلم أنها أول صلاة فرضت في الجملة. (فصل: في بيان وقت صلاة الفجر) فأول وقتها انصداع الفجر الثاني المعترض بالضياء في أقصى المشرق ذاهباً من القبلة إلى دبرها حتى يرتفع فيعم الأفق، وينتشر على رؤوس الجبال والقصور المشيدة، وآخر وقتها الإسفار النير الذي إذا سلم منها بدأ حاجب الشمس، وما بين هذين الوقتين وقت واسع. والمستحب أن تسمى هذه الصلاة صلاة الصبح أو الفجر ولا تسمى صلاة الغداة، لأن الله تعالى قال: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً} [الإسراء: 78] يعني صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، فتحصل في آخر صحيفة ملائكة الليل وأول صحيفة ملائكة النهار عليهم السلام. والأفضل التغليس بها، خلاف ما قال الإمام أبو حنيفة من أن الإسفار بها أفضل. وإنما قلنا ذلك لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان النساء يخرجن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلين الفجر معه، ثم يرجعن متلفعات بمروطهن لا يعرفن

(فصل) وأما الظهر

من الغلس". وعن إمامنا أحمد رحمه الله رواية أخرى: أن المعتبر بحال المأمومين، فإن أسفروا فالأفضل الإسفار لتكثير الجمع والثواب. وأما الفجر الأول فلا عبرة به، لأنه لا يحرم شيئاً ولا يوجد شيئاً لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الفجر فجران، فالذي تحل به الصلاة ويحرم فيه الأكل والشرب الذي ينتشر على رؤوس الجبال، وقال: هما فجران فالذي يسطع في السماء سطوعاً فليس بشيء ولا يحل ولا يحرم ولكن الذي ينتشر على رؤوس الجبال هو الذي يحرم. وقد وصف بعض العلماء بالله عز وجل الفجرين وحدهما بحدين فقال: الفجر الأول، وهو بدو سلطان شعاع الشمس إذا ظهرت من وراء الأرض الخامسة ليسطع ضوؤها في وسط السماء حتى يقطع بمقدار بقاء الفجر الأول، فذلك الضياء الذي يظهر في السماء في الثلث الأخير من الليل هو الفجر الأول، ثم يعود سواد الليل كما كان، لأن الشمس تغرب في الفلك الأسفل المتجانف، وتحجبها الأرض السادسة، فيذهب ذلك الضوء الذي ظهر في السماء. وأما الفجر الثاني، فهو انشقاق شفق الشمس وهو بدو بياضها الذي تحت الحمرة، وهو الشفق الثاني، وهو أول سلطانها من آخر الليل وبعده طلوع قرص الشمس، وذلك أن الشمس إذا ظهرت على وجه أرض الدنيا التي هي السابعة وانفجر شعاعها من الفلك الأسفل، وهو ذيل السماء سترت عينها الجبال والبحار والأقاليم العالية، وظهر شعاعها منتشراً إلى وسط السماء عرضاً مستطيراً. (فصل) وأما الظهر: فأول وقتها إذا زالت الشمس، وآخره إذا صار ظل كل شيء مثله، والأفضل تعجيلها إلا في شدة الحر، ومع الغيم في حق من أراد الخروج إلى الجماعة لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:

"أبردوا بالظهر، فإن شدة الحر من فيح جهنم". ولما روي عن بلال رضي الله عنه قال: "آذنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصلاة الظهر، فقال: أبرد، ثم أذنته ثانية فقال: أبرد، ثم آذنته ثالثة فقال: أبرد، حتى رأيت فيء التلول، ثم قال: إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا". وبيان معرفة الزوال أن الشمس إذا وقفت فهو قبل الزوال، فإذن زالت أقل القليل فذلك وقت الظهر. وجاء الحديث "أن الشمس إذا زالت بمقدار شراك فذاك وقت الظهر" فإذا صار ظل كل شيء مثله فهو آخر وقت الظهر وأول وقت العصر. فإذا أردت أن تعرف ذلك فقس الظل بأن تنصب عموداً، أو تقوم قائماً في موضع من الأرض مستوياً معتدلاً، ثم علم على منتهى الظل بأن تخط خطا، ثم انظر أينقص أو يزيد، فإن رأيته ينقص علمت أن الشمس لم تزل بعد، وإن رأيته قائماً لا يزيد ولا ينقص، فذلك قيامها وهو صف النهار لا تجوز الصلاة حينئذ، فإذا أخذ الظل في الزيادة فذلك زوال الشمس، فقس من حد الزيادة إلى طول ذلك الشيء الذي قست به طل الظل، فإذا بلغ إلى آخر طوله فهو آخر وقت الظهر، فإذا زاد شيئاً يسيراً فقد دخل وقت العصر حتى يزيد الظل طول ذلك الشيء مرة أخرى، فذلك آخر وقت العصر، ثم يبقى وقت الضرورة إلى قبل غروب الشمس. وكذلك تفعل بقيامك فتعلم على موضع ظللت، فإن نقص علمت أنه لم تزل الشمس، وإن وقف فهو حال القيام، وإن زاد فهو الزوال. وأما معرفتك المثل بقيامك وطولك، فإن طولك سبع أقدام بقدمك سوى قدمك التي تقوم عليها، فإنك تقوم مستقبل الشمس بوجهك، ثم تأمر إنساناً يعلم طرف ظلك بعلامة، ثم تقيس من عقبك إلى تلك العلامة، فإن كان بينهما أقل من سبعة أقدام سوى ما زالت الشمس عليه من الظل، فتعلم أنك في وقت الظهر، وأن وقت العصر لم يدخل بعد، فإذا زاد الظل على سبع أقدام علمت دخول وقت العصر.

(فصل: في معرفة الأقدام)

(فصل) وهذا الذي ذكرنا من الأقدام ونصب العمود، يختلف في الشتاء والصيف، فيزيد الظل وينقص، فالزيادة تكون في الشتاء، لأن الشمس تكون في مسامتة الشخص، لأنها تسير في ذيل السماء ولا ترتفع في الجو، ونقصانه يكون في الصيف لأن الشمس ترتفع إلى الجو فتشرف على الأشخاص، لأنها أول ما تصعد تكون من جانب السماء، فيمتد ظلها لمقابلة قرصها، فكلما صعدت قصر الظل إلى أن تنتهي في الارتفاع فتصير في كبد السماء، وهو حالة قيامها، فإذا أخذت في السيران وهو النزول نحو ما يلي مغربها، فيأخذ الظل في الطول وهو الزوال. وكذلك يختلف ذلك في البلدان، فما كان منها تحت وسط الفلك كمكة وما حواليها من البلدان قصر ظل الشمس فيه حتى لا يبقى للشخص ظل أصلاً، وما كان بعيداً عن وسط الفلك كخراسان وما والاها من النواحي فإن ظل الشمس يطول صيفاً وشتاء، فيكون صيفها كشتاء غيرها في طول الظل، فقد يزول في تلك البلاد على قدم واحد. (فصل: في معرفة الأقدام) اعلم أن أقل ما تزول عليه الشمس على ما ذكره القدماء من أهل هذا العلم في حزيران على قدمين، وأكثر ما تزول عليه في كانون على ثمانية أقدام، وتزول في أيلول على خمسة أقدام، وفي تشرين الأول على ستة أقدام، وفي تشرين الآخر على سبعة أقدام، وفي كانون الأول على ثمانية أقدام، وذلك منتهى قصر النهار، وطول الليل، وهو أكثر ما تزول عليه الشمس، ثم ينقص الظل ويزيد النهار، فتزول الشمس في كانون الآخر على سبعة أقدام، وتزول في شباط على ستة أقدام، وتزول في آذار على خمسة أقدام، وذلك استواء الليل والنهار، وتزول في نيسان على أربعة أقدام، وفي أيار على ثلاثة أقدام، وفي حزيران على قدمين، فذلك منتهى طول النهار وقصر الليل، وهو أقل ما تزول الشمس عليه، فيكون النهار خمس عشرة ساعة، والليل تسع ساعات، وتزول في تموز على ثلاثة أقدام، وفي آب على أربعة أقدام، وفي أيلول على خمسة أقدام، وفيه يستوي الليل والنهار. وروي عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال: "أكثر ما تزول عليه الشمس سبعة أقدام، وأقل ما تزول عليه قدم واحدة". وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كانت صلاتنا الظهر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

(فصل) وذكر بعضهم صفة أخرى

في الصيف على ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام، وفي الشتاء على خمسة أقدام إلى ستة أقدام. (فصل) وذكر بعضهم صفة أخرى: فقال: تزول الشمس في تسعة عشر يوماً من آذار وظل الإنسان ثلاثة أقدام، وكذلك كل شيء تنصبه، فإن الشمس تزول يومئذ وظل ذلك الشيء ثلاثة أسباعه، ثم ينقص الظل قدماً حتى ينتهي طول النهار وقصر الليل في تسعة عشر من حزيران، فتزول الشمس يومئذ، وظل الإنسان نصف قدم وذلك أقل ما تزول عليه الشمس، ثم يزيد الظل، فكلما مضت ستة وثلاثون يوماً، زاد الظل قدماً حتى يستوي الليل والنهار في تسعة عشر ويماً من أيلول، فنزول الشمس يومئذ والظل على ثلاثة أقدام، ثم يزيد الظل، فكلما مضى أربعة عشر يوماً، زاد الظل قدماً حتى ينتهي طول الليل وقصر النهار، وذلك في تسعة عشر يوماً من كانون الأول، فنزول الشمس يومئذ على سبعة أقدام ونصف قدم، وذلك أكثر ما تزول الشمس عليه، ثم كلما مضى أربعة عشر يوماً زاد الظل قدماً، حتى ينتهي إلى تسعة عشر يوماً من آذار، فذلك استواء اليل والنهار، وتزول الشمس على ثلاثة أقدام، وذلك دخول الصيف وزيادة الظل ونقصانه الذي ذكرناه في كل ستة وثلاثين يوماً قدم في الصيف والقيظ، وزيادة في كل أ {بعة عشر يوماً قدم في الربيع والشتاء. (فصل) وقد ذكر بعض شيوخنا لذلك صفة أخرى: وهو أن قال: تزول الشمس في حزيران كله على ثلاثة أقدام، والقدم سبع كل شخص منتصب، وأول وقت العصر فيه تسعة أقدام ونصف، وأول وقت الظهر في تموز كله أربعة أقدام، وأول وقت العصر فيه عشرة أقدام ونصف، وأول وقت الظهر في آب كله خمسة أقدام، وأول وقت العصر فيه أحد عشر قدماً ونصف، وأول وقت الظهر في أيلول كله ستة أقدام، وأول وقت العصر فيه اثنا عشر قدماً ونصف، وأول وقت الظهر في تشرين الأول كله سبعة أقدام، وأول وقت العصر فيه ثلاثة عشر قدماً ونصف، وأول وقت الظهر في تشرين الآخر كله ثمانية أقدام، وأول وقت العصر فهي أربعة عشر قدماً ونصف، وأول وقت الظهر في كانون الأول كله عشرة أقدام ونصف، وأول وقت العصر فيه سبعة عشر قدماً سواء، وأول وقت الظهر في كانون الثاني كله تسعة أقدام،

(فصل) ومعرفة الزوال على هذه الصفات والتحديد ليس هو بأمر حتم

وأول وقت العصر فيه خمسة عشر قدماً، وأول وقت الظهر في شباط كله سبعة أقدام ونصف، وأول وقت العرص فيه أربعة عشر قدماً ونصف، وأول وقت الظهر في آذار كله ستة أقدام، وأول وقت العصر فيه اثنا عشر قدماً ونصف، وأول وقت الظهر في نيسان كله أربعة أقدام ونصف، وأول وقت العصر فيه أحد عشر قدماً، وأول وقت الظهر في أيار كله ثلاثة أقدام ونصف، وأول وقت العصر فيه عشرة أقدام، فهذه مقادير ما تزول عليه الشمس في شهور السنة كلها، والله أعلم بما لا تدركه إحساسنا، ولا تنتهي نحو علومنا. (فصل) ومعرفة الزوال على هذه الصفات والتحديد ليس هو بأمر حتم. بل هي جهة من جهات الوصول إلى معرفة الزوال. وليس كل أحد يدرك ذلك، بل كل من غلب على ظنه ويقينه زوال الشمس وجب عليه فعل صلاة الظهر. وذلك أن الناس في الأوقات على ثلاثة أضرب: - من فرضه اليقين، وهو من يعرف الدقائق والساعات وسير الكواكب، يستدل بذلك ليحصل له يقين الوقت. - ومن فرضه الاجتهاد والتقدير بالعمل أو تقليد من يعمل، وهم الصناع الجهال بالأوقات، فإن اجتهدوا فقدروا بأعمالهم، مثل الخباز عادته أن يخبز العجنتين أو ثلاثة إلى الظهر، أو الطحان يطحن القفيز إلى الظهر، استظهر بالتأخير وصلى، لأن في يوم الغيم كان الوقت يقصر بغيبة الشمس فيغفل الإنسان عن مراعاة الوقت أو يتشاغل عنه، فإن سمع الأذان من عارف بالأوقات بنى على أذانه وصلى إذا علم أنه عارف بالأوقات أو أنه لا يؤذن إلا بإذن عارف للوقت. والثالث: من فرضه التحري والتأخير بجهده إلى أن يغلب على ظنه دخول الوقت، وهو المطمور والمحبوس في الأمكنة التي لا يتوصل إلى معرفة الوقت بدلالة ولا خبر ولا سماع ولا أذان لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". (فصل) ومعرفة الزوال على التحقيق أمر يدق ويصعب. وقد ورد في الحديث "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل جبريل عليه السلام. أزالت الشمس؟

(فصل) فإذا عرفت الزوال وأردت أن تعرف القبلة فاجعل ظلك على يسارك

فقال: لا، نعم، فقال: كيف هذا؟ فقال: من قولي لك: لا، نعم، قطعت الشمس من الفلك خمسين ألف فرسخ، فكأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأله عن زوالها على علم الله تعالى. لكنك إذا استقبلت القبلة فكانت الشمس على حاجبك الأيمن في الصيف فقد زالت الشمس بلا شك، فصل الظهر، فإذا صار ظل كل شيء مثله فهو وقت العصر، فإذا كانت الشمس على حاجبك الأيسر في الصيف أيضاً وأنت مستقبل القبلة، فاعلم أنها لم تزل بعد، فإذا كانت بين عينيك فهو قيامها واستواؤها في كبد السماء، وقد يجوز أنها قد زالت إذا كانت في أول الشتاء وقصر النهار. وأما إذا كانت في أول الشتاء على حاجبك الأيمن فتكون قد زالت في جميع الأزمنة، لأنه إذا كان ذلك في الصيف فهو أول وقت الظهر، وإن كان في الشتاء فهو آخر وقت الظهر، وإذا كانت على حاجبك الأيسر في الشتاء فقد يجوز أنها قد زالت لقصر النهار في أول الشتاء، ولا يجوز في أول الصيف لامتداد النهار وطوله، وإذا كانت بين عينيك في الشتاء فقد زالت بلا شك، فإذا صارت إلى حاجبك الأيمن فهو آخر وقت الظهر، وهذا لأهل إقليم العراق وخراسان الذين يصلون إلى الركن الأسود وباب البيت من جهة الكعبة، وأما أهل اليمن والمغرب ومن يليهم، فعلى ضد ذلك، لأنهم يصلون إلى الركن اليماني ومؤخر الكعبة، فلذلك اختلف التقدير. (فصل) فإذا عرفت الزوال وأردت أن تعرف القبلة فاجعل ظلك على يسارك، فإنك تكون حينئذ مستقبل القبلة فاعلم ذلك مختصراً بلا تعب. وإنما طولت في ذكر معرفة الزوال لأنه أشكل الأوقات وأدقها، وقد ورد ذكر الأقدام في خبر ابن مسعود رضي الله عنه، والتنبيه على معرفة ذلك على ما تقدم بيانه والله أعلم. (فصل) وأما وقت العصر، فأوله على ما ذكرنا أدنى زيادة على المثل، وآخر وقتها إذا صار الظل مثليه، ووقت الضرورة إلى قبل أن تغيب الشمس، وقد تقدم ذكره والأفضل تعجيلها. (فصل) وأما صلاة المغرب فإذا غربت الشمس، وهو إذا تدلى حاجب الشمس الأعلى، وهو غيبتها عن الأبصار دخل وقتها، ولها وقتان: أحدهما الغروب، والثاني

(فصل) فإذا غاب الشفق دخل وقت العشاء الآخرة

غيبوبة شفق الشمس وهو الحمرة في أصح الروايتين. (فصل) فإذا غاب الشفق دخل وقت العشاء الآخرة، ووقت الفضيلة مبقى إلى ثلث الليل في إحدى الروايتين، والثانية إلى نصف الليل، ووقت العذر والضرورة ما لم يطلع الفجر الثاني. ولها اسمان. أحدهما عتمة، والثانية العشاء الآخرة، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "؟؟؟؟؟؟ الأعراب على اسم صلاتكم هذه فسموها عتمة" يعني أن اسمها العشاء الآخرة، والأعراف يسمونها عتمة، فوافقوهم في ذلك، والأفضل تأخيره إلى آخر وقتها، وهو الثلث الأول أو النصف الأول على ما ذكرنا، وأفضل ما صليت إذا غاب البياض الغربي وأظلم مكانه، وهو الشفق الثاني، فيؤخر إلى ربع الليل أو الثلث أو النصف، كل ذلك ما لم ينم المصلي قبل أن يصليها، فإنه يكره النوم عنها، فمن خاف غلبة النوم، فالأفضل أن يصليها ثم ينام، ولهذا الأفضل عند الشافعي رحمه الله أن يصلي في أول الوقت. وإنما قلنا الأفضل تأخيرها لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعتموا بالعتمة". وخرج -صلى الله عليه وسلم- ليلة وقد أعتم فقال: "لولا أن أشق على أمتي أمرتهم أن يصلوها" هكذا فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أخرها وحث على تأخيرها. (فصل) وأما السنن الراتبة مع هذه الصلوات الخمس فثلاث عشرة ركعة: ركعتان قبل صلاة الفجر، وركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء الأخرة، ويوتر بثلاث، وهو مخير إن شاء صلاها بتسليمه واحدة كصلاة المغرب، وإن شاء فصل بينها، فيسلم عن كل ركعتين، ويوتر بالآخرة، وهو الأفضل، فيقرأ في الأولى من الثلاث بعد الفاتحة {سبح اسم ربك الأعلى ...}، وفي الثانية بـ {قل يا أيها الكافرون ...}، وفي الثالثة بعد الفاتحة بـ {قل هو الله أحد ...}، ويقرأ في أول الركعتين من سنة الفجر بـ {قل يا أيها الكافرون ...}، وفي الثانية بـ {قل هو الله أحد ...}، ويستحب فعلها في منزله، ثم يخرج، ويستحب

الاشتغال بذكر الله تعالى وترك الكلام إلا أن يكون واجباً بعد أن يصليها حتى يدخل في الفريضة، والقراءة في الركعتين بعد المغرب كالقراءة في ركعتي الفجر، روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر من عشرين مرة يقرأ في الركعتين بعد المغرب: {قل يا أيها الكافرون ...}، و {قل هو الله أحد ...} ". وروي عن طاوس رحمه الله أنه كان يقرأ في الأولى منهما: {آمن الرسول ...}، وفي الثانية: {قل هو الله أحد ...}. ويستحب تعجيلها لما روي حذيفة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "عجلوا بالركعتين بعد المغرب ليرفعا مع المكتوبة" فيستحب تخفيفها لذلك. وفي حديث آخر قال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى ركعتين بعد المغرب قبل أن يتكلم رفعت صلاته في عليين". وقد جاء ما يدل على استحباب تطويلهما، وهو ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب حتى يتفرق أهل المسجد". وروي كذلك عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: "أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصليت معه صلاة المغرب، ثم قام فصلى إلى العشاء الآخرة، ثم انتقل إلى منزله". وقد ورد أيضاً أن الاستحباب في فعلها في المنزل، وهو ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي الركعتين اللتين بعد المغرب في بيتها". وكذلك عن أم حبيبة رضي الله عنها. وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يصلي ركعتين بعد المغرب إلى في بيته".

(فصل: في فضائل الصلوات الخمس)

وروى سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: "لقد أدركت زمان عثمان بن عفان رضي الله عنه وإنه ليسلم من المغرب، وما أرى رجلاً واحداً يصليهما يعني الركعتين في المسجد، بل كانوا يبتدرون باب المسجد فيخرجون فيصلونها في بيوتهم". * * * (فصل: في فضائل الصلوات الخمس) روي عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل كل يوم منه خمس مرات هل يبقى من دونه شيء؟ قالوا: لا، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله تعالى بها الخطايا". وعن أبي ثعلبة القرظي قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يحترقون فإذا صلوا الصبح غسلت الصلاة ما كان قبلها، ثم يحترقون فإذا صلوا الظهر غسلت الصلاة ما كان قبلها، فإذا حضرت صلاة العصر غسلت ما كان قبلها، حتى ذكر -صلى الله عليه وسلم- الصلوات الخمس". وعن الحرث مولى عثمان بن عفان رحمه الله قال: "جلس عثمان بن عفان رضي الله عنه ثم دعا بماء فتوضأ، ثم قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توضأ وضوئي هذا، ثم قال: فمن توضأ وضوئي هذا ثم قام فصلى الظهر غفر له ما بينها وبين صلاة الصبح، ثم قام فصلى صلاة العصر غفر له ما بينها وبين صلاة الظهر، ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين صلاة العصر، ثم صلى العشاء الآخرة غفر له ما بينها وبين صلاة المغرب، ثم لعله يبيت يتمرغ ليله، ثم إذا قام فصلى الصبح غفر له ما بينها وبين العشاء الآخرة، فإن الحسنات يذهبن السيئات، قالوا: هذه الحسنات، فما الباقيات الصالحات؟ قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".

وعن جعفر بن محمد، عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الصلاة مرضاة الرب، وحب الملائكة، وسنة الأنبياء صلوات الله عليهم، ونور المعرفة، وأصل الإيمان، وإجابة الدعاء، وقبول الأعمال، وبركة في الرزق، وراحة الأبدان، وسلاح على الأعداء، وكراهية الشيطان، وشفيع بن صاحبها وبين مالك السموات، وسراج في قبره، وفراش تحت جنبه، وجواب منكر ونكير، ومؤنس زائر معه في قبره إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة كانت الصلاة ظلاً فوقه، وتاجاً على رأسه، ولباساً على بدنه، ونوراً يسعى بين يديه، وستراً بينه وبين النار، وحجة المؤمنين بين يدي الرب عز وجل، وثقلاً في الميزان، وجوازاً على الصراط، ومفتاحاً للجنة، لأن الصلاة تسبيح وتحميد وتقديس وتعظيم وقراءة ودعاء، وإن أفضل الأعمال كلها الصلاة لوقتها". وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الصلوات الخمس عماد الدين، لا يقبل الله الإيمان إلا بالصلاة". وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله كم افترض الله عز وجل على عباده من الصلوات؟ قال: خمس صلوات، قال: فهل قبلهن أو بعدهن شيء؟ قال: افترض الله عباده صلوات خمساً ليس قبلهن أو بعدهن شيء، فحلف الشل بالله لا يزيد عليهن ولا ينقص منه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن صدق دخل الجنة". وعن تميم الداري رضي الله عنه: قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن هو أكملها كتبت له كاملة، وإن لم يكن أكملها قال الله عز وجل للملائكة: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فأكملوا له ما ضيع من ذلك". وعن أنس بن حكيم الضبي قال: لي أبو هريرة رضي الله عنه: إذا أتيت أهلك فأخبرهم أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أول ما يحسب به العبد يوم القيامة صلاته المكتوبة، فإن أتمها وإلا نظر فإن كان له تطور أكملت الفريضة بها، ثم يفعل

(فصل: في الخروج إلى المسجد، وفضل الجماعة والخشوع في الصلاة)

بسائر الأعمال كذلك". وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أول ما يحاسب به العبد الصلاة، وأول ما افترض الله تعالى على هذه الأمة الصلاة". * * * (فصل: في الخروج إلى المسجد، وفضل الجماعة والخشوع في الصلاة) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا توضأ العبد ثم خرج إلى المسجد كتب الله عز وجل بكل خطوة حسنة، ومحا عنه سيئة، ورفع له درجة، ويستبشر الله تعالى به كما يستشر بالغائب الطوير غيبة إذا قدم على أهله". وعن ابن عثمان النهدي عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله عز وجل: من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم زارني في بيت من بيوتي فإياي زار وحق على المزور أن يكرم الزائر". وعن سالم بن عبد الله عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "جاء جبريل إلى النبي عليهما السلام فقال: بشر المشائين في ظلم الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة". وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من مشى في ظلم الليل إلى المساجد أتاه الله تعالى نوراً يوم القيامة". وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "صلاة

الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة". وعن نافع عن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما بين صلاة الجماعة والفذ سبع وعشرون درجة". وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا عثمان بن مظعون من صلى الصبح في جماعة كانت له حجة مبرورة وعمرة متقبلة، يا عثمان من صلى الظهر في جماعة كان له خمس وعشرون صلاة كلها مثلها وسبعون درجة في جنة الفردوس، يا عثمان من صلى العصر في جماعة ثم ذكر الله تعالى حتى تغرب الشمس فكأنما أعتق نسمة من ولد إسماعيل، مع كل رجل منها اثنا عشر ألفاً، يا عثمان من صلى المغرب في جماعة كانت له خمس وعشرون صلاة كلها مثلها، وسبعون درجة في جنة عدن، يا عثمان من صلى العشاء الآخرة في جماعة فكأنما قام ليلة القدر. ويستحب للرجل إذا أقبل إلى المسجد أن يقبل بخوف ووجل وخشوع وخضوع، وأن تكون عليه السكينة والوقار، وأن يحدث لنفسه فكراً وأدباً غير ما كان عليه، وفيه قبل ذلك من حالات الدنيا وأشغالها، وليخرج برغبة ورهبة وذل وتواضع وانكسار من غير عجب وتكبر وافتخار ورؤية الناس والخلق، وينوي بذلك التوجه إلى الله عز وجل إلى بيت من بيوته التي {أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} [النور: 36 - 37] فما أدرك من الصلاة صلى مع الجماعة، وما فاته قضى، كذا جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا جاء أحدكم وقد أقيمت الصلاة فليمش على هينته، فليصل ما أدرك وليقض ما سبقه"، وفي لفظ آخر "فليمش وعليه السكينة والوقار". فليحذر العجب في المواظبة على العبادات والمداومة عليها، لأن ذلك يسقطه من عين الله عز وجل، ويبعده من قربه، ويعمى عليه حالته، ويزيل نور بصيرته وحلاوة ما كان يجده من قبل في عبادته، ويكدر صفاء معرفته، وربما رد عليه عمله وقصم، ولأنه روي أنه تبارك وتعالى لا يتقبل من المتكبرين عملاً حتى يتوبوا.

وقد جاء في الحديث: إن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام أحيا ليلة، فلما أصبح أعجب بقيام ليله فقال: نعم الرب رب إبراهيم، ونعم العبد إبراهيم فلما كان غداؤه لم يجد أحد يأكله معه، وكان -صلى الله عليه وسلم- يحب أن يأكل معه غيره، فأخرج طعامه إلى الطريق ليمر به مار فيأكل معه، فنزل ملكان من السماء فأقبلا نحوه فدعاهما إبراهيم عليه السلام إلى الغداء، فأجاباه، فقال لهما: تقدما بنا إلى هذه الروضة، فإن فيها عيناً وفيها ماء فنتعدى عندها، فتقدموا إلى الروضة، فإذا العين قد غارت وليس فيها ماء، فاشتبه ذلك على إبراهيم عليه السلام واستحيا مما قال، إذ لم ير عين ماء، فقالا له: يا إبراهيم فادع ربك واسأله أن يعيد الماء في العين، فدعا الله عز وجل فلم ير شيئاً فاشتد ذلك عليه، فقال لهما: ادعوا الله، فدعا أحدهما فرجع الماء في العين، ثم دعا الآخر فأقبلت العين، فأخبراه أنهما ملكان، وأن إعجابه بقيام ليله رد دعاءه عليه فلم يستجب له. فإذا كان هذا فعله عز وجل بخليله إبراهيم عليه السلام، فكيف فعله بغيره؟ بل يعتقد العبد أن جميع ما هو فيه من الطاعة والمسارعة إليها توفيق من الله ونعمة وفضل ورحمة ومنة، فليقم بين يديه عز وجل محترماً خاضعاً ذليلاً، كأنه يشاهده، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وقد ورد في الحديث "أن الله عز وجل أوحى إلى عيسى ابن مريم عليهما السلام إذا قمت بين يدي فقم مقام الخائف الذليل الذام لنفسه فإنها أولى بالذم، وإذا دعوتني فادعني وأعضاؤك تنتفض" وكذلك روى أن الله تعالى أوحى مثل ذلك إلى موسى عليه السلام. وروي أن ابن سيرين رحمه الله كان إذا قام إلى الصلاة ذهب دمه وجهه خوفاً من الله عز وجل وفرقاً منه. وكان مسلم بن يسار رحمه الله إذا دخل في الصلاة لم يسمع حساً من صوت ولا غيره، اشتغالاً بالصلاة وخوفاً من الله عز وجل. وقال عامر بن عبد قيس: لأن تختلف الخناجر بين كتفي أحب إلي من أن أتفكر في شيء من أمر الدنيا، وأن في الصلاة. وقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: ما صليت صلاة قط فحدثت نفسي فيها بشيء

من أمر الدنيا حتى انصرفت. وقال مجاهد رحمه الله: كان ابن الزبير رضي الله عنهما إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع. وكان وهب بن الورد رحمه الله إذا قام يصلي كأنما يطلع في جهنم. وكان عتبة الغلام رحمه الله إذا قام في الصلاة في الشتاء ينصب العرق منه، فسألوه في ذلك، فقال: حياء من الله عز وجل. وكان مسلم بن يسار رحمه الله يصلي فوقع الحريق في داره وهو في بيت منها، ففزع أهل البصرة حتى خرجوا فأطفأوه، فما عقل مسلم إلا بعد ما أطفأوها. وقيل: إنه أيضاً كان يصلي في الجامع، فسقطت سارية إلى جنبه ففزع منها أهل اسوق وهو لم يعقل بها. وعن عمار بن الزبير رحمه الله: أنه كان يصلي ونعله بين يديه، وكان شسع نعله جديداً فالتفت في صلاته إلى الشسع، فلما فرغ من صلاته رمى بنعله ولم يلبس بعد ذلك نعلاً حتى مات رحمه الله. وحكى عن الربيع بن خيثم رحمه الله أنه كان يصلي تطوعاً وبين يديه فرس له يساوي عشرين ألف درهم، فجاء لص فحله وذهب به، فجاء الناس من الغداة يعزونه، فقال: أما إني كنت أرى من يحله، ولكن كنت في شيء أحب إلي منه، فلما كان في بعض النهار فإذا الفرس قد أقبل حتى قام بين يديه. وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنه صلى في شملة سوداء فيها خيط أحمر فلما سلم قال: إن هذا الخيط ألهاني عن صلاتي". وقد وصف الله تعالى الخاشعين في الصلاة في قوله تعالى: {الذي هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون: 2]. قال الزهري رحمه الله: هو سكون المرء في صلاته، وقيل: هو الذي لا يعلم من عن يمينه وشماله في الصلاة لاشتغاله بالصلاة، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الصلاة شغلاً".

(فصل: في المحافظة عليها وما ورد من العقوبة على من ضيعها)

(فصل: في المحافظة عليها وما ورد من العقوبة على من ضيعها) روى الأعمش عن شقيق بن سلمة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا صلى العبد في أول الوقت صعدت إلى السماء، ولا نور حتى تنتهي إلى العرش، تستغفر لصاحبها إلى يوم القيامة وتقول: حفظك الله كما حفظني، وإذا صلى العبد في غير وقتها صعدت إلى السماء لا نور لها، فتنتهي إلى السماء فتلف كما يلف الثوب الخلق، فيضرب بها وجهه ثم تقول: ضيعك الله كما ضيعتني". وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من توضأ فأبلغ الوضوء، ثم قام إلى الصلاة فأتم ركوعها وسجودها والقراءة فيها قالت الصلاة: حفظك الله كما حفظتني، ثم صعد بها إلى السماء ولها ضوء ونور، فتفتح لها أبواب السماء حتى تنتهي إلى الله عز وجل، فتشفع لصاحبها، وإذا ضيع ركوعها وسجودها والقراءة فيها: قالت الصلاة: ضيعك الله كما ضيعتني، ثم صعد بها ولها ظلمة حتى تنتهي إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها". وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلوات لوقتها، وبر الوالدين، والجهاد في سبيل الله عز وجل". وعن إبراهيم بن أبي محذورة المؤذن عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أول الوقت رضوان الله، وأوسط الوقت رحمة الله، وآخر الوقت عفو الله". وقال الله تعالى: {فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون} [الماعون: 4 - 5]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "والله ما تركوها ولكن أخروها عن أوقاتها". وقال سعد رضي الله عنه: "سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قوله عز وجل: {الذين هم عن صلاتهم ساهون} قال -صلى الله عليه وسلم-: هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها".

وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما في قوله تعالى: {أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً} [مريم: 59] قال: هو واد في جهنم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يدخله إلى من أشاع أوقات صلاته. وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: "من حافظ عليها كانت نوراً له وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة من النار، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بي خلف". وعن الحرث عن أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من تهاون بصلاته فإن الله عز وجل يعاقبه بخمس عشرة عقوبة: ست منها قبل الموت، وثلاث عند الموت، وثلاث في القبر، وثلاث عند خروجه من القبر. فأما الست التي قبل الموت فأولها: أنه يرفع عنه اسم الصالحين، والثانية ترفع عنه بركة الحياة، والثالثة ترفع عنه بركة الرزق، والرابعة لا يقبل منه شيء من أعمال الخير حتى يكمل صلاته، والخامسة لا يستجاب دعاؤه، والسادسة لا يجعل له في دعاء الصالحين نصيباً. وأما الثلاث التي عند الموت، فأولها: يموت عطشاناً ولو صبت في حلقة سبعة أبحر ما روى، والثانية أنه يموت بغتة، والثالثة كأنه قد أثقل بحديد الدنيا وخشبها وأحجارها عرى رقبته وكتفه. وأما الثلاث التي في القبر: فيضيق عليه قبره، والثانية يظلم عليه القبر، والثالثة يصير عيياً بالقول. وأما الثلاث التي عند خروجه من القبر فأولها: يلقي الله عز وجل وهو عليه غضبان، والثانية يكون حسابه شديداً، والثالثة رجوعه من بين يدي الله عز وجل إلى النار إلا أن يعفو الله عنه". * * *

(فصل) الصلاة خطرها عظيم، وأمرها جسيم

(فصل) الصلاة خطرها عظيم، وأمرها جسيم، وبالصلاة أمر الله تبارك وتعالى رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- وأول ما أوحى الله بالنبوة، ثم بالصلاة قبل كل عمل، وقبل كل فريضة في آيات كثيرة: منها قوله تعالى: {اتل ما أوحي أليك من الكتاب وأقم الصلاة} [العنكبوت: 45]. وقال عز وجل: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]. وقال جل وعلا: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك} [طه: 132]. وخاطب جميع المؤمنين فأمرهم بالاستعانة على طاعاته كلها، بالصبر والصلاة، فقال: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} [البقرة: 153] {وسلاماً على إبراهيم ...} [الأنبياء: 69] إلى قوله: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة ...} [الأنبياء: 72] إلى قوله: {وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} [الأنبياء: 73] فذكر الخيرات كلها جملة وهي جميع الطاعات مع اجتناب جميع المعاصي، فأفرد الصلاة بالذكر وأوصاهم بها خاصة. وبالصلاة أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته عند خروجه من الدنيا، فقال: "الله الله الله في الصلاة وفيما ملكت أيمانكم" فهي آخر وصيته -صلى الله عليه وسلم-. وجاء في الحديث "أنها آخر وصية كل نبي لأمته، وآخر عهده إليهم عند خروجه من الدنيا". فالصلاة أول فريضة فرضت عليه -صلى الله عليه وسلم- وعلى أمته، وهي آخر ما أوصى به أمته وآخر ما يذهب من الإسلام، وأول ما يسأل العبد عنه من عمله يوم القيامة، وهي عمود الإسلام وليس بعد ذهابها دين ولا إسلام. وجاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون منه الصلاة، وليصلين أقوام لا خلاق لهم". فتارك الصلاة يكفر عند إمامنا أحمد رحمه الله إذا تركها جاحداً لوجوبها ووجب

قتله لا خلاف في مذهبه، وأما إن تركها تهاوناً وكسلاً مع اعتقاد وجوبها ودعى ليفعلها، فإن لم يفعلها حتى تضايق الوقت الذي يليها كفر وقتل بالسيف لكفره، وبعد أن ستتاب ثلاثة أيام كالمرتد في الحالتين، ويكون ماله فيئاً يوضع في بيت مال المسلمين، ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وعنه: لا يجب قتله في التهاون حتى يترك ثلاث صلوات ويتضايق وقت الرابعة، ويقتل حداً كالزاني المحصن، وحكمه حكم أموات المسلمين يرث ماله ورثته من المسلمين. وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: لا يقتل ولكن يحبس حتى يصلي فيتوب أو يموت في الحبس. وقال الإمام الشافعي رحمه الله: يقتل بالسيف حداً ولا يكفر، والدليل على كفره ما ذكرنا فيما تقدم من الآيات والأخبار. ونزيد عليها بما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما بين الرجل وبين الكفر والشرك إلا ترك الصلاة". وروي عن عبد الله بن زيد عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بيننا وبينهم ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر". وروي عن جعفر بن محمد بن أبيه رضي الله عنه قال: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبصر رجلاً ينقر كما ينقر الغراب، فقال: لو مات هذا مات على غير دين محمد -صلى الله عليه وسلم-". وعن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا ترك الرجل صلاته متعمداً كتب اسمه على باب النار فيمن يدخلها". وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الا من نام عن صلاته العتمة ولم يصلها تقول الملائكة: لا نامت عيناك ولا قرتا، حبسك الله بين الجنة والنار كما حبستنا".

فصل مكروهات الصلاة

(فصل) مروي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: كان العلماء من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولون: خمس وأربعون خصلة مكروهة منهي عنها في صلاة الفريضة. وهي: التنحنح عمداً، والتشاغل عمداً، والتعاطي عمداً، وإقناع الرأس إلى السماء، لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنه كان يقلب بصره إلى السماء فنزلت {الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون: 2] فطأطأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه، فكانوا يستحبون للرجل أن لا يجاوز ببصره مصلاه". ومنها إلصاق الحنك بالصدر، وفلى الثوب، والتمطي، وتنفس الصعداء، وتعميص العينين، والالتفات في الصلاة لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه في قوله تعالى: {الذين هم على صلاتهم دائمون} [المعارج: 23] قال: إذا صلوا لم يلتفتوا يميناً ولا شمالاً". وقالت عائشة رضي الله عنها: "سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن التفات الرجل في صلاته، فقال: إنما هي اختلاسة يختلسها من صلاة العبد". وقيل: جاء طلحة، يعني ابن مصروف إلى عبد الجبار بن وائل وهو في القوم، فساره ثم انصرف، فقال عبد الجبار: أتدرون ما قال؟ قال: رأيتك أمس التفت وأنت تصلي، وقد جاء في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن العبد إذا افتتح الصلاة استقبله الله بوجهه، فلا يصرفه حتى يكون العبد هو الذي نصرف أو يلتفت يميناً وشمالاً". وفي حديث آخر "إن العبد ما دام في صلاته فله ثلاث خصال: البر يتناثر عليه من عنان السماء إلى مفرق رأسه، وملائكة يحفون من لدن قدمه إلى عنان السماء، ومناد ينادي: لو يعلم المصلي من يناجي ما انفتل ... " أي التفت وانصرف، والالتفات مكروه جداً، وقد قيل: إنه يقطع الصلاة، وفيه استخفاف بحرمة الصلاة وآدابها. ومن ذلك الإقعاء في القعود فيها، والرد على الإمام، وافتراش الذراعين في السجود، ووضع الصدر على الفخذين في السجود، وضم الإبطين إلى الجنبين في السجود، بل يفرق بينهما ولا يلصقان، لأن مروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنه كان إذا سجد لو

مرت بهيمة تحت ذراعيه لنفذت" وذلك لشدة مبالغته في رفع مرفقيه عن ضبعيه. وفي حديث آخر "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سجد يجافي بين ضبعيه". ومن ذلك تفريق الأصابع في السجود، بل يضمها، ووضع اليدين دون الركبتين في الركوع، ووضع القدمين إحداهما على الأخرى، وتعليقهما من الأرض، والسدل على الإزار والسراويل، والتخليل والتلمظ، واستراط الطعام الحبة والحبتين، والقلس أن يردد ويبلع، والنفث باللسان والنفخ في السجود، والمشي عرضاً ورفع الصوت على جليسك في التشهد، ومعرفتك من عن يمينك ومن عن شمالك، والإيماء، والإشارة، وبلع الجشاء، أو ما يخرج من الحلق، والاستعال، والتمخط، والتبزق، والنظر في الثياب، ومسح التراب عن الجبهة قبل أن ينصرف وتسوية الحصى أكثر من مرة واحدة، ونفض موضع السجود، والدعاء بعد التشهد إذا كنت إماماً، والقعود في المحراب بعد التسليم حتى ينحرف من مكانه إلى يساره، والعقد باليد بالأصابع في الصلاة، والعبث باللحية والثوب فيها، لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا ينظر الله إلى صلاة لا يحضر الرجل فيها قلبه مع بدنه". وأبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يعبث بلحية في الصلاة فقال: "لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه". ونظر الحسن رحمه الله إلى رجل يعبث بالحصى وهو يقول: اللهم زوجني من الحور العين، فقال: بئس الخاطب أن تخطب وأنت تعبث. وقال عبد الرحمن بن عبد الله عن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: "لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء أو لا ترجع إليهم أبصارهم" يعني في الصلاة. وقال الأوزاعي رحمه الله: يكون الرجلان في الصلاة وبين أحدهما وبين الآخر كما بين السماء والأرض، هذا مقبل على الله تعالى بقلبه، وهذا لاه وساه".

