الغرامية في مصطلح الحديث

ابن فَرْح

الغرامية في مصطلح الحديث منظومة أبي العباس أحمد بن فرح الإشبيلي شرح وتوثيق مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني الطبعة الأولى 1422 هـ 2001 م

[المقدمة]

الخطة رأيت أن يكون البحث في قسمين الأول دراسة والثاني شرح وتوثيق. الدراسة فيها ثلاثة مباحث: الأول: المقدمة وفيها نبذة عن علم مصطلح الحديث. والثاني: ترجمة الناظم وفيها من الجزئيات: نسبه، مولده، نشأته، أول سماعه، رحلاته، أشهر شيوخه، أشهر تلاميذه، ما وقع له من البلاء، صفاته، عقيدته، ثقافته، مكانته الاجتماعية، مؤلفاته، وفاته. والثالث: إثبات نسبة النظم شرح ما ألمحت إليه المنظومة، وما ورد فيها من قواعد مصطلح الحديث.

المقدمة الحمد لله الكريم المنان، واسع الفضل والإحسان، والصلاة والسلام على كامل الخلق والخلق، سيد ولد عدنان، سيد الأولين والآخرين من بني الإنسان، وعلى آله وصحبه، والمتبعين له بإحسان وبعد: فإن أعظم ما بذل فيه الجهد، واستنفرت له الهمم، وقضيت فيه الأوقات، خدمة كتاب الله العزيز، وسنة رسول الله البشير النذير - صلى الله عليه وسلم -، أما الكتاب العزيز فجهود العلماء فيه ظاهرة معلومة، وهو محفوظ من الله - عز وجل - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1) فتحقق وعد الله - عز وجل -، إذ وعته العقول، واستوعبته الصدور، وفي وقت قريب من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون في مصحف واحد بعناية واهتمام، فتحقق له الحفظ والصون والأمان، فلا ينال منه شيطان من إنس ولا جان. أما سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبقيت معرضة للتزوير والتحوير، وهو أمر خطير وشر مستطير، حذر منه البشير النذير - صلى الله عليه وسلم - فقال: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) (¬2)، وهذه لفتة نبوية إلى أن الكذب عليه سيقع لا محالة، لذلك حذر منه أمته، فكان هذا الخبر منه - صلى الله عليه وسلم - دافعا قويا لأمته من بعده لأخذ الحيطة والحذر في النقل عنه - صلى الله عليه وسلم - فالحديث عنه شديد كما قال زيد بن أرقم - رضي الله عنه - (¬3)، وهكذا احتاط الأصحاب - رضي الله عنهم - لأنفسهم، يقول أنس ¬

(¬1) الآية (9) من سورة الحجر. (¬2) أخرجه البخاري في (ص 712) كتاب أحاديث الأنبياء، باب (50) حديث (3461). (¬3) أخرجه ابن ماجه في (1/ 11) المقدمة، باب (3) حديث (25).

بن مالك - رضي الله عنه -: "لولا أني أخشى أن أخطئ لحدثتكم بأشياء سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬1)، وشددوا في التثبت من النقلة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا أبو بكر - رضي الله عنه - في قصة ميراث الجدة لم يقبل خبر المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -، بل قال: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري - رضي الله عنه - فشهد له (¬2)، وهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يشدد على أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - في نقله حديث الاستئذان ويقول: " تأتيني على ذلك ببينة - وفي رواية - لتقيمن عليه بينة" (¬3)، ويقول في قصة طلاق فاطمة بنت قيس: لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، حفظت أم نسيت (¬4)، ويزداد الموقف شدة بانقضاء الصدر الأول من الصحابة، فهذا حبر الأمة عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - لم يأذن لحديث بشير بن كعب العدوي إذ يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلما رآه لا ينظر إليه ولا يستمع لحديثه قال: يا ابن عباس مالي أراك لا تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تسمع؟ . فقال ابن عباس - رضي الله عنه -: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرفه (¬5)، ¬

(¬1) سنن الدارمي (1/ 67 المقدمة، باب (25) حديث (241). (¬2) أخرجاه في الصحيحين: البخاري في (ص 1534) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (13) حديث (7318)، ومسلم في (3/ 1311) كتاب القسامة، باب (11) حديث (39 - 1689). (¬3) أخرجهما البخاري في (ص 407) كتاب البيوع، باب (9) حديث (2062) وفي (ص 1323) كتاب الاستئذان، باب (13) حديث (6245) .. (¬4) أخرجه مسلم في (2/ 1118 - 1119) كتاب الطلاق، باب (6) حديث (46 - 1480). (¬5) أخرجه الإمام مسلم في مقدمة الصحيح (1/ 12 - 13) باب (4) حديث (7 - 7).

هكذا مر عهد أصحاب رسول الله - رضي الله عنهم - بين حيطة وتوثق من صحة النقل، فلما ظهرت الفنتة برز التفتيش عن أحوال الرجال وما هم عليه من الصفات، يقول ابن سيرين رحمه الله: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ حديثهم (¬1)، وكذلك تكلم في هذا الباب جمع من التابعين منهم: الحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وعامر الشعبي، والإمام مالك وغيرهم، ومن هنا أصبح الإسناد أمرا لا مفر منه في الرواية، وما ليس له إسناد كمن لا نسب له، ومن أهمية الإسناد نشأت الرحلة إلى الأمصار، بحثا عن التوثق والعلو في الإسناد، واعتبر الأئمة ذلك من الدين، إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، يقول ابن سيرين رحمه الله: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم (¬2). ومن هنا نعلم أن الخطوط العريضة لنقد الأسانيد والمتون برزت الحاجة إليها مبكرة في عهد الأصحاب - رضي الله عنهم -، كما هو واضح مما تقدم ذكره، وهكذا نما الاعتناء بهذا الجانب العظيم، في مراحل تاريخية متفاوتة وهي أربع مراحل: 1 - عهد الأصحاب - رضي الله عنهم - وما أبدوا فيه من خطوط عريضة لقواعد الحيطة والتثبت في النقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتعتبر هذه المرحلة من بداية القرن الأول إلى نهايته، غير أنه لم يدون شيء كبير في هذا الصدد، سوى ما كان من كتابة عبد الله بن عمر وغيره، فهذا القرن خير القرون، كان فيه ¬

(¬1) ذكره الإمام مسلم في مقدمة الصحيح (1/ 15) باب (5) .. (¬2) أخرجه مسلم في مقدمة الصحيح (1/ 14) باب (5).

الحذر والتشدد في النقل عن رسول الله تدينا، فلا سبيل لتهمة الكذب، بل كان الخوف من الخطأ والنسيان، وجرى الحرص على صحة المنقول وثبوته. 2 - عهد كبار التابعين رحمهم الله: وهو فترة نشط فيها الاهتمام بالإسناد، والتعرف على أحوال الرجال، وقد تقدم قول ابن سيرين رحمه الله: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ حديثهم، وقد تبع هذا القول اتجاهان متضادان في شأن التدوين للسنة وما يتعلق بها من آراء شخصية: فالصدر الأول من التابعين تأثروا بمنهج الأصحاب في عدم الرضى عن كتابة ما سوى القرآن الكريم (¬1)، وآخرون من التابعين منهم: سعيد بن جبير، وكان يقول: كنت أسير بين ابن عمر وابن عباس، فكنت أسمع الحديث منهما، فأكتبه على واسطة الرحل حتى أنزل فأكتبه (¬2)، وسعيد بن المسيب رخص لعبد الرحمن بن حرملة في الكتابة حين شكا إليه سوء الحفظ (¬3)، والشعبي كان يقول: الكتابة قيد العلم، إذا سمعتم مني شيئا فاكتبوه ولو في حائط، ووجد له بعد موته كتاب في الفرائض والجراحات (¬4)، فهؤلاء وغيرهم من التابعين رأوا ضرورة تقييد العلم ¬

(¬1) انظر (تذكرة الحفاظ 1/ 5، تقييد العلم 50، وجامع بيان العلم 1/ 64). (¬2) تقييد العلم 103، وجامع بيان العلم وفضله 1/ 72. (¬3) تقييد العلم 99، وجامع بيان العلم وفضله 1/ 73. (¬4) المحدث الفاصل ص 375 رقم 350، وتقييد ص 99.

واعتمدوا قول من سمح به من الأصحاب آخرا، منهم أبو بكر وعمر وعلي - رضي الله عنهم - (¬1)، وعللوا الكراهة بأن لا يضاهى بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عنه بسواه (¬2)، وقصة الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله في الأمر بتدوين العلم مشهورة معلومة، ولا شك أنه استأنس برأي العلماء، وكان أول من حقق له هذه الغاية الإمام الزهري رحمه الله، وكان يفخر بذلك ويقول: لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني (¬3)، وإن وجد للزهري من القول ما يضاد هذا مثل قوله: لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق، ننكرها لا نعرفها، ما كتبت حديثا ولا أذنت في كتابته (¬4)، فهذا يؤكد أن مبادرة الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى الأمر بكتابة السنة وتدوين ما تفرق بصورة أوسع مما كان في بعض الصحف (¬5)، وموافقة العلماء من أمثال الإمام الزهري ¬

(¬1) انظر (المحدث الفصل ص 363 - 400، والمستدرك 1/ 106، وجامع بيان العلم وفضله 1/ 72، وتقييد العلم 90). (¬2) تقييد العلم 57 .. (¬3) الرسالة المستطرفة 4. (¬4) المحدث الفصل ص 373 رقم 346، وتقييد العلم 108. (¬5) بدأت كتابة الحديث في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - درن شك، فهذا أبو هريرة - رضي الله عنه - يقول: (ما من أصحاب النبي أحد أكثر حديثا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمر، فإنه كان يكتب ولا أكتب) أخرجه البخاري في (ص 30) كتاب العلم، باب (39) حديث (113) وليس بخاف على أهل العلم أمر الصحف المكتوبة في عهده - صلى الله عليه وسلم -، كصحيفة أبي بكر، وعلي له صحيفة، وصحيفة عمرو بن العاص وغيرهم - رضي الله عنهم -، وقد صنف الحافظ الخطيب البغدادي كتابه (تقييد العلم) استوعب فيه كافة الروايات المانعة والمجيزة، وذكر الجمع بينها بعدة أوجه، ويترحج الجواز على المنع لقوة أدلته، (بين هذا الأخ الزميل أ. د محمد بن مطر الزهراني في كتابه (تدوين السنة 65 - 86).

على رأيه كان خوفا من دروس (¬1) العلم وذهاب أهله، وأن يدخل في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ليس منها، وهو ما تنبه له الزهري من تلك الأحاديث الآتية من قبل المشرق، ونجزم أن بداية جدية التفكير في تدوين السنة وتصنيف علومها كانت في عهد التابعين من أيام الزهري وأقرانه، لكنها بالنسبة لقواعد علوم الحديث لم تتجاوز نقل أقوال مبثوثة (¬2)، أثرت عن الأصحاب والأئمة من التابعين، وهي لا تمثل مادة علمية كاملة لقواعد مصطلح الحديث، سوى أنها فتحت الباب على مصراعيه للبحث والنظر في هذا الموضوع الخطير. 3 - مرحلة التصنيف في بعض فوائد علوم الحديث: هذه المرحلة تقدر بما يقارب (150) سنة من بداية القرن الثالث إلى منتصف الرابع تميزت هذه الفترة عن سابقتها بإبراز بعض قواعد علوم الحديث في مصنفات مستقلة، مثل كتاب العلل لابن المديني، ومعظم المادة العلمية في هذه المرحلة إما قواعد مستقلة في كتب متفرقة، كما في الرسالة والأم للإمام الشافعي، أو مبثوثة في مصنفات الحديث على اختلاف طرائقها في التصنيف، كما في مصنفات الإمام البخاري، ومقدمة صحيح مسلم، وما كتبه الترمذي من العلل، وما نقل عن الإمام أحمد، وعن أبي داود وغيرهم، يقول الإمام مسلم رحمة الله علينا وعليه: وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار، وأفتوا بذلك حين سئلوا، ¬

(¬1) أي يضيع ويمحى. انظر (لسان العرب 6/ 79) .. (¬2) انظر (صحيح البخاري ص 27) كتاب العلم، باب (34).

لما فيه من عظيم الخطر، إذ الأخبار بأمر الدين إنما تأتي بالتحليل أو التحريم، أو أمر أو نهي، أو ترغيب أو ترهيب، فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه، ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته، كان آثما بفعله ذلك، غاشا لعوام المسلمين، إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها، أو يستعمل بعضها. . . (¬1). 4 - مرحلة النضج: هذه المرحلة هي مرحلة النضج والاستواء، مرحلة كد العلماء فيها أذهانهم، فأنتجوا علم مصطلح الحديث، وجعلوه علما قائما بذاته، يرتكز على منهج دقيق منضبط، دونت فيه قواعد مصطلح الحديث في مصنفات مستقلة، بعضها لم يستوعب، لكنه حصل بالتكامل بينها، فأصبح الباحث يجد مطلبه في أي باب من أبواب هذا العلم الجليل، وكان أول من دون قواعد هذا العلم القاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي رحمه الله (¬2)، في كتابه "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي" أجاد ولم يستوعب، وتلاه أبو عبد الله الحاكم بكتابه "معرفة علوم الحديث" تعقبه أبو نعيم في كتابه "المستخرج على كتاب الحاكم" ثم الخطيب ¬

(¬1) بعض قوله رحمة الله علينا وعليه في (مقدمة الصحيح 1/ 28). (¬2) طلب العلم وهو حدث، وساد أصحاب الحديث، وكتابه المذكور ينبئ بإمامته، وكان أحد الأثبات، عاش إلى قريب الستين وثلاثمائة من الهجرة (السير 16/ 73)

البغدادي في كتبه الكثيرة (¬1)، وقد أفرد كل فن من فنون الحديث بمؤلف في الغالب، ومن هنا كان كل من جاء بعده من العلماء في هذا العلم عالة على مصنفات الخطيب، ولم ينشط البحث عن الفوائد والنكت في هذا العلم إلا بعد أن أخرج أبو عمرو بن الصلاح كتابه المشهور بمقدمة ابن الصلاح، فإنه اعتنى بمؤلفات من سبقه فجمع شتات مقاصدها، وأضاف إليها من الفوائد الكثيرة ما جعل كتابه بحق أحسن ما كتب في هذا العلم، فاق من سبقه وبقي من بعده مشتغلا بكتابه هذا، ما بين دارس ومدرس وشارح (¬2) وناظم ومنكت (¬3) ومختصر قال الحافظ ابن حجر: "فلا يحصى كم ناظم له (¬4) ¬

(¬1) منها الكفاية في معرفة الرواية، والسابق واللاحق، المكمل في بيان المهمل، غنية المقتبس في تمييز الملتبس، قال الذهبي: للخطيب سنة وخمسون مؤلفا، زاد عليها في التذكرة (3/ 1139) وذكر أن ابن النجار زاد على ذلك في معجمه (السير 18/ 289) وذكر ابن خلكان أنه صنف قريبا من مائة مصنف، أحصاها يوسف العش فبلغت واحدا وسبعين (الخطيب البغدادي ص 120) وشيخنا أكرم العمري بلغت في حصره ستة وثمانين مصنفا (موارد الخطيبص 55) .. (¬2) مثل عمل زين الدين العراقي في كتابه التقييد والإيضاح، وبعده السيوطي في كتابه تدريب الراوي، فإنه كثيرا ما يكمل عبارة ابن الصلاح وهو الكتاب الذي وضعه على تقريب النووي. (¬3) منهم بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، وابن حجر. (¬4) منهم زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي، نظم فيه ألفيته المشهورة، وزاد عليه فوائد لا يستغني عنها طالب العلم، أشار إلى هذا فقال: لخصت فيها ابن الصلاح أجمعه *** وزدتها علما تراه موضعه

ومختصر (¬1)، ومستدرك عليه ومعارض له (¬2) ومنتصر" (¬3) ونرى أن مراحل التدوين والتدقيق والتحقيق أربع أيضا: الأولى: بدأت بكتاب الرامهرمزي، فقد حاز السبق في تدوين أبواب من هذا العلم. والثانية: بدأت بمؤلفات الخطيب البغدادي، فكل من جاء بعده صار عالة على مصنفاته في هذا العلم. والثالثة: بدأت بكتابة أبي عمرو بن الصلاح، فقد لاقى قبولا كبيرا عند العلماء، فتنافسوا في الاشتغال به على ما تقدم بيانه. والرابعة: بدأت بكتابة ابن حجر، فقد استفاد منها من أتى بعده من العلماء، فإنه دقيق الملاحظة واسع العلم حسن التنظيم، اشتغل العلماء بمؤلفه النفيس "نخبة الفكر" فمنهم الشارح له والناظم، ولا أنفس من شرحه هو لها المسمى "نزهة النظر" وصدق الحافظ العراقي رحمة الله علينا وعليه إذ قال: وبعد فعلم الحديث خطير وضعه، كثير نفعه، وبه يعرف الحلال والحرام، ولأهله اصطلاح لا بد للطالب من فهمه (¬4). ¬

(¬1) منهم ابن دقيق العيد، ومن بعده الذهبي، وفاقهما الحافظ ابن حجر فقد أخرج مختصرا هو الأجود تدقيقا وتحقيقا، سماه (نخبة الفكر). (¬2) منهم ابن حجر نفسه لم يناسبه ترتيب ابن الصلاح فقال: لم يحصل ترتيبه على الوضع المناسب (نزهة النظر ص 17) وانظر (توجيه النظر 1/ 364). (¬3) نزهة النظرص 17. (¬4) التبصرة والتذكرة 2 - 3.

وقد وقفت على أبيات معدودة بعشرين بيتا، نظمت من قبل أحمد بن فرح الإشبيلي، نظمها بأسلوب مشوق لحفظها، ميسر بعد توفيق الله أمرها، ضمنها (28) ثمانية وعشرين نوعا من أنواع مصطلح الحديث، عني بها بعده جمع من العلماء، من حيث الحفظ والفهم والشرح، وقد شرحت من قبل بعض العلماء باختصار فيما يخص مصطلح الحديث، وتضمن الشرح الجانب الأدبي والبلاغي، وبيان ما فيها من المحسنات اللفظية، فشدتني الرغبة في شرح ما ضمت من أنواع مصطلح الحديث، شرحا فيه إضافة مفيدة، معرضا عما اعتنى به الشراح مما يتعلق بالحب والغرام، وما يتعلق بجانب المحسنات اللفظية، والعبارات الأدبية، وقد بدأته بهذه المقدمة، مضفيا زيادة بيان لم تكن فيما أذكر من الشروح التي وقفت عليها، ومضيفا ترجمة وافية للناظم في (14) أربعة عشرمبحثا، تلا ذلك إثبات نسبة المنظومة، كل ذلك وفق منهج علمي حديث، رجاء أن يكون هذا الجهد تبصرة للمبتدي وتذكرة للمنتهي، سائلا الله - عز وجل - أن يجعله عملا متقبلا، ولا يحرمنا أجره إلى يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم الأنبياء والمرسلين. الشارح

ترجمة الناظم

ترجمة الناظم نسبه: شهاب الدين أبو العباس، أحمد بن فرح (¬1) بن أحمد، اللخمي الإشبيلي الشافعي، نزيل دمشق (¬2). نسبته: اللخمي: نسبة إلى لخم قبيلة من اليمن نزلت الشام (¬3)، الإشبيلي: نسبة إلى إلى اشبيلية، بلدة من بلاد الأندلس، تقع على نهر وادي الكبير، قريبة من البحر يطل عليها جبل الشرف، وقد كانت قاعدة ملك الأندلس، وبها كان بنوا عباد (¬4)، الشافعي: نسبة إلى الإمام محمد بن إدريس الشافعي، نسبة إلى المذهب الفقهي. مولده: ولد بإشبيلية إحدى مدن الأندلس الإسلامية، سنة (624) أربع وعشرين وستمائة من الهجرة، وقال ابن كثير سنة (625) (¬5). ¬

(¬1) بفاء وراء ساكنة ثم حاء مهملة، انظر (طبقات الشافعية 8/ 26، ونفح الطيب 2/ 531). (¬2) انظر (تذكرة الحفاظ 1486، ومعجم الشيوخ 1/ 86، وطبقات السبكي 8/ 26) وانظر [أعيان العصر للصفدي، خ ورقة 150 / أ، والوافي بالوفيات 7/ 138، والشذرات 5/ 443]. (¬3) الأنساب 11/ 18. (¬4) الأنساب 1/ 264، ومعجم البلدان 1/ 195. (¬5) انظر المصادر السابقة، وطبقات الفقهاء الشا فعية 2/ 940.

نشأته

نشأته: نشأ بمسقط رأسه إلى أن أسره الفرنج (الإسبان) سنة (646) ست وأربعين وستمائة من الهجرة (¬1)، ولم نقف على مزيد من المعلومات في هذا الجانب. أول سماعه: الذي يظهر والله أعلم أن أول سماع ابن فرح العلم كان سنة بضع وخمسين وستمائة من الهجرة، بعد نجاته من الأسر، في أول رحلة له إلى مصر، حيث تفقه على العز بن عبد السلام وغيره (¬2). رحلاته: بعد أن تخلص من الأسر، ورد الديار المصرية، سنة بضع وخمسين وستمائة من الهجرة، وهي أول رحلة له، فسمع من شيخ الشيوخ في مصر شرف الدين عبد العزيز الأنصاري الحموي، ومن الإمام عز الدين بن عبد السلام وطبقتهما، ورحل إلى دمشق، ونزل بالشامية البرانية، أكبر المدارس وأعظمها، وأكثرها فقهاء وأكثرها أوقافا (¬3)، وسمع من أحمد بن عبد الدائم، وعمر الكرماني، وفراس العسقلاني، ووإبراهيم بن إسماعيل بن أبي اليسر، وخلق سواهم، واعتنى بالحديث، وأتقن ألفاظه ومعانيه حتى صار من الأئمة فيه، ورحل إلى مكة لأداء فريضة الحج (¬4). ¬

(¬1) طبقات الفقهاء الشافعية 2/ 941. (¬2) انظر (طبقات الفقهاء الشافية 2/ 940). (¬3) طبقات الفقهاء الشافعية 2940، والدارس في تاريخ المدارس 1/ 277. (¬4) انظر (التذكرة 1486، وطبقات الفقهاء الشافعية 2/ 940).