(فصل) وينبغي لكل مصل أن يقدم النية لصلاته

وقد صح الخبر عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "للمصلي من له من صلاته نصفها، فذكر إلى عشرها" يعني بذلك ما عقل منها وحضر قلبه فيها. وفي حديث آخر أنه قال -صلى الله عليه وسلم-: "لمصل أربعمائة صلاة، ولمصل مائتا صلاة، ولمصل مائة وخمسون صلاة، ولمصل سبعون صلاة، وصلاة بخمسين صلاة، وصلاة بسبع وعشرين صلاة، وصلاة بعشر صلوات، وصلاة بصلاة واحدة". فالذي يكتب له أربعمائة صلاة فهو الذي يصلي بمكة في البيت الحرام مع الإمام في الجماعة بعد ألا تفوته التكبيرة الأولى. والذي يكتب له مائتا صلاة فهو الإمام الذي يؤم الناس بعد أن يعرف أحكام الصلاة. والذي يكتب له مائة وخمسون صلاة فهو المؤذن. والذي له سبعون صلاة فهو الذي يستاك ويسبغ وضوءه ويصلي في الجامع في الجماعة. والذي يكتب له خمسون صلاة فهو الرجل الذي يصلي في الجامع مع الإمام في الجماعة، ويكون قد فاتته تكبيرة الإحرام. والذي يكتب له سبع وعشرون صلاة فهو الرجل الذي يسبغ وضوءه ويصلي في المسجد في الجماعة ولا تفوته تكبيرة الإحرام. والذي يكتب له عشر صوات فهو الرجل الذي يلحق الجماعة وقد فاتته تكبيرة الإحرام. والذي يكتب له صلاة واحدة فهو الذي يصلي وحده في غير جماعة. والذي لا صلاة له هو الذي يصلي وينقر كنقر الديك ولا يتم ركوعها وسجودها، وهو الذي تطوى صلاته كالثواب الخلق ويضرب بها وجه صاحبها، ويقال له: لا حفظ الله كما لم تحفظ صلاتك". (فصل) وينبغي لكل مصلٍ أن يقدم النية لصلاته، ويمثل الكعبة البيت الحرام أمامه ونصب عينيه على ما تقدم بيانه في أول الكتاب. ويتيقن قيامه بين يدي الله تعالى، ولا

يشك أنه بعين الله منتصب حيث يراه لقوله تعالى: {الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين} [الشعراء: 218 - 219]. ولقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك". وينوي الصلاة الفريضة بعينها ويصفها بالأداء والقضاء، فهو أولى، ويرفع يديه إلى فروع أذنيه أو حذو منكبيه، وقد بينا صفة ذلك في أول الكتاب. وهل يضم الأصابع بعضها إلى بعض أن يفرجها على روايتين، وإذا رفع يديه وكبر كأنه رفع الحجاب الذي بينه وبين الله تعالى، فيحصل في المكان الذي لا يجوز التلفت فيه ولا التشاغل عنه، ولعلمه أنه بعين من يرى حركته، ويعلم ما يتلجلج في نفسه، وينطوي عليه سره وقلبه، فينظر موضع سجوده ولا يلتفت يميناً وشمالاً، ولا يرفع رأسه إلى السماء. وإذا قال: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، علم أنه يخاطب من هو سامع منه مقبل عليه ناظر إليه، ولا يخفى عليه موضع شعرة ولا حركة جارحة عنه. وكذلك قوله: {إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 5 - 6] يعقل ما يقول ويدري من يخاطب بهذا الخطاب، ولا ينسى مع ذلك الخضوع والتحفظ حذراً من وقوع السهو عليه فيما هو قائم له وماثل فيه، ويأتي بإحدى عشرة تشديدة في الفاتحة، ويحذر اللحن الذي يغير المعنى فيها، فإن قراءتها فريضة، وهي ركن تبطل الصلاة بتركها، ومع ذلك يرى كأنه واقف على الصراط، وأن الجنة عن يمينه بصفتها والنار عن شماله بما فيها، وأنه بصلاته يستنجز ما وعد الله عز وجل بها إذا صحت صلاته من ثواب الجنة، ومستحصن بها من وعيد الله بعقاب النار، كل ذلك بيقن من قلبه، وحضور من عقله، ويعتقد مع ذلك أنه يصلي صلاة مودع لا يشك أنها تعرض على الله تعالى، وأنه لا يصح له منها إلا ما يصح له عند الله فقط، ثم يأتي بقراءة ما يسر من السور الكوامل، وهي أول من قراءة أواخرها وأواسطها، ويكون ناصتاً إلى ما يقرأ متفهماً إلى ما يلفظ ويتلو. وكذلك إن كان مأموماً ينصت إلى قراءة الإمام ويفهمها ويتعظ بمواعظها وزواجرها،

ويعتقد امتثال أوامرها هكذا إلى أن تنتهي السورة. فإذا فرغ من القراءة ثبت قائماً وسكت حتى يرجع إليه نفسه قبل أن يركع، ولا يصل قراءته بتكبيرة الركوع، ثم يكبر ويرفع يديه إلى فروع أذنيه أو حذو منكبيه على ما بينا في أول الكتاب. فإذا انقضى التكبير حط يديه، ثم انحط في قيامه للركوع، ويلقم راحته ركبتيه، ويفرق يبن أصابعه، ويعتمد على ضبعيه وساعديه، ويسوي ظهره، ولا يرفع رأسه، ولا يخفض فينكسه، فقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنه كان إذا ركع لو كانت قطرة ماء على ظهره ما تحركت عن موضعها". وجاء عنه -صلى الله عليه وسلم- "أنه كان إذا ركع لو كان قدح من ماء على ظهره ما تحرك عن موضعه". وذلك لاستواء ظهره ومبالغته في ركوعه -صلى الله عليه وسلم-، ويقول: سبحان ربي العظيم ثلاثاً وهو أدنى الكمال. وقال الحسن البصري رحمه الله: التسبيح التام سبع، والوسط من ذلك خمس، وأدناه ثلاث تسبيحات. ثم يرفع رأسه مسمعاً فينتصب معتدلاً فيطمئن مترسلاً يديه، ثم ينحط للسجود فيبدأ بوضع ركبتيه على الأرض ثم يديه ثم جبهته وأنفه، ويتمكن من الأرض ويطمئن في سجوده، ويتوجه بكل عضو منه وجزء إلى القبلة. وجاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أمرت بالسجود على سبع أعظم". وي حديث آخر "إن العبد يسجد على سعة أعضاء، فأي عضو منها ضيعه لم يزل ذلك العضو يلعنه". ويكون في سجوده منقبضاً لا ينبسط على الأرض، ولا يفرش ذراعيه وينام عليهما ولا على فخذيه بل يضع أصابع يديه على الأرض حتى يحاذي بها أذنيه أو منكبه الموضع الذي يستحب رفع اليد إليه في التكبير في حال القيام، ولا يضعهما حداء رأسه، ويضم أصابعه ويوجهها نحو القبلة، ويبين العضدين عن الجنبين، والفخذين عن

الساقين، والبطن عن الأرض على ما تقدم بيانه. ويقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً كالركوع، ثم يرفع رأسه مكبراً، ويجلس على رجله اليسرى، وينصب اليمنى ويقول: رب اغفر لي ثلاثاً، ناظراً إلى حجره، ثم يسجد ثانية كذلك، ثم يرفع رأسه مكبراً من الأرض ثم يديه ثم ركبتيه معتمداً على ركبتيه، فينهض على صدور قدميه، ولا يقدم إحدى رجليه فإنه مكروه. وقيل: إنه يقطع الصلاة مروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، ويفعل كذلك في الركعة الثانية، فإذا جلس للتشهد الأول جلس على رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى ويوجه أصابعه نحو القبلة، ويضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، ويده اليمنى على فخذه اليمنى، ويشير بأصبعه التي تلي الإبهام وهي السبابة، ويحلق الإبهام مع الوسطى، ويقبض الخنصر والبنصر، وتكون عينه إلى إصبعه من أول تشهده إلى آخره، لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا كان أحدكم في الصلاة فجلس فلا يعبث بشيء، فإنه يناجي ربه"، ولكن يجعل يده اليسرى على فخذه اليسرى، ويده اليمنى على فخذه اليمنى، ثم ليكن قلبه وبصره إلى أصبعه فإنها مذبة للشيطان، ويتشهد فيقول: "التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله". ثم يقوم مكبراً فيقرأ الفاتحة فحسب، ويركع ويسجد كذلك، ثم يصلي الركعة الرابعة كذلك، ثم يجلس للتشهد فيأتي به على ما ذكرنا. فإذا بلغ عبده ورسوله قال: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد". وعن إمامنا أحمد رواية أخرى: أنه يذكر إبراهيم ثم يذكر آله فيقول على إبراهيم وعلى إبراهيم، وهذا آخر التشهد.

ويستحب له أن يستعيذ من أربع فيقول: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن فتنة المحيا والممات". ثم يدعو فيقول: "اللهم إني أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم، اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبادك الصالحون، وأعوذ بك من رش ما استعاذك منه عبادك الصالحون. اللهم إني أسالك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} [البقرة: 201]، {ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار * ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد} [آل عمران: 193 - 194]. وإن زاد على ذلك جاز، إلا أن يكون إماماً فيطول ذلك على المأمومين، فالمستحب الاقتصار حفظاً لقلوبهم، لعل أن يكون فيهم ذو الحاجة، ثم يسلم ويدعو لنفسه ولوالديه وللمسلمين، ويكون في جميع ذلك متخوفاً من عاقبتها، كيف وقد وقعت عند الله عز وجل الداعي إليها الآمر بها المثيب عليها والمعاقب عليها عند إساءتها، فإذا خرج منها عرضها على العلم. فإن شهد لها ببراءة الساحة وسلامة المنزلة حمد الله تعالى وأثنى عليه إذ جعله أهلاً لذلك، وأن وجد فيها نقصاناً وخللاً تاب إلى الله عز وجل واستغفر الله وتأهب واجتهد في التحفظ على التي بعدها. وللصلاة المقبولة علامة بينة وللمردودة علامة بينة فعلامة المقبولة نهيها وكفها لصابحها عن الفواحش والمناكر، وترغيبه في الخير، وتجديد نيته في الصلاة والازدياد من الطاعات وفعل الخيرات، والرغبة في المثوبات، وارتداعه عن الاسواء وكراهة المعاصي والخطيئات، لقول الله عز وجل: {وإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 45] وهذا الذي ذكرنا يشترك فيه الإمام والمأموم والمنفرد. فأما شرائط الصلاة وواجباتها ومسنوناتها فقد ذكرناها في أول الكتاب. * * *

(فصل: فيما يختص بالإمام)

(فصل: فيما يختص بالإمام) ولا ينبغي للرجل أن يكون إماماً حتى تكون فيه هذه الخصال التي نذكرها. وهي ألا يحب أن يتقدم وهو يجد من يكفيه ذلك، ولا يتقدم وهناك من هو أفضل منه، لأنه جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا أم القوم رجل وخلفه من هو أفضل منه لم يزالوا في سفال". وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لأن أقدم فترض عنقي ولا يقربني ذلك من إثم خير من أن أتقدم قوماً فيهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأن يكون قارئاً لكتاب الله، فقيهاً في دين الله، بصيراً بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأنه جاء في الحديث "اجعلوا أمر دينكم إلى فقهائكم، وأئمتكم قراؤكم"، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يؤمكم خياركم فإنهم وفودكم إلى الله عز وجل". وإنما خصهم -صلى الله عليه وسلم- بذلك لأنهم أهل الدين والفضل والعلم بالله عز وجل والخوف من الله تعالى، الذي يعنون بصلاتهم وصلاة من خلفهم، ويتقون ما يلزمهم من وزر أنفسهم ووزر من خلفهم إن أساؤوا في صلاتهم، وما أراد -صلى الله عليه وسلم- بالقراء الحفظة للقرآن فحسب من غير أن يعملوا به، وإنما أراد -صلى الله عليه وسلم- العمال بالقرآن مع حفظه، وقد جاء في الحديث: "إن أحق الناس بهذا القرآن من كان يعمل به وإن كان لا يقرؤه". وقد يحفظ القرآن من لا يعمل به ولا يعبأ بإقامة حدوده مما فرض الله عليه من العمل به وما نهاه من النهي عنه، فلا نعنى نحن به ولا كرامة له، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما آمن بالقرآن من استحل محارمه". فلا يجوز للناس أن يقدموا عليهم في صلاتهم إماماً إلا أعلمهم بالله وأخوفهم له، فإن خالفوا وقدموا غيره لم يزالوا في سفال وإدبار وانتقاص في دينهم وبعد من الله تعالى ومن رضوانه وجنته. فرحم الله قوماً عنوا بدينهم وصلواتهم، فقدموا خيارهم واتبعوا في ذلك سنة نبيهم

-صلى الله عليه وسلم- وطلبوا بذلك القربة إلى ربهم تبارك وتعالى. وينبغي أن يكون الإمام حافظاً للسانه من عيب الناس عليه وغيبتهم إلا من الخير، ويكون يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويجتنبه، ويحب الخير وأهله، ويبغض الشر وأهله، عارفاً بمواقيت الصلاة محافظاً عليها، مقبلاً على شأنه، عفيف البطن والفرج، منقبض اليد عن الحرام، قليل السعي إلا في ابتغاء مرضاة الله عز وجل، وقوراً حمولاً صبوراً على الأذى، يغضى عن الشر ويحتمل ممن يتكلم فيه، ويصبر على من يجهل عليه، ويحسن إلى من أساء إليه، ويكون غضيض الطرف عن المحارم، إن رأى عورة سترها، وإن رأى مخزية دفنها، يعرض عن الجاهلين ويقول لهم: اللهم سلاماً، الناس منه في راحة، وهو من نفسه في عناء، حريصاً على فكاك رقبته، مجداً في خلاص نفسه، ويعلم أنه قد بلي بشيء عظيم جليل خطره، كبير شأنه. وليكن همه ما قد كلف به من عظيم قدر الإمامة وخطر قدرها وخيرها، وليكن قليل الكلام إلا فيما يعنيه، له حال وللناس حال، إذا قام في محرابه علم أنه قائم في مقام النبيين، وخليفه سيد المرسلين، ويناجي رب العالمين. يتحرى الاجتهاد لتمام الصلاة وليسلم من خلفه، ممن تقلد إمامته، خفيف الصلاة في تمام، يصلي بصلاة أضعفهم، فيرى في نفسه أنه دونهم وأنه مبتلى بإمامتهم، وأن الله تعالى يسأله عن أداء الفرائض عن نفسه وعنهم. وهو بتقدمه باك على خطيئته، نادم على ما سلف من تفريطه وقديم أيامه، وما انقضى من أوقاته، لا يتكبر على من خلفه، ولا يتجبر على من هو دونه، ولا يغضب حمية لنفسه، إذا قيل ما فيه وما هو عنه بريء، ولا يحب حمدهم ولا يكره ذمهم، فتكون الجماعة عنده في الحالتين سواء، لم يجرب عليه كذبة، طيب الطعام، نظيف اللباس، متواضعاً في لبسه متخاشعاً في جلسته، غير محدود في الإسلام، ولا ذا ريبة في الأنام، ولا غمازاً على أخيه عند السلطان، ولا هو ساع إلى الشر، ولا ذي غمز في حقه، ولا خائن في وديعة وتجارته وعاريته، ولا يتقدم وهو خبيث المطعم والمكسب، ولا يتقدم وهو يشتهي الإمامة، ولا يتقدم وهو يعلم أن فيه حسداً ولا بغياً ولا حقداً ولا إحنة ولا غلاً ولا رجاء ولا طالباً لثأر، ولا منتصراً لنفسه، ولا متشفياً من غيظ، ولا متتبعاً عورة رجل مسلم، ولا غاشاً لأحد من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.

ولا يتكلم في فتنة ولا يسعى فيها ولا يقويها، بل يعين أهل الحق على أهل الباطن بيده ولسانه وقلبه، يقول الحق وإن كان مراً، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يحب مدح الناس له، ولا يكره ذمهم، ولا يخص نفسه بشيء من الدعاء، بل يعمم الدعاء له ولهم وقت ما يدعو عقيب الصلاة بهم، فإن أفرد نفسه بذلك كان خيانة منه لهم، ولا يؤثر بعضهم على بعض إلا أولى العلم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليليني أولو الأحلام والنهي". وكذلك الذين يلونهم وراء ظهره، ولا يقرب الغنى ويزري بالفقير، ولا ينبغي له أن يتقدم بقوم وفيهم من يكره إمامته، فإن كان فيهم من يكره ومن لا يكره نظر، فإن كان الأكثر يكرهونه اعتزل المحراب ولا يقربه، هذا إذا كانت كراهتهم له بعلم وحق، وإن كانت بجهل وباطل ورعونة نفس وعصبية لمذهب أو هوى لم يلتفت إلى كراهتهم، ولا يترك الصلاة بهم إلا أن يخاف الفتنة في القوم لأجله، فيتنحى ويعتزل المحراب لذلك حتى يصطلحوا أو يرضوا، ولا ينبغي له أن يكون ممارياً ولا حلافاً ولا لعاناً، ولا يدخل مداخل السوء والتهم، ولا يأنف ولا يخالط من الناس إلا الصالحين، ولا ينبغي له أن يكون إماماً وهو يحب الفتنة وأهلها، والعصبية وأهلها، والرياسة وأهلها، وينبغي أن يكون صبوراً على أذية الناس متودداً إليهم، طالباً لمنفعتهم، مجتهداً في نصيحتهم، لا يماري على الإمامة ولا يقاتل عليها من كفاه عظيم مؤنتها. ولقد نقل عن الأكابر ممن تقدم من السلف الصالحين أنهم كرهوا الإمامة وقدموا من ليس هو مثلهم في الشرف والديانة ابتغاء حمل المؤنة عنهم وتخفيفاً، وخيفة من تقصير يقع لهم. وينبغي للإمام إذا حضر عنده ذو سلطان ألا يتقدم عليه في الصلاة إلا بإذنه، وكذلك لا جلس إلا بإذنه، وإذا نزل بقرية أو محلة أو قبيلة أو حي من أحياء العرب لا يؤمهم إلا بإذنهم، وكذلك إذا اتفق مع قوم في قافلة وسفر ومجمع لا يؤمهم إلا بإذنهم. وينبغي للإمام ألا يطيل الصلاة بل يخففها مع التمام لما روي عن أبي هريرة رضي

(فصل) وينبغي للإمام ألا يدخل في الصلاة ولا يكبر حتى ينوي الإمامة بقلبه

الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان أحدكم إماماً فليخفف، فإنه يقوم وراءه الصغير والكبير وذو الحاجة، وإذا صلى لنفسه فليطل ما شاء". وعن أبي واقد رضي الله عنه قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أوجز الناس صلاة على الناس، وأدومه على نفسه". (فصل) وينبغي للإمام ألا يدخل في الصلاة ولا يكبر حتى ينوي الإمامة بقلبه، وإن تلفظ ذلك بلسانه كأن أحسن، ويلتفت يميناً وشمالاً فيسوى الصفوف فيقول: استووا رحمكم الله، واعتدلوا رضي الله عنكم، ويأمرهم بسد الفرح وتسويه المناكب ودنو بعضهم إلى بعض حتى تتماس مناكبهم، لأن اختلاف المناكب واعوجاج الصفوف نقص في الصلاة وحضور الشياطين وقيامهم مع الناس في الصفوف، جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "راصوا الصفوف وحاذوا المناكب وسدوا الخلل حتى لا يقوم بينكم مثل أولاد الحذف" يعني مثل أولاد الغنم من الشياطين. وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قام مقامه إلى الصلاة لم يكبر حتى يلتفت يميناً وشمالاً فيأمرهم بتسوية مناكبهم ويقول: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم". ورأى -صلى الله عليه وسلم- يوماً رجلاً قد خرج صدره من الصف فقال: "لتسون مناكبكم أو ليخالفن الله تعالى بين قلوبكم". وفيما اتفق عليه مسلم والبخاري رحمهما الله عن سالم بن أبي الجعد رحمه الله قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله تعالى بين وجوهكم". وفي حديث آخر عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سووا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة".

وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قام مقام الإمام لا يكبر حتى يأتيه رجل قد وكله بإقامة الصفوف فيخبره أنهم قد استووا فيكبر حينئذ. وكذلك كان يفعل عمر بن عبد العزيز رحمه الله. وروى أن بلالاً المؤذن رضي الله عنه كان يسوى الصفوف ويضرب عراقيبهم بالدرة حتى يستووا. وقال بعض العلماء: إن الظاهر من هذا أنه كان يفعل ذلك على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند إقامته قبل أن يدخل في الصلاة لأن بلالاً رضي الله عنه لم يؤذن لأحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا يوماً واحداً عند مرجعه من الشام في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بسؤاله وسؤال الصحابة رضي الله عنهم شوقاً إلى رسول الله -صلى الله عله وسلم- وعهده، فلما بلغ بلال رضي الله عنه إلى قوله: أشهد أن محمداً رسول الله، امتنع من الآذان فلم يقدر عليه، فسقط مغشياً عليه حباً للنبي -صلى الله عليه وسلم- وشوقاً إليه، واشتد عند ذلك بكاء أهل المدينة من المهاجرين والأنصار حتى خرجت العوائق من خدورهن شوقاً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فثبت بذلك أن ضربه لعراقيب الناس كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وينبغي للإمام ألا يدخل طاقة القبلة فيمنع من ورائه رؤيته، بل يخرج منه قليلاً. وعن إمامنا أحمد رحمه الله رواية أخرى: أنه يستحب قيامه فيه، ولا يقف مقاماً أعلى من مقام المأمومين، فإن فعل فهل تبطل صلاته على وجهين. وينبغي له إذا سلم من صلاته ألا يلبث في محرابه، وليقم وليتنح إلى يساره، فليأت بتنفله ناحية من المحراب، لما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يتطوع الإمام في مقامه الذي يصلى فيه بالناس المكتوبة" وأما المأموم فجائز له ذلك، وهو مخير إن شاء صلى في موضعه أو يتأخر قليلاً. وينبغي أن تكون له سكتتان سكتة عند افتتاح الصلاة وسكتة إذا فرغ من القراءة قبل أن يركع حتى يتنفس ويسكن وهج قراءته، ولا يصل قراءته بتكبيرة الركوع، لأن ذلك مروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. وينبغي إذا صلى إلى سترة أن يدنو منها، ولا يدع بينه وبينها فرجة بعيدة لئلا يمر بينهما كلب أسود بهيم أو حمار أو امرأة، فإن صلاته تنقطع بذلك عند أحمد إمامنا

(فصل) ويجب على المأموم أن ينوي الائتمام

رحمه الله. وعنه في المرأة والحمار رواية أخرى لا بأس بهما. وينبغي له إذا ركع سبح ثلاث تسبيحات على ما ذكرنا، ولا يسرع فيها ولا يبادر، وليكن بتمام من كلامه، وبتأييد وتمكن، لأنه إذا أسرع بالتسبيح لم يدركه من خلفه، فيؤدي ذلك إلى مسابقة المأموم فتفسد صلاتهم، فيرجع وزرهم إليه. وكذلك ينبغي له إذا رفع رأسه من الركوع وقال: "سمع الله لمن حمده" ثبت قائماً معتدلاً ويقول: "ربنا ولك الحمد" من غير عجلة في كلامه حتى يدركه المأمون، وإن زاد على ذلك فقال: ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، جاز لأن ذلك مروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وجاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رفع رأسه من الركوع يقوم حتى يقال قد نس". وكذلك يثبت في السجود وفي الجلسة بين السجدتين ليدركه من خلفه في الركن. ولا نظر إلى قول من يقول: إذا فعل ذلك سبقه المأموم فبطلت صلاته، إذا تكرر ذلك منه، ففي ذلك فساد لأن الناس إذا رأوه يديم ذلك ويواظب عليه علموا أن التثبيت دأبه فثبتوا له ولم يبادروا، ثم يقال للإمام: يستحب لك أن تخوفهم قبل الشروع في الصلاة وتحذرهم من مسابقتك، على ما نذكره في الفصل الذي يليه، فلا يؤدى ذلك إلى فساد بل إلى مصلحة عامة وتمام صلاة الجميع، وقد جاء في الحديث "إن كل مصل راع ومسئول عن رعيته". وقيل: إن الإمام راع لمن يصلي بهم، فعلى الإمام النصيحة لمن يصلى خلفه، وينهاهم عن المسابقة في الركوع والسجود، ويحسن أدبهم إذ هو راع لهم ومسئول غداً عنهم، ويتم صلاته ويحكمها ويحسنها حتى يكون له مثل أجر من يصلي خلفه، وإلا عليه مثل أوزارهم إذا أسا وقصر. (فصل) ويجب على المأموم أن ينوي الائتمام، ويقف على يمين الإمام ولا يقف قدامه ولا عن يساره، فإن كانوا جماعة فالسنة أن يقفوا خلفه، فإن كبر عن يمينه وجاء آخر فإنه يكبر معه ويحصل معه صفاً ثم يخرجان وراء الإمام، فإن كبر الثاني أخرجهما الإمام بيده إلى ورائه، ولا يتقدم هو عن موضعه إلا أن يكون وراءه ضيق، وإذا حضر

(فصل) وينبغي للمأموم أيضا ألا يسبق الإمام في التكبير

الجماعة فوجد في الصف فرجة دخل فيها، وإن لم يجد وقف عن يمين الإمام، ولا يجذب رجلاً فيقوم معه صفاً لأنه يؤدي إلى الهرج والفتنة والبغضاء والعداوة، ولأنه يؤدي ذلك إلى بطلان صلاة المجذوب، لأنه يصير فذاً بذلك، وذلك يبطل الصلاة عندنا، ولكن يجتهد فيحصل كتفيه في الصف، فيكبر ويحرم بالصلاة، ثم يخرج مع واحد منهم إلى وراء الصف، وإذا دخل المسجد والإمام في الرجوع كبر تكبيرتين: إحداهما للإحرام، والأخرى للركوع، فإن كبر واحدة ونواهما جاز، وإذا دخل والإمام في التشهد الأخير استحب له أن ينوى الصلاة ويكبر ويجلس مع الإمام ليدرك فضل الجماعة، فإذا سلم الإمام بنى على تكبيره وصلى. (فصل) وينبغي للمأموم أيضاً ألا يسبق الإمام في التكبير ولا في الركوع والسجود ولا في الرفع عنهما، ويحذر ذلك جداً، ويجتهد وسعه ويبذل طاقته أن تكون أفعاله جميعها في الصلاة عقيب فعل إمامه. وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. من ذلك ما روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أما يخاف الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار". وفي حديث آخر عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الإمام يركع قبلكم ويسجد قبلكم ويرفع قبلكم". وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: "كنا خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان إذا انحط من قيامه للسجود لا يحنى أحد منا ظهره حتى يضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبهته على الأرض، وكان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلبثون خلفه قياماً حتى ينحط النبي -صلى الله عليه وسلم- ويكبر ويضع جبهته على الأرض وهم قيام ثم يتبعونه". وقد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم قالوا: "لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستوي قائماً وإنا لسجد بعد". وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما يخشى الذي يرفع

رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو رأس خنزير". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار". وروى أن ابن مسعود رضي الله عنه نظر إلى من سبق الإمام فقال: لا وحدك صليت ولا بإمامك اقتديت، والذي لم يصل وحده ولم يقتد بإمامه فذلك الذي لا صلاة له. وكذلك روى أن ابن عمر رضي الله عنهما نظر إلى من سبق الإمام فقال له: ما صليت وحدك ولا صليت مع الإمام، ثم ضربه وأمره أن يعيد الصلاة. وعن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع رأسه فارفعوا رؤوسكم، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا جميعاً: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا قبل أن يسجد، وإذا رفع رأسه فارفعوا رؤوسكم، ولا ترفعوا رؤوسكم قبل أن يرفع وإذا صلى جالساً فصلوا أجمعون جلوساً". وروى إمامنا أبو عبد الله أحمد رحمه الله في رسالة له بإسناده عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علمنا صلاتنا وعلمنا ما نقول فيها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كبر الإمام فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا قال: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين ...} فقولوا: "آمين"، يجبكم الله، وإذا كبروا فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده، فارفعوا رؤوسكم وقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، يسمع الله لكم، وإذا كبروا وسجد فكبروا واسجدوا، وإذا رفع رأسه وكبر فارفعوا رؤوسكم وكبروا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فتلك بتلك، وإذا كان في القعدة فليكن من قول أحدكم: التحيات لله والصلوات والطيبات، حتى تفرغوا من التشهد". قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رحمه الله، وأماتنا على مذهبه أصلاً وفرعاً، وحشرنا في زمرته: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كبر فكبروا" معناه أن ينتظروا الإمام حتى يكبر ويفرغ من تكبيره وينقطع صوته ثم يكبرون بعده، والناس

يغلطون في هذه الأحاديث ويجهلونها مع ما عليه عامتهم من الاستخفاف بالصلاة والاستهانة بها، فتارة يأخذ الإمام في التكبير فيأخذون معه في التكبير، وهذا خطأ لا ينبغي لهم أن يأخذوا في التكبير حتى يكبر الإمام ويفرغ من تكبيره وينقطع صوته وهكذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "إذا كبر الإمام فكبروا" والإمام لا يكون مكبراً حتى يقول: الله أكبر، لأن الإمام لو قال الله ثم سكت لم يكن مكبراً حتى يقول: الله أكبر فيكبر الناس بعد قوله: الله أكبر، فأخذهم في التكبير مع الإمام خطأ، وترك لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأنك لو قلت إذا صلى فلان فكلمه كان معناه أن انتظره حتى إذا صلى وفرغ من صلاته كلمته، وليس لك أن تكلمه وهو يصلى، وكذلك معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كبر الإمام فكبروا" وربما طول الإمام في التكبير إذا لم يكن له فقه، والذي يكبر معه ربما جزم التكبير ففرغ من التكبير قبل أن يفرغ الإمام، فقد صار هذا مكبراً قبل الإمام، ومن كبر قبل الإمام فليست له صلاة، لأنه دخل في الصلاة قبل الإمام وكبر قبل الإمام فلا صلاة له. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كبر وركع فكبروا واركعوا" معناه: أن ينتظروا الإمام حتى يكبر ويركع وينقطع صوته، وهم قيام ثم يتبعونه. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا رفع رأسه وقال: سمع الله لمن حمده فارفعوا رؤوسكم وقولوا: اللهم ربنا لك الحمد" معناه: أن ينتظروا الإمام ويثبتوا ركوعاً حتى يرفع الإمام رأسه ويقول: سمع الله لمن حمده، وينقطع صوته وهم ركوع، ثم يتبعونه فيرفعون رؤوسهم ويقولون: اللهم ربنا لك الحمد. وقوله: "فإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا" معناه: أن يكونوا قياماً حتى يكبر وينحط للسجود ويضع جبهته على الأرض وهم قيام، ثم يتبعونه. وكذلك جاء عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، وهذا كله موافق لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الإمام يركع قبلكم ويسجد قبلكم ويرفع قبلكم". وقوله: "إذا كبر ورفع رأسه فارفعوا رؤوسكم وكبروا" معناه: أن يثبتوا سجوداً حتى يرفع رأسه ويكبر، فإذا انقطع صوته وهم سجود اتبعوه فرفعوا رؤوسهم. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فتلك بتلك" يعني: انتظاركم إياه قياماً حتى يكبر ويركع وأنتم قيام فتتبعونه، وانتظاركم إياه ركوعاً حتى يرفع رأسه ويقول: سمع الله لمن حمده وأنتم

(فصل) ويجب على من رأى من يقصر في صلاته ويسقط أركانها وواجباتها وآدابها أن يعظه ويعلمه وينصحه

ركوع، فإذا قال: سمع الله لمن حمده وانقطع صوته وأنتم ركوع اتبعتموه فرفعتم رؤوسكم وقلتم ربنا لك الحمد. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فتلك بتلك" في كل رفع وخفض، وهذا تمام الصلاة فاعقلوه وأبصروه وأحكموه، واعملوا أن كثيرًا من الناس يوم القيامة ما تكون لهم صلاة لسبق الإمام بالركوع والسجود والرفع والخفض. وقد جاء في الحديث "أنه يأتي على الناس زمان يصلون ولا يصلون" ويوشك أن يكون زماننا هذا، فإن الغالب عليهم مسابقة الإمام وتضييع أركان الصلاة وواجباتها ومسنوناتها وتمامها. (فصل) ويجب على من رأى من يقصر في صلاته ويسقط أركانها وواجباتها وآدابها أن يعظه ويعلمه وينصحه ليصلح فيما بقى ويستغفر عما مضى، فإن لم يفعل كان شريكه في ذلك وعليه وزره وإثمه. وقد جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ويل للعالم من الجاهل حيث لا يعلمه". فلولا أن تعليم الجاهل واجب على العالم ولازم له وفرض عليه لما توعده -صلى الله عليه وسلم- بالويل في السكوت عنه، لأن الوعيد لا يستحقه إلا من ترك الواجب والفرض دون النفل. وجاء في الحديث عن بلال بن سعد أنه قال: الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت فلم تغير ضرت العامة، وذلك لتركهم ما لزمهم من التغيير والإنكار على من ظهرت الخطيئة منه وسكوتهم عنه، فلما سكتوا تفاقم الأمر والوبال على الجميع، وشارك المحسن المسئ في إساءته إذا لم ينهه وينصحه. وقد ورد عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: من رأى من يسئ في صلاته فلم ينهه شاركه في وزرها وعارها ويكون موافقًا للشيطان اللعين، لأنه يريد أن يسكت عن الكلام في ذلك، وأن يترك التعاون على البر والتقوى اللذين أوصى الله تعالى بهما في قوله عز وجل: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة 2] والنصيحة التي هي واجبة عليهم بعضهم لبعض، ويريد أن يضمحل الدين ويذهب الإسلام، ويأثم الحلق كلهم، فلا ينبغي للعاقل أن يطيع الشيطان، قال الله عز وجل: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} [الأعراف 270]، وقال جل وعلا: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوًا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} [فاطر 6].

واعلم أن جميع ما يوجد من النقص في الصلاة والزكاة وسائر العبادات لسكوت أهل العلم والفقه والتصبر عنهم وترك النصيحة والتعليم والتأديب، فينشأ ذلك أولًا من أهل الجهل، ثم يعلم أهل العلم وينسب إليهم. ومن العجب لو أن رجلًا رأى من يسرق حبة واحدة أو رغيفًا من إنسان يهودي أو مسلم لم يتمالك من نفسه حتى يصبح عليه ويزجره ويقبح له ذلك، وإذا رأى من يصلي ويسرق أركان الصلاة ويسقطها مع الواجب ويسابق الإمام سكت عنه ولا ينطق، فينكر عليه ويعلمه ويستهين أمره. وقد جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "شر الناس سرقة الذي يسرق من صلاته، قالوا: يا رسول الله، وكيف يسرق من صلاته؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: لا يتم ركوعها ولا سجودها". وعن الحسن البصري رحمه الله قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أخبركم بشر الناس سرقة؟ قالوا: بلى، من هو يا رسول الله؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: الذي لا يتم ركوع الصلاة ولا سجودها". وقال سلمان الفارسي -رضي الله عنه-: الصلاة مكيال، فمن وفى وفى له، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله تعالى في المطففين. وعن عبد الله بن علي أو علي بن شيبان -رضي الله عنه-، وكان من الوفد الذين وفدوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا ينظر الله إلى صلاة عبد لا يقيم صلبه في ركوعه وسجوده". وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "إن رجلًا دخل المسجد ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد فصلى، ثم جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسلم عليه، فرد عليه السلام وقال: ارجع فصل فإنك لم تصل فصلي كما صلى، ثم جاء فسلم، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ارجع فصل فإنك لم تصل ففعل ذلك ثلاث مرات، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر

(فصل) ويجب على المؤذن أن يصلح من لسانه ما لا يلحن في الشهادتين، ويكون عارفا بالأوقات، وألا يؤذن إلا بعد دخول الوقت

معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اصنع ذلك في صلاتك كلها". وفي حديث آخر عن رفاعة بن رافع -رضي الله عنه- قال: "بينما نحن جلوس حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ دخل رجل فاستقبل القبلة فصلى، فلما قضى صلاته جاء فسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى قومه، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ارجع فصل فإنك لم تصل، أمره بذلك مرتين أو ثلاثًا، فقال الرجل: ما ألوت قدرتي فلا أدري ما عنيت من صلاتي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمر الله تعالى فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح رأسه ويغسل رجليه إلى الكعبين، ثم يكبر الله تعالى ويحمده، ثم يقرأ من القرآن ما أذن له فيه، ثم يكبر فيضع كفيه على ركبتيه حتى تطمئن مفاصله وتسترخي، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، ويستوي قائمًا حتى يقيم صلبه، ويأخذ كل عضو مأخذه، ثم يكبر ويسجد ويمكن وجهه حتى تطمئن مفاصله وتسترخي، ثم يكبر ويستوي قاعدًا على مقعده ويقيم صلبه، فوصف صلاته هكذا أربع ركعات، حتى فرغ، ثم قال: لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل كذلك". فقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإتمام الصلاة والركوع والسجود، وأخبر أن الصلاة لا تقبل إلا هكذا وما وسعه -صلى الله عليه وسلم- السكوت حين رأى الرجل يصلي صلاة ناقصة، فلو جاز تأخير البيان عن وقت الحاجة وترك الإنكار على الجاهل وتعليمه لسكت النبي -صلى الله عليه وسلم-، ووكل ذلك إلى ما قد بين من قبل الصحابة -رضي الله عنهم- وتجاوز عنه، فلما بالغ في ذلك الإنكار عليه والتعليم له دل على وجوب ذلك، وتنبيهه -صلى الله عليه وسلم- من حضره من الصحابة -رضي الله عنهم- أن يفعلوا كذلك إذا رأوا من يفعل في صلاته مثل ما فعل ذلك الرجل ويعلموا أصحابهم، وأصحابهم لأصحابهم كيفية أحكام الشرع إلى أن تقوم الساعة. (فصل) ويجب على المؤذن أن يصلح من لسانه ما لا يلحن في الشهادتين، ويكون عارفًا بالأوقات، وألا يؤذن إلا بعد دخول الوقت إلا في الفجر خاصة ويحتسب بأذانه وجه الله تعالى، ولا يأخذ على أذانه أجرًا، ويستقبل القبلة بوجهه في التكبير

(فصل) فرحم الله من أقبل على صلاته خاشعا خاضعا ذليلا لله عز وجل

والشهادتين، ويولى وجهه يمينًا وشمالًا في الدعاء إلى الصلاة، وإذا أذن لصلاة المغرب جلس بين الأذان والإقامة جلسة خفيفة، ويكره له أن يؤذن وهو جنب أو محدث، ولا ينبغي له أن يشق الصفوف إذا فرغ من الإقامة ليقوم في الصف الأول. وينبغي له أن يقيم موضع الأذان، إلا أن يشق عليه مثل أن يكون قد أذن في منارة، فإنه يقيم مواضع الصلاة، أو حيث تيسر له. (فصل) فرحم الله من أقبل على صلاته خاشعًا خاضعًا ذليلًا لله عز وجل خائفًا واعيًا راغبًا وجلًا مشفقًا راجيًا، وجعل أكثر همته في صلاته لربه تعالى، ومناجاته إياه وانتصابه بين يديه قائمًا وقاعدًا وراكعًا وساجدًا، وفرغ لذلك قلبه وثمرة فؤاده، واجتهد في أداء فرائضه، فإنه لا يدري هل يصلي صلاة بعد التي هو فيها أو يعاجل عليه بوفاته قبل ذلك، فقام بين يدي ربه عز وجل محزونًا مشفقًا يرجو قبولها، ويخاف ردها، إن قبلها سعد وإن ردها شقى، فما أعظم خطرك يا أيها المؤمن المتحلي بأنوار الإسلام في هذه الصلاة وفي غيرها من عملك، وما أولاك من الهم والحزن والخوف والوجل فيها وفيما سواها، مما افترض عليك، أنك لا تدري هل قبلت منك صلاة أو حسنة قط أم لا؟ وهل غفرت لك سيئة أم لا؟ وأنت مع ذلك ضاحك فرح غافل منتفع بالعيش، كيف وقد جاء اليقين من مخبر صادق أمين أنك وارد النار فقال جل وعلا: {وإن منكم إلا واردها} [مريم 710] ولم يأتك اليقين أنك صادر عنها، فمن أحق بطول البكاء وطول الحزن منك حتى يتقبل الله منك، ثم مع هذا لا تدري لعلك لا تصبح إذا أمسيت ولا تمسي إذا أصبحت، فمبشر بالجنة أم مبشر بالنار، فمحقوق ألا تفرح بأهل ولا ولد ولا مال، وإن العجب كل العجب من طول غفلتك وطول سهوك عن هذا الأمر العظيم وأنت تساق سوقًا حثيثًا في كل يوم وليلة، وفي كل ساعة وطرفة عين، فتوقع أجلك ولا تغفل عن هذا الخطر العظيم الذي قد أظلك، فإنك لابد ذائق الموت ولاقيه، ولعله ينزل بساحتك في صباحك أو مسائك أشر ما تكون عليها إقبالًا، فإنك قد أخرجت من ذلك كله وسلبته فإما إلى الجنة وإما إلى نار انقطعت عنها الصفات، وقصرت العبارات والحكايات عن بلوغ حقيقة وصفها ومعرفة قدرها وأنواع عذابها والإحاطة بغاية خبرها. وقال العبد الصالح رحمه الله: عجبت للنار كيف نام هاربها، وعجبت للجنة كيف نام طالبها، فوالله لئن كنت خارجًا من الهرب والطلب لقد هلكت هلاكًا بينًا وعظم

(فصل) وأما صلاة الخاصة لإيقاظ الخاشعين المراقبين

شقاؤك وطال حزنك وبكاؤك غدًا مع الأشقياء المعذبين، ولئن زعمت أنك هارب طالب، فلا تغرنك الأماني والعجب بما أنت متحل به فدونك الجد والاجتهاد، واحذر النفس والشيطان، فإن مثقبهما دقيق وغائلتهما شديدة ومكايدهما خبيثة، واحذر الدنيا لئلا تأخذك بزينتها وتخدعك بأباطيلها وكذبها وخضرتها ونضرتها. وقد جاء في الحديث عن سيد البشر "إن الدنيا تغر وتمر وتضر". قال الله عز وجل. {فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} [لقمان 33، وفاطر 5] فالغرور هو الشيطان الرجيم، الله الله ثم الله، احذر الهلاك والردى، احفظ الصلاة وما سواها من الأوامر، وانته عن المناهي أجمع، وذر الإثم ما ظهر منه وما بطن، وسلم إلى ربك جميع المقدور فيك وفي غيرك، وانقد لربك بطاعته فيما أمرك ونهاك، ولا تنفر منه بارتكابك ما نهاك عنه، ولا تسخطه عليك باعتراضك عليه في تدبيره فيك وترك رضاك عنه، فيما قسم لك من الأقسام والأرزاق، وفعل فيك من الأفعال، ما طوي عنك مصالحها وأخفى عنك عواقبها، وما سيظهر لك من أطيب ثمارها ومنافعها، قال عز من قائل: {وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكن وانه يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216]. وكن أبدًا طائعًا لمولاك راضيًا بقضائه صابرًا على بلائه شاكرًا لآلائه داعيًا بأسمائه، ذاكرًا لأنعمه وآياته، موافقًا لفعله ومراده، غير متهم له في تدبيره فيك وفي خلقه، حتى تأتيك الوفاة، فتتوفى مع الطيبين، وتحشر مع النبيين، وتدخل جنات النعيم برحمة رب العالمين، ومشيئة إله الأولين والآخرين. (فصل) وأما صلاة الخاصة لإيقاظ الخاشعين المراقبين، حراس القلوب جلساء الرحمن رضوان الله عليهم وسلامه، فصفتها: ما روى أن يوسف بن عصام مر يومًا في جامع من جوامع خراسان فإذا هو بحلقة عظيمة، فسأل عنها فقيل له: إنها حلقة حاتم، وهو يتكلم في الزهد والورع والخوف والرجاء، فقال لأصحابه: قفوا بنا نسأله عن مسألة عن أمر الصلاة، فإن هو أجابنا عنها جلسنا إليه، فوقف عليه وسلم عليه وقال: رحمك الله لي مسألة، قال له حاتم: سل، قال: أسألك عن أمر الصلاة، فقال له حاتم: تسألني عن معرفتها أو عن أدبها؟ قال: فصارت مسألتين، وجب لهما جوابان، فقال يوسف: أسألك عن أدبها، فقال حاتم.

هو أن تقوم بالأمر، وتمشي بالاحتساب، وتدخل بالنية، وتكبر بالتعظيم، وتقرأ بالترتيل، وتركع بالخشوع، وتسجد بالتواضع، وتتشهد بالإخلاص، وتسلم بالرحمة. فقال أصحاب يوسف: سله عن معرفتها، فسأله، فقال حاتم: هو أن تجعل الجنة عن يمينك، والنار عن شمالك، والصراط تحت قدميك، والميزان بين عينيك، والرب عز وجل كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فقال يوسف: يا شاب منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال: منذ عشرين سنة، فقال يوسف لأصحابه: قوموا بنا حتى نعيد صلاة خمسين سنة، ثم التفت إليه فقال له: من أين لك هذا؟ قال: من كتبك إلى كنت تمليها علينا. وحديث أبي حازم الأعرج رحمه الله يليق بهذه الجملة فنذكره، وذلك أن أبا حازم رحمه الله قال: لقيني رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا على ساحل البحر، فقال لي: يا أبا حازم أتحسن أن تصلي؟ قلت: وكيف لا أحسن أن أصلي وأنا بصير بالفرائض وما استن به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقال لي: يا أبا حازم ما الفرض عليك قبل قيامك إلى الصلاة؟ فقلت: ستة، قال: وما هي؟ قلت: الطهارة، والاستتار، واختيار موضع الصلاة، والقيام إلى الصلاة، والنية، والتوجه إلى القبلة، قال لي: يا أبا حازم فبأي نية تخرج من بيتك إلى المسجد؟ قلت: بنية الزيارة، قال: فبأي نية تدخل المسجد؟ قلت: بنية العبادة، قال: فبأي نية تقوم إلى العبادة؟ قلت: بنية العبودية مقرًا له بالربوبية. قال: فأقبل علي وقال: يا أبا حازم بم تستقبل القبلة؟ قلت: بثلاث فرائض وسنة، قال: وما هي؟ قلت: التوجه إلى القبلة فرض، والنية فرض، والتكبيرة الأولى فرض، ورفع اليدين سنة، قال: فكم من التكبير عليك فرض وسنة؟ قلت: أصل التكبير أربع وتسعون تكبيرة، منها خمس فرض، والباقي كلها سنة. قال: فبم تستفتح الصلاة؟ قلت: بالتكبير: قال: فما برهانها؟ قلت: قراءتها، قال: فما جوهرها؟ قلت: تسبيحها، قال: فما إحياؤها؟ قلت: خشوعها، قال: فما الخشوع؟ قلت: النظر إلى موضع السجود، قال: فما وقارها؟ قلت: السكون، قال: فما تحريمها؟ قلت: التكبير، قال: فما تحليلها؟ قلت: التسليم، قال: فما شعارها؟ قلت: التسبيح عند انقضائها.

قال: فما مفتاح ذلك كله يا أبا حازم؟ قلت: الوضوء، قال: فما مفتاح الوضوء؟ قلت: التسمية، قال: فما مفتاح التسمية؟ قلت: النية، قال: فما مفتاح النية؟ قلت: اليقين، قال: فما مفتاح اليقين؟ قلت: التوكل، قال: فما مفتاح التوكل؟ قلت: الخوف، قال: فما مفتاح الخوف، قلت: الرجاء، قال: فما مفتاح الرجاء؟ قلت: الصبر، قال: فما مفتاح الصبر؟ قلت: الرضا، قال: فما مفتاح الرضا؟ قلت: الطاعة، قال: فما مفتاح الطاعة؟ قلت: الاعتراف، قال: فما مفتاح الاعتراف، قلت: الاعتراف بالوحدانية والربوبية. قال: فيم استفدت ذلك كله؟ قلت: بالعلم، قال: فبم استفدت العلم؟ قلت: بالتعلم، قال: فبم استفدت التعلم؟ قلت: بالعقل، قال: فبم استفدت العقل؟ قلت: العقل عقلان، عقل تفرد الله بصنعه دون خلقه، وعقل يستفيده المرء بتأديبه ومعرفته، فإذا اجتمعا جميعًا قوى كل واحد منهما صاحبه، قال: فبم استفدت ذلك كله؟ قلت: بالتوفيق، وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى. ثم قال: والله لقد أكملت مفاتيح الجنة، فما الفرض عليك، وما فرض الفرض، وما فرض يؤدي إلى فرض، وما السنة الداخلة في الفرض، وما سنة يتم بها الفرض؟ قلت: أما الفرض: فالصلاة، وأما فرض الفرض: فالطهارة، وفرض يؤدي إلى فرض: أخذك الماء بيمينك إلى شمالك، وأما السنة الداخلة في الفرض: فتخليلك الأصابع بالماء، وسنة يتم بها الفرض فهي الختان، فقال: ما أبقيت على نفسك حجة يا أبا حازم. فكم فرض عليك في أكل الطعام؟ قلت: هل في أكل الطعام فرض وسنة؟ قال: نعم، أربعة فرض، وأربعة سنة، وأربعة مكرمة. فأما الفرض: فالتسمية، والحمد، والشكر، ومعرفة ما أطعمك الله. وأما السنة: فاتكاؤك على فخذك الأيسر، والأكل بثلاث أصابع، وشد المضغ، ولعق الأصابع. وأما المكرمة: فغسل اليدين، وتصغير اللقم، والأكل مما يليك، وأن تقل النظر إلى جليسك، هكذا كان يفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. * * *

باب نشير فيه إلى صلاة الجمعة والعيدين وصلاة الاستسقاء والكسوف والخوف والقصر والجمع وصلاة الجنازة مختصرا

باب نشير فيه إلى صلاة الجمعة والعيدين وصلاة الاستسقاء والكسوف والخوف والقصر والجمع وصلاة الجنازة مختصرًا (فصل) أما صلاة الجمعة: فالأصل في وجوبها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} [الجمعة 90]. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله فرض عليكم الجمعة في يوم الجمعة". وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من ترك الجمعة ثلاثًا من غير عذر طبع الله على قلبه". فكل من لزمته الصلوات الخمس يلزمه فرض الجمعة إذا كان مستوطنًا مقيمًا ببلد أو قرية جامعة فيها أربعون رجلًا عقلاء بلغاء أحرارًا. وإن كانت قرية ليس فيها أربعون رجلًا، وكان من حيث يسمع النداء من قرية أخرى أو مدينة بينهما فرسخ وجب عليه إتيانها، ولا يسعه التخلف عنها إلا أن يكون له عذر، أو فإنه يعذر في تركها، وترك الجماعات في بقية الصلوات الخمس مثل أن يكون مريضًا، أو يكون له مال يخاف ضياعه، أو قريب يخاف موته، أو يدافعه الأخبثان البول الغائط أو أحدهما، أو حضره الطعام وبه حاجة إليه، أو يخاف من سلطان أن يأخذه، أو غريم يلازمه، ولا شيء معه يعطيه، أو يكون مسافرًا يخاف فوات القافلة، أو يخاف ضررًا في ماله، أو يرجو وجوده بتخلفه عن الجمعة والجماعة، أو غلبه النعاس حتى يفوته الوقت، أو يخاف التأذي بالمطر والوحل والريح الشديدة. وهي ركعتان يصليها بعد الخطبة مع الإمام، فإن فاتته يصلي أربعًا ظهرًا إن شاء وحده وإن شاء بجماعة. ووقتها قبل الزوال في الوقت الذي تقام فيه صلاة العيد، وقال بعض أصحابنا: في

(فصل) وأما صلاة العيدين

الساعة الخامسة. ومن شرط انعقادها حضور أربعين رجلًا ممن تجب عليهم الجمعة، وفي رواية خمسون، وفي رواية ثلاثة. ويسن الجهر بالقراءة فيها، وأن تكون سورة الجمعة بعد الفاتحة في الأولى، وسورة المنافقين في الثانية. وهل يشترط إذن الإمام؟ على روايتين ومن شرطها الخطبتان، وليس لها سنة قبلها، وأما بعدها فأقلها ركعتان، وأكثرها ست ركعات، مروي ذلك في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقد قال بعض العلماء بالله عز وجل: يستحب أن يصلي قبل صلاة الجمعة اثنتي عشرة ركعة وبعدها ست ركعات. ويجتنب البيع والشراء بعد الآذان عند المنبر لقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع] [الجمعة: 9] وهذا هو الآذان الذي كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو واجب عندنا، ولغير هذه الصلاة فرض على الكفاية، وروي عنه أنه سنة. وأما أذان المنارة أمر به عثمان بن عفان -رضي الله عنه- في زمانه لمصلحة عامة، وهي إعلام الغائبين عن الأمصار والقرى فلا يبطل البيع ولا الشراء. ويستحب أن يصلي إذا دخل الجامع، وكان في الوقت سعة أربع ركعات يقرأ فيهن {قل هو الله أحد ...} مائتي مرة، في كل ركعة خمسين مرة، فإنه مروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من فعل ذلك لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة أو يرى له"، رواه ابن عمر -رضي الله عنهما-. وإذا دخل الجامع فلا يجلس حتى يصلي ركعتين قبل أن يجلس، وقد ذكرنا فضائل الجمعة وصفة الخروج إلى الجامع وجميع ما يتعلق بذلك فيما تقدم. * * * (فصل) وأما صلاة العيدين: ففرض على الكفاية إذا قام بها جماعة من أهل موضع سقطت عن الباقين، فإن اتفقوا على تركها قاتلهم الإمام حتى يتوبوا.

وأول وقتها إذا ارتفعت الشمس وآخره إذا زالت، ويستحب تقديمها في عيد الأضحى لأجل الأضحية، وتأخيرها في عيد الفطر لعدم ذلك. ومن شرطها: الاستيطان والعدد وإذن الإمام كالجمعة، وعن إمامنا أحمد رحمه الله رواية أخرى أنه لا يشترط جميع ذلك، وهو مذهب الإمام الشافعي رحمه الله. ويستحب المباكرة إليها ولبس الثياب الفاخرة والتطيب كما قلنا في فضائل الجمعة من قبل. والأولى أن تقام في الصحراء، وتكره في الجامع إلا لعذر، ولا بأس بحضور النساء، والأولى أن يكون خروجه ماشيًا، وأن يرجع في طريق آخر، وقد ذكرنا العلة في ذلك في فضائل العيد، وينادي لها: الصلاة جامعة. وهي ركعتان يكبر في الأولى بعد تكبيرة الإحرام ودعاء الاستفتاح ست تكبيرات، وفي الثانية بعد قيامه من السجود خمس تكبيرات، يرفع يديه مع كل تكبيرة ويقول: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا، وصلوات الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم تسليمًا. فإذا فرغ من التكبير استعاذ وقرأ الفاتحة، وقرأ {سبح اسم ربك الأعلى ...} [الأعلى: 1] وفي الثانية {هل أتاك حديث الغاشية ...} [الغاشية: 1]. وإن قرأ في الأولى {ق والقرآن المجيد ...} [ق: 1] وفي الثانية {اقتربت الساعة وانشق القمر ...} [القمر: 1] فهي رواية منقولة عن إمامنا أحمد رحمه الله، وإن قرأ غير ذلك جاز. وكذلك في تأخير الاستفتاح إلى حين القراءة روايتان: إحداهما: يستفتح عقيب تكبيرة الإحرام، والأخرى: يؤخر مع التعوذ إلى حين القراءة. وإذا صلى العيد لا يشتغل بالنوافل من الصلاة، وكذلك لا يصلي قبلها، بل يرجع إلى أهله ويجمع شملهم بحضوره، ويحسن خلقه مع أهله، ويجتهد في التوسعة عليهم في النفقة لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيام العيد أيام أكل وشرب وبعال". وهذا عام في يومي العيدين وأيام التشريق، وإن صلوها في المسجد جاز.

(فصل) وأما صلاة الاستسقاء

فإذا دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين تحية المسجد لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يأتي بركعتين ... ". وهذا عام في يومي العيد وغيره. وإنما نص إمامنا أحمد على منع التنفل إذا كان في المصلة، لأنه مروي من غير وجه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يصل قبل ولا بعد، وهو قول عمر وعبد الله بن عباس وابن عمر -رضي الله عنهم. وصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت في المصلى في الجبانة، ولو كانت في المسجد لما كان -صلى الله عليه وسلم- يترك تحية المسجد. فإن فاته جميع صلاة العيد استحب له قضاؤها وهو مخير في ذلك بين أن يصلي أربعًا كصلاة الضحى بغير تكبير، أو بتكبير كهيئتها، فيجمع أهله وأصحابه كل ذلك إليه، وله بذلك فضل كثير. * * * (فصل) وأما صلاة الاستسقاء: فسنة تقام، يخرج لها الإمام كما يخرج للعيدين ضحوة، فهي كصلاة العيدين في جميع صفاتها وموضعها وأحكامها. ويستحب له التنظيف والتطهر من جميع الأحداث والأوساخ، غير أنه لا يستحب التطيب، لأنها حالة الافتقار والتذلل وطلب الحاجة، ولهذا يستحب الخروج إليها بثياب البللة مع الخشوع والتضرع والاستكانة والانكسار والحزن، وأن يخرج معهم الشيوخ والعجائز والصبيان وأصحاب العاهات، وأن يخرجوا من المظالم والحقوق من الغصوب وغيرها، ولله عز وجل من الزكوات والنذور والكفارات، ويكثروا الصدقة والصيام، ويجددوا التوبة، ويعزموا على المداومة عليها إلى الممات، ولا يبارزوا الرب سبحانه بكبيرة من الذنوب ولا صغيرة زيستحيوا منه عز وجل في الخلوات، إذ لا خلوة منه، فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، هو عالم بالسر والخفيات. وكذلك يستحب أن يتوسلوا بالزهاد والصالحين وأهل العلم والفضل والدين، لما روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خرج يستسقى، فأخذ بيد العباس -رضي الله عنه-

فاستقبل القبلة به فقال: اللهم هذا عم نبيك جئنا نتوسل به إليك فاسقنا به. قال: فما رجعوا حتى سقوا. لأن منع القطر وحبسه عقوبة ومقابلة عن شؤم معاصي بني آدم. ولهذا "إذا مات الكافر وقبر وجاءه منكر ونكير وسألاه عن ربه ونبيه ودينه ولم يقدر على الجواب، يضربانه بمرزبة فيصيح صيحة فلا يسمعها الخلائق غير الجن والإنس، فيلعنه كل شيء حتى شاة القصاب والسكين على حلقها، فتقول: لعنة الله هذا الذي كنا نمنع القطر لأجله، وهو قوله عز وجل: {أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} [البقرة: 159] فالآدمي إذا فسد تعدى فساده إلى كل شيء من الحيوانات، وإذا صلح تعدى صلاحه إلى كل شيء، ففساده لمعصيته لربه، وصلاحه لطاعته له عز وجل. فيصلي الإمام أو نائبه بالناس ركعتين بغير أذان ولا إقامة، يكبر في الأولى ستًا سوى تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمسًا سوى تكبيرة القيام من السجود، على ما ذكرنا في العيد، ويذكر الله عز وجل بين كل تكبيرتين كذلك، فإذا صلى خطب بهم، وإن خطب قبل الصلاة جاز في رواية، وعنه: أنه مخير في ذلك. ونقل عنه رحمه الله أنه لا يسن لها الخطبة، وإنما يدعو فحسب، فيفعل الإمام من ذلك ما يتيسر عليه، فإذا خطب افتتحها بالتكبير كما يفعل في خطبة العيد، ويكثر الصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويقرأ في خطبته {فقلت استغفروا ربكم أنه كان غفارًا * يرسل السماء عليكم مدرارًا} [نوح: 10 - 11]. فإذا فرغ من الخطبة استقبل القبلة، فحول رداءه فجعل على ما كان على منكبه الأيمن على الأيسر، وما على الأيسر على الأيمن ولا ينكسه، وليفعل الناس كذلك، ويتركونه حتى يرجعوا إلى أهلهم، فينزعونه مع ثيابهم، يفعلونه تفاؤلًا لتحول القحط، ولأن السنة بذلك وردت، وهو ما روي عباد بن تميم، عن عمه -رضي الله عنه- "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج بالناس يستسقى، فصلى بهم ركعتين، جهر بالقراءة فيهما، وحول رداءه ودعا واستسقى واستقبل القبلة".

(فصل) وأما صلاة الكسوف

ثم يرفع يديه فيستقبل القبلة فيدعو بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا مريئًا هنيئًا مريعًا غدقًا مجللًا، وروى مجللًا عامًا طبقًا سحًا دائمًا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا محق ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهم إن بالبلاد والعباد والخلق من اللأواء والبلاء والجهد والضنك ما لا يشكي إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركة السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا" ويدعو مثل ذلك: اللهم إنك أمرتنا بدعائك، ووعدتنا إجابتك، فقد دعونا كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا. وقيل: إنه يستقبل القبلة في أثناء الخطبة ويتمها مستقبل القبلة، ثم يردفها بالدعاء: والأولى ما قلنا من أنه إذا فرغ من الخطبة استقبل القبلة، لأن الخطبة وعظ وزجر وتخويف، وذلك إنما يحصل إذا واجه الناس واستقبلهم ليبلغ إلى أسماعهم وقلوبهم، وأما إذا استقبل القبلة فقد استدبرهم وقد كان بين أيديهم حين صلى بهم. * * * (فصل) وأما صلاة الكسوف: فهي سنة مؤكدة، ووقتها من حين الكسوف إلى حين التجلي ورد نورهما إليهما، يعني إذا كسفت الشمس وخسف القمر، فمن حين يبتدئ ظهور السواد والكدر ونقصان الشعاع يدخل وقت الصلاة إلى أن يزول ذلك، فإذا زال، زال وقت الصلاة. والسنة أن تصلي في الجامع موضع صلاة الجمعة، وينادي لها الصلاة جامعة، فيصلي بهم الإمام ركعتين، يحرم بالأولى ويستفتح ويستعيذ، ويقرأ الفاتحة، ثم يقرأ سورة البقرة، ثم يركع فيطيل الركوع، يكرر فيه التسبيح بقدر مائة آية، ثم يرفع رأسه قائلًا: سمع الله لمن حمده، ثم يقرأ الفاتحة وآل عمران، ثم يركع دون الركوع الأول، ثم يرفع رأسه كذلك، ثم يسجد سجدتين طويلتين يسبح في كل واحدة بقدر مائة آية، ثم يقوم إلى الثانية فيقرأ الفاتحة، ويقرأ سورة النساء، ثم يركع فيطيل، ثم يرفع ويقرأ الفاتحة والمائدة.

(فصل) وأما صلاة الخوف

وإن لم يحسن هذه السور قرأ من غيرها من سور القرآن بعدد آياتها، فإن لم يحسن إلا {قل هو الله أحد ...} قرأها على التفصيل كذلك. فتكون قراءته في القيام الثاني كثلثي قراءته في القيام الأول، وتكون قراءته في القيام الثالث وهو إذا رفع من السجود إلى القيام كنصف قراءته في القيام الأول، وتكون قراءته في القيام الأخير وهو الرابع كثلثي القيام الثالث، وهو الذي قبله، وأما التسبيح فهو كثلثي قراءته في كل قيام، ويركع بعده من غير خلف، ثم يسلم، فتكون أربع ركعات وأربع سجدات، ويزيد في كل ركعة ركوعًا واحدًا، وإن انجلى والناس في الصلاة استحب تخفيفها ولا يقطعونها، ومن أراد أن يصليها وحده في بيته أو مع أهله جاز. والأولى ما ذكرنا. والأصل في صلاة الكسوف على ما بينا ما روى عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- المصلى، فكبر وكبر الناس، ثم قرأ فجهر بالقراءة، وأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده، فقرأ وأطال القراءة، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه، ثم سجد، ثم رفع رأسه، ثم سجد، ثم قام، ففعل في الثانية مثل ذلك، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة". * * * (فصل) وأما صلاة الخوف: فجائز فعلها بشرائط أربع: أحدها: أن يكون العدو مباح القتال. والثاني: أن يكون في غير جهة القبلة. والثالث: ألا يؤمن هجومه. والرابع: أن يكون في القوم كثرة يمكن تفرقتهم طائفتين، فيحصل في كل طائفة ثلاثة فصاعدًا، فيجعل إحدى الطائفتين بأزاء العدو، والأخرى خلفه، فيصلي بها ركعة فإذا قام إلى الثانية فارقته الطائفة وصلت الركعة لأنفسها ناوية للمفارقة، لأنه لا يجور للمأموم أن يفارق إمامه إلا بنية، فتسلم وتمضي إلى وجه العدو، فتأتي الطائفة الأخرى

فتحرم بالصلاة خلف الإمام فتصلي معه الركعة، ويجلس الإمام وتقوم هي فتصلي الركعة الأولى، وتجلس وتتشهد ويسلم بهم الإمام، غير أنه يطيل القراءة في الركعة الثانية بقدر ما تتم الطائفة الأولى الركعة الثانية وتمضي إلى أصحابها، وتأتي الطائفة الأخرى فتحرم معه، ويطيل التشهد في حق الطائفة الثانية حتى تتم الركعة التي عليها وتدركه في التشهد، فيسلم بها، وتحصل له فضيلة السلام مع الإمام وللأولى فضيلة التحريم مع الإمام، هكذا صلاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمسلمين في العزات بذات الرقاع. وقد قال -صلى الله عليه وسلم- في حديث سهل بن أبي خيثمة -رضي الله عنه- "يقوم الإمام وصف خلفه، وصف بين يديه، فيصلي بالذين خلفه ركعة وسجدتين، ثم يقوم قائمًا حتى يصلوا لأنفسهم ركعة أخرى، ثم يتقدم أولئك مكان هؤلاء، ثم يجيء أولئك فيقومون مقام هؤلاء، فيصلي بهم ركعة وسجدتين، ثم يقعد حتى يقضوا ركعة أخرى، ثم يسلم بهم". وقد روي عن إمامنا رحمه الله ما يدل على جواز تأخير الصلاة في حالة التحام القتال والمطاردة إلى حين زوالها ووضع الحرب أوزارها. فهذا الذي ذكرناه من صفة صلاة الخوف في صلاة الفجر، والرباعية إذا قصرت في السفر. وأما المغرب فيصلي بالطائفة الأولى ركعتين، وبالثانية ركعة، ولا ينقص منها شيء لأنها لا تقصر. فإذا جلس في التشهد الأول فهل تفارقه الطائفة أو حين يقوم إلى الثالثة؟ على وجهين، وإن خاف بالحضر صلى بكل طائفة ركعتين، وتقضي لأنفسها ركعتين، وإن فرقهم أربع فرق لم تصلح صلاته وصلاة الفرقة الثالثة والرابعة، وهل تبطل صلاة الأولى والثانية؟ على وجهين. هذا الذي ذكرناه إذا كان العدو وراء القبلة أو عن يمينها وشمالها، وأما إذا كان في جهة القبلة فيرى بعضهم بعضًا، ولا يتوهم هناك كمين لهم، جاز أن يصلي بهم صلاة الخوف، فيجعلهم صفين أو ثلاثة على قدر كثرتهم وقلتهم، ويحرم بهم أجمعين،

(فصل) وأما قصر الصلاة

فيصلي الركعة الأولى، فإذا أراد السجود وسجد الجميع إلا الصف الأول الذي يليه، فإنه يقف فيحرسهم حتى يقوموا إلى الركعة الثانية ثم يسجد فيلحقهم قيامًا، فإذا سجد الإمام في الركعة الثانية وقف الصف الأول الذي سجد معه في الركعة الأولى، فيحرسهم إلى أن يجلس الإمام في التشهد، ثم يلحقه في التشهد فيتبعه، فيسلم بالجميع هكذا روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه صلاها بعسفان". وإن تأخر في الركعة الثانية الصف الأول وتقدم الصف الثاني إلى مكان الأول فيحرس جاز. وإن اشتد الخوف والتحم القتال صلوا جماعة وفرادى على أي حال أمكنهم، رجالًا، وركبانًا، مستقبلي القبلة، ومستدبريها، إيماء وغير إيماء، وهل عليهم افتتاح الصلاة متوجهين إلى القبلة أم لا؟ على روايتين. فإن حصل الأمن وانكسر العدو بنوا على صلاتهم ونزلوا من دوابهم متوجهين، وإن شرعوا في الصلاة مطمئنين ثم اشتد الخوف ركبوا وأتموا صلاة خوف، وإن احتاجوا إلى الضرب والطعن والكر والفر. وتجوز هذه الصلاة لكل خائف من عدو، كالسبع والسيل وقطاع الطريق وغير ذلك. وكذلك إذا كان طالبًا للعدو ويخاف فوته عند هزيمته يصليها على إحدى الروايتين. * * * (فصل) وأما قصر الصلاة: فجائز إذا جاوز بيوت قريته أو خيام قومه، فيقصر الرباعية فيصليها ركعتين إذا كان سفره طويلًا، وهو ستة عشر فرسخًا أربعة برد، وهي ثمانية وأربعون ميلًا بالهاشمي، والبريد الواحد أربعة فراسخ، فيقصر مارًا وجائيًا. فإن دخل بلدة أو قرية فنوى الإقامة فيها اثنتين وعشرين صلاة أتم، وكان حكمه حكم المقيم، وإن نوى إحدى وعشرين صلاة فعلى روايتين، ودون ذلك قصر. وإن نزل بلدة ولم يدر متى يرتحل ولا نية له بل قال اليوم أخرج، وغدًا أخرج قصر بهما، لما روي "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقام بمكة ثمانية عشر يومًا، وقيل: خمسة عشر يومًا يقصر".

وفي حديث عمران بن الحصين -رضي الله عنهما-: "شهدت الفتح مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكان لا يصلي إلا ركعتين، ثم يقول لأهل البلد: صلوا أربعًا فإنا قوم سفر". وأقام -صلى الله عليه وسلم- بتبوك عشرين يومًا يقصر، وكذلك الصحابة -رضي الله عنهم-. قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أقام أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برامهرمز سبعة أشهر يقصرون الصلاة. وروي أن ابن عمر رضي الله عنهما أقام بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين. وإن أحرم بالصلاة وهو مقيم ثم صار مسافرًا بأن كان بمركب إلى جنب بلده في حدودها داخلًا من حيطانها وسورها، ثم دفع الملاح المركب فخرج من حدودها لزمه الإتمام. وكذلك لو أحرم في السفر ثم أقام ببلد أو ائتم بمقيم أو بمن يشك هل هو مقيم أو مسافر، ولم ينو القصر عند شروعه فيها لزمه الإتمام في جميع ذلك. ولا يجوز القصر إذا كان قاضيًا للصلاة لأنها قد ثبتت في ذمته كاملة، ولا يؤثر السفر إلا في الأداء خاصة. وإذا أحرم بنية القصر ثم نوى الإقامة أتم، وكذلك إن أحرم وهو مقيم ثم نوى السفر أتم، وكذلك إن كان سفره معصية أو لعبًا ونزهة لا يستبيح رخص السفر، ولا يستبيح ذلك إلا إذا سافر لواجب كالحج والجهاد، أو مباح كتجارة أو طلب غريم وما شاكله، وإذا أبحنا للعاصي رخص السفر فقد أعناه على معصية ربه، وعلى قتل نفسه فإن هلاكه بمعصية ربه وبقاءه وصلاحه بطاعته، فلا نقويه على ذلك، ولا نعينه، بل نمنعه ونكسره. والقصر عند إمامنا أحمد رحمه الله أفضل من الإتمام، وله الإتمام والقصر كما له الصيام والفطر، وترك التجلد على الله عز وجل في جميع ذلك واتباع رخصه ورفقه أولى. ولو لم يكن في إتمامه للصلاة وصيامه في السفر غير رؤيته للنفس وعجبه وماهاته وتعظيمه ذلك، وفي قصره وإفطاره من ذل النفس وانكسارها وخضوعها لترك تمام العبادة والعزيمة، لكان بالحرى أن يقال: إن القصر والفطر أولى، كيف وقد قال -صلى الله عليه وسلم- لما قيل له في قصر الصلاة: "ما لنا نقصر وقد أمنا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: تلك صدقة تصدق الله بها

(فصل) وأما الجمع بين الصلاتين

على عباده فاقبلوا صدقته". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه". فالعجب كل العجب ممن يتم الصلاة في السفر ويصوم فيه، ويترك الرخص، وهو يرتكب الكبائر من أكل الحرام وشرب المسكر ولبس الحرير والزنا واللواطة، واعتقاد السوء في الأصول وغير ذلك من العظائم. * * * (فصل) وأما الجمع بين الصلاتين: فجائز بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في السفر، بشرط أن يكون السفر طويلًا، وهو ستة عشر فرسخًا على ما بينا. ولا يجوز ذلك في القصير، وهو ما دون ذلك، وهو مخير بين تأخير الأولى إلى تقديم الثانية، إلى وقت الأولى. والاستحباب في التأخير وهو أن يؤخر الأولى ويقدم الثانية، فيصليها في أول وقت الثانية، فإن صلاهما في وقت الأولى قدم الأولى منهما ثم الثانية، ونوى الجمع عند الإحرام بالأولى، ولا يفرق بينهما إلا بقدر الإقامة والوضوء إن انتقض وضوءه، وإن صلى بينهما سنة الصلاة بطل الجمع في إحدى الروايتين، والأخرى: لا يبطل، والأولى أن يؤخر السنة إلى بعد الفراغ من الفرض، ولا يفصلها بشيء، وإن جمع في وقت الثانية فنيته في وقت الأولى تجزيه، ولا يفتقر إلى تجديد النية عند فعلهما، لأنه ما أخر الأولى إلا ليجمع بينها وبين الثانية ولا فرق بين أن ينوي ذلك في أول وقت الأولى، أو إذا بقى منه مقدار فعلها، فإن خرج وقت الأولى من غير نية الجمع لم يجز الجمع بينهما، وإذا جمع في وقت الثانية قدم الأولى ثم الثانية، كما لو صلاهما في وقت الأولى، وهي يشترط ألا يفرق بينهما بسنة وغيرها على وجهين، ومن أصحابنا من قال إن الجمع والقصر لا يفتقران إلى نية، وهو أبو بكر رحمه الله. وأما الجمع لأجل المطر فيجوز بين المغرب والعشاء، وهل يجوز بين الظهر والعصر على وجهين.

(فصل) وأما الصلاة على الجنازة

وكذلك الحكم في الوحل المجرد من غير مطر أو ريح شديدة باردة، هل يجوز الجمع لأجله؟ على وجهين. فإذا جمع نظرنا، فإن كان ذلك في وقت الأولى لأجل المطر اعتبر أن يكون المطر موجودًا عند افتتاح الأولى، وعند الفراغ منها وافتتاح الثانية، وإن كان ذلك في وقت الثانية جاز، سواء كان المطر قائمًا أو قد انقطع لأنه قد أخر الأولى، بسبب العذر، فلا يؤثر زواله، لأن أول الوقت قد فات وانقضى فلا يمكن تلافيه وإدراكه. وإنما جوزنا له الجمع لأجل المشقة اللاحقة بالناس من بل الثياب والحذاء والأذية، فيشق على الناس الدخول والخروج، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال" مروي ذلك في الصحيحين. وكذلك عندنا حكم المريض حكم المسافر في الجمع، لأن الله تعالى جمع بينهما وذكرهما في كلام واحد، فقال عز وجل: {فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة: 184] فالعلة في التخفيف: العجز والمشقة، وذلك في المريض آكد وأظهر وبه أحق، لأن المسافر قد يكون مرفهًا مدللًا محمولًا متفرجًا قويًا نشيطًا في سفره أكثر مما كان في الحضر لغناه وسلطته وقدرته، ومع ذلك تتباح له الرخص، والمريض بخلافه، فكان أولى بالرخص من المسافر. * * * (فصل) وأما الصلاة على الجنازة: فهي فرض على الكفاية، وأولى الناس بها عندنا وصية ثم السلطان، ثم الأقرب فالأقرب من عصباته، فيقف الإمام حذاء صدر الرجل ووسط المرأة، وإن كانوا جماعة سوى بين رؤوسهم، وإن كانوا أنواعًا قدم أفضلهم مما يلي الإمام، مثل أن يكونوا رجالًا ونساء وعبيدًا وخناثى وصبيانًا، قدم الرجال ثم العبيد ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء، وروي عنه تقديم الصبيان على العبيد. ثم ينظر في الأنواع فيقدم مما يلي الإمام من كل نوع أفضلهم في العلم والقرآن والدين والورع.

وقيل: إذا اجتمع رجل وامرأة جعل وسط المرأة حذاء صدر الرجل. وإذا وقف الإمام التفت يمينًا وشمالًا وسوى الصفوف كفعله في بقية الصلوات، واستغفر الله تعالى وتاب من ذنوبه وذكر مصرعه والدار الآخرة، ويتحقق أنه كأس لابد من شربه، وأنه سيدور إليه ولا يفوته، فليحضر قلبه وليخشع جوارحه ليكون أسرع لإجابة دعائه، ثم يصلي على الميت. وصفتها أن يقول: أصلي على هذا الميت فرضًا على الكفاية، ولا يحتاج أن يذكر ذكرًا أو أنثى، فيكبر أربع تكبيرات يقرأ في الأولى الفاتحة، لما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نقرأ بفاتحة الكتاب على الجنازة". وفي لفظ آخر كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب. ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- في الثانية كما يصلي عليه في التشهد، لما روى مجاهد رحمه الله قال: سألت ثمانية عشر رجلًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة على الجنازة، فكلهم يقول: كبر ثم اقرأ فاتحة الكتاب ثم كبر، ثم صل على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم كبر، وادع للميت في الثالثة بما تحسنه وتيسر عليك من أنواع الدعاء ولنفسك ولوالديك وللمسلمين. غير أن المستحب أن يقول: "اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة، ومن توفيته منا فتوفه عليهما، إنك تعلم منقلبنا ومثوانا وأنت على كل شيء قدير. اللهم إنه عبدك وابن عبدك، نزل بك وأنت خير منزول به، ولا نعلم إلا خيرًا. اللهم إن كان محسنًا فجازه بإحسانه، وإن كان مسيئًا فتجاوز عنه. اللهم إنا جئناك شفعاء له فشفعنا فيه، وقه من فتنة القبر وعذاب النار، واعف عنه وأكرم مثواه، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وجوارًا خيرًا من جواره، وافعل ذلك بنا وبجميع المسلمين، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتناً بعده".

ويقول في الرابعة: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} [البقرة: 201]. ومن أصحابنا من قال: يقف قليلاً ولا يقول شيئاً، ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه، وإن سلم بتسليمتين جاز، وهو مذهب الإمام الشافعي -رحمه الله-. والتسليمة الواحدة الاختيار عند إمامنا أحمد -رحمه الله-، قال -رضي الله عنه-: يروى عن ستة من الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم سلموا على الجنازة تسليمة واحدة فهم علي ابن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وابن عمر، وابن أبي أوفى، وأبو هريرة، وواثلة ابن الأسقع -رضي الله عنهم-. وروي أيضاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنه صلى على جنازة فسلم عن يمينه". وإن أراد غير هذا الدعاء دعا وقال: الحمد لله الذي أمات وأحيا، والحمد لله الذي يحيي الموتى، له العظمة والكبرياء والملك والقدرة والثاء، وهو على كل شيء قدير. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت ورحمت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم إنه عبدك وابن عبدك وابن أمتك، أنت خلقته ورزقته، وأنت أمته وأنت تحييه وأنت تعلم بسره، جئناك شفعاء له فشفعنا فيه. اللهم إنا نستجير بحبل جوارك له، إنك ذو وفاء وذمة. اللهم قه من فتنة القبر ومن عذاب جهنم. اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم مثواه ووسع مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأنزله داراً خيراً من داره، وزوجاً خيراً من زوجه، وأهلاً خيراً من أهله، وأدخله الجنة ونجه من النار. اللهم إن كان محسناً فجازه بإحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه. اللهم إنه قد نزل بك وأنت خير منزول به، وهو فقير إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه. اللهم ثبت عند مسألته منطقه، ولا تبتله في قبره بما لا طاقة به.

اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده. وإن كان امرأة قال: اللهم إنها أمتك وابنة عبدك وأمتك، ثم يتم الدعاء. وأحق الناس عند إمامنا أحمد -رحمه الله- بالصلاة عليه، من أوصى أن يصلى عليه، ثم الوالي، ثم أقرب العصبة الأب، وإن علا، ثم الابن وإن سفل، ثم أقرب العصبة. وهل يقدم الزوج على الابن؟ على روايتين. وقد أوصت الصحابة -رضي الله عنهم- بالصلاة عليهم، فروى أن أبا بكر -رضي الله عنه- وصى أن يصلى عليه عمر، وعمر -رضي الله عنه- وصى أن يصلى عليه صهيب -رضي الله عنه-، وكان ابنه عبد الله -رضي الله عنه- موجوداً، وأوصى أبو شريحة أن يصلى عليه زيد بن أرقم، وأوصى أبو ميسرة أن يصلى عليه شريح، ووصت عائشة -رضي الله عنها- إلى أبي هريرة -رضي الله عنه-، ووصت أم سلمة -رضي الله عنها- أن يصلى عليها سعيد بن جبير. وأما دعا الطفل فيقول: اللهم إنه عبدك وابن عبدك وابن أمتك، أنت خلقته ورزقته، وأنت أمته وأنت تحييه. اللهم اجعله لوالديه سلفاً وذخراً وفرطاً وأجراً، وثقل به موازينهما وعظم به أجورهما، ولا تحرمنا وإياهما أجره، ولا تفتنا وإياهما بعده. اللهم ألحقه بصالح سلف المؤمنين في كفالة إبراهيم، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وعافه من عذاب جهنم. اللهم اغفر لأفراطنا وأسلافنا ومن سبقنا بالإيمان، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الغيمان، واغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. وإنما يصلى على السقط ويغسل إذا كان قد تبين فيه خلق الإنسان، وأما إذا كان قطعة لحم لم يتبين فيها شيء من الخلقة فلا يغسل ولا يصلى عليها، بل يدفن. والذي يشرع غسله من ذلك لا فرق بين أن يغسله رجل أو امرأة، لما روى أن إبراهيم ابن النبي -صلى الله عليه وسلم- توفى وهو ابن ثمانية عشر شهراً فغسلته النساء. * * *

فصول فيما يفعل بمن حضره الموت وكيفية غسله وتكفينه وتحنيطه ودفنه

فصول فيما يفعل بمن حضره الموت وكيفية غسله وتكفينه وتحنيطه ودفنه (فصل) يستحب لكل مؤمن موقن بالموت عاقل محصل أن يكثر ذكر الموت. ويستعد له، ويكون على أهبة وترقب بتجديد التوبة كل ساعة، ومحاسبة نفسه والخروج من المظالم والديون، وكتب وصية معدة، ولا يكون غافلاً عن هذا الأمر المتيقن العام الشامل في حق جميع الأنام، الذي لابد من مجيئه وقدومه، وهو كأس لابد من شربه. وإنما قلنا يستحب له ذلك لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أكثروا من ذكر هادم اللذات". وفي لفظ آخر "أكثروا ذكر الموت فإنكم إن ذكرتموه في غنى كدره عليكم، وإن ذكرتموه في ضيق وسعه عليكم". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أتدرون أي الناس أكيس وأحزم؟ أكيسهم أكثرهم ذكراً للموت، وأحزمهم أكثرهم استعداداً له، قالوا: يا رسول الله وما علامة ذلك؟، قال: التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود". وقال لقمان -عليه السلام- لابنه: يا بني لا تؤخر التوبة إلى غد، فإن الموت يأتيك بغتة. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما حق امرئ له مال أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده". وجاء في الحديث "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا". وقال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اعمل

لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً". فليجتهد العاقل المؤمن في خلاص نفسه من الحقوق اللازمة عليه قبل الموت من الذنوب والمظالم والديون، فإن لم يفعل فليقطع وليتيقن أنه سيكون مرتهناً بها ومؤاخذاً ومعاقباً غداً في قبره حين تنقطع القوى وتبطل الحيل والحواس ويهجره الأهل والجيران، ويتظافر على ماله الأعداء والخلان من الرجال والنساء والولدان، فلا ينجيه من تبعتها إلا الأداء في الدنيا والاستحلال والتوبة والإذعان، أو تغمد الرحيم برأفته ورحمته إذ هو أرحم الراحمين، فيعوض أصحابها بما يشاء في دار الخلود والجنان. روى عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- أنه قال: "كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى على جنازة، فلما انصرف قال: هل هاهنا من آل فلان أحد؟ فقال رجل: أنا، فقال له -عليه الصلاة والسلام-: إن فلاناً مأسور بدينه، قال: فلقد رأيت أهله ومن يتحرق عليه قاموا يقضون عنه حتى ما بقي أحد يطلبه بشيء" وفي لفظ آخر قال: "إن فلاناً محبوس بباب الجنة بدين عليه". وعن علي -رضي الله عنه- أنه قال: "مات رجل من أهل الصفة فقيل: يا رسول الله ترك ديناراً ودرهماً، فقال -صلى الله عليه وسلم-: كيتان، صلوا على صاحبكم وكان ديناً عليه". وفي حديث آخر "شهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جنازة رجل من الأنصار فقال: أعليه دين؟ فقالوا: نعم، فرجع، فقال علي -رضي الله عنه-: أنا ضامن ما عليه، فرجع فصلى عليه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: يا علي فك الله رقبتك كما فككت عن أخيك المسلم، ما من رجل يفك عن رجل دينه إلا فكه الله به يوم القيامة". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يؤخذ للشاة الجماء من الشاة القرناء". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والظلم فإنه ظلمات يوم القيامة، وإياكم والفحش فإن الله لا

(فصل) فإذا مرض المؤمن استحبت عيادته

يحب الفحش، وإياكم والشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا ثم أمرهم بالظلم فظلموا". (فصل) فإذا مرض المؤمن استحبت عيادته. فإذا عاده أخوه المسلم نظر في حاله فإن رجا خلاصه من مرضه دعا له وانصرف، وإن خاف موته رغبة في التوبة من الذنوب والوصية بثلث ماله لمن لم يرثه من الأقارب الفقراء منهم، فإن كانوا أغنياء فللفقراء والمساكين وأهل العلم والفضل والدين المنقطعين عن الأسباب الذي قطعهم عنها القدر، وضيق الورع عليهم التحرك فيها، فانقلبت الأسباب عندهم أرباباً، فتركوها ونزهوا الرب سبحانه عن أن يكون له شريك، يرجعون إليه في الرزق، فصار مالهم الثقة بالحق عز وجل، واليأس مما في أيدي الناس، فسلم توحيدهم وانساقت أقسامهم إليهم صفواً عفواً من غير تبعة في الدنيا ولا عقوبة في الأخرى، فيا طوبى لمن أنالهم بنوال، أو حذاهم بحذايا، أو واصلهم بفضل، أو خدمهم يوماً من الأيام، أو أمن على دعائهم ساعة من الساعات، أو أحسن القول فيهم حالة من الأحوال، طوبى له طوبى له، وذلك لأنهم أهل الله وخاصته، فهل يدخل على الملك إلا خاصته، وهل يحذى من السلطان إلا بطريق حواشيه وخدمه من صادق الحواشي والخدم وأحسن إليهم وخدم، يوشك أن يوقفوه على الملك الأعظم، ثم كل منهم يذكر ما عنده من خير خصاله ومآثره، ثم ينعم الملك عليه بما يراه من نعمه وفضائله. فإذا ظهرت إمارة الموت استحب لأهله أن يلزموه أرفقهم به وأعرفهم بأخلاقه وسياسته، وأتقاهم لربه، ليذكره بالله عز وجل، ويحثه على ما ذكرنا من طاعته، ويتعاهد بل حلقه بأن يقطر فيه ماء أو شراباً ويندى شفتيه بقطنة، ويلقنه قول لا إله إلا الله مرة، ولا يزيد على ثلاث لئلا يضجر ويسأم، فتخرج روحه وهو متكره لذلك، فإن لقنه ثم تكلم بشيء غيره، أعاد تلقينه ليكون آخر كلامه. قال النبي -صلى لله عليه وسلم-: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة". ويكون تلقينه بلطف ومداراة.

(فصل) ثم يسارع في غسله وتجهيزه وتكفينه ودفنه

وينبغي أن يقرأ عده سورة يس لتكون عونا على خروج روحه وتسهيله عليه. فإذا خرجت روحه وجهه إلى القبلة على ظهره طولاً، بحيث إذا أقعد كان وجهه إليها، ثم يبادر فيغمض عينيه لما روى شداد بن أوس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا حضرتم موتاكم فأغمضوهم، فأن البصر يتبع الروح وقولوا خيراً، فإنه يؤمن على ما قال أهل البيت ثم يشد لحييه". وصفته ما روى أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال لابنه عبد الله -رضي الله عنه- حين حضرته الوفاة ادن مني، فإذا رأيت روحي قد بلغت لهاتي فضع كفك اليمنى على جبهتي واليسرى تحت ذقني وأغمضني، ثم يلين مفاصله بأن يرد ذراعيه حتى يلصقهما بعضديه، ثم يردهما ويرد ساقيه إلى فخذيه، وفخذيه إلى بطنه، ثم يردهما ويخلع ثياببه ويسجيه بثوب يستر جميعه، لأنه يصير جميعه عورة بالموت، ولهذا يجب ستر جميعه بالكفن، ويجعل على بطنه مرآة أو سيفاً، لأن الميت إذا خرجت روحه يعلو وينتفخ، ثم يوضع على سرير غسله متوجهاً منحدراً نحو رجليه، ثم يسارع إلى قضاء دينه وإبراء ذمته من الديون والوصايا حتى يلقى ربه برئ الذمة من المظالم، مخلصاً من الحقوق والجواذب. (فصل) ثم يسارع في غسله وتجهيزه وتكفينه ودفنه. إلا أن يكون موته فجأة، فيتوقف عن ذلك حتى يتيقن موته، فتنفصل كفاه وتسترخي رجلاه، ويسيل أنفه، وتنخسف صدغاه، ثم يسرع في ذلك. أما صفة الغسل فيبدأ الغاسل فيجرد الميت ويستره من سرته إلى ركبتيه، لأنه أمكن له وأعون على مبالغة غسله، ويغض بصره مهما أمكن لاسيما من عورته. وقيل إن الأفضل أن يغسله في قميص خفيف واسع، وإن كان ضيقاً فتق رأس الدخاريص، ثم يلين مفاصله برفق إن سهلت عليه، وإلا فليدعها لأنه ربنا آل ذلك إلى كسرها، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كسر عظم الميت ككسره حياً" ثم يحنيه قليلاً إلى أن يبلغ به قريباً من الجلوس، ثم يعصر بطنه عصراً رفيقاً، ثم يلف على يده خرقة وينحيه كي لا يباشر عورته بيده، ولأن الخرقة أبلغ في إزالة النجاسة لخشونتها، فكذلك

يستحب ألا يباشر بقية بدنه إلا بخرقة، ويتابع في صب الماء على يده، ثم يرمى بالخرقة ويأخذ غيرها نظيفة، كذلك إلى ثلاث، ثم يلقى الخرقة ويغسل يده ثم يوضئه وضوءه، للصلاة مرتباً، فينوي ويسمي ويدخل أصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه، فيمسح أسنانه، وكذلك في منخريه فينظفهما، ويصب الماء على فيه وأنفه كالمضمضة والاستنشاق، من غير أن يدخل الماء في فيه وأنفه إلى آخر الأعضاء. فإذا فرغ من ذلك غسل رأسه بماء وسدر، ثم لحيته، ولا يسرح شعره، ثم يصب عليه الماء القراح من رأسه إلى رجليه، ويغسل شقه الأيمن، ثم يقلبه شمالاً فيغسل شقه الأيسر، وكذلك يغسل سائر جسده بالماء والسدر في الغسلات كلها، ولكن ينظفه عقيب كل غسلة بالسدر وبالماء القراح، فإن احتاج إلى أشنان لغسل وسخ وخلال لتنقية ما تحت الأظافير استعملها، ويلف القطن على الخلال فيزيل ما بأنفه وصماخيه من الأذى وينظفهما، ثم يرجع فينحيه، ثم يعيد وضوءه ثانية على ما ذكرنا ثم يغسله الأخيرة بماء فيه كافور، ثم ينشفه بثوب. وأقل ما يغسل الميت ثلاث مرات، وأكثره سبع مرات، فإذا لم ينق بثلاث؟ إلى سبع، ولا يقطع إلا على وتر، ثلاث أو خمس أو سبع. وإن خرج منه شيء بعد ذلك أعيد عليه الغسل إلى سبع مرات، فإن لم يمنع ذلك خروجه حشي بالقطن وألجم به وبالطين الحر. وقال بعض أصحابنا: لا يحشى لأن الإمام أحمد -رحمه الله- كرهه. وقيل: إنه إذا خرج شيء منه بعد تمام الغسل لم يعد إلى الغسل، بل يغسل موضع النجاسة ثم يوضأ وضوءه للصلاة وكفن وحمل. والأولى أن يغسل المرة الأولى بماء وسدر، وبقية الغسلات بالماء القراح كغسل الجنابة، ويكون الكافور في الآخرة، ثم ينشف ويكفن. وأما تكفينه فإنه يكفن في ثلاثة أثواب، يدرج فيها إدراجاً، وتكون لفائف بيض لا يكون فيها قميص ولا مئزر ولا سراويل ولا شيء مخيط، إلا اللفائف فتخاط لضيق عرض الثوب وصغره، فيبسط بعضها فوق بعض بعد أن تجمر بالعود والند والكافور، ويجعل الطيب بين كل لفافتين. وقيل: إنه يكفن في قميص ومئزر ولفافة، ويكون المئزر مما يلي جلده، ولم يزر

القميص عليه، وثلاثة أثواب أفضل لما روى عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كفن في ثلاث أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة" وقد صحح الإمام أحمد -رحمه الله- حديث عائشة -رضي الله عنها- وبني مذهبه عليه. ثم يجعل الطيب وهو الحنوط والكافور في قطن فيجعل منه بين إليتيه ويشد فوقه خرقة، ويجعل باقية في مواضع سجوده ومغابنه كالفخذين وتحت إبطيه ومنافذ وجهه وصماخيه وجبينه وركبتيه وكفيه وظاهر عينيه، ولا يدخله في عينيه، وإن خاف الانتقاض وخروج ما في الباطن إلى الظاهر حشا داخل أنفه وصماخيه بالقطن والكافور، وإن طيب جميع جسده بالكافور والصندل كان أحسن. وروى نافع أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان يتبع مغابن الميت ومرافقة بالمسك، ثم يأتي بالميت وبطرحه على اللفائف ويثنى طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن ثم يرد طرفها الآخر على شقه الأيسر ويدرجه فيه إدراجاً ثم يفعل بالثانية والثالثة كذلك، فيجعل ما عند رأسه أكثر مما عند رجليه، ثم يجمع ذلك جمع طرف العمامة فيعيده على وجهه ورجليهن إلا أن يخاف انتشارها فيعقدها، ثم إذا وضع في القبر حلها ولم يخرق الكفن. وأما المرأة فإنه تكفن في خمسة أثواب: إزار، ودرع، وخمار، ولفافتين، تدرج فيها إدراجاً، والإزار يعمها. قال بعض أصحابنا: يستحب أن يعمل لها خامة تشد بها فخاذها، فيكون ذلك بدل إحدى اللفافتين، ويضفر شعرها ثلاثة قرون، ويسدل من خلفها ويفعل بها وبالرجل كما يفعل بالعروس. فإن تعذر في حقهما جميع ما ذكرنا، اجتزئ بثوب واحد، وأما المحرم فيغسل بماء وسدر، ولا يقرب طيباً ولا يخمر رأسه ولا رجلاه، ولا يلبس مخيطاً، ويكفن في ثوبيه، لما روي أن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقف بعرفة ورجل واقف إذ وقع من راحلته فوقصته، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه، فإن الله يحشره يوم القيامة ملبياً".