أشهر شيوخه

أشهر شيوخه: شرف الدين عبد العزيز الأنصاري الحموي، والإمام عز الدين بن عبد السلام، سمع منهما بمصر، وسمع من معين الدين أجمد بن زين الدين، وإسماعيل بن عزوز، والنجيب بن الصيقل، ومكي بن المسلم بن علان، وأحمد بن عبد الدائم وخلق (¬1). أشهر تلاميذه: الحافظ الذهبي فقد صرح في التذكرة أنه من شيوخه فقال: شيخنا الإمام العالم الحافظ شيخ المحدثين، وروى عنه قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذا حدثتكم فيما بيننا فإن الحرب خدعة" (¬2) ونقل السبكي عن شيخه الذهبي قوله: أخذت عنه ونعم الشيخ (¬3)، والحافظان: شرف الدين أحمد بن محمد الدمياطي، وعيسى بن أحمد اليونيني، وقد سمعا عليه منظومته هذه، وسمع منه البرزالي، وعثمان بن بلبان المقاتلي، وأبو محمد بن أبي الوليد (¬4). ما وقع له من البلاء: لقد كانت حروب التتار في المشرق، والفرنج في المغرب بلاء عظيما على المسلمين، نالهم فيها من الذل والهوان، ما الله به عليم، ويشبهه ما يقع للمسلمين اليوم في كثير من البلدان، قال الذهبي تلميذ الناظم: بقي في أسر ¬

(¬1) المصادر السابقة، ونفح الطيب (2/ 529). (¬2) انظر (تذكرة الحفاظ 1486، ومعجم الشوخ 1/ 87). (¬3) انظر (التذكرة 1486، والطبقات 8/ 26 - 27). (¬4) طبقات الفقهاء الشافعية 2/ 940، ونفح الطيب 2/ 529.

ثناء العلماء عليه

الفرنج مدة ثم خلصه الله (¬1)، وقد جاء ما يفيد بأن مقدار هذه المدة بضع عشرة سنة، إذ وقع في الأسر سنة (646) ست وأربعين وستمائة من الهجرة، إلى بضع وخمسين وستمائة، فيكون مكثه في الأسر على أقل تقدير (8) ثمان سنوات، وقد أسر في بلده وعمره (17) سبع عشرة سنه (¬2). ثناء العلماء عليه: يقول تلميذه الحافظ الذهبي: شيخنا الإمام العالم، الحافظ الزاهد، شيخ المحدثين، كان إماما متقنا، عارفا الفقه كثير الإفادة، عني بهذا، على هذا الشأن، ثم أقبل على تقييد الألفاظ، وفهم المتون ومذاهب العلماء، وكانت له حلقة إقراء للحديث وفنونه، حضرت مجالسه، نعم الشيخ كان، علما وفضلا ووقارا، واستحضارا وثقة وصدقا وتعففا وقصدا، له أشغال بجامع دمشق يقرئ الفقه والحديث (¬3)، ووصفه تلميذ تلميذه أبو نصر عبد الوهاب السبكي بالإمامة والحفظ والزهد، وكان من كبار أئمة هذا الشأن، وممن يجري فيه وهو طلق اللسان (¬4). صفاته: يقول الذهبي: كان مهيبا مديد القامة، متزهدا عابدا صالحا، حسن ¬

(¬1) معجم الشيوخ 1/ 87، وانظر (طبقات السبكي 8/ 26) (¬2) انظر (طبقات الفقهاء الشافعية 2/ 940). (¬3) انظر (التذكرة 1486، ومعجم الشيوخ 1/ 87، والعبر 3/ 396، وطبقات الفقهاء الشافعية 2/ 940). (¬4) الطبقات 8/ 27، ونفح الطيب 2/ 529.

عقيدته

السمت يلبس زي الصوفية، وكان فيه ديانة وورع وصيانة (¬1). عقيدته: لم نقف على ما يثلب عقيدته رحمه الله وقد أثنى عليه الحافظ الذهبي وهو تلميذه ومن أعرف الناس به، ولو ظهر له ما يقدح في عقيدته لذكره وما سكت عنه، بل ولا أخذ عنه، وأثنى عليه الحافظ ابن كثير رحمة الله علينا وعليه، فهو محمول على السلامة في ذلك، وما ذكر عنه من التزي بزي الصوفية يحمل على السلامة من الغلو ما لم يثبت خلاف ذلك. ثقافته: نال الإمامة في الحديث، إذ شهد له بهذا أئمة معتبرون، وقد عرضت عليه مشيخة دار النورية، وعده الحافظ ابن كثير في طبقات الفقهاء من الشافعية كل هذا، مع ما ذكر العلماء من أوصافه والثناء عليه، ينبئ عن ثقافة له واسعة في علوم شتى منها - على وجه الوثوق ـ: السنة وعلومها، والفقه وأصوله، واللغة وعلومها، وقد بان ذلك بجلاء في منظومته البديعة السبك في اللفظ والمعنى (¬2). مكانته الاجتماعية: إن من تعرض عليه رئاسة دور العلم، ويوصف بالإمامة والحفظ والعبادة والزهد والورع، ويكون الواصفون له أئمة عاصروه وعرفوا أمره لحري أن ¬

(¬1) معجم الشيوخ 1/ 87، وقارن بما في التذكرة 1486، والعبر 3/ 396، وطبقات الفقهاء الشافعية 2/ 940، ونح الطيب 2/ 529. (¬2) المصادر السابقة.

مؤلفاته

يشار إليه بالبنان، وأن يسير بعلمه الركبان، فضلا عن إحاطة مجتمعه بمكانته بينهم، فلم يكن شخصا عاديا بينهم، بل كان مشهورا بالعلم والدين والعبادة والورع، ومعلوم أن العلماء رؤوس الناس ومحط أنظارهم، فكيف بمن جلس لإقراء الحديث والفقه في جامع دمشق في أول النهار من كل يوم، وعرض عليه جهات (¬1) كثيرة فيعرض عنها، كما ذكر ابن كثير، وابن تغري بردي (¬2). مؤلفاته: لم نقف على كم من مؤلفات هذا الإمام سوى هذا النظم (قصيدة في أصول الحديث)، وشرح الأربعين النووية، ومختصر خلافيات البيهقي (¬3)، ويقول ابن كثير: له كتابة لكتب كبيرة وصغار، وله شعر جيد من ذلك: قصيدة نحو عشرين بيتا في أنواع الحديث (¬4). وفاته: قال الحافظ الذهبي: انتقل إلى رحمة الله تعالى، حميدا مفيدا بمنزله في تربة أم الصالح مبطونا، في (9/ 6/699) ليلة الأربعاء التاسع من جمادى الآخرة، سنة تسع وتسعين وستمائة من الهجرة (¬5). ¬

(¬1) (أي مناصب في جهات مرموقة كالقضاء، واليوان ونحو ذلك. (¬2) طبقات الفقهاء الشافعية 2/ 940 والنجوم الزاهرة 8/ 191. (¬3) انظر (كشف الظنون 59، 1329، والرسالة المستطرفة 162). (¬4) طبقات الفقهاء الشافعية 2/ 940 (¬5) التذكرة 1486، وطبقات الفقهاء الشافعية 2/ 941.

إثبات نسبة المنظومة

إثبات نسبة المنظومة ما من شك في نسبة هذه المنظومة اللطيفة، المؤثرة البليغة إلى قائلها الإمام ابن فرح الإشبيلي رحمه الله، وذلك للنقول التالية: قال السبكي (ت 727 هـ) وهو تلميذ تلميذ الناظم بعد أن ترجم له وأورد القصيدة: وهذه القصيدة بليغة، جامعة لغالب أنواع الحديث (¬1) قال الحافظ ابن كثير: (ت 774 هـ): له شعر جيد من ذلك: قصيدة نحو عشرين بيتا في أنواع الحديث، ونقل ابن العماد قول ابن ناصر الدين محمد بن أبي بكر (ت 842 هـ) في التبيان (¬2): ومن نظمه الرائق قصيدته التي أولها: غرامي صحيح والرجا فيك معضل، وقد حفظها جماعة، وعلى فهمها عولوا، وذكر منها أبياتا (¬3) قال: وقد أنشدني القصيدة أحد الوعاظ، وأعجبت بما فيها من تورية الألفاظ، فرأيتها حينئذ قاصرة، ونظم على غرارها قصيدة استدرك فيها أنواعا لم تذكر فيها، وسماها "عقود الدرر في علوم الأثر" (¬4) وذكر أن ابن جماعة نظم على غرارها أيضا، قال الحافظ ابن حجر: (ت 852 هـ) في معرض كلامه عن محمد بن أبي بكر بن عبد العزيز ابن جماعة الحموي: ونظم قصيدة على طريقة ابن فرح أودعها ¬

(¬1) الطبقات 8/ 27 - 29. (¬2) مخطوط. (¬3) الشذرات 5/ 443. (¬4) طبعت بشرح مختصر سنة 1415 هـ.

علوم الحديث (¬1) وفي هذا نظر، لأنه شرح قصيدة ابن فرح، وليست له قدرة على محاكاة قصيدة ابن فرح لقول السخاوي (ت 902 هـ): لم يرزق ملكة في الاختصار، ولا سعادة في حسن التصنيف، وكذا كان ينظم شعرا عجيبا، غالبه غير موزون، ولذا كان يخفيه كثيرا إلا عمن يختص به ممن لا يدري الوزن (¬2)، وعن ابن فرح يقول يوسف بن تغري بردي: هو صاحب القصيدة المشتملة على صفات الحديث، ثم أورد منها ثمانية أبيات وقال: وهي أطول من ذلك (¬3) وهذه المنظومة لاقت استحسان العلماء وعنايتهم، فتناول شرحها عدد كبير من العلماء من أقدمهم: محمد بن أبي بكر بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة (¬4)، نص عليه السخاوي في ترجمته، وعنوانه "زوال القرح بشرح منظومة ابن فرح" (¬5)، وقاسم بن قطلو بغا ¬

(¬1) المجمع المؤسس 3/ 294. (¬2) الضوء اللامع 7/ 172 - 173. (¬3) النجوم الزاهرة 8/ 191. (¬4) ولد في ينبع المدينة المعروفة اليوم سنة (749) تسع وأربعين وسبعمائة من الهجرة، وصف بالإمام العلامة الفهامة الفريد الأصيل، مات بالطاعون سنة (819) تسع عشرة وثمانمائة من الهجرة، واشتد أسف الناس عليه، ترجمته في (إناء الغمر 7/ 240، والضوء اللامع 7/ 171 - 174، والنجوم الزاهرة 14/ 143 - 144). (¬5) صور مخطوطة شرحه في مركز خدمة السنة والسيرة النبوية عن نسخة مكتبة ابن أبي العباس المرسي بالإسكندرية، وعد في (الفهرس الشامل 2/ 878 - 880) من نسخه الخطية (73) ثلاثا وسبعين نسخة، مبينا أماكن وجودها.

الحنفي (¬1)، ذكر شرحه حاجي خليفة (¬2)، ولم يذكره السخاوي المعاصر له، وشرحه من المتأخرين: يحي بن عبد الرحمن القرافي الأصفهاني (¬3)، وعلى شرحه وضع إبراهيم بن محمد بن أحمد بن خالد البرماوي (¬4) حاشيته، ومحمد الأمير الكبير (¬5)، وشروحهم من مصورات مركز خدمة السنة والسيرة النبوية عن مكتبة شيخنا حماد الأنصاري رحمة الله علينا وعليه، ومكتبة ابن أبي العباس المرسي الإسكندرية، والمحمودية بالمدينة، وشرحها أيضا السفاريني شمس الدين محمد بن أحمد بن سالم (ت 1188 هـ) (¬6). ¬

(¬1) ولد بالقاهرة في المحرم، سنة (802) اثنتين وثمانمائة من الهجرة، مات في (4/ 4/879) رابع ربيع الأول سنة تسع وسبعين وثمانمائة من الهجرة، ترجم له معاصره السخاوي ترجمة متوسطة فيها مدح وقدح، (الضوء اللامع 6/ 184 - 190). (¬2) كشف الظنون 1329، والفهرس الشامل 2/ 1022 رقم 596. (¬3) في الفهرس الشامل (3/ 1850) كان حيا سنة (962) اثتين وستين وتسعمائة من الهجرة، وذكر في (2/ 1020) أماكن وجود مخطوطات الشرح. (¬4) شيخ الجامع الأزهر، مات سنة (1160) ستين ومائة وألف من الهجرة، انظر (معجم المؤلفين 1/ 85) وفي (الفهرس الشامل للتراث 3/ 1775) مات 1106، ولعله خطأ، وفيه (2/ 686) ذكر الحاشية فقال: حاشية على شرح منظومة غرامي صحيح للقرافي، وذكر أماكن وجود مخطوطاتها، وانظر (2/ 1020) .. (¬5) ذكره الكتاني في (فهرس الفهارس 3/ 53) ولم يرد في الأعلام المترجم لهم، وهو المذكور في الفهرس الشامل 3/ 1769: شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد السنباوي المالكي، توفي سنة (1232 هـ) وانظر 2/ 897 رقم 96، وذكر شرحه وأماكن وجود مخطوطاته في (2/ 1018، رقم 587) وطبع بالمطبعة الخيرية بمصر سنة (1331 هـ) وبدار الجنان، بتقديم وضبط الشيخ سمير القاضي، وقيل إن محمد الأمير الصغير (ت 1286 هـ) له شرح أيضا على الغرامية كوالده. (¬6) طبع في دار ابن جزم 1416 هـ باعتناء أبو المنذر سامي أنور جاهين.

نقل ابن العماد قول ابن ناصر الدين في ذكره (¬1) وشرحها آخرون، منهم: الأمير الصغير له الشرح المليح على منظومة غرامي صحيح (¬2) وأعرابي محمد (¬3)، وبدر الدين محمد بن يوسف بن بدر الدين الحسني المغربي (ت 1354 هـ) (¬4)، والديمي محمد بن عثمان، والسفاريني، والعثماني ولي الدين، والعدوي محمد بن عبادة، وابن قدامة المقدسي (¬5)، وتوجد جملة من الشروح المجهولة (¬6) تصب في ميدان الاعتناء بمنظومة ابن فرح رحمة الله علينا وعليه. ¬

(¬1) مخطوط. (¬2) الفهرس الشاامل 2/ 1017 رقم 578. (¬3) المصدر السابق 2/ 1018 رقم 586. (¬4) طبع في بولاق سنة 1286 هـ، وطبع في دار البصائر بدمشق، بتقديم بسام عبد الوهاب الجابي. (¬5) المصدر السابق 2/ 1018 - 1019، والأرقام 586، 588، 589، 590، 591 - 593. (¬6) المصدر السابق 2/ 1022 - 1023.

تمهيد

القسم الثاني شرح المنظومة تمهيد: هذا أوان الشروع في شرح هذه المنظومة اللطيفة البديعة، وهي تقع في عشرين بيتا (¬1)، أخذ النصف الأول من شطر البيت الأول عنوانا لها وهو قوله: غرامي صحيح. ولعل ذلك من شراحها وليس من ناظمها، فمنهم من سماها بذلك، ومنهم من سماها القصيدة الغرامية، ومنهم من سماها منظومة ابن فرح الإشبيلي، واستحسنت تسميتها بالغرامية في مصطلح الحديث مبررا هذه التسمية بأن الناظم شغف بقواعد مصلح الحديث لكونها سلاح المحدث للذود عن سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وصيانة كلامه من التزوير والتحوير، ويظهر من محتوى القصيدة أن الناظم لم يقصد الاستيعاب لجميع ما قرر النقاد في علم مصطلح الحديث، وكأنه أرادها لطيفة بديعة في لفظها ومعناها، إذ أوجد فيها من الجمع بين معنيين غير متناسبين بلفظين لهما معنيان متناسبان، أحدهما قريب وهو غير مراد والثاني بعيد وهو المقصود في النظم، فجاءت سهلة سلسة رائقة، ولم يبدأها بمقدمة، وكأنه والله أعلم أراد الإيحاء بأن حاله من الولع والوله، يغني عن مقاله وتقدمته فقال رحمة الله علينا وعليه: ¬

(¬1) ذكر المرعشلي أنها في ثلاثين بيتا، ونسب إلى مجموع مهمات المتون (المجمع المؤسس 3/ 294 ت 3) وهو سبق قلم أما هي فعشرون بيتا (مجموع مهمات المتون ص 118 - 120) ط 4 مكتبة الحلبي 1369 هـ.

[المنظومة]

1 - غرامي صحيح والرجا فيك معضل ... وحزني ودمعي مرسل ومسلسل 2 - وصبري عنكم يشهد العقل أنه ... ضعيف ومتروك وذلي أجمل 3 - ولا حسنٌ إلا استماع حديثكم ... مشافهة يملى علي فأنقل 4 - وأمري موقوف عليك وليس لي ... على أحد إلا عليك المعوّل 5 - ولو كان مرفوعا إليك لكنت لي ... على رغم عذالي ترق وتعذل 6 - وعذل عذولي منكر لا أسيغه ... وزور وتدليس يرد ويهمل 7 - أقضي زماني فيك متصل الأسى ... ومنقطعا عما به أتوصل 8 - وها أنا في أكفان هجرك مدرج ... تكلفني ما لا أطيق فأحمل 9 - فأجريت دمعي فوق خدي مدبجا ... وما هي إلا مهجتي تتحلل 10 - فمتفق جفني وسهدي وعبرتي ... ومفترق صبري وقلبي المبلبل 11 - ومؤتلف وجدي وشجوي ولوعتي ... ومختلف حظي وما منك آمل 12 - خذ الوجد عني مسندا ومعنعنا ... فغيري بموضوع الهوى يتحلل 13 - وذا نبذة من مبهم الحب فاعتبر ... وغامضة إن رمت شرحا أطول 14 - عزيز بكم صب ذليل لعزكم ... ومشهور أوصاف المحب التذلل 15 - غريب يقاسي البعد عنك وماله ... وحقك عن دار البلى متحول 16 - فرفقا بمقطوع الرسائل ماله ... إليك سبيل لا ولا عنك معدل 17 - ولا زلت في عز منيع ورفعة ... ولا زلت تعلو بالتجني فأنزل 18 - أوري بسعدى والرباب وزينب ... وأنت الذي تعنى وأنت المؤمل 19 - فخذ أولا من آخر ثم أولا ... من النصف منها فهو فيه مكمل 20 - أبر إذا أقسمت أني بحبه ... أهيم وقلبي بالصبابة مشعل

البيت الأول

البيت الأول: 1 - غرامي صحيح والرجا فيك معضل ... وحزني ودمعي مرسل ومسلسل ذكر ابن فرح رحمة الله علينا وعليه في هذا البيت أربعة من أنواع الحديث: النوع الأول الصحيح: وهو: ما اتصل إسناده بنقل العدل الضابط، عن مثله إلى منتهاه، من عير شذوذ ولا علة. وهذا تعريف جامع مانع، خرجت به أضداده (¬1). العدل: المراد به الراوي المتصف بالعدالة. والعدالة: ملكة تمنع الراوي من اقتراف الكبائر، وتكسبه الاحتراز من الصغائر. والكبيرة: هي المعصية التي توجب الحد. والصغيرة: هي المعصية التي لا توجب الحد. وعلى هذا التعريف قال العلماء (¬2): أصح الأسانيد مالك، عن نافع، عن ابن عمر، وقالوا: أصحها الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر (¬3)، وبنى الإمام صلاح الدين العلائي وغيره على ذلك، أن أجلها ما رواه أحمد، عن الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، لاتفاق أهل الحديث على جلالة هؤلاء، وهذه تسمى سلسلة الذهب (¬4). ¬

(¬1) لمعرفة تلك الأضداد انظر (توجيه النظر 1/ 180). (¬2) هذا قول البخاري رحمة الله علينا وعليه، وعليه بنى يحي بن بكير. (انظر الكفاية 563، البحر الذي زخر 1/ 386، 388) (¬3) قاله الإمام أبو منصور عبد القادر بن طاهر التميمي. (البحر الذي زخر 1/ 389). (¬4) بتصرف من (البحر الذي زخر 1/ 390).

أقسام الصحيح

أقسام الصحيح: قال الحاكم رحمة الله علينا وعليه: الصحيح من الحديث عشرة أقسام: خمسة متفق عليها، وخمسة مختلف فيها. المتفق عليها: اختيار البخاري ومسلم، وهو الدرجة الأولى من الصحيح، وهو أن لا يذكر إلا ما رواه صحابي مشهور، عن رسول لله - صلى الله عليه وسلم -، له راويان ثقتان فأكثر، ثم يرويه عنه من أتباع الأتباع، الحافظ المتقن المشهور على ذلك الشرط، والأحاديث المروية بهذه الشريطة لا يبلغ عددها عشرة آلاف حديث. مثل الأول إلا أن راويه من الصحابة ليس له إلا راو واحد. مثل الأول إلا أن راويه من التابعين ليس له إلا راو واحد. الأحاديث الأفراد الغرائب التي رواها الثقات العدول. أحاديث جماعة من الأئمة، عن آبائهم، عن أجدادهم، ولم تتواتر الرواية عن آبائهم عن أجدادهم بها إلا عنهم، كصحيفة عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده. وبهز بن حكيم، وإياس بن معاوية، عن أبيه، عن جده. وأجدادهم صحابة وأحفادهم ثقات، فهذه الأقسام الخمسة مخرجة في كتب الأئمة، الشيخين وغيرهما فيحتج بها (¬1)، والذي أراه أن هذا التقسيم يرجع إلى قسم واحد وهو الحديث المقبول. ¬

(¬1) انظر (توجيه النظر 1/ 182 - 183، 186 - 187).

أما الخمسة المختلف فيها فهي

أما الخمسة المختلف فيها فهي: المرسل، وأحاديث المدلسين إذا لم يذكروا سماعهم، وما أسنده ثقة وأرسله جماعة من الثقات، وروايات الثقات غير الحفاظ العارفين، وروايات المبتدعة إذا كانوا صادقين (¬1)، فالقسمان الأول والثاني ليس منهما شيء. والقسم الثالث: ما أسنده ثقة ... الخ، ففي الصحيحين عدة أحاديث اختلف في وصلها وإرسالها. والرابع: روايات الثقات ... الخ، ليس هو من قبيل المختلف فيه، فهو متفق على قبوله والاحتجاج به، إذا وجدت شرائط القبول، وليس يشترط في الراوي أن يكون حافظا، والخامس: روايات المبتدعة ... الخ، فنعم فيه الخلاف، ولكن وقعت في الصحيحين أحاديث عن جماعة من المبتدعة عرف صدقهم، واشتهرت معرفتهم بالحديث، فلم يطرحوا للبدعة (¬2)، وهذه الأقسام تمثل قسما واحدا وهو المختلف في قبوله. ومن وجهة نظر أخرى قسم المحققون الحديث الصحيح إلى سبعة أقسام: ¬

(¬1) انظر (توجيه 1/ 183). (¬2) بتصرف من (توجيه النظر 1/ 187).

ما اتفق عليه البخاري ومسلم، وهذا في نظرهم أعلى درجات الصحيح. ما انفرد به البخاري. ما انفرد به مسلم. ما كان على شرط البخاري ومسلم، ولم يخرجاه. ما كان على شرط البخاري ولم يخرجه. ما كان على شرط مسلم ولم يخرجه. ما لم يكن على شرطهما ولا واحد منهما، وصح عند أئمة الحديث. قال الحافظ ابن حجر رحمة الله علينا وعليه معقبا على هذا التقسيم: نعم قد يكون في هذا الجانب أيضا قوة من جهة أخرى، وهو أن المتن الذي تعددت طرقه أقوى من المتن الذي ليس له إلا طريق واحدة، فالذي يظهر من هذا أن لا يحكم لأحد الجانبين بحكم كلي. بل قد يكون ما اتفقا عليه من حديث صحابي واحد إذا لم يكن فردا غريبا أقوى مما أخرجه أحدهما من حديث صحابي غير الصحابي الذي أخرجه الآخر، وقد يكون العكس إذا كان ما اتفقا عليه من صحابي واحد فردا غريبا، فيكون ذلك أقوى منه. وهذه الأقسام التي ذكرها ابن الصلاح، للصحيح ما شية على قواعد الأئمة ومحققي النقاد، إلا أنها قد لا تطرد لأن الحديث الذي ينفرد به مسلم مثلا، إذا فرض مجيئه من طرق كثيرة حتى تبلغ التواتر أو الشهرة القوية، ويوافقه على تخريجه مشترطو الصحة مثل أن يقال فيه: إن ما انفرد البخاري بتخريجه إذا كان فردا ليس له إلا مخرج واحد أقوى من ذلك، فليحمل

إطلاق ما تقدم من تقسيمه على الأكثر (¬1)، وفي هذا لفتة من الحافظ إلى أن التقسيم المذكور غير مسلم مطلقا، لذلك قال تلميذه ابن قطلوبغا: قوة الحديث إنما هي بالنظر إلى رجاله، لا بالنظر إلى كونه في كتاب كذا. وعنه نقل ابن الحنبلي ولم يعترض. وقال بهذا الأمير الصنعاني، والشيخ أحمد شاكر (¬2). فالقسم الأول: ما اتفق عليه البخاري ومسلم، لا يتحقق فيه أنه أعلى الصحيح بإطلاق، فالشيخان قد رويا من أحاديث صحيفة همام المشتملة على (142) حديثا اتفقا على (23) حديثا منها، وليست هي من أعلى مراتب الصحيح، ومنها (97) حديثا بسند واحد هو: عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة (¬3)، اتفقا على (23) وانفرد البخاري ب (16) وانفرد مسلم ب (58) (¬4). والقسم الثاني: ما انفرد به البخاري، يرد عليه أيضا: أن البخاري انفرد عن مسلم ب (16) حديثا من صحيفة همام نفسها وبالسند نفسه، فكيف يكون أقوى مما رواه مسلم من الصحيفة ذاتها وبنفس السند؟ ، ¬

(¬1) انظر (النكت 1/ 365 - 366، ومقدمة ابن الصلاح 23 - 24، وتوضيح الأفكار 1/ 88، وتوجيه النظر 1/ 288 - 290) (¬2) (انظر قفو الأثر ص 57، توضيح الأفكار 1/ 40 - 44، 86 - 89 مقدمة صحيفة همام ص 12). (¬3) انظر (تحفة الأشراف 10/ 397 - 410). (¬4) انظر (تعليقة عبد الفتاح على توجيه النظر 1/ 292) بتصرف.

وملاحظة أخرى: إذا انفرد البخاري بحديث في سنده راو متكلم فيه، مثل حديث عبد الله بن المثنى عن عمه ثمامة بن عبد الله، تفرد البخاري بإخراج حديثه دون مسلم وفيه كلام (¬1)، وانفرد مسلم بحديث كل رجاله ثقات لا كلام فيهم، فكيف يكون ما انفرد به البخاري على هذه الصورة أصح مما انفرد به مسلم بنفس الوصف؟ . القسم الثالث: ما انفرد به مسلم، يرد عليه أن مسلما انفرد ب (58) حديثا من الصحيفة نفسها، وسندها سند ما اتفق الشيخان عليه، وسند ما انفرد به البخاري عن مسلم فكيف، يكون ما انفرد به مسلم أقل صحة مما انفرد به البخاري والسند عندهما واحد؟ ، وملاحظة أخرى: أن جعل ما انفرد به مسلم في المرتبة الثالثة من الصحة فيه نظر، لأن مسلما قد ينفرد بالحديث وهو على شرطه من إمكان اللقاء وعدم التدليس، فهو صحيح عنده وغير صحيح عند البخاري، ومن وافقه ومشى على شرطه، فكيف يعد ما انفرد به مسلم في المرتبة الثالثة من الصحة، وهو غير صحيح عند البخاري بهذا الاعتبار؟ (¬2). ¬

(¬1) (انظر صحيح البخاري ص (26) كتاب العلم، باب (30) حديث (95)، وفتح الباري 1/ 361، وترجمته في الثقات للعجلي 276، وتهذيب التهذيب 5/ 388). (¬2) ملخصا بتصرف (من كلام عبد الفتاح في تعليقه على هذا الموضوع في توجيه النظر 1/ 290 - 295 ت 1).

النوع الثاني المعضل

النوع الثاني المعضل: لقب لنوع خاص من المنقطع: فكل معضل منقطع وليس كل منقطع معضلا. وهو: ما سقط من سنده راويان فأكثر، من أي موضع سواء سقط الصحابي والتابعي، أو التابعي وتابعه، أو اثنان قبلهما، بشرط أن يكون سقوطهما من موضع واحد. مثاله: قول مالك: بلغني عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (للمملوك طعامه وكسوته) (¬1)، فقد أعضله مالك باثنين: نافع وابن عمر. ومنه إذا روى تابع التابعي، عن التابعي حديثا موقوفا عليه وهو حديث متصل مسند إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). مثاله: حديث الأعمش، عن الشعبي "يقال للرجل يوم القيامة: عملت كذا وكذا؟ فيقول: ما عملته. فيختم على فيه فتنطق جوارحه أو لسانه، فيقول لجوارحه: أبعد كن الله، ما خاصمت إلا في كن" أعضله الأعمش، وهو عن الشعبي متصل مسند، مخرج في الصحيح لمسلم (¬3). وليعلم أنه لا يحكم على حديث بالإعضال إلا بشرطين: ¬

(¬1) انظر (مقدمة ابن الصلاح 54، والتبصرة والتذكرة 1/ 160) والموطأ (2/ 980) كتاب الاستئذان، باب (16) حديث (40) وصحيح مسلم (3/ 1284) كتاب الأيمان، باب (10) حديث (41 - 1662) من طريق أخرى عن أبي هريرة. (¬2) انظر (مقدمة علوم الحديث 55). (¬3) انظر (معرفة علوم الحديث 38) وانظر (صحيح مسلم 4/ 2281) كتاب الزهد، باب (16) حديث (17 - 2969).

النوع الثالث المرسل

1 - أن يرد مسندا متصلا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمن وقفه عليه الراوي الأول. مثاله: رواية الأعمش السابقة، فإنه وقفها على الشعبي، وهي مسندة متصلة عن الشعبي، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك فقال: (أتدرون مم ضحكت؟ ، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه يوم القيامة فيقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى - قال: فإني لا أجيز اليوم على نفسي إلا شاهدا مني - فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، وبالكرام الكاتبين عليك شهودا، فيختم على فيه ... ) (¬1)، قال ابن الصلاح رحمة الله علينا وعليه: هذا جيد حسن، لأن هذا الانقطاع بواحد مضموما إلى الوقف يشمل باثنين: الصحابي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذلك باستحقاق اسم الإعضال أولى (¬2). 2 - جواز نسبة ذلك القول إلى التابعي الذي رواه، فلا يكون مما لا مجال للعقل فيه (¬3). النوع الثالث المرسل: هذا نوع من علم الحديث صعب، قل من يهتدي إليه إلا المتبحر في هذا العلم، فإن مشايخ الحديث لم يختلفوا في أن الحديث المرسل هو الذي يرويه المحدث بأسانيد متصلة إلى التابعي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬

(¬1) انظر (معرفة علوم الحديث 38 - 39). (¬2) مقدمة علوم الحديث 55 - 56. (¬3) انظر (المسلك الواضح المأمون ص 209، وتدريب الراوي 1/ 213، والمنهل الروي 53). (¬4) انظر (معرفة علوم الحديث 25).

وهو: في اللغة

وهو: في اللغة: يجمع على مراسيل، مأخوذ من الإرسال: وهو الإطلاق كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} (¬1)، فكأن المرسل أطلق الإسناد ولم يقيده بجميع رواته (¬2). وفي الاصطلاح: ما رفعه تابعي كبير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). مثاله: قول نافع: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الكلاب". وليعلم أن للعلماء ثلاثة أقوال في حكم العمل بالمرسل هي: القبول مطلقا، وهو محكي عن الإمامين: مالك وأبي حنيفة وجمهور أصحابهما، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمهم الله (¬4). الرد مطلقا، وهو مذهب جمهور العلماء من المحدثين والفقهاء رحمهم الله (¬5). ¬

(¬1) من الآية (83) من سورة مريم. (¬2) فتح الباقي على ألفية العراقي 1/ 144. (¬3) التبصرة 1/ 144، قال زكريا: وقيده شيخنا - العراقي - بما لم يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ليخرج من لقيه كافرا فسمع منه، ثم أسلم بعد موته - صلى الله عليه وسلم -، وحدث بما سمعه منه، كالتنوخي رسول هرقل - قيصر - قيده بالكبير، لأن مرفوع التابعي الصغير لا يسمى مرسلا، وحد التابعي الكبير: من جل روايته عن الصحابة، كعبيد الله بن الخيار، وقيس بن أبي حازم، وسعيد بن المسيب. والصغير: من كان جل روايته عن التابعين، ولم يلق من الصحابة إلا الواحد والاثنين، كأبي جازم ويحي بن سعيد الأنصاري وأمثالهم. (تصرف من فتح الباقي 1/ 145 - 146، والتبصرة 1/ 144 - 145) وانظر (مقدمة علوم الحديث 47). (¬4) انظر (جامع التحصيل 27). (¬5) انظر (مقدمة علوم الحديث 49 - 50).

التحقيق: وهو مذهب الإمام الشافعي ومن قال بقوله رحمهم الله، أن يعمل به إذا وجد له واحد من ثلاثة شروط هي: إذا ورد متصلا من غير طريق المرسل له، ومن قال: إن الاعتماد حينئذ يقع على المسند دون المرسل، يجاب بأنه بالمسند تتبين صحة الإسناد الذي فيه الإرسال، فيحكم له مع إرساله أنه إسناد صحيح تقوم به الحجة (¬1). إذا قواه مرسل غيره من غير طريقه. إذا قواه فعل صحابي أو قوله. إذا عمل بمقتضاه أو أفتى بموجبه جماهير من سلف الأمة (¬2) - ورد من المرسل ما لم يتصف بشيء مما ذكرـ قال الذهبي رحمة الله علينا وعليه: إن المرسل إذا صح إلى تابعي كبير فهو حجة عند خلق من الفقهاء (¬3). أما مرسل الصحابي فإنه يعمل به بلا خلاف، لثبوت العدالة للصحابة مطلقا (¬4)، واحتمال رواية الصحابي عن التابعي احتمال ضعيف جدا فيصرف النظر عنه (¬5). ¬

(¬1) انظر (مقدمة علوم الحديث 49). (¬2) انظر (مقدمة علوم الحديث 49 والتبصرة 1/ 150، وجامع التحصيل 39، والرسالة 461، والبحر الذي زخر 3/ 997) (¬3) الموقظة ص: 39. (¬4) انظر (مقدمة علوم الحديث 50). (¬5) انظر (النكت للحافظ ابن حجر 1/ 570).

النوع الرابع المسلسل

النوع الرابع المسلسل: وهو: ما اتفق رواته على صفة أو حالة أو كيفية واحدة (¬1). مثاله: حديث معاذ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (يا معاذ، إني أحبك فقل دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وحسن عبادتك) (¬2) فقال كل من رواه للآخذ عنه: إني أحبك فقل ... وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - "شبك بيدي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - " (¬3) وحديث أنس - رضي الله عنه - ... "وقبض رسول الله على لحيته" (¬4) هذه الصفات المصاحبة لنص الحديث تناقلها الرواة كل يقول لصاحبه تلك المقولة، وفي هذا زيادة في ضبط الرواية وإتقانها (¬5)، ومنه المسلسل بالمحمدين، أو بالبصريين، أو بالفقهاء، وأحسن المسلسلات ما كان بصيغة مشعرة باللقاء مثل: سمعت فلان، أو حدثني أو أخبرني، وأن يعم التسلسل جميع السند، وقد يكون في بعضه، كالمسلسل بالأولية، ¬

(¬1) انظر (مقدمة ابن الصلاح 248، وتوجيه النظر 1/ 403 - 405). (¬2) حديث صحيح، أخرجه أبو داود في (2/ 181) كتاب الصلاة باب (361)، حديث (1522) وانظر (صحيح الجامع 7846). (¬3) خلق الله الأرض يوم السبت. انظر (معرفة علوم الحديث 33، وفي مسلم (4/ 2149) كتاب صفات المنافقين، باب 1 حديث (27 - 2789) وفيه أخذ بيدي فقال: خلق الله التربة ... ). (¬4) لا يجد العبد حلاوة الإيمان حتى يؤمن بالقدر. ذكر نحوه المتقي في (الكنز 1/ 132) عن أنس، وعزاه لابن أبي عاصم، انظر (السنة لابن أبي عاصم 1/ 59، 2/ 430) عن علي، وفي (1/ 60) عن سعد. (¬5) انظر (مقدمة علوم الحديث 119).

مثاله: حديث (الراحمون يرحمهم الرحمن) (¬1)، إذ كان أول حديث سمعه الراوي من شيخه، وقد حصل فيه التسلسل إلى ابن عيينة فقط، وانقطع عمن فوقه، على الصحيح (¬2). هذا الذي قدمناه بعض صوره الكثيرة، مثّل الحاكم لثمان منها، ومن صوره: ما يكون للرواية والتحمل، نحو سمعت فلانا قال: سمعت فلانا .. الخ، وما يكون صفة للرواة أو حالة لهم، نحو اللهم أعني على شكرك وذكرك .. الخ، وهي كثيرة لا تحصى (¬3). ¬

(¬1) حدث صحيح أخرجه أبو داود في (5/ 231) كتاب الأدب، باب (66) حديث (4941) والترمذي في (4/ 323 - 324) كتاب البر والصلة، باب (16) حديث (1924) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وانظر الأحاديث الصحيح 925). (¬2) انظر (فتح المغيث 4/ 41) (¬3) (انظر (معرفة علوم الحديث 29، وتوجيه النظر 1/ 403 - 405).

البيت الثاني

البيت الثاني: 2 - وصبري عنكم يشهد (¬1) العقل أنه ... ضعيف ومتروك وذلي أجمل ذكر ابن فرح رحمة الله علينا وعليه في هذا نوعين: النوع الأول الضعيف: وهو: ما ليس بحسن - بمعنى لم تجتمع فيه صفات الحديث الحسن (¬2) - وأنواعه كثيرة، أطنب فيها أبو حاتم بن حبان فأوصلها تسعة وأربعين نوعا (49) (¬3) وضابطها التعريف السابق. واصطلاح (ضعيف) لقب عام يشمل كل حديث مردود، مهما كان سبب رده، وأنه بالتالي يتنوع أنواعا كثيرة جدا، وذلك أننا إذا جعلنا اختلال كل شرط - من شروط القبول الستة (¬4) - نوعا تحصّل معنا ستة أنواع، فإذا أضفنا إلى كل واحد من الستة اختلال باقي ¬

(¬1) فيه إشارة إلى الشاهد وهو أن يرد من طريق أخرى ما يؤيد النص المروي لفظا أومعنى. (¬2) انظر (مقدمة علوم الحديث 37). (¬3) انظر (البحر الذي زخر 3/ 1283) وفي كتاب المجروحين لابن حبان 1/ 62 - 85 ذكر عشرين قسما للأسباب الموجبة لتضعيف الرواة، لا تقسيم الحديث الضعيف. انظر (انكت لابن حجر 1/ 491، 492، والبحر الذي زخر 3/ 1287). (¬4) هي (العدالة، الضبط (ولو لم يكن تاما)، الاتصال، فقد الشذوذ، فقد العلة القادحة، العاضد عند الاحتياج إليه). انظر (منهج النقد في علوم الحديث 286، والتدريب 105، وتوضيح الأفكار 1/ 248).

النوع الثاني المتروك

الشروط بعده كانت الأنواع كثيرة جدا، لكن المحدثين لم يفردوا كل صورة بنوع خاص، لما في ذلك من التطويل الذي يوعر سبيل العلم، ولا يجدي ثمرة زائدة على المقصود، إنما صنفوها بحسب الأنواع الرئيسة، حيث إنها ضوابط كافية لتمييز المقبول من المردود، تندرج تحتها كافة الصور، كما أنها تبين إلى أي مستوى بلغ الضعف، هل هو هين يصلح للتقوية إن وجد العاضد، أو شديد لا يصلح، أو مكذوب مختلق جزما (¬1). النوع الثاني المتروك: وهو: ما تفرد بروايته متهم بالكذب. مثاله: حديث عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن الحارث الأعور، عن على. وهذا الإسناد مما قيل فيه: أوهى الأسانيد (¬2)، وحديث الجارود بن يزيد النيسابوري. قال الذهبي: ومن بلاياه: عن بهز، عن أبيه عن جده أنه قال: "إذا قال لامرأته: أنت طالق إلى سنة إن شاء الله لا حنث عليه" (¬3). ¬

(¬1) انظر (منهج النقد في علوم الحديث 287). (¬2) انظر (معرفة علوم الحديث 56 - 57 والبحر الذي زخر 3/ 1293 ومنهج النقد في علوم الحديث 299). (¬3) انظر (الميزان 1/ 384).

البيت الثالث

البيت الثالث: 3 - ولا حسنٌ إلا استماع (¬1) حديثكم ... مشافهة يملى (¬2) علي فأنقل (¬3) ذكر ابن فرح رحمة الله علينا وعليه في هذا نوعين: النوع الأول الحسن: وله معنيان: 1 - معنى في اللغة وهو: ما تشتهيه النفس وتميل إليه. 2 - معنى في الاصطلاح: وهو الحديث الذي اتصل سنده بنقل عدل خف ضبطه، غير شاذ ولا معلّ (¬4)، وللحسن تعاريف ذكرها العلماء (¬5)، هذا أخصرها وأدقها، لأنه ميز الحسن عن الضعيف، بالشروط التي تضمنها، ثم ميزه عن الصحيح بأنه قلّ ضبطه (¬6). مثاله: رواية الإمام أحمد قال: حدثنا يحي بن سعيد، عن بهز بن حكيم، حدثني أبي، عن جدي قال: قلت: "يا رسول الله من أبر؟ ، قال: أمك. ¬

(¬1) إشارة إلى طريق من طرق تحمل الرواية عن الشيخ وهي السماع من لفظه، وهي أرفع الطرق عند الجماهير. (¬2) إشارة إلى إملاء الرواية من لفظ الشيخ، من حفظه أو من كتابه. (¬3) إشارة إلى نقل ما سمع بإحدى صيغ الأداء نحو: سمعت، حدثني، وأخبرني وغير ذلك. (¬4) انظر (منهج النقد في علوم الحديث 264، وشرح نخبة الفكر 32 - 33، ومقدمة علوم الحديث 28. (¬5) انظر (الموقظة 26 - 33، والبحر الذي زخر 3/ 950 - 992، وتوجيه النظر 1/ 356 - 361). (¬6) منهج نقد علوم الحديث 264.

قال: قلت: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: قلت: ثم من؟ قال: أمك، ثم أباك، ثم الأقرب فالأقرب" (¬1) ومعلوم أن الإمام أحمد، ويحي بن سعيد القطان إمامان جليلان، وبهز من أهل الصدق الصيانة، وثقه الأئمة ابن المديني، وابن معين، والنسائي وغيرهم، لكن استشكل العلماء بعض مروياته، وتكلم فيه شعبة بن الحجاج بسبب ذلك، ولم يسلبه صفة الضبط، لكنه أشعر بأنه خف ضبطه، وحكيم والد بهز قال النسائي: لا بأس به، ووثقه غيره، فيكون حديث بهز هذا حسنا لذاته كما حكم العلماء، بل هو من أعلى مراتب الحسن (¬2). وليعلم أن ثمة تشابها كبيرا بين الحسن والصحيح، حتى إن طائفة من أهل الحديث جعلوا الحسن مندرجا في الصحيح، ولم يجعلوه نوعا منفردا، وهو الظاهر من كلام أبي عبد الله الحاكم في تصرفاته إذ قسم الحديث إلى صحيح وسقيم (¬3)، لأن الحديث الذي يحتج به إما أن يكون في أعلى درجات القبول، وهو الصحيح، أو في أدناها وهو الحسن (¬4). وليعلم أن مراتب الحسن متفاوتة، كما تفاوتت مراتب الصحيح، وذلك بحسب قرب راوي الحسن لذاته من الصحيح في ضبطه. ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في (المسند 51/ 5). (¬2) بتصرف من (منهج النقد لعلوم الحديث 265) وانظر (المغني رقم 1007، والتهذيب 1/ 498 - 499). (¬3) انظر (معرفة علوم الحديث 58). (¬4) بتصرف قليل من (منهج النقد ... ص 265، وانظر معرفة علوم الحديث 58 - 62).

ومن أمثلة تفاوت مراتب الحسن قول الذهبي: أعلى مراتب الحسن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، وعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده ... وأمثال ذلك، وهو قسم متجاذب بين الصحة والحسن، فإن عدة من الحفاظ يصححون هذه الطرق، وينعتونها بأنها من أدنى مراتب الصحيح، وهو أعلى مراتب الحسن. ثم بعد ذلك ما اختلف في تحسينه وتضعيفه، له أمثلة كثيرة تنازع فيها العلماء، بعضهم يحسنونها، وآخرون يضعفونها كحديث الحارث بن عبد الله الأعور، وعاصم بن ضمرة، وحجاج بن أرطاة، وخصيف، ودراج، وغيرهم. وهكذا يتوسط الحديث الحسن بين منزلتي الصحة والضعف، وقد يكون أدنى إلى الصحة حينا، وهو الحسن لذته، وأدنى إلى الضعف حينا آخر، وهو الحسن لغيره (¬1)، وما ذكره الذهبي مثال للمرتبة العليا من مراتب الحسن، ومثال للدنيا منه، وبنيهما مراتب (¬2). وليعلم أن العلماء رحمة الله علينا وعليهم اختلفوا في الاحتجاج بالحديث الحسن على ثلاثة أقوال كما ظهر لي: 1 - ذهب الفقهاء وأكثر العلماء من المحدثين والأصوليين إلى أن الحسن كالصحيح في الاحتجاج به. ¬

(¬1) بتصرف انظر (منهج النقد لعلوم الحديث 266، والموقظة 32، والبحر الذي زخر 3/ 993، ومقدمة علوم الحديث 27). (¬2) انظر (المنهج الحديث للسماحي 122، 123).