وأما السقط إذا ولد لأكثر من أربعة أشهر غسل وصلى عليه، وإن لم يتبين أذكر هو أم أنثى، سمى اسماً يصلح للذكر والأنثى، ولا فرق في غسله بين الرجل والمرأة، لأن النساء غسلن إبراهيم ابن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان عمره ثمانية عشر شهراً، مذكور ذلك في حديث أم عطية -رضي الله عنها-. ويغسل الرجل الرجل والمرأة والمرأة، فإن غسلت المرأة زوجها جاز بلا خلاف في المذهب. وهل يغسل الرجل امرأته؟ على روايتين، وكذلك الحكم في أم الولد، وقد غسل على فاطمة الزهراء -رضي الله عنهما-. وكفن الرجل مقدم على الدين والوصية، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته، فإن لم يكن فمن بيت المال، وكذلك كفن المرأة، ولا يجب على زوجها، والأولى أن يتولى دفنه من يتولى غسله. ويعمق القبر قدر قامة وبسطة، ويكون طوله ثلاثة أذرع وشبراً في عرض ذراع وشبر كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "يا عمر كيف أنت إذا أعد لك من الأرض ثلاثة أذرع وشبر في عرض ذراع وشبر، ثم قام إليك أهلك فغسلوك وكفنوك وحنطوك ثم حملوك حتى يغيبوك فيه، ثم يهيلوا عليك التراب، ثم انصرفوا عنك ... " الحديث. ويستحب أن يسل الميت من قبل رأسه سلاً وإن عسر ذلك فمن جنب القبر أو أسهل الجهات، وهو رواية عن الإمام أحمد -رحمه الله-. وأما المرأة فيتولى دفنها النساء كما ولين غسلها، فإن تعذر فذو أرحامها من الرجال، فإن تعذر فالشيوخ من الأجانب. ويستحب أن يسجى قبرها خلاف الرجل، لأنها عورة، وقد مر علي -رضي الله عنه- بقوم وقد بسطوا على قبر رجل ثوباً، فجذبه وقال: إنما يصنع هذا بالنساء، فإذا حصل في القبر مستقبل القبلة حثى عليه التراب ثلاث حثيات، بذلك جاءت السنة، ثم يهال عليه التراب، ويرفع القبر من الأرض قدر شبر ويرش عليه الماء ويضع عليه الحصى وإن طين جاز وإن جصص كره. ويسن تسنيم القبر دون تسطيحه، لما روى عن الحسن رحمه الله قال: رأيت قبر النبي

-صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه مسنماً. فإذا فرغ من تقبيره سن تلقينه لما روى أبو أمامة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس قبره ثم يقول: يا فلان ابن فلانة، فإنه يسمع ولا يجيب، ثم ليقل يا فلان ابن فلانة ثانياً، فإنه يستوي قاعداً، ثم ليقل يا فلان ابن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا يرحمك الله ولكن لا تسمعون، فيقول: اذكر ما خرجت عليه من دار الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً، فإن منكراً ونكيراً يقولان ما يقعدنا عند هذا، وقد لقن حجته، فقال رجل: يا رسول الله فإن لم يعرف اسم أمه؟ قال: فلسبه إلى حواء" وإن شاء أن يزيدوا: بالمؤمنين إخواناً وبالكعبة قبلة وغير ذلك من أعلام الإسلام جاز. * * *

(فصل) في ذكر فضائل الصلوات في أيام الأسبوع ولياليه

(فصل) في ذكر فضائل الصلوات في أيام الأسبوع ولياليه أما ما جاء في صلوات النهار، فمن ذلك ما روى عن أبي سلمة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا خرجت من منزلك فصل ركعتين منعناك مخرج السوء، وإذا دخلت إلى منزلك فصلى ركعتين يمنعانك مدخل السوء". وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في صلاح الصبح: "من توضأ ثم توجه إلى المسجد ثم يصلي فيه الصلاة، كان له بكل خطوة حسنة، ومحي عنه سيئة، والحسنة بعشر أمثالها، فإذا صلى ثم انصرف عند طلوع الشمس كتب الله تعالى له بكل شعرة في جسده حسنة، وانقلب بحجة مبرورة، فإن جلس حتى يركع كتب الله تعالى له بكل جلسة ألفي ألف حسنة، ومن صلى العتمة فله مثل ذلك، وانقلب بعمرة مبرورة". وعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام شطر الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما صلى الليل كله". وعن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من صلاة أثقل على المنافقين من صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما حبواً، ولقد هممت أن آمر فتياني فيأخذوا الحطب فأحرق على رجال لم يشهدوا معنا في بيوتهم". وعن عطاء بن يسار عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من صلى أربع ركعات بعد زوال الشمس يحسن قراءتهن وركوعهن وسجودهن صلى معه سبعون

(فصل: في ذكر صلاة يوم الأحد)

ألف ملك يستغفرون له حتى الليل". ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدع أربعاً بعد الزوال يطيلهن ويقول: "إن أبواب السماء تفتح في هذه الساعة، فأحب أن يرفع لي عمل فيها، قيل: يا رسول الله فيهن سلام فاصل، قال -صلى الله عليه وسلم-: لا". وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "رحم الله عبداً صلى أربعاً قبل العصر". * * * (فصل: في ذكر صلاة يوم الأحد) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من صلى يوم الأحد أربع ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب، و {آمن الرسول ...} مرة، كتب الله تعالى له بعدد كل نصراني ونصرانية حسنات، وأعطاه ثواب نبي، وكتب له حجة وعمرة، وكتب له بكل ركعة ألف صلاة، ثم أعطاه الله تعالى في الجنة بكل حرف مدينة من مسك أذفر". وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "وحدوا الله تعالى بكثرة الصلاة في يوم الأحد، فإنه واحد لا شريك له، فمن صلى يوم الأحد بعد صلاة الظهر أربع ركعات بعد الفريضة والسنة يقرأ في الركعة الأولى فاتحة الكتاب وتنزيل السجدة، وفي الثانية فاتحة الكتاب وتبارك الملك، ثم يتشهد ويسلم، ثم يقوم فيصلي ركعتين أخريين يقرأ فيهما فاتحة الكتاب وسورة الجمعة، ويسأل حاجته، كان حقاً على الله تعالى أن يقضي حاجته ويبرئه مما كانت النصاري عليه". * * * (فصل: في ذكر صلاة يوم الاثنين) عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

(فصل: في ذكر صلاة يوم الثلاثاء)

"من صلى يوم الاثنين عند ارتفاع النهار ركعتي يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وآية الكرسي مرة و {قل هو الله أحد ...} مرة، والمعوذتين مرة مرة، فإذا سلم استغفر الله عشر مرات، وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر مرات، غفر الله له ذنوبه كلها". وعن ثابت البناني عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى يوم الاثنين اثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وآية الكرسي مرة، ينادي به يوم القيامة أين فلان ابن فلان، ليقم فليأخذ ثوابه من الله تعالى، فأول ما يعطي من الثواب ألف حلة، ويتوج بتاج ويقال له ادخل الجنة. فيستقبله مائة ألف ملك، مع كل ملك هدية، ويشيعونه حتى يدور على ألف قصر من نور يتلألأ". * * * (فصل: في ذكر صلاة يوم الثلاثاء) عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى يوم الثلاثاء عشر ركعات عند انتصاف النهار". وفي حديث آخر: "عند ارتفاع النهار، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتب مرة وآية الكرسي مرة و {قل هو الله أحد ...} ثلاث مرات، لم تكتب عليه خطيئة إلى سبعن يوماً، فإن مات إلى سبعين يوماً مات شهيداً، وغفر له ذنوب سبعين سنة". * * * (فصل: في ذكر صلاة يوم الأربعاء) عن أبي إدريس الخولاني، عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى يوم الأربعاء اثنتي عشرة ركعة عند ارتفاع النهار يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وآية الكرسي مرة و {قل هو الله أحد ...} ثلاث مرات والمعوذتين ثلاث مرات، نادى به ملك عند العرش: يا عبد الله استأنف العمل فقد غفر لك ما تقدم من ذنبك،

(فصل: في ذكر صلاة يوم الخميس)

ورفع الله عنه عذاب القبر وضيقته وظلمته، ورفع عنه شدائد القيامة، رفع له من يومه عمل نبي". * * * (فصل: في ذكر صلاة يوم الخميس) عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى يوم الخميس ما بين الظهر والعصر ركعتين يقرأ في الركعة الأولى فاتحة الكتاب مرة وآية الكرسي مائة مرة، وفي الثانية الفاتحة مرة، ومائة مرة {قل هو الله أحد ...}، وبعد الفراغ يصلي على مائة مرة، أعطاه الله تعالى ثواب من صام رجب وشعبان ورمضان، وكان له من الثواب مثل حاج البيت، وكتب له بعدد كل من آمن بالله تعالى وتوكل عليه حسنات". * * * (فصل: في ذكر صلاة يوم الجمعة) عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده رضوان الله عليهم قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يوم الجمعة كله صلاة، ما من عبد مؤمن قام إذا استقلت الشمس وارتفعت قدر رمح أو أكثر من ذلك فتوضأ فأسبغ الوضوء، وصلى سبحه الضحى ركعتين إيماناً واحتساباً، كتب الله تعالى له مائتي حسنة، ومحا عنه مائتي سيئة، ومن صلى أربع ركعات، رفع الله تعالى له في الجنة أربعمائة درجة، ومن صلى ثمان ركعات، رفع الله تعالى له في الجنان ثمانمائة درجة، وغفر له ذنوبه كلها، ومن صلى اثنتي عشرة ركعة، كتب الله له ألفاً ومائتي حسنة، ومحا عنه ألفاً ومائتي سيئة، ورفع له في الجنة ألفاً ومائتي درجة". وعن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى الصبح، في يوم الجمعة في جماعة ثم جلس في المسجد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، كان له في الفردوس سبعون درجة، بعد ما بين الدرجتين حضر الفرس المضمر

سبعين سنة، ومن صلى صلاة الجمعة في جماعة كان له في الفردوس خمسون درجة حضر الفرس الجواد خمسين سنة، ومن صلى العصر في جماعة فكأنما أعتق ثمانية من ولد إسماعيل كلهم رقيق، ومن صلى المغرب في جماعة فكأنما حج حجة مبرورة وعمرة متقبلة". وعن مجاهد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى يوم الجمعة ما بين الظهر والعصر ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وآية الكرسي مرة وخمساً وعشرين مرة {قل أعوذ برب الفلق ...}، وفي الركعة الثانية يقرأ فاتحة الكتاب مرة و {قل هو الله أحد ...} مرة و {قل أعوذ برب الناس ...} عشرين مرة، فإذا سلم قال: لا حول ولا قوة إلا بالله خمسين مرة، فلا يخرج من الدنيا حتى يرى ربه عز وجل في المنام، ويرى مكانه في الجنة، أو يرى له". وروى أن إعرابياً قام إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله إنا نكون في البادية بعيداً من المدينة ولا نقدر أن نأتيك في كل جمعة، فدلني على عمل إذا رجعت إلى قومي أخبرهم في سبب الجمعة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا أعرابي إذا كان يوم الجمعة فصل ركعتين عند ارتفاع النهار، فاقرأ في أول ركعة فاتحة الكتاب و {قل أعوذ برب الفلق ...}، وفي الثانية فاتحة الكتاب و {قل أعوذ برب الناس ...}، ثم تشهد وسلم، واقرأ سبع مرات آية الكرسي جالساً، ثم صل ثمان ركعات أربعاً أربعاً، واقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب و {إذا جاء نصر الله ...} مرة واحدة، وخمساً وعشرين مرة {قل هو الله أحد ...}، فإذا فرغت من صلاتك فقل سبعن مرة لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فوالذي نفس محمد بيده ما من مؤمن ولا مؤمنة صلى يوم الجمعة هذه الصلاة كما أقول إلا وأنا ضامن له الجنة، ولا يقوم من مقامه حتى يغفر الله له ولوالديه إن كانا مسلمين، وينادي مناد من تحت العرش: يا عبد الله استأنف العمل، فقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر". وذكر لها فضائل كثيرة يطول شرحها، وقد ذكرنا فيما تقدم فضائل أخرى في صلاة

(فصل: في ذكر صلاة يوم السبت)

أخرى بثماني عشرة مرة {قل هو الله أحد ...} في يوم الجمعة فمن شاء أن يصلها فليصلها. * * * (فصل: في ذكر صلاة يوم السبت) روي سعيد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى يوم السبت أربع ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة و {قل يا أيها الكافرون ...} ثلاث مرات، فإذا فرغ من صلاته وسلم قرأ آية الكرسي كتب الله تعالى له بكل حرف حجة وعمرة، ورفع له لكل حرف أجر سنة صيام نهارها، وقيام ليلها، وأعطاه الله بكل حرف ثواب شهيد، وكان تحت ظل عرشه مع النبيين والشهداء". * * *

باب في ذكر صلاة الليالي

باب في ذكر صلاة الليالي (فصل: في ذكر فضل صلاة ليلة الأحد) عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله يقول: "من صلى ليلة الأحد عشرين ركعة يقرأ في كل ركعة {الحمد لله ...} مرة و {قل هو الله أحد ...} خمسين مرة والمعوذتين مرة مرة، واستغفر الله سبحانه مائة مرة. واستغفر الله لنفسه ولوالديه مائة مرة، وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- مائة مرة، وتبرأ من حوله وقوته، والتجأ إلى حول الله وقوته، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن آدم صفوة الله وفطرته، وإبراهيم خليل الله عز وجل، وموسى كليم الله تعالى، وعيسى روح الله سبحاه، ومحمد حبيب الله عز وجل، كان له من الأجر والثواب بعدد من ادعى لله عز وجل ولداً، ومن لم يدع له ولداً، وبعثه الله تعالى يوم القيامة مع الآمنين، وكان حقاً على الله أن يدخله الجنة مع النبيين". * * * (فصل: في ذكر فضل صلاة ليلة الاثنين) روي عن الأعمش عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى في ليلة الاثنين أربع ركعات يقرأ في الركعة الأولى {الحمد لله ...} مرة و {قل هو الله أحد ...} عشر مرات، وفي الركعة الثانية {الحمد لله ...} مرة و {قل هو الله أحد ...} عشرين مرة، وفي الركعة الثالثة {الحمد لله ...} مرة و {قل هو الله أحد ...} ثلاثي مرة، وفي الركعة الرابعة {الحمد لله} مرة و {قل هو الله أحد ...} أربعين مرة، ثم تشهد وسلم وقرأ {قل هو الله أحد ...} خمساً وسبعين مرة، واستغفر الله تعالى لنفسه ولوالديه خمساً وسبعين مرة، وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- خمساً وسبعين مرة، ثم سأل حاجته كان حقاً على الله تعالى أن يعطه سؤله" وهي تسمى صلاة الحاجة.

(فصل: في ذكر فضل صلاة ليلة الثلاثاء)

وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى ليلة الاثنين ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وقل هو الله أحد خمس عشرة مرة، وقل أعوذ برب الفلق خمس عشرة مرة، وقل أعوذ برب الناس خمس عشرة مرة، ويقرأ بعد التسليم خمس عشرة مرة آية الكرسي، ويستغفر الله سبحانه وتعالى خمس عشرة مرة، جعل الله تعالى اسمه في أصحاب الجنة وإن كان من أصحاب النار، وغفر له ذنوب السر والعلانية، وكتب له بكل آية قرأها حجة وعمرة، وإن مات ما بين الاثنين إلى الاثنين مات شهيداً". * * * (فصل: في ذكر فضل صلاة ليلة الثلاثاء) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صلى ليلة الثلاثاء اثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة و {إذا جاء نصر الله ...} خمس مرات بني الله تعالى له في الجنة بيتاً، عرضه وطوله وسع الدنيا سبع مرات". * * * (فصل: في ذكر فضل صلاة ليلة الأربعاء) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من صلى ليلة الأربعاء ركعتين، يقرأ في أول ركعة فاتحة الكتاب مرة و {قل أعوذ برب الفلق ...} عشر مرات، وفي الركعة الثانية فاتحة الكتاب مرة و {قل أعوذ برب الناس ...} عشر مرات، ينزل من كل سماء سبعون ألف ملك، يكتبون له الثواب إلى يوم القيامة". * * * (فصل: في ذكر فضل صلاة ليلة الخميس) عن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى ليلة الخميس ما بين المغرب والعشاء ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وآية

(فصل: في ذكر صلاة ليلة الجمعة)

الكرسي خمس مرات و {قل هو الله أحد ...} خمس مرات، والمعوذتين خمس مرات، فإذا فرغ من صلاته استغفر الله تعالى خمس عشرة مرة، وجعل ثوابها لوالديه، فقد أدى حقهما وإن كان عاقاً لهما، وأعطاه الله سبحانه وتعالى ما يعطى الصديقين والشهداء". * * * (فصل: في ذكر صلاة ليلة الجمعة) عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من صلى ليلة الجمعة بين المغرب والعشاء اثنتي عشرة ركعة، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة و {قل هو الله أحد ...} عشر مرات، فكأنما عبد الله تعالى اثنتي عشرة سنة صيام نهارها وقيام ليلها". وروي عن كثير بن سلمة عن سلمة عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى ليلة الجمعة صلاة العشاء الآخرة في جماعة وصلى بعدها ركعتي السنة، ثم صلى بعدها عشر ركعات يقرأ في كل ركعة {الحمد لله ...} مرة و {قل هو الله أحد ...} مرة والمعوذتين مرة مرة، ثم أوتر بثلاث ركعات ونام على جنبه الأيمن ووجهه إلى القبلة فكأنما أحيا ليلة القدر". وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا من الصلاة علي في الليلة الغراء واليوم الأزهر، ليلة الجمعة ويوم الجمعة". * * * (فصل: في ذكر فضل صلاة ليلة السبت) عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من صلى ليلة السبت بين المغرب والعشاء اثنتي عشرة ركعة، بني الله تعالى له قصراً في الجنة، وكأنما تصدق على

(فصل: في ذكر فضل صلاة التسبيح)

كل مؤمن ومؤمنة، وتبرأ من اليهودية وكان حقاً على الله أن يغفر له". (فصل) وقد ذكرنا في مجلس التوبة فيما تقدم في أثناء الكتاب، وإنما يشتغل بالنوافل من الصلاة والصيام والصدقة وأنواع العبادات بعد أحكام الفرائض والسنن وأما قبل أحكامها فلا يشتغل بسواها، بل ينوي بجميع عباداته فرائض ما عليه من كل جنس منها، فينوي بجميع هذه الصلوات التي ذكرناها في هذه الليالي والأيام قضاء يسقط عنه الفرض، ويحصل له الفضل، يجمع الله تعالى بينهما بمنه ورحمته وكرمه، فإذا تحقق براءة ساحته من الفرائض، فحينئذ ينوي بجميع ذلك نافلة. * * * (فصل: في ذكر فضل صلاة التسبيح) حدثنا الشيخ أبو نصر عن والده، قال: أخبرنا أبو الفتح محمد بن أحمد بن أبي الفوارس، وأبو محمد الحسن بن محمد الخلال، قال: أخبرنا أبو حفص عمر بن أحمد الواعظ، قال: حدثنا عبد الله بن محمد البغوي، قال: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: حدثنا موسى بن عبد العزيز، قال: حدثنا الحكم بن أبان، قال: حدثني عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال للعباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه-: "يا عباس يا عماه ألا أعطيك ألا أمنحك ألا أحبوك، ألا أجعل لك عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غفر الله لك ذنبك أوله وآخره، قديمة وحديثه، خطأه وعمده، صغيرة وكبيرة، سره وعلانيته؟ أن تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشراً، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشراً، ثم تهوى ساجداً فتقولها عشراً، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً، ثم تسجد فتقولها عشراً، ثم ترفع رأسك فتقولها عشراً، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة، تفعل ذلك في أربع ركعات، فإن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل ففي كل جمعة مرة، فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة".

(فصل: في صلاة الاستخارة ودعائها للسفر وغيره)

وفي لفظ آخر "يقرأ في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب و {سبح اسم ربك الأعلى ...}، وفي الثانية بفاتحة الكتاب و {إذا زلزلت ...}، وفي الثالثة بفاتحة الكتاب و {قل يا أيها الكافرون ...}، وفي الرابعة بفاتحة الكتاب و {قل هو الله أحد ...}. وحدثنا أبو نصر عن والده، بإسناده "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لجعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه-: ألا أمنحك ألا أحبوك ألا أعطيك؟ ... " وساق الحديث إلى آخره. وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك لعمرو بن العاص -رضي الله عنه-، وفيه زيادة عشرة في حال القيام، وفي غيره إسقاطها، وفي بعض الألفاظ "فذلك ثلاثمائة" يعني به التسبيخ في الأربع. وفي لفظ آخر "فذلك ألف ومائتان" يعني أنواع التسبيح، وهي أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإذا ضربت في ثلاثمائة كانت ألفاً ومائتين. وقال بعض العلماء بالله عز وجل: يستحب فعلها في الجمعة مرتين مرة ليلاً ومرة نهاراً. * * * (فصل: في صلاة الاستخارة ودعائها للسفر وغيره) عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا الاستخارة في الأمر كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: إذا هم أحدكم بأمر أو بإرادة خروج، فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم يقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -وتسميه بعينه- خير لي في ديني ودنياي وآخرتي وعاقبة أمري وعاجله وآجله، فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإلا فاصرفه عني ويسر لي الخير حيث كان ما كنت، ورضني بقضائك يا أرحم الراحمين". فينبغي لكل أحد إذا تحقق عزمه على الخروج إلى وجه من سفر التجارة أو حج أو زيارة أن يقول عقيب الركعتين: اللهم إني أريد الخروج في وجهي هدا بلا ثقة مني

بغيرك، ولا رجاء إلا بك، ولا قوة أتوكل عليها، ولا حيلة ألجأ إليها إلا طلب فضلك، والتعرض لمعروفك ورحمتك، والسكون إلى حسن عبادتك، وأنت أعلم بما قد سبق لي في علمك في وجهي هذا مما أحب وأكره، اللهم فاصرف عني بقدرتك مقادير كل بلاء، ونفس عني كل كرب وداء، وابسط علي كنفاً من رحمتك ولطفاً من عونك، وحرزاً من حفظك وجمع معافاتك، ثم يرفع الأحمال ويأخذ في السير ويقول: يا رب قضاؤك على حقيقة أحسن أملي، وادفع عن ما أحذر مما أنت أعلم به مني، واجعل ذلك خيراً لي في دنياي وآخرتي. أسألك يارب أن تخلفني فيما خلفت ورائي من أهلي وولدي وقرابتي بأحسن مما خلفت به غائباً من المؤمنين في تحصين كل عورة، وحفظاً من كل مضرة، وكفاية كل مهم، وصرف كل مكروه، وكمال ما تجمع لي به من الرضا والسرور في الدنيا والآخرة، ثم ارزقني في ذلك كله شكرك، وذكرك وحسن عبادتك، حتى ترضى عني وتدخلني جنتك، برحمتك بعد الرضا يا أرحم الراحمين. وينبغي أن يكثر في سفره من هذا الدعاء، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقوله كثيراً وهو: الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئاً مذكوراً، اللهم أعني على أهاويل الدنيا وبواثق الدهور ومصائب الليالي والأيام، واكفني شر ما يعمل الظالمون، اللهم في سفري فاصحبني، وفي أهلي فاخلفني، وفما رزقتني فبارك لي، وفي نفسي فذللني، وفي أعين الناس فعظمني، وفي خلقي فقومني، وإليك يارب فحببني، أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت به السموات وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين ألا تحل على غضبك، ولا تنزل بي سخطك، لك العتبى فيما استطعت، ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، ومن الحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، اللهم اطو لنا الأرض وهون علينا السفر، أسألك بلاغاً يبلغ خيراً ومغفرة ورضواناً، أسألك الخير كله إنك على كل شيء قدير. وينبغي أن يقول عند خروجه من منزله: "بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله"، فإنه قيل في الخبر إنه يقال له: "وقيت وكفيت". وينبغي له إذا ركب راحلته أن يكبر ثلاثاً ويحمد ثلاثاً ويقول: "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، سبحانك لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر

(فصل: في حرز المسافر من كل سارق وسبع ومؤذ)

الذنوب إلا أنت" لأنه مروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سافر وركب يقول: اللهم إني أسألك في سفري هذا التقي، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا السفر، واطو لنا بعد الأرض، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا". وزاد ابن جريج فقال: "اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وسوء المنقلب، وكآبة المنظر في الأهل والمال". وينبغي له إذا أراد دخول قرية أو مدينة أن يقول كما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، أسألك من خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها، أسألك مودة خيارهم، وأن تجنبني من شر أشرارهم". * * * (فصل: في حرز المسافر من كل سارق وسبع ومؤذ) "اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام، واكنفنا بركنك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، لا نهلك وأنت رجاؤنا إن شاء الله وحده". وعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من قال في أول ليله: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات، لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسي ومن قالها حين يمسي لم يصبه بلاء حتى يصبح". وعن أبي يوسف الخراساني عن أبي سعيد بن أبي الروحاء قال: ضللت بطريق مكة في بعض الليال، فسمعت حساً خلفي، فاستوحشت فسمعته يقرأ القرآن، فلحقني

(فصل: في ذكر صلاة الكفاية)

فقال: أحسبك ضالاً؟ فقلت. نعم، فقال: ألا أعلمك شيئاً إذا أنت قلته وأنت ضال اهتديت، أو مستوحش استأنست، أو أرق نمت؟ قلت: نعم، قال: قل: بسم الله ذي الشأن، عظيم البرهان، شديد السلطان، كل يوم هو في شأن، أعوذ بالله من الشيطان، ما شاء الله كان، لا حول ولا قوة إلا بالله، فقلتها فإذا أصحابي قريب، فطلبت الرجل فلم أصبه. قال أبو بلال: فضللت بمني من أهلي، فقلت هذا، فالتفت كذا فإذا أنا بأهلي. وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قال كل يوم سبع مرات: إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، كفاه الله تعالى ما أهمه صادقاً كان أو كاذباً إن شاء الله تعالى". وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قال عند الكرب: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، كشف عنه بإذن الله تعالى". * * * (فصل: في ذكر صلاة الكفاية) وهي ركعتان يصليهما أي وقت كان، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة و {قل هو الله أحد ...} عشر مرات و {فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} [البقرة: 137] خمسين مرة، ثم يسلم، ويدعو بهذا الدعاء وهو: يا الله يا رحمن يا منان يا حنان، يا مسبحاً بكل لسان، يا من يداه بالخير مبسوطتان، يا كافي محمداً -صلى الله عليه وسلم- الأحزاب، ويا كافي إبراهيم -عليه السلام- النيران، يا كافي موسى فرعون، ويا كافي عيسى -عليه السلام- الجبابرة، ويا كافي نوحاً -عليه السلام- الغرق، يا كافي لوطاً -عليه السلام- فحش قومه، ويا كافي من كل شيء ولا يكفي منه شيء، يا كافي عائشة -رضي الله عنها- وآسية اكفني عظيم البلاء من كل شيء، حتى لا أخاف ولا أخشى مع اسمك العظيم الأعظم شيئاً، فإنه يكفي ويجمع همه وشره عند صلاته. * * *

(فصل: في ذكر صلاة الخصماء)

(فصل: في ذكر صلاة الخصماء) وهي أرعب ركعات بتسليمة واحدة، يقرأ في الأولى فاتحة الكتاب مرة و {قل هو الله أحد ...} عشر مرات، وفي الثانية الفاتحة و {قل هو الله أحد ...} عشر مرات وثلاث مرات {قل يا أيها الكافرون ...}، وفي الثالثة الفاتحة وعشر مرات {قل هو الله أحد ...} و {ألهاكم التكاثر ....}، مرة وفي الرابعة الفاتحة وخمس عشرة مرة {قل هو الله أحد ...} وآية الكرسي مرة، ثم يجعل ثوابها لخصمائه، يكفيه الله أمرهم يوم القيامة إن شاء الله تعالى، يصلي هذه الصلاة في سبعة أوقات أول ليلة من رجب، وليلة النصف من شعبان، وآخر جمعة من رمضان، ويومي العيدين، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء. * * * (فصل: في صلاة العتقاء في شوال) حدثنا أبو نصر بن البناء عن والده قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن عم العلاف، قال: أخبرنا أبو القاسم القاضي، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن صديق، قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، قال: أنبأنا أبو بكر أحمد بن جعفر المروزي، قال: حدثنا على ابن معروف، قال: حدثني محمد بن محمود، قال: أخبرنا يحيى بن شبيب، قال: حدثنا حميد عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى في شوال ثمان ركعات ليلاً كان أو نهاراً، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وخمس عشرة مرة {قل هو الله أحد ...} فإذا فرغ من صلاته سبح سبعين مرة، وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- سبعين مرة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: والذي بعثني بالحق ما من عبد يصلي هذه الصلاة إلا أنبع الله له ينابيع الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه وأراه داء الدنيا ردواءها، والذي بعثني بالحق من صلى هذه الصلاة كما وصفت لا يرفع رأسه من آخر سجدة حتى يغفر الله له، وإن مات مات شهيداً مغفوراً له، وما من عبد صلى هذه الصلاة في السفر إلا سهل الله عليه السير والذهاب إلى موضع مراده، وإن كان مديوناً قضى الله دينه، وإن كان ذا حاجة قضى الله حوائجه، والذي بعثني بالحق ما من عبد يصلي هذه الصلاة إلا أعطاه الله تعالى بكل حرف وبكل آية مخرفة في الجنة، قيل: وما المخرفة يا رسول الله؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: بساتين في الجنة يسير الراكب في ظل شجرة من أشجارها مائة سنة ثم لا يقطعها". * * *

(فصل: في فضل الصلاة لرفع عذاب القبر)

(فصل: في فضل الصلاة لرفع عذاب القبر) عن عبد الله بن الحسين عن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى ركعتين يقرأ في إحديهما آخر الفرقان من {تبارك الذي جعل في السماء بروجاً ...} [الفرقان: 61] حتى يختم السورة، ثم يأخذ في الثانية فيقرأ فيها بعد الفاتحة من أول سورة المؤمنين حتى يبلغ {فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون: 14] فإنه يأمن شر الجن والإنس ويعطي كتابه بيمينه يوم القيامة، ويأمن من عذاب القبر، ومن الفزع الأكبر، ويعلمه الكتاب، وإن لم يكن حريصاً، وينزع منه الفقر، ويؤتيه الله الحكم، ويبصره في كتابه الذي أنزله على نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ويلقنه حجته يوم القيامة، ويجعل النور في قلبه، ولا يحزن إذا حزن الناس، ولا يخاف إذا خافوا، ويجعل النور في بصره، وينزع حب الدنيا من قلبه، ويكتب عند الله من الصديقين". * * * (فصل: في صلاة الحاجة) عن أبي هاشم الأيلي، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من كان له إلى الله حاجة مهمة، فليسبغ الوضوء وليصل ركعتين، يقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب مرة، وآية الكرسي، وفي الثانية بفاتحة الكتاب و {آمن الرسول ...} إلى آخره، ثم يتشهد ويسلم، ويدعو بهذا الدعاء فإنها تقضى. والدعاء: اللهم يا مؤنس كل وحيد، ويا صاحب كل فريد، ويا قريباً غير بعيد، ويا شاهداً غير غائب، ويا غالباً غير مغلوب، أسألك باسمك ببسم الله الرحمن الرحيم، الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وأسألك باسمك بسم الله الرحمن الرحيم، الحي القيوم، الذي عنت له الوجوه، وخشعت له الأصوات، ووجلت منه القلوب، أن تصلي على محمد وعلى آل محمد، وأن تجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً وتقضي حاجتي". * * *

(فصل: في الدعاء لدفع الظلم والاحتراز منه)

(فصل: في الدعاء لدفع الظلم والاحتراز منه) روى جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علم علياً وفاطمة -رضي الله عنهما- هذا الدعاء: وقال لهما: إذا نزلت بكما مصيبة، أو خفتما جور سلطان، أو ضلت لكما ضالة، فأحسنا الوضوء وصليا ركعتين وارفعا أيديكما إلى السماء وقولا: يا عالم الغيب والسرائر، يا مطاع يا عزيز يا عليم، يا الله يا الله يا الله، يا هازم الأحزاب لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، يا كائد فرعون لموسى -عليه السلام-، يا منجي عيسى -عليه السلام- من يد ظلمته، يا مخلص قوم نوح من الغرق، يا راحم عبرة يعقوب -عليه السلام-، يا كاشف ضر أيوب -عليه السلام-، يا منجي ذي النون -عليه السلام- من الظلمات الثلاث، يا فاعل كل خير، يا هادياً إلى كل خير، يا دالاً على كل خير، يا أهل كل خير، يا خالق الخير، ويا أهل الخيرات، أنت الله، رغبت إليك فيما قد علمت، وأنت علام الغيوب، أسألك أن تصلي على محمد وعلى آل محمد، ثم سلا حاجتكما تجابا إن شاء الله تعالى". (دعاء آخر): وهو دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب، رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- عنه -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أعوذ بنور قدسك، وعظمة طهارتك، وتزكية جلالك من كل آفة، وعاهة وطارق الجن والإنس، إلا طارقاً يطرق منك بخير، إنك أنت عياذي فبك أعوذ، وأنت ملاذي فبك ألوذ، يا من ذلت له رقاب الجبابرة، وجمعت له مقاليد الرعاية، أعوذ بجلال وجهك، وكرم جلالك من خزيك وكشف سترك، ونسيان ذكرك، والانصراف عن شكرك، أنا في كنفك في ليلي ونهاري، ونومي وقراري، وظعني وأسفاري، ذكرك شعاري وثناؤك دثاري، لا إله إلا أنت تنزيهاً لاسمك، وتكريماً لسبحات وجهك، أجرني من خزيك ومن شر عذابك وعبادك، وأضرب على سرادقات حفظك، وأدخلني في حفظ عنايتك، وقني سيئات عذابك، وأغنني بخير منك برحمتك يا أرحم الراحمين". * * *

(فصل: في الدعاء لذهاب الهموم وقضاء الديون)

(فصل: في الدعاء لذهاب الهموم وقضاء الديون) عن أبي صالح -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من أصابه هم أو حزن، فليدع بهؤلاء الكلمات: اللهم أنا عبدك وابن عبدك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن الكريم ربعي قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، فقال قائل: يا رسول الله إن المغبون لمن غبن هؤلاء الكلمات، قال -صلى الله عليه وسلم-: أجل فقلهن وعلمهن، فإنه من قالهن التماس ما فيهن، أذهب الله عز وجل حزنه وأطال فرحه". ويروي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- دخل عليها فقال: هل سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعاء كان يعلمناه، وذكر أن عيسى ابن مريم -عليه السلام- كان يعلمه أصحابه ويقول: لو كان على أحدكم مثل جبل ديناً قضاه الله عز وجل عنه؟ فقالت: كان يقول: اللهم فارج الهم كاشف الغم مجيب دعوة المضطرين، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، أسألك أن ترحمني رحمة من عندك تغنيني بها عن رحمة من سواك". (دعاء آخر في ذلك): وهو ما روي عن الحسن البصري رحمه الله أنه جاءه صديق له يكرم عليه، فقال له: يا أبا سعيد على دين، وأحب أن تعلمني اسم الله تعالى الأعظم، فقال: إن شئت ذلك فقم وتوضأ، فقام وتوضأ وقال له: قل: يا الله يا الله أنت الله، بلى والله أنت الله، لا إله إلا أنت، الله الله الله، والله إنه لا إله إلا الله، اقض عني هذا الدين وارزقني بعد الدين، فأصبح الرجل فرأى مائتي ألف درهم صحاحاً في مسجده دراهم مختلفة في جراب، على رأي الجراب مكتوب: لو سألت أكثر من هذا لأعطيناك، فيكيف لم تسأل الجنة؟ فجاء الرجل إلى الحسن رحمه الله فأخبره بذلك، فانطلق معه إلى منزله، فنظر إلى الدراهم، فقال الرجل: إني ندمت حيث لم أسأل الله الجنة، فقال الحسن: إن الذي

علمك هذا الاسم لم يعلمك إلا الخبر يردك به، فاكتم على هذا الاسم لا يسمع به الحجاج فلا ينجو منه أحد. (دعاء آخر): علمه جبريل -عليه السلام- لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- حين خرج من مكة المكرمة يريد جبل حراء، خوفاً من قريش، روي أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- "أن جبريل -عليه السلام- قال: يا محمد إن الله تعالى يقرئك السلام، وقد علمني دعاء تدعو به فيجعل الله بينك وبينهم ستراً، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: نعم يا جبريل، فقال: قل. يا كبير كل كبير يا سميع يا بصير، يا من لا شريك له ولا وزير، يا خالق الشمس والقمر المنير، يا عصمة البائس الخائف المستجير، يا رازق الطفل الصغير، يا جابر العظم الكسير، يا قاصم كل جبار عنيد، أسألك وأدعوك دعاء البائس الفقير، دعاء المضطر الضرير، أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومفاتيح الرحمة من كتابك، وبالأسماء الثمانية المكتوبة على قرن الشمس، أن تفعل بي كذا وكذا". * * *

باب الأدعية التي يدعي بها عقيب الصلوات الفرض ودعاء الختمة وغير ذلك

باب الأدعية التي يدعي بها عقيب الصلوات الفرض ودعاء الختمة وغير ذلك أما دعاء صلاة الغداة وصلاة العصر، فهو أن يقول: اللهم لك الحمد شكراً، ولك المن فضلاً، بنعمتك تتم الصالحات، نسألك اللهم فرجاً قريباً، فإنك لم تزل مجيباً، وصبراً جميلاً، وعافية من جميع البلايا، والسلامة من طريق الرزايا، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل اجتماعا اجتماعاً مرحوماً وتفرقنا تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً، ولا محروماً، ولا تردنا بالفاقة إلى غيرك، ولا تحرمنا سعة خيرك، وحقيقة التوكل عليك، وخالص الرغبة فيما لديك، واملأ قلوبنا منك الغنى، واكس وجوهنا منك الحياء، وارزقنا خير الآخرة والدنيا، برحمتك يا أرحم الراحمين، يا رب. اللهم ارزقنا خير الصباح وخير المساء، وخير القضاء وخير القدر، واصرف عنا شر الصباح وشر المساء، وشر القضاء وشر القدر .. اللهم وما أنزلت في هذا اليوم من خير وعافية وسلامة وغنيمة وسعة رزق، فاجعل لنا فيه أوفر الحظ والنصيب، اللهم وما أنزلت من سوء وبلاء وشر وداء وفتنة، فاصرفه عنا وعن جميع المسلمين والمسلمات برحمتك يا أرحم الراحمين. (دعاء آخر): الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، لا إله إلا هو أهل الكبرياء والعظمة، ومنتهى الجبروت والعزة، وولى الغيث والرحمة، مالك الدنيا والآخرة، عظيم الملكوت شديد الجبروت، لطيف لما يشاء فعال لما يريد، أول كل شيء، وخالق كل شيء ورازقه، سبحانه لا إله إلا هو، اللهم اجعل صباحنا صباحاً صالحاً، لا مخزياً ولا فاضحاً، اللهم اكفنا شر نوائب الزمان ومكروهه، ومصارع السوء ومصايد الشيطان، وموارد صولة السلطان، ووفقنا في يومنا هذا وفي سائر الأيام، لاستعمال الخيرات وهجران السيئات، اللهم أصلحنا وأصلح قلوبنا، وأصلح أخلاقنا وأصلح أفعالنا، وأصلح آباءنا وأبناءنا وأجدادنا وجداتنا ودنيانا وأخرانا، اللهم كما أمضيت الليلة بالسلامة والعافية فامض علينا النهار بالسلامة والعافية برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار برحمتك يا أرحم الراحمين، آمين اللهم آمين يا الله يارب العالمين. (دعاء آخر): الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، سبحانه وتعالى عما يشركون، اللهم اغفر لنا ذنوبنا ما أظهرنا وما أسررنا، وما أخفينا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، اللهم أعطنا رضاك في الدنيا والآخرة، واختم لنا بالسعادة والشهادة والمغفرة، اللهم اجعل آخر أعمارنا خيرًا، وخواتيم أعمارنا خيرًا، وخير أيامنا يوم نلقاك فيه. اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، ومن فجأة نقمتك، ومن تحويل عافيتك، اللهم إنا نعوذ بك من درك الشقاء، وجهد البلاد، وشماتة الأعداء، وتغير النعماء، وسوء القضاء، نعوذ بك من جميع المكاره والأسواء، ونسألك اللهم خير العطاء، اللهم إنا نسألك أن تكشف سقمنا، وتبرئ مرضانا، وترحم موتانا، وتصح أبداننا، ونخلص لك اللهم أدياننا، وأن تحفظ عبادتنا، وتشرح صدورنا، وتدبر أمورنا، وتجبر أولادنا، وتستر جرمنا، وترد غيابنا، وأن تثبتنا على ديننا، ونسألك خيرًا ورشدًا، اللهم ربنا إنا نسألك أن تؤتينا حسنة في الدنيا وحسنة في الآخرة، وأن تتوفنا مسلمين برحمتك، وقنا عذاب النار وعذاب القبر يا أرحم الراحمين يارب العالمين. فالدعاء مأمور به، وهو عند الله بمكان، وقد بينا ذلك في أثناء الكتاب. فلا ينبغي للإمام والمأموم أن يخرجا من المسجد من غير دعاء، قال الله تعالى: {فإذا فرغت فانصب* وإلى ربك فارغب} [الشرح: 7 - 8] أي إذا فرغت من العبادة فانصب للدعاء وارغب فيما عند الله واطلبه منه، وقد جاء في الحديث عن أنس بن مالك -رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا قام الإمام في محرابه وتواترت الصفوف، نزلت الرحمة، فأول ذلك تصيب الإمام، ثم من عن يمينه، ثم من عن يساره، ثم تتفرق الرحمة على الجماعة، ثم ينادي ملك ربح فلان وخسر فلان، فالرابح من يرفع يديه بالدعاء إلى الله تعالى إذا فرغ من صلاته المكتوبة، والخاسر هو الذي خرج من المسجد بلا دعاء، فإذا خرج بلا دعاء قالت الملائكة: يا فلان استغنيت عن الله تعالى ما لك عند الله حاجة.

(فصل) فأما دعاء ختمة القرآن فهو

(فصل) فأما دعاء ختمة القرآن فهو: صدق الله العظيم الذي خلق الخلق فأبدعه، وسن الدين وشرعه، ونور النور وشعشعه، وقدر الرزق ووسعه، وضر خلقه ونفعه، وأجرى الماء وأنبعه، وجعل السماء سقفًا محفوظًا مرفوعًا رفعه، والأرض بساطًا وضعه، وسير القمر فأطلعه، سبحانه ما أعلى مكانه وأرفعه، وأعز سلطانه وأردعه، لا راد لما صنعه، ولا مغير لما اخترعه، ولا مذل لمن رفعه، ولا معز لمن وضعه، ولا مفرق لما جمعه، ولا شريك له، ولا إله معه، صدق الله الذي دبر الدهور، وقدر المقدور، وصرف الأمور، وعلم هواجس الصدور، وتعاقب الديجور، وسهل المعسور، ويسر الميسور، وسخر البحر المسجور، وأنزل الفرقان والنور، والتوراة والإنجيل والزبور، وأقسم بالفرقان والطور، والكتاب المسطور في رق منشور، والبيت المعمور، والبعث والنشور، وجاعل الظلمات والنور، والولدان والجور، والجنان والقصور {إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور} [فاطر: 22] صدق الله العظيم، الذي عز فارتفع، وعلا فامتنع، وذل كل شيء لعظمته وخضع، وسمك السماء ورفع، وفرش الأرض وأوسع، وفجر الأنهار فأنبع، ومرج البحار وأنزع، وسخر النجوم فأطلع، وأرسل السحاب فارتفع، ونور النور فلمع، وأنزل الغيث فهمع، وكلم موسى -عليه السلام- فأسمع، وتجلى للجبل فتقطع، ووهب ونزع، وضر ونفع، وأعطى ومنع، وسن وشرع، وفرق وجمع، {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع} [الأنعام: 98]. صدق الله العظيم التواب الغفور، الوهاب، الذي خضعت لعظمته الرقاب، وذلك لجبروته الصعاب، ولانت له الشداد الصلاب، واستدلت بصنعته الألباب، ويسبّح بحمده الرعد والسحاب، والبرق والسراب، والشجر والدواب، رب الأرباب، ومسبب الأسباب، ومنزل الكتاب، وخالق خلقه من التراب، غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب، صدق من لم يزل جليلاً دليلاً، صدق من حسبي به كفيلاً، صدق من اتخذته وكيلاً، صدق الهادي إليه سبيلاً، صدق الله ومن أصدق من الله قيلاً، صدق الله وصدق أنباؤه، وصدق الله وصدقت أنباؤه، صدق الله وجلت آلاؤه، صدق الله وصدقت أرضه وسماؤه، صدق الله الواحد القديم، الماجد الكريم، الشاهد العليم، الغفور الرحيم الشكور الحليم، {قل صدق الله فاتبعوا ملة

إبراهيم} [آل عمران: 95]. صدق الله العظيم الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، الحي الحليم، الحي الكريم، الحي الباقي، الحي الذي لا يموت أبدًا، ذو الجلال والجمال والإكرام، والأسماء العظام، والمنن الجسام، وبلغت الرسل الكرام بالحق صلى الله على سيدنا محمد وسلم وعليه السلام، ونحن على ما قال الله ربنا وسيدنا ومولانا من الشاهدين، وما أوجب وألزم غير جاحدين، والحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا وسندنا محمد خاتم النبيين، وعلى أبويه المكرمين سيدنا آدم والخليل إبراهيم، وعلى جميع إخوانه من النبيين، وعلى أهل بيته الطاهرين، وعلى أصحابه؟؟؟؟؟؟، وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين. صدق الله ذو الجلال والإكرام، والعظمة والسلطان، جار لا يرام، عزيز لا يصام، قيوم لا ينام، له الأفعال الكرام، والمواهب العظام، والأيادي الجسام، والأفضال والأنعام، والكمال والتمام، تسبّح له الملائكة الكرام، والبهائم والهوام، والرياح والغمام، والضياء والظلام، وهو الله الملك القدوس السلام، ونحن على ما قال الله ربنا جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، وجلت آلاؤه، وشهدت أرضه وسماؤه، ونطقت به رسله وأنبياؤه شاهدون {لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم* إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 18 - 19] ونحن بما شهد الله ربنا والملائكة وأولوا العلم من خلقه من الشاهدين، شهادة شهد بها العزيز الحميد، ودان بها المؤمن الغفور الودود، وأخلص بالشهادة لذي العرش المجيد، يرفعها بالعمل الصالح الرشيد، يعطى قائلها الخلود في جنة ذات سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود، وماء مسكوب، يرافق فيها النبيين الشهود، والركع السجود، والباذلين في طاعته غاية المجهود. اللهم اجعلنا بهذا التصديق صادقين، وبهذا الصدق شاهدين، وبهذه الشهادة مؤمنين، وبهذا الإيمان موحدين، وبهذا التوحيد مخلصين، وبهذا الإخلاص موقين، وبهذا الإيقان عارفين، وبهذه المعرفة معترفين، وبهذا الاعتراف منيبين، وبهذا؟؟؟؟؟؟ فائزين، وفيما لديك راغبين، ولما عندك طالبي،؟؟؟؟؟؟ بنا الملائكة الكرام الكاتبين،

واحشرنا مع النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، ولا تجعلنا ممن استهوته الشياطين، فشغلته بالدنيا عن الدين، فأصبح من النادمين، وفي الآخرة من الخاسرين، وأوجب لنا الخلود في جنات النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم لك الحمد وأنت للحمد أهل، وأنت الحقيق بالمنة ثم الفضل، لك الحمد على تتابع إحسانك، ولك الحمد على تواتر إنعامك، ولك الحمد على ترادف امتنانك. اللهم عطفت علينا قلوب الآباء والأمهات صغارًا، وضاعفت علينا نعمك كبارًا، وواليت إلينا برك مدرارًا، وجهلنا ما عاجلتنا مرارًا، فلك الحمد، اللهم فإنا نحمدك سرًا وجهارًا، ونشكرك محبة واختيارًا، فلك الحمد إذا ألهمتنا من الخطأ استغفارًا، ولك الحمد فارزقنا جنة واحجب عنا بعفوك نارًا، ولا تهلكنا يوم البعث فتجعلنا بين المعاشر عارًا، ولا تفضحنا بسوء أفعالنا يوم لقائك، فتكسنا ذلة وانكسارًا، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم لك الحمد وأنت للحمد أهل، وأنت الحقيق بالمنة والفضل، اللهم لك الحمد كما هديتنا للإسلام وعلمتنا الحكمة والقرآن، اللهم أنت علمتنا قبل رغبتنا في تعليمه، ومننت به علينا قبل علمنا بمعرفته، وخصصتنا به قبل معرفتنا بفضله، اللهم فإذا كان ذلك من فضلك لطفًا بنا وامتنانًا علينا من غير حيلتنا وقوتنا، فهب لنا اللهم رعاية حقه، وحفظ آياته، وعملاً بمحكمه، وإيمانًا بمتشابهه، وهدى في تدبره، وتفكرًا في أمثاله ومعجزته، وبصرة في نوره وحكمه، لا تعارضنا الشكوك في تصديقه، ولا يختلجنا الزيغ في قصد طريقه. اللهم انفعنا بالقرآن العظيم، وبارك لنا في الآيات والذكر الحكيم، وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الوهاب الرحيم برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، وشفاء صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهب همومنا وغمومنا، وسائقنا وقائدنا ودليلنا إليك وإلى جناتك جنات النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل القرآن لقلوبنا ضياء، ولأبصارنا جلاء، ولأسقامنا دواء، ولذنوبنا ممحصًا، ومن النار مخلصًا، اللهم اكسنا به الحلل، وأسكنا به الظلل، وأسبغ علينا به

النعم، وادفع به عنا النقم، واجعلنا به عند الجزاء من الفائزين، وعند النعماء من الشاكرين، وعند البلاء من الصابرين، ولا تجعلنا ممن استهوته الشياطين، فشغلته بالدنيا عن الدين، فأصبح من الخاسرين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم لا تجعل القرآن بنا ماحلاً، ولا الصراط بنا زائلاً، ولا بنبينا وسيدنا وسندنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- في القيامة عنا معرضًا ولا موليًا، اجعله لنا شافعًا مشفعًا، وأوردنا حوضه واسقنا بكأسه مشربًا رويًا هنيًا لا نظمأ بعده أبدًا، غير خزايا ولا ناكثين، ولا جاحدين ولا مغضوب علينا، ولا ضالين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم انفعنا بالقرآن الذي رفعت مكانه وثبت أركانه، وأيدت سلطانه وبينت بركاته وجعلت اللغة العربية الفصيحة لسانه، وقلت يا عز من قائل سبحانه. {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه* ثم إن علينا بيانه} [القيامة: 18 - 19]. أحسن كتبك نظامًا، وأوضحها كلامًا وأبينها حلالاً وحرامًا، محكم البيان، ظاهر البرهان محروس من الزيادة والنقصان، فيه وعد ووعيد وتخويف وتهديد {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} [فصلت:42]. اللهم فأوجب لنا به الشرف والمزيد، وألحقنا بكل بر سعيد، واستعملنا في العمل الصالح الرشيد، إنك أنت القريب المجيب، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم فكما جعلتنا به مصدقين، ولما فيه محققين، فاجعلنا بتلاوته منتفعين، وإلى لذيذ خطابه مستمعين، وبما فيه معتبرين، ولأحكامه جامعين، ولأوامره ونوهيه خاضعين، وعند ختمه من الفائزين، ولثوابه حائزين، ولك في جميع شهودنا ذاكرين، وإليك في جميع أمورنا راجعين، واغفر لنا في ليلتنا هذه أجمعين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعلنا من الذين حفظوا للقرآن حرمته لما حفظوه، وعظموا منزلته لما سمعوه، وتأدبوا بآدابه لما حضروه، والتزموا حكمه لما فارقوه، وأحسنوا جواره لما جاوروا، وأرادوا بتلاوته وجهك الكريم والدار الآخرة، فوصلوا به إلى المقامات الفاخرة، واجعلنا به ممن في درج الجنان يرتقي، وبنبيه -صلى الله عليه وسلم- يوم عرضه راض عنه يلتقي، فالمتشفع إليك بالقرآن غير شقى برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعلها ختمة مباركة على من قرأها وحضرها وسمعها وأمن على دعائها،

وأنزل اللهم من بركاته على أهل الدور في دورهم، وعلى أهل القصور في قصورهم، وعلى أهل الثغور في ثغورهم، وعلى أهل الحرمين في حرميهم من المؤمنين، اللهم وأهل القبول من أهل ملتنا أنزل عليهم في قبورهم الضياء والفسحة، وجازهم بالإحسان إحسانًا، وبالسيئات غفرانًا، وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم يا سائق القوت، ويا سامع الصوت، ويا كاسي العظام بعد الموت، صل على محمد وعلى آل محمد، ولا تدع لنا في هذه الليلة الشريفة المباركة ذنبًا إلا غفرته، ولا همًا إلا فرجته، ولا كربًا إلا نفسته، ولا غمًا إلا كشفته، ولا سوءًا إلا صرفته، ولا مريضًا إلا شفيته، ولا مبتليًا إلا عافيته، ولا ذا إساءة إلا أقلته، ولا حقًا إلا استخرجته، ولا غائبًا إلا رددته، ولا عاصيًا إلا هديته، ولا ولدًا إلا جبرته، ولا ميتًا إلا رحمته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة لك فيها رضًا ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا على قضائها بيسر منك وعافية مع المغفرة برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم عافنا واعف عنا بعفوك العظيم، وسترك الجميل، وإحسانك القديم، يا دائم المعروف، يا كثير الخير، وصل على سيدنا وسندنا محمد وعلى إخوانه الأنبياء وعلى آله والملائكة وسلم تسليمًا، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا، ووفقنا لعمل صالح يرضيك عنا برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم صلِّ على محمد كما هديتنا به من الضلالة، اللهم صلِّ على محمد كما استنقذتنا به من الجهالة، اللهم صلِّ على محمد كما بلَّغ الرسالة، اللهم صلِّ على محمد شمس البلاد وقمر المهاد وزين الورّاد وشفيع المذنبين يوم التناد، اللهم صلِّ على محمد وذريته وجميع صحابته، الذين قاموا بنصرته وجروا على سنته برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم صلِّ على محمد الذي بالحق بعثته، وبالصدق نعته، وبالحلم وسمته، وبأحمد سميته، وفي القيامة في أمته شفَّعته، اللهم صلِّ على محمد ما أزهرت النجوم، وصلِّ على محمد ما تلاحمت الغيوم، وصلِّ على محمد يا حيى يا قيوم. اللهم صلِّ على محمد ما ذكره الأبرار، وصلِّ على محمد ما اختلف الليل والنهار، وصلِّ على محمد وعلى المهاجرين والأنصار برحمتك يا أرحم الراحمين.

(الوصية) اعلموا رحمكم الله أن ليلتكم هذه ليلة الوداع لشهركم الذي شرفه الله وعظمه، ورفع قدره وكرمه، شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، ونزول الرحمة فيه عليكم من الله والرضوان، جعله الله مصباح العام وواسطة النظام، وأشرف قواعد الإسلام المشرقة بأنوار الصيام والقيام، أنزل الله تعالى فيه كتابه وفتح فيه للتأبين أبوابه، فلا دعاء فيه إلا مسموع، ولا خير إلا مجموع، ولا ضر إلا مدفوع، ولا عمل إلا مرفوع، الظافر الميمون من اغتنم أوقاته، والخاسر المغبون من أهمله ففاته، شهر جعله الله لذنوبكم تطهيرًا، ولسيئاتكم تكفيرًا، ولمن أحسن منكم صحبته ذخيرة ونورًا، ولمن وفَّى بشرطه ورعى حرمته فرحًا وسرورًا، شهر تورع فيه أهل الفسق والفساد، وزاد فيه من الرغبة إلى الله أهل الجد والاجتهاد، شهر عمارات القلوب وكفارات الذنوب واختصاص المساجد بالازدحام والتحاشد، وهبوط الأملاك بصكاك العتق والفكاك، شهر فيه المساجد تعمر، والمصابيح تزهر والآيات تذكر، والقلوب تجبر والذنوب تغفر، شهر فيه تشرق المساجد بالأنوار، وتكثر الملائكة لصوامه من الاستغفار، ويعتق فيه الجبار في كل ليلة عند الإفطار ستمائة ألف عتيق من النار، وتنزل فيه البركات، وتعظم فيه الصدقات، وتكفر فيه السيئات، وتقال فيه العثرات، وتدفع فيه النكبات، وترفع فيه الدرجات، وترحم فيه العبرات، وتنادى فيه الحوار الحسان من الجنات: هنيئًا لكم يا معشر الصائمين والصائمات، والقائمين والقائمات، بما أعد الله لكم من الخيرات، لقد غمرتكم البركات، واستبشر بكم أهل الأرض والسموات، فرحم الله امرأ مهد فيه لنفسه قبل حلول رمسه، واشتغل بيومه عن غداه وأمسسه، وتزود من تقيه زاده، ففي نفاده نفاد عمره، وأظهر لفراق شهره جزعه، وسلم على شهره وودعه، وقال: السلام عليك يا شهر رمضان، السلام عليك يا شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، السلام عليك يا شهر التجاوز والغفران، السلام عليك يا شهر البركة والإحسان، السلام عليك يا شهر التحف والرضوان، السلام عليك يا شهر النسك والتعبد، السلام عليك يا شهر الصيام والتهجد، السلام عليك يا شهر التراويح، السلام على يا شهر الأنوار والمصابيح، السلام عليك يا أنس العارفين، السلام عليك يا فخر الواصفين، السلام عليك يا نور

الواقعين، السلام عليك يا روضة العابدين، فيا شهرنا غير مودع ودعناك، وغير مقلي فأرقناك، كان نهارك صدقة وصيامًا، وليلك قراءة وقيامًا، فعليك منا تحية وسلامًا. أنراك تعود بعدها علينا أو تدركنا المنون فلا تؤول إلينا، مصابيحنا فيك مشهورة، ومساجدنا فيك معمورة، فالآن تنطفئ المصابيح، وتنقطع التراويح، ونرجع إلى العادة، ونفارق شهر العبادة. فيا ليت شعرى من المقبول منا فنهنيه بحسن عمله، أم ليت شعرى، من المطرود منا فنعزيه بسوء عمله، فيا أيها المقبول هنيئًا لك بثواب الله عز وجل ورضوانه ورحمته وغفرانه وقبوله وإحسانه وعفوه وامتنانه وخلوده في دار أمانه، ويا أيها المطرود بإصراره وطغيانه وظلمه وعدوانه وخسرانه وتماديه وعصيانه، لقد عظمت مصيبتك بغضب الله وهوانه، فأين مقلتك الباكية، وأين دمعتك الجارية، وأين زفرتك الرائحة الغادية، لأي يوم أخرت توبتك، ولأي عام ادخرت عدتك، إلى عام قابل وحول حائل، كلا فما إليك مدة الأعمار، ولا معرفة المقدار، فكم من مؤمل أمل بلوغه فلم يبلغه، وكم من مدرك له ولم يختمه، وكم من أعد طيبًا لعيده جعل في تلحيده، وثيابًا لتزيينه صارت لتكفينه، ومتأهبًا لفطره صار مرتهنًا في قبره، وكم من لا يصور بعده ساء وهو يطمع في غيره أن يراه، فاحمدوا الله عباد الله على بلوغ اختتامه، وسلوه قبول صيامه وقيامه، وراقبوه بأداء حقوقه، واعتصموا بحبل الله وتوفيقه، واعلموا رحمكم الله أنكم فارقتم شهرًا عظيمًا مفضلاً كريمًا، أين الصوام القوام الموافقون لكم في سالف الأعوام، وأين من كان معكم ليالي شهر رمضان شاهدين، وفي كل حق الله معاملين من الآباء والأمهات والإخوة والأخوات والجيرة والقرابات، أتاهم والله هادم اللذات وقاطع الشهوات ومفرق الجماعات، فأخلى منهم المشاهد، وعطل منهم المساجد، تراهم في بطون الألحاد صرعى، لا يجدون لما هم فيه دفعًا، ولا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا، ينتظرون يومًا الأمم فيه إلى ربها تدعى، والخلائق تحشر إلى الموقف وتسعى، والفرائض ترعد من هول ذلك اليوم جمعًا، والقلوب تتصدع من الحساب صدعًا {ونفخ في الصور فجمعناهم جمعًا} [الكهف: 99]. عباد الله من كان منع نفسه من الحرام في شهر رمضان فليمنعها فيما بعده من الشهور والأعوام، فإن إله لشهرين واحد، وهو على الزمانين مطلع شاهد، جزانا الله وإياكم

على فراق شهر البركة، وأجزل أقسامنا وأقسامكم من رحمته المشتركة، وبارك لنا ولكم في بقيته، وسلك بنا ربكم طريق هدايته برحمته وفضله ومنته. اللهم وما قسمت في هذه الليلة من عتق وغفران، ورحمة ورضوان، وعفو وامتنان، وكرم وإحسان، ونجاة من النيران، وخلود في نعيم الجنان، فاجعل لنا منه أوفر الحظ وأجزل الأقسام برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم فكما بلغتنا شهر الصيام، فاجعل عامة علينا من أترك الأعوام، وأيامه من أسعد الأيام، وتقبل منا ما قدمناه فيه من الصيام والقيام، واغفر لنا ما افترقنا فيه من الآثام، وخلصنا من مظالم الأنام يوم لا يرجى فيه سواك يا علام يا أرحم الراحمين. اللهم إنا قد تولينا صيام شهرنا وقيامه على تقصير، وأدينا فيه من حقك قليلاً من كثير، وقد أنخنا ببابك سائلين، ولمعروفك طالبين، فلا تردنا خائنين، ولا من رحمتك آيسين، فنحن الفقراء إليك، الأسرى بين يديك، إليك توجهنا، ولمعروفك تعرضنا، ولبابك قرعنا، ومن فضلك سألنا، فارحم خضوعنا، واقبل خشوعنا، واجبر قلوبنا، واستر عيوبنا، واغفر ذنوبنا، وأقر برؤيتك في القيامة عيوننا، ولا تصرف وجهك الكريم عنا، واجعل عملنا مقبولاً، وسعينا مشكورًا، وحظنا في هذه الليلة موفورًا. اللهم إن كان في سابق علمك أن تجمعنا في مثله فبارك لنا فيه، وإن قضيت بقطع آجالنا وما يحول بيننا وبينه فأحسن الخلافة على باقينا، وأوسع الرحمة على ماضينا، وعمنا جميعًا برحمتك وغفرانك، واجعل الموعد بحبوحة جنتك ورضوانك، مع الذين أنعمت عليهم {من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا} [النساء: 69] برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم وأهل القبور رهائن ذنوب لا يطلقون، وأسارى وحشة لا يفكون، وغرباء سفر لا ينتظرون، محت دراسات الثرى محاسن وجوههم، وجاورتهم الهوام في ملاحد قبورهم، فهم جمود لا يتكلمون، وجيران قرب لا يتزاورون، وسكان لحد إلى الحشر لا يظعنون، وفيهم محسنون ومسيؤون، ومقصرون ومجتهدون. اللهم فمن كان منهم مسرورًا فزده كرامة وحبورًا، ومن كان منهم ملهوفًا فبدل حزنه فرحًا وسرورًا، اللهم وتعطف على كافة أموات المسلمين الراحلين، والمقيمين المتسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم اجعل قبورهم مفايض صلواتك ومقار هباتك وطرق إحسانك ومجارى عفوك وغفرانك، حتى يكونوا إلى بطون الألحاد مطمئنين، وبجودك وكرمك واثقين، وإلى أعلى درجاتك سابقين، واخصص بذلك الآباء والبنين والإخوة والأقربين، قبل أن يشتمل الهدم على البناء، والكدر على الصفاء، وينقطع من الحياة حبل الرجاء، وتصير المنازل تحت أطباق الثرى، وقبل أن يصير الريح ويلاً، والقطر سيلاً، والصبح ليلاً، ويسحب الموت على أهل السموات والأرض ذيلاً، وقبل أن يقول الشيخ الكبير: وا شيبتاه، ويقول الكهل الخطير: واخجلتاه، ويقول المذنب المسيء: وا خيبتاه، ويقول الحدث النضير: وا حسرتاه، واخجلوا منه وأشفقوا وغشيتهم من الندامة، وختم على أفواههم فلم ينطقوا، ووقفوا على عمل نكس الرؤوس فأطرقوا، وعاينوا من الأهوال ما ودوا معه أنهم لم يخلقوا. اللهم يا سائق القوت، ويا سامع الصوت، ويا كاسي العظام بعد الموت، صلِّ على محمد وعلى آل محمد، ولا تدع لنا في هذه الليلة المباركة الشريفة ذنبًا إلا غفرته، ولا همًا إلا فرجته، ولا كربًا إلا كشفته، ولا مبتليًا إلا عافيته ولا ذا إساءة إلا نقلته، ولا حقًا إلا استخلصته، ولا غائبًا إلا رددته، ولا عاصيًا إلا قطعته، ولا ميتًا إلا رحمته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة لك فيها رضًا ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا على قضائها بتيسير وعافية، مع المغفرة برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اغفر لنا ذنوبنا ولآبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وذرياتنا وقراباتنا وأصدقائنا ومعلمينا، ومن قرأنا عليه وقرأ علينا، وتعلمنا منه وتعلم منا، ومن سألنا الدعاء وسألناه الدعاء ومن أحبنا فيك، ومن تولانا فيك ومن توليناه فيك، ومن كان منهم حيًا ومن كان منهم ميتًا برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم يا عالم الخفيات، ويا دافع البليات، ويا مجيب الدعوات، ويا كاشف الكربات، صلِّ على محمد أفضل البريات، وانفعنا بما صرفت في كتابك من الآيات، وكفِّر عنا بتلاوته السيئات، وارفع لنا بصيام شهر رمضان وقيامه عندك الدرجات، برحمتك يا عالم الخفيات، صلِّ على محمد وعلى آل محمد، واغفر بالقرآن خطايانا، واجز لبه عطايانا، واشف به مرضانا، وارحم به موتانا، وأصلح به أمور ديننا ودنيانا، واحطط به عنا ثقل الأوزار، وهب لنا حسن شمائل الأبرار، واغفر لنا الزلل والعثار،

وطهر لنا القلوب والأسرار، وطيب لنا به الأذكار، وصفِّ لنا به الأفكار، وأرخص لنا الأسعار، واصرف عنا شر الأشرار وكبد الفجار، وأحينا على حب الصحابة الأخيار، واجمع بيننا وبينهم في دار القرار، واجعلنا من عتقائك من النار، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، الحمد لله على سوابغ نعمائه وصلواته على محمد خاتم أنبيائه، وعلى آله وعلى أصحابه وأزواجه وسلم تسليمًا كثيرًا. * * *

القسم الخامس في التصوف

القسم الخامس في التصوف

كتاب آداب المريدين من الفقراء الصادقين سالكي طريق الصوفية

كتاب آداب المريدين من الفقراء الصادقين سالكي طريق الصوفية الذين صفوا عن الأهوية المضلة، وأمسكوا عن الأخلاق الردية فأدخلوا في زمرة الأبدال وأهل الولاية واتصفوا بالعينية، على وجه الاختصار والإقلال، خشية السآمة والملال (فصل: في الإرادة والمريد والمراد) أما الإرادة: فترك ما عليه العادة، وتحقيقها نهوض القلب في طلب الحق سبحانه وترك ما سواه، فإذا ترك العبد العبادة التي هي حظوظ الدنيا والأخرى فتجردت حينئذ إرادته، فالإرادة مقدمة على كل أمر، ثم يعقبها القصد، ثم الفعل، فهي بدء طريق كل سالك واسم أول منزلة كل قاصد، قال الله عز وجل لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} [الأنعام:52] فنهى نبيه -صلى الله عليه وسلم- عن طردهم وإبعادهم، وقال تعالى في آية أخرى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا} [الكهف:28] فأمره -صلى الله عليه وسلم- بالصبر معهم وملازمتهم وتصبر النفس في صحبتهم، ووصفهم بأنهم يريدون وجهه، ثم قال: {ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا} فبان بذلك أن حقيقة الإرادة إرادة وجه الله فحسب، دون زينة الحياة الدنيا والأخرى. فأما المريد والمراد، فالمريد: من كانت فيه هذه الجملة واتصف بهذه الصفة، فهو أبدًا مقبل على الله عز وجل وطاعته، مُوَلٍّ عن غيره وأجابت، يسمع من ربه عز وجل فيعمل بما في الكتاب والسنة، ويصم عما سوى ذلك، ويبصر بنور الله عز وجل فلا يرى إلا فعله فيه، وفي غيره من سائر الخلائق، ويعمى غيره فلا يرى فاعلاً على الحقيقة غيره عز وجل، بل يرى آلة وسببًا محركًا مدبرًا مسخرًا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حبك الشيء يعمى ويصم" أي يعميك عن غير محبوبك، ويصمك عنه لاشتغالك بمحبوبك، فما أحب حتى أراد، وما أراد حتى تجردت إرادته، وما تجردت إرادته حتى قذفت في قلبه

جمرة الخشية فأحرقت كل ما هنالك. قال الله عز جل: {إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة} [النمل: 34] كما قيل: إنها لوعة تهون كل روعة فنومه غلبه وأكله فاقة، وكلامه ضرورة، ينصح نفسه أبدًا فلا يجيبها إلى محبوبها ولذاتها، وينصح عباد الله ويأنس بالخلوة مع الله، ويصبر عن معاصي الله تعالى ويرضى بقضاء الله ويختار أمر الله، ويستحي من نظر الله، ويبذل مجهوده في محاب الله تعالى، ويتعرض أبدًا لكل سبب يوصله إلى الله عز وجل، ويقنع بالخمول والاختفاء، فلا يختار حمد عباد الله، ويتحبب إلى ربه بكثرة النوافل، مخلصًا لله حتى يصل إلى الله عز وجل، ويحصل في زمرة أحباب الله تعالى ومراديه، فحينئذ يسمى مرادًا، فتحط عنه أثقال سالكي طريق الله، ويغسل بماء رحمة الله ورأفته ولطفه، فيبنى له بيت في جوار الله، وتخلع عليه أنواع الخلع، وهي المعرفة بالله والأنس به، والسكون والطمأنينة إليه، وينطق بحكمة الله وأسرار الله بعد الإذن الصريح، بل الخبر من الله عز وجل، ويلقب بألقاب يتميز بها بين أحباب الله تعالى، فيدخل في خواص الله، ويسمى بأسماء لا يعلمها إلا الله، ويطلع على أسرار تخصه، فلا يبوح بها عند غير الله عز وجل، فيسمع من الله، ويبصر بالله وينطق بالله ويبطش بقوة الله، ويسمى في طاعة الله، ويسكن إلى الله، وينام مع طاعة الله، وذكر الله في كلاءة الله وحرز الله، فيكون من أمناء الله وشهدائه، وأوتاد أرضه ومنجى عباده وبلاده وأحبائه وأخلائه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- حاكيًا عن الله تعالى: "لا يزال عبدي المؤمن يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله وفؤاده، فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يعقل وبي يبطس" الحديث. فهذا عبد حمل عقله العقل الأكبر، وسكنت حركاته الشهوانية لقبضة الحق عز وجل، فصار قلبه خزانة الله عز وجل، فهذا هو مراد الله تعالى إن أردت أن تعرفه يا عبد الله. وقد قال من تقدم من عباد الله: إن المريد والمراد واحد، إذ لو لم يكن مراد الله عز وجل بأن يريده لم يكن مريدًا، إذ لا يكون إلا ما أراد، لأنه إذا أراده الحق بالخصوصية وفقه بالإرادة، كما قال الله تعالى: {وما تشاؤن إلا أن يشاء الله} [الإنسان:30].

وقال آخرون: المريد: المبتدى، والمراد: المنتهى، المريد: الذي نصب بعين التعب وألقى في مقاساة المشاق، والمراد: الذي لقى الأمر من غير مشقة، المريد: متعب، والمراد: مرفوق به مرفه، فالأغلب في حق القاصدين المبتدئين في سنة الله تعالى ما قد تم وجرى من توفيق الله تعالى للمجاهدات، ثم إيصالهم إليه وحط الأثقال عنهم، والتخفيف عنهم في كثير من النوافل وترك الشهوات، والاقتصار على القيام بالفرائض والسنن من جميع العبادات، وحفظ القلوب ومحافظة الحدود والمقام، والانقطاع عما سوى الحق عز وجل بالقلوب، فيكون ظواهرهم مع خلق الله تعالى، وبواطنهم مع الله عز وجل، ألسنتهم بحكم الله، وقلوبهم بعلم الله، فألسنتهم لنصح عباد الله، وأسرارهم لحفظ ودائع الله، فعليهم سلام الله وتحياته وبركاته ورحمته وتحيته مادامت أرضه وسماؤه، وقام العباد بطاعته وحقه، وحفظ حدوده. وسئل الجنيد رحمه الله عن المريد والمراد، فقال: المريد: تتولاه سياسة العلم، والمراد: تتولاه رعاية الحق، لأن المريد يسير، والمراد يطير، فمتى يلحق السائر الطائر؟ وينكشف ذلك بموسى ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، كان موسى عليه السلام مريدًا، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- مرادًا، انتهى سير موسى عليه السلام إلى جبل طور سيناء، وطيران نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلى العرش واللوح المسطور. فالمريد طالب، والمراد مطلوب، عبادة المريد مجاهدة، وعبادة المراد موهبة، المريد موجود، والمراد فان، المريد يعمل للعوض، والمراد لا يرى العمل بل يرى التوفيق والمنن، المريد يعمل في سلوك السبيل، والمراد قائم على مجمع كل سبيل، المريد ينظر بنور الله والمراد ينظر بالله، المريد قائم بأمر الله، والمراد قائم بفعل الله، المريد يخالف هواه، والمراد يتبرأ من إرادته ومناه، المريد يتقرب، والمراد يقرب به، والمريد يحمي، والمراد يدلل وينعم ويغذي ويشهي، المريد محفوظ، والمراد يحفظ به المريد في الترقى، والمراد قد أوصل وبلغ إلى الرب الذي هو المرقى، ونال عنده كل طريف ونفيس ولطيف، ونقى، فجاز على كل طائع عابد متقرب بار تقي. * * *

(فصل: ما المتصوف ومن الصوفي؟)

(فصل: ما المتصوف ومن الصوفي؟) أما المتصوف: فهو الذي يتكلف أن يكون صوفيًا ويتوصل بجهده إلى أن يكون صوفيًا، فإذا تكلف وتقمص بطريق القوم وأخذ به يسمى متصوفًا كما يقال لمن لبس القميص تقمص، ولمن لبس الدراعة تدرع، ويقال: متقمص ومتدرع، وكذلك يقال لمن دخل في الزهد: متزهد، فإذا انتهى في زهده وبلغ وبغضت الأشياء إليه وفنى عنها، فترك كل واحد منهما صاحبه، سمى حينئذ زاهدًا، ثم تأتيه الأشياء وهو لا يريدها ولا يبغضها، بل يمتثل أمر الله فيها، وينتظر فعل الله فيها، فيقال لهذا متصوف وصوفى إذا اتصف بهذا المعنى، فهو في الأصل صوفى على وزن فوعل، مأخوذ من المصافاة، يعني عبدًا صافاه الحق عز وجل، ولهذا قيل: الصوفى من كان صافيًا من آفات النفس، خاليًا من مذموماتها، سالكًا لحميد مذاهبه، ملازمًا للحقائق غير ساكن بقلبه إلى أحد من الخلائق. وقيل: إن التصوف: الصدق مع الحق، وحسن الخلق مع الخلق. وأما الفرق بين المتصوف والصوفى: فالمتصوف المبتدى، والصوفي المنتهى، المتصوف الشارع في طريق الوصل، والصوفى من قطع الطريق ووصل إلى من إليه القطع والوصل، المتصوف محمل، والصوفى محمول، حمل المتصوف كل ثقيل وخفيف، فحمل حتى ذابت نفسه، وزال هواه، وتلاشت إرادته وأمانيه فصار صافيًا فسمى صوفيًا، فحمل فصار محمول القدر كرة المشيئة، مربى النفس، منبع العلوم والحكم، بيت الأمن والنور، كهف الأولياء والأبدال وموئلهم ومرجعهم ومتنفسهم ومستراحهم ومسرتهم، إذ هو عين القلادة درة التاج منظر الرب. والمريد المتصوف مكابد لنفسه وهواه وشيطانه وخلق ربه ودنياه وأخراه، متعبد لربه عز وجل بمفارقة الجهات الست والأشياء وترك العمل لها وموافقتها، والقبول منها وتصفية باطنه من الميل إليها والاشتغال بها، فيخالف شيطانه، ويترك دنياه، ويفارق أقرانه وسائر خلق ربه بحكمه عز وجل لطلب أخراه، ثم يجاهد نفسه وهواه بأمر الله عز وجل فيفارق أخراه، وما أعد عز وجل لأوليائه فيها من جنة لرغبته في مولاه، فيخرج من الأكوان فيصفى من الأحداث ويتجوهر لرب الأنام، فتنقطع منه العلائق

والأسباب والأهل والأولاد، فتنسد عنه الجهات، وتنفتح في وجهه جهة الجهات، وباب الأبواب، وهو الرضا بقضاء رب الأنام، ورب الأرباب، ويفعل فيه فعل العالم بما كان وما هو آت، والخبير بالسرائر والخفيات، وما تتحرك به الجوارح، وما تضمره القلوب والنيات، ثم يفتح تجاه هذا الباب باب يسمى باب القربة إلى المليك الديان، ثم يرفع منه إلى مجالس الأنس، ثم يجلس على كرسي التوحيد، ثم يرفع عنه الحجب ويدخل دار الفردانية، ويكشف عنه الجلال والعظمة، فإذا وقع بصره على الجلال والعظمة بقى بلا هو، فانيًا عن نفسه وصفاته، عن حوله وقوته وحركته وإرادته ومناه ودنياه وأخراه، فيصير كإناء بلور مملوء ماء صافيًا، تتبين فيه الأشباح، فلا يحكم عليه غير القدر، ولا يوجده غير الأمر فهو فانٍ عنه وعن حظه، موجود لمولاه وأمره، لا يطلب خلوة لأن الخلود للموجود، فهو كالطفل لا يأكل حتى يطعم، ولا يلبس حتى يلبس، فهو مسترسل مفوض {ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال} [الكهف: 18]. هو كائن بين الخليقة بالجسمان، بائن عنهم بالأفعال والأعمال والسرائر والضمائر والنيات، فحينئذ يسمى صوفيًا، على معنى أنه يصفى من التكدر بالخيقة والبريات، وإن شئت سميته بدلاً من الأبدال، وعينًا من الأعيان، عارفًا بنفسه وربه، الذي هو محيى الأموات، المخرج أولياءه من ظلمات النفوس والطباع والأهوية والضلالات إلى ساحة الذكر والمعارف والعلوم والأسرار ونور القربة، ثم إلى نوره عز وجل: {الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة} [النور:35] {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} [البقرة: 257] فالله تعالى تولى إخراجهم من الظلمات، وهو عز وجل أطلعهم على ما أضمرت قلوب العباد، وانطوت عليه النيات، إذ جعلهم ربي جواسيس القلوب والأمناء على السرائر والخفيات، وحرسهم من الأعداء في الخلوات والجلوات، لا شيطان مضل ولا هوى متبع يميل بهم إلى الضلالات، قال الله عز وجل: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الحجر: 42، والإسراء: 65] ولا في نفس أمارة بالسوء، ولا شهوة غالبة متبعة تدعوه إلى اللذات المردية في الدركات المخرجة من أهل السنة والجماعات. قال الله عز من قائل: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} [يوسف:24] فحرسهم ربي، وقمع رعونات نفوسهم وضراوتها بسلطان الجبروت، فثبتهم في مراتبهم ووفقهم للوفاء بشرطه، بعد أن وفقهم للوفاء بالصدق في سيرهم، وبالصبر في محل انقطاعهم واضطرارهم، فأدوا الفرائض وحفظوا الحدود

والأوامر، وألزموا المراتب حتى قوموا وهذبوا ونقوا وأدبوا وطهروا وطيبوا ووسعوا وزكوا وشجعوا وعوذوا، فتمت لهم ولاية الله وتوليته {الله ولي الذين آمنوا} [البقرة:257]، وقوله تعالى: {وهو يتولى الصالحين} [الأعراف: 196] فنقلوا من مراتبهم إلى مالك الملك، فرتب لهم ذلك بين يديه، فصار نجواهم كفاحًا يناجونه بقلوبهم وأسرارهم، فاشتغلوا به عمن سواه، ونهوا عن نفوسهم وعن كل شيء، هو رب كل شيء ومولاه، فصيرهم في قبضته، وقيدهم بعقولهم وجعلهم أمناء، فهم في قبضته وحصنه وحراسته، يتشممون روح القرب، ويعيشون في فسخة التوحيد والرحمة، فلا يشتغلون بشيء إلا بما أذن لهم من الأعمال، فإذا جاء وقت عمل أبدانهم دون قلوبهم، مضوا مع الحرس في تلك الأعمال، كيلا تضرهم شياطينهم ونفوسهم وأهويتهم، فتسلم أعمالهم من خط الشياطين، وهنات النفوس من الرياء والنفاق والعجب وطلب الأعراض، والشرك بشيء من الأشياء، والحول والقوة، بل يرون جميع ذلك فضلاً من الله وتوفيقًا من الله خلقًا، ومنهم بتوفيقه كسبًا، كيلا يخرجوا بهذه العقيدة من سنن الهدى، ثم يردون بعد أداء تلك الأوامر، وفراغ تلك الأعمال إلى مراتبهم التي ألزموها، فوقفوا معها وحفظوها بالقلوب والضمائر، وقد ينقلون إلى حاة بعد أن جعلوا الأمناء، وخوطب كل واحد منهم بالانفراد في حالته {إنك اليوم لدينا مكين أمين} [يوسف: 54] فلا يحتاجون فيها إلى إذن، لأنهم صاروا كالمفوض إليهم أمرهم، فهم في قبضته حيثما ذهبوا في شيء من أمورهم يحققه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يحكيه عن جبريل عليه السلام، عن الله عز وجل أنه قال: "ما تقرب إلى عبدي بمثل أداء فرائضي، وإنه ليتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله وفؤاده، فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يعقل وبي يبطش" فهذا الخبر قد ذكرناه في مواضع من هذا الكتاب، لأنه أصل في هذا المقام، فيمتلئ قلب هذا العبد بحب ربه عز وجل ونوره وعلمه والمعرفة به، فلا يصح غير ذلك. ألا ترى إلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من أحب أن ينظر إلى رجل يحب الله بكل قلبه فلينظر إلى سالم مولى أبي حذيفة -رضي الله عنه-" فظاهره متحرك متصرف بفعل الله تعالى، وباطنه مملوء بالله عز وجل.

وقد قال موسى عليه السالم: "يا رب أين أبغيك قال: يا موسى في أي بيت يسعني، وأي مكان يحملني؟ فإن أردت أن تعلم أين أنا فإني في قلب التارك الوادع العفيف". فالتارك هو الذي يترك بجهد وفيه بقية، ثم من عليه ربه فودعه موتًا عنه ثم عفا، فلا يلتفت إلى شيء سوى مولاه، فما تلك المنة التي من بها ربه عليه؟ وذلك أنه عز وجل أقامه المرتبة على شرطية اللزوم لها ليقوم بها، فلما وفى له بالشرط ولم يبغ عملاً وحركة غير ذلك وحفظه ولم يتجاوز نقله منها إلى ملك الجبروت ليقوم، فجبر نفسه ثم قمعها بسلطان الجبروت حتى ذلت وخشعت، ثم نقله منها إلى الملك السلطان ليهذب، فذابت تلك الغدد التي في نفسه، وهي أصول تلك الشهوات التي قد صارت غدة ثابتة فيها، ثم نقله منها إلى ملك الجلال فأدب، ثم نقله منها إلى ملك الجمال فنقى، ثم نقله إلى ملك العظمة فظهر، ثم إلى ملك البهاء فطيب، ثم إلى ملك البهجة فوسع، ثم إلى ملك الهيبة فربى، ثم إلى ملك الرحمة فرطب وقوى وشجع، ثم إلى ملك الفردية فعود. فاللطف يعذبه، والرأفة تجمعه وتكتنفه، والمحبة تقويه، والشوق يدنيه، والمشيئة تؤديه إليه، والجواد العزيز يقلبه فيقربه، ثم يدنيه ثم يمهله ثم يؤدبه ثم يناجيه ثم يبسطه ثم يقبض عليه. فأينما صار وفي كل مكان خال وفي كل حال لربه دان فهو في قبضته، وأمين من أمنائه على أسراره، وما يؤديه من ربه إلى خلقه، فإذا صار إلى هذا المحل فقد انقطعت الصفات وانقطع الكلام والعبارات، فهذا هو منتهى العقول والقلوب، وغاية ما تبلغ حالات الأولياء إليه وتؤول، وما وراء ذلك مختص بالأنبياء والرسل عليهم السلام، لأن نهاية الولي بداية النبي على الجميع صلوات الله وتحياته ورأفته ورحمته. والفرق بين النبوة والولاية أن النبوية كلام ينفصل من الله تعالى ووحي، معه روح من الله يقضي الوحي، ويختمه بالروح، منه تعالى قبوله فيقبله، هذا هو الذي يلزم تصديقه، ومن رده فهو كافر، لأنه رد لكلام الله عز وجل. وأما الولاية فهي لمن تولى الله عز وجل حديثه على طريق الإلهام فأوصله إليه فله الحديث، فينفصل ذلك الحديث من الله على لسان الحق معه السكينة، فتلقاه السكينة

التي في قلب المجذوب فيقبله ويسكن إليه. فالكلام للأنبياء، والحديث للأولياء، فمن رد الكلام كفر، لأنه رد على الله كلامه ووحيه، ومن رد الحديث لم يكفر، بل يخيب ويصير وبالاً عليه ويبهت قلبه لأنه رد على الحق ما جاء به محبة الله تعالى ممن علم الله في نفسه فأودعه الحق، وجعله مؤديًا إلى القلب، لأن الحديث ما ظهر من علمه الذي برز في وقت المشيئة، فيصير حديثًا في النفس كالسر، إنما يقع ذلك الحديث بمحبة امن الله لهذا العبد، فيمضي مع الحق إلى قلبه فيقبله القلب بالسكينة. * * *

باب فيما يجب على المبتدي في هذه الطريقة

باب فيما يجب على المبتدي في هذه الطريقة أولاً وما يجب عليه من الأدب مع الشيخ ثانيًا وما يجب على الشيخ في تأديب المريد فالذي يجب على المريد المبتدي في هذه الطريقة: الاعتقاد الصحيح الذي هو الأساس، فيكون على عقيدة السلف الصالح أهل السنة القديمة سنة الأنبياء والمرسلين، الصحابة والتابعين، والأولياء والصديقين على ما تقدم ذكره وشرحه في أثناء الكتاب. فعليه بالتمسك بالكتاب والسنة والعمل بها أمرًا ونهيًا، أصلاً وفرعًا، فيجعلهما جناحيه يطير بهما في الطريق الواصل إلى الله عز وجل، ثم الصدق في الاجتهاد، حتى يجد الهداية، والإرشاد إليه والدليل، وقائدًا يقوده، ثم مؤنسًا يؤنسه، ومستراحًا يستريح إليه في حالة إعيائه ونصبه وظلمته عند ثوران شهواته ولذاته وهنات نفسه وهواه المضل، وطبعه المجبول على التثبط والتوقف عن السير في الطريق قال الله عز وجل: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69] وقال الحكيم: من طلب وجدَّ وَجَدَ. فبالاعتقاد يحصل له علم الحقيقة، وبالاجتهاد يتفق له سلوك الطريقة. ثم يجب عليه أن يخلص مع الله عز وجل عهدًا بأن لا يرفع قدمًا في طريقه إليه، ولا يضعها إلا بالله ما لم يصل إلى الله، فلا ينصرف عن قصده بملامة مليم لأن الصادق لا يرجع، ولا يوجد كرامة فلا يقف معها ويرضى بها عن الله عز وجل عوضًا، إذ هي حجابه عن ربه ما لم يصل إليه عز وجل، فإذا حصل الوصول لا تضره الكرامات، إذ هي من باب القدرة وثمراتها وعلاماتها، ووصوله إلى الحق عز وجل من القدرة، فلا ينقض الشيء نفسه، وكيف وقد يصير هو حينئذ قدوة في الأرض وخرق عادة، وكلامه حكمة بالغة من بعد جهل وعجمة وبلادة وقصور، وحركاته وسكناته وتصاريفه عبرة لمن اعتبرها، وأفعال الله تجري فيه وعليه مما يبهر العقول، ثم قد يؤمر حسنئذ بطلب الكرامة ويجبر عليه، وتحقق عنده أن دماره وهلاكه في ترك الطلب

ومخالفة هذا الأمر، وثباته وبقاءه وعبادته وقربته ومرضاة ربه ودنوه منه وزيادة محبة ربه له في طلبها وامتثال أمره فيها، فكيف تضره الكرامة حينئذ غير أن يكون ذلك بينه وبين ربه عز وجل ولا يظهره لأحد من العوام إلا أن يغلب ليه ظهوره، لأن من شرط الولاية كتمان الكرامات، ومن شروط النبوة والرسالة إظهار المعجزات، ليقع بذلك الفرق بين النبوة والولاية. ولا ينبغي أن يعرج في أوطان التقصير، ولا يخالط المقصرين والبطالين أبناء قيل وقال، أعداء الأعمال والتكاليف، المدعين للإسلام والإيمان، الذين قال الله عز وجل في حقهم: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف: 2 - 3] وقال في أختها: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} [البقرة:44]. وينبغي له ألا يظن ببذل الميسور، ولا يبخل بالموجود خوفًا ألا ينال مثله للإفطار والسحور، ويقطع في نفسه وبقلبه علمًا بأن الله لم يخلق وليًا له في سالف الدهور بخيلاً ببذل الميسور. وينبغي له أن يرضى بالذل الدائم وحرمان النصيب، والجوع الدائم والخمول، وذم الناس له، وتقديم أضرابه وأشكاله وأقرانه عليه في الإكرام والعطاء، والتقريب عند الشيوخ ومجالس العلماء، فيجوع هو والجماعة يشبعون، والكل أعزاء، ونصيبه الذل، ومن لم يرض بهذا ويوطن نفسه عليه فلا يكاد أن يفلح ويجيء منه شيء، فالنجاح الكلي والفلاح فيما ذكرنا. وينبغي له ألا ينتظر من الله مطلوبًا سوى المغرفة لما سلف من الذنوب، والعصمة فيما يأتي من الدهور، والتوفيق لما يحبه من الطاعات، ويوصله إليه من القربات، والرضا عنه في الحركات والسكنات والتحبب إلى الشيوخ من الأولياء والأبدال إذ ذاك سبب لدخول في مرة الأحباب ذوي العقول والألباب، الذي عقلوا من رب الأرباب، واطلعوا على العبر والآيات، فصفت حينئذ القلوب والضمائر والنيات، فهذا الذي ذكرته صفة المريد، وما لم يتجرد قلبه عن جميع الطلبات والمآرب، وينتفي عن غيرها ما ذكرنا من الحوائج والمطالب، لا يكون مريدًا على نعت الاستحقاق. * * *