2 - شذ بعض أهل الحديث فرده (¬1). 3 - وفصّل آخرون: قال الحافظ ابن حجر رحمة الله علينا وعليه: إن المصنف - ابن الصلاح - وغير واحد نقلوا الاتفاق على أن الحديث الحسن يحتج به كما يحتج بالصحيح، وإن كان دونه في المرتبة (¬2)، لكنه رحمه الله تساءل عن نوع الحسن الذي اتفقوا على الاحتجاج به، وذكر أنه ما ينزل على تعريف الخطابي، وهو رواية الصدوق المشهور بالأمانة ... إلى آخر كلامه، وهو الحسن لذاته، وليس الحسن المذكور عند الترمذي، الذي يطلقه من غير صفة أخرى، فإنه يطلق اسم الحسن على الضعيف، والمنقطع إذا اعتضد (¬3)، فلا يتجه إطلاق الاتفاق على الاحتجاج به جميعه، ولا دعوى الصحة فيه إذا أتى من طرق، ولا ما هو أعم من ذلك (¬4). ويؤيد هذا قول الخطيب: أجمع أهل العلم أن الخبرلا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به (¬5)، وصرح أبو الحسن بن القطان بأن هذا القسم لا يحتج به كله، بل يعمل به في فضائل الأعمال، ويتوقف عن العمل به في الأحكام، إلا إذا كثرت طرقه، أو عضده اتصال ¬

(¬1) ظاهر الرواية عن أبي حاتم أنه لا يحتج بالحديث الحسن مطلقا لذاته، أو لغيره. انظر (البحر الذي زخر 3/ 996، وفتح المغيث 1/ 84 - 85). (¬2) مقدمة علوم الحديث 28. (¬3) انظر أمثلة ذلك في (النكت 1/ 387 - 399 وتوجيه النظر 1/ 382 - 390). (¬4) النكت 1/ 401 - 402 بتصرف. (¬5) الكفاية ص: 83.

عمل، أو موافقة شاهد صحيح، أو ظاهر القرآن (¬1) قال بعد أن ذكر هذا: وهذا حسن قوي رائق، ما أظن منصفا يأباه (¬2)، ولا تزال مثل هذه الحال مثار اجتهاد العلماء وتحريهم، وموضع تخوفهم حتى عسر التعبير عن الحسن وضبطه على بعضهم، لأنه أمر نسبي، وشيء ينقدح في نفس الحافظ، وربما تقصر عبارته عن تبريره تفصيلا (¬3) ولذلك تنوع تعبير الترمذي رحمه الله في الحكم على الحديث الحسن فقال: حديث حسن، حديث صحيح، حديث حسن صحيح (¬4)، حديث صحيح غريب، حديث حسن غريب، حديث حسن صحيح غريب، مقيدا أحيانا ... بقوله: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وللعلماء رحمهم الله في هذا أقوال: 1 - أنه أطلق الحسن باعتبار الطرق، قال الترمذي رحمة الله علينا وعليه: وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن، إنما أردنا به حسن إسناده عندنا، كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذا، ويروى من غير وجه نحوه، فهو عندنا حديث حسن (¬5). ¬

(¬1) لم أقف عليه عند ابن القطان بالنص المذكور، لكنه بمعناه (الوهم والإيهام 4/ 11 - 12، وانظر النكت 1/ 402، وتوضيح الأفكار 1/ 179 - 180، ومقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث 36 - 37). (¬2) النكت 1/ 402. (¬3) منهج النقد لعلوم الحديث 266 - 267. (¬4) قوله: (حسن صحيح) نقل عن البخاري القول به قال ابن حجر: قد وقع ذلك في كلامه. (النكت 1/ 475). (¬5) انظر (العلل ص: 22، والتقييد ص: 45، والبحر الذي زخر 3/ 1240).

2 - استشكل العلماء قوله: حسن صحيح، لأن الحسن قاصر عن الصحيح، فكيف يجمع بين إثبات القصور وعدمه! أجاب عن هذا الحافظ ابن حجر فقال: محصل الجواب أن تردد أئمة الحديث في حال ناقله، اقتضى للمجتهد أن لا يصفه بأحد الوصفين، فيقال فيه: حسن باعتبار وصفه عند قوم، صحيح باعتبار وصفه عند قوم، وغاية ما فيه أنه حذف منه حرف التردد، لأن حقه أن يقول: حسن أو صحيح (¬1). 3 - وتوجيه آخر قاله ابن دقيق العيد أن يقال: حسن باعتبار الصفة الدنيا، وهي: الصدق مثلا، صحيح باعتبار الصفة العليا، وهي: الحفظ والإتقان (¬2) فإذا لم يقيد فلابن الصلاح توجيه بأن ذلك باعتبار الطرق، فيكون حسنا باعتبار بعض الطرق، وصحيحا باعتبار طرق أخر (¬3)، وذكر السيوطي توجيهين آخرين: أن المراد حسن لذاته، صحيح لغيره، أو حسن باعتبار إسناده، صحيح: أي أنه أصح شيء ورد في الباب، فإنه يقال: أصح ما ورد كذا، وأن كان حسنا أو ضعيفا، والمراد أرجحه أو أقله ضعفا (¬4). وليعلم أن العلماء قالوا: ما قيل فيه: حسن الإسناد دون ما قيل فيه: ¬

(¬1) نزهة النظر ص: 33. (¬2) الاقتراح ص: 176. (¬3) انظر (مقدمة علوم الحديث 35). (¬4) انظر (البحر الذي زخر 3/ 1241 - 1242).

حسن، لأنه قد يكون فيه شذوذ أو علة (¬1) إذ المراد اتصال سنده، لا أنه مقطوع به في نفس الأمر (¬2)، ومن عرف من حاله التفريق بين التقييد والإطلاق، يحكم له بمقتضى ذلك، ويحمل إطلاقه على الإسناد والمتن معا، وتقييده على الإسناد فقط، أما من عرف من حاله عدم التفريق حمل على أنه حكم له بالحسن (¬3) وله أمثلة عند الحاكم في المستدرك، والحسن عنده داخل في مسمى الصحيح، كما يظهر من صنيعه في معرفة علوم الحديث. ¬

(¬1) انظر (مقدمة علوم الحديث 113، والبحر الذي زخر 3/ 1248 - 1249 وفتح المغيث 1/ 105). (¬2) انظر (البحر الذي زخر 3/ 1250). (¬3) انظر (النكت 1/ 474، والبحر الذي زخر 3/ 1251 - 1253).

النوع الثاني المشافهة

النوع الثاني المشافهة: وهي: السماع من لفظ الشيخ. وفرّع عليها: القراءة على الشيخ، وأكثر المحدثين يسمونها عرضا، إذ أن القاري يعرض على الشيخ ما يقرؤه، كما يعرض القرآن على المقرئ، ولا خلاف أنها رواية صحيحة، إلا ما حكي عن بعض من لا يعتد بخلافه (¬1)، يعني ما ورد من خلاف أبي عاصم النبيل، كان لا يرى الرواية بالعرض (¬2). وقد اختلف العلماء في أن السماع من لفظ الشيخ أعلى أو القراءة عليه، على ثلاثة أقوال: أن السماع من لفظ الشيخ أعلى المراتب في تحمل الحديث ونقله، وهذا هو الراجح وعليه جمهور أهل المشرق (¬3) وهذا يتفق مع ما تقدم من أن السماع من لفظ الشيخ أرفع الأقسام، وعليه الجمهور ورجحه ابن الصلاح. أن القراءة على الشيخ أعلى، وهو قول أبي حنيفة، وسفيان الثوري، وابن أبي دئب، وشعبة ويحي بن سعيد القطان، وآخرين (¬4). أنهما سواء، وهو مذهب معظم أهل الحجاز والكوفة، ومذهب مالك وأصحابه وأشياخه من علماء المدينة، ومذهب البخاري وغيرهم (¬5). ¬

(¬1) انظر (المقدمة مع التقييد ص: 168). (¬2) انظر (توضيح الأفكار 2/ 303). (¬3) المقدمة مع التقييد (ص 168) بتصرف، وانظر (الكفايةص 395 - 398). (¬4) الكفاية (399 - 403) والمقدمة مع التقييد (168) وتوضيح الأفكار (2/ 304). (¬5) المقدمة مع التقييد (168) وانظر (الكفاية 387 - 394).

وهذه المساواة إنما تكون إذا أقرّ الشيخ حالة القراءة بأنه حديثه، وصرّح بذلك، وهي محل الاتفاق في الاعتبار، فإن سكت ولم يقر ولم ينكر وهو مصغ إلى إخبار القارئ له، غير غافل عنه، وليس ثمّ ما يوجب سكوتا، من إكراه أو غفلة أو نعاس، فالصحيح الذي عليه الجمهور العمل بذلك والاعتداد به، وعلى قول الجمهور هي أنزل درجة من السماع من لفظ الشيخ، لما في السماع من لفظه من اليقظة والمتابعة الدقيقة والحذر من الغفلة، ولا شك في ذلك، ومحل الأقوال الثلاثة إنما هو الحالة الأولى، إذا أقرّ الشيخ، والأدق في الأداء أن يقول في هذه الحالة: قرأت على فلان أو قرئ على فلان وأنا أسمع فأقرّبه، ويليه في الرتبة ما يجوز من صيغ الأداء المستعملة في السماع من لفظ الشيخ، بشرط أن تكون مقيدة فيقول: حدثنا فلان قراءة عليه، أو حدثني قراءة عليه، وأخبرنا قراءة عليه، أو أخبرني قراءة عليه وهكذا، ووقع الخلاف في إطلاق هذه الصيغ بين المنع والجواز، وبعضهم منع إطلاق حدثنا وجوز أخبرنا، والفرق بينهما صار هو الشائع الغالب على أهل الحديث (¬1). ¬

(¬1) المقدمة مع التقييد (196).

البيت الرابع

البيت الرابع 4 - وأمري موقوف عليك وليس لي ... على أحد إلا عليك المعول. ذكر ابن فرح رحمة الله علينا وعليه في هذا البيت نوعا واحدا وهو: الموقوف: وهو: ما أضيف إلى صحابي من قول أو فعل، اتصل سنده أو لم يتصل (¬1). وعليه فرّع الأثر: ويطلق على المروي، سواء كان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو عن الصحابي، وهو المذهب المختار، الذي قاله المحدثون وغيرهم، واصطلح عليه السلف وجماهير الخلف، وقال الفقهاء "الخراسانيون": هو ما يضاف إلى الصحابي موقوفا عليه (¬2)، فالموقوف والمرفوع أخص من الأثر مطلقا، والأثر أعم مطلقا، ويسمى المحدث أثريا نسبة إلى الأثر، وما جاء عن التابعين فمن بعدهم، يذكر بقيد فيقول: وقفه مالك، أو الزهري، أو موقوف على الثوري، على الأوزاعي، على الشافعي ونحو ذلك (¬3). وليعلم أن الحديث الموق لا يحكم بصحته مطلقا ولا بضعفه، بل مدار الحكم عليه من خلال ما يتوفر في رواته من العدالة والضبط مع بقية الشروط، ويعطى حينئذ الرتبة المستحقة، الصحة أو الحسن، أو الضعف ¬

(¬1) انظر (مقدمة علوم الحديث 41 - 42). (¬2) التقريب مع التدريب ص: 184 وانظر (التبصرة 1/ 123). (¬3) انظر (مقدمة علوم الحديث 42، والتبصرة 1/ 123).

البيت الخامس

بأنواعه (¬1) وما صح من الأحاديث الموقوفة وكان مما لا مجال للرأي فيه وجب العمل به. مثاله (قول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: من أتى ساحرا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -) (¬2). البيت الخامس: 5 - ولو كان مرفوعا إليك لكنت لي ... على رغم عذالي ترق تعذل ذكر ابن فرح رحمة الله علينا وعليه في هذا البيت نوعا واحدا وهو: المرفوع: مأخوذ من الرفعة والعلو، لمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهو: ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير. مثال القول: حديث (إنما الأعمال بالنيات) (¬3) ونحوه. ومثال الفعل: (رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليهوديين زنيا) (¬4) و (سجوده - صلى الله عليه وسلم - للسهو) (¬5)، ومثال التقرير: إقراره - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد على أكل الضب (¬6). ¬

(¬1) انظر (البحر الذي زخر 3/ 1246 - 1247). (¬2) أخرجه أبو داود في (4/ 225 - 226) كتاب الطب، باب (21) حديث (3904)، وانظر (نخبة الفكر ص: 26). (¬3) أخرجه البخاري في (ص 1) كتاب بدء الوحي، باب 1 حديث 1. (¬4) أخرجه مسلم في (3/ 1318) كتاب الحدود، باب (6) حديث (1701). (¬5) أخرجه البخاري في (ص 240) كتاب السهو، باب (3) حديث (1227). (¬6) أخرجه ابن ماجه في (2/ 1079) كتاب الصيد، باب (16) حديث (3241).

وليعلم أن العلماء رحمة الله علينا وعليهم جعلوا من المرفوع قول الصحابي: (كنا نفعل كذا) مما لا مجال للرأي فيه (¬1)، على القول بإطلاق الرفع، من غير تفريق فيه بين ما أضيف إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما لم يضف، قال النووي رحمة الله علينا وعليه: وهو قوي من حيث المعنى (¬2) واعتمده الإمامان: البخاري ومسلم في صحيحيهما، كما ذكر ذلك ابن حجر وقال: وأكثر منه البخاري (¬3)، وكذا إذا قال: (من السنة كذا (¬4)، أو أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا) فقد حكي الإجماع على أنه حديث مسند (¬5). من أمثلة ذلك: 1 - قول ابن مسعود - رضي الله عنه -: (من أتى ساحر ا ... ) وقول أبي هريرة - رضي الله عنه - لمن خرج من المسجد بعد الأذان: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -) (¬6). ¬

(¬1) معناه: لا يمكن أن يكون من اجتهاد الصحابي، ولا رأيا رآه، ومن ذلك: ما تعلق بسبب نزول الآيات. مثاله: سبب نزول الآية (223) من سورة البقرة (نساؤكم حرث لكم) قال جابر - رضي الله عنه -: كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول. انظر (مقدمة علوم الحديث 45 - 46) الإخبار عن الأمور الغيبية. مثاله الإخبار عن أشراط الساعة، وأحوال يوم القيامة، أو إخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق وقصص الأنبياء، أو عن الأمور الآتية كالملاحم والفتن، وصفة الجنة والنار ونحو ذلك. انظر (النكت 2/ 531). (¬2) انظر المجموع شرح المهذب 1/ 60. (¬3) النكت 2/ 515. (¬4) فإنه لا يراد بها عند الإطلاق سوى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. انظر (نزهة النظر 62). (¬5) انظر (المستدرك 1/ 358، والنكت 2/ 522 - 523. (¬6) أخرجه الإمام مسلم في (1/ 454) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب (45) حديث (258 - 655).

البيت السادس

2 - فعل علي - رضي الله عنه - إذ صلى الكسوف بأكثر من ركوعين في الركعة الواحدة (¬1). واشترط الحافظ ابن حجر أن لا يكون الصحابي معروفا برواية الإسرائيليات، مثل: كعب الأحبار مثلا فإن له في روايته مصدرين: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والنقل عن الكتب السابقة (¬2). البيت السادس: 6 - وعذل عذولي منكر لا أسيغه ... وزور (¬3) وتدليس يرد (¬4) ويهمل (¬5) ذكر ابن فرح رحمة الله علينا وعليه في هذا البيت نوعين: النوع الأول المنكر: وهو: ما انفرد به من لم يبلغ في الثقة والإتقان ما يحتمل معه تفرده: مثاله حديث (كلوا البلح بالتمر، فإن الشيطان إذا رأى ذلك غاظه ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 143). (¬2) انظر (النكت 2/ 532). (¬3) إشارة إلى الموضوع، وصرح به في البيت الثاني عشر. (¬4) إشارة إلى القسم الثاني من أقسام الحديث بالنظر إلى الصحة وعدمها، فالمردود: ما قام الدليل على ترجيح عدم ثبوته فيشمل الضعيف وما دونه، ومعلوم أن للحديث ثلاث صفات: صفة القبول إذا ترجح ثبوته فيشمل الحسن وما فوقه، وصفة الرد، وصفة التوقف وذلك في حالة عدم ظهور أحد الأمرين السابقين. انظر (توجيه النظر 1/ 495). (¬5) إشارة إلى فضية تتعلق بإهمال نسبة الراوي، فالمهمل المهمل الذي يخشى منه أن يظن الواحد اثنين، عكس المتفق وهو ما يكون مظنة الاشتباه، بسبب التعاصر أو لاشتراك بعض الشيوخ، أو بعض الرواة فلا يظن الشخصان شخصا واحدا.

النوع الثاني التدليس

وقال: عاش ابن آدم حتى أكل الجديد بالخلق) (¬1). النوع الثاني التدليس: هو: كتم العيب في أي شيء. مأخوذ من الدَّلس: وهو الظلمة، شبه بها بجامع التغطية في كل (¬2). وقد ظهر التدليس في عهد التابعين، ونما واستمر حتى نهاية عصر الرواية منتصف القرن الخامس الهجري، وبقي بعد ذلك صفة لدى البعض من الناس إلى يومنا هذا، وسيبقى ما بقي البحث والنظر وتداول العلم والمعرفة، وله مجال كبير في المعاملات على مستوى الأفراد والجماعات والدول، والذي يهمنا هنا ما يتعلق منه بالرواية (¬3). أصناف المدلسين: صنف الحاكم رحمة الله علينا وعليه المدلسين إلى ستة أجناس: من دلس عن الثقات الذين تتفاوت رتبهم في التوثيق، إلا أنهم لو يخرجوا من عداد الذين تقبل أخبارهم. قوم يدلسون الحديث فيقولون: قال فلان فإذا جاء من يتتبع سماعاتهم ويلح في البحث ويراجعهم في ذلك ذكروا فيه سماعاتهم. قوم دلسوا على أقوام مجهولين لا يدرى من هم ومن أين هم. ¬

(¬1) انظر (الكامل في الضعفاء 7/ 2698). (¬2) انظر (فتح الباقي 1/ 179) بتصرف. (¬3) انظر (توجيه النظر 1/ 431).

قوم دلسوا أحاديث رووها عن المجروحين، غيروا أساميهم وكناهم كي لا يعرفوا. قوم دلسوا عن قوم سمعوا منهم الكثير، وربما فاتهم الشيء عنهم فيدلسونه، إلا أن المتبحر في هذا العلم، يميز بين ما سمعوه وما دلسوه. قوم رووا عن شيوخ لم يروهم قط ولم يسمعوا منهم، إنما قالوا: قال فلان، فحمل ذلك عنهم على السماع، وليس عندهم عنهم سماع عال ولا نازل. الأئمة الذين دلسوا والذين تورعوا عن التدليس: قال الحاكم رحمة الله علينا وعليه: لم أستحسن ذكر أسامي من دلس من أئمة المسلمين صيانة للحديث ورواته، غير أني أدل على جملة يهتدي إليها الباحث عن الأئمة الذين دلسوا والذين تورعوا عن التدليس وهو: أن أهل الحجاز والحرمين ومصر والعوالي، ليس التدليس من مذهبهم، وكذلك أهل خراسان والجبال وأصبهان، وبلاد فارس وخوزستان وما وراء النهر، لا يعلم أحد من أئمتهم دلس. وأكثر المحدثين تدليسا أهل الكوفة، ونفر يسير من أهل البصرة. فأما مدينة السلام: بغداد فقد خرج منها جماعة من أهل الحديث، وهم سبع طبقات لم يذكر عن واحد منهم التدليس سوى أبي بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي الواسطي، فإن أخذ أحد من أهل بغداد التدليس فعن الباغندي وحده (¬1). ¬

(¬1) بتصرف من (معرفة علوم الحديث 103 - 112) وانظر توجيه النظر 1/ 431 - 433.

حكم رواية المدلس

حكم رواية المدلس: خلاصة القول في هذا أن للعلماء ثلاثة أقوال: القبول مطلقا، وهو قول جمهور من قبل المرسل، فلم يجعلوا المدلس مثل الكذاب، ولم يروا صفة التدليس جرحا في العدالة، وغاية ما في الأمر أن يكون بمعنى الإرسال. الرد مطلقا، وهو قول لبعض أصحاب الحديث وبعض الفقهاء (¬1)، قالوا: (¬2) إن التدليس جرح في المدلس، لإيهامه سماع ما لم يسمع (¬3). التفصيل: قبول ما صرح فيه بالسماع، ورد ما سواه، وهذا هو الراجح المرتضى، إذ لا يزول الإيهام ولا يرتفع الإشكال إلا بلفظ صريح، كأن يقول: سمعت، وحدثني، وأخبرني، ونحو ذلك (¬4). وبيانه: أن التدليس أخو الكذب والغش والخداع، وهو مناف لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الدين النصيحة) (¬5)، فهو غش للأمة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (من غشنا فليس منا) (¬6)، وهذا منصب على من فعل ذلك قاصدا إخفاء ما يقتضي رد الرواية، وهو في عمومه جرح إلا الذين عرف النقاد سيرتهم فيه وقبلوا عنعنتهم وهم: ¬

(¬1) انظر (الكفاية 515). (¬2) انظر (الكفاية 515). (¬3) انظر (الكفاية 515، وجامع التحصيل 111). (¬4) انظر (الكفاية 517). (¬5) أخرجه الإمام مسلم في (1/ 74) كتاب الإيمان، باب (23) حديث (95 - 55). (¬6) أخرجه الإمام مسلم في (1/ 99) كتاب الإيمان، باب (43) حديث (164 - 101).

أقسام التدليس؛ هو قسمان

- من كان لا يدلس إلا عن ثقة كسفيان بن عيينة، والثوري، والأعمش (¬1). - من لم يوصف بالتدليس إلا نادرا، كيحي بن سعيد القطان وسفيان الثوري، وهو قليل التدليس (¬2). - من جاءت روايته: من طريق من خبر أمره، كعمل يحي القطان مع سفيان الثوري، وقول شعبة: كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش، وأبي إسحاق، وقتادة (¬3). أقسام التدليس؛ هو قسمان: - تدليس إسناد: وهو: أن يسقط اسمَ شيخه الذي سمع منه، ويرتقي إلى شيخ شيخه الذي عاصره، أو من فوقه سمع منه أو لم يسمع، ويسند ذلك إليه بلفظ لا يقتضي الاتصال، بل بلفظ موهم أنه سمع منه ذلك، كقوله: عن فلان، أو قال فلان (¬4) وممن عرف به، بقية بن الوليد (¬5). وهو أنواع: - تدليس الحذف: حذف الراوي لضعف أو لصغر سنه وهو تدليس التسوية: وهو حذف راو ضعيف بين ثقتين وهما الراوي عن الضعيف، وشيخ الضعيف، وشرط العلماء أن يكون الثقتان قد حصل بينهما ¬

(¬1) انظر (النكت 2/ 324، وتدريب الراوي 1/ 226). (¬2) انظر (جامع التحصيل 130، وفتح المغيث 1/ 205، وطبقات المدلسين ص: 21). (¬3) معرفة السنن والآثار 151 - 152). (¬4) انظر (التبصرة 1/ 180) بتصرف. (¬5) انظر (الكفاية 519، وشرح قصيدة المقدسي ص 70).