(فصل) وأما آدابه مع الشيخ

(فصل) وأما آدابه مع الشيخ: فالواجب عليه ترك مخالفة شيخه في صحبته في الظاهر، وترك الاعتراض عليه في الباطن، فصاحب العصيان بظاهره تارك لأدبه، وصاحب الاعتراض بسره متعرض لعطبه، بل يكون خصمًا على نفسه لشيخه أبدًا، يكف نفسه ويزجرها عن مخالفته ظاهرًا وباطنًا، ويكثر قراءة قوله عز وجل: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} [الحشر: 10]. وإذا ظهر له من الشيخ ما يكره في الشرع استخير عن ذلك بضرب المثل والإشارة، ولا يصرح به لئلا ينفر به عليه، وإن رأى فيه عيبًا من العيوب ستره عليه، ويعود بالتهمة على نفسه، ويتأول للشيخ في الشرع، فإن لم يجد له عذرًا في الشرع استغفر للشيخ ودعا له بالتوفيق والعلم والتيقظ والعصمة والحمية، ولا يعتقد فيه العصمة، ولا يخبر أحدًا به، وإذا رجع إليه يومًا آخر أو ساعة أخرى يعتقد أن ذلك قد زال، وأن الشيخ قد نقل إلى ما هو أعلى رتبة ولم يقر عليه، وإنما كان ذلك غفلة وحدثًا وفضلاً بين الحالين، لأن لكل حالين فصلاً ورجوعًا إلى رخص الشرع وإباحته وترك العزيمة والأشد، كالدهليز بين الدارين، والمنزلة بين المنزلتين، انتهاء للحالة الأولى، وقيامًا على عتبة الحالة الثانية، وانتقالاً من ولاية إلى أخرى، وخلع خلعه ولاية، ولبس خلعة ولاية أخرى، التي هي الأعلى والأشرف لأنهم كل يوم في مزيد قرب من الله عز وجل. وإذا غضب الشيخ وعبس في وجهه أو ظهر منه نوع إعراض عنه لم ينقطع عنه، بل يفتش باطنه وما يجري منه من سوء الأدب في حق الشيخ أو التفريط فيما يعود إلى أمر الله عز وجل، من ترك امتثال الأمر وارتكاب النهي، فليستغفر ربه عز وجل وليبت إليه، ويعزم على ترك المعاودة إليه، ثم يعتذر إلى الشيخ ويتذلل له ويتملقه، ويتحبب إليه بترك المخالفة له في المستقبل، ويداوم على المرافقة له، ويواظب عليها، فيجعله وسيلة وواسطة وبين وبين ربه عز وجل، وطريقًا وسببًا يتوصل به إليه، كمن يريد الدخول على ملك ولا معرفة له به، فإنه لابد له من أن يصادف حاجبًا من حجابه، أو واحدًا من حواشيه وخواصه، ليبصره بسياسة الملك ودأبه وعادته، ويتعلم الأدب بين يديه والمخاطبة له، وما يصلح له من الهدايا والطرائف مما ليس مثلها في خزانته، ومما يؤثر الاستكثار، فليأت البيت من بابه ولا يتسلق من ورائه من غير بابه، فيلام ويهان،

ولا يبغ الغرض من الملك ولا المقصود منه، ولكل داخل دهشة لابد له من مذكر ومنه، ومن يأخذ بيده فيقعده موضع مثله، أو يشير إليه بذلك لئلا تتطرق إليه المهانة، ولا يشار إليه بسوء الأدب والحماقة، وليتحقق بأن الله عز وجل أجرى العادة بأن يكون في الأرض شيخ ومريد صاحب ومصحوب، تابع ومتبوع من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة. ألا ترى إلى آدم عليه السلام لما خلقه الله تعالى علمه الأسماء كلها، وافتتح الأمر به، فجعله كالتلميذ مع الأستاذ، والمريد مع الشيخ، وقال له: يا آدم هذا فرس وهذا بغل وهذا حمار، حتى علمه قصعة وقصيعة، ثم لما فرغ من تعليمه وتهذيبه جعله أستاذًا معلمًا شيخًا حكيمًا، وكساه بأنواع الحلل والحلى، وتوجه منطقة وأجلسه على كرسي في اللجنة، وأقام الملائكة حوله صفوفًا فقال: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم} [البقرة: 33] بعد أن ظهر عجزهم وعدم علمهم بذلك، وقولهم: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا} [البقرة:32] فصارت الملائكة تلاميذ لآدم وآدم شيخهم، فأنبأهم بأسماء الأشياء كلها على ما شهد به القرآن، فظهر فضله عليه السلام عليهم، فصار أفضلهم وأعلمهم وأشرفهم عند الله وعندهم، فصار متبوعهم وهم تابعون مقتدون صلوات الله عليهم. فلما جرى ما جرى من أكل الشجرة والخروج من الجنة، والانتقال إلى حالة أخرى ومنزل غيره، لم يعط علمه ولم يستوطنه بعد، ولا جرى ذلك في خلده، ولا ظن أنه سيسار به إليه، فلما وصل إلى المنزل وجال في الأرض، استوحش منها ورأى فيها ما لم يكن رآه من قبل، فألقى عليه الجوع والعطش والحرقة والقبض ما لم يعهده من قبل، احتاج إلى معلم ومرشد وأستاذ ودليل ومؤدب ومنبه، فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام فآنسه، وعرفه ما أشكل عليه من أمر المنزل، وأعطاه الحنطة فأمره فبذرها ثم أمره فحصدها، ثم أمره فذراها، فطحنها وهيأ له أسبابها، ثم أمره بالخبز فخبز، ثم أمره بالأكل فأكل، ثم لما طلب الطعام الخروج من المعدة تحير ولم يعلم بالصنع احتاج إلى معلم أيضًا، فعلمه كيف يتغوط وكيف يتطهر، وكيف يعبد الله تعالى في المنزل، وعلمه كيف يتوصل إلى بياض جسده الذي قد حال لونه من البياض والإشراق إلى السواد والظلمة، فأمره بصيام أيام البيض من الشهر ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر، فعاد لونه إلى البياض، وعلمه غير ذلك من العلوم والآداب، فصار آدم عليه السلام تلميذًا لجبريل، وجبريل عليه السلام أستاذه وشيخه، بعد أن كان آدم شيخه والملائكة أجمع ومتبوعهم، وأعلمهم كل ذلك لتغير الحال به، والانتقال من منزل إلى آخر، ثم هلم

جرًا، تعلم شيث بن آدم من أبيه آدم، ثم أولاده منه، وكذلك نوح النبي عليه السلام علم أولاده، وإبراهيم عليه السلام علم أولاده، قال الله تعالى: {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب} [البقرة: 132] أي أمرهم وعلمهم، وكذلك موسى وهارون عليهما السلام علما أولادهما وبني إسرائيل، وعيسى عليه السلام علم الحواريين، ثم إن جبريل عليه السلام علم نبينا -صلى الله عليه وسلم- الوضوء والصلاة ووصاه بالسواك وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وصاني جبريل بالسواك حتى كاد أن يفرضه، وصلى بي جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حتى زالت الشمس .... " الحديث إلى آخره وقد تقدم ذكره ثم تعلمت الصحابة رضي الله عنهم منه -صلى الله عليه وسلم- ثم التابعون منهم، ثم تابعو التابعين منهم قرنًا بعد قرن وعصرًا بعد عصر، فما من نبي إلا وله صاحب يهتدي بهداه ويقفو أثره وينتحل مذهبه ويهدى هديه، ثم يخلفه مكانه ويقوم مقامه، كموسى بن عمران وغلامه وابن أخته يوشع بن نون عليهم السلام، والحواريون مع عيسى عليه السلام، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك عثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم، وما زالت الأولياء والصديقون والأبدال كذلك من بين أستاذ وتلميذ كالحسن البصري وتلميذه عتبه الغلام وسرى السقطي وغلامه وابن أخته أبي القاسم الجنيد وغيرهم مما يطول شرحه. فالمشايخ هم الطريق إلى الله عز وجل والأدلاء عليه والباب الذي يدخل منه عليه، فلابد لكل مريد لله عز وجل من شيخ على ما بينا، إلا على النذور والشذوذ، فيجوز أن يصطفى الله عبدًا من عباده، فيتولى تربيته وحراسته عن الشيطان وهنات النفس والهوى، كإبراهيم النبي ونبينا محمد صلوات الله وسلامه عليهما، وأويس القرني من الأولياء وغيرهم رحمهم الله فلا ينكر، إلا أنا بينا ما هو الأغلب والأكثر والأسلم والأحسن. فلا ينبغي له أن ينقطع عن الشيخ حتى يستغنى عنه بالوصول إلى ربه عز وجل، فيتولى تبارك وتعالى تربيته وتهذيبه، ويوقفه على معاني أشياء خفيت على الشيخ، ويستعمله مما يشاء من الأعمال ويأمره وينهاه ويبسطه ويقبضه ويغنيه ويفقره ويلقنه ويطلعه على أقسامه وما سيؤول أمره إليه، فيستغنى بربه عن غيره، بل لا يتفرغ لغيره

ولا يسعه مراعاة الأدب لغيره، ومحافظة خدمته وحرمته وتوقيره، فحينئذ يقطع عن الشيخ قطعًا وربما حرم عليه المرور إلى الشيخ، إلا عن أمر صريح وخبر بين، إلا ما يتفق مجيء الشيخ إليه، أو الملاقاة له في طريق أو جامع قدرًا لا قصدًا، كل ذلك حفظًا للحال، واستغناء بالرب وغيره على الحال وملازمة لها وخيفة من الزلة والمفارقة لها والعقوبة بذلك، وذلك أن الحكم يجمع المريد والشيخ ويسعهما والأحوال تفرق بينهما لأنها قدر والقدر غيب، فهي فعل الرب عز وجل، والله تعالى في كل يوم هو في شأن في تقديم وتأخير، وتبديل وتغيير، وولاية وعزل، وإغناء وإفقار، وإعزاز وإذلال، يسوق المقادير إلى المواقيت، لا يدرك ذلك ولا ينضبط لأحد من الخلق، ليل مظلم وبحر لجي، وبر شاسع لا يحيط بشيء من ذلك إلا الله عز وجل، ومن يطلعه الله تعالى عليه من رسله وأنبيائه وخواص أوليائه، فالاثنان من الأولياء لا يتفقان في طريق بعد دخولهم في الحالات التي هي القدر والفعل. فما يصنع المريد بالشيخ وطريقهما مختلفة، فالشيخ يسير به إلى جهة، والمريد إلى أخرى، فقد خولف بين ظهورهما ووجوههما، فأنى لهما والصحبة والاجتماع والاتباع يبعد ذلك جدًا، فإن اتفق فهو نادر شاذ لا التفاف إليه ولا معول عليه، إذ الأغلب ما قد انكشف وظهر وبان، فصلوات الله على الشيخ، وعلى المريد الصادق الذي إذا بلغ به إلى حالة استغنى فيها بربه تبارك وتعالى عن الشيخ. ومن آداب المريد: ألا يتكلم بين يدي شيخه إلا في حالة الضرورة، وألا يظهر شيئًا من مناقب نفسه بين يديه. ولا ينبغي له أن يبسط سجادته بين يدي الشيخ إلا في وقت أداء الصلاة، فإذا فرغ من صلاته طوى سجادته في الحال، ويكون متهيئًا لخدمة شيخه ومن هو قاعد على بساطه، مبسوطًا مستوطنًا مستريحًا، لا كلفة عليه لغيره، وهذه حالة الشيوخ لا حالة المريدين. ويجتهد في اجتناب بسط سجادته وفوق سجادته من هو فوقه في الرتبة، وإدناء سجادته من سجادته إلا بأمره، فإن ذلك عندهم سوء أدب. وينبغي للمريد إذا جرت مسألة بين يدي الشيخ أن يسكت، وإن كان عنده فضل

وإشباع جواب فيها، بل يغتنم ما يفتح الله على لسان شيخه فيقبله ويعمل به، وإن رأى في جوابه نقصانًا وقصورًا فلا يرد عليه، بل يشكر الله تعالى على ما خصه من فضل وعلم ونور، ويخفى جميع ذلك في نفسه، ولا يكثر حديثه فيقول أخطأ الشيخ في المسألة، ولا يناقض كلامه إلا أن يغلب عليه ذلك، فيبتدر منه الكلمة فليتداركه بالسكوت والتوبة، والعزم على ترك المعاودة على ما قدمنا ذكره في أثناء الكتاب، من فعله في توبته عن معاصي الله عز وجل، فالخير كله في حق المريد في سكوته فيما هذا سبيله. وينبغي للمريد ألا يتحرك في حال السماع بين يدي الشيخ إلا بإشارة منه عليه، ولا يرى من نفسه البتة حالاً إلا أن ترد غلبة تأخذه عن التمييز والاختيار، فإذا سكنت فورته فليعد إلى حال سكونه وأدبه ووقاره وكتمان ما أولاه الله عز وجل من سره، وقد ذكرنا هذا وإن كنا لا نرى بالسماع والقول والقصب والرقص، وقد قدمنا كراهته فيما تقدم، إلا أنا قد ذكرنا ذلك على ما قد لهج به أهل زماننا في أربطتهم ومجامعهم، ولا ينكر أن يكون فيمن يفعل ذلك صادق، فيكون معنى ما قد سمع مهيجًا لنائرة صدقه ومثيرًا لها، فيشتغل بنائرته ويغيب فيها، فتتحرك أعضاؤه وجوارحه بين القوم وهو في معزل عما القول فيه من لذة الطباع والأهوية، وتذكار كل واحد قرب معشوقه ممن قد مات وطال به عهده، ومن هو حي غائب عنه فاشتد شوقه. والمريد الصادق نائرته غير خامدة، وشعلته غير هامدة، ومحبوبه غير غائب، وأنيسه غير مستوحش، فهو أبدًا في زيادة دنو وقرب، ولذة ونعيم، فلا يغيره ويهيجه عن حالته غير كلام مراده، وحديثه الذي هو ربه عز وجل. ففي ذلك عنده مندوحة عن الأشعار والقيانة والأصوات وصراخ المدعين شركاء الشياطين، ركاب الأهوية مطايا النفوس والطباع، أتباع كل ناعق وزاعق. وينبغي للمريد أن لا يعارض أحدًا في حال سماعه، ولا يزاحم أحدًا في وقته في التقاضي على الذي ينشد الزهديات المرققات المشوقات إلى الجنان والحور، ورؤية الحق تعالى في الآخرة، المزهدات في الدنيا ولذاتها وشهواتها وأبنائها ونسوانها، المشجعات على الصبر على آفاتها ومحنها وبلائها، وأدبارها على أبناء الآخرة، وإقبالها على أبنائها وغير ذلك، فليكل جميع ذلك إلى الشيخ الحاضر، فإن القوم في ولاية الشيخ، اللهم

(فصل آخر: في أدبه مع شيخه)

إلا أن يكون المستمع حينئذ من المحققين الصادقين، فيحفظ الأدب في الظاهر، ويسكن عن تكلفه في الباطن، فلا شك أن الله عز وجل يقيض من يتقاضى عنه، أو يلهم القائل بذلك التكرار والترداد، ليقضى الصادق المستمع نهمته ووطره من ذلك. (فصل آخر: في أدبه مع شيخه): وينبغي له إذا أراد أن يتأدب بشيخ أن يكون له إيمان وتصديق واعتقاد أن ليس في تلك الديار أولى منه، حتى ينتفع به فيما هو مرامه، وأن يقبله الله عز وجل ويحفظ سره في خدمته مع الله تعالى فإن صدق فيما بينه وبين الله تعالى في عقد إرادته، بحفظه حتى لا يجرى على لسان شيخه إلا ما هو الأولى بشأنه، ويحذر مخالفته جدًا، لأن مخالفة الشيوخ سم قاتل فيها مضرة عامة، فلا يخالفه بتصريح ولا بتأويل، ويجتهد ألا يكتم من شيخه شيئًا من أحواله وأسراره، ولا يطلع أحدًا سواه على ما يأمره شيخه. ولا ينبغي له أن يحتج إلى طلب الرخصة أو يرجع إلى شيء تركه لله عز وجل، فإنه من الكبائر وفسخ الإرادة عند أهل الطريقة. وقد جاء في الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "العائد في هبته كالكلب يقئ ثم يعود فيه". وعليه الانقياد لالتزام ما يأمر به شيخه من التأديب على مقتضى سوء أدبه، فإن وقع منه تقصير في القيام بما أشار إليه شيخه، فالواجب عليه تعريف ذلك لشيخه ليرى فيه رأيه، ويدعو له بالتوفيق والتيسير والفلاح. * * * (فصل) وأما الذي يجب على الشيخ في تأديب المريد: فهو أن يقبله لله عز وجل لا لنفسه فيعاشره بحكم النصيحة، ويلاحظه بعين الشفقة، ويلاينه بالرفق عند عجزه عن احتمال الرياضة فيربيه تربية الوالدة لولدها، والوالد الشفيق الحكيم اللبيب لولده وغلامه، فيأخذه بالأسهل ولا يحمله ما لا طاقة له به، ثم بالأشد فيأمره أولاً بترك متابعة الطبع في جميع أموره، واتباع رخص الشرع حتى يخرج

بذلك عن قيد الطبع وحكمه، ويحصل في قيد الشرع ورقه، ثم ينقله من الرخص إلى العزيمة شيئًا بعد شيء، فيمحو خصلة من الرخص، ويثبت مكانها خصلة من العزيمة، فإن وجد في ابتداء أمره فيه صدق المجاهدة والعزيمة وتفرس فيه ذلك بنور الله عز وجل ومكاشفته، وعلم من قبل الله عز وجل على ما قد مضت سنة الله في عباده المؤمنين من الأولياء والأحباب الأمناء العلماء به، فحينئذ لا يسامحه في شيء من ذلك، بل يأخذه بالأشد من الرياضيات التي يعلم أنه لا تتقاصر قوة إرادته عنها، إذ ثبت عنده أنه مخلوق لذلك وجدير به، وهو من شأنه فلا يخونه في التهوين عليه. ولا ينبغي له أن يرتفق من المريد بحال لا بالانتفاع بماله ولا بخدمته، ولا يأمل من الله عز وجل عوضًا في تأديبه، ولا شيئًا، بل يؤدبه ويربيه موافقة لله عز وجل أداء لأمره وقبولاً لهديته وطرفته، فإن المريد الذي جاء من غير تخيير من الشيخ ولا استجلاب، بل قدر محض بإرشاد الله تعالى له وهدايته وإنقاذه إليه، فإنه هدية من الله، فعليه قبوله والإحسان إليه بحسن تأديبه وتربيته، فلا يرتفق به ولا بماله إلا بأمر من الله تعالى، وخير في استعماله وقبول ما يأتي به من ماله الذي قد جعل الله تعالى صلاح المريد ونجاته به، وقسم للشيخ فيه، فحينئذ لا سبيل إلى الإعراض عنه ورده. ويحذر جدًا أن يختار من المريد من يقع له، بل ينتظر في ذلك فعل الله وقدره، فمن جاء الله تعالى به من غير تكلف منه وتخيير قبله ورباه، فحينئذ يوفق في تربيته ويسرع فلاح المريد ونجحه، فليحذر أن يكون هو فيه فيعدم التوفيق والحفظ في حق المريد. وعليه أن يربيه بهمته وينوب عنه في سره إذا وجد منه خللاً أو فترة. وعليه أن يحفظ سر المريدين فلا يطلع غير على ما يحصل له من الإشراف على أحواله، إما بطريق علم لدني من مواهب الله عز وجل، أو بإفشاء المريد له، واستكتامه إياه، فلا ينبغي له أن يفشيه لغيره، لأنه أمانة عنده وقد قيل: صدور الأحرار قبول الأسرار، فينبغي له أن يكون مستراحًا للمريدين، وخزانة لهم وحرزًا لأسرارهم، وملجأ لهم وكهفًا ومشجعًا ومقويًا ومعينًا لهم، ومثبتًا لهم في الطريق، ولا ينفرهم عن الطريق ومصاحبتهم والقصد إلى الله عز وجل. وإذا رأى شيئًا مما يكره في الشرع من المريد وعظه في السر وأدبه، ونهاه عن المعاودة

إلى ذلك إن كان ذلك في الأصول أو الفروع أو ادعاء حالة ليست له أو إعجاب بعمله ورؤيته، فيصونه عن محل الإعجاب، ويصغر في عينه أحواله وأعماله، لئلا يهلك، فإن العجب يسقط العبد من عين الله عز وجل، وإن أراد أن يعم الجماعة بالنصح فليجمهم وليتكلم عليهم فيقول: بلغني أن فيكم من يدعى كذا ويقول كذا ويرتكب كذا، ويذكر ما يتعلق بذلك من المفاسد والمصالح، ويذكرهم ويحذرهم، ولا يعين أحدًا منهم على ذلك لما في ذلك من التنفير، فإن أخشن الخلق والقول معه، وأفشى أسرارهم واغتابهم وثلبهم وذكر مساويهم، نفرت قلوبهم عن قصده ومصاحبته، وصار ذلك تهمة عندهم في أهل الطريقة، وفيما قد غرس في قلوبهم من حب أولياء الله تعالى، فليحذر من ذلك جدًا، فإن غلب هذا عليه ولا يمكنه تداركه فليعزل نفسه عن هذه النصبة والولاية، ولينفرد عن المريدين، ويشتغل بمجاهدة نفسه ورياضتها، وطلب شيخ يؤدبه ويقومه ويهذبه، فلا يصلح أن يكون شيخًا مع هذه الدواهي، فلا يقطع على المريدين طريقتهم إلى الله عز وجل. * * *

باب في صحبة الإخوان والصحبة مع الأجانب وكيف الصحبة مع الأغنياء والفقراء

باب في صحبة الإخوان والصحبة مع الأجانب وكيف الصحبة مع الأغنياء والفقراء أما الصحبة مع الإخوان: فبالإيثار والفتوة والصفح عنهم والقيام معهم بشرط الخدمة، لا يرى لنفسه على أحد حقًا، ولا يطالب أحدًا بحق، ويرى لكل أحد عليه حقًا، ولا يقصر في القيام بحقهم. ومن الصحبة معهم إظهار الموافقة لهم في جميع ما يقولون أو يفعلون، ويكون أبدًا معهم على نفسه ويتأول لهم ويعتذر عنهم، ويترك مخالفتهم ومنافرتهم ومجادلتهم ومماراتهم ومشاددتهم، ويتعامى عن عيوبهم، فإن خالفه أحد منهم في شيء سلم له ما يقول في الظاهر، وإن كان الأمر عنده بخلاف ما يقوله. وينبغي أن يحفظ أبدًا قلوب الإخوان، ويجتنب فعل ما يكرهونه وإ، علم فيه صلاحهم، فلا ينطوى لأحد منهم على حقد وإن خامر قلب واحد منهم كراهة له تخلق معه بشيء حتى يزول ذلك، فإن لم يزل زاد في الإحسان والتخلق حتى يزول، وإن وجد هو في قلبه من أحد منهم استيحاشًا وأذية بغيبة أو غيرها فلا يظهر ذلك من نفسه ويرى من نفسه خلاف ذلك له. * * * (فصل) وأما الصحبة مع الأجانب: فيحفظ السر عنهم، وينظر إليهم بعين الشفقة والرحمة، وأن يسلم أحوالهم إليهم، ويستر عليهم أحكام الطريقة، ويصبر على سوء أخلاقهم وترك معاشرتهم ما أمكنه، وألا يعتقد لنفسه عليهم فضيلة ويقول: إنهم من أهل السلامة فيتجاوز الله عنهم، ويقول لنفسه: أنت من أهل المضايقة، فتطالبين بالنقير والقطمير والحقير والكبير، وتحاسبين على الكبير والصغير، وأن الله تعالى يتجاوز للجاهل مالا يتجاوز بمثله من العالم، والعوام لا يبالى بهم والخواص على الخطر. * * *

(فصل) وأما الصحبة مع الأغنياء

(فصل) وأما الصحبة مع الأغنياء: فالتعزز عليهم، وترك الطمع فيهم، وقطع الأمل مما في أيديهم، وإخراج جميعهم من قلبك، وحفظ دينك من التضعضع لهم لنوالهم، كما جاء في الحديث وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من تضعضع لعنى لأجل ما في يديه ذهب ثلثا دينه" فتعوذ بالله من فعل ينقص به الدين، وصحبة أقوام ينثلهم بهم الدين، وتنقطع عراه، ويطفئ نور الإيمان شعاع أموالهم وبريق دنياهم كما جاء في الحديث. غير أنك إذا ابتليت بصحبتهم في سير أو سفر أو مسجد أو رباط أو مجمع فحسن الخلق أولى ما يستعمل، وهو حكم عام شامل في صحبة الأغنياء والفقراء فلا ينبغي لك أن تعتقد لنفسك فضيلة عليهم، بل تعتقد أن جميع الخلق خير منك لتتخلص من الكبر، ولا تطلب لنفسك فضيلة الفقر ولا تعتقد لها خطرًا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا ترى لها قدرًا ولا وزنًا كما قيل: من جعل لنفسه قدرًا فلا قدر له ومن جعل له وزنًا فلا وزن له، فأدب الغني بالإحسان إلى الفقير، وهو إخراج المال من كيسه إليه، ويكون فراغًا من ماله مستخلفًا فيه غير متملك له. وأدب الفقير إخراج الغني من قلبه، ويكون قلبه فارغًا من الغني وماله، بل من الدنيا والآخرة أجمع، ولا يجعل لشيء من الأشياء في قلبه موطنًا ومحلاً ومدخلاً، بل يتصفى من ذلك كله ويخلو منه، ثم يترقب امتلاءه بربه عز وجل، فلا يكون لغيره وجود ولا له حول ولا قوة، فيأتيه عند ذلك فضل الله عز وجل فحينئذ يحصل الغني به عز وجل من غير تعب ولا هم. * * * (فصل) وأما الصحبة مع الفقراء: فبإيثارهم وتقديمهم على نفسك في المأكول والمشروب والملبوس والمذوذ والمجالس وكل شيء نفيس، وترى نفسك دونهم، ولا ترى لها عليهم فضلاً في شيء من الأشياء البتة. عن أبي سعيد بن أحمد بن عيسى قال: صحبت الفقراء ثلاثين سنة ولم يجر بيني وبينهم كلام قط تأذوا به، ولا جرى بيني وبينهم منافرة استوحشوا منها، قيل له: كيف

ذلك؟ قال: لأني كنت معهم على نفس أبدًا، وإذا دخلت عليهم أدخلت عليهم سرورًا ورفقًا، واستعملت معهم خلقًا هدية وأدبًا وسببًا من الأسباب، فلا ترى بذلك لك عليهم فضلاً، بل تتقلد منهم منة في قبولهم ذلك منك. واحذر أن تمن عليهم بذلك أو تراه منك بل اشكر الله عز وجل على ما أولاك من توفيقه على تيسير ذلك، جعله لك أهلاً لخدمة أهله وخاصته وأحبابه، فإن الفقراء الصالحين هم أهل الله وخاصته كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته" فأهل القرآن من يعمل بالقرآن، وأما من يقرأ بلا عمل فليس من أهله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما آمن بالقرآن من استحل محارمه". فالمنة لمن يقبل منك العطية لا لك. * * * (فصل) ومن آداب الصحبة مع الفقراء: ألا تحوجهم إلى مسألتك، وإن اتفق فاستقرض الفقير منك شيئًا فتقرضه في الظاهر، ثم تبرئه منه في الباطن، وتخبره عن قريب بذلك، ولا تبدأه بالعطاء على وجه الصلة لئلا يتحشم بحمل المنة منك بذلك. ومن الأدب معهم: مراعاة قلبه بتعجيل مراده دون تنغيص الوقت عليه بطول الانتظار، لأن الفقير ابن وقته كما ورد: ابن آدم ابن يومه وليس له وقت لانتظار المستقبل. ومن الأدب معهم: أنك إذا علمت أنه ذو عيال وصبيان فلا تفرده بالإرفاق فحسب، بل تتخلق معه بقدر ما يتسع له ولمن يشتغل به قلبه. ومن الأدب معهم: الصبر على ما يذكر الفقير من حاله، وأن تتلقاه في حال ما يخاطبك بوجه طلق مستبشر، ولا تلقاه بالعبوس ولا بالنظر الشزر ولا بالكلام النزر، وإذا طالبك بما لا يحضر في الوقت فاصرفه بالوجه الجميل إلى عند مساعدة الإمكان، ولا توحشه بيأس الرد على الجزم لئلا يعود بحشمة الإخفاق وعدم الإصابة بحاجته عندك، والندم على إفشاء سره إليك حسيرًا، وربما يغلب عليه طبعه، وتستولي عليه

نفسه، فيظهر عليه الجهل بحاله والسخط عليك والاعتراض على الرب عز وجل فيما قسم له من الفاقة إلى الخلق والتبذل عنهم، فيعمى قلبه وينطفئ نور إيمانه، فكنت أنت مؤاخذًا بذلك كله، إذا كنت سببًا لثوران ذلك من قلبه، بتركك الأدب في رده، وربما حجب أيضًا عن الصواب، والمعارف والعلوم والمصالح المدفونة في سؤاله للخلق، التي لو صبر وأحسن الأدب ظهرت وارتحل السؤال للخلق وحصل غنى اليد والقلب والبيت، وجاءته عساكر فضل الله وآلائه ونعمائه ودللته يد الرأفة والرحمة والراحة والرعاية، وتحقق فيه قوله عز وجل: {وهو يتولى الصالحين} [الأعراف: 196] وجعل مصانًا مغارًا عليه، وله غنى عن الأشياء بخالقها وتأتيه الأشياء وهو لا يأتيها، يقصده القاصدون فينالون من أنواره وسره، ويطيبون بطيبه وهو لا يشعر بهم في غيب عنهم، مشغول بمولاه وجاذبه الذي جذبه إليه، وأنقذه من ظلمات مخالطة الخلق، وموافقة النفس ومتابعة الهوى، والتقيد بإرادة الأشياء دنيا وأخرى {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} [يس: 55] أهل الجنة لما باعوا في الدنيا أنفسهم وأموالهم لربهم عز وجل بالجنة، كما قال جل وعلا: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} [التوبة:111] وصبروا على الإفلاس في الدنيا وردوا التصرف في الأنفس والأموال والأولاد إلى ربهم عز وجل، وسلموا الكل إليه جل جلاله سوى الأوامر والنواهي، وامتثلوا الأوامر وانتهوا عن النواهي وسلموا في المقدور، وتحرزوا من الخليقة، وتجوهروا عن الإرادات والأماني، والهمم في الجملة أدخلهم الجنة فشغلهم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كما قال جل وعلا: {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} فهكذا الفقير إذا فعل ذلك في الدنيا وتحقق بظاهر القرآن حصول الجنة له، باع حينئذ الجنة بربه عز وجل، وطلب الجار قبل الدار كما قالت رابعة رحمها الله: الجار قبل الدار، وكما قال عز وجل: {يريدون وجهه} [الأنعام: 52، والكهف: 28] وكما قال الله عز وجل في بعض كتبه السالفة: أود الأوداء إلى عبد عبدني بغير نوال ليعطي الربوبية حقها، وقول على رضي الله عنه: لو لم يخلق الله الجنة والنار ما كان أهلاً أن يعبد، قال عز وجل: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} [المدثر: 56] فإذا اتصف الفقير بهذه الصفة، وتحقق إفلاسه عن سوى مولاه، وتنظف قلبه عن التعلق بالأشياء وفنى عنها، وصار مريدًا حقًا، وغاب عما سوى ربه عز وجل، كان حقيقًا على كرم الله أن يتولاه ويدلله وينعمه في الدنيا إلى حين اللقاء، ثم يزيده على ذلك، ويجدد

(فصل: في آداب الفقير في فقره)

عليه الخلع والأنوار والنعيم والحياة الطيبة، والقرب على ما أعد وأخبر لأوليائه وأحبابه، بقوله عز وجل: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 11]. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، اقرأوا إن شئتم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}. فإن رددت الفقير اليد الغني القلب المتمثل لأمر مولاه في إخباره لك عن حاله لأجل عياله أو نفسه طائعًا لربه عز وجل في ذلك خائفًا له، أن لو ترك سؤالك إذ كلفه الله ذلك وابتلاه به، قال الله عز وجل: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون} [الفرقان: 20] وهي حالة له لا تدوم، بل تنقضي عن قريب وينقل إلى ما قسم له من الغنى والعز الدائم بقرب مولاه وإعطائه، عاقبك الله يا غني اليد فقير القلب، الجاهل بنفسه وبربه، ومنشئه ومنتهاه، بأن يسلب الغنى عن يدك، فتصير فقير اليد كما كنت فقير القلب، فتكون أبدًا فقيرًا إلى الأشياء، فلا تشبع منها حريصًا عليها، طالبًا لها معذبًا في إرادتها وتحصيلها، وهي غير مقسومة لك، كما قيل: إن من أشد العقوبات طلب ما لا يقسم إلا أن يتغمدك الله برحمته، فينبهك لذنبك فتستغفره، وتتوب إليه من ذلك وتعترف بتفريطك ويتوب عليك ويغفر لك، فذلك إليه وهو أرحم الراحمين غفور رحيم. * * * (فصل: في آداب الفقير في فقره) فينبغي للفقير أن تكون شفقته على فقره كشفقة الغني على غناه، فكما أن الغني يفعل كل شيء ويجتهد حتى لا يزول غناه، فكذلك ينبغي للفقير أن يفعل مثل ذلك حتى لا يزول فقره، فيسأل الله عز وجل زوال غناه إلى فقره، أو يتعرض بالمعايش والاكتساب والأسباب للاستغناء، والتكثر بالدنيا للعيال، وعفة النفس عند الضيقة. ومن شرط الفقير أن يقف مع كفايته، ولا يأخذ فوقها بحال، ويكون أخذه لذلك القدر امتثالاً لأمر الله تعالى، وخوفًا من الوقوع في إثم قتل النفس، قال الله عز وجل: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا} [النساء: 29] لأن منعه لنفسه حقها حرام،

وهو القوت من الطعام والشراب والكسوة والقدر الذي تقوم به البنية، ولا يضعف عن أداء الأوامر من الاتيان بشرائط الصلاة وأركانها وواجباتها عليه، ويترك ما هو حظها، فإن كانت قسمته إليه من غير أن يكون هو فيه بفعل الله عز وجل، فلا يتعرض للحظ أبدًا إلا أن يكون مريضًا فيوصف له شيء من الحظوظ، فيتناوله على وجه التداوي، فيصير الحظ حينئذ حقًا في حال مرضه، كالقوت في حال صحته. وينبغي أن يكون استلذاذه بفقره أكثر من استلذاذ الغني بوجود غناه. وينبغي له أن يؤثر ذله وخموله وعدم قبول الناس له وقصدهم إليه وازدحامهم لديه. ومن شرطه أن يكون قلبه أقوى بصفاء الحال عند خلو يده من المال، فكلما قل الفتوح كثر طيب قلبه وقوته ونوره، وازداد فرحه بشعار الصالحين، وأما إذا أظلم ذلك قلبه وأوحشه وأسخطه على ربه، فليعلم أنه مفتون قد أحدث في فقره ذنبًا عظيمًا، فليتب إلى الله عز وجل ويستغفره، ويخلد إلى التفتيش والتنقير ولوم النفس، ومن حق الفقير أن يكون كلما كثر عياله كان قلبه في باب أمر الرزق أسكن وبربه أوثق، يتمثل أمر ربه في الكسب لهم في الظاهر، ويسكن إلى وعد ربه في الباطن، ويقطع بأن لهم رزقًا عند الله قد وعد به وقدره، وهو سائقه إليهم على يده أو يد غيره، فليتنح من الوسط ولا يكون فضوليًا، فيدخل بين الخلق وخالقهم، بل يمتثل الأمر فيهم، ولا يعترض ولا يسخط ولا يتهم الرب، ولا يشك في وعده، ولا يشكو إلى أحد، بل يكون شكواه إلى ربه وإنزال حاجته به عز وجل، وكلامه وسؤاله له عز وجل في توفيقه بالصبر وأداء الأمر في حقهم، والرضا بما قضى عليهم بإضافتهم، وإلزامه له مؤنتهم، ويسأله تسهيل رزقهم وتيسيره، فهو قريب مجيب، إنما يبتلى عبده ليرده بالبلية إليه عز وجل، لأنه يحب الملحين له بالسؤال، لأن بالسؤال يتميز الرب من المربوب والسيد من العبد والغنى من الفقير، ويخرج العبد من الكبر والاستنكاف والتعظيم والنخوة إلى التواضع والذلة والافتقار، فإن تحقق ذلك من العبد تحققت الإجابة سريعًا عاجلاً مع ما يدخر له من الثواب في العقبى. ومن آدابه: ألا يكون له هم الوقت المستقبل، بل يكون بحكم وقته لا يتطلع للوقت الثاني، بل يحفظ الحال وحددها وشرائطها وآدابها مطرقًا غاضًا عما سواها، لا أعلى منها ولا دونها، ولا يشده إلى حال غيره، ربما كان هلاكه فيها وهي لأهلها سلامة

ونعمة، كالأغذية فمن الأغذية ما يزيد الشخص عافية ولآخر سقمًا وبلاء، فلا ينبغي للمريض أن يتناول شيئًا منها إلا بأمر الطبيب، فكذلك ينبغي للفقير ألا يختار حالة لنفسه حتى يدخل فيها من غير أن يكون هو فيها، بفعل المولى عز وجل قدرًا محضًا وإرادة مجردة، لا يحل نفسه في شيء من الحالات والمقامات وينزلها به فيضل ويردى، حتى يأتيه أمر الذي أمات وأحيا، وينقله منها فعل الذي منع وأعطى، وأفقر وأغنى، وأضحك وأبكى، لأن ذلك أليق به وإلى ربه أقرب وأدنى، هكذا تقدم ومضى أمر من سلف من أولى العلم من أهل الطريقة، فيما خلا فيهم الاقتداء، وإلى رب الخليقة المنتهى. ومن أدب الفقير: أن يكون مستعدًا لورود الموت متهيئًا له منتظرًا مترقبًا في الساعات كلها ليكون ذلك عونًا له على الرضا بفقره وحمل ما حل به من الأذى، لأن به يقصر الأمل وتنكسر النفس ويزول منها وهج الشهوات الدنيا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا من ذكر هادم اللذات، أعني الموت". ومن آدابه: أن يخرج من قلبه ذكر المخلوقين. ومن آدابه: أن يتخلق مع الغني إذا دخل عليه بما تصل يداه إليه من القوت أو فاكهة وإن كان شيئًا يسيرًا، لأنه بقلبه محترز عن الأسباب فهو بالإيثار أولى من الغنى الذي هو في أسر غناه إلا أن يكون ذا عيال في ضيقة، فلا يضيق على عياله بإيثاره ذلك للغنى، إلا أن يكون يعلم من عياله الإيثار وطيب النفس بذلك والموافقة والصبر والرضا والمعرفة واليقين، والأنوار تظهر من قلوبهم على ألسنتهم وجوارحهم وأنفسهم فحينئذ لا يبالي في البذل والمنع والإيثار والإمساك. ومن أدب الفقير: ألا يترك الاحتياط في الورع في حال ضيق اليد، فلا يخرج إلى ما لا يحل في الشرع لفقره، فيخرج من العزيمة إلى الرخص، لأن الورع ملاك الدين، والطمع هلاكه، وتناول الشبهات فساده، كما قال بعض الصالحين: من لم يصحبه الورع في فقره أكل الحرام وهو لا يدري، فعليه ألا يخلد إلى التأويلات في دينه في حالة فقره، بل يرتكب الأشق والأحوط الذي هو العزيمة. * * *

(فصل: في سؤال الفقير)

(فصل: في سؤال الفقير) فمن أدب الفقير ترك السؤال للخلق ما دام يجد عنه مندوحة، فإن ألجأته الضرورة والحاجة المحقرة، فيسأل بقدر الحاجة فتكون حاجته كفارته، فحينئذ يسلم له السؤال. وينبغي ألا يسأل لأجل نفسه ما أمكنه بل لعياله على ما قدمناه، فإن كان بيده دانق وهو محتاج إلى درهم لم يسلم له السؤال حتى يصرف الدانق ويخلو عن المعلوم جدًا كما قيل: لا يظهر من الغيب شيء مادام في الجيب شيء. ومن شروط سؤاله للخلق ألا يراهم بل تكون إشارته إلى الله عز وجل، ويرى الخلق كالولاء والأمناء المتصرف فيهم المفعول فيهم فلا يتخذهم أربابًا من دون الله عز وجل، فيكون معنى سؤاله لهم إخبارًا أو استخبارًا، إخبارًا بحاله وعياله لا شكوى من ربه، واستخبارًا هل وقع لنا إليك شيء هل أجل عليك شيء هل أذن لك يا وكيل يا خازن، يا أمين يا مملوك يا فقير يا من أنا وهو سواء فيما في يديه المالك له غيرنا كلنا في عياله، فإذا سأل على هذا الوجه يسلم له السؤال وإلا فلا، ولا كرامة لكل مشرك دجال مراء عابد الأصنام، خارج عن أهل الطريقة مدع كذاب منافق زنديق، ثم إن أعطى شكر وإن منع صبر، هكذا تكون صفات الفقير الصادق، ولا يستوحش بالرد ولا يتغير فيسخط ويعترض ويذم الراد له فيظلمه، لأنه مأمور ووكيل، والوكيل هو الذي يتصرف فيما في يده بإذن آمره وموكله المعطى، وهو الله عز وجل، بل يرجع إليه عز وجل، فيسأله التيسير والتسهيل، ليسخر له القلوب ويذل له الصعاب، يدر له الأرزاق ويسوق إليه الأقسام، ويرفع عنه الجوع والعذاب والتبذل إلى العبيد والأرباب، ولعله قبض أيدي الخلق عنه بالعطاء ليرده إليه، فيلازم الباب ويرفع بدعائه وتضرعه الحجاب، فيكون هو المعطى له دون العباد. * * * (فصل: في آداب العشرة) وينبغي له أن يحسن العشرة مع إخوانه، فيكون منبسط الوجه غير عبوس، ولا مخالفًا لهم فيما يريدون عنه بشرط ألا يكون فيه خرق للشرع ومجاوزة للحد وارتكاب للإثم، بل يكون مما أباحه الشرع وأذن فيه الرب، ولا يكون مماريًا ولا لجوجًا، ويكون أبدًا مساعدًا للإخوان على الشرط الذي ذركنا ومتحملاً عنهم ما يخالفونه فيه، ويكون

صبورًا على أذاهم غير حقود، لا ينطوي لأحد منهم على دخلة وغش ومكر، غير مغتاب لهم في حال غيبته، ولا يكون سيء المحضر، ويذب عن أخيه في حال غيبته، ويستر العيوب على إخوانه ما أمكنه، وإن مرض أحد منهم عادة، فإن شغله عن ذلك شاغل مضى إليه فهنأه بالعافية، وإن مرض هو ولم يعده بعض إخوانه اعتذر عنه، فإذا مرض لم يقابله بذلك، بل يعوده ويصل من قطعة، ويعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه. وإذا أساء أحدهم إليه اعتذر عنه عند نفسه ويرجع بالملامة على نفسه، ولا يرى ملكه ممنوعًا عن غيره من الإخوان، ولا يتحكم في ملكهم بغير إذنهم، ولا ينسى الورع في جميع حركاته وسكناته، وإن انبسط معه أحد من إخوانه في شيء من ماله أجابه إلى ذلك مسرعًا مستبشرًا فرحًا مسرورًا متقلدًا منه في ذلك منة، حيث جعله أهلاً لمباسطته معه وإنزال حاجته به، ولا يستعير من أحد شيئًا إن أمكنه، وإن استعار أجد منه شيئًا لا يسترده ما أمكنه لأنه ما استعار منه إلا لحاجته، ولا يليق بالفتوة استرداد المعار، كما لا يحسن في الشرع استرجاع الهدية والهبة، فإن لم يقدر على ذلك فليسرع إعارته، ولا يمنعه من ذلك ولو كل يوم، إذ لا يليق بحاله أن ينفرد عن أحد من الناس بما له، لأنه ليس في رق شيء من الأشياء فلا يملكه شيء، فكل من ملك شيئًا فذلك الشيء يملكه، لأن المرء عبد لمن زمامه بيده، بل يرى الأشياء التي في يده ملكًا لله عز وجل وهو وبقية الناس عبيدًا لله عز وجل، والكل متساو في ملكه عز وجل، وأما ما كان في يد الغير فيستعمل فيه حكم الشرع والورع وحفظ الحدود، لئلا يصير في زمرة المباحية الزنادقة. وينبغي له إذا مسته محنة أو فاقة أن يستر حاله عن إخوانه ما أمكنه، لئلا يشغل قلوبهم بسببه، فيتكلفوا له، وكذلك إن مسه هم أو أصابه حزن لا يظهر ذلك لإخوانه، ولا يشوش عليهم ما هم فيه من الفرح والسرور، والراحة ولذة العيش، وإن رأى إخوانه منزولاً بهم هم وغم وقد أظهروا فرحًا وسرورًا، ساعدهم في الظاهر من إظهار النشاط والاستبشار، ويكتم عنهم ما هم فيه من الاستيحاش والحزن والهم، فلا يقابلهم بما يكرهون، ولا يختلف عنهم في شء من ذلك. وينبغي له في أدب حسن العشرة إذا استوحش من شيء أن يتكلم في حسن الخلق،

(فصل: في آداب الفقراء عند الأكل)

ويرد قلبه إليه لتزول وحشته. وينبغي له أن يعاشر كل أحد من حيث هو لا يكلفه مجاوزة حده وموافقته، بل يتابعه هو فيما عليه ذلك الإنسان ما لم يكن فيه خرق للشرع، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أُمرنا معاشر الأنبياء أن نحدث الناس على قدر عقولهم". وينبغي له أن يعاشر من دونه بالشفقة عليه، ومن فوقه بالإجلال، ومن هو مثله بالإفضال والإيثار والإحسان. * * * (فصل: في آداب الفقراء عند الأكل) من ذلك ألا يأكلوا بالشره ولا على الغفلة، بل يذكروا الله عز وجل بقلوبهم عند الأكل ولا ينسونه. ومن ذلك ألا يمدوا أيديهم عند الطعام قبل من هو فوقهم. ومن ذلك ألا يقولوا لغيرهم كل، ولا يضعوا مما بين أيديهم شيئًا بين يدي غيرهم، لا على طريق الخدمة ولا على طريق الانبساط إلا صاحب الطعام، فإنه مسلم له ذلك لأنه نوع خدمة منه، ولا يقولوا لصاحب الطعام كل معنا، وإذا أُقعد موضعًا فلا يختار غيره ويقعد حيث يؤمر، ولا يرفع يده من الطعام ما دام يأكل من معه لئلا يحتشم صاحبه فيحمله على الامتناع. ولاغ ينبغي أن يرفع الطعام من بين يدي الفقير ما دام يأكل وما دام عينه عليه، ويساعد الأصحاب على الأكل بقدر ما لا يكون مخالفة وإن لم يكن به شهوة. ولا ينبغي أن يلقم على المائدة أحدًا، وإن عرض عليه الماء لا يرد الساقي ولو بقطرة واحدة، ولو قام صاحب الطعام بالخدمة لا يمنع، ولو أراد صب الماء على يده فلا يمنعه. وينبغي أن يأكل مع الأغنياء بالتعزز، ومع الفقراء بالإيثار، ومع الإخوان بالانبساط، ولا لخطر الأكل بباله إلا إذا حضر، فحينئذ يأكل ولا يساعد نفسه في اشتهاء شهوة، ولعلها لم تكن مقسومة، فلا ينالها فيبقى محجوبًا بها عن الله تعالى، ويشتغل بها عن

(فصل: في آدابهم فيما بينهم)

طاعته ومراقبة حاله، فإذا عرض عن ذلك واشتغل بحاله كان سليمًا، فإن كانت مقسومة ثم حضرت اشتهاها وتناولها وشكر الله تعالى ولا يجعل الأكل همه ويعلق قلبه به ويجعله حديثه، بل يمهد مع نفسه بأنها مريضة، ومن حالها الاحتماء عن الطعام والشراب والشهوات حتى يبرأ المرض فالمرض هواها وإرادتها ومناها، والرب عز وجل طبيبها ومداويها، فإذا بعث الطعام والشراب على يد مملوكه تناولهما وعلم أن دواءها وعافيتها في ذلك دون غيره، واشتغل بحفظ الحال والمراقبة وإخراج الأشياء من القلب والارتكان إلى شيء من الأشياء والطمأنينة إليه أبدًا في جميع حركاته وسكناته. * * * (فصل: في آدابهم فيما بينهم) من ذلك ألا يمنع شيئًا يكون له من أصحابهم من ثيابهم وسجاداتهم وركوبهم وما يجري مجراه، ولو وطئ أحد منهم سجادته بقدمه لا يستوحش منه، ولا يضع قدمه على سجادة غيره، ولا يبسط سجادته على سجادة من هو فوقه في الرتبة، ولو مد أحد يده إلى كتفه لا يمنعه، ولا يمد هو يده إلى كتف غيره، ولا يستخدم أحدًا من الفقراء، ويخدم هو بنفسه كل أحد، ويغمز أرجل الفقراء، ولو أراد أحد أن يغمز رجله لا يمنعه، وإن دخلوا الحمام فليس في آداب الفقراء أن يمكنوا القيم من دلكهم، ولو أراد بعضهم ذلك بعض أمكنه منه ولا يمنعه، وإذا نظر فقير إلى شيء من خرقته أو سجادته أو غير ذلك فليدفعه إليه في الوقت وليؤثره به. ولا ينبغي أن يجعل الفقراء في انتظاره عند الأكل، وكذلك في كل شيء لا يؤذي قلب أحد بأن ينتظره ما أمكنه، فإن المنتظر مستثقل، وإذا أراد أن يقدم إلى فقير طعامًا، فيجب ألا يحبسه في الانتظار، لأن الانتظار الرقة ذل. ولا ينبغي أن يدخر شيئًا مما يمكنه، وإذا لم يكن الطعام كثيرًا فلا يأكل إلا بعد أن يفضل منهم، ويجتهد في تقديم الطعام إلى الفقراء، أن يكون أنظف ما يمكنه وأوفق لهم، وإن كان في قوم فلا ينبغي أن ينفرد عنهم بأكل شيء ولا يأخذ شيء، فإن فتح له بشيء ينبغي أن يطرحه في الوسط، وإن مرض وهو بين قوم فاحتاج إلى تخصيصه بدواء، فينبغي له أن يستأذن الجماعة في ذلك، وإذا نزل برباطه أو مدرسة وفيها شيخ أو خادم فينبغي أن يكون بحكم ذلك الشيخ، ولا يفعل شيئًا إلا باستطلاع رأيه، وإذا ورد

(فصل: في آدابهم مع الأهل والولد)

على قوم وهو بحكم فينبغي أني وافقهم على ما هم عليه. ولا ينبغي أن يرفع صوته بين الفقراء بتسبيحه وقراءته بل يخفي ذلك عنهم ويستتر به أو ينقل ذلك إلى تفكر واعتبار عبادة باطنة، وإن كان من الخواص ذوي الأسرار فلا كلفة عليه في ذلك، لأن ربه يتولاه ويهيئ له ويأمره وينهاه في ذلك، ويسخر له قلوب الجماعة ويعطفها عليه ويملؤها من حبه تارة وهيبته واحترامه أخرى. وكذلك لا ينبغي أن يرفع صوته بغير ذلك من الكلام بينهم، وإذا كان بين قوم فينبغي ألا يسار أحدًا دونهم، ولا يتكلم بين الفقراء بشيء من حديث الدنيا والمأكولات ما أمكنه. ومن شرطه أيضًا ألا يكتب بين الفقراء شيئًا ما أمكنه ووجد من ذلك بدًا، بل يشتغل بالعمل المكتوب ومراقبة قلبه وحفظ حاله والتفكر فيهما، ولا يكثر من النوافل بين أيديهم، وإذا صام الجماعة وافقهم في ذلك، وكذلك إذا أفطر وافقهم في ذلك، ولا ينفرد عنهم بالصوم، ولا ينام بين الفقراء وهم أيقاظ، إلا أن يغلب عليه النوم، فيتفرد عنهم ويضطجع بقدر ما تنكسر فورته. ولا ينبغي له أن يتقدم بمشيئة شيء واختياره على الفقراء إذا أمكنه، وإن طالبه الفقير بشيء فلا يرده ولو بقليل، ولا يؤذي قلبه بطول الانتظار، وإذا شاوره أحد فلا يعجل عليه بالجواب فيقطع عليه كلامه، بل يمهله حتى ينهي جميع ما في قلبه، ولا يجيبه بالرد والإنكار، فإذا فرغ من ذلك ورآه غير صواب قابله أولاً بالموافقة، وقال: هذا وجه، ثم يبين له ما هو أصوب منه عنده برفق لا بمخاشنة ووحشة. ومن آدابهم ألا يمدحوا الطعام حال الأكل ولا يذموه. * * * (فصل: في آدابهم مع الأهل والولد) من ذلك حسن الخلق والإنفاق عليهم بالمعروف بما أمكنه، وإذا ملك في اليوم ما يكفيه ليومه فلا يحبس شيئًا لغد، وله إلى ذلك القدر حاجة في الحال، فإن فضل من ذلك شيء فليدخره لغد للعيال لا لنفسه، فلا يأكل إلا تبعًا لهم، بل يكون كالوكيل والخادم لعياله والمملوك مع سيده، ويعتقد بخدمته عياله والكد عليهم والقيام بمصالحهم أداء أمر الله وطاعته، وليعزل خدمة نفسه من الوسط، ويؤثر عياله على نفسه، وإذا أكل

أكل بشهوتهم، ولا يحملهم على متابعة شهوة نفسه، وإذا كان في ذات يده شيء يصلح لشتائه وهو في الصيف محتاج لثمنه صرفه في وجه حاجته في الصيف، وإن وجد كفاية يومه وكان فيه فضل للكسب في يومه لكفاية غد لعياله لم يشتغل بذلك، بل يقف مع الكفاية في يومه، لأن الوقوف مع الكفايات واجب، وأخر تدبير غد إلى غد، فإن كان له قوة في التوكل وصبر على مقاساة الشدائد والقلة والجوع والضر، وتقصر قوة عياله عن ذلك، فلا يجوز له أن يدعوهم إلى حالة نفسه، بل يتحرك ويكتسب لأجلهم، وإن رأى من أهله الطاعة لله عز وجل وحسن السيرة والعبادة، فعليه بكسب الحلال وإطعامهم الحلال المباح حتى يثمر ذلك الطاعة والصلاع، ولا يطعمهم الحرام فإنه يثمر العصيان والجناح، وليجتهد في ذات نفسه بإصلاح العمل والصدق وطهارة الباطن حتى يصلح الله أمره بينه وبين عياله في حسن الصبر وحسن الطاعة له ولله عز وجل والموافقة له، وتعود بركة صلاحه على عياله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أصلح ما بينه وبين الله عز وجل، أصلح الله تعالى ما بينه وبين الناس" وأهله وعياله من جملة الناس. وإذا نزل به ضيف فيجب أن يطعم عياله مما يطعم الضيف إذا كان بذات يده سعة ومكنة فليوفر ذلك بحيث يعم الجميع ويكفيهم ويفضل عنهم، فإن كان هناك فقر وقلة وضيق يد وعلم من عياله الإيثار والرضا بذلك، فحينئذ يؤثر الضيفان، فإن فضل عنهم شيء تناولوه على وجه التبرك، فإن الله تعالى سيخلف عليهم ويوسع ما لديهم، فإن الضيف ينزل برزقه ويرحل بذنوب أهل البيت، كما جاء في الحديث. وإذا دعا الفقير إلى دعوة وله عيال وليس له ما يصلح شأنهم فليس من الفتوة أن يضيع عياله ويمضي إلى الدعوة ويؤثر شهوته على فاقة عياله، ولا يستقيم في الطريقة والشريعة أخذ الزلة والخيبة لأجل العيال من الدعوة، فليمتنع من الحضور وليصبر مع أهله، فإن كان في صاحب الدعوة فتوة وعلم بأن للضيف عيالاً، فينبغي له ألا يفرده بالاستحضار، بل يفرغ قلب الضيف عن شغل عياله بأن يكفيه ذلك، ويحمل إليهم ما يحتاجون إليه، ويعلم ضيفه بذلك.

(فصل: في آدابهم في السفر)

والواجب على الفقير أن يؤدب أهله بملازمة ظاهر العلم والشريعة، ولا يمكنهم من مخالفة العلم في القليل والكثير. ولا ينبغي له أن يسلم أولاده إلى السوق وتعلم الحرف، بل يعلمهم أحكام الدين ويحملهم على ترك طلب الدنيا، إلا أن يغلب عليه الفقر وقلة الصبر وانكشاف الحال والفضيحة والرجوع إلى الخلق في القوت وما يسد به الخلة، فليشغل أهله وولده ونفسه بالكسب وتحصيل ما يحصل به الغنى عن الناس، فهو أفضل من غيره مع حفظ الحدود، ويعرف أولاده وجوب مراعاة حق الوالدين ومجانبة العقوق، ويعرف أهله مراعاة حقه، وفضيلة الصبر مع وطاعته وغير ذلك على ما بينا في باب آداب النكاح. * * * (فصل: في آدابهم في السفر) وقد ذكرنا في كتاب الأدب في أثناء الكتاب أنه يجب أن يكون سفر المؤمن الخروج من أوصافه المذمومة إلى صفاته المحمودة، فيخرج من هواه إلى طلب رضا مولاه بتصحيح تقواه، فإذا أراد الفقير أن يسافر من بلده، فأول شيء يجب عليه أن يرضي خصومه ويستأذن والديه أو من هو في حكمهما في وجوب الحق عليه من العم والخال والجد والجدة، فإذا رضوا بذلك خرج، فإن كان ذا عيال وفي سفره عنهم مضرة عليهم وضيقة، فلا يسلم له السفر إلا بعد إصلاح أمورهم أو يستصحبهم معه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت". ومن شرط الفقير إذا سافر أن يكون قلبه معه، لا يكون قلبه ملتفتًا إلى علاقة وراءه، ولا يكون قلبه متعلقًا بمطالبة أمامه، فحيثما نزل يكون قلبه معه ويكون قلبه خاليًا عن الأشياء كما قيل عن إبراهيم بن دوحة أنه قال: دخلت مع إبراهيم بن شيبة البادية فقال لي: اطرح ما معك من العلائق، فطرحت كل شيء إلى دينارًا، فقال: لا تشغل سري، اطرح ما معك، فطرحت الدينار، فقال: لا تشغل سري، طرح ما معك من العلائق، فذكرت أن معي شسوعًا للنعل فطرحتها، فوالله ما احتجت في الطريق إلى شسع إلى وجدته بين يدي فقال ابن شيبة: هكذا من عامل الله تعالى بالصدق.

ولا ينبغي أن يقصر في سفره من أوراده التي كان يفعلها في حضره، لأن السفر لهم زيادة في أحوالهم، فلا ينبغي أن يحصل له خلل في أعمالهم وأحوالهم بسفره، وإنما الرخص للضعفاء والعوام، وما للأقوياء والخواص بالرخص، بل العزيمة شأنهم أبدًا في جميع أحوالهم، والتوفيق شامل لهم، والرحمة نازلة عليهم، والحرس قائم معهم والحفظ دائم لهم، والحبيب جالس معهم، والأنس به زائد، والغنى بهم قائم، والأمداد متداركة ومتواترة، والنظر لهم لازم، والجنود لهم متكاثفة متتابعة ومشتبكة لديهم، فالسفر أقوى لهم وألين وأحسن بما هم بصدده، إذ فيه البعد من الأسباب التي هي الأرباب، والخلق الذين هم الأصنام، وأضل من الصلبان وأشد من الشيطان. وينبغي للفقير أن يراعي قلبه في أول سفره، ولا يخرج عن الغفلة، ويجتهد في سفره حتى لا ينسى بقلبه ربه في سفره. ولا ينبغي له أن يكون سفره لغرض من أغراض الدنيا بوجه من الوجوه، بل يكون سفره لطاعة من الطاعات، إما للحج أو للقاء شيخ أو زيادة موضع من المواضع المقدسة الشريفة، وإذا سافر الفقير فوجد قلبه بموضع من المواضع ورآه فيه أصفى من الكدرات، وعيشه أوفى، فيلزم ذلك الموضع، ولا يزول عنه إلا بأمر جزم أو فعل محضر وقدر، فينتج حينئذ إلى ما يؤمر به، أو يحمله القدر إذا كان من المفعولين فيهم الزائل الهوى والإرادات والأماني، الفانين عنهم المرادين المحبوبين. وإذا ظهر لفقير جاه وقبول ببعض المواضع، فينبغي له أن يخرج منه ويشوش على نفسه ذلك القبول، لئلا ينفى به عن الله ويحجب عنه، فيكون الخلق نصيبه، وهذا إنما يكون مع وجود الهوى، وأما مع زواله فلا وجود للخلق ولا لقبولهم أثر، فهم خارجون عن القلب وبينهما حجب وحرس يحفظون القلب عن دخول الخلق إليه، لئلا يحصل الشرك فيتشعث التوحيد. وينبغي للفقير أن يعاشر اصحابه في سفره بحسن الخلق وجميل المداراة، وترك المخالفة واللحاح في جميع الأشياء، ويشتغل بخدمتهم، ولا يستخدم منهم أحدًا. وينبغي أن يكون أبدًا في سفره على الطهارة وإن لم يجد الماء يتيمم ما أمكنه ذلك، كما يستحب له في حضره أن يكون على الطهارة، لأن الوضوء سلاح المؤمن، كما جاء في الخبر، وهو أمان له من الشياطين وكل مؤذ.

(فصل: في آدابهم في السماع)

وينبغي ألا يصحب الأحداث المردان في السفر على الخصوص، فإنهم أقرب إلى مصافاة الشياطين والقبول منها وإلى الشر والفتن والغش ومتابعة الهوى وهنات النفس والتهمة وفي صحبتهم خطر عظيم، إلا أن يكون الفقير ممن يقتدى به من الشيوخ والعلماء الله وأبدال أنبيائه المحفوظين الأئمة الهداة الربانيين معلمي الخير المؤدبين المنذرين للخلق والمهذبين لهم، السفراء بين الحق والخلق، والجهابذة، فحينئذ لا يبالي بمن يصحبه من الأحداث والشيوخ. وإذا دخل بلدًا وفيه شيخ، فينبغي أن يبدأ بسلامه عليه وخدمته له، وينظر إليه بعين الإكبار والحشمة والتعظيم، لئلا يحرم فائدته، وإذا فتح له بشيء فلا يستأثر به دون أصحابه، وإذا وقع أحدهم عذر وقف معه ولا يضيعه، والله الموفق للصواب. * * * (فصل: في آدابهم في السماع) من ذلك الا يتكلفوا السماع ولا يستقبلوه بالاختيار، فإذا اتفق السماع فمن حق المستمع أن يقعد بشرط الأدب ذاكرًا لربه بقلبه مشتغلاً بحفظ قلبه من طوارق الغفلة والنسيان، فإذا قرع سمعه شيء يرى القارئ للقرآن كأنه مستنطق من قبل الحق عز وجل فيما يرد عليه من تعريفات الغيب إياه، مما يوجب ترغيبًا أو ترهيبًا أو إيناسًا أو عتابًا أو زيادة في القيام بعبادته عز وجل أو غيره، بادر إلى ما يرد عليه، وقابل الإشارة عليه بالبدار، وإن كان السماع بحيث يصير كأن لسان القارئ لسانه، وصار كأنه يخاطب هو الحق بما يقرأ القارئ، فما يحصل مما يجده في قلبه من ذلك يكون موافقًا لحق العبودية وآداب الشريعة، وفي الجملة لا يكون في الطريقة ولا في علم الحقيقة شيء يخالف آداب الشريعة، وإذا كان في القوم شيخ حاضر في السماع، فالواجب على الفقير السكون ما أمكنه ومراعاة حشمة ذلك الشيخ، فإن ورد عليه أمر غالب فبقدر الغلبة يسلم إليه الحركة، فإذا سكنت الغلبة فالأولى له السكون مراعاة لحشمة الشيخ. ولا ينبغي للفقير أن يتقاضى القارئ ولا القوال، إن استبدل القول الذي هو أدنى بالذي هو خير، يعني الأبيات بالقرآن على ما هو عادة أهل الزمان اليوم، فلو صدقوا في قصدهم وتجردهم وتصرفهم لما انزعجوا في قلوبهم وجوارحهم بغير سماع كلام الله عز وجل، إذ هو كلام محبوبهم وصفته، وفيه ذكره ذكر الأولين والآخرين، والماضين

والغابرين والمحب والمحبوب والمريد والمراد، وعتاب المدعين لمحبته ولومهم وغير ذلك، فلما اختل صدقهم وقصدهم وظهرت دعواهم من غير بينة، وزورهم وقيامهم مع الرسم والعادة من غير غريزة باطنة وصدق السريرة والمعرفة والمكاشفة والعلوم الغريبة، والاطلاع على الأسرار والقرب والأنس، والوصول إلى المحبوب، والسماع الحقيقي وهو الحديث، والكلام الذي هو سنة الله عز وجل مع العلماء به والخواص من الأولياء والأبدال والأعيان، وخلت بواطنهم من ذلك كله، وقفوا مع القول والأبيات والأشعار التي تثير الطباع وتهيج ثائرة العشاق وبالطباع لا بالقلوب والأرواح. فينبغي للفقير في الجملة: أعني فقير الحق عز وجل، وفقير الخلق: أعني فقير المعنى، وفقير الصورة: أعني فقيرًا من الدنيا وفقيرًا من العقبى والأكوان، ألا يتقاضى القارئ وا لقول بالتكرار والإعادة، بل يكل ذلك إلى الحق سبحانه إن شاء قبض من ينوب عنه في التقاضي، أو يلهم القوال بالتكرار إذا كان الفقير المستمع صادقًا وله في التكرار دواء ومصلحة. ولا ينبغي للفقير أن يستعين بغيره في حال السماع، فإن سأل الفقراء منه المساعدة في الحركة فليساعدهم، وذلك ضعف في الحال، وإذا سمع الفقير آية أو بيتًا فلا يجب أن يزاحمه أحد، ويجب أن يسلم له وقته، وإن خولف فزوحم فالأولى للمزاحم له التسليم، وإذا تحرك الفقير على آية أو بيت، فيجب أن يسلم له وقته، وإن وقع للحاضرين عليه إشراف ورأوا فيه تقصيرًا أو نقصانًا فالواجب عليهم الستر عليه والحمل عنه، فإن اقتضى الوقت تنبيه فلينبه بالرفق أو بالقلب لا باللسان، وهاهنا يحتاج إلى قوة حال وصفاء باطن وعلم دقيق واطلاع وآداب كاملة ومحافظة شديدة حميدة، وإذا خرج في حال سماعه من خرقة أو من شيء من ثيابه، فلا يخلو إما أن يكون قد تخلق به مع القارئ فهو للقارئ على الخصوص أو يطرحه في الوسط فيكون حكمه إليه، فيقال له: ما الذي أدرت به؟ فإن قال: قصدت به أن يكون بحكم الفقراء كان ذلك خلقًا منه معهم فهو لهم بحكم الفتوح، وذلك إليهم يرون فيه رأيهم، وإن قال: أردت به موافقة شيخ طرح خرقته، فهذا ضعيف الحال جدًا ركيك الأمر حقًا، لأنه إنما ينبغي أن يوافق الشيخ في حكم خروجه عن خرقة من قد وافق الشيخ في وجده وحالته، وذلك بعيد جدًا أن يتفق اثنان منهم في حال، والذي جرت به العادة بين الفقراء واستمر به الرسم بينهم اليوم في المرافقة في طرح الخرقة، فليس له أصل، ثم إذا جرى منه ذلك

مع ضعفه فحكم خرقته المطروحة إلى ذلك الشيخ في رسم العادة لا في العلم والشريعة، أو في مقتضى الطريقة والحقيقة، وإن قال صاحب الخرقة،: أردت موافقة القوم الحاضرين فهذا أيضًا أضعف من الأول، لأنه إنما ينبغي أن يكون الاشتراك في الفعل عند الاتفاق في الحال والوجد، وقلما يتفق ذلك للقوم حتى يستووا في الشرب والحال، فيرجع في ذلك إلى القوم، فما يكون حكم خرقهم فله أسوتهم في ذلك، فإن قال لم يكن لي في الوقت قصد ولا نية، يقال: فالآن هو بحكمك فاحكم فيه بما شئت، وليس لأحد من الحاضرين ولا للشيخ إن كان حاضرًا في ذلك حكم البتة، إذ ليس صاحبه فيه محقًا، ولا له قصد ولا لذلك أصل في الطريقة، فإن قال: وردت عليَّ في الوقت الإشارة بالخروج من الخرقة من غير قصد إلى شيء على التعيين، فقد يكون لهذا في الطريقة أصل لأن من خلع عليه السلطان خلعة، فالواجب على المخلوع عليه أن ينزع ملبوسه ثم يلبس الخلعة، فهذا حكم هذا الفقير أن يخرج من خرقته ويلبس ما خلع عليه الباري عز وجل من الأنوار والقرب والألطاف، ثم إن حكم خرقته إلى الشيخ الحاضر إن كان هناك، وإلا فللحاضرين من الفقراء أن يفردوا القارئ أو القول بها، وقد قيل: إن ذلك إلى الفقير، وهو أولى بحكم خرقته من غيره، فأما معارضة الحاضرين من أرباب الدنيا ليشتروا الخرقة ثم ترد إلى صاحبها فذلك غير محمود في الطريق وغير مرضي، اللهم إلا أن يكون المشتري فيه فتوة وإيمان بالقوم يريد أن يتخلق معهم، وه 9 ونوع من المعاوضة والسؤال بالتلطف، ولكنه مذموم جدًا، لأنه في حال خروجه عن الخرقة أظهر صدق من نفسه في الحال، وبرجوعه إلى الخرقة فاضح لنفسه ومكذب لها، وذلك غير مرضي. ولا ينبغي لمن خرج من خرقته أن يعود إليها ويقبلها، فإن كان ذلك بإشارة شيخ بأن أمره بأخذها فإنه يأخذها فإنه يأخذها جهرًا امتثالاً لأمر الشيخ، ثم يخرج منها بعد ذلك فيتخلق بها مع غيره، وإذا وقع شيء في الوسط للجماعة فالواجب التسوية بينهم، فإن كان فيهم شيخ ورأى تخصيص قوم أو واحد من الحاضرين، فحكم ذلك إلى الشيخ يتبع رأيه فيه، فلو طرح خرقته فردت عليه فكانت طريقته ألا يرجع إلى شيء خرج منه، وعاد الفقراء إلى خرقتهم، فإن كان له شيخ كان له ألا يرجع إلى خرقته ويلزم طريقته، فلا يرجع إلى ما خرج منه، ولا ينقض حالته اتباعًا لأحوال الجماعة، وإن كان واحدًا من الفقراء فالأظرف من حاله والأليق بها أن يوافق الجماعة في الحال، فيعود إلى خرقته

لئلا يخجل القوم ويستحيوا ويمقتوه، ثم بعد ذلك يخرج منها إلى الحاضرين وهو الأولى، وإن دفعها إلى غائب عن المجلس جاز. وهذا آخر ما ألفنا من آداب القوم على وجه الاختصار والإقلال والإمكان في الوقت، وأما ما يتعلق بدخول الرباط والسقايات والبس الحذاء وأشياء أحدثوها ووصفوها وسموها بينهم، فذلك يستفاد من ممارستهم ومخالطتهم والاستخبار والإشارة منهم، فلم نسطره في الكتاب، وقد ذكرنا معظم ذلك في كتاب الأدب في الشرع في أثناء الكتاب. * * *

باب المجاهدة والتوكل وحسن الخلق والشكر والصبر والرضا والصدق

ثم نختم الكتاب بذكر باب يشتمل على: باب المجاهدة والتوكل وحسن الخلق والشكر والصبر والرضا والصدق إذ هذه الأشياء السبعة أساس لهذه الطريقة والكل خير (فصل) أما المجاهدة: فالأصل فيها قول الله عز وجل: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69]. وروى أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أفضل الجهاد قال: كلمة حق عند سلطان جائر" ودمعت عينا أبي سعيد رضي الله عنه. وقال أبو علي الدقاق رحمه الله: من زين ظاهره بالمجاهدة، حسن الله سرائره بالمشاهدة، قال الله عز وجل: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69] وكل من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من الطريقة شمة. وقال أبو عثمان المغربي رحمه الله: من ظنَّ أنه يفتح عليه بشيء من هذه الطريقة أو يكشف له شيء منها بغير لزوم المجاهدة فهو في غلط. وقال أبو علي الدقاق رحمه الله: من لم تكن له في بدايته قومة لم يكن له في نهايته جلسة. وقال أيضًا رحمه الله: الحركة بركة، حركات الظواهر توجب بركات السرائر. وقال الحسن بن علوية: قال أبو يزيد رحمه الله: كنت ثنتي عشرة سنة حداد نفسي، وخمس سنين كنت مرآة قلبي، وسنة أنظر فيما بينها فإذا في وسطي زنار ظاهر فعملت في قطعه ثنتي عشرة سنة، ثم نظرت فإذا في باطني زنار فعملت في قطعه خمس سنين أنظر كيف أقطع، فكشف لي، فنظرت إلى الخلق فرأيتهم موتى، فكبّرت عليهم أربع تكبيرات.

وعن الجنيد رحمه الله قال: "سمعت السري رحمه الله يقول: يا معشر الشباب جدوا قبل أن تبلغوا مبلغي فتضعفوا وتقصروا كما قصرت، وكان في ذلك الوقت لا يلحقه الشباب في العبادة". وقال الحسن القزاز رحمه الله: بني هذا الأمر على ثلاثة أشياء: ألا يأكل إلا عند الفاقة، ولا ينام إلى عند الغلبة، ولا يتكلم إلا عند الضرورة. وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: لن ينال الرجل درجة الصالحين حتى يجوز ست عقبات: الأولى: يغلق باب النعمة ويفتح باب الشدة. والثانية: يغلق باب العز ويفتح باب الذل. والثالثة: يغلق باب الراحة ويفتح باب الجهد. والرابعة: يغلق باب النوم ويفتح باب السهر. والخامسة: يغلق باب الغنى ويفتح باب الفقر. والسادسة: يغلق باب الأمل ويفتح باب الاستعداد للموت. وقال أبو عمر بن نجيد رحمه الله: من كرمت عليه نفسه هان عليه دينه. وقال أبو علي الروذباري رحمه الله: إذا قال الصوفي بعد خمسة أيام: أنا جائع فالزموه السوق وأمروه بالكسب. وقال ذو النون المصري رحمه الله: ما أعز الله عبدًا بعز هو أعز له من أن يدله على ذل نفسه، وما أذل الله عبدًا بذل هو أذل له من أن يحجبه عن ذل نفسه. وقال إبراهيم الخواص رحمه الله: ما هالني شيء إلا ركبته. وقال محمد بن الفضيل رحمه الله: الراحة هي الخلاص من أماني النفس. وقال منصور بن عبد الله رحمه الله: سمعت أبا علي الروذباري رحمه الله يقول: دخلت الآفة من ثلاث: سقم الطبيعة، وملازمة العادة، وفساد الصحبة، فسألته: ما سقم الطبيعة؟ فقال: أكل الحرام، فقلت: وما ملازمة العادة؟ قال: النظر والاستمتاع بالحرام والغيبة، قلت: فما فساد الصحبة؟ فقال: كلما هاجت في النفس شهوة يتبعها. وقال النصرأباذي رحمه الله: سجنك نفسك، إذا خرجت منها وقعت في راحة الأبد.

وقال أبو الحسن الوراق رحمه الله: كان أجل أحكامنا في مبادئ أمرنا في مسجد أبي عثمان: الإيثار بما يفتح علينا، وألا نبيت على معلوم، ومن استقبلنا بمكروه لا ننتقم منه لأنفسنا، بل نعتذر إليه ونتواضع له، وإذا وقع في قلوبنا حقارة لأحد قمنا بخدمته، فمجاهدة العوام في توفية الأعمال، ومجاهدة الخواص في تصفية الأحوال، وقد تسهل مقاساة الجوع والعطش والسهر، ومعالجة الأخلاق الرديئة تعسر وتصعب. ومن آفات النفس: ركونها إلى استحلاء المدح والذكر الطيب وثناء الخلق، وقد تحتمل أثقال العبادات لذلك، ويستولي عليها الرياء والنفاق. وعلاقة ذلك رجوعها إلى الكسل والفشل عند انقطاع ذلك، وذم الناس لها، ولا يتبين لك آفات نفسك وشركها ودعواها وكذبها إلى عند الامتحان في موطن دعواها وعند الموازنة لها، لأنها تتكلم بكلام الخائفين ما لم تضطر إلى الخوف، وإذا احتجت إليها في مواطن الخوف وجدتها آمنة، وتقول قول الأبرار ما لم تمتحن بالتقوى، وإذا احتجت إليها وطالبتها بشروط التقوى وجدتها مشركة مرائية مزينة معجبة، وتصف وصف الصادقين ما لم تحتج إلى الغاية، فإذا طلبت منها ذلك وجدتها كذابة، وتدعي دعوى الموقنين ما لم تمتحن بالإخلاص، وتزعم أنها من المتواضعين ما لم يحل بها خلاف هواها عند الغضب، وكذلك تدعي السخاء والكرم والإيثار والبذل والغنى والفتوة وغير ذلك من الأخلاق الحميدة، أخلاق الأولياء والأبدال والأعيان تمنيًا ورعونة وحمقًا، وإذا طلبتها بذلك وامتحنتها لم تجدها إلا {كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إلى جاءه لم يجده شيئًا} [النور: 39] ولو كان ثم صدق وإخلاص وصح منها القول وصدق بالقول لسانها لما أظهرت التزين للخلق الذين لا يملكون لها ضرًا ولا نفعًا، ولصحت أعمالها عند الامتحان، فوافق قولها عملها. وقال أبو حفص رحمه الله: النفس ظلمه كلها وسراجها سرها، يعني الإخلاص، ونور سراجها التوفيق، فمن لم يصحبه في سره توفيق من ربه كانت ظلمة كلها. وقال أبو عثمان رحمه الله: لا يرى أحد عيب نفسه وهو يستحسن من نفسه شيئًا، وإنما يرى عيب نفسه من يتهمها في جميع الأحوال. وقال أبو حفص رحمه الله: أسرع الناس هلاكًا من لا يعرف عيبه، فإن المعاصي بريد الكفر.

(فصل) والأصل في المجاهدة مخالفة الهوى

وقال أبو سليمان رحمه الله: ما استحسنت من نفسي عملاً فاحتسبت به. وقال السري رحمه الله: إياكم وجيران الأغنياء وقراء الأسواق وعلماء الأمراء. وقال ذو النون المصري رحمه الله: إنما دخل الفساد على الخلق من ستة أشياء: أولها: ضعف النية بعمل الآخرة. والثاني: صارت أبدانهم رهينة بشهواتهم. والثالث: طول الأمل مع قرب الأجل. والرابع: آثروا رضى المخلوقين على رضا الخالق. والخامس: اتبعوا أهواءهم، ونبذوا سنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وراء ظهورهم. والسادس: جعلوا قليل زلات السلف حجة أنفسهم، ودفنوا كثير مناقبهم (فصل) والأصل في المجاهدة مخالفة الهوى. فيعظم نفسه عن المألوفات والشهوات واللذات، ويحملها على خلاف ما تهوى في عموم الأوقات، فإذا انهمك في الشهوات ألجمها بلجام التقوى والخوف من الله عز وجل، فإذا حرنت ووقفت عند القيام بالطاعات والموافقات ساقها بسياط الخوف وخلاف الهوى ومنع الحظوظ. (فصل) ولا تتم المجاهدة إلا بالمراقبة. وهي التي أشار إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان فقال: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" لأن المراقبة علم العبد باطلاع الرب سبحانه عليه، واستدامة لهذا العلم مراقبة لربه، وهذا هو أصل كل خير، وإنما يصل إلى هذه الرتبة بعد المحاسبة وإصلاح حاله في الوقت، ولزوم طريق الحق وإحسان مراعاة القلب بينه وبين الله تعالى، وحفظ الأنفاس مع الله عز وجل، فيعلم أن الله تعالى عليه رقيب، ومن قلبه قريب، يعلم أحواله ويرى أفعاله، ويسمع أقواله، ولا تتم أيضًا إلا بمعرفة خصال أربع: أولها: معرفة الله تعالى. والثانية: معرفة عدو الله إبليس.

والثالثة: معرفة نفسك الأمارة بالسوء. والرابعة: معرفة العمل لله تعالى. ولو عاش إنسان دهرًا في العبادة مجتهدًا ولم يعرفها ولم يعمل عليها لم تنفعه عبادته، وكان على الجهل ومصيره إلى النار، إلا أن يتفضل الله عليه برحمته. فأما معرفة الله عز وجل، فهو أن يلزم العبد قلبه قربه عز وجل، وقيامه عليه وقدرته عليه وشهادته وعلمه به، وأنه رقيب حفيظ، وأنه واحد ماجد، لا شريك له في ملكه، وأنه عندما وعد صادق، وعندما ضمن واف، وعندما دعا إليه وندب إليه مليء، وله وعد ينجزه، ووعيد صادق ينفذه، ومقام تصير إليه الخلائق، ومصدر يتصرف من عنده، وله ثواب وعقاب، ليس له شبه ولا مثيل، وأنه كاف رحيم ودود سميع عليم، وأنه كل يوم هو في شأن، لا يشغله شأن عن شأن، يعلم الخفي وفوق الخفي، والضمير والخطوات الوسوسة والهمة والإرادة والوسواس والحركة والطرفة والغمزة والهمزة، وما فوق ذلك وما دون ذلك، مما دق فلا يعرف، وجل فلا يوصف، مما كان وما يكون وأنع عزيز حكيم، وقد استوفينا ذلك في باب معرفة الصانع من قبل. فإذا لزم هذا قبله في اليقين الراسخ والعمل النافع، ولزم ذلك كل عضو منه وكل جارحة وكل مفصل وعرق وعصب وشعر وبشر، وكذلك يتيقن أن الله تعالى قائم على ذلك عالم به، أحاط به علمًا لا تعزب عنه عازبة، وأنه خلقه فأحسن خلقه، وصوره فأحسن صورته، وثبت جميع ذلك في قلبه، وصح به عزمه وأكمل عقله، وثبت حينئذ فيه المحاسبة، ووصلت إليه المعرفة وقامت عليه الحجة، وكان في مقام من الله شريف، والحذر يصحبه في ذلك كله، فحفظتن جوارحه وقلبه، ولا ينال شيئًا من هذه الجملة إلا أن يقطع الأشغال كلها، إلا ما دله على هذا، والفرق لا يفارق قلبه حذرًا من سطواته، لقدرته عليه لما قد سلف، وبما يكون منه، وحياء منه لقربه منه، ولم تسقط منه إرادة، ولم تزل منه همة ولا خطرة إلا له فيه علم، فيكون العالم القائم بما يحب الله منه، والنازل له عما يكرهه منه، ولا تكون منه خطرة ولا لحظة ولا وسوسة ولا إرادة ولا حركة ظاهرًا ولا باطنًا، إلا وعلم الله عنده قائم في قلبه قبل الخطرات والحركات والوساوس وهو مقام العلماء بالله عز وجل، الخائفين العارفين الأتقياء الورعين.

وأما معرفة عدو الله إبليس، فقد أمر الله تعالى بمحاربته ومجاهدته في السر والعلانية، في الطاعة والمعصية، وأعلم العباد بأنه قد عادى الله عز وجل وعبده ونبيه وصفيه وخليفته في الأرض آدم عليه السلام، وضاره في ذريته، وأنه لا ينام إذا نام الآدمي، ولا يغفل إذا غفل الآدمي، ولا يسهو إذا سها الآدمي دائبًا مجتهدًا في عطب الآدمي وهلكته في نومه ويقظته وفي سره وعلانيته في الطاعة ليبطلها وفي المعصية ليوقعه فيها، لا يألو به خديعة وحيلة ومكرًا، مصائده الشهية اللذيذة في طاعته ومعصيته، ما يجهله كثير من خلق الله تعالى من العابدين المغرورين المخدوعين، وكثير من الغافلين، ليست راحته أن يوقع ابن آدم في معصية ولا رياء ولا إعجاب، إنما بغيته أن يرده معه حيث يرد جهنم، حيث قال جل وعلا: {إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} [فاطر:60]. فإذا عرفه العبد بهذه الصفة فينبغي له أن يلزم قلبه معرفته في الحق والباطن، بلا غفله ولا سهو منه، فيحاربه بأشد المحاربة، ويجاهده بأشد المجاهدة، سرًا وعلانية، ظاهرًا وباطنًا لا يقتصر في ذلك حتى يبذل مجهوده في محاربته، ومجاهدته في كل ما يدعو إليه من الخير والشر ولا يدع التضرع واللجأ إلى الله عز وجل والاستعانة به في حركاته كلها ليعينه عليه، ويرى الله عز وجل من نفسه الفقر والفاقة إليه، فإنه لا حيلة ولا قوة إلا به، ويستغيث بالله عز وجل بالبكاء والتضرع، ويسأله النصر عليه جاهدًا متذللاً، ليلاً ونهارًا، سرًا وعلانية، في الخلأ والملأ، حتى تصغر في عينه مجاهدته لمعرفته، بتوفيق الله تعالى إياه، فإنه عدو مولاه، وهو أول من عصى الله من خلقه، وأول من مات من خلقه، يعني من عصاه، وكل عاص لله عز وجل ميت، كما جاء في الحديث، قال الله عز وجل: "إن أول من مات من خلقي إبليس" وهو الذي عادى أولياء الله من الأنبياء والصديقين وأصفياءه من خلقه أجمعين. وينبغي للعبد أن يعلم أنه في جهاد عظيم، وفي قرب من الرب جل ثناؤه، ولا يوصف شرف مقامه، فليثبت ولا يعجز فإنه إن عجز أو مل فقد عصى ربه عز وجل ووقع في جهنم، وغضب الله عليه، ويكون قد أعطى عدو الله أمنيته منه، وقوى عليه لعنة الله، ولي لإرادته في العبد غاية وانتهاء إلا بالكفر بالله، فإنه إنما ينقله من حال إلى حال حتى يغضب الله عليه، فيكله إلى نفسه فيعطب ويقع في النار مع الشيطان، فلا خلق أشد على العبد منه، فالحذر الحذر، فإنه هو الورود على العطب، أو النجاة

بفضل الله ورحمته، أعاذنا الله وجميع المسلمين من شر إبليس وجنوده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأما معرفة النفس الأمارة بالسوء، فيضعها حيث وضعها الله عز وجل، ويصفها بما وصفها الله تعالى، ويقوم عليها بما أمره الله عز وجل فإنها أعدى له من إبليس، وإنما يقوى عليه إبليس بها وبقبولها منه، فيعرف أي شيء طباعها، وما إرادتها، وإلام تدعو، وبم تأمر، وكيف خلقها خلقة ضعيفة قوي طمعها شرهة مدعية خارجة عن طاعة الله سبحانه، متملكة متمنية، خوفها أمن، ورجاؤها أماني، وصدقها كذب، ودعواها باطلة، وكل شيء منها غرور، وليس لها فعل محمود، ولا دعوى حق فلا تغرنه بما يظهر له منها، ولا يرجو بما تأمل، إن حل عنها قيودها شردت، وإن أطلق وثاقها جمحت، وإن أعطاها سؤلها هلكت، وإن غفل عن محاسبتها أدبرت، وإن عجز عن مخالفتها غرقت، وإن اتبع هواها تولت إلى النار وفيها هوت، ليس له حقيقة ولا رجوع إلى خير، وهي رأس البلاء ومعدن الفضيحة، وخزانة إبليس ومأوى كل سوء، ولا يعرفها أحد غير خالقها عز وجل، فهي في الصفة التي وصفها الله عز وجل، كلما أظهرت خوفًا فهو أمن، وكلما ادعت صدقًا فهو كذب، وكلما ذكرت إخلاصها فهو رياء وإعطاء عند الحقائق، يبين صدقها ويعرف كذبها، وعند الامتحان يرجع إلى دعواها، فليس بلاء عظيم إلا وقد حل بها، فعلى العبد محاسبتها ومعرفتها ومراقبتها ومخالفتها ومجاهدتها في جميع ما تدعو إليه وتدخل فيه، فليس لها دعوى حق، وإنما تسعى في هلاكها ودمارها، ولا توصف بشيء إلا وهي أكثر مما توصف، فهي كنز إبليس ومستراحه ومسامرته ومحدثته وصديقته. فإذا عرف العبد صفتها فقد عرفها وهانت عليه، وذلت وقوي عليها بالله عز وجل، فإذا اجتمعت في العبد هذه الخصال الثلاث، فليستعن بالله عز وجل عليهن، ولا يغفل لأنه إذا قوي على أدب نفسه ومخالفتها عما تهوى قوي على الخصال كلها إن شاء الله تعالى، فعليه ببذل التقدم بالعزم بالله عز وجل وحده لا شريك له، ولا يميلن في هذا كله إلى أحد غير الله عز وجل، فإن لم يفعل ذلك فلا يوفق لخير ويكله الله عز وجل إلى نفسه. فينبغي له أن يستعين بالله تعالى في هذا كله ويتبع مرضاته في جميع ما أمره الله به

ونهاه، لا يريد بذلك أحدًا غير الله عز وجل، فإن فعل ذلك أرشده الله ووفقه وأحبه وجنبه مكارهه وستره بستر الأصفياء العلماء بالله، الذين بذلك نالوا العلم بالله عز وجل. وأما معرفة العمل لله عز وجل، فإن يعلم العبد أن الله عز رجل أمره بأمور ونهاه عن أمور، فالذي أمره به هو الطاعة، والذي نهاه عنه هو المعصية له عز وجل وأمره بالإخلاص فيهما والقصد إلى سبيل الهدى على نهج الكتاب والسنة، ولا يكون في ضميره في فعله كل شيء غير الله عز وجل، ولا يكن ممن ترك المعاصر الظاهرة، وأعرض عن ترك المعاصي الباطنة التي هي أمهات الذنوب وأصولها، لأن الله تعالى ليس على هذا وعد بالمغفرة، ولا على هذا ضمن الثواب في دار الجزاء، فلا يجهدن العبد في العبادة بالظاهر بفساد النية وسقم الإرادة، فتعود إذ ذاك طاعاته معاصي كلها، فتخل به عقوبات الدنيا والآخرة مع تعب البدن وقلة المراد به وترك الشهوة واللذة، فيسخر الدنيا والآخرة، ولكن يزين طاعته بالإخلاص والتقوى والورع، ونيته بالصدق، ويحفظ إرادته بالمحاسبة، وليكن همه طلب النية الصادقة، وعزمه طلب الإخلاص والتوحيد في أقواله وأفعاله وأحواله أجمع عند أخذه في الطاعة، وإعراضه عن المعصية، حتى يثبت معرفة النية، كما يثبت معرفة العمل. وينبغي له أن يتحرز من أن يخدعه إبليس اللعين بغوائله، ويصرعه بمصائده، ويوقعه في فخوخه، ويذهب به بكره وخدعة، فإن له مصائد مسجلات في القلوب، وغوائل شهية وظرائف لذيذة، يحسبه الجاهل نورًا ويقينًا، وهو شك وظلمة، يفتح له مائة باب من الطاعة، يريد بذلك أن يدخله في أدنى منزلة يستغرق عمله بها، فإياه ثم إياه الحذر الحذر، فإن قدر أن يتعلم خدعه كما يتعلم القرآن فليفعل، فبهذا أمره الله جل ثناؤه، فليحذره العبد في طاعته، كما يحذره في معاصيه، فإن خطر بباله أمر أو دعته نفسه إلى شيء أو تحرك بحركة فلا يعجلن دون المعرفة والعلم، وليرفق بنفسه ويترسل بترسل العلماء، ويجالس الفقهاء العالمين بالله وبأمره ونهيه، حتى يدلوه على طريق الله عز وجل، ويعرفوه ذلك ويدلوه على دوائه ودائه على ما قدمناه في مجلس التوبة. ولا ينبغي له أن يفتر بطول القيام وكثرة الصيام والنوافل الظاهرة بلا معرفة منه بعمله، فإن كان كذلك ورأى فعله مع معرفته بنفسه وبربه وبعدوه صح فعله، فعندما

(فصل) ولأهل المجاهدة والمحاسبة وأولى العزم عشر خصال

يورث العلم والفقه، فما كان من علم ظاهر أو باطن ظاهر أو باطن نظر إن كان لله خالصًا صادقًا قلبه الله منه وأثابه عليه، وإن كان غير ذلك رده عليه فلم يسقط له عند ذلك فعل ولا يخفى عليه أمر، فإذا كان كلك فقد أعطى كل خلق حسن وصح عقله وثبت عمله وزاد حلمه، وكان من أولياء الله وأصفياءه الذين بالله ينظرون، وبالله يتكلمون، وبه يأخذون، وبه يعطون، ومع ذلك اتهم نفسه واتهم هواه على نفسه ودينه، واتهم إبليس، فحينئذ اتهم مع ذلك معرفته بنفسه على معرفته بها. (فصل) ولأهل المجاهدة والمحاسبة وأولى العزم عشر خصال جربوها لأنفسهم، فإذا أقاموها وأحكموها بإذن الله تعالى وصلوا إلى المنازل الشريفة: أولها: ألا يحلف العبد بالله عز وجل صادقًا ولا كاذبًا، عامدًا ولا ساهيًا، لأنه إذا أحكم ذلك من نفسه وعود لسانه رفعه ذلك أن يترك الحلف ساهيًا وعامدًا، فإذا اعتاد ذلك فتح الله به بابًا من أنواره يعرف منفعة ذلك في قلبه، وزيادة في بدنه، ورفعه في درجته، وقوة في عزمه وفي بصره، والثناء عند الإخوان وكرامة عند الجيران حتى يأتمر به من يعرفه ويهابه من يراه. والثانية: أن يجتنب الكذب هازلاً وجادًا، لأنه إذا فعل ذلك وأحكمه من نفسه واعتاد لسانه، شرح الله به صدره وصفى به علمه، حتى كان لا يعرف الكذب، وإذا سمعه من غيره عاب ذلك عليه وعيره به في نفسه، وإن دعا له بزوال ذلك كان له ثوابًا. والثالثة: أن يحذر أن يعد أحدًا شيئًا فيخلفه إياه، وهو يقدر عليه إلا من عذر بين، أو يقطع العدة البتة، فإنه أقوى لأمره وأقصد لطريقه، لأن الحلف من الكذب، فإذا فعل ذلك فتح له باب السخاء، ودرجة الحياء، وأعطى مودة في الصادقين، ورفعه عند الله جل ثناؤه. والرابعة: يجتنب أن يلعن شيئًا من الخلق، أو يؤذي ذرة فما فوقها، لأنها من أخلاق الأبرار والصادقين، وله عاقبة حسنة في حفظ الله إياه في الدنيا، مع ما يدخر له عنده من الدرجات، ويستنقذه من مصارع الهلكة ويسلمه من الخلق، ويرزقه رحمة العباد والقرب منه عز وجل. والخامسة: يجتنب أن يدعو على أحد من الخلق وإن ظلمه، فلا يقطعه بلسانه ولا