لقاء، وأول من سمى هذا النوع بالتسوية أبو الحسن بن القطان إذ عبر بقوله: سوّاه فلان، وسماه القدماء تجويدا قالوا: جوده فلان (¬1). سبب هذا التصرف المشين أمران: الأول: عدم إظهار ما يقتضي رد الرواية، بحذف الراوي الضعيف، وربط صيغة الأداء المروي بها عنه: سمعت أو حدثنا أو أخبرني، بالثقة شيخ الضعيف، فيستوي الإسناد كله ثقات. الثاني: طلب العلو، فإنه بإسقاط الراوي الضعيف؛ حصل على درجة في علو الإسناد، والواقع أنه نازل (¬2)، وهذا أفحش أنواع التدليس مطلقا وشرها، وهو قادح في من تعمد فعله (¬3). مثاله بحذف الضعيف: حديث (لا تحمدوا إسلام امرئ حتى تعرفوا عقدة رأيه) دلسه بقية فقال: حدثني أبو وهب الأسدي، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه - مرفوعا. قال أبو حاتم رحمة الله علينا وعليه: هذا الحديث له علة قلّ من يفهمها، روى هذا الحديث عبيد الله بن عمرو، عن إسحاق بن أبي فروة، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، وعبيد الله بن عمرو كنيته أبو وهب، وهو أسدي، فكأن بقية كناه ونسبه إلى بني أسد لكيلا يفطن به، حتى إذا ترك إسحاق بن أبي فروة من الوسط لا يهتدى له (¬4). ¬

(¬1) انظر (فتح المغيث 1/ 213 - 214). (¬2) انظر (الكفاية 511). (¬3) انظر (جامع التحصيل 118، والتقييد 79). (¬4) علل الحديث 1/ 154.

ومثاله بحذف الراوي لصغر سنه: حديث (تحريم لحوم الحمر الأهلية) (¬1) رواه هشيم، عن يحي بن سعيد الأنصاري، عن الزهري، عن عبد الله بن الحنفية، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه -، ويحي بن سعيد لم يسمعه من الزهري، بل عن مالك، عن الزهري، فأسقط هشيم مالكا لصغر سنه (¬2). - تدليس العطف: وهو أن يروي عن شيخين من شيوخه ما سمعاه من شيخ اشتركا في الرواية عنه، ويكون قد سمع الحديث الذي دلسه من أحدهما دون الآخر، فيصرح بالسماع من الذي سمع منه، وبنية القطع يعطف الثاني الذي لم يسمع منه، فيوهم أنه سمع منه أيضا. مثاله: ما فعله هشيم مع تلاميذه إذ فطن لتواطئهم على عدم كتابة ما يدلسه لهم فقال: حدثني حصين ومغيرة، عن إبراهيم، فحدث بعده أحاديث فلما فرغ قال: هل دلست لكم شيئا؟ قالوا: لا. فقال: بلى كل ما حدثتكم عن حصين فهو سماعي، ولم أسمع من مغيرة من ذلك شيئا (¬3). - تدليس القطع: وهو أن يقطع الراوي صيغة الأداء المشعرة بالسماع، كأن يقول: حدثني أو أخبرني، ثم يسكت برهة ينوي القطع، ثم يقول: فلان، ولا يصل الصيغة بالاسم. مثاله: قول عمر بن عبيد الطنافسي: حدثنا، ثم يسكت ينوي القطع، ثم يقول: هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها. ¬

(¬1) أخرجه مسلم في (3/ 1537) كتاب الصيد والذبائح، باب (5) حديث (22 - 1407). (¬2) انظر (الكفاية 518، وفتح المغيث 1/ 213). (¬3) انظر (النكت 1/ 617).

من أسباب تدليس الشيوخ

تدليس الشيوخ: وهو: أن يصف المدلس شيخه الذي سمع منه ذلك الحديث بما لا يعرف به. كذكره باسم أو كنية، أو لقب، أو ينسبه إلى شيء ما، من أجل تعمية السامع عن معرفته له. مثاله: قول أبي بكر بن مجاهد المقرئ: ثنا عبد الله بن أبي عبد الله. يريد به عبد الله بن أبي داود السجستاني (¬1). من أسباب تدليس الشيوخ: - كون المروي عنه ضعيفا: فيدلسه حتى لا تظهر روايته عن الضعفاء، وهو شرها. - إيهام كثرة الشيوخ: وهو: أن يروي عن الشيخ الواحد في مواضع، يعرّفه في موضع بصفة، وفي موضع بأخرى، يوهم أنه غيره. وممن فعل ذلك كثيرا الخطيب (¬2) وهذا لا يقدح في المروي، وفعله إلى عدم الجواز أقرب، وإذا ثبت قصد التكثر فهو حرام، ويدخل في الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور (¬3). - كون المروي عنه صغيرا: فإن كان لصغر سنه فيكون ذلك رواية عن مجهول، لا يجب قبول خبره حتى يعرف من روى عنه، وإن كان استصغره تكبرا، فلا يقدح في المروي، ومعلوم أن من استصغر غيره استكبر عليه. ¬

(¬1) انظر (التبصرة 1/ 187 - 188) بتصرف. (¬2) انظر (التبصرة 1/ 188). (¬3) انظر (الكفاية 509) والحديث أخرجه البخاري في (ص 1132 - 1133) كتاب النكاح، باب (107) حديث (5219)، ومسلم في (3/ 1681) كتاب اللباس والزينة، باب (35) حديث (126 - 2129، 127 - 2130).

البيت السابع

- كونه أكبر لكن تأخرت وفاته: حتى شارك المدلس في الأخذ عنه من هو دونه، فحكمه كسابقه، لا يقدح (¬1)، ويعد ما تقدم من أنواع التدليس تدليسا مذموما متفاوتا في ذلك. أما الغير مذموم: فهو أن يكون سمع ممن دلسه وهو في نفس الأمر ثقة، كتدليس ابن عيينة (¬2)، وغيره مما تقدم إيضاحه في حكم رواية المدلس. وليعلم: أن التدليس يدخل فيه المرسل من وجه، فكل مدلَّس مرسل ولا عكس، ويفارق المرسل بأن المدلَّس يوهم السماع، فاستحق فاعله الذم، وليس هذا في الإرسال (¬3). البيت السابع: 7 - أقضّي زماني فيك متصل الأسى ... ومنقطعا عما به أتوصل ذكر ابن فرح رحمة الله علينا وعليه في هذا البيت نوعين: النوع الأول المتصل: ويقال: المؤتصل، والموصول، وهو أعم من المرفوع والموقوف، وهما أخص منه. وهو: ما اتصل سنده بسماع كل راو ممن فوقه إلى منتهاه، مرفوعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو الصحابي، حيث كان ذلك موقوفا عليه. ¬

(¬1) انظر هذا كله في (التبصرة 1/ 188 - 189). (¬2) انظر (الكفاية 516، والنكت 2/ 324). (¬3) انظر (الكفاية 510، 546، والنكت 2/ 615، 623).

النوع الثاني المنقطع

أما أقوال التابعين إذا اتصلت إليهم، فلا يسمونها متصلة، ويخرج بقيد الاتصال ما عده عند الإطلاق، أما مع التقييد فجائز (¬1). النوع الثاني المنقطع ويقال: المقطوع، ويجمع على مقاطيع ومقاطع، وقد عبر بالمقطوع عن المنقطع بعض الأئمة: كالشافعي، والطبراني، والحميدي، والدارقطني (¬2). وهو: ما لم يتصل سنده، فهو أعم من المرسل والمعضل، وهما أخص منه. والمنقطع على ثلاثة أنواع: 1 - ما وقع فيه الانقطاع لجهالة رجل فأكثر. مثاله: حديث (اللهم إني أسألك الثبات في الأمر) رواه أبو العلاء بن عبد الله بن الشخير، عن رجلين من بني حنظلة، عن شداد بن أوس، فهذا حديث منقطع الإسناد، لجهالة الرجلين بين أبي العلاء وشداد (¬3). 2 - ما وقع فيه الانقطاع لراو لم يوقف على اسمه. يعتبر ما وقع فيه إبهام راو فأكثر منقطعا، ما لم يكشف من طريق أخرى. مثال ما كشف: حديث (يأتي على الناس زمان يخير الرجل بين العجز والفجور، فمن أدرك ذلك الزمان فليختر العجز على الفجور) (¬4)، رواه ¬

(¬1) انظر (التبصرة 1/ 121 - 122، وفتح الباقي 1/ 121 - 122) بتصرف. وانظر (الكفاية 58، والتمهيد 1/ 21، وتدريب الراوي 1/ 183). (¬2) انظر (التبصرة 1/ 124). (¬3) انظر (معرفة علوم الحديث 27 - 28) والحديث أخرجه الترمذي في (5/ 476) كتاب الدعوات، باب (23) حديث ... (3407). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في (المسند 2/ 278).

مبهم عن أبي هريرة، لكنه ورد مصرحا به في رواية أخرى، وهو أبو عمرو الجدلي، وهذا النوع من الانقطاع لا يقف عليه إلا الحافظ الفهم المتبحر في الصنعة، وله شواهد كثيرة (¬1). 3 - ما وقع فيه الانقطاع لراو لم يسمع من الذي يروي عنه. مثاله: حديث (إن وليتموها أبا بكر فقوي أمين) هذا الحديث لا يتأمل إسناده متأمل إلا عرف اتصاله، لكن الواقع أن فيه انقطاعا في موضعين: بين عبد الرزاق والثوري، وبين الثوري وأبي إسحاق (¬2). وليعلم أن المنقطع يماثل المرسل في سبب الضعف وهو عدم الاتصال، ويفارقه في كون الانقطاع أو الإبهام يقع فيما بعد التابعي مثل: شعبة بن الحجاج، عن أنس بن ملك - رضي الله عنه -، أما الإرسال فقبل التابعي، مثل الحسن البصري، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، وهما عند إطلاق الاسم متغايران عند أكثر المحدثين، وأما عند استعمال الفعل المشتق فيستعملون الإرسال فقط، فيقولون: أرسله فلان، سواء كان ذلك مرسلا أم منقطعا (¬4). ¬

(¬1) (معرفة علوم الحديث 28، توجيه النظر 1/ 401 - 402). (¬2) انظر (معرفة علوم الحديث 27 - 29، وتوجيه النظر 1/ 401 - 402). (¬3) انظر (الكفاية 58 - 59، وعلوم الحديث ومصطلحه 172) بتصرف. (¬4) انظر (نزهة النظر ص 29) بتصرف.

البيت الثامن

البيت الثامن: 8 - وها أنا في أكفان ثوبك مدرج ... تكلفني مالا أطيق فأحمل (¬1) ذكر ابن فرح رحمة الله علينا وعليه في هذا البيت نوعا واحدا: المدرج: وهو: ما أدرج في الحديث من كلام بعض الرواة، متصلا به من غير فصل. مأخوذ من أدرجت الشيء في الشيء، إذا أدخلته فيه وضمنته إياه (¬2). وهو قسمان: إدراج في المتن، وإدراج في الإسناد. 1 - الإدراج في المتن: ثلاثة أنواع: - ما أدرج في آخر الحديث: وهذا النوع يقع كثيرا من الرواة، بقصد البيان والتفسير. مثاله: الحديث الذي رواه ابن مسعود - رضي الله عنه - في كيفية التشهد (¬3)، أدرج فيه ابن مسعود - رضي الله عنه - قوله: "إذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد" ووصل هذا الإدراج بالحديث زهير بن معاوية أبو خيثمة (¬4). ¬

(¬1) إشارة إلى طرق تحمل الحديث وهي ثمان: السماع من لفظ الشيخ، والقراءة على الشيخ، والإجازة وهي أنواع، والمناولة وهي نوعان، والمكاتبة، وإعلام الشيخ، والوجادة، والوصية، وقد كتبت فيها بحثا بعنوان (امتاع المقلة في طرق تحمل الحديث ونقله). (¬2) انظر (توضيح الأفكار 2/ 50 ت 1). (¬3) أحرجه أبو داود في (1/ 593) كتاب الصلاة، باب (182) حديث (970). (¬4) انظر (التبصرة 1/ 246 - 247، وفتح الباقي 1/ 246 - 247).

- ما أدرج في وسط الحديث: وهذا النوع أقل وقوعا من سابقه، وأكثر من لاحقه. مثاله: حديث بسرة بنت صفوان رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من مس ذكره أو أنثييه أو رفغه فليتوضأ) وهم فيه عبد الحميد فرواه عن هشام هكذا، والمحفوظ أن ذلك من قول عروة، غير مرفوع، ورواه الثقات عن هشام من طريق أيوب بلفظ (من مس ذكره فليتوضأ) (¬1) قال أيوب: وكان عروة يقول: "إذا مس رفغيه أو أنثييه أو ذكره فليتوضأ" فبين أن ذلك من قول عروة لا أنه من المرفوع (¬2). - ما أدرج في أول الحديث: وهذا النوع أقل الثلاثة وقوعا. مثاله: قول أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أسبغوا الوضوء" وهم أبو قطن عمرو بن الهيثم، وشبابة بن سوار في هذا، فرووه مرفوعا هكذا "أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار" (¬3)، وهو من كلام أبي هريرة كما بينه جمهور الرواة عن شعبة، واقتصر بعضهم على الثانية (ويل للأعقاب من النار) فهو مثال للمدرج، قال الحافظ ابن حجر: وهو نادر جدا، وقال: وفتشت ما جمعه الخطيب في المدرج، ومقدار ما زدت عليه منه، فلم أجد له مثالا آخر إلا ما جاء في بعض طرق حديث بسرة (¬4). ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني في 1/ 146) كتاب الطهارة، باب ما روي في لمس القبل ... الخ، حديث (1). (¬2) انظر (توضيح الأفكار 2/ 57). (¬3) وأخرجه الخطيب في (الفصل للوصل المدرج في النقل 1/ 158 - 159). (¬4) انظر (فتح الباقي 1/ 250) بتصرف، وانظر (النكت 2/ 812، 824) وقد لخصه وزاد عليه فدره مرتين وأكثر، في كتاب سماه (تقريب المنهج بترتيب المدرج) انظر (تدريب الراوي 1/ 274).

2 ــــ الإدراج في الإسناد: خمسة أنواع

2 - الإدراج في الإسناد: خمسة أنواع: - إدراج إسناد في إسناد: وهو أن يكون الحديث عند راويه بإسناد، إلا طرفا منه، فإنه عنده بإسناد آخر، فيجمع الراوي عنه طرفي الحديث بإسناد الطرف الأول، ولا يذكر إسناد طرفه الثاني. مثاله: حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قلت: "يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ " رواه الترمذي من طريق ابن مهدي، عن الثوري، عن واصل الأحدب، ومنصور، والأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، عن ابن مسعود (¬1)، فإن واصلا لا يذكر في روايته عمرا، بل يروي عن أبي وائل، عن ابن مسعود مباشرة، فذكر عمرو بن شرحبيل إدراج على رواية منصور والأعمش، ظهر هذا من رواية يحي بن سعيد القطان، عن الثوري بالإسنادين، وليس فيهما الإدراج المذكور، وقد ذكر البخاري رواية يحي القطان (¬2). - إدراج بعض حديث في حديث آخر: وهو أن يكون الحديث عند أحد الرواة بإسناد، ولديه حديث آخر بغير ذلك الإسناد، فيأتي راو آخر ويروي عنه أحد الحديثين بإسناد أحدهما، ويدرج فيه الحديث الآخر من غير بيان. ¬

(¬1) سنن الترمذي (5/ 336) كتاب التفسير باب (26) حديث (3182). (¬2) البخاري في (ص 1011) كتاب التفسير، باب (2) حديث (4761)، وانظر (التبصرة 1/ 253 - 255، تدريب الراوي 2/ 274).

مثاله: حديث (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا - ولا تنافسوا ــــ) (¬1) رواه هكذا سعيد (¬2) بن أبي مريم، عن مالك، عن الزهري، عن أنس - رضي الله عنه - مرفوعا، فسعيد أدرج في الحديث عبارة "ولا تنافسوا" فإنها ليست من هذا الحديث، بل من حديث آخر رواه مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا) (¬3). - إدراج حديث اختلف في إسناده في إسناد متفق عليه: وهو أن يروي بعض الرواة حديثا عن جماعة، وبينهم اختلاف في إسناده، فيجمع الكل على إسناد واحد من غير تمييز. - إدراج بما يشبه التدليس: وهو أن يكون المتن عند الراوي إلا طرفا منه، فإنه لم يسمعه من شيخه فيه، وإنما سمعه من واسطة بينه وبين شيخه، فيدرجه بعض الرواة عنه بلا تفصيل (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه أخرجه البخاري في (ص 1290) كتاب الأدب، باب (62) حديث (6076) ومسلم في (4/ 1983) كتاب البر والصلة والآداب، باب (7) حديث (23 - 2559). (¬2) قال صاحب فتح الباقي 1/ 257: الحافظ أبو سعيد بن محمد بن الحكم الجمحي شيخ البخاري. قلت: الصواب سعيد بن الحكم بن محمد الجمحي. انظر (التقريب وأصوله). (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في (ص 1289) كتاب الأدب، باب (58) حديث (6066)، ومسلم في (4/ 1985) كتاب البر والصلة والآداب، باب (9) حديث (28 - 2563)، وانظر التبصرة 1/ 256 - 257) .. (¬4) النكت 2/ 834.

مثاله: قصة العرنيين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: (لو خرجتم إلى إبلنا فشربتم من ألبانها وأبوالها) (¬1) رواها اسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس - رضي الله عنه -، فلفظة "وأبوالها" إنما سمعها حميد من قتادة عن أنس، علم هذا من رواية يزيد بن هارون، ومحمد بن أبي عدي، ومروان بن معاوية، وغيرهم، فلم يذكروا لفظة "وأبوالها". قال الحافظ: فرواية إسماعيل على هذا فيها إدراج وتسوية (¬2)، ولم ير هذا الشيخ ربيع: لأن إسماعيل توبع في رواية هذه اللفظة، دون فصل، أي: لم يذكروا عن حميد قال قتادة: "وأبوالها" قال: وهذا مما يبعد إسماعيل بن جعفر عن وصمة التدليس والإدراج، والظاهر أن هذا من تصرف حميد فكان - والله أعلم - تارة يروي الحديث ولا يبين ما سمعه مباشرة - من أنس - مما سمعه بواسطة قتادة، وأخرى يبين ويفصل، فحدّث كل من أصحابه بما سمع (¬3). - أن يقع كلام من المحدث بعد سياق سند لحديث: وهو أن لا يذكر المحدث متن الحديث، بل يسوق إسناده فقط، ثم يعرض له ما يقطع صلة المتن بالإسناد، إذ يذكر كلاما بعد الإسناد يظنه بعض من سمعه متن ذلك الإسناد. مثاله: ما وقع في قصة ثابت بن موسى الزاهد مع شريك القاضي، وذلك أن شريك القاضي قال بعد روايته حديث (يعقد الشيطان على قافية رأس ¬

(¬1) أخرجه البخاري في (ص 53) كتاب الوضوء، باب (66) حديث (233). (¬2) النكت 2/ 834 - 835) بتصرف. (¬3) انظر تعليقه على النكت 2/ 835).

أحدكم ثلاث عقد) (¬1): من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، أدرج هذا ثابت، ثم سرق هذا جماعة ضعفاء وحدثوا به عن شريك (¬2)، ولذلك مثل به ابن الصلاح لشبه الوضع (¬3). بم يعرف المدرج؟ : يستدل على اللفظة أو الكلام المدرج بمجيء رواية من طريق أو طرق أخر، فيها فصل بين نص الحديث والكلام المدرج، وتتقوى بأن يرويه بعض الرواة مقتصرا على إحدى الجملتين (¬4). مثاله: حديث عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه وسجوده: سبوح قدوس رب الملائكة والروح) أخرجه الإمام أحمد من طريق روح بن عبادة، عن شعبة، عن قتادة، عن مطرف، عن عائشة (¬5)، بينته روايته عن سليمان بن حرب، وعفان بن مسلم (¬6) أن قوله: ... "وسجوده" سمعه شعبة من هشام، عن قتادة. وأوضحت رواية أحمد أيضا ¬

(¬1) أخرجه البخاري في (ص 224) كتاب التهجد، باب (12) حديث (1142)، ومسلم في (1/ 538) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (28) حديث (207 - 776). (¬2) انظر (المجروحون 1/ 207). (¬3) مقدمة علوم الحديث 90. (¬4) انظر (النكت 2/ 836). (¬5) المسند 6/ 244 وفيه الركوع فقط. (¬6) روايتهما في المسند 6/ 115.

من طريق بهز بن أسد، عن شعبة، عن قتادة عدم ذكرهذه اللفظة (¬1)، وهكذا رواه جماعة (¬2)، عن شعبة مقتصرين على ذكر الركوع، موافقين رواية بهز في عدم ذكر السجود (¬3). حكم الإدراج: ذكر العلماء الحكم على الإدراج بناء على السبب الداعي له فقالوا: - إن كان داعيه تفسير بعض الألفاظ الغريبة، لبيان حكم شرعي، أو استنباط حكم من اللفظ النبوي، ونحو ذلك فلا بأس به، قاله الزهري وغيره من الأئمة (¬4). - إن فعله لغير هذه الدواعي حرام، ومن تعمد هذا فقد وقع في ضرب من الكذب والغش، تسقط عدالته، ويكون في عداد الكذابين (¬5). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في (1/ 543) كتاب الصلاة، باب (150) حديث (872)، المسند 6/ 176. لكنه أخرجه أيضا وفيه الركوع والسجود (6/ 94). (¬2) هم: يزيد بن زريع، والنضر بن شميل، ويحي بن أبي عدي، وخالد بن الحارث. انظر رواياتهم في سنن النسائي ... (2/ 190، رقم 1048، 224 رقم 1134). (¬3) انظر (النكت 2/ 836 - 837). (¬4) انظر (مقدمة ابن الصلاح 89، وتدريب الراوي 1/ 274، وتوضيح الأفكار 2/ 53 الهامش وعندي أنه ... الخ). (¬5) انظر (تدريب الراوي 98، ومقدمة علوم الحديث 90).

البيت التاسع

البيت التاسع 9 - فأجريت دمعي فوق خدي مدبجا ... وما هي إلا مهجتي تتحلل ذكر ابن فرح رحمة الله علينا وعليه في هذا البيت نوعا واحدا: المدبج: (¬1). وهو: أن يروي القرينان كل منهما عن الآخر، وهو أحد قسمي رواية الأقران: فالأول: أن ينفرد أحد القرينين عن لآخر. مثاله: رواية سليمان بن مهران الأعمش، عن إبراهيم بن يزيد التيمي، ورواية سفيان بن سعيد الثوري، عن مسعر بن كدام الهلالي، من غير عكس، ولذلك لم يسم هذا القسم مدبجا، وفي رواية الأقران صنف أبو الشيخ عبد الله بن محمد الأصبهاني كتابا سماه "رواية الأقران" (¬2). والثاني: المدبج فيه تبادل القرينان الرواية كل عن الآخر، مثاله: في الصحابة رواية أبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهما، وفي التابعين رواية محمد بن شهاب الزهري، وأبو الزبير محمد بن مسلم، وفي تابعي التابعين رواية مالك والأوزاعي، وفي أتباع الأتباع رواية أحمد بن حنبل، وعلى بن المديني كل عن الآخر. ¬

(¬1) أخذا من ديباجتي الوجه، وهما الخدان، (الصحاح 1/ 385، اللسان 2/ 262) لتساويهما وتقابلهما. انظر (فتح المغيث 3/ 139 - 140). (¬2) ذكر الأقران رواياتهم / طبع دار الكتب العلمية / بيروت.

البيت العاشر

البيت العاشر: 10 - فمتفق جفني وسهدي وعبرتي ... ومفترق صبري وقلبي المبلبل ذكر ابن فرح رحمة الله علينا وعليه في هذا البيت نوعا واحدا: المتفق والمفترق: أهميته: هذا النوع من مصطلح الحديث مهم، ينبغي لطالب العلم الاهتمام به، فإنه يعظم الانتفاع به، وقد زل بسبب الجهل به جماعة، ويهم منه ما يكون مظنة الاشتباه، بسبب التعاصر أولاشتراك بعض الشيوخ، أو بعض الرواة (¬1)، فلا يظن الشخصان شخصا واحدا، فالمتفق عكس المهمل الذي يخشى منه أن يظن الواحد اثنين، وأول من صنف في المتفق والمفترق عبد الغني بن سعيد بن بشر الأزدي (¬2)، ثم شيخه علي بن عمر الدارقطني (¬3)، وكذلك الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، صنف فيه كتابه (المتفق والمفترق) (¬4) ويقول الحافظ ابن حجر: إنه لخصه وزاد عليه أشياء كثيرة (¬5). ¬

(¬1) انظر (فتح المغيث 3/ 208). (¬2) طبع بعنوان (المؤتلف والمختلف) دار ابن الجوزي. (¬3) المؤتلف والمختلف (5) أجزاء / طبع في دار الغرب الإسلامي. (¬4) طبع في (3) أجزاء / دار ابن كثير/ بيروت / دمشق. (¬5) نزهة النظر ص: 66.

تعريفه

تعريفه: هو ما اتفق في الرسم وافترق المسمى؛ وهو أقسام (¬1): - إن اتفقت أسماء الرواة واسماء آبائهم فصاعدا واختلفت أشخاصهم فهو: المتفق والمفترق. مثاله: في الأسماء، كالخليل، ومحمد. والأنساب، كالبصري، والمكي، ونحو ذلك، فالاسم متفق في الرسم، والمسميات مفترقة. - إن اتفقت الأسماء خطا واختلفت نطقا فهو: المؤتلف والمختلف. ويأتي الكلام عيه. - إن اتفقت الأسماء خطا ونطقا، واختلفت الآباء نطقا مع ائتلافهما خطا، أو العكس فهو: المتشابه. مثاله: في الأسماء: محمد بن عقيل بفتح العين مكبرا، ومحمد بن عقيل مصغرا، الأول نيسابوري والثاني فريابي، وهما مشهوران وطبقتهما متقاربة ومثاله: في الآباء: شريح بن النعمان، وسريج بن النعمان، الأول بالشين المعجمة، والحاء المهملة وهو تابعي يروي عن علي - رضي الله عنه -، والثاني بالسين المهملة، والجيم المعجمة وهو من شيوخ البخاري. - إن وقع الاتفاق في الاسم واسم الأب، والاختلاف في النسبة فهو: متشابه أيضا. ¬

(¬1) انظرها في (نزهة النظر 66 - 68).

وقد صنف في هذا الخطيب البغدادي كتابا، سماه "تلخيص المتشابه" (¬1)، ثم ذيل عليه هو أيضا بما فاته أولا، وهو كثير الفائدة كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله. ويتركب من المتفق والمفترق، ومن المؤتلف والمختلف أنواع منها: - أن يحصل الاتفاق أو الاشتباه إلا في حرف أو حرفين، فأكثر من أحدهما أو منهما. وهو نوعان: 1 - أن يكون الاختلاف بالتغيير، وعدد الحروف ثابت في الجهتين. مثاله: محمد بن سنان، بكسر المهملة، ونونين بينهما لألف، وهم جماعة منهم: العوقي، بفتح العين والواو ثم القاف، هو شيخ البخاري، وجماعة آخرين منهم: محمد بن سيار، بفتح المهملة وتشديد الياء المثناة من تحت، بعد الألف راء، اليمامي شيخ عمر بن يونس، وآخرون كثير. 2 - أن يكون الاختلاف بالتغيير مع نقصان عدد الحروف في بعض الأسماء عن بعض. مثاله: عبد الله بن زيد، جماعة منهم في الصحابة: صاحب الأذان، واسم جده عبد ربه، وراوي حديث الوضوء، واسم جده حفص وهما أنصاريان، ومنهم في التابعين: عبد الله بن يحي وهم جماعة، وعبد الله بن نجي، بضم النون وفتح الجيم وتشديد الياء، تابعي معروف، يروي عن علي - رضي الله عنه -. ¬

(¬1) طبع في (2) مجلد / دار الصميعي / الرياض.

البيت الحادي عشر

- أن يحصل الاتفاق في الخط والنطق، لكن يحصل الاختلاف أو الاشتباه بالتقديم والتأخير. مثاله: الأسود بن يزيد، ويزيد بن الأسود، وهذا ظاهر. - أن يقع التقديم والتأخير في الاسم الواحد في بعض حروفه، بالنسبة إلى ما يشتبه به. مثاله: أيوب بن سيار، مدني مشهور ليس بالقوي، وأيوب بن يسار، مجهول. فهذه ثمان صور لمسمى المتفق والمفترق، منها صورة للمختلف والمؤتلف الآتي بيانه (¬1). البيت الحادي عشر: 11 - ومؤتلف وجدي وشجوي ولوعتي ... ومختلف حظي وما فيك آمل ذكر ابن فرح رحمة الله علينا وعليه في هذا البيت نوعا واحدا: المؤتلف والمختلف: أهميته: هذا النوع مهم في مصطلح الحديث، فأشد ما يقع التصحيف في الأسماء، كما قال علي بن المديني رحمه الله (¬2)، ومن لم يعرفه من المحدثين كثر عثاره (¬3)، لأنه أمر لا يدخله القياس، ولا قبله أو بعده شيء يدل عليه، وقد ¬

(¬1) انظر هذه التقسيمات في (نزهة النظر ص: 66 - 68). (¬2) انظر هذه التقسيمات في (نزهة النظر ص: 66 - 68). (¬3) مقدمة علوم الحديث 310.

صنف فيه أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري ضمن كتابه (تصحيفات المحدثين) (¬1)، ثم أفرده بالتأليف عبد الغني بن سعيد الأزدي، فجمع فيه كتابين: كتابا في مشتبه الأسماء (¬2)، وكتابا في مشتبه النسبة (¬3)، وجمع شيخه الدارقطني في ذلك كتابا حافلا (¬4)، ثم جمع الخطيب ذيلا (¬5)، ثم جمع الجميع أبو نصر علي بن هبة الله بن علي، المعروف بابن ماكولا، في كتابه "الإكمال" (¬6)، واستدرك عليهم في كتاب آخر (¬7)، جمع فيه أوهامهم وبينها، وكتابه من أجمع ما جمع في ذلك، وهو عمدة كل محدث بعده، وقد استدرك عليه أبو بكر محمد بن عبد الغني، الشهير بابن نقطة، ما فاته أو تجدد بعده في مجلد ضخم (¬8)، ثم ذيل عليه منصور بن سليم، في ¬

(¬1) طبع في المطبعة العربية الحديث بالقاهرة عام 1402 هـ، بتحقيق محمود أحمد ميرة (¬2) هو المؤتلف والمختلف في مشتبه أسماء الرجال. (هدية العرفين 5/ 589). (¬3) انظر هدية العرفين (5/ 589) قال حاجي: أخذ منه الخطيب في المؤتلف - وفي بابه بنفس التسمية - لابن باطيش، لابن حجر، وللذهبي (كشف الظنون 2/ 1692) وانظر (إيضاح المكنون 4/ 486). (¬4) المؤتلف والمختلف، في دار الغرب الإسلامي. (¬5) المؤتنف، مخطوط. (¬6) نشره محمد أمين دمج، في سبعة أجزاء في عام 1386 هـ، كما دون ذلك في آخر الجزء السادس، ثم نشر بعد ذلك السابع، بعناية نايف العباس، أما الستة الأول فلم يكتب على الثلاثة الأول منها شيء، وكتب على الثلاثة (4، 5، 6) عناية عبد الرحمن بن يحي المعلمي، وقد طبع في مطبعة دائرة المعارف العثمانية. (¬7) تهذيب مستمر الأوهام، مطبوع .. (¬8) تكملة الإكمال، طبعته جامعة أم القرى في (6) مجلدات.

تعريفه

مجلد لطيف (¬1)، وكذلك أبو حامد الصابوني (¬2)، وجمع الذهبي في ذلك كتابا مختصرا جدا (¬3)، اعتمد فيه على الضبط بالقلم، فكثر فيه الغلط والتصحيف المباين لموضوع الكتاب، وأوضحه الحافظ ابن حجر في كتابه "تبصير المنتبه بتحرير المشتبه" وزاد عليه شيئا كثيرا مما أهمله الذهبي، أو لم يقف عليه، هذا ما قيده الحافظ ابن حجر رحمة الله علينا وعليه (¬4). تعريفه: هو ما اتفق خطّا واختلف لفظا، سواء في الحروف أو الحركات. وهو قسمان: - ماله ضابط يعرف به: والسبب في ضبط هذا قلة أحد الطرفين، وقد يراد به العموم أو الخصوص مثاله في العموم: سلام بتشديد اللام، وسلام بالتخفيف، فإن كل ما ورد من ذلك فهو بالتشديد، سوى خمسة نفر على خلاف هم: من الصحابة سلام، والد عبد الله بن سلام الإسرائيلي، ومن التابعين سلام بن محمد بن سلام البيكندي، ومن الأتباع سلام بن محمد بن ناهض المقدسي، ومن المتأخرين سلام جد محمد بن عبد الوهاب بن سلام أبي علي الجبائي المعتزلي، وأمثلة ... (¬5). ¬

(¬1) ذيل تكملة الإكمال، طبعته جامعة أم القرى في (2) مجلد. (¬2) تكملة إكمال الإكمال، مطبوع في (1) مجلد. (¬3) المشتبه، طبع بتحقيق البجاوي. (¬4) انظر (نزهة النظر ص: 66 - 67) بتصرف. (¬5) بتصرف من (مقدمة علوم الحديث 310 - 314) وانظر (الإكمال 4/ 402 - 409).

والمراد بالخصوص: كتاب أو كتب معينة كالصحيحين وحدهما، أو معهما الموطأ، فقد ضبط العلماء ما في الصحيحين. مثاله: بشار بالشين المعجمة، وسائر ما فيهما سواه (يسار) بالياء المثناة من تحت ثم سين مهملة. ومثال ما في الثلاثة: بشر، بالباء الموحده في أوله، ثم شين معجمة، بعدها راء مهملة، وبسر، بالسين المهملة، فإن سائر ما في الثلاثة هو (بشر) بالشين المعجمة، إلا أربعة بالباء الموحدة المضمومة ثم السين المهملة هم: بسر بن سعيد وبسر بن عبد الله، وبسر بن محجن الديلي، وبسر والد عبد الله بن بسر المزني (¬1) - ما ليس له ضابط: والسبب في انعدام الضابط لهذا النوع هو: كثرة المادة المتوفرة في الطرفين. مثاله: عقيل بالتكبير، وعقيل بالتصغير، وأسيد وأسيد، وأيضا حبان بفتح أوله، وحبان بالكسر، وحيان بالياء المثناة من تحت، والأولان بالباء الموحدة، ومثل هذا منتشر في أسماء الرواة، ولا ضابط في أكثره يرجع إليه، وإنما يضبط بالحفظ تفصيلا (¬2). ¬

(¬1) انظر (مقدمة علوم الحديث 315). (¬2) انظر (مقدمة في علوم الحديث 310) بتصرف.

البيت الثاني عشر

البيت الثاني عشر: 12 - خذ الوجد عني مسندا ومعنعنا ... فغيري بموضوع الهوى يتحلل ذكر ابن فرح رحمة الله علينا وعليه في هذا البيت ثلاثة أنواع: النوع الأول المسند: وهو: في اللغة: ما علا وارتفع من الأرض. وفي الاصطلاح: ما رفعه صحابي بسند ظاهره الاتصال. هذا تعريفه الجامع المانع، فإنه يخرج منه ما ليس بمرفوع، ويخرج ما رفعه التابعي لأنه مرسل، ويخرج من دون التابعي فإنه معضل أو معلق، ويخرج ما ظاهره الانقطاع، ويدخل ما فيه احتمال الاتصال، والانقطاع الخفي، كعنعنة المدلس، والمعاصر الذي لم يثبت لقيه، وهذا عمل الأئمة الذين خرجوا المسانيد (¬1). مثاله: قول الحاكم: ما حدثناه أبو عمرو عثمان بن أحمد السماك ببغداد، ثنا الحسن بن مكرم، ثنا عثمان بن عمر، أخبرنا يونس، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه (أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان عليه، في المسجد فارتفعت أصواتهما، حتى سمعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج حتى كشف ستر حجرته فقال: يا كعب ضع من دينك هذا، وأشار إليه. ¬

(¬1) انظر (النهاية 2/ 408، ونزهة النظر ص: 57، تدريب الراوي 1/ 182) بتصرف. وانظر تعاريف العلماء في الكفاية 58، ومعرفة علوم الحديث 17، 18 - 19، ومقدمة ابن الصلاح 39، والتمهيد 1/ 21، وتوضيح الأفكار 1/ 258 وتوجيه النظر 1/ 396 - 397).

أي الشطر، فقال: نعم. فقضاه) (¬1). ثم بين رحمه الله اتصاله، بسماع كل عن الآخر، وقال: وهذا مثل ضربته لألوف من الحديث، يستدل بهذا الحديث الواحد على جملتها، من رزق فهم هذا العلم (¬2). ومثال ضده: قول الحاكم أيضا: ما حدثناه أبو عبد الله محمد بن علي الصنعاني بمكة، ثنا الحسن بن عبد الأعلى الصنعاني، ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن محمد بن واسع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أقال نادما أقاله الله نفسه يوم القيامة، ومن كشف عن مسلم كربة، كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) (¬3)، وبين رحمه الله عدم اتصال هذا السند، فقال: هذا إسناد من نظر فيه من غير أهل الصنعة لم يشك في صحته وسنده، وليس كذلك فإن معمر بن راشد ثقة مأمون ولم يسمع من محمد بن واسع، ومحمد بن واسع ثقة مأمون ولم يسمع من أبي صالح، ولهذا الحديث علة يطول شرحها، وهو مثل لألوف مثله، من الأحاديث التي لا يعرفها إلا أهل هذا العلم (¬4). ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث ص: 17 - 18) وأخرجه البخاري في (ص 97) كتاب الصلاة، باب (71) حديث (457)، ومسلم في (3/ 1192) كتاب المساقاة، باب (4) حديث (20 - 1558). (¬2) معرفة علوم الحديث ص: 17 - 18. (¬3) معرفة علوم الحديث ص: 18، وأخرجه البيهقي في (السنن الكبرى 6/ 27). (¬4) معرفة علوم الحديث ص: 18.

النوع الثاني المعنعن

النوع الثاني المعنعن: وهو: ما قيل فيه: فلان عن فلان، من غير تصريح بتحديث أو إخبار أو سماع. وهو متصل على رأي الجمهور، قال الحاكم: هي متصلة بإجماع أئمة أهل النقل، على تورع رواتها عن أنواع التدليس (¬1)، وهو الصحيح على ما تقدم بيانه في تعريف المسند، وقد شرط العلماء ثلاثة شروط، يجب توفرها في الرواة هي: العدالة، وثبوت التلاقي، والبراءة من التدليس، وذكر الحافظ العراقي شروطا أخرى للسمعاني الجد، وأبي عمرو الداني، وأبي الحسن القابسي، وقال: وهذا داخل فيما تقدم، وذكر أن مسلما اعترض على شرط اللقاء، - وهو مذهب الإمام البخاري، وشيخه علي بن المديني رحمة الله على الجميع - وقال: إنه قول مخترع لم يسبق قائله إليه، وأن المعاصرة كافية، وهو ما سار عليه في كتابه الصحيح، واشتد رحمه الله في الدفاع عن رأيه عدم اشتراط اللقاء، وشدد النكير على مخالفيه (¬2)، وقال ابن الصلاح: وفيما قاله نظر (¬3)، أي لأنهم كثيرا ما يرسلون عمن عاصروه ولم يلقوه، فاشترط لقيهما لتحمل العنعنة على السماع (¬4)، وقد اختلف العلماء في المعني بكلام مسلم ¬

(¬1) أي: على شرط تورع رواتها. انظر (معرفة علوم الحديث ص: 34، وتدريب الراوي ص: 132). (¬2) بتصرف من (مقدمة صحيح مسلم 1/ 28 - 29 وقد تكلم بعض منتحلي الحديث) وما بعدها. (¬3) انظر (مقدمة علوم الحديث 56 - 60) بتصرف. (¬4) انظر (التبصرة 1/ 163 - 1164، وفتح الباقي 1/ 163 - 164، ) بتصرف.

هذا بين أن يكون أراد به البخاري أو علي بن المديني (¬1) رحمة الله على الجميع، وقد كتب فيه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة تتمة رجح فيها أن المعني بذلك الإمام على بن المديني (¬2)، والذي أراه أن مسلما أراد الإمامين البخاري، وشيخه علي بن المديني، لأن هذا مذهبهما ويتجه نكير الإمام مسلم على البخاري باعتباره جعل ذلك أحد الشروط التي بنى عليها تأليف كتابه الصحيح، وربما اغتفر مسلم هذا للبخاري إذ لم يعمم هذا، وجعله قاصرا على ما رواه معنعنا في الصحيح، ولأن ما احتج به الإمام مسلم من أن أحاديث اتفق الأئمة على صحتها، ومع ذلك ما رويت إلا معنعنة، ولم يأت في خبر قط أن بعض رواتها لقي شيخه، لا يتم إلزام الإمام البخاري به إلا إذا روى في صحيحه حديثا معنعنا، ولم يثبت لقي راويه لشيخه فيه، ومن هنا اتجه شرط البخاري، وكان هو الأحوط (¬3)، وبقي النكير ساريا في حق الإمام ابن المدينى للعموم عنده، وكما قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: رحمة الله تعالى على مسلم ومخالفيه، فكل منهما قصد الحفاظ على السنة المطهرة، فمسلم أراد الحفاظ عليها من أن يعطل شطر كبير منها، بالتشدد في شروط قبولها، فكان ذلك في نظره من باب التعنت على السنة والإلغاء لها، لا من ¬

(¬1) انظر ما حرره ابن رجب رحمة الله علينا وعليه (شرح علل الترمذي 265 - 286، ولخصه الشيخ عبد الفتاح في تتمته على الموقظة ص: 125 - 127). (¬2) انظر (الموقظة - التتمات ص: 134) .. (¬3) انظر (النكت 2/ 596، 598). وقد لخصه الشيخ عبد الفتاح في (تعليقه على التتمة الثالثة على الموقظة ص: ... 123).

باب زيادة التثبت والاستيثاق من صحتها، فمن هنا اشتدت غضبة مسلم وقست لهجته، ومخالف الإمام مسلم أراد الحفاظ على السنة، بأن لا يحتج منها إلا بما ثبت بأحوط الطرق في ثبوتها (¬1)، ولذا كان هو رأي جمهور المتقدمين، قال النووي رحمة الله علينا وعليه: وهذا الذي صار إليه مسلم، قد أنكره المحققون، وقالوا: هذا الذي صار إليه ضعيف، والذي رده هو المختار، ووصف بأنه الأصوب الأقوى، وأنه المختار، وأنه أحوط (¬2)، والحق أن الرأيين يلتقيان في مبدأ الذود عن السنة المطهرة، ولا غرابة فالإمامان البخاري ومسلم إماما هذا الفن بغير منازع، من عصرهما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لذلك تلقت الأمة عملهما بالقبول (¬3)، ولم يخرجوا أحاديث مسلم المعنعنة من دائرة الصحيح، وهم متفقون على أن ما في كتابه صحيح، وجمع مع كتاب البخاري في تسمية واحدة "الصحيحين" فجمهور المتقدمين على ¬

(¬1) انظر (التتمة الثالثة على الموقظة ص: 123، 121) وقد تصرفت بالتنسيق فقط. (¬2) انظر (شرح علل الترمذي 268 - 273، والسير 12/ 573، مقدمة صحيح مسلم 1/ 128) .. (¬3) موضوع تلقي الأمة لكتابيهما بالقبول، بينه الإمام ابن تيمية رحمة الله علينا وعليه فقال: الخبر الذي تلقاه الأمة بالقبول تصديقا له أو عملا بموجبه، يفيد العلم عند جماهير الخلف والسلف، وهذا في معنى المتواتر، لكن من الناس من يسميه المشهور والمستفيض، ويقسمون الخبر إلى متواتر ومشهور وخبر واحد، وإذا كان كذلك فأكثر متون الصحيحين معلومة متيقنة، تلقاها أهل العلم بالحديث بالقبول والتصديق وأجمعوا على صحتها، وإجماعهم معصوم من الخطأ، كما أن إجماع الفقهاء على الأحكام معصوم من الخطأ، ولو أجمع الفقهاء على حكم كان إجماعهم حجة، وإن كان مستند أحدهم خبر واحد أو قياس أو عموم، فكذلك أهل العلم بالحديث إذا أجمعوا على صحة خبر أفاد العلم، وإن كان الواحد منهم يجوز عليه الخطأ، لكن إجماعهم معصوم عن الخطأ (مجموع الفتاوى 18/ 48 - 49) ولمزيد العلم، انظر (توجيه النظر 1/ 317 - 329) ..

ما قاله ابن المديني والبخاري، وكثير من العلماء المتأخرين على ما قاله مسلم، ويلتئم الشمل بأن مذهب البخاري وشيخه ومن شايعهما فيه حيطة، ومذهب مسلم ومن تبعه فيه سعة لقبول ما روي معنعنا من المتعاصرين، لإمكان اللقاء، وليعلم أن الخلاف بين الفريقين إنما هو في الحديث ... المعنعن، وبناء عليه رُجحت عنعنة البخاري على مسلم، وليعلم أن الأحاديث المعنعنة إذا سلم رواتها من التدليس فهي متصلة بإجماع أئمة أهل النقل، أما ما روي بنحو: حدثنا، وأخبرنا، وسمعت فرواية الشيخين فيه سواء في هذه القضية (¬1). ¬

(¬1) بتصرف من (توضيح الأفكار 1/ 44، وتوجيه النظر 1/ 404).

النوع الثالث الموضوع

النوع الثالث الموضوع: وهو: القول المختلق على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). رتبته في الضعيف: هو شر الأحاديث الضعيفة وأقبحها، لأنه مكذوب مختلق لا أصل له، في النسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكر من أنواع الضعيف وليس منه أصلا، تنزلا على زعم واضعه، وأيضا لتعرف طرقه التي يتوصل بها إلى معرفته فينفى عن القبول (¬2). حكم روايته: حرام على من عرف حاله، إلا أن يبين أنه كذب. مادته: نوعان: - الأكثر أن تكون مادته مختلقة من خيال الراوي، منسوبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زورا وبهتانا. مثاله: صنيع أعداء الإسلام من الزنادقة، والمنحرفين، والمبتدعين وغيرهم. - أن يستحسن الراوي كلاما، من الأمثال أو الحكم، أو القصص والحكايات، فيعمد إلى سند معروف ينتهي بذلك الكلام المستحسن (¬3). مثاله: قولهم (المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء) إنما هو من كلام ¬

(¬1) انظر التدريب ص: 1/ 274. (¬2) انظر (التبصرة وفتح الباقي 1/ 261). (¬3) انظر (نزهة ص: 45، وفتح المغيث 1/ 289).