يكافئه بفعاله، ويحتمل ذلك لله تبارك وتعالى، ولا يكافئه بقول ولا فعل، فإن هذه الخصال ترفع صاحبها في الدرجات العلا، إذا تأدب بها ينال منزلة شريفة في الدنيا والآخرة، والحب والمودة في قلوب الخلق أجمعين، من قريب وبعيد، وإجابة الدعوة والعلو في الخير، والعز في الدنيا في قلوب المؤمنين. والسادسة: ألا يقطع الشهادة على أحد من أهل القبلة بشرك ولا كفر ولا نفاق، فإنه اقرب للرحمة وأعلى في الدرجة، وهي تمام السنة وأبعد عن الدخول في علم الله سبحانه وتعالى، وأبعد من مقت الله عز وجل، وأقرب إلى رضا الله تعالى ورحمته، فإنه باب شريف كريم على الله، يورث العبد الرحمة للخلق أجمعين. والسابعة: يجتنب النظر والهم إلى شيء من المعاصي ظاهرًا وباطنًا، ويكف عنها جوارحه، فإن ذلك من أسرع الأعمال ثوابًا للقلب والجوارح في عاجل الدنيا، مع ما يدخل الله تعالى له من خير الآخرة، نسأل الله تعالى أن يمن علينا أجمعين بالعمل بهذه الخصال، وأن يخرج شهواتنا من قلوبنا. والثامنة: يجتنب أن يجعل على أحد من الخلق منه مؤنة صغيرة ولا كبيرة، بل يرفع مؤنته عن الخلق أجمعين، مما احتاج إليه واستغنى عنه، فإن ذلك تمام عزة العابدين وشرف المتقين، وبه يقوى على الأمر بالمعرفة والنهي عن المنكر، ويكون الخلق عنده أجمعون بمنزلة واحدة في الحق سواء، فإن كان كذلك نقله الله تعالى إلى الغنى واليقين والثقة به عز وجل، ولا يرفع أحدًا بهواه، ويكون الناس عنده في الحق سواء، ويقطع بأن هذا الباب عز المؤمنين وشرف المتقين، وهو أقرب باب إلى الإخلاص. والتاسعة: ينبغي له أن يقطع طمعه من الآدميين لا يطمع نفسه في شيء مما في أيديهم، فإنه العز الأكبر، والغنى الخالص، والملك العظيم، والفخر الجليل، واليقين الصادق، والتوكل الشافعي الصحيح، وهو باب من أبواب الثقة بالله عز وجل، وهو باب من أبواب الزهد، وبه ينال الورع ويكمل نسكه، وهو من علامات المنقطعين إلى الله تبارك وتعالى. الخصلة العاشرة: التواضع لأن بها يشيد محل العابد وتعلو درجته ويستكمل العز والرفعة عند الله تعالى وعند الخلق، ويقدر على ما يريد من أمر الدنيا والآخرة، وهذه الخصلة أصل الطاعات كلها وفروعها وكمالها، وبها يدرك العبد منازل الصالحين الراضين

(فصل) وأما التوكل

عن الله تعالى في الضراء والسراء، وهي كمال التقوى والتواضع، هو ألا يلقى العبد أحدًا من الناس إلا رأى له الفضل عليه، ويقول عسى أن يكون عند الله خيرًا مني وأربع درجة، فإن كان صغيرًا قال: هذا لم يعص الله وأنا قد عصيت، فلا شك أنه خير مني، وإن كان كبيرًا قال: هذا عبد الله قبلي، وإن كان عالمًا قال: هذا أعطي ما لم أبلغ ونال ما لم أنل، وعلم ما جهلت وهو يعمل بعلم، وإن كان جاهلاً قال: هذا عصى الله بجهل، وأنا عصيته بعلم، ولا أدري بم يختم له، وبما يختم لي، وإن كان كافرًا قال: لا أدري عسى يسلم هذا فيختم له بخير العمل، وعسى أكفر أنا فيختم لي بشر العمل، وهذا باب الشفقة والوجل، وأول ما يصحب وآخر ما يبقى على العباد، فإن كان العبد كذلك سلمه الله من الغوائل، وبلغ به منازل النصيحة لله عز وجل، وكان من أصفياء الرحمن وأحبابه، وكان من أعداء إبليس عدو الله لعنه الله وهو باب الرحمة، ومع ذلك يكون قد قطع طريق الكبر وحبال العجب، ورفض درجة العلو وجانب درجة التعزز في نفسه في الدين والدنيا والآخرة، وهو ملح العبادة وغاية شرف الزاهدين وسيما الناكسين، فلا شيء أفضل منه ومع ذلك يقطع لسانه عن ذكر العالمين، فلا يتم له عمل إلا به، ويخرج الغل والبغي والكبر من قلبه في جميع أحواله، وكان لسانه في السر والعلانية واحدًا ومشيئته في السر والعلانية واحدًا وكلامه كذلك، والخلق عنده في النصيحة واحدًا، ولا يكون من الناصحين وهو يذكر أحدًا من خلق الله بسوء أو يعيره بفعل، أو يحب أن يذكر عنده بسوء، أو يرتاح قلبه إذا ذكر عنده بسوء، وهذا آفة العابدين وعطب النساك وهلاك الزاهدين، إلا من أعانه الله عز وجل على حفظ لسانه وقلبه برحمته. * * * (فصل) وأما التوكل: فالأصل فيه قوله عز وجل: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق: 3]، وقوله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} [المائدة: 23]. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رأيت الأمم بالموسم، فرأيت أمتي قد ملأت السهل والجبل فأعجبتني كثرتهم وهيئتهم، فقيل لي: أرضيت؟ قلت: نعم، قيل: ومع هؤلاء سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، لا

يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن الأسدي فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اللهم اجعلهع منهم، فقام آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: سبقك بها عكاشة". وحقيقة التوكل: تفويض الأمور إلى الله عز وجل، والتنقي عن ظلمات الاختيار والتدبير، والترقي إلى ساحات شهود الأحكام والتقدير، فيقطع العبد ألا تبديل للقسمة، فما قسم له لا يفوته، وما لم يقدر له لا يناله، فيسكن قلبه إلى ذلك، ويطمئن إلى وعد مولاه، فيأخذ من مولاه. والتوكل ثلاث درجات: وهي التوكل، ثم التسليم، ثم التفويض، فالمتوكل يسكن إلى وعد ربه، وصاحب التسليم يكتفي بعلمه، وصاحب التفويض يرضى بحكمه. وقيل: التوكل بداية، والتسليم وسط، والتفويض نهاية. وقيل: التوكل صفة المؤمنين، والتسليم صفة الأولياء، والتفويض صفة الموحدين. وقيل: التوكل صفة العوام، والتسليم صفة الخواص، والتفويض صفة خاص الخاص. وقيل: التوكل صفة الأنبياء، والتسليم صفة إبراهيم، والتفويض صفة نبينا صلوات الله عليهم أجمعين. فالتوكل على كمال الحقيقة وقع لإبراهيم الخليل عليه السلام في الوقت الذي قال لجبريل عليه السلام: أما إليك فلا، لأنه غابت نفسه حتى لم يبق لها أثر، فلم ير مع الله تعالى غير الله عز وجل. وقال سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى: أول مقام في التوكل أن يكون العبد بين يدي الله عز وجل كالمبيت بين يدي الغاسل يقلبه كيف أراد، لا يكون له حركة ولا تدبير، فالمتوكل على الله سبحانه وتعالى يكون لا يسأل ولا يريد ولا يرد ولا يحبس. وقال أيضًا: التوكل هو الاسترسال. وقال حمدون رحمه الله تعالى: هو الاعتصام بالله عز وجل.

وقال إبراهيم الخواص رحمه الله تعالى: حقيقة التوكل إسقاط الخوف والرجاء مما سوى الله عز وجل. وقيل: التوكل رد العيش إلى يوم واحد، وإسقاط هم غد. وقال أبو علي الروذباري رحمه الله تعالى: مراعاة التوكل ثلاث درجات: الأولى منها: إذا أعطي شكر، وإذا منع صبر. والثانية: أن يكون العبد المنع والعطاء عنده واحد. والثالثة: المنع مع الشكر أحب إليه لعلمه باختيار الله تعالى له ذلك. وروي عن جعفر الخلدي قال: قال إبراهيم الخواص رحمه الله تعالى: كنت في طريق مكة، فرأيت شخصًا وحشيًا، فجئت إليه فقلت: أجني أم إنسي، فقال: بل جني، فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى مكة، فقلت له: بلا زاد ولا راحلة؟ قال: نعم. فينا أيضًا من يسافر على التوكل، فقلت له: ما التوكل؟ قال الأخذ من الله. وقال سهل رحمه الله تعالى: هو معرفة معطي أرزاق المخلوقين، ولا يصح لأحد التوكل حتى يكون عنده السماء كالصفر والأرض كالحديد، لا ينزل من السماء مطر، ولا يخرج من الأرض نبات، ويعلم أن الله لا ينسى له ما ضمن له من رزقه بين هذين. وقيل: هو ألا تعصي الله تعالى من أجل رزقك. وقال بعضهم: حسبك من التوكل ألا تطلب لنفسك ناصرًا غير الله تعالى، ولا لرزقك خازنًا غيره، ولا لعملك شاهدًا غيره. وقال الجنيد رحمه الله تعالى: التوكل أن تقبل بالكلية على ربك وتعرض عمن دونه. وقال النوري رحمه الله تعالى: هو أن تفنى تدبيرك في تدبيره، وترضى بالله وكيلاً ومدبرًا ونصيرًا. قال الله تعالى: {وكفى بالله وكيلاً} [النساء: 81]. وقيل: هو اكتفاء العبد الذليل بالرب الجليل، كاكتفاء الخليل بالجليل حين لم ينظر إلى عناية جبريل عليه السلام. وقيل: هو السكون عن الحركات اعتمادًا على خالق الأرض والسموات. وقيل لبهلول المجنون رحمه الله تعالى: متى يكون العبد متوكلاً؟ قال: إذا كان بالنفس غريبًا بين الخلق، وبالقلب قريبًا إلى الحق. وقيل لحاتم الأصم رحمه الله تعالى: علام بنيت أمرك هذا من التوكل؟ قال: على

أربع خلال: علمت أن رزقي ليس يأكله غيري فلست اشتغل به، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأبادره، وعلمت أني بعين الله تعالى في كل حال فأنا مستح منه. وعن أبي موسى الدبيلي قال: سألت عبد الرحمن بن يحيى عن التوكل فقال لي: لو أدخلت يدك في فم التنين حتى تبلغ إلى الرسغ لم تخف مع الله شيئًا، فقال أبو موسى رحمه الله تعالى: فخرجت إلى أبي يزيد البسطامي رحمه الله تعالى أسأله عن التوكل فدخلت بسطام ودققت عليه الباب فقال لي: يا أبا موسى ما كان لك في جواب عبد الرحمن من القناعة حتى تجيء وتسألني؟ فقلت: يا سيدي افتح الباب، فقال: لو زرتني لفتحت لك الباب، خذ الجواب من الباب، فانصرفت، فلو أن الحية التي هي مطوقة بالعرش همت بك لم تخف مع الله شيئًا، قال أبو موسى رحمه الله تعالى: فانصرفت حتى جئت إلى دبيل، فأقمت بها سنة، ثم اعتقدت الزيارة، فخرجت إلى أبي يزيد، فقال لي: الآن جئتني زائرًا مرحبًا بالزائر ادخل، فأقمت عنده شهرًا لا يقع لي شيء إلا أخبرني به قبل أن أسأله، فقلت له: يا أبا يزيد أخرج وأريد فائدة منك فقال: اعلم أن فائدة المخلوقين ليست بفائدة، فانصرف، فجعلتها فائدة وانصرفت. وعن ابن طاوس اليماني رحمه الله تعالى عن أبيه طاوس رحمه الله تعالى قال: إن أعرابيًا جاء براحلة له فأبركها وعقلها، ثم رفع رأسه إلى السماء، فقال: اللهم إن هذه الراحلة وما عليها في ضمانك، حتى أخرج إليها ومضى، فخرج الأعرابي من المسجد الحرام، وقد أخذت الراحلة وما عليها، فرع رأسه إلى السماء وقال: اللهم ما سرق مني شيء وما سرق إلا منك. قال طاوس: فبينما نحن كذلك مع الأعرابي إذ رأينا رجلاً نازلاً من رأس جبل أبي قبيس يقود الراحلة بيده اليسرى، ويمينه مقطوعة معلقة في عنقه، حتى جاء إلى الأعرابي فقال: خذ راحلتك وما عليها، فسألته عن حاله، فقال: استقبلني فارس على فرس أشهب في رأس أبي قبيس، فقال لي: يا سارق مد يدك، قال: فمددتها فوضعها على حجر ثم أخذ آخر فبتلها وعقلها في عنقي، وقال: انزل ورد الراحلة وما عليها إلى الأعرابي. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو توكلتم

على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا". وروى محمد بن كعب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه مما في يديه". وكان عمر رضي الله عنه يتمثل بهذين البيتين: هون عليك فإن الأمور ... بأمر الإله مقاديرها فليس يأتيك مصروفها ... ولا عازب عنك مقدورها وسئل يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى: متى يكون الرجل متوكلاً؟ فقال: إذا رضي بالله وكيلاً. وقال بشر رحمه الله تعالى: يقول أحدهم: توكلت على الله يكذب، واليه فإن لو توكل على الله رضي بما يفعل به. وقال أبو تراب التخشبي رحمه الله تعالى: هو طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية، والطمأنينة إلى الكفاية، فإن أعطي شكر، وإن منع صبر. وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: التوكل: ترك تدبير النفس والانخلاع من الحول والقوة. وقال ذو النون رحمه الله تعالى أيضًا لرجل سأله عن التوكل فقال: هو خلع الأرباب، وقطع الأسباب، فقال له السائل: زدني، فقال: إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية. وقال أيضًا: هو انقطاع المطامع. وأما الحركة بالظاهر التي هي الكسب بالسنة فلا تنافي توكل القلب بعدما يتحقق العبد أن التقدير من قبل الله تعالى في قلبه، لأن محل التوكل القلب، وهو تحقيق الإيمان، فمن أنكر الكسب فقد أنكر السنة، ومن أنكر التوكل فقد أنكر الإيمان، فإن تعسر شيء من الأسباب فبتقدير الله عز وجل، وإن تيسر شيء منها فتيسيره عز وجل، فتكون جوارحه وظواهره متحركة في السبب بأمر الله عز وجل، وباطنه ساكن لوعد

(فصل) وأما حسن الخلق

الله عز وجل. وقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "جاء رجل على ناقة له فقال: يا رسول الله أدعها وأتوكل؟ فقال -صلى الله عليه وسلم- اعقلها وتوكل". وقيل: المتوكل كالطفل لا يعرف شيئًا يأوي إليه إلا ثدي أمه، كذلك المتوكل لا يهتدي إلا إلى ربه عز وجل. وقيل: التوكل نفي الشكوك والتفويض إلى مالك الملوك. وقيل: التوكل الثقة بما في يد الله عز وجل، واليأس مما في أيدي الناس. وقيل: التوكل إفراغ السر عن التفكير للتقاضي في طلب الرزق. * * * (فصل) وأما حسن الخلق: فالأصل فيه قول الله عز وجل لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في كتابه المنزل عليه: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4]. وما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "قيل: يا رسول الله أي المؤمنين أفضل إيمانًا؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: أحسنهم خلقًا". الخلق الحسن أفضل مناقب العبد وبه تظهر جواهر الرجال، والإنسان مستور بخلقه مشهور بخلقه. وقيل: إن الله عز وجل خص نبيه ورسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بما خص به من المعجزات والكرامات والفضائل، ثم لم يثن عليه بشيء من خصاله بثمل ما أثنى عليه بخلقه، فقال عز من قائل: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4]. وقيل إنما وصفه الله تعالى بالخلق العظيم لأنه جاد بالكونين، واكتفى بالله عز وجل. وقيل: الخلق العظيم: أن لا يخاصِم ولا يخاصَم من شدة معرفته بالله تعالى. وقيل: معناه لم يؤثر فيك جفاء الخلق بعد مطالعتك للحق. وقال أبو سعيد الخراز رحمه الله تعالى: هو ألا تكون له همة غير الله عز وجل.

وقال الجنيد رحمه الله تعالى: سمعت الحارث المحاسبي يقول: فقدنا ثلاثة أشياء: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن القول مع الأمانة، وحسن الإخاء معه الوفاء. وقيل: الخلق الحسن استصغار ما منك، واستعصام ما لك. وقيل: علامة حسن الخلق كف الأذى، واحتمال المؤن. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه رضي الله عنهم: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم ببسط الوجه وحسن الخلق". وحسن الخلق مع الله عز وجل أن تؤدي أوامره، وتترك نواهيه، وتطيعه في الأحوال كلها من غير اعتقاد استحقاق العوض عليه، وتسلم جميع المقدور إليه من غير تهمة، وتوحده من غير شرك، وتصدقه في وعده من غير شك. وقيل لذي النون المصري رحمه الله تعالى: من أكثر الناس همًا؟ قال: أسوأهم خلقًا. وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: {وثيابك فطهر} [المدثر:4] أي خلقك فحسن. وقيل في قوله تعالى: {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة} [لقمان:20] قيل: الظاهرة: تسوية الخلق، والباطنة: تصفية الخلق. وقيل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: هل فرحت في الدنيا قط؟ فقال: نعم مرتين، إحداهما: كنت قاعدًا ذات يوم فجاء كلب وبال علي، والثانية، كنت قاعدًا فجاء إنسان وصفعني. وقيل: كان أويس القرني رحمه الله تعالى إذا رآه الصبيان يرمونه بالحجارة، فيقول: إن كان لابد فالرموني بالصغار لئلا تدموا ساقي وتمنعوني عن الصلاة. وقيل: شتم رجل الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى وكان يتبعه، فلما قرب من الحي وقف وقال: يا فتى إن كان بقي في قلبك شيء فقله كيلا يسمعك بعض سفهاء الحي فيجيبوك. وقيل لحاتم الأصم رحمه الله تعالى: يحتمل الرجل من كل أحد، قال: نعم، إلا

(فصل) وأما الشكر

من نفسه. وروي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه دعا غلامًا له فلم يجبه، فدعاه ثانيًا وثالثًا فلم يجبه، فقام إليه فرآه مضطجعًا، فقال: أما تسمع يا غلام؟ قال: نعم، قال: ما حملك على ترك جوابي؟ قال: أمنت عقوبتك فتكاسلت، قال: امض فأنت حر لوجه الله عز وجل. وقيل: الخلق الحسن أن تكون من الناس قريبًا وفيما بينهم غريبًا. وقيل: الخلق الحسن قبول ما يرد عليك من جفاء الخلق وقضاء الحق بلا ضجر ولا قلق. وقيل: مكتوب في الإنجيل: عبدي اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب. وقالت امرأة لمالك بن دينار رحمه الله تعالى: يا مرائي، فقال: يا هذه قد وجدت اسمي الذي أضله أهل البصرة. وقال لقمان لابنه: يا بني لا تعرف ثلاثًا إلا عهد ثلاث: الحليم عند الغضب، والشجاع في الحرب، والأخ عند الحاجة إليه. وقال موسى عليه السلام: يا إلهي أسألك ألا يقال لي ما ليس في، فأوحى الله تعالى إليه: ما فعلت ذلك لنفسي، فكيف أفعله لك؟ * * * (فصل) وأما الشكر: فالأصل فيه قوله عز وجل: {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم: 7] وما روي عن عطاء رحمه الله تعالى قال: "دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبكت ثم قالت: وأي شيء من شأنه لم يكن عجبًا؟ إنه أتاني في ليلة فدخل معي في فراشي، أو قالت: في لحافي: حتى مس جلدي جلده، ثم قال: يا بنت أبي بكر ذريني أتعبد لربي، قالت: فقلت: إني أحب قربك، ولكني أؤثر هواك، فأذنت له -صلى الله عليه وسلم- فقام إلى قربة من ماء، فتوضأ وأكثر صب الماء، ثم قام فصلى، فبكى حتى سالت دموعه على صدره، ثم ركع فبكى، ثم سجد فبكى، ثم رفع رأسه فبكى، فلم يزل -صلى الله عليه وسلم- كذلك حتى جاء بلال رضي الله عنه فأخبره بالصلاة، فقلت: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال -صلى الله عليه وسلم-:

أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ ولم لا أفعل، وقد أنزل الله عز وجل علي: {إن في خلق السموات والأرض} [البقرة:164] ". وحقيقة الشكر عند أهل التحقيق: الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخصوص، وعلى هذا المعنى وصف الله تعالى نفسه بأنه الشكور توسعًا، معناه أنه يجازي العباد على الشكر، فسمي جزاء الشكر شكرًا، كما قال الله عز وجل: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى:4]. وقيل: حقيقة الشكر الثناء على المحسن بذكر إحسانه، فشكر العبد لله تعالى ثناؤه عليه بذكر إحسانه إليه، وشكر الحق سبحانه للعبد ثناؤه عليه بذكر إحسانه له، ثم إن إحسان العبد طاعته لله، وإحسان الحق سبحانه إنعامه على العبد، وشكر العبد على الحقيقة إنما هو نطق اللسان وإقرار القلب بإنعام الرب. ثم الشكر ينقسم أقسامًا إلى: شكر اللسان وهو اعترافه بالنعمة بنعمت الاستكانة. وشكر بالبدن والأركان وهو اتصاف بالوفاء والخدمة. وشكر القلب وهو انعكاف على بساط الشهود بإدامة حفظ الحرمة. وقيل: شكر العينين أن تستر عيبًا تراه لصاحبك، وشكر الأذنين أن تستر عيبًا تسمعه فيه. وفي الجملة الشكر ألا تعصي الله تعالى بنعمه. ويقال: شكر هو شكر العالمين فيكون من جملة أقوالهم، وشكر هو شكر العابدين، فيكون نوعًا من أفعالهم، وشكر هو شكر العارفين، يكون باستقامتهم له عز وجل في عموم أحوالهم، واعتقادهم أن جميع ما هم فيه من الخير وما يظهر منهم من الطاعة والعبودة والذكر له عز وجل بتوفيقه وإنعامه وعونه وحوله وقوته عز وجل، وانعزالهم عن جميع ذلك والفناء فيه، والاعتراف بالعجز والقصور والجهل، ثم الاستكانة إليه عز وجل في جميع الأحوال. وقال أبو بكر الوراق رحمه الله تعالى: شكر النعمة مشاهدة المنة وحفظ الحرمة.

وقيل: شكر النعمة أن ترى نفسك فيه طفيليًا. وقال أبو عثمان رحمه الله تعالى: الشكر معرفة العجز عن الشكر. وقيل: الشكر على الشكر أتم من الشكر، وذلك أن ترى شكرك بتوفيقه، ويكون ذلك التوفيق من أجل النعم عليك فتشكره على الشكر ثم تشكره على شكر الشكر إلى ما يتناهى. وقيل: الشكر إضافة النعم إلى مولاها بنعت الاستكانة له. وقال الجنيد رحمه الله تعالى: الشكر ألا ترى نفسك أهلاً للنعمة. وقيل: الشاكر الذي يشكر على الموجود، والشكور الذي يشكر على المفقود. وقيل: الشاكل الذي يشكر على النفع، والشكور الذي يشكر على المنع. ويقال: الشاكر الذي يشكر على العطاء، والشكور الذي يشكر على البلاء. ويقال: الشاكر الذي يشكر عند البذل، والشكور الذي عند المطل. وقال الشبلي رحمه الله تعالى: الشكر رؤية النعم لا رؤية النعمة. وقيل: الشكر قيد الموجود وصيد المفقود. وقال أبو عثمان رحمه الله تعالى: شكر العامة على المطعم والمشرب والملبس وشكر الخواص على ما يرد على قلوبهم من المعاني قال الله عز وجل: {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13]. وقال داود عليه السلام: إلهي كيف أشكرك وشكري لك نعمة من نعمك؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إليه: الآن قد شكرتني. وقيل: إذا قصرت يدك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر. وقيل: لما بشر إدريس عليه السلام بالمغفرة سأل الحياة، فقيل له: لم؟ فقال: لأشكره، فإني كنت أعمل قبله للمغفرة، فبسط الملك جناحه وحمله إلى السماء. وقيل: مر بعض الأنبياء عليه السلام بحجر صغير يخرج من الماء الكثير، فتعجب منه، فأنطقه الله له، فسأله عن ذلك، فقال: منذ سمعت الله عز وجل يقول: {نارًا وقودها الناس والحجارة} [مريم: 6] فأنا أبكي من خوفه، فدعا ذلك النبي عليه السلام أن يجير ذلك الحجر من النار، فأوحى الله عز وجل إليه، إني قد أجرته من النار، فمر ذلك النبي، فلما عاد وجد الماء يتفجر منه أوفر مما كان قبل ذلك، فعجب، فأنطق الله

(فصل) وأما الصبر

تعالى الحجر له، فقال له: لِمَ تبكي وقد غفر الله لك؟ فقال: ذلك كان بكاء الحزن والخوف، وهذا بكاء الشكر والسرور. وقيل: الشاكر مع المزيد، لأنه في شهود النعمة، قال الله تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم:7] والصابر مع الله لأئذ به تعالى لأنه في شهود المبلى، قال الله تعالى: {إن الله مع الصابرين} [البقرة: 153، والأنفال:46]. وقيل: الحمد على الأنفاس، والشكر على نعم الحواس. وقيل في الخبر الصحيح: "أول من يدعى إلى الجنة الحمادون لله على ما صنع". وحكي عن بعضهم أنه قال: رأيت في بعض الأسفار شيخًا كبيرًا قد طعن في السن، فسألته عن حاله، فقال: إني كنت في ابتداء عمري أهوى ابنة عم لي، وهي كذلك كانت تهواني، فاتفق أني تزوجت بها، فليلة زفافها قلت لها: تعالي حتى نحيي هذه الليلة شكرًا لله عز وجل على ما جمعنا، فصلينا تلك اللية ولم يفرغ أحدنا إلى الآخر، فلما كانت الليلة الثانية قلنا مثل ذلك، فمنذ سبعين سنة أو ثمانين سنة ونحن على تلك الحالة كل ليلة، أليس كذلك يا فلانة؟ فقالت العجوز: هو كما قال الشيخ. * * * (فصل) وأما الصبر: فالأصل فيه قول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} [آل عمران: 200]. وقوله عز وجل: {واصبر وما صبرك إلا بالله} [النمل: 127]. وما روي عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الصبر عند الصدمة الأولى". وما روي "أن رجلاً قال: يا رسول الله ذهب مالي وسقم جسمي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا خير في عبد لا يذهب ماله ولا يسقم جسمه، إن الله تعالى إذا أحب عبدًا ابتلاه، وإذا ابتلاه صبره".

وما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الرجل لتكون له الدرجة عند الله عز وجل لا يبلغها بعمله حتى يبتلي ببلاء في جسمه فيبلغها بذلك". وما جاء في الخبر "أنه لما نزل قوله تبارك وتعالى: {من يعمل سوءًا يجز به} [النساء: 123] قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله كيف الفلاح بعد هذه الآية؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: غفر الله لك يا أبا بكر أليس تمرض؟ ألي يصيبك البلاء؟ أليس تصبر؟ أليس تحزن؟ فهذا ما تجزون به". يعني أن جميع ما يصيبك يكون كفارة لذنوبك. فالصبر على ثلاث أضرب: أحدهما: صبر لله عز وجل، وهو على أداء أمره وانتهاء نهيه. وصبر مع الله عز وجل، وهو الصبر تحت جريان قضائه وافعاله فيك من سائر الشدائد والبلايا. وصبر على الله عز وجل، وهو الصبر على ما وعد من الرزق والفرج والكفاية والنصر والثواب في دار الآخرة. وقيل: الصبر على قسمين: أحدهما: صبر على ما هو كسب للعبد، وصبر على مال ليس بكسب له. فالصبر على الكسب ينقسم على قسمين، أحدهما: على ما أمر الله به عز وجل، والثاني على ما نهاه عز وجل عنه. وأما الصبر على ما ليس بكسب للعبد: فصبره على مقاساة ما يتصل به من حكم الله وقضائه فيما له فيه مشقة وألم في القلب والجسد. وقيل: الصابرون ثلاثة: متصبر، وصابر، وصبار. وقيل: وقف رجل على الشبلي رحمه الله تعالى فقال له: أي الصبر أشد على الصابرين؟ قال: الصبر في الله، فقال: لا، فقال: الصبر لله، قال: لا، قال: الصبر مع الله، قال: لا، قال: فأيش؟ قال: الصبر على الله، فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف.

وقال الجنيد رحمه الله تعالى: السير من الدنيا إلى الآخرة سهم هين على المؤمن، وهجران الخلق في جنب الحق شديد، والسير من النفس إلى الله صعب شديد، والصبر مع الله أشد. وسئل رحمه الله تعالى عن الصبر؟ فقال: تجرع المرارة من غير تعبيس. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد"، وقيل ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: الصبر التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحة المعيشة. وقيل: الصبر الوقوف مع البلاء بحسن الأدب. وقيل: هو الفناء في البلوى بلا ظهور شكوى. وقيل: الصبر هو المقام مع البلاء بحسن الصحة، كالمقام مع العافية. وقيل: أحسن الجزاء على العبادة الجزاء على الصبر ولا جزاء فوقه، قال الله تعالى: {ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 96]، وقال عز وجل: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: 10]. وقيل: الصبر هو الثبات مع الله عز وجل، وتلقي أذية بلائه بالرحب والدعة. وقال الخواص رحمه الله تعالى: الصبر الثبات مع الله تعالى على أحكام الكتاب والسنة. وقال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى: صبر المحبين أشد من صبر الزاهدين، واعجبًا كيف يصبرون؟ وأنشد: الصبر يحمل في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه لا يحمل وقيل: الصبر ترك الشكوى. وقيل: هو الاستكانة والاستعاذة بالله عز وجل. وقيل: الصبر كاسمه. وقيل: الصبر هو ألا يفرق بين حال النعمة والمحنة مع سكون الخاطر فيهما، والتصبر

(فصل) وأما الرضا

هو السكون مع البلاء مع وجدان أثقال المحنة. * * * (فصل) وأما الرضا: فالأصل فيه قول الله عز وجل: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} [المائدة: 119، والتوبة: 100، والمجادلة:22، والبينة: 8]. وقوله تبارك وتعالى: {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان} [التوبة: 21] الآية. وروي عن ابن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله عز وجل ربًا". وقيل: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: أما بعد، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر. وروي عن قتادة رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا} [النحل:58]، هذا صنيع مشركي العرب، أخبرنا الله عز وجل بخبيث صنيعهم. فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله تعالى له، وقضاء الله عز وجل خير من قضاء المرء لنفسه، وما قضاء الله لك يا ابن آدم فيما تكره خير لك مما قضى الله عز وجل لك فيما تحب، فاتق الله تعالى وارض بقضائه، قال الله تبارك وتعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216]. يعني ما فيه صلاح دينكم ودنياكم، فالله عز وجل طوى عن الخلق مصالحهم وكلفهم عبوديته من أداء الأوامر وانتهاء المناهي، والتسليم في المقدور والرضا بالقضاء فيما لهم وعليهم في الجملة، واستأثر هو عز وجل بالعواقب والمصالح، فينبغي للعبد أن يديم الطاعة لمولاه، ويرضى بما قسم الله له ولا يتهمه. واعلم أن تعب كل واحد من الخلق على قدر منازعته المقدور للقدر، وموافقته لهواه وترك رضاه بالقضاء، فكل من رضي بالقضاء استراح، وكل من لم يرض به طالت شقاوته وتبعه ولا ينال من الدنيا إلى ما قسم له، فما دام هواه متبعًا قاضيًا عليه فهو غير راض بالقضاء، لأن الهوى منازع للحق عز وجل، فتعبه متكاثف متزايد، فاستجلاب

الراحة في مخالفة الهوى، لأن فيه الرضا بالقضاء بلا بد، واستجلاب التعب والنصب في موافقة الهوى، لأن فيه منازعة الحق عز وجل بلا بد، فلا كان الهوى، وإذا كان فلا كنا. واختلف أهل العلم والطريقة في الرضا هل هو من الأحوال أو من المقامات؟ فقال أهل العراق: هو من جملة الأحوال، وليس هو كسبًا للعبد، بل هو نازلة تحل بالقلب كسائر الأحوال ثم تحول وتزول ويأتي غيرها. وقال الخراسانيون: الرضا من جملة المقامات، وهو نهاية التوكل يعني يؤول إلى غاية ما يتوصل إليه العبد باكتسابه. والجميع بينهما ممكن بأن يقال: بداية الرضا مكتسبة للعبد وهي من المقامات، ونهايته من جملة الأحوال وهي ليست بمكتسبة. وفي الجملة الراضي هو الذي لا يتعرض على تقدير الله عز وجل. وقال أبو علي الدقاق رحمه الله تعالى: ليس الرضا ألا تحس بالبلاء، إنما الرضا ألا تعترض على الحكم والقضاء. وقد قالت المشائخ رحمهم الله تعالى: الرضا بالقضاء باب الله الأعظم وجنة الدنيا: أكرم من أكرم بالرضا فقد لقي بالرحب الأوفى، وأكرم بالقرب الأعلى. وقيل إن تلميذًا قال لأستاذه: له يعرف العبد أن الله تبارك وتعالى راضٍ عنه؟ قال: لا، كيف يعلم ذلك، ورضاه غيب، فقال التلميذ: يعلم ذلك. فقال: كيف؟ قال: إذا وجدت قلبي راضيًا عن الله تعالى علمت أنه راض عني، فقال الأستاذ: لقد أحسنت يا غلام، ولا يرضى العبد عن الله حتى يرضى الحق جل جلاله عنه، قال الله عز وجل: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} [المائدة: 119، والتوبة: 100، والمجادلة: 22، والبينة: 8] أي برضاه عنهم رضوا عنه. وقيل: سأل موسى عليه السلام ربه عز وجل فقال: إلهي دلني على عمل إذا عملته رضيت عني فقال: إنك لا تطيق ذلك، فخر موسى عليه السلام ساجدًا متضرعًا، فأوحى الله عز وجل إليه يا ابن عمران إن رضائي في رضاك بقضائي. وقيل: من أراد أن يبلغ محل الرضا فليلزم ما جعل الله عز وجل رضاه فيه. وقيل: الرضا على قسمين: رضا به، ورضا عنه، فالرضا به مدبر، والرضا عنه فيما

يقتضي حاكمًا وفاصلاً. وقيل: الراضي أن لو جعلت جهنم عن يمينه ما سأل أن يحولها إلى يساره. وقيل: الرضا إخراج الكراهية من القلب حتى لا يبقى إلا فرح وسرور. وسئلت رابعة العدوية رحمها الله تعالى متى يكون العبد راضيًا بالقضاء؟ فقالت رحمها الله تعالى: إذا سر بالمصيبة كما يسر بالنعمة. وقيل: قال الشبلي رحمه الله تعالى بين يدي الجنيد رحمه الله تعالى: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال الجنيد رحمه الله: قولك ذا لضيق صدر، وضيق الصدر لترك الرضا بالقضاء. وقال أبو سليمان رحمه الله تعالى: الرضا ألا تسأل الجنة من الله ولا تستعيذ به من النار. وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: ثلاثة من علامات الرضا: ترك الاختيار قبل القضاء، وفقدان المرارة بعد القضاء، وهيجان الحب في حشو البلاء. وقال أيضًا رحمه الله تعالى: هو سرور القلب بمر القضاء. وسئل أبو عثمان رحمه الله تعالى عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أسألك الرضا بعد القضاء" قال: لأن الرضا قبل القضاء عزم على الرضا، والرضا بعد القضاء هو الرضا. وروي أنه قيل للحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: إن أبا ذر رضي الله عنه يقول: الفقر أحب إلى من الغنى، والسقم أحب إلي من الصحة، والموت أحب إلي من الحياة، فقال: رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمن غير ما اختار الله له. وقال الفضيل بن عياض لبشر الحافي رحمهما الله تعالى: الرضا أفضل من الزهد في الدنيا؛ لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلة، والذي قال الفضيل هو الصحيح، لأن فيه الرضا بالحال، وكل خير في الرضا بالحال، قال الله عز وجل لموسى عليه السلام: {إني أصطفيك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين} [الأعراف: 144] أي ارض بما أعطيتك، ولا تطلب منزلة غيره، وكن من الشاكرين: يعني بحفظ الحال.

وكذلك لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتهم فيه} [طه: 131] فأدب نبيه عليه الصلاة والسلام وأمره بحفظ الحال والرضا بالقضاء والعطاء بقوله تعالى: {ورزق ربك خير وأبقى} [طه: 131] أي ما أعطيتك من النبوة والعلم والقناعة والصبر وولاية الدين والقدوة فيه أولى مما أعطيت غيرك وأحرى، فالخير كله في حفظ الحال والرضا به، وترك الالتفات إلى ما سواه، لأنه لا يخلو إما أن يكون ذلك قسمك أو قسم غيرك، أو أنه لا قسم لأحد، بل أوجده الله تعالى فتنة. وإن كان قسم غيرك فلا تتبع فيما لا تناله ولا يصل إليك أبدًا. وإن كان ليس بقسم لأحد بل هو فتنة، فكيف يرضى العاقل ويستحسن اللبيب أن يطلب لنفسه فتنة ويستجلبها. وقال قوم: الرضا بالقضاء هو أن يستوي عندك ما تحب وما تكره من قضائه عز وجل. وقال بعضهم: هو الصبر على مر القضاء. وقال آخر: هو طرح الكف بين يدي الله عز وجل والتسليم لأحكامه. وقال آخر: هو إسقاط التخيير على المدبر. وقال آخر: هو ترك الاختيار. وقال بعضهم: أهل الرضا هم الذين قطعوا عن قلوبهم في الأصل الاختيار، فهم لا يختارون شيئًا من الأشياء مما تريد أنفسهم، ولا شيئًا مما يريدون به الله، ولا يسألونه ولا يطالعون حكمًا قبل نزوله، فإذا وقع حكم من الله حيث لا يتشوقون إليه ولم يطالعوه، رضوا به فأحبوه وسروا به. وقال: إن لله عبادًا إذا وقع بهم الحكم من البلوى رأوه نعمة من الله عليهم، فشكروه عليها وسرّوا بها، ثم رأوا بعد سرورهم بالنعم أن اشتغالهم بالنعمة عن المنعم نقص، فاشتغلت قلوبهم بالمنعم عن النعم فكان البلاء جاريًا عليهم وقلوبهم غائبة عنه، فلما استوطنوا هذا المقام وداوموا عليه نقلهم مولاهم إلى ما هو أعلى لهم وأسمى من ذلك، لأن مواهبه عز وجل لا غاية لها ولا نهاية.

وأقل ما في الرضا بالقضاء أن ينقطع طمعه عما سوى الله عز وجل، وقد ذم الله عز وجل الطمع في غيره عز وجل، فروى عن يحيى بن كثير أنه قال: قرآن التوراة فرأيت فيها أن الله سبحانه وتعالى يقول: ملعون من كان ثقته بمخلوق مثله. وروي في بعض الأخبار أن الله سبحانه يقول: وعزتي وجلالي وجودي ومجدي لأقطعن أمل كل مؤمل آمل غير باليأس، ولألبسنه ثوب المذلة بين الناس، ولأبعدنه من قربي، ولأقطعنه من وصلي، أيؤمل غير في الشدائد والشدائد بيدي وأنا الحي، ويرجى غيري ويطرق بالفكر أبواب غيري وهي مغلقة ومفاتيحها بيدي. وروي في خبر آخر أن الله عز وجل يقول: ما من عبد يعتصم بي دون خلقي، أعلم ذلك من قلبه ونيته، فتكيده السموات والأرض ومن فيهن، إلا جعلت له من ذلك مخرجًا، وما من عبد يعتصم بمخلوق دوني، إلا قطعت أسباب السماء من فوقه، وأسخت الأرض من تحت قدميه، ثم أهلكه في الدنيا وأتعبته فيها. وروي عن بعض الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من تعزز بالناس ذل". وقيل: من اتكل على مخلوق مثله ذل، فكفاه الطمع بما يناله من اطلاع قلبه، وتشتت همه وذله ومسكنته، فقد اجتمع عليه أمران: ذل في الدنيا، وبعد من الله عز وجل بلا ازدياد في رزقه ذرة واحدة. وقال بعضهم: لا أعرف شيئًا أضر على المريدين والطالبين من الطمع، ولا أخرب لقلوبهم ولا أذل لهم ولا أظلم لقلوبهم ولا أبعد لهم ولا أشد تشتيتًا لهمهم من الطمع، إنما كان ذلك كذلك لأنه أشرك بالله عز وجل حيث طمع في م خلوف مثله لا يملك ضرًا ولا نفعًا ولا عطاء ولا منعًا، فجعل ملك الملك المملوكة، فأنى يكون له ورع، فلا يتحقق ورعه حتى ينسب الأشياء إلى مالكها عز وجل، فيطلبها منه ولا يطلبها من غيره. وقيل: الطمع له أصل وفروع، فأصله الغفلة وفرعه الرياء والسمعة والتزين والتصنع وحب إقامة الجاه عند الناس. وقال عيسى عليه السلام للحواريين: الطمع القتول الموجى.

(فصل) وأما الصدق

وعن بعضهم أنه قال: طمعت يومًا مرة في شيء من أمر الدنيا، فهتف بي هاتف وهو يقول: يا هذا إنه لا يحمد بالحر المريد إذا كان يجد عند الله كل ما يريد أن يركن بقبله إلى العبيد. واعلم أن لله عبادًا يخفى عليهم الطمع فيمن يملك لهم ما فيه يطمعون حتى تكون الأشياء داخلة عليهم من حيث لا يطمعون، ويرون أن حالة الطمع نقص في الأحوال، وهو أدنى درجة من درجات العارفين من أهل التوكل، ولا يخطر على قلب مريد شيء من الطمع ويساكنه، إلا لأجل كمال البعد من الله عز وجل، حيث طمع في مخلوق مثله، وهو يرى أن مولاه مطلع عليه، ثم لم يحجزه الخوف من ذلك. * * * (فصل) وأما الصدق: فالأصل فيه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة: 119]. وما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يزال العبد يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، ولا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا". وقيل: إن الله أوحى إلى داود عليه السلام: يا داود من صدقني في سريرته صدقته عند المخلوقين في علانيته. واعلم أن الصدق عماد الأمر وبه تمامه وفيه نظامه، وهو ثاني درجة النبوة، وهو قوله عز وجل: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} [النساء: 69]. والصادق هو الاسم اللازم من الصدق، والصديق هو المبالغة منه، وهو من تكرر منه الصدق فصار دأبه وسجيته، وصار الصدق غالبه، فالصدق استواء السر والعلانية، فالصادق هو الذي صدق في أقواله، والصديق من صدق في أقواله وجميع أفعاله وأحواله.

وقيل: من أراد أن يكون الله معه فليلزم الصدق، فإن الله مع الصادقين. وقال الجنيد رحمه الله تعالى: الصادق ينقلب في اليوم أربعين مرة، والمرئي يثبت على حاله واحدة أربعين سنة. وقيل: الصدق هو القول بالحق في مواطن الهلكة. وقيل: الصدق موافقة السر بالنطق. وقيل: الصدق منع الحرام من الشدق. وقيل: الصدق الوفاء لله بالعمل. وقال سهل بن عبد الله: لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره. وقال أبو سعيد القرشي رحمه الله تعالى: الصادق الذي يتهيأ أن يموت ولا يستحي من سره ولو كشف، قال الله تعالى: {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} [البقرة: 94، والجمعة: 6]. وقيل: الصدق صحة التوحيد مع القصد. وقيل: حقيقة الصدق أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب. وقيل: ثلاثة لا تخطئ الصادق: الحلاوة، والهيبة، والملاحة. وقال ذو النون رحمه الله تعالى: الصدق سيف الله في أرضه ما وضع على شيء إلى قطعه. وقال سهر بن عبد الله رحمه الله تعالى: أول جناية الصديقين حديثهم مع أنفسهم. وسئل فتح الموصلي رحمه الله تعالى عن الصدق، فأدخل يده في كانون الحداد وأخرج الحديد وهي تشتعل نارًا ووضعها على كفه حتى بردت وقال: هذا هو الصدق. وسئل الحارث المحاسبي عن علامة الصدق، فقال: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه، ولا يحب اطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله، ولا يكره أن يطلع الناس على السيئ من عمله، فإن كراهته ذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم، وليس هذا من أخلاق الصديقين. وقال بعضهم: من لم يؤد الفرض الدائم لا يقبل منه الفرض المؤقت، قيل: ما الفرض الدائم؟ قال: الصدق.

وقيل: إذا طلبت الله بالصدق أعطاك مرآة تنظر فيها كل شيء من عجائب الدنيا والآخرة. * * * تم التحقيق والتعليق على يد الفقير إليه سبحانه وتعالى أبي عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عويضة غفر الله له ورحمه

§1/1