بدايته

الحارث بن كلدة من أطباء العرب القدامى. وكذلك قولهم: (من علم بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم) قيل: إنه من كلام عيسى - عليه السلام - (¬1). بدايته: بدأ وضع الأخبار كذبا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زمن التابعين، نما وكثر بعد ذلك حسب البواعث الداعية لاستخدامه، وقد كان اتساع الخلافات والتحزبات السياسية بعد قتل عثمان - رضي الله عنه - بفترة مسرحا لاستخدام هذا النهج الهدام، لتأكيد الانتماءات، وتكريم من يريدون له الظهور بإضفاء هالة قدسية له، وبقدر ما كان الحذر من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عهد الصابة وكبار التابعين، تورط أناس في ولوج هذا الخط المنحرف بدوافع وأسباب متعددة. أسبابه: لقد يسر الله عز وجل لخدمة السنة وحمايتها رجالا عرفوا خباياها، وأحاطوا بمقاصدها حتى غدوا في علمهم بالسليم والسقيم أشبه بصيارفة الذهب والفضة في كشف ما هو زائف، فذكروا من أسباب هذا المسلك المشين أمورا منها: - استهداف الأمة الإسلامية في عقيدتها، وغشها في مبادئها وأخلاقها، فعل الزنادقة والمنافقين الذين أبطنوا العداوة لهذا الدين وأهلة من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا، ومنهم المنحرفون والمبتدعون. ¬

(¬1) انظر (فتح المغيث 1/ 291، ولمحات في أصول الحديث ص: 305).

مثال هؤلاء

مثال هؤلاء: رأس القوم عبد الكريم بن أبي العوجاء الذي أعلن لما تقرر قتله في خلافة المهدي لزندقته، فصاح قائلا: لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث، أحرم فيها الحلال وأحل الحرام (¬1). - العصبية والانتصار للمذهب الفردي أو الجماعي، المستقى من البدع والأهواء، وما أكثر ما أحدث أصحاب هذا المنهج من الضلال والفتنة في الإسلام. مثاله: في الفردي ما وقع فيه عبد العزيز بن الحارث التيمي عندما سئل عن فتح مكة، أجاب أنه كان عنوة ولم يكن صلحا، فلما طولب بالبرهان ساق سندا إلى الزهري، أن الصحابة اختلفوا في فتح مكة أكان صلحا أم عنوة؟ فسألوا رسول الله فقال: كان عنوة. واعترف هو نفسه فيما بعد أنه وضع هذا انتصارا لما ذهب إليه (¬2). مثاله: في الجماعي أن بعض فقهاء أصحاب الرأي استجاز نسبة الحكم الذي دل عليه القياس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نسبة قولية فيقول في ذلك: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، ولهذا ترى كتبهم مشحونة بأحاديث تشهد متونها بأنها موضوعة، لأنها تشبه فتاوى الفقهاء ولا تليق بجزالة كلام سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -، ولأنهم لا يقيمون لها سندا صحيحا، وهؤلاء يشملهم الوعيد في الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد جرّ التعصب بعض رؤوس الفرق إلى ¬

(¬1) انظر (تدريب الراوي 1/ 281 - 288، وفتح المغيث 1/ 278 - 291). (¬2) انظر (لمحات في أصول الحديث 307 - 308).

أن يحل لأتباعه شهادة الزور على الخصم، وادعى لنفسه الألوهية (¬1)، ومن الأسباب التقرب للولاة، ومنها التكسب، ومنها الترغيب في الخير، والانتصار للذات (¬2)، وما أكثر ما كذب فيه أعداء السنة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالزنادقة وحدهم وضعوا أربعة عشر ألف حديث زورا وبهتانا (¬3)، وصدق الله - عز وجل - إذ يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬4)، حفظ الكتاب من التبديل والتحريف، وقيض للسنة من عباده أعلاما منحهم الحفظ والذكاء، والفقه وقوة الملاحظة، من أمثال الإمام عبد الله بن المبارك، فإنه لما قيل له: هذه الأحاديث الموضوعة؟ ، قال: تعيش لها الجهابذة، وتلا الآية المذكورة، وقام الجهابذة بما لا مزيد عليه، عرفوا أعداء الإسلام، على اختلاف مللهم وعرفوا أساليب مكرهم، ووقفوا لهم بالمرصاد، وضيقوا على الأعداء الخناق، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وتم وضع علم الجرح والتعديل، ورسم قواعد النقد والضبط، وفق منهج في غاية الدقة والأمانة، وأخضع السند والمتن في كل ما يروى للبحث والنقد والتدقيق، فنتج عن ¬

(¬1) فتح المغيث 1/ 245، 238، 245. (¬2) انظر أمثلة هذا وغيره في بحث الموضوع لدى العراقي في (التبصرة 1/ 261 - 279) والسخاوي في (فتح المغيث 1/ 234 - 248). انظر (التبصرة 1/ 264، وفتح المغيث 1/ 239). (¬3) انظر (التبصرة 1/ 264، وفتح المغيث 1/ 239) قلت: نبه فضيلة الدكتور عمر حسن فلاته إلى أن بعضهم ادّعى هذا ليشكك المسلمين في السنة وليس هو بصادق (الوضع في الحديث 1/ 222). (¬4) الآية (9) من سورة الحجر.

الطرق التي يكشف بها الحديث الموضوع

ذلك علم أصول الحديث، حتى أصبح الباحث في العلوم الأخرى يزن القضايا المسندة ويضبطها بقواعد أهل الحديث، فبتلك القواعد استقام الأمر للسنة المطهرة، وهاهي بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك (¬1). الطرق التي يكشف بها الحديث الموضوع: لقد برّز النقاد في البحث عن وسائل كشف الأخبار الموضوعة، وذلك بعد اعتراف الواضع نفسه، إما لتوبة منه، كما صنع أبو عصمة في اعترافه بوضعه أقوالا في فضائل القرآن، وإما إمعانا في الضلال كما صنع ابن أبي العوجاء، فأوجد النقاد طرقا عديدة من خلال دراسة الإسناد والمتن وسعة الاطلاع، وقوة الفهم، وحدة الذكاء، وبراعة فائقة في ملاحظة القرائن منها: - ملاحظة حال الراوي فقد يكون فيها ما يشهد بكذبه. مثاله: ما صدر من المأمون بن أحمد الهروي لما ذكر بحضرته الخلاف في كون الحسن البصري سمع من أبي هريرة أم لا: ساق في الحال سندا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: سمع الحسن من أبي هريرة. ولما قيل له: ألا ترى إلى الشافعي ومن تبعه بخراسان؟ فأسند كذبا إلى رسول الله أنه قال: يكون في أمتي رجل يقال له: محمد بن إدريس هو أضر على أمتي من إبليس، ويكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي (¬2). ¬

(¬1) انظر (التبصرة 2/ 267، ونزهة النظر ص 44 وإنما يقوم بذلك منهم ... ، وفتح المغيث 1/ 236 ... ). (¬2) انظر (نزهة النظر ص: 45، والتدريب 99، 100، واختصار علوم الحديث مع الباعث الحثيث ص 93 - 94، وعلوم الحديث ومصطلحه 283 - 285).

- ومن قبيل المتقدم ما وقع من بعض الرواة على ندرة تزلفا إلى الولاة والأمراء والأعيان. مثاله: قول غياث بن إبراهيم لمل دخل على الخليفة المهدي وكان يحب الحمام من الطيور: فساق حديثا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزعم أنه قال: لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر "أو جناح" فزاد في الحديث كذبا قوله "أو جناح" فأدرك الخليفة، بماله من علم وبما حف حال الراوي من التزلف والمصانعة، أنه كذب فيما روى فقال بعد أن خرج: أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال ذلك بعد أن كافأه بعشرة آلاف، ثم أمر بذبح الحمام (¬1)، وكان الأولى معاقبة ذلك الراوي على جرأته ونفاقه على ملأ من الناس، هذا إن صحت القصة لأن المعروف عن المهدي التنكيل بالزنادقة وقد أنشأ ديوانا لمحاربتهم (¬2). - ملاحظة حال النص المروي من وجوه: إذا كان مخالفا ومناقضا لنصوص الكتاب والسنة الصحيحة، أو الإجماع القطعي. إذا كان مخالفا للعقل والواقع، منا قضا للحس والمشاهدة، غير قابل لتأويل صحيح مطابق. ¬

(¬1) انظر (لمحات في علوم الحديث ص 309) ومصادره (تاريخ بغداد 12/ 324، والمنار المنيف في الصحيح والضعيف ص 106 - 107). (¬2) (انظر (الوضع في الحديث 1/ 223، والسير 7/ 403) وانظر (السنة ومكانتها 97 - 102).

مثاله: قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم المعروف بالغرائب: إن سفينة نوح طافت بالبيت سبعا، وصلت خلف المقام ركعتين. إذا ظهر عليه اللحن في القول والركة في المعنى، عند مقارنته بجوامع كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحاشا أن يكون من لفظه - صلى الله عليه وسلم -، ويعول على الركة في المعنى، لأن الجزالة من محاسن هذا الدين، أما اللحن فيحتمل أن الراوي روى المعنى بغير فصيح، ما لم يصرح بأنه من لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) لهذا قال العلماء: إن للحديث ضوءا كضوء النهار تعرفه، وظلمة كظلمة الليل تنكره (¬2). إذا تضمن النص المروي وعيدا شديدا على أمر صغير، أو وعدا عظيما على أمر حقير. قد وقع القصاص في مثل هذا، بسبب استمالة قلوب العوام إليهم، بالغرائب إما وعظا كما فعل أبو عصمة نوح بن أبي مريم، أو تكسبا، كقصة ذلك القاص مع الإمامين أحمد بن حنبل ويحي بن معين، إذ صليا في مسجد الرصافة، فقام القاص وهو لا يعرفهما فقال: حدثنا أحمد بن حنبل ويحي بن معين، وساق الإسناد إلى رسول الله أنه قال: من قال: لا إله إلا الله خلق الله من كل كلمة طيرا منقاره من ذهب وريشه من مرجان ... ، وسرد القاص كلاما في قصة طويلة تبلغ عشرين ورقة، فتعجب الإمامان أحمد ويحي من هذا القاص المفتري، وأخذ كل واحد منهما يسأل صاحبه، ¬

(¬1) انظر (نزهة النظر ص: 44، والتدريب 1/ 274 - 277). (¬2) توضيح الأفكار 2/ 94.

أحدثت بهذا؟ ! ، فيجيب كل منهما صاحبه فيقول: والله ما سمعت بهذا إلا الساعة، فلما فرغ القاص من تزويره، قعد للناس يأخذ منهم ما يجودون به لقاء هذه الفرية العظيمة، وبينا هو جالس ينتظر المزيد أشار له يحي بن معين بيده تعال، فجاء متوهما عطاءا، لكنه فوجيء بالسؤال من يحي؟ من حدثك بهذا؟ فقال: أحمد بن حنبل ويحي بن معين، أنا يحي بن معين وهذا أحمد بن حنبل، لم نسمع بهذا قط في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! ! ، فمكر القاص وقال: لم أزل أسمع أن يحي بن معين أحمق، فما تحققت هذا إلا الساعة، كأن ليس فيها يحي بن معين وأحمد بن حنبل غيركما! ، وقد كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل ويحي بن معين (¬1)، هذه نماذج مختصرة، والمتتبع لهذا الباب يجمع فيه أسبابا اخرى. ¬

(¬1) انظر (لمحات في أصول الحديث ص 308 - 309) في سند هذه القصة مجهول، وفيها غرابة بالنسبة إلى ما كان عليه الحال في ذلك الزمان، فمكانة الإمامين أحمد بن حنبل ويحي بن معين لا تجعل مثل هذا القائل قادرا على مقابلتهما بمثل هذا، وقد تناقلها العلماء وقد يقال إن الكذابين من الزنادقة وغير قد تجرؤا على الله، فالجرأة منهم على البشر أولى، والله أعلم.

البيت الثالث عشر

البيت الثالث عشر: 13 - وذا نبذة من مبهم الحب فاعتبر ... وغامضه (¬1) إن رمت شرحا أطول (¬2) ذكر ابن فرح رحمة الله علينا وعليه في هذا البيت نوعين النوع الأول المبهم: هو: ما لم يسم من رجال السند. فائدة العلم به: زوال الجهالة التي يردّ الخبر معها، حيث يكون الإبهام في أصل الإسناد، لأن شرط قبول الخبر عدالة الراوي، ولا تعرف إلا بكشف الإبهام (¬3)، ولذلك نشط العلماء لبيان ما أبهم الرواة في رواياتهم، وممن ألف في ذلك الحافظ عبد الغني الأزدي، وأبو بكر الخطيب البغدادي، واختصر كتابه النووي، في كتابه الإشارات إلى المبهمات، ورتبه على الحروف، وأبو الفضل بن طاهر، وابن بشكوال في كتابه "الغوامض والمبهمات" بدون ترتيب وهو كتاب جامع، والعراقي في كتابه النفيس "المستفاد من مبهمات المتن والإسناد" رتبه على الأبواب، وابن حجر ذكر المبهمات التي وقعت في صحيح البخاري، واستوعبها استيعابا حسنا (¬4). ¬

(¬1) الغموض يكون في المتن، مثل الألفاظ الغريبة، والعبارات المشكلة. (¬2) ضد الاختصار. (¬3) انظر (فتح المغيث 3/ 274) بتصرف. (¬4) انظر (توضيح الأفكار 2/ 497 - 498، وهدي الساري ص: 222 - 248، والمسلك الواضح ص: 314).

وهو على أقسام منها: - ما قيل فيه: رجل أو امرأة، وهذا أشدها إبهاما. مثاله: حديث ابن عباس - رضي الله عنه - "أن رجلا قال: يا رسول الله، الحج كل عام؟ " (¬1) وهذا الرجل هو الأقرع بن حابس - رضي الله عنه -، بينه ابن عباس - رضي الله عنه - في رواية أخرى (¬2)، وحديث أنس - رضي الله عنه - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى حبلا ممدودا بين ساريتين في المسجد، فسأل عنه فقالوا: فلانة تصلي فإذا غلبت تعلقت به" (¬3) قيل: إنها زينب بنت جحش رضي الله عنها زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل: أختها حمنة بنت جحش رضي الله عنها، وقيل: ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها، فإن كان المبهم الصحابي كأن يقول التابعي الثقة: "عن رجل من الصحابة" أو نحو ذلك فهو صحيح عند الجمهور القائلين: إن الصحابة كلهم عدول، وإن كان المبهم قبل الصحابي سواء أكان من التابعين أم من بعدهم، فلا يجوز الاستدلال به حتى يتبين حال المبهم ويعرف أنه ثقة (¬4). ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في (3/ 169) كتاب الحج، باب (5) حديث (814)، والنسائي في (5/ 110 - 111) كتاب المناسك، باب 1 حديث (2619، 2620). (¬2) أخرجه أبو داود في (2/ 344) كتاب المناسك، باب 1 حديث (1721). (¬3) أخرجه البخاري في (ص 226) كتاب التهجد، باب (18) حديث (1150)، ومسلم في (1/ 541 - 542) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (31) حديث (219 - 784). (¬4) (انظر (توضيح الأفكار 2/ 497).

- ما أبهم بأن قيل فيه ابن فلان أو ابن الفلاني أو ابنة فلان أو نحو ذلك. مثاله: حديث أم عطية (ماتت إحدى بنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: اغسلنها بماء وسدر) (¬1) هي زينب رضي الله عنها زوجة أبي العاص بن الربيع، أكبر بناته - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قد قيل: أكبرهن رقية والله أعلم. ابن اللتبية: ذكر ابن حجر أن اسمه عبد الله (¬2)، وهذه نسبة إلى بني لتب، بضم اللام وإسكان التاء المثناة من فوق، بطن من الأسد، بإسكان السين وهم الأزد، وقيل فيه: ابن الأتبية ولا صحة له. - العم والعمة: مثاله: رافع بن خديج، عن عمه في حديث المخابرة (¬3) عمه هو: ظهير بن رافع الحارثي الأنصاري (¬4)، عمة جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - التي جعلت تبكي أباه يوم أحد: اسمها فاطمة بنت عمرو بن حرام، وسماها الواقدي هندا والله أعلم. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في (ص 246) كتاب الجنائز، باب (8) حديث (1253)، ومسلم في (2/ 646 - 647) كتاب الجنائز، باب (12) حديث (36 - 939) (¬2) تبصير المنتبه 3/ 1231، وهو الصحابي الذي استعمله الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة، فجاء بالمال وقال: هذا لكم، وهذه هدية أهديت إلي. انظر القصة في (أسد الغابة 5/ 329 - 330). (¬3) أخرجه النسائي في عدة روايات في (7/ 41 - 48) كتاب المزارعة، باب (35، 45) حديث (3895 - 3919) (¬4) انظر (الإصابة 5/ 261 - 262).

النوع الثاني الاعتبار

- الزوج والزوجة: مثاله: حديث سبيعة الأسلمية رضي الله عنها "أنها ولدت بعد وفاة زوجها بليال" (¬1) زوجها هو: سعد بن خولة - رضي الله عنه - الذي رثى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة، وكان بدريا. زوجة عبد الرحمن بن الزبير، بفتح الزاي، والتي زعمت أن ما معه كهدبة الثوب (¬2)، وكانت تحت رفاعة بن سموأل القرظي فطلقها، اسمها: تميمة بنت وهيب، بفتح التاء، وقيل: بالضم، وقيل سهيمة، والله أعلم (¬3)، وهذه الأنواع المذكرة من المبهمات التي تبين أمرها من روايات أخريات جائز الاستدلال بها، ما دامت مستوفية شروط الصحة أو الحسن (¬4). النوع الثاني الاعتبار: هو: النظر في الراوي والمروي من حيث المتابعات والشواهد، وأمثلته غير خافيه، قال ابن حجر: هو هيئة التوصل إليهما (¬5)، يعني المتابع والشاهد. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في (ص 1154 - 1155) كتاب الطلاق، باب (39) حديث (5320)، ومسلم في (2/ 1122 - 1123) كتاب الطلاق، باب (8) حديث (57 - 1485). (¬2) انظر القصة في (البخاري ص: 1140) كتاب الطلاق، باب (4) حديث (5260). (¬3) مقدمة علوم الحديث مع التقييد والإيضاح 427 - 442 فقد ذكر ابن الصلاح هذه الأقسام والأمثلة وطائفة أخرى منها. (¬4) (انظر (توضيح الأفكار 2/ 497). (¬5) (نزهة النظر ص 27.

البيت الرابع عشر

البيت الرابع عشر: 14 - عزيز بكم صب ذليل لعزكم ... ومشهور أوصاف المحب التذلل ذكر ابن فرح رحمة الله علينا وعليه في هذا البيت نوعين: النوع الأول العزيز: هو: الحديث الذي لا يرويه أقل من اثنين عن أقل من اثنين. وليس هذا شرطا لصحة الحديث. مثاله: ما رواه الشيخان: من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ومن حديث أنس - رضي الله عنه - (¬1)، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ... (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده) رواه عن أنس قتادة، وعبد العزيز بن صهيب، ورواه عن قتادة شعبة، وسعيد، ورواه عن عبد العزيز إسماعيل بن علية، وعبد الوارث، ورواه عن كل جماعة (¬2). مأخذه: ذكر العلماء أنه مأخوذ إما من العزة، يعني قلة وجوده وندرته، من عز يعز بكسر العين في المضارع. وإما من عز يعز بفتح العين في المضارع، يعني صار قويا بمجيئه من طريق أخرى (¬3) وكلا الأمرين متحقق فيه من حيث الندرة، والقوة. ¬

(¬1) البخاري في (ص 7) كتاب الإيمان، باب (8) حديث 14، 15) ومسلم حديث أنس في (1/ 67) كتاب الإيمان، باب ... (17) حديث (70). (¬2) نزهة النظر ص 25، وانظر (فتح المغيث 1/ 195). (¬3) نزهة النظر ص 24.

النوع الثاني المشهور

النوع الثاني المشهور: هو: ماله طرق محصورة بأكثر من اثنين، وسمي مشهورا لانتشاره ووضوحه. مثاله: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) فقد رواه سبعة عن أبي هريرة (¬1)، ويطلق على ما اشتهر على الألسنة مطلقا مما له إسناد، وما ليس له إسناد (¬2)، وليعلم أن وصف الحديث بكونه مشهورا لا ينافي الصحة ولا الضعف، فقد يكون مشهورا صحيحا أو مشهورا ضعيفا (¬3). ¬

(¬1) نزهة النظر ص 23، ولمحات في أصول الحديث ص 94. (¬2) انظر نزهة النظر ص 24. (¬3) انظر (التبصرة 2/ 268).

البيت الخامس عشر

البيت الخامس عشر: 15 - غريب يقاسي البعد عنك وماله ... وحقك عن دار البلى متحول (¬1) ذكر ابن فرح رحمة الله علينا وعليه في هذا البيت نوعا واحدا: الغريب: هو: ما انفرد بروايته شخص واحد، أو انفرد بزيادة في متنه أو إسناده. مثاله في الرواية: حديث (إنما الأعمال بالنيات) (¬2) تفرد به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يروه عنه غيره، وتفرد به عن عمر علقمة بن وقاص، وعن علقمة محمد بن إبراهيم التيمي، وعن محمد يحي بن سعيد الأنصاري، ثم اشتهر عن يحي، ولذلك مثل به ابن الصلاح للمشهور، ولم يرضه العراقي لأن الشهرة طرأت عليه من عند يحى بن سعيد، وأول الإسناد فرد (¬3) وكذلك حديث النهي عن بيع الولاء وهبته (¬4)، فإنه لم يصح إلا من حديث عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما (¬5). ¬

(¬1) إشارة إلى التحول من سند إلى آخر، ويرمز له البعض هكذا (ح). (¬2) أخرجه البخاري في (ص 1) كتاب بدء الوحي، باب 1 حديث (1). (¬3) انظر (مقدمة علوم الحديث، والتبصرة 2/ 268). (¬4) أخرجه البخاري في (ص 503) كتاب العتق، باب (10) حديث (2535)، ومسلم في (2/ 1145) كتاب العتق، باب (3) حديث (16 - 1506) (¬5) انظر (التبصرة 2/ 266).

مثاله في الزيادة في السند: حديث أم زرع (¬1) رواه عيسى بن يونس، عن هشام بن عروة، عن أخيه عبد الله بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، وهذا هو المحفوظ، بزيادة عن أخيه عبد الله، وأخرجه الطبراني من طريقين عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، من غير ذكر الزيادة (¬2). مثاله في الزيادة في المتن: حديث (فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير، على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى، من المسلمين) (¬3) فقد تفرد الإمام مالك بزيادة "من المسلمين" (¬4). وليعلم أن بين الغريب والفرد تطابقا من حيث مفهوم الغرابة والتفرد، لذلك استساغ بعض العلماء الحكم بترادف الغريب والفرد، لغة واصطلاحا وقالوا في المطلق والنسبي: تفرد به فلان أو أغرب به فلان، وهم يريدون به معنى واحدا، وهذا من حيث إطلاق الاسمية عليهما، لكن معظم المحدثين ذهب إلى التفريق بينهما من حديث كثرة الاستعمال وقلته، فالفرد أكثر ما يطلق على الفرد المطلق الذي لم يقيد بقيد، والغريب أكثر ما يطلق على الفرد النسبي المقيد بالنسبة إلى شيء معين (¬5)، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في (ص 1125) كتاب النكاح، باب (83) حديث (5189) ومسلم في (4/ 1896) كتاب فضائل الصحابة، باب (14) حديث (2448). (¬2) المعجم الكبير 23/ 171. (¬3) أخرجه البخاري في (ص 300) كتاب الزكاة، باب (70) حديث 1504). (¬4) فتح الباقي 2/ 266. (¬5) انظر (نزهة النظر ص 28، وهامش التوضيح 2/ 8، علوم الحديث ومصطلحه 238).

أقسام الغريب

وليعلم أن وصف الحديث بكونه غريبا لا ينافي الصحة ولا الضعف، بل قد يكون غريبا صحيحا أو غريبا ضعيفا (¬1). أقسام الغريب: قسم الحاكم الغريب إلى ثلاثة أنواع: 1.غرائب الصحاح. مثاله: حديث جابر - رضي الله عنه - "كنا يوم الخندق نحفر الخندق فعرضت فيه كدية ... " (¬2) قال الحاكم: فهذا حديث صحيح، وقد تفرد به عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، وهو من غرائب الصحيح (¬3)، وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لما حاصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا فقال: (إنا قافلون إن شاء الله غدا) (¬4) قال الحاكم: هو غريب صحيح، فإني لا أعلم أحدا حدث به عن عبد الله بن عمرو غير أبي العباس السائب بن فروخ الشاعر، ولا عنه غير عمرو بن دينار، ولا عنه غير سفيان بن عيينة، فهو غريب صحيح (¬5). ¬

(¬1) (انظر (التبصرة 2/ 268). (¬2) أخرجه البخاري في (ص 845) كتاب المغازي، باب (30) حديث (4101). (¬3) معرفة علوم الحديث 94. (¬4) أخرجه البخاري في (ص 888 - 889) كتاب المغازي، باب (57) حديث (4325) عن عبد الله بن عمر، وفي رواية الكشميهني: عبد الله بن عمرو (الفتح 9/ 636)، ومسلم في (3/ 1402) كتاب الجهاد والسير، باب (29) حديث (82 - 1778). (¬5) معرفة علوم الحديث 95.

2 - غرائب الشيوخ. مثاله: حديث (لا يبع حاضر لباد) (¬1) قال الحاكم: هذا حديث غريب لمالك بن أنس، عن نافع، وهو إمام يجمع حديثه، تفرد به عنه الشافعي، وهو إمام مقدم، لا نعلم أحدا حدث به عنه غير الربيع بن سليمان، وهو ثقة مأمون (¬2). 3 - غرائب المتون. مثاله: حديث (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ... ) (¬3) قال الحاكم: هذا حديث غريب الإسناد والمتن، فكل ما روي فيه فهو من الخلاف على محمد بن سوقة، فأما ابن المنكدر عن جابر فليس يرويه غير محمد بن سوقة، وعنه أبو عقيل، وعنه خلاد بن يحي (¬4). هذا تقسيم الحاكم رحمه الله للغريب، وقال العراقي: قسمه ابن طاهر إلى خمسة أقسام (¬5). قلت: لم يذكر العراقي تقسيم ابن طاهر، وذكر تقسيم أبي الفتح اليعمري قال الغريب على أقسام: 1 - غريب سندا ومتنا. مثاله: حديث (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ... ) تقدم آنفا. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في (ص 422) كتاب البيوع، باب (58) حديث (2140) ومسلم في (3/ 1155) كتاب البيوع، باب (4) حديث (11 - 1515). (¬2) معرفة علوم الحديث 95. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في (المسند 3/ 199). (¬4) معرفة علوم الحديث 96. (¬5) التبصرة 2/ 270.

2 - غريب متنا لا سندا. مثاله: لم يذكر له أبو الفتح مثالا لعدم وجوده (¬1). 3 - غريب سندا لامتنا. مثاله: حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - (الأعمال بالنية) (¬2) رواه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد. قال أبو الفتح: هذا إسناد غريب كله والمتن صحيح، وقال الخليلي في الإرشاد: أخطأ فيه عبد المجيد، وهو غير محفوظ من حديث زيد بن أسلم بوجه، قال: فهذا مما أخطأ فيه الثقة عن الثقة (¬3). 4 - غريب بعض السند. مثاله: حديث أم زرع، أخرجه الطبراني (¬4) من رواية عبد العزيز بن محمد الداروردي، ومن رواية عباد بن منصور فرقهما، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، والمحفوظ ما رواه عيسى بن يونس، عن هشام، عن أخيه عبد الله بن عروة، عن عائشة، هكذا اتفق عليه الشيخان (¬5)، كذا رواه مسلم من رواية سعيد بن سلمة بن أبي ¬

(¬1) انظر (فتح الباقي 2/ 272). (¬2) أخرجه البخاري في (ص 16) كتاب الإيمان، باب (41) حديث (54). ومسلم في (3/ 1515) كتاب الإمارة، باب (45) حديث (155 - 1907) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. (¬3) الإرشاد 1/ 671. (¬4) المعجم الكبير 23/ 171. (¬5) البخاري في (ص 1152) كتاب النكاح، باب (83) حديث (5189)، ومسلم في (4/ 1896) كتاب فضائل الصحابة، باب (14 حديث (2448).

الحسام، عن هشام بن عروة (¬1)، قال أبو الفتح: فهذه غرابة تخص موضعا من السند، والحديث صحيح. 5 - غريب بعض المتن. مثاله: حديث أم زرع من رواية الطبراني، قال العراقي: لأن عبد العزيز وعبادا جعلا الحديث مرفوعا، وإنما المرفوع منه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كنت لك كأبي زرع لأم زرع) فهذه غرابة بعض المتن أيضا (¬2) وكذلك حديث المستحاضة أخرجه النسائي وقال: لا أعلم أحدا ذكر في هذا الحديث "وتوضئي" غير حماد بن زيد (¬3). هذا وأنواع الغريب كثيرة، وإنما تضبط بنسبة التفرد فيه إلى شيء معين، قال الحاكم: فهذه الأنواع التي ذكرتها مثال لألوف من الحديث الذي يجري على مثالها وسنتها (¬4)، وليعلم أن الفرد المطلق لا يجوز أن يتداخل مع الشاذ، لأنه لابد من توفر شرطين في الشاذ هما: التفرد والمخالفة، ولا يلزم في الفرد إلا مطلق التفرد، وكذلك الفرد النسبي "الغريب" لا يلزم فيه سوى ضرب من التفرد المقيد (¬5). ¬

(¬1) في (4/ 1902). (¬2) انظر (التبصرة 2/ 272). (¬3) سنن النسائي في (1/ 186) كتاب الحيض الاستحاضة، باب (6) حديث (364). (¬4) معرفة علوم الحديث 96. (¬5) انظر (علوم الحديث ومصطلحه 239) بتصرف.

البيت السادس عشر

البيت السادس عشر: 16 - فرفقا بمقطوع الرسائل ماله ... إليك سبيل لا ولا عنك معدل ذكر ابن فرح رحمة الله علينا وعليه في هذا البيت نوعا واحدا: المقطوع: وهو: ما أضيف إلى التابعين من أقوالهم وأفعالهم. وقد تقدم الكلام على المنقطع، وأن من العلماء من لم يفرق بين المقطوع والمنقطع، كالإمام الشافعي والطبراني، والمنقطع هو الذي لم يتصل إسناده، ولعل هذا الاستعمال كان قبل استقرار مصطلح أصول الحديث، فلما استقر الأمر في ذلك ثبت التفريق، وبه أخذ الناظم (¬1)، وليعلم أن المقطوع والموقوف مترادفان، ولا بد أن يخلوا من قرينة تدل على أن المروي له حكم الرفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ومن أمثلة ذلك: قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال: إن سريرته حسنة" (¬3)، وكذلك قول الحسن البصري: "أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى، ولا يخشوا الناس، ولا يشتروا ¬

(¬1) انظر (لمحات في أصول الحديث 223، 236). (¬2) انظر (لمحات في أصول الحديث 221) بتصرف. (¬3) أخرجه البخاري في (ص 525) كتاب الشهادات، باب (5) حديث (2641).

البيت السابع عشر

بآيات الله ثمنا قليلا" (¬1) ثم قرأ: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (¬2)، وليعلم أن المقطوع يقع عليه الوصفان، الصحة والضعف تبعا لحال إسناده ومتنه، ولا يلزم من صحته وجوب العمل به، إذا كان مجردا عن قرينة تدل على أن له حكم الرفع. البيت السابع عشر: 17 - ولا زلت في عز منيع ورفعة ... ولا زلت تعلو بالتجني فأنزل ذكر ابن فرح في هذا البيت نوعين: الأول الإسناد العالي: وهو: ما يعرف بالفهم، قل عدد الرواة فيه أو كثر. قال الحاكم: والعالي من الأسانيد التي تعرف بالفهم، لا بعدد الرجال غير هذا، فرب إسناد يزيد عدده عن السبعة والثمانية إلى العشرة وهو أعلى من ذلك، مثاله: حديث (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ... ) (¬3). ¬

(¬1) انظر (لمحات في أصول الحديث 224). (¬2) الآية (26) من سورة ص. (¬3) انظر (معرفة علوم الحديث 11، وتوجيه النظر 1/ 393 - 394). والحديث أخرجه في (ص 11) كتاب الإيمان، باب (24) حديث (34).

أهمية الإسناد

أهمية الإسناد: الإسناد عموما من خصائص هذه الأمة، جعله الله صونا لقوائم الدين في السنة المطهرة، قال: رسول - صلى الله عليه وسلم -: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المطلين، وتأويل الجاهلين) (¬1) فالموصوفون في هذا الحديث هم الذين امتثلوا أمره - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ عنه لمن بعدهم، وأنفذوا في ذلك أعمارهم، واستفرغوا جهدهم، وبادروا إلى ما رغّب فيه من ذلك الأمر الجسيم، حيث دعا لهم بالنضرة والنعيم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (نضر الله امرءا سمع منا حديثا، فحفظه فبلغه غيره، فرب حامل فقه ليس بفقيه) (¬2) وكفاهم هذا الدعاء شرفا، بوأهم الله من الجنة غرفا، ولقّاهم الفوز العظيم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار) (¬3) ومعلومة خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وفيها (ألا ليبلغ ¬

(¬1) هذا الحديث لا يقل عن الحسن، مع النظر إلى عصر الرواية المعتبر، والناظر في أقوال النقاد في (معان بن رفاعة) يخلص بأن جمهورهم على تقويته، ويكاد يكون الأئمة في جانبه عدا يحي بن معين، لكنه متشدد في الجرح فيكون قوله مرجوحا، مع أقوال الأئمة المماثلين له، والحديث ذكره التبريزي، وعلق عليه الشيخ ناصر الألباني رحمه الله (مشكاة المصابيح 1/ 82 - 83 رقم 248). (¬2) أخرجه أبو داود في (4/ 68 - 69) كتاب العلم، باب (10) حديث (3660) والنسائي في الكبرى (3/ 431) كتاب العلم، باب (8) حديث (5847)، والترمذي في (5/ 33 - 34) كتاب العلم، باب (7) حديث (2656) وقال: حديث حسن 5/ 34). (¬3) أخرجه البخاري في (ص 712) كتاب أحاديث الأنبياء، باب (50) حديث (3461) ..

الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع) اتفقا عليه في الصحيحين (¬1)، فالمبلغون هم الذين جعلهم الله أركان هذه الشريعة، النقية الزاهرة والحجة الباهرة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة، لولاهم لكانت ظاهرة، وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه، تتحيز رأيا تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث فإن الكتاب هديهم، والسنة حجتهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - فيؤهم وإليه نسبتهم، فهم الجمهور العظيم، وسبيلهم الصراط المستقيم، وهم الذين لا يزالون على الحق ظاهرين، ولمن عاداهم وناوأهم قاهرين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزال طائفة من أمتي إلى الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة). قال الإمام البخاري رحمه الله: يعني أهل الحديث (¬2) وكلام الأئمة كثير في الترغيب في نقل ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي التحذير من الكذب عليه، فإن الكذب عليه مهلكة قال - صلى الله عليه وسلم -: (من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار) إذا فالإسناد من أهم ما يعتني به طالب العلم، وهو من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، ومثل الذي يطلب أمر دينه بلا إسناد كمثل الذي يرتقي السطح بلا سلم، ومن ¬

(¬1) انظر صدر الحديث وباقيه في (الصحيح 2/ 191، 1/ 24، 7/ 185، 8/ 91 وفي صحيح مسلم 3/ 1307) وكلها من كريق ابن سييرين. (¬2) هو في (ص 1533) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (10) حديث (7311)، قال الحافظ ابن حجر: قوله: وهم أهل العلم. هو من كلام المصنف - يعني البخاري - وأخرج الترمذي حديث الباب ثم قال: سمعت محمد بن إسماعيل - البخاري - يقول: سمعت علي بن المديني يقول: هم أصحاب الحديث. (فتح الباري 17/ 124) وانظر (سنن الترمذي 4/ 485) كتاب الفتن، باب (27) حديث (2192).

أفضلية علو الإسناد

أراد الذب عن سنة رسول الله فسلاحه الإسناد، وطلب الإسناد العالي سنة صحيحة (¬1)، روى أنس - رضي الله عنه - حديث الأعرابي: "يا محمد أتانا رسولك فزعم" (¬2) فقد طلب الأعرابي العلو وتجاوز الشخص الذي أخبره إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسأله، وقد ناله من مشقة السفر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ناله، قال العراقي: ولو كان طلب العلو في الإسناد غير مستحب لأنكر عليه سؤاله عما أخبر به رسوله، لأمره بالاقتصار على ما أخبره الرسول عنه (¬3). أفضلية علو الإسناد: لم يحك الحاكم رحمه الله خلافا في تفضيل العلو، وقال: إنه سنة مسنونة، وقد رحل في طلب الإسناد العالي غير واحد من الصحابة (¬4)، فالمقصود من الإسناد التوصل إلى صحة الحديث وبعد الوهم فيه، وكلما كثر رجال الإسناد تطرق إليه احتمال الخطأ والخلل (¬5). ¬

(¬1) انظر (فتح الباقي والتبصرة 2/ 251 - 252). (¬2) هو حديث نضلة بن عمرو الغفاري أخرجه بهذا اللفظ مسلم في (1/ 41 - 42) كتاب الإيمان، باب (3) حديث (10 - 12) وعند البخاري (إني سائلك فمشدد عليك ص 18 - 19) كتاب العلم، باب (6) حديث 63). (¬3) التبصرة 2/ 252. (¬4) معرفة علوم الحديث 7. (¬5) التبصرة 2/ 253.

أفضلية التنزل

أفضلية التنزل: حكى هذا بعض أهل النظر وقال: التنزل في الإسناد أفضل، لأنه يجب على الراوي أن يجتهد في متن الحديث وتأويله، وفي الناقل وتعديله، وكلما زاد الاجتهاد زاد صاحبه ثوابا، ورد هذا بأنه ضعيف، ضعيف الحجة، لأن كثرة المشقة ليست مطلوبة لنفسها، ومراعاة المعنى المقصود من الرواية وهو الصحة أولى، وهذا مثله مثل من يترك طريقا أقرب إلى المسجد، ويسلك آخر أطول طلبا لكثرة الخطى وإن أداه سلوكها إلى فوات الجماعة التي هي المقصود (¬1). أقسام العلو في الإسناد: قسم العلماء العلو في الإسناد إلى خمسة أقسام، كلها مشروطة بصحة الإسناد. 1 - القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حيث العدد بإسناد نظيف غير ضعيف، وهذا أجل أنواع العلو وأفضلها، وهو علو مطلق، ويعتبره بعض العلماء قربة إلى الله عز وجل، وآخر من كان في الدنيا بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية رجال ثقات هو محمد بن علي بن أحمد بن البخاري (¬2)، ولا قيمة لعلو مع ضعف بعض الرواة، ولا يفرح به إلا العوام. ¬

(¬1) انظر (المحدث الفاصل 216، ومقدمة ابن الصلاح مع التقييد والإيضاح 263 والتبصرة 2/ 252 - 253) (¬2) ولد في جماى الآخرة، سنة (651) إحدى أو اثنتين وخمسين وستمائة من الهجرة، قال ابن حجر رحمة الله علينا وعليه: كان فيه شهامة وعنده مروءة، وكان شجاعا قوي النفس كريما قد خرج له ابن المحب جزءا وحدث به، مات في ذي القعدة، سنة (726) ست وعشرين وسبعمائة من الهجرة. (الدرر 4/ 174).

2 - القرب إلى إمام من أئمة الحديث، وهو علو نسبي، وإن كثر العدد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لم يكن من أرباب الكتب الستة. 3 - العلو المقيد بالنسبة إلى رواية الصحيحين أو أحدهما وبقية الكتب الستة، وهو علو نسبي أيضا فإن سند الحديث المروي من طريقها يكون أنزل مما روي من غير طريقها، وقد يكون عاليا مطلقا أيضا، مثاله: حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعا (يوم كلم الله موسى - عليه السلام - كان عليه جبة من صوف) (¬1)، وهذا القسم اشتهر آخرا بالموافقات والأبدال والمساواة والمصافحة، وأقسام العلو الثلاثة مردها علو المسافة، وهو قلة العدد، وليعلم أن هذا النوع من العلو تابع لنزول في الغالب، إذ لولا نزول ذلك الإمام لم يعل الآخر في إسناده، وقد يحصل لكل منهما العلو كما في حديث ابن مسعود المتقدم. 4 - علو تقدم الوفاة، مثاله ما يرويه الراوي من طريق البيهقي (ت 458)، عن الحاكم أبي عبد الله، فإنه أعلى مما يرويه من طريق أبي بكر بن خلف (ت 487)، عن الحاكم، وإن تساوى الإسنادان في العدد، لتقدم وفاة البيهقي على وفاة ابن خلف. 5 - علو تقدم السماع، وبينه وبين سابقه تداخل، ومما يمتاز عنه ولا يدخل فيه: أن يسمع شخصان من شيخ واحد، وسماع أحدهما من ستين سنة مثلا، وسماع الآخر من أربعين سنة، فإذا تساوى السند إليهما في العدد، ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في (4/ 224) كتاب اللباس، باب (10) حديث (1734).

النوع الثاني الإسناد النازل

فالإسناد إلى الأول الذي تقدم سماعه أعلى، وهذان القسمان الرابع والخامس مردهما إلى علو صفة في الراوي أو شيخه (¬1). النوع الثاني الإسناد النازل: النزول ضد العلو، وله مراتب لا يعرفها إلا أهل الصنعة، فلا يعرف بمطلق الضدية. أقسام النزول: النزول في الإسناد ينقسم إلى خمسة أقسام، فكل قسم من أقسام العلو السابقة ضده قسم من أقسام النزول، وهذا أمر واضح لا يلزم بيانه. متى يطلب النزول؟ : ذم بعض العلماء النزول في الإسناد وقالوا: النزول شؤم، وهو قرحة في الوجه، وليس هذا على إطلاقه، بل يحمل على ما إذا لم يكن مع النزول ما يجبره، كزيادة الثقة في رجاله على العالي، أو كونهم أحفظ أو أفقه، أو كونه متصلا بالسماع، وفي العالي حضورا أو إجازة أو مناولة، أو تساهل بعض رواته في التحمل ونحو ذلك. وليعلم أن النزول يكون مطلوبا وراجحا على العلو عند ما يكون رجال السند النازل أوثق أو أحفظ أو أفقه، فإن العدول حينئذ إلى النزول ليس بمذموم ولا مفضول، روى وكيع عن الأعمش أنه قال: أحب إليكم عن ¬

(¬1) انظر (مقدمة ابن الصلاح مع التقييد 257 - 262، والتبصرة وفتح الباقي 2/ 253 - 255).

الأبيات تمام العشرين

أبي وائل، عن عبد الله، أو سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله؟ ، فقلنا الأعمش عن أبي وائل أقرب، فقال: الأعمش شيخ، وأبو وائل شيخ، وسفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة، فقيه عن فقيه عن فقيه عن فقيه، وقال ابن المبارك: ليس جودة الحديث قرب الإسناد، بل جودة الحديث صحة الرجال، وقال السلفي: الأصل على مذهب المحققين من النقلة الأخذ عن العلماء بنزولهم، أولى من العلو عن الجهلة، والنازل حينئذ هو العالي في المعنى عند النظر والتحقيق (¬1). الأبيات تمام العشرين: 18 - أوري بسعدى والرباب وزينب ... وأنت الذي تعنى وأنت المؤمل 19 - فخذ أولا من آخر ثم أولا ... من النصف منها فهو فيه مكمل 20 - أبر إذا أقسمت أني بحبه ... أهيم وقلبي بالصبابة مشعل استعمل ابن فرح رحمة الله علينا وعليه التورية في البيت الأول إشارة منه إلى استخدامه هذا اللون من علم البديع فورّى عن أنواع من علوم الحديث بصفات معشوق له، والتورية هي: إطلاق لفظ له معنيان قريب وبعيد، فيذكر القريب منهما ويراد البعيد. ¬

(¬1) انظر (معرفة علوم الحديث 12 - 14، ومقدمة ابن الصلاح مع التقييد 262 - 263، والتبصرة 2/ 253، 264، 265).

وهذا تمهيد منه لما ورّى به في البيت الثالث، فقوله في البيت الثاني: فخذ أولا من آخر، أراد به الكلمة الأولى من البيت الآخر وهي: (أبر) بقطع النظر عن هيئته في النظم، وأراد بقوله: ثم أولا من النصف الكلمة الأولى من النصف الثاني من البيت وهي: "أهيم" وبقوله: فهو فيه مكمل أي: إنك إذا فعلت ذلك وضممت الكلمتين حصلت على اسم المحبوب وهو "إبراهيم" وقد أعظم ابن فرح التعمية في التورية، إذ ورّى بهذا الاسم؛ لأن الله تعالى وصف مسماه بقوله: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (¬1) فهذه المحبة التي اشتعل قلبه بها هي في عاقبتها برد وسلام، لأنها في طاعة الله وحب العمل بكتابه وسنة رسوله فورّى بذلك عن عاقبة أمره والله تعالى أعلم، والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعه واهتدى بهديه إلى يوم الدين. تم هذا الشرح الميسر قبيل أذان الفجر من يوم الأحد الخامس من شهر شوال لعام 1421 من الهجرة النبوية، بالمدينة النبوية على ساكنها الصلاة والسلام، عدد خلق الله وزنة عرشه ومداد كلماته ورضى نفسه، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش الكريم، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يكتب النفع والأجر والثواب لناظمه، ومن شرحه وكتبه، ولناشره وقارئه، إنه جواد كريم وصلى الله على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آلة وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين. ¬

(¬1) الآية (69) من سورة الأنبياء.

§1/1